قوله 119 - { ها أنتم أولاء } جملة مصدرة بحرف التنبيه : أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاتهم ثم بين خطأهم بتلك الموالاة بهذه الجملة التذليلية فقال { تحبونهم ولا يحبونكم } وقيل إن قوله { تحبونهم } خبر ثان لقوله أنتم وقيل : إن أولاء موصول وتحبونهم صلته أي : تحبونهم لما أظهروا لكم الإيمان أو لما بينكم وبينهم من القرابة { ولا يحبونكم } لما قد استحكم في صدورهم من الغيظ والحسد قوله { وتؤمنون بالكتاب كله } أي بجنس الكتاب جميعا ومحل الجملة النصب على الحال : أي لا يحبونكم والحال أنكم مؤمنون بكتب الله سبحانه التي من جملتها كتابهم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم وفيه توبيخ لهم شديد لأن من بيده الحق أحق بالصلابة والشدة ممن هو على الباطل { وإذا لقوكم قالوا آمنا } نفاقا وتقية { وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } تأسفا وتحسرا حيث عجزوا عن الانتقام منكم والعرب تصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان ثم أمره الله سبحانه بأن يدعو عليهم فقال { قل موتوا بغيظكم } وهو يتضمن استمرار غيظهم ما داموا في الحياة حتى يأتيهم الموت وهم عليه ثم قال { إن الله عليم بذات الصدور } فهو يعلم ما في صدوركم وصدورهم والمراد بذات الصدور : الخواطر القائمة بها وهو كلام داخل تحت قوله { قل } فهو من جملة المقول (1/567)
قوله 120 - { إن تمسسكم حسنة تسؤهم } هذه الجملة مستأنفة لبيان تناهي عداوتهم وحسنة وسيئة يعمان كل ما يحسن وما يسوء وعبر بالمس في الحسنة وبالإصابة في السيئة للدلالة على أن مجرد مس الحسنة يحصل به المساءة ولا يفرحون إلا بإصابة السيئة وقيل : إن المس مستعار لمعنى الإصابة ومعنى الآية : أن من كانت هذه حالته لم يكن أهلا لأن يتخذ بطانة { وإن تصبروا } على عداوتهم أو على التكاليف الشاقة { وتتقوا } موالاتهم أو ما حرمه الله عليكم { لا يضركم كيدهم شيئا } يقال : ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضيورا : بمعنى ضره يضره وبه قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وقرأ الكوفيون وابن عامر { لا يضركم } بضم الراء وتشديدها من ضر يضر فهو على القراءة الأولى مجزوم على أنه جواب الشرط وعلى القراءة الثانية مرفوع على تقدير إضمار الفاء كما في قول الشاعر :
( من يفعل الحسنات الله يشكرها )
قاله الكسائي والفراء وقال سيبويه : إنه مرفوع على نية التقديم : أي لا يضركم أن تصبروا وحكى أبو زيد عن المفضل عن عاصم { لا يضركم } بفتح الراء وشيئا صفة مصدر محذوف
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بيهم من الجوار والحلف في الجاهلية فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم لخوف الفتنة عليهم منهم { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة } الآية وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : هم النافقون وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : هم الخوارج قال السيوطي وسنده جيد وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { وتؤمنون بالكتاب كله } أي : بكتابكم وبكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك وهم يكفرون بكتابكم فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم واخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل { إن تمسسكم حسنة } يعني النصر على العدو والرزق والخير { تسؤهم وإن تصبكم سيئة } يعني القتل والهزيمة والجهد (1/567)
العامل في إذ فعل محذوف : أي واذكر إذ غدوت من منزل أهلك : أي من المنزل الذي فيه أهلك وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية نزلت في غزوة أحد وقال الحسن : في يوم بدر وقال مجاهد ومقاتل والكلبي : في غزوة الخندق قوله 121 - { تبوء } أي : تتخذ لهم مقاعد للقتال وأصل التبوء اتخاذ المنزل يقال بوأته منزلا : إذا أسكنته إياه والفعل في محل نصب على الحال ومعنى الآية : واذكر إذ خرجت من منزل أهلك تتخذ للمؤمنين مقاعد للقتال : أي أماكن يقعدون فيها وعبر عن الخروج بالغدو الذي هو الخروج غدوة مع كونه صلى الله عليه و سلم خرج بعد صلاة الجمعة كما سيأتي لأنه قد يعبر بالغدو والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما كما يقال أضحى وإن لم يكن في وقت الضحى (1/569)
قوله 122 - { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } هو بدل من إذ غدوت أو متعلق بقوله : تبوئ أو بقوله : سميع عليم والطائفتان بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي العسكر يوم أحد والفشل الجبن والهم من الطائفتين كان بعد الخروج لما رجع عبد الله بن أبي بمن معه من المنافقين فحفظ الله قلوب المؤمنين فلم يرجعوا وذلك قوله { والله وليهما } (1/569)
قوله 123 - { ولقد نصركم الله ببدر } جملة مستأنفة سيقت لتصبيرهم بتذكير ما يترتب على الصبر من النصر وبدر اسم لماء كان في موضع الوقعة وقيل : هو اسم الموضع نفسه وسيأتي سياق قصة بدر في الأنفال إن شاء الله وأذلة جمع قلة ومعناه : أنهم كانوا بسبب قلتهم أذلة وهو جمع ذليل استعير للقلة إذ لم يكونوا في أنفسهم أذلة بل كانوا أعزة والنصر : العون وقد شرح أهل التواريخ والسير غزوة بدر وأحد بأتم شرح فلا حاجة لنا في سياق ذلك ها هنا (1/569)
قوله 124 - { إذ تقول } متعلق بقوله { نصركم } والهمزة في قوله { ألن يكفيكم } للإنكار منه صلى الله عليه و سلم عدم اكتفائهم بذلك المدد من الملائكة ومعنى الكفاية سد الخلة والقيام بالأمر والإمداد في الأصل : إعطاء الشيء حالا بعد حال والمجيء بلن لتأكيد النفي (1/570)
وأصل الفور : القصد إلى الشيء والأخذ فيه بجد وهو من قولهم فارت القدر تفور فورا وفورانا : إذا غلت والفور : الغليان وفار غضبه : إذا جاش وفعله من فوره أي : قبل أن يكسن والفوارة ما يفور من القدر استعير للسرعة : أي إن يأتوكم من ساعتهم هذه يمددكم ربكم بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر عن ذلك قوله : 125 - { مسومين } بفتح الواو اسم مفعول وهي قراءة ابن عامر و حمزة و الكسائي و نافع : أي معلمين بعلامات وقرأ ابن عمرو وابن كثير وعاصم { مسومين } بكسر الواو اسم فاعل : أي معلمين أنفسهم بعلامة ورجح ابن جرير هذه القراة والتسويم إظهار سيما الشيء قال كثير من المفسرين { مسومين } أي : مرسلين خيلهم في الغارة وقيل : إن الملائكة اعتمت بعمائم بيض وقيل : حمر وقيل : خضر وقيل : صفر فهذه هي العلامة التي علموا بها أنفسهم حكي ذلك عن الزجاج وقيل : كانوا على خيل بلق وقيل غير ذلك (1/570)
قوله 126 - { وما جعله الله إلا بشرى لكم } كلام مبتدأ غير داخل في مقول القول والضمير في قوله { جعله } للإمداد المدلول عليه بالفعل أو للتسويم أو للإنزال ورجح الأول الزجاج وصاحب الكشاف وقوله { إلا بشرى } استثناء مفرغ من أعم العام والبشرى اسم من البشارة : أي إلا لتبشروا بأنكم تنصرون ولتطمئن قلوبكم به : أي بالإمداد واللام لام كي جعل الله ذلك الإمداد بشرى بالنصر وطمأنينة للقلوب وفي قصر الإمداد عليهما إشارة إلى عدم مباشرة الملائكة للقتال يومئذ { وما النصر إلا من عند الله } لا من عند غيره فلا تنفع كثرة المقاتلة ووجود العدة (1/570)
قوله : 127 - { ليقطع طرفا من الذين كفروا } متعلق بقوله { ولقد نصركم الله ببدر } وقيل : متعلق بقوله { وما النصر إلا من عند الله } وقيل : متعلق بقوله { يمددكم } والطرف الطائفة والمعنى : نصركم الله ببدر ليقطع طائفة من الكفار وهم الذين قتلوا يوم بدر أو وما النصر إلا من عند الله ليقطع تلك الطائفة أو يمددكم ليقطع ومعنى يكبتهم يحزنهم والمكبوت المحزون وقال بعض أهل اللغة : معناه يكيدهم : أي يصيبهم بالحزن والغيظ في أكبادهم وهو غير صحيح فإن معنى كبت أحزن وأغاظ وأذل ومعنى كبد أصاب الكبد { فينقلبوا خائبين } أي : غير ظافرين بمطلبهم (1/570)
قوله 128 - { ليس لك من الأمر شيء } جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه : أي أن الله مالك أمرهم يصنع بهم ما يشاء من الإهلاك أو الهزيمة أو التوبة إن أسلموا أو العذاب فقوله { أو يتوب عليهم أو يعذبهم } عطف على قوله : أو يكبتهم وقال الفراء : إن أو بمعنى إلا أن بمعنى ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم فتفرح بذلك أو يعذبهم فتشفى بهم (1/570)
قوله 129 - { ولله ما في السموات وما في الأرض } كلام مستأنف لبيان سعة ملكه { يغفر لمن يشاء } أن يغفر له { ويعذب من يشاء } أن يعذبه يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وفي قوله { والله غفور رحيم } إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه وتبشير لعباده بأنه المتصف بالمغفرة والرحمة على وجه المبالغة وما أوقع هذا التذليل الجليل وأحبه إلى قلوب العارفين باسرار التنزيل
وقد أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب وعاصم بن عمر بن قتادة ومحمد بن يحيى بن حبان والحصين بن عبد الرحمن بن أسعد بن معاذ قالوا : كان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص اختبر الله به المؤمنين ومحق به المنافقين ممن كان يظهر الإسلام بلسانه وهو مستخف بالكفر ويوم أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته وكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران فيها صفة ما كان في يومه ذلك ومعاتبة من عاتب منهم يقول الله لنبيه { وإذ غدوت من أهلك } الآية وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس { وإذ غدوت من أهلك } الآية قال : يوم أحد وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { تبوء المؤمنين } قال : توطن وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أن الآية في يوم الأحزاب وقد ورد في كتب السير والتاريخ كيفية الاختلاف في المشورة على النبي صلى الله عليه و سلم في يوم أحد فمن قائل نخرج إليهم ومن قائل نبقى في المدينة فخرج وكان من جملة المشيرين عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين كان رأيه البقاء في المدينة والمقاتلة فيها ثم لما خولف في رأيه انخزل بمن معه من المنافقين وهم قدر الثلث من القوم الذين خرج بهم النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر قال : فينا نزلت في بني حارثة وبني سلمة { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } وما يسرني أنها لم تنزل { والله وليهما } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : { إذ همت طائفتان } قال : ذلك يوم أحد وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : هم بنو حارثة وبنو سلمة وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد { ولقد نصركم الله ببدر } إلى { ثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } في قصة بدر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله { وأنتم أذلة } يقول : وأنتم قليل وهم يومئذ بضعة عشر وثلاثمائة وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الشعبي : أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف } إلى قوله { مسومين } قال : فبلغت كرزا فلم يمد المشركين ولم يمد المسلمين بالخمسة وأخرج ابن جرير عن الشعبي لما كان يوم بدر بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ذكر نحوه إلا أنه قال { ويأتوكم من فورهم هذا } يعني : كرزا وأصحابه { يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } فبلغ كرزا وأصحابه الهزيمة فلم يمدهم ولم ينزل الخمسة وأمدوا بعد ذلك بألف فهم أربعة آلاف وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال : أمدوا بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف وذلك يوم بدر وأخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله { بلى إن تصبروا وتتقوا } الآية قال : هذا يوم أحد فلم يصبروا ولم يتقوا فلم يمدوا يوم أحد ولو أمدوا لم ينهزموا يومئذ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ويأتوكم من فورهم هذا } يقول : من سفرهم هذا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة من فورهم قال : من وجههم وأخرج ابن جرير عن الحسن والربيع وقتادة السدي مثله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد من فورهم قال : من غضبهم وأخرجا عن أبي صالح مولى أم هانئ مثله وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله { مسومين } قال : معلمين وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سوداء ويوم أحد عمائم حمراء وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير : أن الزبير كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجرا بها فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر وأخرج ابن إسحاق والطبراني عن ابن عباس قال : كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء قد أرسلوها في ظهورهم ويوم حنين عمائم حمراء ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر وكانوا يكونون عددا ومددا لا يضربون وفي بيان التسويم عن السلف اختلاف كثير لا يتعلق به كثير فائدة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { ليقطع طرفا من الذين كفروا } قال قطع الله يوم بدر طرفا من الكفار وقتل صناديدهم ورؤوسهم وقادتهم في الشر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله { ليقطع طرفا } قال : هذا يوم بدر قطع الله طائفة منهم وبقيت طائفة وأخرج ابن جرير عن السدي قال : ذكر الله قتلى المشركين بأحد وكانوا ثمانية عشر رجلا فقال { ليقطع طرفا من الذين كفروا } ثم ذكر الله الشهداء فقال { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله { أو يكبتهم } قال : يحزنهم وأخرج ابن جرير عن قتادة والربيع مثله وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس : أن النبي صلى الله عليه و سلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في وجهه حتى سال الدم فقال : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم ؟ فأنزل الله { ليس لك من الأمر شيء } الآية وقد روي هذا المعنى في روايات كثيرة وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد : [ اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية { ليس لك من الأمر شيء } ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما أيضا من حديث أبي هريرة : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع : اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف يجهر بذلك وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر : اللهم العن فلانا وفلانا لأحياء من أحياء العرب حتى أنزل الله { ليس لك من الأمر شيء } ] وفي لفظ : [ اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية عصت الله ورسوله ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزل قوله { ليس لك من الأمر شيء } الآية ] (1/571)
قوله 130 - { يا أيها الذين آمنوا } قيل : هو كلام مبتدأ للترهيب والترغيب فيما ذكر وقيل : هو اعتراض بين أثناء قصة أحد وقوله { أضعافا مضاعفة } ليس لتقييد النهي لما هو معلوم من تحريم الربا على كل حال ولكنه جيء به باعتبار ما كانوا عليه من العادة التي يعتادونها في الربا فإنهم كانوا يربون إلى أجل فإذا حل الأجل زادوا في المال مقدارا يتراضون عليه ثم يزيدون في أجل الدين فكانوا يفعلون ذلك مرة بعد مرة حتى يأخذ المربي أضعاف دينه الذي كان له في الابتداء وأضعافا حال ومضاعفة نعت له وفيه إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام والمبالغة في هذه العبارة تفيد تأكيد التوبيخ (1/574)
قوله 131 - { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } فيه الإرشاد إلى تجنب ما يفعله الكفار في معاملاتهم قال كثير من المفسرين : وفيه أنه يكفر من استحل الربا وقيل معناه : اتقوا الربا الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار وإنما خص الربا في هذه الآية لأنه الذي توعد الله عليه بالحرب منه لفاعله (1/574)
وقوله 132 - { وأطيعوا الله والرسول } حذف المتعلق مشعر بالتعميم : أي في كل أمر ونهي { لعلكم ترحمون } أي راجين الرحمة من الله عز و جل (1/574)
وقوله 133 - { وسارعوا } عطف على أطيعوا وقرأ نافع وابن عامر { سارعوا } بغير واو وكذلك في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام وقرأ الباقون بالواو قال أبو علي : كلا الأمرين سائغ مستقيم والمسارعة : المبادرة وفي الآية حذف أي سارعوا إلى ما يوجب المغفرة من الطاعات وقوله { عرضها السموات والأرض } أي : عرضها كعرض السموات والأرض ومثله الآية الأخرى { عرضها كعرض السماء والأرض } وقد اختلف في معنى ذلك فذهب الجمهور إلى أنها تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض فذلك عرض الجنة ونبه بالعرض على الطول لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض وقيل : إن هذا الكلام جاء على نهج كلام العرب من الاستعارة دون الحقيقة وذلك أنها ما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى حسن التعبير عنها بعرض السموات والأرض مبالغة لأنهما أوسع مخلوقات الله سبحانه فيما يعلمه عباده ولم يقصد بذلك التحديد (1/574)
والسراء : اليسر والضراء : العسر وقد تقدم تفسيرهما - وقيل السراء : الرخاء والضراء : الشدة وهو مثل الأول وقيل : السراء في الحياة والضراء بعد الموت قوله 134 - { والكاظمين الغيظ } يقال كظم غيظه : أي سكت عليه ولم يظهره ومنه كظمت السقاء : أي ملأته والكظامة : ما يسد به مجرى الماء وكظم البعير جرته : إذا ردها في جوفه وهو عطف على الموصول الذي قبله قوله { والعافين عن الناس } أي : التاركين عقوبة من أذنب إليهم واستحق المؤاخذة وذلك من أجل ضروب الخير وظاهره العفو عن الناس سواء كانوا من المماليك أم لا وقال الزجاج وغيره : المراد بهم المماليك واللام في المحسنين يجوز أن تكون للجنس فيدخل فيه كل محسن من هؤلاء وغيرهم ويجوز أن تكون للعهد فيختص بهؤلاء والأول أولى اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السياق فيدخل تحته كل من صدر منه مسمى الإحسان : أي إحسان كان (1/575)
قوله 135 - { والذين إذا فعلوا فاحشة } هذا مبتدأ وخبره { أولئك } وقيل : معطوف على المتقين والأول أولى وهؤلاء هم صنف دون الصنف الأول ملحقين بهم وهم التوابون وسيأتي ذكر سبب نزولها والفاحشة وصف لموصوف محذوف : أي فعلة فاحشة وهي تطلق على كل معصية وقد كثر اختصاصها بالزنا وقوله { أو ظلموا أنفسهم } أي : باقتراف ذنب من الذنوب وقيل : أو بمعنى الواو والمراد ما ذكر وقيل : الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة وقيل غير ذلك قوله { ذكروا الله } أي : بألسنتهم أو أخطروه في قلوبهم أو ذكروا وعده ووعيده { فاستغفروا لذنوبهم } أي : طلبوا المغفرة لها من الله سبحانه وتفسيره بالتوبة خلاف معناه لغة وفي الاستفهام بقوله { ومن يغفر الذنوب إلا الله } من الإنكار مع ما يتضمنه من الدلالة على أنه المختص بذلك سبحانه دون غيره : أي لا يغفر جنس الذنوب أحد إلا الله وفيه ترغيب لطلب المغفرة منه سبحانه وتنشيط للمذنبين أن يقفوا في مواقف الخضوع والتذلل وهذه الجملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه وقوله { ولم يصروا على ما فعلوا } عطف على فاستغفروا : أي لم يقيموا على قبيح فعلهم وقد تقدم تفسير الإصرار والمراد به هنا العزم على معاودة الذنب وعدم الإقلاع عنه بالتوبة منه وقوله { وهم يعلمون } جملة حالية : أي لم يصروا على فعلهم عالمين بقبحه (1/575)
قوله { أولئك جزاؤهم } الإشارة إلى المذكورين بقوله { والذين إذا فعلوا فاحشة } وقوله { جزاؤهم } بدل اشتمال من اسم الإشارة وقوله { مغفرة } خبر { من ربهم } متعلق بمحذوف وقع صفة لمغفرة : أي كائنة من ربهم وقوله { ونعم أجر العاملين } المخصوص بالمدح محذوف : أي أجرهم أو ذلك المذكور وقد تقدم تفسير الجنات وكيفية جري الأنهار من تحتها
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد : قال : كانوا يتبايعون إلى الأجل فإذا جاء الأجل زادوا عليهم وزادوا في الأجل فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء قال : كانت ثقيف تدين بني المغيرة في الجاهلية وذكر نحوه وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن معاوية بن قرة قال : كان الناس يتأولون هذه الآية { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } اتقوا لا أعذبكم بذنوبكم في النار التي أعددتها للكافرين وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح قال : قال المسلمون : يا رسول الله أبنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا ؟ كانوا إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبح كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا فسكت النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت { وسارعوا } الآية وأخرج ابن المنذر عن أنس بن مالك في تفسير { وسارعوا } قال : التكبيرة الأولى وأخرج ابن جرير من طريق السدي عن إبن عباس في قوله { عرضها السماوات والأرض } مثل ما ذكرناه سابقا عن الجمهور وأخرج نحوه عنه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق كريب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { الذين ينفقون في السراء والضراء } يقول : في اليسر والعسر { والكاظمين الغيظ } يقول : كاظمين على الغيظ : وقد وردت أحاديث كثيرة في ثواب من كظم الغيظ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن النخعي في الآية قال : الظلم من الفاحشة والفاحشة من الظلم وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والطبراني وابن أبي الدنيا وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال : إن في كتاب الله لآيتين ما أذنب عبد ذنبا فقرأهما فاستغفر الله إلا غفر له { والذين إذا فعلوا فاحشة } الآية وقوله { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } الآية وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن ثابت البناتي قال : بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية بكى { والذين إذا فعلوا فاحشة } الآية وأخرج الحكيم الترمذي عن عطاف بن خالد قال : بلغني أنه لما نزل قوله تعالى { ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا } صاح إبليس بجنوده وحثا على رأسه التراب ودعا بالويل والثبور حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر فقالوا : مالك يا سيدنا ؟ قال : آية نزلت في كتاب الله لا يضر بعدها أحدا من بني آدم ذنب قالوا : وما هي ؟ فأخبرهم قالوا : نفتح لهم باب الأهواء فلا يتوبون ولا يستغفرون ولا يرون إلا أنهم على الحق فرضي منهم بذلك وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والحميدي وعبد بن حميد وأهل السنن الأربع وحسنه النسائي وابن حبان والدارقطني في الإفراد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة عن أبي بكر الصديق سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله من ذنبه ذلك إلا غفر الله له ثم قرأ هذه الآية { والذين إذا فعلوا فاحشة } الآية ] وأخرج البيهقي في الشعب عن الحسن مرفوعا نحوه ولكنه قال : ثم خرج إلى براز من الأرض فصلى وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أبي بكر الصديق قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله { ولم يصروا } فيسكتون ولا يستغفرون وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل { ونعم أجر العاملين } قال : أجر العاملين بطاعة الله الجنة (1/575)
قوله 137 - { قد خلت من قبلكم سنن } هذا رجوع إلى وصف باقي القصة والمراد بالسنن ما سنه الله في الأمم من وقائعه : أي قد خلت من قبل زمانكم وقائع سنها الله في الأمم المكذبة وأصل السنن جمع سنة : وهي الطريقة المستقيمة ومنه قول الهذلي :
( فلا تجزعن من سنة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها )
والسنة : الإمام المتبع المؤتم به ومنه قول لبيد :
( من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمام )
والسنة الأمة والسنن الأمم قاله المفضل الضبي وقال الزجاج : المعنى في الآية أهل سنن فحذف المضاف والفاء في قوله { فسيروا } سببية وقيل شرطية : أي إن شككتم فسيروا والعاقبة : آخر الأمر والمعنى : سيروا فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين فإنهم خالفوا رسلهم بالحرص على الدنيا ثم انقرضوا فلم يبق من دنياهم التي آثروها أثر هذا قول أكثر المفسرين والمطلوب من هذا السير المأمور به هو حصول المعرفة بذلك فإن حصلت بدونه فقد حصل المقصود وإن كان لمشاهدة الآثار زيادة غير حاصلة لمن لم يشاهدها (1/578)
والإشارة بقوله 138 - { هذا } إلى قوله { قد خلت } وقال الحسن إلى القرآن { بيان للناس } أي تبيين لهم وتعريف الناس للعهد وهم المكذبون أو للجنس أي للمكذبين وغيرهم وفيه حث على النظر في سوء عاقبة المكذبين وما انتهى إليه أمرهم قوله { وهدى وموعظة } أي : هذا النظر مع كونه بيانا فيه هدى وموعظة للمتقين من المؤمنين فعطف الهدى والموعظة على البيان يدل على التغاير ولو باعتبار المتعلق وبيانه أن اللام في الناس إن كانت للعهد فالبيان للمكذبين والهدى والموعظة للمؤمنين وإن كانت للجنس فالبيان لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم والهدى والموعظة للمتقين وحدهم (1/578)
قوله 139 - { ولا تهنوا ولا تحزنوا } عزاهم وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح وحثهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز والفشل ثم بين لهم أنهم الأعلون على عدوهم بالنصر والظفر وهي جملة حالية : أي والحال أنكم الأعلون عليهم وعلى غيرهم بعد هذه الوقعة وقد صدق الله وعده فإن النبي صلى الله عليه و سلم بعد وقعة أحد ظفر بعدوه في جميع وقعاته وقيل المعنى : وأنتم الأعلون عليهم بما أصبتم منهم في يوم بدر فإنه أكثر مما أصابوا منكم اليوم وقوله { إن كنتم مؤمنين } متعلق بقوله { ولا تهنوا } وما بعده أو بقوله { وأنتم الأعلون } أي : إن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون (1/579)
والقرح بالضم والفتح : الجرح وهما لغتان فيه قاله الكسائي والأخفش وقال الفراء : هو بالفتح الجرح وبالضم ألمه وقرأ محمد بن السميفع قرح بفتح القاف والراء على المصدر والمعنى في الآية : إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر فلا تهنوا لما أصابكم في هذا اليوم فإنهم لم يهنوا لما أصابهم في ذلك اليوم وأنتم أولى بالصبر منهم وقيل : إن المراد بما أصاب المؤمنين والكافرين في هذا اليوم فإن المسلمين انتصروا عليهم في الابتداء فأصابوا منهم جماعة ثم انتصر الكفار عليهم فأصابوا منهم والأول أولى لأن ما أصابه المسلمون من الكفار في هذا اليوم لم يكن مثل ما أصابوه منهم فيه وقوله { وتلك الأيام } أي : الكائنة بين الأمم في حروبها والآتية فيما بعد كالأيام الكائنة في زمن النبوة تارة تغلب هذه الطائفة وتارة تغلب الأخرى كما وقع لكم أيها المسلمون في يوم بدر وأحد وهو معنى قوله { نداولها بين الناس } فقوله { تلك } مبتدأ والأيام صفته والخبر نداولها وأصل المداولة المعاورة : داولته بينهم عاورته والدولة : الكرة ويجوز أن تكون الأيام خبرا ونداولها حالا والأول أولى وقوله { وليعلم الله } معطوف على علة مقدرة كأنه قال : نداولها بين الناس ليظهر أمركم وليعلم أو يكون المعلل محذوفا : أي ليعلم الله الذين اتقوا فعلنا ذلك وهو من باب التمثيل : أي فعلنا فعل من يريد أن يعلم لأنه سبحانه لم يزل عالما أو ليعلم الله الذين آمنوا بصبرهم علما يقع عليه الجزاء كما علمه علما أزليا { ويتخذ منكم شهداء } أي : يكرمهم بالشهادة والشهداء جمع شهيد سمي بذلك لكونه مشهودا له بالجنة أو جمع شاهد لكونه كالمشاهد للجنة ومن للتبعيض وهم شهداء أحد وقوله { والله لا يحب الظالمين } جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير مضمون ما قبله (1/579)
وقوله 141 - { وليمحص الله الذين آمنوا } من جملة العلل معطوف على ما قبله والتمحيص : الاختبار وقيل : التطهير على حذف مضاف : أي ليمحص ذنوب الذين آمنوا قاله الفراء وقيل : يمحص يخلص قاله الخليل والزجاج : أي ليخلص المؤمنين من ذنوبهم وقوله { ويمحق الكافرين } أي يستأصلهم بالهلاك وأصل التمحيق محو الآثار والمحق نقسها (1/579)
قوله 142 - { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } كلام مستأنف لبيان ما ذكر من التمييز وأم هي المنقطعة والهمزة للإنكار : أي بل أحسبتم والواو في قوله { ولما يعلم الله } واو الحال والجملة الحالية وفيه تمثيل كالأول أو علم يقع عليه الجزاء وقوله { ويعلم الصابرين } منصوب بإضمار أن كما قال الخليل وغيره على أن الواو للجمع وقال الزجاج : الواو بمعنى حتى وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر ويعلم الصابرين بالجزم عطفا على { ولما يعلم } وقرئ بالرفع على القطع وقيل إن قوله { ولما يعلم } كناية عن نفي المعلوم وهو الجهاد والمعنى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر : أي الجمع بينهما ومعنى { لما } معنى لم عند الجمهور وفرق سيبويه بينهما فجعل لم لنفي الماضي ولما لنفي الماضي والمتوقع (1/580)
قوله 143 - { ولقد كنتم تمنون الموت } هو خطاب لمن كان يتمنى القتال والشهادة في سبيل الله ممن لم يحضر يوم بدر فإنهم كانوا يتمنون يوما يكون فيه قتال فلما كان يوم أحد انهزموا مع أنهم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالخروج ولم يصبر منهم إلا نفر يسير مثل أنس بن النضر عم أنس بن مالك وقوله { من قبل أن تلقوه } أي : القتال أو الشهادة التي هي سبب الموت وقرأ الأعمش من قبل أن تلاقوه وقد ورد النهي عن تمني الموت فلا بد من حمله هنا على الشهادة قال القرطبي : وتمني الموت من المسلمين يرجع إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات والصبر على الجهاد لا إلى قتل الكفار لهم لأنه معصية وكفر ولا يجوز إرادة المعصية وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة فيسألون الصبر على الجهاد وإن أدى إلى القتل قوله { فقد رأيتموه } أي : القتال أو ما هو سبب للموت ومحل قوله { وأنتم تنظرون } النصب على الحال وقيد الرؤية بالنظر مع اتحاد معناهما للمبالغة : أي قد رأيتموه معاينين له حين قتل من قتل منكم قال الأخفش : إن التكرير بمعنى التأكيد مثل قوله { ولا طائر يطير بجناحيه } وقيل : معناه بصراء ليس في أعينكم علل وقيل : معناه وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه و سلم (1/580)
وقوله 144 - { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } سبب نزول هذه ما سيأتي من أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أصيب في يوم أحد صاح الشيطان قائلا : قد قتل محمد ففشل بعض المسلمين حتى قال قائل : قد أصيب محمد فأعطوا بأيديكم فإنما هم إخوانكم وقال آخر : لو كان رسولا ما قتل فرد الله عليهم ذلك وأخبرهم بأنه رسول قد خلت من قبله الرسل وسيخلو كما خلوا فجملة قوله { قد خلت من قبله الرسل } صفة لرسول والقصر قصر إفراد كأنهم استبعدوا هلاكه فأثبتوا له صفتين : الرسالة وكونه لا يهلك فرد الله عليهم ذلك بأنه رسول لا يتجاوز ذلك إلى صفة عدم الهلاك وقيل : هو قصر قلب وقرأ ابن عباس قد خلت من قبل رسل ثم أنكر الله عليه بقوله { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } أي : كيف ترتدون وتتركون دنيه إذا مات أو قتل مع علمكم أن الرسل تخلو ويتمسك أتباعهم بدينهم وإن فقدوا بموت أو قتل وقيل : الإنكار لجعلهم خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم بموته أو قتله وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل لكونه مجوزا عند المخاطبين قوله { ومن ينقلب على عقبيه } أي : بإدباره عن القتال أو بارتداده عن الإسلام { فلن يضر الله شيئا } من الضرر وإنما يضر نفسه { وسيجزي الله الشاكرين } أي الذين صبروا وقاتلوا واستشهدوا لأنهم بذلك شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام ومن امتثل ما أمر به فقد شكر النعمة التي أنعم الله به عليه (1/580)
قوله 145 - { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } هذا كلام مستأنف يتضمن الحث على الجهاد والإعلام بأن الموت لا بد منه ومعنى { بإذن الله } بقضاء الله وقدره وقيل : إن هذه الجملة متضمنة للإنكار على من فشل بسبب ذلك الإرجاف بقتله صلى الله عليه و سلم فبين لهم أن الموت بالقتل أو بغيره منوط بإذن الله وإسناده إلى النفس مع كونها غير مختارة له للإيذان بانه لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الله وقوله { كتابا } مصدر مؤكد لما قبله لأن معناه كتب الله الموت كتابا والمؤجل : المؤقت الذي لا يتقدم على أجله ولا يتأخر قوله { ومن يرد } أي بعلمه { ثواب الدنيا } كالغنيمة ونحوها واللفظ يعم كل ما يسمى ثواب الدنيا وإن كان السبب خاصا { نؤته منها } أي : من ثوابها على حذف المضاف { ومن يرد } بعمله { ثواب الآخرة } وهو الجنة نؤته من ثوابها ونضاعف له الحسنات أضعافا كثيرة { وسنجزي الشاكرين } بامتثال ما أمرناهم به كالقتال ونهيناهم عنه كالفرار وقبول الإرجاف (1/581)
وقوله 146 - { وكأين } قال الخليل وسيبويه : هي أي دخلت عليها كاف التشبيه وثبتت معها فصارت بعد التركيب بمعنى كم وصورت في المصحف نونا لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغيير معناها ثم كثر استعمالها فتصرفت فيها العرب بالقلب والحذف فصار فيها أربع لغات قرئ بها : أحدها كائن مثل كاعن وبها قرأ ابن كثير ومثله قول الشاعر :
( وكائن بالأباطح من صديق ... تراه لو أصبت هو المصابا )
وقال آخر :
( وكائن رددنا عنكم من مدجج ... بحي أمام الركب يردي مقنعا )
وقال زهير :
( وكائن ترى من معجب لك شخصه ... زيادته أو نقصه في التكلم )
وكأين بالتشديد مثل كعين وبه قرأ الباقون وهو الأصل والثالثة : كأين مثل كعين مخففا والرابعة : كيئن بياء بعدها همزة مكسورة ووقف أبو عمرو بغير نون فقال : كأي لأنه تنوين ووقف الباقون بالنون والمعنى كثير من الأنبياء قتل معه ربيون قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب قتل على البناء للمجهول وهي قراءة ابن عباس واختارها أبو حاتم وفيه وجهان : أحدهما أن يكون في قتل ضمير يعود إلى النبي وحينئذ يكون قوله { معه ربيون } جملة حالية كما يقال : قتل الأمير معه جيش : أي ومعه جيش والوجه الثاني أن يكون القتل واقعا على ربيون فلا يكون في قتل ضمير والمعنى : قتل بعض أصحابه وهم الربيون وقرأ الكوفيون وابن عامر قاتل وهي قراءة ابن مسعود واختارها أبو عبيد : وقال : إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه وإذا حمد من قتل ولم يدخل فيه من قاتل ولم يقتل فقاتل أعم وأمدح ويرجح هذه القراءة الأخرى والوجه الثاني من القراءة الأولى قول الحسن : ما قتل نبي في حرب قط وكذا قال سعيد بن جبير والربيون بكسر الراء قراءة الجمهور وقرأ علي بضمها وابن عباس بفتحها وواحده ربي بالفتح منسوب إلى الرب والربي بضم الراء وكسرها منصوب إلى الربة بكسر الراء وضمها وهي الجماعة ولهذا فسرهم جماعة من السلف بالجماعات الكثيرة وقيل : هم الأتباع وقيل : هم العلماء قال الخليل : الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية وقال الزجاج : الربيون بالضم الجماعات قوله { فما وهنوا } عطف على قاتل أو قتل والوهن : إنكسار الجد بالخوف وقرأ الحسن وهنوا بكسر الهاء وضمها قال أبو زيد : لغتان وهن الشيء يهن وهنا : ضعف : أي ما وهنوا لقتل نبيهم أو لقتل من قتل منهم { وما ضعفوا } أي : عن عدوهم { وما استكانوا } لما أصابهم في الجهاد والاستكانة : الذلة والخضوع وقرئ وما وهنوا وما ضعفوا بإسكان الهاء والعين وحكى الكسائي { ضعفوا } بفتح العين وفي هذا توبيخ لمن انهزم يوم أحد وذل واستكان وضعف بسبب ذلك الإرجاف الواقع من الشيطان ولم يصنع كما صنع أصحاب من خلا من قبلهم من الرسل (1/581)
قوله 147 - { وما كان قولهم } أي : قول أولئك الذين كانوا مع الأنبياء إلا هذا القول وقولهم : منصوب على أنه خبر كان وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية عنهما برفع قولهم وقوله { إلا أن قالوا } استثناء مفرغ : أي ما كان قولهم عند أن قتل منهم ربانيون أو قتل نبيهم { إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } قيل : هي الصغائر وقوله : { وإسرافنا في أمرنا } قيل : هي الكبائر والظاهر أن الذنوب تعم كل ما يسمى ذنبا من صغيرة أو كبيرة والإسراف ما فيه مجاوزة للحد فهو من عطف الخاص على العام قالوا ذلك مع كونهم ربانيين هضما لأنفسهم { وثبت أقدامنا } في مواطن القتال (1/583)
148 - { فآتاهم الله } بسبب ذلك { ثواب الدنيا } من النصر والغنيمة والعزة ونحوها { وحسن ثواب الآخرة } من إضافة الصفة إلى الموصوف : أي ثواب الآخرة الحسن وهو نعيم الجنة جعلنا الله من أهلها
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { قد خلت من قبلكم سنن } قال : تداول من الكفار والمؤمنين في الخير والشر وأخرج ابن أبي شيبة في كتاب المصاحف عن سعيد بن جبير قال : أول ما نزل من آل عمران { هذا بيان للناس } ثم أنزل بقيتها يوم أحد وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله { هذا بيان } يعني القرآن وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال : أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم لا يعلون علينا ] فأنزل الله { ولا تهنوا ولا تحزنوا } الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشعب يوم أحد فسألوا ما فعل النبي صلى الله عليه و سلم وما فعل فلان فنعى بعضهم لبعض وتحدثوا أن النبي صلى الله عليه و سلم قد قتل فكانوا في هم وحزن فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم على الجبل وكانوا على أحد مجنبتي المشركين وهم أسفل من الشعب فلما رأوا النبي صلى الله عليه و سلم فرحوا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم
لا قوة لنا إلا بك وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء النفر فلا تهلكهم ] وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله وعلا المسلمون الجبل فذلك قوله : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك { وأنتم الأعلون } قال : وأنتم الغالبون وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { إن يمسسكم قرح } قال : جراح وقتل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } قال : إن يقتل منكم يوم أحد فقد قتل منهم يوم بدر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله { وتلك الأيام نداولها بين الناس } قال : كان يوم أحد بيوم بدر وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله { وتلك الأيام } الآية قال : أدال المشركين على النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد وبلغني أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين ألفا عدد الأسارى الذين أسروا يوم بدر من المشركين وكان عدد الأسارى يوم بدر ثلاثة وسبعين رجلا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { ويتخذ منكم شهداء } قال :
إن المسلمين كانوا يسألون ربهم : اللهم ربنا أرنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبليك فيه خيرا ونلتمس فيه الشهادة فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ منهم شهداء وأخرجا عنه في قوله { وليمحص الله الذين آمنوا } قال : يبتليهم { ويمحق الكافرين } قال : ينقصهم وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عنه أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كانوا يقولون : ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد أو ليت لنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبلي فيه خيرا ونلتمس الشهادة والجنة والحياة والرزق فاشهدهم الله أحدا فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم فقال الله { ولقد كنتم تمنون الموت } الآية وأخرج ابن المنذر عن كليب قال : خطبنا عمر بن الخطاب فكان يقرأ على المنبر آل عمران ويقول : إنها أحدية ثم قال : تفرقنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد فصعدت الجبل فسمعت يهوديا يقول : قتل محمد فقلت : لا أسمع أحدا يقول : قتل محمد إلا ضربت عنقه فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم والناس يتراجعون إليه فنزلت هذه الآية { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : نادى مناد يوم أحد ألا إن محمدا قد قتل فاجعوا إلى دينكم الأول فأنزل الله { وما محمد إلا رسول } وأخرج أيضا عن مجاهد نحوه وأخرج أيضا عن علي في قوله { وسيجزي الله الشاكرين } قال : الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه فكان علي يقول : كان أبو بكر أمير الشاكرين وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم عنه أنه كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله يقول { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } والله لا ننقلت على أعقابنا بعد إذ هدانا الله والله لئن مات أو قتل لأقتلن على ما قتل عليه حتى أموت وأخرج عبد بن حميد ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله { ربيون } قال : ألوف وأخرج سعيد بن منصور عن الضحاك قال : الربة الواحدة ألف وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { ربيون } قال : جموع وأخرج ابن جرير عنه قال : علماء كثير وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله { وما استكانوا } قال : تخشوا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله { وإسرافنا في أمرنا } قال : خطايانا (1/583)
لما أمر الله سبحانه بالاقتداء بمن تقدم من أنصار الأنبياء حذر عن طاعة الكفار وهم مشركو العرب وقيل : اليهود والنصارى وقيل : المنافقون في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى دين آبائكم وقوله { يردوكم على أعقابكم } أي : يخرجوكم من دين الإسلام إلى الكفر 149 - { فتنقلبوا خاسرين } أي : ترجعوا مغبونين (1/585)
وقوله 150 - { بل الله مولاكم } إضراب عن مفهوم الجملة الأولى : إي إن تطيعوا الكافرين يخذلوكم ولا ينصروكم بل الله ناصركم لا غيره وقرئ بل الله بالنصب على تقدير بل أطيعوا الله (1/585)
قوله 151 - { سنلقي } قرأ السختياني بالياء التحتية وقرأ الباقون بالنون وقرأ ابن عامر و الكسائي { الرعب } بضم العين وقرأ الباقون بالسكون وهما لغتان يقال : رعبته رعبا ورعبا فهو مرعوب ويجوز أن يكون مصدرا والرعب بالضم الاسم وأصله الملء يقال سيل راعب : أي يملأ الوادي ورعبت الحوض ملأته فالمعنى : سنملأ قلوب الكافرين رعبا : أي خوفا وفزعا والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام ومجازا في غيرها كهذه الآية وذلك أن المشركين بعد وقعة أحد ندموا أن لا يكونوا استأصلوا المسلمين وقالوا : بئسما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به { بما أشركوا بالله } متعلق بقوله { سنلقي } وما مصدرية : أي بسبب إشراكهم { ما لم ينزل به سلطانا } أي : ما لم ينزل الله بجعله شريكا له حجة وبيانا وبرهانا والنفي يتوجه إلى القيد والمقيد : أي لا حجة ولا إنزال والمعنى : أن الإشراك بالله لم يثبت في شيء من الملل والمثوى المكان الذي يقام فيه يقال : ثوى يثوي ثواء (1/586)
قوله 152 - { ولقد صدقكم الله وعده } نزلت لما قال بعض المسلمين من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر وذلك أنه كان الظفر لهم في الابتداء حتى قتلوا صاحب لواء المشركين وتسعة نفر بعده فلما اشتغلوا بالغنيمة وترك الرماة مركزهم طلبا للغنيمة كان ذلك سبب الهزيمة والحس : الاستئصال بالقتل قاله أبو عبيد يقال جراد محسوس : إذا قتله البر وسنه حسوس : أي جدبة تأكل كل شيء قيل : وأصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة فمعنى حسه : أذهب حسه بالقتل وتحسونهم : تقتلونهم وتستأصلونهم قال الشاعر :
( حسسناهم بالسيف حسا فأصبحت ... بقيتهم قد شردوا وتبددوا )
وقال جرير :
( تحسهم السيوف كما تسامى ... حريق النار في الأجم الحصيد )
{ بإذنه } أي : بعلمه وقضائه { حتى إذا فشلتم } أي : جبنتم وضعفتم قيل : جواب حتى محذوف تقديره امتحنتم وقال الفراء : جواب حتى قوله { وتنازعتم } والواو مقحمة زائدة كقوله { فلما أسلما وتله للجبين } وقال أبو علي : يجوز أن يكون الجواب صرفكم عنهم وقيل فيه تقديم وتأخير : أي حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشلتم وقيل : إن الجواب عصيتم والواو مقحمة وقد جوز الأخفش مثله في قوله تعالى { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم } وقيل : حتى بمعنى إلى وحينئذ لا جواب لها والتنازع المذكور هو ما وقع من الرماة حين قال بعضهم : نلحق الغنائم وقال بعضهم : نثبت في مكاننا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعنى قوله { من بعد ما أراكم ما تحبون } ما وقع لهم من النصر في الابتداء في يوم أحد كما تقدم { منكم من يريد الدنيا } يعني الغنيمة { ومنكم من يريد الآخرة } أي : الأجر بالبقاء في مراكزهم امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } أي : ردكم الله عنهم بالانهزام بعد أن استوليتم عليهم ليمتحنكم { ولقد عفا عنكم } لما علم من ندمكم فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة والخطاب لجميع المنهزمين وقيل : للرماة فقط (1/586)
قوله 153 - { إذ تصعدون } متعلق بقوله { صرفكم } أو بقوله { ولقد عفا عنكم } أو بقوله { ليبتليكم } وقرأه الجمهور بضم التاء وكسر العين وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة بفتح التاء والعين وقرأ ابن محيصن وقنبل { تصعدون } بالتحتية قال أبو حاتم : أصعدت إذا مضيت حيال وجهك وصعدت إذا ارتقيت في جبل فالإصعاد السير في مستوى الأرض وبطون الأودية والصعود الارتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدرج فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي فيصح المعنى على القراءتين وقال القتيبي : أصعد إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه ومنه قول الشاعر :
( ألا أيها السائلي أين إصعدت ... فإن لها من بطن يثرب موعدا )
وقال الفراء : الإصعاد الابتداء في السفر والانحدار الرجوع منه يقال : أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك : إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر وانحدرنا إذا رجعنا وقال المفضل : صعد وأصعد بمعنى واحد ومعنى { تلوون } تعرجون وتقيمون : أي : لا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا فإن المعرج إلى الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته { على أحد } أي : على أحد ممن معكم وقيل : على رسول الله صلى الله عليه و سلم وقرأ الحسن تلون بواو واحدة وقرأ عاصم في رواية عنه بضم التاء وهي لغة قوله { والرسول يدعوكم في أخراكم } أي : في الطائفة المتأخرة منكم يقال : جاء فلان في آخر الناس وآخرة الناس وأخرى الناس وأخريات الناس وكان دعاء النبي صلى الله عليه و سلم : [ أي عباد الله ارجعوا ] قوله { فأثابكم } عطف على صرفكم : أي : فجازاكم الله غما حين صرفكم عنه بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه و سلم بعصيانكم أو غما موصولا بغم بسبب ذلك الإرجاف والجرح والقتل وظفر المشركين والغم في الأصل التغطية غميت الشيء غطيته ويوم غم وليلة غمة : إذا كانا مظلمين : ومنه غم الهلال وقيل : الغم الأول الهزيمة والثاني إشراف أبي هريرة وخالد بن الوليد عليهم في الجبل قوله : { لكيلا تحزنوا } اللام متعلقة بقوله { فأثابكم } أي : هذا الغم بعد الغم لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة ولا ما أصابكم من الهزيمة تمرينا لكم على المصائب وتدريبا لاحتمال الشدائد وقال المفضل : معنى { لكيلا تحزنوا } لكي تحزنوا ولا زائدة كقوله تعالى { ما منعك أن لا تسجد } أي : أن تسجد وقوله { لئلا يعلم أهل الكتاب } أي ليعلم
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا } قال : لا تنصحوا اليهود والنصارى على دينكم ولا تصدقوهم بشيء في دينكم وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي يقول : إن تطيعوا أبا سفيان بن حرب يردكم كفارا وأخرج ابن جرير عنه في قوله { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } نحو ما قدمناه في سبب نزول الآية وأخرج البيهقي في الدلائل عن عروة في قوله { ولقد صدقكم الله وعده } قال : كان الله وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وكان قد فعل فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وتركوا مصافهم وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد لملائكة وقصة أحد مستوفاة في السير والتواريخ فلا حاجة إلى إطالة الشرح هنا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عبد الرحمن بن عوف في قوله { إذ تحسونهم } قال : الحس القتل وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : الفشل الجبن وأخرج ابن المنذر عن البراء بن عازب في قوله { من بعد ما أراكم ما تحبون } قال : الغنائم وهزيمة القوم وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله { ولقد عفا عنكم } قال : يقول الله قد عفوت عنكم أن لا أكون استأصلتكم وأخرج أيضا عن ابن جريج نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس { إذ تصعدون } قال : أصعدوا في أحد فرارا والرسول يدعوهم في أخراهم : [ إلي عباد الله ارجعوا إلي عباد الله ارجعوا ] وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف { فأثابكم غما بغم } قال : الغم الأول بسبب الهزيمة والثاني : حين قيل قتل محمد وكان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { غما بغم } قال : فرة بعد الفرة الأولى حين سمعوا الصوت أن محمدا قد قتل وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم قال : الغم الأول الجراح والقتل والغم الآخر حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه و سلم قد قتل وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله (1/587)
الأمنة والأمن سواء وقيل : الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف والأمن مع عدمه وهي منصوبة بأنزل ونعاسا بدل منها أو عطف بيان أو مفعول له وأما ما قيل من أن أمنة حال من نعاسا مقدمة عليه أو حال من المخاطبين أو مفعول له فبعيد وقرأ ابن محيصن أمنة بسكون الميم قوله 154 - { يغشى } قرئ بالتحتية على أن الضمير للنعاس وبالفوقية على أن الضمير لأمنة والطائفة الأخرى هم معتب بن قشير وأصحابه وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة وجعلوا يناشدون على الحضور ويقولون الأقاويل ومعنى { أهمتهم أنفسهم } حملتهم على الهم أهمني الأمر أقلقني والواو في قوله { وطائفة } للحال وجاز الابتداء بالنكرة لاعتمادها على واو الحال وقيل : إن معنى { أهمتهم أنفسهم } صارت همهم لا هم لهم غيرها { يظنون بالله غير الحق } هذه الجملة في محل نصب على الحال : أي : يظنون بالله غير الحق الذي يجب أن يظن به وظن الجاهلية بدل منه وهو الظن المختص بملة الجاهلية أو ظن أهل الجاهلية وهو ظنهم أن أمر النبي صلى الله عليه و سلم باطل وأنه لا ينصر ولا يتم ما دعا إليه من دين الحق وقوله { يقولون } بدل من يظنون أي : يقولون لرسول الله صلى الله عليه و سلم { هل لنا من الأمر من شيء } أي : هل لنا من أمر الله نصيب وهذا الاستفهام معناه الجحد : أي ما لنا شيء من الأمر وهو النصر والاستظهار على العدو وقيل هو الخروج : أي إنما خرجنا مكرهين فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله { قل إن الأمر كله لله } وليس لكم ولا لعدوكم منه شيء فالنصر بيده والظفر منه وقوله { يخفون في أنفسهم } أي : يضمرون في أنفسهم النفاق ولا يبدون لك ذلك بل يسألونك سؤال المسترشدين وقوله { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } استئناف كأنه قيل : ما هو الأمر الذي يخفون في أنفسهم ؟ فقيل : يقولون فيما بينهم أو في أنفسهم { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } أي : ما قتل من قتل منا في هذه المعركة فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } أي : لو كنتم قاعدين في بيوتكم لم يكن بد من خروج من كتب عليه القتل إلى هذه المصارع التي صرعوا فيها فإن قضاء الله لا يرد وقوله { وليبتلي الله ما في صدوركم } علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل له أخرى مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل : لعل ما فعل لمصالح جمة { وليبتلي } إلخ وقيل : إنه معطوف على علة مطوية لبرز والمعنى : ليمتحن ما في صدوركم من الإخلاص وليمحص ما في قلوبكم من وساوس الشيطان (1/589)
قوله 155 - { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } أي انهزموا يوم أحد : وقيل المعنى : إن الذين تولو المشركين يوم أحد { إنما استزلهم الشيطان } استدعى زللهم بسبب بعض ما كسبوا من الذنوب التي منها مخالفة رسول الله صلى الله عليه و سلم { ولقد عفا الله عنهم } لتوبتهم واعتذارهم
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : أمنهم الله يومئذ بنعاس غشاهم وإنما ينعس من يأمن وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن أبا طلحة قال : غشينا ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه فذلك قوله : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا } الآية وأخرج الترمذي وصححه وابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل عن الزبير بن العوام قال : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم من أحد إلا وهو يميل تحت حجفته من النعاس وتلا هذه الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال : إن المنافقين قالوا لعبد الله بن أبي وكان سيد المنافقين : قتل اليوم بنو الخزرج فقال : وهل لنا من الأمر شيء أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وأخرج ابن جرير عن قتادة والربيع في قوله { ظن الجاهلية } قال : ظن أهل الشرك وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : معتب هو الذي قال يوم أحد : لو كان لنا من الأمر شيء وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أن الذي قال ذلك عبد الله بن أبي وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن عوف في قوله { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } قال : هم ثلاثة واحد من المهاجرين واثنان من الأنصار وأخرج ابن منده وابن عساكر عن ابن عباس في الآية قال : نزلت في عثمان ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد وقد روي في تعيين من في الآية روايات كثيرة (1/590)
قوله 156 - { لا تكونوا كالذين كفروا } هم المنافقون الذين قالوا : لو كان لنا من الأمر شيء ما ها هنا قوله { وقالوا لإخوانهم } في النفاق أو في النسب : أي قالوا لأجلهم { إذا ضربوا في الأرض } إذا ساروا فيها للتجارة أو نحوها قيل : إن إذا هنا المفيدة لمعنى الاستقبال بمعنى إذ المفيدة لمعنى المضي وقيل : هي على معناها والمراد هنا حكاية الحال الماضية وقال الزجاج : إذا هنا تنوب عن ما مضى من الزمان وما يستقبل { أو كانوا غزى } جمع غاز كراكع وركع وغائب وغيب قال الشاعر :
( قل للقوافل والغزى إذا غزو )
{ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } اللام متعلقة بقوله { قالوا } أي : قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة في قلوبهم والمراد أنه صار ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا حسرة أو متعلقة بقوله { لا تكونوا } أي : لا تكونوا مثلهم في اعتقاد ذلك ليجعله الله حسرة في قلوبهم فقط دون قلوبكم وقيل : المعنى لا تلتفتوا إليهم ليجعل الله عدم التفاتكم إليهم حسرة في قلوبهم وقيل : المراد حسرة في قلوبهم يوم القيامة لما فيه من الخزي والندامة { والله يحيي ويميت } فيه رد على قولهم أي : ذلك بيد الله سبحانه يصنع ما يشاء ويحكم ما يريد فيحيي من يريد ويميت من يريد من غير أن يكون للسفر أو الغزو أثر في ذلك (1/592)
واللام في قوله 157 - { ولئن قتلتم } موطئة وقوله { لمغفرة } جواب القسم ساد مسد جواب الشرط والمعنى : أن السفر والغزو ليسا مما يجلب الموت ولئن وقع ذلك بأمر الله سبحانه { لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } أي : الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدة أعمارهم على قراءة من قرأ بالياء التحتية أو خير مما تجمعون أيها المسلمون من الدنيا ومنافعها على قراءة من قرأ بالفوقية والمقصود في الآية بيان مزية القتل أو الموت في سبيل الله وزيادة تأثيرهما في استجلاب المغفرة والرحمة (1/592)
قوله 158 - { ولئن متم أو قتلتم } على أي وجه حسب تعلق الإرادة الإلهية { لإلى الله تحشرون } هو جواب القسم المدلول عليه باللام الموطئة ساد مسد جواب الشرط كما تقدم في الجملة الأولى : أي إلى الرب الواسع المغفرة تحشرون لا إلى غيره كما يفيده تقديم الظرف على الفعل مع ما في تخصيص اسم الله سبحانه بالذكر من الدلالة على كما اللطف والقهر (1/592)
وما في قوله 159 - { فبما رحمة من الله } مزيدة للتأكيد قاله سيبويه وغيره وقال ابن كيسان : إنها نكرة في موضع جر بالياء ورحمة بدل منها والأول أولى بقواعد العربية ومثله قوله تعالى { فبما نقضهم ميثاقهم } والجار والمجرور متعلق بقوله { لنت لهم } وقدم عليه لإفادة القصر وتنوين رحمة للتعظيم والمعنى : أن لينه لهم ما كان إلا بسبب الرحمة العظيمة منه وقيل : إن ما استفهامية والمعنى : فبأي رحمة من الله لنت لهم وفيه معنى التعجيب وهو بعيد ولو كان كذلك لحذف الألف من ما وقيل : فبم رحمة من الله والفظ : الغليظ الجافي وقال الراغب : الفظ هو الكريه الخلق وأصله فظظ كحذر وغلظ القلب قساوته وقلة إشفاقه وعدم انفعاله للخير والانقضاض التفرق يقال : فضضتهم فانفضوا : أي فرقتهم فتفرقوا والمعنى : لو كنت فظا غليظ القلب لا ترفق بهم لتفرقوا من حولك هيبة لك واحتشاما منك بسبب ما كان من توليهم وإذا كان الأمر كما ذكر { فاعف عنهم } فيما يتعلق بك من الحقوق { واستغفر لهم } الله سبحانه فيما هو إلى الله سبحانه { وشاورهم في الأمر } أي : الذي يرد عليك : أي أمر كان مما يشاور في مثله أو في أمر الحرب خاصة كما يفيده السياق لما في ذلك من تطييب خواطرهم واستجلاب مودتهم ولتعريف الأمة بمشروعية ذلك حتى لا يأنف منه أحد بعدك والمراد هنا المشاورة في غير الأمور التي يرد الشرع بها قال أهل اللغة : الاستشارة مأخوذة من قول العرب : شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها وقيل من قولهم : شرت العسل إذا أخذته من موضعه قال ابن خوز منداد : واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وفيما أشكل عليهم من أمور الدنيا ومشاورة وجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ووجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها وحكى القرطبي عن ابن عطية أنه لا خلاف في وجوب عزل من لا يستشير أهل العلم والدين قوله { فإذا عزمت فتوكل على الله } أي : إذا عزمت عقب المشاورة على شيء واطمأنت به نفسك فتوكل على الله في فعل ذلك : أي اعتمد عليه وفوض إليه وقيل إن المعنى : فإذا عزمت على أمر أن تمضي فيه فتوكل على الله لا على المشاورة والعزم في الأصل قصد الإمضاء : أي فإذا قصدت إمضاء أمر فتوكل على الله وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد فإذا عزمت بضم التاء بنسبة العزم إلى الله تعالى : أي فإذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه فتوكل على الله (1/593)
وقوله 160 - { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } جملة مستأنفة لتأكيد التوكل والحث عليه والخذلان : ترك العون : أي وإن يترك الله عونكم { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } وهذا الاستفهام إنكاري والضمير في قوله : { من بعده } راجع إلى الخذلان المدلول عليه بقوله { وإن يخذلكم } أو إلى الله ومن علم أنه لا ناصر له إلا الله سبحانه وأن من نصره الله لا غالب له ومن خذله لا ناصر له فوض أموره إليه وتوكل عليه ولم يشتغل بغيره وتقديم الجار والمجرور على الفعل في قوله { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } لإفادة قصره عليه (1/593)
قوله 161 - { وما كان لنبي أن يغل } أي : ما صح له ذلك لتنافي الغلول والنبوة قال أبو عبيد : الغلول من المغنم خاصة ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد ومما يبين ذلك أنه يقال من الخيانة أغل يغل ومن الحقد غل يغل بالكسر ومن الغلول غل يغل بالضم يقال : غل المغنم غلولا : أي خان بأن يأخذ لنفسه شيئا يسترده على أصحابه فمعنى الآية على القراءة بالبناء للفاعل : ما صح لنبي أن يخون شيئا من المغنم فيأخذه لنفسه من غير اطلاع أصحابه وفيه تنزيه الأنبياء عن الغلول ومعناها على القراءة بالبناء للمفعول : ما صح لنبي أن يغله أحد من أصحابه : أي يخونه في الغنيمة وهو على هذه القراءة الأخرى نهي للناس عن الغلول في المغانم وإنما خص خيانة الأنبياء مع كون خيانة غيرهم من الأئمة والسلاطين والأمراء حراما لأن خيانة الأنبياء أشد ذنبا وأعظم وزرا { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أي : يأت به حاملا له على ظهره كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم فيفضحه بين الخلائق وهذه الجملة تتضمن تأكيد تحريم الغلول والتنفير منه بأنه ذنب يختص فاعله بعقوبة على رؤوس الأشهاد يطلع عليها أهل المحشر وهي مجيئه يوم القيامة بما غله حاملا له قبل أن يحاسب وافيا من خير وشر وهذه الآية تعم كل من كسب خيرا أو شرا ويدخل تحتها الغال دخولا أوليا لكون السياق فيه (1/594)
قوله 162 - { أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله } الاستفهام للإنكار : أي ليس من اتبع رضوان الله في أوامره ونواهيه فعمل بأمره واجتنب نهيه كمن باء : أي رجع بسخط عظيم كائن من الله بسبب مخالفته لما أمر به ونهى عنه ويدخل تحت ذلك من اتبع رضوان الله بترك الغلول واجتنابه ومن باء بسخط من الله بسبب إقدامه على الغلول (1/594)
ثم أوضح ما بين الطائفتين من التفاوت فقال 163 - { هم درجات عند الله } أي : متفاوتون في الدرجات والمعنى : هم ذوو درجات أو لهم درجات فدرجات من اتبع رضوان الله ليست كدرجات من باء بسخط من الله فإن الأولين في أرفع الدرجات والآخرين في أسفلها (1/594)
قوله 164 - { لقد من الله على المؤمنين } جواب قسم محذوف وخص المؤمنين لكونهم المنتفعين ببعثته ومعنى { من أنفسهم } أنه عربي مثلهم وقيل : بشر مثلهم ووجه المنة على الأول : أنهم يفقهون عنه ويفهمون كلامه ولا يحتاجون إلى ترجمان ومعناها على الثاني : أنهم يأنسون به بجامع البشرية ولو كان ملكا لم يحصل كمال الأنس به لاختلاف الجنسية وقرئ { من أنفسهم } بفتح الفاء : أي من أشرفهم لأنه من بني هاشم وبنو هاشم أفضل قريش وقريش أفضل العرب والعرب أفضل من غيرهم ولعل وجه الامتنان على هذه القراءة أنه لما كان من أشرفهم كانوا أطوع له وأقرب إلى تصديقه ولا بد من تخصيص المؤمنين في هذه الآية بالعرب على الوجه الأول وأما على الوجه الثاني فلا حاجة إلى هذا التخصيص وكذا على قراءة من قرأ بفتح الفاء لا حاجة إلى التخصيص لأن بني هاشم هم أنفس العرب والعجم في شرف الأصل وكرم النجار ورفاعة المحتد ويدل على الوجه الأول قوله تعالى { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم } وقوله { وإنه لذكر لك ولقومك } قوله { يتلو عليهم آياته } هذه منة ثانية أي : يتلو عليهم القرآن بعد أن كانوا أهل جاهلية لا يعرفون شيئا من الشرائع { ويزكيهم } أي : يطهرهم من نجاسة الكفر وهذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى وهما في محل نصب على الحال أو صفة لرسول وهكذا قوله { ويعلمهم الكتاب } والمراد بالكتاب هنا القرآن والحكمة : السنة وقد تقدم في البقرة تفسير ذلك { وإن كانوا من قبل } أي : من قبل محمد أو من قبل بعثته { لفي ضلال مبين } أي : واضح لا ريب فيه واللام للفرق بين إن المخففة من الثقيلة وبين النافية فهي تدخل في خبر المخففة لا النافية واسمها ضمير الشأن أي : وإن الشأن والحديث وقيل : إنها النافية واللام بمعنى إلا : أي وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين وبه قال الكوفيون والجملة على التقديرين في محل نصب على الحال
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله تعالى { وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض } الآية قال : هذا قول عبد الله بن أبي سلول والمنافقين وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } قال : يحزنهم قولهم ولا ينفعهم شيئا وأخرجوا عن قتادة في قوله { فبما رحمة من الله } يقول : فبرحمة من الله { لنت لهم } وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { لانفضوا من حولك } قال : لانصرفوا عنك وأخرج ابن عدي والبيهقي في الشعب قال السيوطي بسند حسن عن ابن عباس : قال لما نزلت { وشاورهم في الأمر } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن الله جعلها رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدهم رشدا ومن تركها لم يعدم غيا ] وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس { وشاورهم في الأمر } قال : أبو بكر وعمر وأخرج ابن مردويه عن علي قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن العزم فقال : مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم ] وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية { وما كان لنبي أن يغل } في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر فقال بعض الناس : لعل رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذها فنزلت وأخرج البزار وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس { وما كان لنبي أن يغل } قال : ما كان لنبي أن يتهمه أصحابه وقد ورد في تحريم الغلول أحاديث كثيرة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس { هم درجات عند الله } يقول : بأعمالهم وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة في قوله { لقد من الله على المؤمنين } الآية قالت : هذه للعرب خاصة (1/594)
قوله 165 - { أو لما أصابتكم مصيبة } الألف للاستفهام بقصد التقريع والواو للعطف والمصيبة : الغلبة والقتل الذي أصيبوا به يوم أحد { قد أصبتم مثليها } يوم بدر وذلك أن الذين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعون وقد كانوا قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين فكان مجموع القتلى والأسرى يوم بدر مثلي القتلى من المسلمين يوم أحد والمعنى : أحبن ما أصابكم من المشركين نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم وقلتم من أين أصابنا هذا ؟ وقد وعدنا بالنصر وقوله { أنى هذا } أي من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل ونحن نقاتل في سبيل الله ومعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد وعدنا الله بالنصر عليهم وقوله { قل هو من عند أنفسكم } أمر لرسول الله صلى الله عليه و سلم بأن يجيب عن سؤالهم بهذا الجواب : أي هذا الذي سألتم عنه هو من عند أنفسكم بسبب مخالفة الرماة لما أمرهم به النبي صلى الله عليه و سلم من لزوم المكان الذي عينه لهم وعدم مفارقتهم له على كل حال - وقيل : إن المراد بقوله { هو من عند أنفسكم } خروجهم من المدينة ويرده أن الوعد بالنصر إنما كان بعد ذلك وقيل : هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل (1/596)
166 - { يوم التقى الجمعان } يوم أحد : أي ما أصابكم يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة { فبإذن الله } فبعلمه وقيل : بقضائه وقدره وقيل : بتخيله بينكم وبينهم والفاء دخلت في جواب الموصول لكونه يشبه الشرط كما قال سيبويه وقوله { وليعلم المؤمنين } عطف على قوله { فبإذن الله } عطف سبب على سبب (1/597)
وقوله 167 - { وليعلم الذين نافقوا } عطف على ما قبله قيل : أعاد الفعل لقصد تشريف المؤمنين عن أن يكون الفعل المسند إليهم وإلى المنافقين واحدا والمراد بالعلم هنا التمييز والإظهار لأن علمه تعالى ثابت قبل ذلك والمراد بالمنافقين هنا عبد الله بن أبي وأصحابه قوله { وقيل لهم } هو معطوف على قوله { نافقوا } أي : ليعلم الله الذين نافقوا والذين قيل لهم وقيل هو كلام مبتدأ : أي قيل لعبد الله بن أبي وأصحابه { تعالوا قاتلوا في سبيل الله } إن كنتم ممن يؤمن بالله واليوم الآخر { أو ادفعوا } عن أنفسكم إن كنتم لا تؤمنون بالله واليوم الآخر فأبوا جميع ذلك وقالوا : لو نعلم أنه سيكون قتالا لاتبعناكم وقاتلنا معكم ولكنه لا قتال هنالك وقيل المعنى : لو كنا نقدر على القتال ونحسنه لاتبعناكم ولكنا لا نقدر على ذلك ولا نحسنه وعبر عن نفي القدرة على القتال بنفي العلم به لكونها مستلزمة له وفيه بعد لا ملجئ إليه وقيل معناه : لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتبعناكم ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال ولكنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة لعدم القدرة منا ومنكم على دفع ما ورد من الجيش بالبروز إليهم والخروج من المدينة وهذا أيضا فيه بعد دون بعد ما قبله وقيل : معنى الدفع هنا تكثير سواد المسلمين وقيل : معناه رابطوا والقائل للمنافقين هذه المقالة التي حكاها الله سبحانه هو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري والد جابر بن عبد الله قوله { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } أي : هم في هذا اليوم الذي انخذلوا فيه عن المؤمنين إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان عند من كان يظن أنهم مسلمون لأنهم قد بينوا حالهم وهتكوا أستارهم وكشفوا عن نفاقهم إذ ذاك وقيل المعنى : أنهم لأهل الكفر يومئذ أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان قوله { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما تقدمها : أي أنهم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر وذكر الأفواه للتأكيد مثل قوله { يطير بجناحيه } (1/597)
قوله 168 - { الذين قالوا لإخوانهم } إلخ : أي هم الذين قالوا لإخوانهم على أنه خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون بدلا من واو يكتمون أو منصوبا على الذم أو وصف للذين نافقوا وقد تقدم معنى { قالوا لإخوانهم } أي : قالوا لهم ذلك والحال أن هؤلاء القائلين قد قعدوا عن القتال { لو أطاعونا } بترك الخروج من المدينة ما قتلوا فرد الله ذلك عليهم بقوله { قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } والدرء : الدفع أي لا ينفع الحذر من القدر فإن المقتول يقتل بأجله
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { أو لما أصابتكم مصيبة } الآية يقول : إنكم قد أصبتم من المشركين يوم بدر مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد وقد بين هذا عكرمة فأخرج ابن جرير عنه قال : قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : لما رأوا من قتل منهم يوم أحد قالوا من أين هذا ؟ ما كان للكفار أن يقتلوا منا فلما رأى الله ما قالوا من ذلك قال الله : هم بالأسرى الذين أخذتم يوم بدر فردهم الله بذلك وعجل لهم عقوبة ذلك في الدنيا ليسلموا منها في الآخرة ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن مردويه عن علي قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن تقبل منهم عدتهم فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس فذكر ذلك لهم فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا لا بل نأخذ فداءهم فنقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس في ذلك ما نكره فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر وهذا الحديث في سنن الترمذي والنسائي هو من طريق أبي داود الحفري عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن سفيان بي سعيد عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي : قال الترمذي بعد إخراجه : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة وروى أبو أسامة عن هشام نحوه وروي عن ابن سيرين عن عبيدة عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا وإسناد ابن جرير لهذا الحديث هكذا : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا إسماعيل بن علية عن ابن عون قال سنيد وهو حسين وحدثني حجاج عن جرير عن محمد عن زبيدة عن علي فذكره وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي بكر بن أب شيبة حدثنا قراد بن نوح حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا سماك الحنفي أبو زميل حدثني ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفر أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم عنه وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فأنزل الله عز و جل : { أو لما أصابتكم مصيبة } الآية وأخرجه الإمام أحمد من طريق عبد الرحمن بن عزوان وهو قراد بن نوح به ولكن بأطول منه ولكنه يشكل على حديث التخيير السابق ما نزل من المعاتبة منه سبحانه وتعالى لمن أخذ الفداء بقوله : [ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ] وما روي من بكائه صلى الله عليه و سلم هو وأبو بكر ندما على أخذ الفداء ولو كان أخذ ذلك بعد التخيير لهم من الله سبحانه لم يعاتبهم عليه ولا حصل ما حصل من النبي صلى الله عليه و سلم ومن معه من الندم والحزن ولا صوب النبي صلى الله عليه و سلم رأي عمر رضي الله عنه حيث أشار بقتل الأسرى وقال ما معناه : لو نزلت عقوبة لم ينج منها إلا عمر والجميع في كتب الحديث والسير وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { قلتم أنى هذا } ونحن مسلمون نقاتل غضبا لله وهؤلاء مشركون فقال { قل هو من عند أنفسكم } عقوبة لكم بمعصيتكم النبي صلى الله عليه و سلم حين قال لا تتبعوهم وأخرج ابن المنذر عنه في قوله { أو ادفعوا } قال : كثروا بأنفسكم وإن لم تقاتلوا وأخرج أيضا عن الضحاك نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عون الأنصاري في قوله { أو ادفعوا } قال : رابطوا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن شهاب وغيره قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أحد في ألف رجل من أصحابه حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة انخزل عنهم عبد الله بن أبي بثلث الناس وقال : أطاعهم وعصاني والله ما ندري على ما نقتل أنفسنا ههنا ؟ فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق وأهل الريب واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام من بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضرهم عدوهم قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولا نرى أن يكون قتال وأخرجه ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحسين بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا فذكره وزاد أنهم لما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال : أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { لو نعلم قتالا لاتبعناكم } قال : لو نعلم أنا واجدون معكم مكان قتال لاتبعناكم (1/598)
لما بين الله سبحانه أن ما جرى على المؤمنين يوم أحد كان امتحانا ليتميز المؤمن من المنافق والكاذب من الصادق بين ههنا أن من لم ينهزم وقتل فله هذه الكرامة والنعمة وأن مثل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون لا مما يخاف ويحذر كما قالوا من حكى الله عنهم { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } وقالوا { لو أطاعونا ما قتلوا } فهذه الجملة مستأنفة لبيان هذا المعنى والخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لكل أحد وقرئ بالياء التحتية : أي لا يحسبن حاسب
وقد اختلف أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية من هم ؟ فقيل في شهداء أحد وقيل : في شهداء بدر وقيل : في شهداء بئر معونة وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومعنى الآية عند الجمهور : أنهم أحياء حياة محققة ثم اختلفوا فمنهم من يقول : أنها ترد إليهم أرواحهم في قبورهم فيتنعمون وقال مجاهد : يرزقون من ثمر الجنة : أي يجدون ريحها وليسوا فيها وذهب من عدا الجمهور إلى أنها حياة مجازية والمعنى : أنهم في حكم الله مستحقون للتنعيم في الجنة والصحيح الأول ولا موجب للمصير إلى المجاز وقد وردت السنة المطهرة بأن أرواحهم في أجواف طيور خضر وأنهم في الجنة يرزقون ويأكلون ويتمتعون وقوله { الذين قتلوا } هو المفعول الأول والحاسب هو النبي صلى الله عليه و سلم أو كل أحد كما سبق وقيل : يجوز أن يكون الموصول هو فاعل الفعل والمفعول الأول محذوف : أي لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا وهذا تكلف لا حاجة إليه ومعنى النظم القرآني في غاية الوضوح والجلاء وقوله { بل أحياء } خبر مبتدأ محذوف أي : بل هم أحياء وقرئ بالنصب على تقدير الفعل : أي بل أحسبهم أحياء وقوله { عند ربهم } إما خبر ثان أو صفة لأحياء أو في محل نصب على الحال وقيل : في الكلام حذف والتقدير : عند كرامة ربهم قال سيبويه : هذه عندية الكرامة لا عندية القرب وقوله { يرزقون } يحتمل في إعرابه الوجوه التي ذكرناها في قوله { عند ربهم } والمراد بالرزق هنا هو الرزق المعروف في العادات على ما يذهب إليه الجمهور كما سلف وعند من عدا الجمهور المراد به الثناء الجميل ولا وجه يقتضي تحريف الكلمات العربية في كتاب الله تعالى وحملها على مجازات بعيدة لا لسبب يقتضي ذلك (1/600)
وقوله 170 - { فرحين } حال من الضمير في { يرزقون } و { بما آتاهم الله من فضله } متعلق به وقرأ ابن السميفع فارحين وهما لغتاان كالفره والفاره والحذر والحاذر والمراد { بما آتاهم الله } ما ساقه الله إليهم من الكرامة بالشهادة وما صاروا فيه من الحياة وما يصل إليهم من رزق الله سبحانه { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم } من إخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا إذ ذاك فالمراد باللحوق هنا أنهم لم يلحقوا بهم في القتل والشهادة بل سيلحقون بهم من بعد وقيل : المراد لم يلحقوا بهم في الفضل وإن كانوا أهل فضل في الجملة والواو في { ويستبشرون } عاطفة على { يرزقون } أي : يرزقون ويستبشرون وقيل : المراد بإخوانهم هنا جميع المسلمين الشهداء وغيرهم لأنهم لما عاينوا ثواب الله وحصل لهم اليقين بحقية دين الإسلام استبشروا بذلك لجميع أهل الإسلام الذين هم أحياء لم يموتوا وهذا أقوى لأن معناه أوسع وفائدته أكثر واللفظ يحتمله بل هو الظاهر وبه قال الزجاج وابن فورك وقوله { ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } بدل من الذين : أي يستبشرون بهذه الحالة الحاصلة لإخوانهم من أنه لا خوف عليهم ولا حزن وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف (1/601)
وكرر قوله 172 - { يستبشرون } لتأكيد الأول ولبيان أن الاستبشار ليس لمجرد عدم الخوف والحزن بل به وبنعمة الله وفضله والنعمة : ما ينعم الله به على عباده والفضل : ما يتفضل به عليهم وقيل النعمة : الثواب والفضل الزائد وقيل : النعمة الجنة والفضل داخل في النعمة ذكر بعدها لتأكيدها وقيل : إن الاستبشار الأول متعلق بحال إخوانهم والاستبشار الثاني بحال أنفسهم قوله { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } قرأ الكسائي بكسر الهمزة من أن وقرأ الباقون بفتحها فعلى القراءة الأولى هو مستأنف اعتراض وفيه دلالة على أن الله لا يضيع أجر شيء من أعمال المؤمنين ويؤيده قراءة ابن مسعود والله لا يضيع أجر المؤمنين وعلى القراءة الثانية الجملة عطف على فضل داخلة في جملة ما يستبشرون به (1/601)
وقوله 172 - { الذين استجابوا } صفة للمؤمنين أو بدل منهم أو من الذين لم يلحقوا بهم أو هو مبتدأ خبره { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } بجملته أو منصوب على المدح وقد تقدم تفسير القرح (1/602)
قوله 172 - { الذين قال لهم الناس } المراد بالناس هنا نعيم بن مسعود كما سيأتي بيانه وجاز إطلاق لفظ الناس عليه لكونه من جنسهم وقيل : المراد بالناس ركب عبد القيس الذين مروا بأبي سفيان وقيل : هم المنافقون والمراد بقوله { إن الناس قد جمعوا لكم } أبو سفيان وأصحابه والضمير في قوله { فزادهم } راجع إلى القول المدلول عليه بقال أو إلى المقول وهو { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } أو إلى القائل والمعنى : أنهم لم يفشلوا لما سمعوا ذلك ولا التفتوا إليه بل أخلصوا لله وازدادوا طمأنينة ويقينا وفيه دليل على أن الإيمان يزيد وينقص قوله { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } حسب مصدر حسبه : أي كفاه وهو بمعنى الفاعل : أي محسب بمعنى كافي قال في الكشاف : والدليل على أنه بمعنى المحسب أنك تقول : هذا رجل حسبك فتصف به النكرة لأن إضافته لكونه بمعنى اسم الفاعل غير حقيقية انتهى والوكيل هو من توكل إليه الأمور أي : نعم الموكول إليه أمرنا أو الكافي أو الكافل والمخصوص بالمدح محذوف : أي نعم الوكيل الله سبحانه (1/602)
قوله 174 - { فانقلبوا } هو معطوف على محذوف : أي فخرجوا إليهم فانقلبوا بنعمة هو متعلق بمحذوف وقع حالا والتنوين للتعظيم : أي رجعوا متلبسين { بنعمة } عظيمة وهي السلامة من عدوهم وعافية { وفضل } أي : أجر تفضل الله به عليهم وقيل : ربح في التجارة وقيل : النعمة خاصة بمنافع الدنيا والفضل بمنافع الآخرة وقد تقدم تفسيرها قريبا بما يناسب ذلك المقام لكون الكلام فيه مع الشهداء الذين قد صاروا في الدار الآخرة والكلام هنا مع الأحياء قوله { لم يمسسهم سوء } في محل نصب على الحال : أي سالمين عن سوء لم يصيبهم قتل ولا جرح ولا ما يخافونه { واتبعوا رضوان الله } في ما يأتون ويذرون ومن ذلك خروجهم لهذه الغزوة { والله ذو فضل عظيم } لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه ومن تفضله عليهم تثبيتهم وخروجهم للقاء عدوهم وإرشادهم إلى أن يقولوا هذه المقالة التي هي جالبة لكل خير ودافعة لكل شر (1/602)
قوله { إنما ذلكم } أي : المثبط لكم أيها المؤمنون { الشيطان } هو خير اسم الإشارة ويجوز أن يكون الشيطان صفة لاسم الإشارة والخبر قوله { يخوف أولياءه } فعلى الأول يكون قوله { يخوف أولياءه } جملة مستأنفة أو حالية والظاهر أن المراد هنا الشيطان نفسه باعتبار ما يصدر منه من الوسوسة المقتضية للتثبيط وقيل : المراد نعيم بن مسعود لما قال لهم تلك المقالة وقيل أبو سفيان لما صدر منه الوعيد لهم والمعنى : أن الشيطان يخوف المؤمنين أولياءه وهم الكافرون وقيل إن قوله { أولياءه } منصوب بنزع الخافض أي يخوفكم بأوليائه أو من أوليائه قاله الفراء والزجاج وأبو علي الفارسي ورده ابن الأنباري بأن التخويف قد يتعدى بنفسه إلى مفعولين قلا ضرورة إلى إضمار حرف الجر وعلى قول الفراء ومن معه يكون مفعول يخوف محذوفا : أي يخوفكم وعلى الأول يكون المفعول الأول محذوفا والثاني مذكورا ويجوز أن يكون المراد أن الشيطان يخوف أولياءه وهم القاعدون من المنافقين فلا حذف قوله { فلا تخافوهم } أي أولياءه الذين يخوفكم بهم الشيطان أو فلا تخافوا الناس المذكورين في قوله { إن الناس قد جمعوا لكم } نهاهم سبحانه عن أن يخافوهم فيجبنوا عن اللقاء ويفشلوا عن الخروج وأمرهم بأن يخافوه سبحانه فقال { وخافون } فافعلوا ما آمركم به واتركوا ما أنهاكم عنه لأني الحقيق بالخوف مني والمراقبة لأمري ونهيي لكون الخير والشر بيدي وقيده بقوله { إن كنتم مؤمنين } لأن الإيمان يقتضي ذلك
وقد أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله } في حمزة وأصحابه وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن أبي الضحى أنها نزلت في قتل أحد وحمزة منهم وأخرج عبد بن حميد وأبو داود وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا ] وفي لفظ [ قالوا ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله : أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله هؤلاء الآيات { ولا تحسبن الذين قتلوا } الآية وما بعدها ] وأخرج الترمذي وحسنه وابن ماجه وابن خزيمة والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن جابر بن عبد الله : أن أباه سأل الله سبحانه أن يبلغ من وراء ما هو فيه فنزلت هذه الآية وهو من قتلى أحد وقد روي من وجوه كثيرة أن سبب نزول الآية قتل أحد وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أنس : أن سبب نزول هذه الآية قتلى بئر معونة وعلى كل حال فالآية باعتبار عموم لفظها يدخل تحتها كل شهيد وقد ثبت في أحاديث كثيرة في الصحيح وغيره أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر وثبت في فضل الشهداء ما يطول تعداده ويكثر إيراده مما هو معروف في كتب الحديث وأخرج النسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال : لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم بئس ما صنعتم ارجعوا فسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد أو بئر أبي عتبة شك سفيان فقال المشركون : يرجع من قابل فرجع رسول الله صلى الله عليه و سلم فكانت تعد غزوة فأنزل الله سبحانه { الذين استجابوا لله والرسول } الآية وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة في قوله تعالى { الذين استجابوا لله والرسول } الآية أنها قالت لعروة بن الزبير : يا بن أختي كان أبواك منهم : الزبير وأبو بكر لما أصاب نبي الله صلى الله عليه و سلم ما أصاب يوم أحد انصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال : من يرجع في أثرهم ؟ فانتدب منهم سبعون فيهم أبو بكر والزبير وأخرج ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم بحمراء الأسد وقد أجمع أبو سفيان بالرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه وقالوا : رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم فبلغه أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج في أصحابه يطلبهم فثنى ذلك أبا سفيان وأصحابه ومر ركب من عبد القيس فقال لهم أبو سفيان بلغوا محمدا أنا قد أجمعنا الرجعة على أصحابه ومر ركب من عبد القيس فقال لهم أبو سفيان بلغو محمدا أنا قد أجمعنا الرجعة على أصحابه لنستأصلهم فلما مر الركب برسول الله صلى الله عليه و سلم بحمراء الأسد أخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمون معه : حسبنا الله ونعم الوكيل فأنزل الله في ذلك { الذين استجابوا لله والرسول } الآيات وأخرج موسى بن عقبة في مغازيه والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدرا فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس فمشوا في الناس يخوفونهم وقالوا : إنا قد أخبرنا أن قد جمعوا لكم من الناس مثل الليل يرجون أن يواقعوكم والروايات في هذا الباب كثيرة قد اشتملت عليها كتب الحديث والسير وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : القرح الجراحات وأخرج ابن جرير عن السدي أن أبا سفيان وأصحابه لقوا أعرابيا فجعلوا له جعلا على أن يخبر النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه أنهم قد جمعوا لهم فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك فقال هو والصحابة : حسبنا الله ونعم الوكيل ثم رجعوا من حمراء الأسد فأنزل الله فيهم وفي الأعرابي { الذين قال لهم الناس } الآية وأخرج ابن مردويه عن أبي رافع أن هذا الأعرابي من خزاعة
وقد ورد في فضل هذه الكلمة أعني { حسبنا الله ونعم الوكيل } أحاديث منها ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ] قال ابن كثير بعد إخراجه : هذا حديث غريب من هذا الوجه وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ حسبي الله ونعم الوكيل أمان كل خائف ] وأخرج ابن أبي الدنيا في الذكر عن عائشة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه ولحيته ثم تنفس الصعداء وقال حسبي الله ونعم الوكيل ] وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد حين قالوا { إن الناس قد جمعوا لكم } وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي عن عوف بن مالك أنه حدثهم [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بين رجلين فقال المقضى عليه لما أدبر : حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ردوا علي الرجل فقال : ما قلت ؟ قال : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل ] وأخرج أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يسمع متى يؤمر فينفخ ؟ ثم أمر الصحابة أن يقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا ] وهو حديث جيد وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل } قال : النعمة أنهم سلموا والفضل أن عيرا مرت وكان في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه و سلم فريح مالا فقسمه بين أصحابه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : الفضل ما أصابوا من التجارة والأجر وأخرج ابن جرير عن السدي قال : أما النعمة فهي العافية وأما الفضل فالتجارة والسوء : القتل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله { لم يمسسهم سوء } قال : لم يؤذهم أحد { واتبعوا رضوان الله } قال : أطاعوا الله ورسوله وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه في قوله { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } قال : يقول الشيطان يخوف أوليائه وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : يعظم أولياءه في أعينكم وأخرج ابن المنذر عن عكرمة مثل قول ابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن : إنما كان ذلك تخويف الشيطان ولا يخاف الشيطان إلا ولي الشيطان (1/603)
قوله 176 - { ولا يحزنك } قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي وقرأ ابن محيصن بضم الياء والزاي وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الزاي وهما لغتان يقال : حزنني الأمر وأحزنني والأولى أفصح وقرأ طلحة { يسارعون } قيل : هم قوم ارتدوا فاغتم النبي صلى الله عليه و سلم لذلك فسلاه الله سبحانه ونهاه عن الحزن وعلل ذلك بأنهم لن يضروا الله شيئا وإنما ضروا أنفسهم بأن لاحظ لهم في الآخرة ولهم عذاب عظيم وقيل : هم كفار قريش وقيل : هم المنافقون وقيل : هو عام في جميع الكفار قال القشيري والحزن على كفر الكافر طاعة ولكن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفرط في الحزن فنهي عن ذلك كما قال الله تعالى { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } وعدي السارعون بفي دون إلى للدلالة على أنهم مستقرون فيه مديمون لملابسته ومثله يسارعون في الخيرات وقوله { إنهم لن يضروا الله شيئا } تعليل للنهي والمعنى : أن كفرهم لا ينقص من ملك الله سبحانه شيئا وقيل : المراد لن يضروا أولياءه ويحتمل أن يراد لن يضروا دينه الذي شرعه لعباده وشيئا منصوب على المصدرية : أي شيئا من الضرر وقيل : منصوب بنزع الخافض : أي بشيء : والحظ : النصيب قال أبو زيد : يقال رجل حظيظ إذا كان ذا حظ من الرزق والمعنى : أن الله يريد أن لا يجعل لهم نصيبا في الجنة أو نصيبا من الثواب وصيغة الاستقبال للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها { ولهم عذاب عظيم } بسبب مسارعتهم في الكفر فكان ضرر كفرهم عائدا عليهم جاليا لهم عدم الحظ في الآخرة ومصيرهم في العذاب العظيم (1/606)
قوله 177 - { إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان } أي : استبدلوا الكفر بالإيمان وقد تقدم تحقيق هذه الاستعارة { لن يضروا الله شيئا } معناه كالأول وهو للتأكيد لما تقدمه وقيل : إن الأول خاص بالمنافقين والثاني يعم جميع الكفار والأول أولى (1/607)
قوله 178 - { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم } قرأ ابن عامر وعاصم وغيرهما { يحسبن } بالياء التحتية وقرأ حمزة بالفوقية والمعنى على الأولى : لا يحسبن الكافرون أنما نملي لهم بطول العمر ورغد العيش أو بما أصابوا من الظفر يوم أحد { خير لأنفسهم } فليس الأمر كذلك بل إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين وعلى القراءة الثانية : لا تحسبن يا محمد أن الإملاء للذين كفروا بما ذكر خير لأنفسهم بل هو شر واقع عليهم ونازل بهم وهو أن الإملاء للذين كفروا بما ذكر خير لأنفسهم بل هو شر واقع عليهم ونازل بهم وهو أن الإملاء الذي نمليه لهم ليزدادوا إثما فالموصول على القراءة الأولى فاعل الفعل وأنما نملي وما بعده ساد مسد مفعولي الحسبان عند سيبويه أو ساد مسد أحدهما والآخر محذوف عند الأخفش وأما على القراءة الثانية عند سيبويه أو ساد مسد أحدهما والآخر محذوف عند الأخفش وأما على القراءة الثانية فقال الزجاج : إن الموصول هو المفعول الأول وأنما وما بعدها بدل من الموصول ساد مسد المفعولين ولا يصح أن يكون أنما وما بعده هو المفعول الثاني لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو الأول في المعنى وقال أبو علي الفارسي : لو صح هذا لكان خيرا بالنصب لأنه بصير بدلا من الذين كفروا فكأنه قال : لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيرا وقال الكسائي والفراء : إنه يقدر تكرير الفعل كأنه قال : ولا تحسبن الذين كفروا ولا تحسبن أنما نملي لهم فسدت مسد المفعولين وقال في الكشاف : فإن قلت كيف صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد ؟ قلت : صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحي ألا تراك تقول جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك انتهى وقرأ يحيى بن وثاب { إنما نملي } بكسر إن فيهما وهي قراءة ضعيفة باعتبار العربية وقوله : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } جملة مستأنفة مبينة لوجه الإملاء للكافرين وقد احتج الجمهور بهذه الآية على بطلان ما تقوله المعتزلة لأنه سبحانه أخبر بأنه يطيل أعمار الكفار ويجعل عيشهم رغدا ليزدادوا إثما قال أبو حاتم : وسمعت الأخفش يذكر كسر { إنما نملي } الأولى وفتح الثانية ويحتج بذلك لأهل القدر لأنه منهم ويجعله على هذا التقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم وقال في الكشاف : إن ازدياد الإثم علة وما كل علة بعرض ألا تراك تقول : قعدت عن الغزو للعجز والفاقة وخرجت من البلد لمخافة الشر وليس شيء يعرض لك وإنما هي علل وأسباب (1/607)
قوله 179 - { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه } كلام مستأنف والخطاب عند جمهور المفسرين للكفار والمنافقين : أي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق { حتى يميز الخبيث من الطيب } وقيل : الخطاب للمؤمنين والمنافقين : أي ما كان الله ليترككم على الحال التي أنتم عليه من الاختلاط حتى يميز بعضكم من بعض وقيل الخطاب للمشركين والمراد بالمؤمنين من في الأصلاب والأرحام : أي ما كان الله ليذر أولادكم على ما أنتم عليه حتى يفرق بينكم وبينهم وقيل الخطاب للمؤمنين : أي ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط بالمنافقين حتى يميز بينكم وعلى هذا الوجه والوجه الثاني يكون في الكلام التفات وقرئ { يميز } بالتشديد للمخفف من ماز الشيء يميزه ميزا إذا فرق بين شيئين فإن كانت أشياء قيل : ميزه تميزا { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } حتى تميزوا بين الطيب والخبيث فإنه المستأثر بعلم الغيب لا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول من رسله يجتبيه فيطلعه على شيء من غيبه فيميز بينكم كما وقع من نبينا صلى الله عليه و سلم من تعيين كثير من المنافقين فإن ذلك كان بتعليم الله له لا بكونه يعلم الغيب وقيل المعنى : وما كان الله ليطلعكم على الغيب في من يستحق النبوة حتى يكون الوحي باختياركم { ولكن الله يجتبي } أي يختار { من رسله من يشاء } قوله { فآمنوا بالله ورسله } أي : افعلوا الإيمان المطلوب منكم ودعوا الاشتغال بما ليس من شأنكم من التطلع لعلم الله سبحانه { وإن تؤمنوا } بما ذكر { وتتقوا فلكم } عوضا عن ذلك { أجر عظيم } لا يعرف قدره ولا يبلغ كنهه (1/608)
قوله 180 - { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم } الموصول في محل رفع على أنه فاعل الفعل على القراءة من قرأ بالياء التحتية والمفعول الأول محذوف : أي لا يحسبن الباخلون البخل خيرا لهم قاله الخليل وسيبويه والفراء قالوا : وإنما حذف لدلالة يبخلون عليه ومن ذلك قول الشاعر :
( إذا نهي السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف )
أي جرى إلى السفه فالسفيه دل على السفه وأما على قراءة من قرأ بالفوقية فالفعل مسند إلى النبي صلى الله عليه و سلم والمفعول الأول محذوف : أي لا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيرا لهم قال الزجاج : هو مثل { واسأل القرية } والضمير المذكور هو ضمير الفصل قال المبرد : والسين في قوله { سيطوقون ما بخلوا به } سين الوعيد وهذه الجملة مبينة لمعنى قوله { بل هو شر لهم } قيل : ومعنى التطويق هنا أنه يكون ما بخلوا به من المال طوقا من نار في أعناقهم وقيل : معناه أنه سيحملون عقاب ما بخلوا به فهو من الطاقة وليس من التطويق وقيل المعنى : أنهم يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق يقال : طوق فلان عمله طوق الحمامة : أي ألزم جزاء عمله وقيل : إن ما لم تؤد زكاته من المال يمثل له شجاعا أقرع حتى يطوق به في عنقه كما ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال القرطبي : والبخل في اللغة أن يمنع الإنسان الحق الواجب فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل قوله { ولله ميراث السموات والأرض } أي : له وحده لا لغيره كما يفيده التقديم والمعنى : أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلها فما بالهم يبخلون بذلك ولا ينفقونه وهو لله سبحانه لا لهم وإنما كان عندهم عارية مستردة ومثل هذه الآية قوله تعالى { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها } وقوله { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } والميراث في الأصل هو ما يخرج من مالك إلى آخر ولم يكن مملوكا لذلك الآخر قبل انتقاله إليه بالميراث ومعلوم أن الله سبحانه هو المالك بالحقيقة لجميع مخلوقاته
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد { إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان } قال : هم المنافقون وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها من الحياة إن كان برا فقد قال الله { وما عند الله خير للأبرار } وإن كان فاجرا فقد قال { ولا يحسبن الذين كفروا } الآية وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي الدرداء نحوه وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن محمد بن كعب نحوه وأخرج عبد بن حميد عن أبي برزة أيضا نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : قالوا إن كان محمدا صادقا فليخبرنا بمن يؤمن به منا ومن يكفر فأنزل الله { ما كان الله ليذر المؤمنين } الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : يميز أهل السعادة من أهل الشقاوة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : يميز بينهم في الجهاد والهجرة وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } قال : ولا يطلع على الغيب إلا رسول وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { ولكن الله يجتبي } قال : يختص وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك قال : يستخلص وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ولا يحسبن الذين يبخلون } قال : هم أهل الكتاب بخلوا أن يبينوه للناس وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : هم يهود وأخرج ابن جرير عن السدي قال : بخلوا أن ينفقوها في سبيل الله لم يؤدوا زكاتها وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاع أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمته : يعني بشدقه فيقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية ] وقد ورد هذا المعنى في أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة يرفعونها (1/608)
قال أهل التفسير : لما أنزل الله { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } قال قوم من اليهود هذه المقالة تمويها على ضعفائهم لا أنهم يعتقدون ذلك لأنهم أهل الكتاب بل أرادوا أنه تعالى إن صح ما طلبه منا من القرض على لسان محمد فهو فقير ليشككوا على إخوانهم في دين الإسلام قوله 181 - { سنكتب ما قالوا } سنكتبه في صحف الملائكة أو سنحفظه أو سنجازيهم عليه والمراد بالوعيد لهم وأن ذلك لا يفوت على الله بل هو معد لهم ليوم الجزاء وجملة سنكتب على هذه مستأنفة جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل : ماذا صنع الله بهؤلاء الذين سمع منهم هذا القول الشنيع ؟ فقال : قال لهم { سنكتب ما قالوا } وقرأ الأعمش وحمزة سيكتب بالمثناة التحتية مبني للمفعول وقرأ برفع اللام من قتلهم ويقول بالياء المثناة تحت قوله { وقتلهم الأنبياء } عطف على ما قالوا : أي ونكتب قتلهم الأنبياء : أي قتل أسلافهم للأنبياء وإنما نسب ذلك إليهم لكونهم رضوا به جعل ذلك القول قرينا لقتل الأنبياء تنبيها على أنه من العظم والشناعة بمكان يعدل قتل الأنبياء قوله { ونقول } معطوف على { سنكتب } أي : نتتقم منهم بعد الكتابة بهذا القول الذي نقوله لهم في النار أو عند الموت أو عند الحساب والحريق : اسم للنار الملتهبة وإطلاق الذوق على إحساس العذاب فيه مبالغة بليغة وقرأ ابن مسعود ويقال ذوقوا (1/611)
والإشارة بقوله 182 - { ذلك } إلى العذاب المذكور قبله وأشار إلى القريب بالصيغة التي يشار بها إلى البعيد للدلالة على بعد منزلة في الفظاعة وذكر الأيدي لكونها المباشرة لغالب المعاصي وقوله { وأن الله ليس بظلام للعبيد } معطوف على { ما قدمت أيديكم } ووجه أنه سبحانه عذبهم بما أصابوا من الذنب وجازاهم على فعلهم فلم يكن ذلك ظلما أو بمعنى : أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء وليس بظالم لمن عذبه بذنبه وقيل : إن وجهه أن نفي الظلم مستلزم للعدل المقتضي لإثابة المحسن ومعاقبة المسيء ورد بأن ترك التعذيب مع وجود سببه ليس بظلم عقلا ولا شرعا وقيل : إن جملة قوله { وأن الله ليس بظلام للعبيد } في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف : أي والأمر أن الله ليس بظلام للعبيد والتعبير بذلك عن نفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم عند أهل السنة فضلا عن كونه ظلما بالغا لبيان تنزهه عن ذلك ونفي ظلام المشعر بالكثرة يفيد ثبوت أصل الظلم وأجيب عن ذلك بأن الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلما لكان عظيما فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتا (1/611)
قوله 183 - { الذين قالوا } هو خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين قالوا : وقيل : نعت للعبيد وقيل : منصوب على الذم وقيل : هو في محل جر بدل من { لقد سمع الله قول الذين قالوا } وهو ضعيف لأن البدل هو المقصود دون المبدل منه وليس الأمر كذلك هنا والقائلون هؤلاء هم جماعة من اليهود كما سيأتي وهذا المقول وهو أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بالقربان هو من جملة دعاويهم الباطلة وقد كان دأب بني إسرائيل أنهم كانوا يقربون القربان فيقوم النبي فيدعو فتنزل نار من السماء فتحرقه ولم يتعبد الله بذلك كل أنبيائه ولا جعله دليلا على صدق دعوى النبوة ولهذا رد الله عليهم فقال { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم } من القربان { فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين } كيحيى بن زكريا وشعياء وسائر من قتلوا من الأنبياء والقربان : ما يتقرب به إلى الله من نسيكة وصدقة وعمل صالح وهو فعلان من القربة (1/611)
ثم سلى الله رسوله صلى الله عليه و سلم بقوله 184 - { فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا } بمثل ما جئت به من البينات والزبر جمع زبور : وهو الكتاب وقد تقدم تفسيره { والكتاب المنير } الواضح الجلي المضيء يقال نار الشيء وأنار ونوره واستناره بمعنى
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر بيت المدارس فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم فقال أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد انظر ما صنع صاحبك بي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي بكر : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : يا رسول الله قال قولا عظيما يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه فجحد فنحاص فقال : ما قلت ذلك فأنزل الله فيما قال فنحاص تصديقا لأبي بكر { لقد سمع الله قول الذين قالوا } الآية ونزل في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } الآية وقد أخرج هذه القصة ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة وأخرجها ابن جرير عن السدي بأخصر من ذلك وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت اليهود محمدا صلى الله عليه و سلم حين أنزل الله { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } فقالوا : يا محمد أفقير ربك يسأل عباده القرض ؟ فأنزل الله الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة : أن القائل لهذه المقالة حيي بن أخطب وأنها نزلت فيه وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن العلاء بن بدر أنه سئل عن قوله { وقتلهم الأنبياء بغير حق } وهم لم يدركوا ذلك قال : بموالاتهم من قتل الأنبياء وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وأن الله ليس بظلام للعبيد } قال : ما أنا بمعذب من لم يجترم وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله { الذين قالوا إن الله عهد إلينا } قال : هم اليهود وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله { حتى يأتينا بقربان تأكله النار } قال : يتصدق الرجل منا فإذا تقبل منه أنزلت عليه النار من السماء فأكلته وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله { الذين قالوا إن الله عهد إلينا } قال : كذبوا على الله وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { بالبينات } قال : الحلال والحرام { والزبر } قال : كتب الأنبياء { والكتاب المنير } قال : هو القرآن (1/612)
قوله 185 - { ذائقة } من الذوق ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
( من لم يمت غبطة يمت هرما ... الموت كأس والمرء ذائقها )
وهذه الآية تتضمن الوعد والوعيد للمصدق والمكذب بعد إخباره عن الباخلين القائلين { إن الله فقير ونحن أغنياء } وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وابن أبي إسحاق { ذائقة الموت } بالتنوين ونصب الموت وقرأ الجمهور بالإضافة قوله { وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } أجر المؤمن : الثواب وأجر الكافر : العقاب : أي أن توفية الأجور وتكميلها إنما تكون في ذلك اليوم وما يقع من الأجور في الدنيا أو في البرزخ فإنما هو بعض الأجور والزحزحة : التنحية والإبعاد : تكرير الزح وهو الجذب بعجلة قاله في الكشاف وقد سبق الكلام عليه : أي فمن بعد عن النار يومئذ ونحي فقد فاز : أي ظفر بما يريد ونجا مما يخاف وهذا هو الفوز الحقيقي الذي لا فوز يقاربه فإن كل فوز وإن كان بجميع المطالب دون الجنة ليس بشيء بالنسبة إليها اللهم لا فوز إلا فوز الآخرة ولا عيش إلا عيشها ولا نعيم إلا نعيمها فاغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وارض عنا رضا لا سخط بعده واجمع لنا بين الرضا منك علينا والجنة والمتاع : ما يتمتع به الإنسان وسنتفع به ثم يزول ولا يبقى كذا قال أكثر المفسرين الغرور : الشيطان يغر الناس بالأماني الباطلة والمواعيد الكاذبة شبه سبحانه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على من يريده وله ظاهر محبوب وباطن مكروه (1/613)
قوله 186 - { لتبلون في أموالكم وأنفسكم } هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وأمته تسلية لهم عما سيلقونه من الكفرة والفسقة ليوطنوا أنفسهم على الثبات والصبر على المكاره والابتلاء الامتحان والاختبار والمعنى : لتمتحنن ولتخبرن في أموالكم بالمصائب والإنفاقات الواجبة وسائر التكاليف الشرعية المتعلقة بالأموال والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفقد الأحباب والقتل في سبيل الله وهذه الجملة جواب قسم محذوف دلت عليه اللام الموطئة { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } وهم اليهود والنصارى { ومن الذين أشركوا } وهم سائر الطوائف الكفرية من غير أهل الكتاب { أذى كثيرا } من الطعن في دينكم وأعراضكم والإشارة بقوله { فإن ذلك } إلى الصبر والتقوى المدلول عزمة من عزمات الله التي أوجب عليهم القيام بها يقال عزم الأمر : أي شده وأصلحه (1/614)
قوله 187 - { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } هذه الآية توبيخ لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى أو اليهود فقط على الخلاف في ذلك - والظاهر أن المراد بأهل الكتاب كل من آتاه الله علم شيء من الكتاب : أي كتاب كان كما يفيده التعريف الجنسي في الكتاب قال الحسن وقتادة : إن الآية عامة لكل عالم وكذا قال محمد بن كعب ويدل على ذلك قول أبي هريرة : لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية والضمير في قوله { لتبيننه } راجع إلى الكتاب وقيل : راجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم وإن لم يتقدم له ذكر لأن الله أخذ على اليهود والنصارى أن يبينوا نبوته للناس ولا يكتموها { فنبذوه وراء ظهورهم } وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وأهل المدينة ليبيننه بالياء التحتية وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية وقرأ ابن عباس { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه } ويشكل على هذه القراءة قوله { فنبذوه } فلا بد من أن يكون فاعله الناس وفي قراءة ابن مسعود لتبينونه والنبذ : الطرح وقد تقدم في البقرة وقوله { وراء ظهورهم } مبالغة في النبذ والطرح وقد تقدم أيضا معنى قوله { اشتروا به ثمنا قليلا } والضمير عائد إلى الكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عنه كتمانه وقوله { ثمنا قليلا } أي : حقيرا يسيرا من حطام الدنيا وأعراضها قوله { فبئس ما يشترون } ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ويشترون صفة والمخصوص بالذم محذوف : أي بئس شيئا يشترونه بذلك الثمن (1/614)
قوله 188 - { لا تحسبن الذين يفرحون } قرأ الكوفيون بالتاء الفوقية والخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح له وقوره { بما أتوا } أي : بما فعلوا وقد اختلف في سبب نزول الآية كما سيأتي والظاهر شمولها لكل من حصل منه ما تضمنته عملا بعموم اللفظ وهو المعتبر دون خصوص السبب فمن فرح بما فعل وأحب أن يحمده الناس بما لم يفعل فلا تحسبنه بمفازة من العذاب وقرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو عمرو لا يحسبن بالياء التحتية : أي لا يحسبن الفارحون فرحهم منجيا لهم من العذاب فالمفعول الأول محذوف وهو فرحهم والمفعول الثاني بمفازة من العذاب وقوله { فلا تحسبنهم } تأكيد للفعل الأول على القراءتين والمفازة : المنجاة مفعلة من فاز يفوز إذا نجا : أي ليسوا بفائزين سمي موضع الخوف مفازة على جهة التفاؤل قاله الأصمعي وقيل : لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك تقول العرب : فوز الرجل إذا مات قال ثعلب : حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي فقال : أخطأ قال لي أبو المكارم : إنما سميت مفازة لأن من قطعها فاز وقال ابن الأعرابي : بل لأنه مستسلم لما أصابه وقيل المعنى : لا تحسبنهم بمكان بعيد من العذاب لأن الفوز التباعد عن المكروه وقرأ مروان بن الحكم والأعمش وإبراهيم النخعي آتوا بالمد : أي يفرحون بما أعطوا وقرأ جمهور القراء السبعة وغيرهم أتوا بالقصر
وقد أخرج ابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن حبان وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرأوا إن شئتم { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } ] وأخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد مرفوعا نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الزهري في قوله { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } قال : هو كعب بن الأشرف وكان يحرض المشركين على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه في شعره وأخرج ابن المنذر من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في الآية قال : يعني اليهود والنصارى فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم { عزير ابن الله } ومن النصارى قولهم : { المسيح ابن الله } { وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } قال : من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس } قال : فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار وأخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس } قال : كان الله أمرهم أن يتبعوا النبي الأمي وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : في التوراة والإنجيل أن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده وأن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوارة والإنجيل فنبذوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال : هم اليهود { لتبيننه للناس } قال : محمدا صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير عن السدي مثله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم فمن علم علما فليعلمه الناس وإياكم وكتمان العلم فإن كتمان العلم هلكة وأخرج ابن سعد عن الحسن قال : لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما : أن مروان قال لبوابه اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل : لئن كان امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية إنما أنزلت في أهل الكتاب ثم تلا { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } الآية قال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه و سلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري : أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت وقد روي أنها نزلت في فنحاص وأشيع وأشباههما وروي أنها نزلت في اليهود وأخرج مالك وابن سعد والطبراني والبيهقي في الدلائل عن محمد بن ثابت أن ثابت بن قيس قال : يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت قال : لم ؟ قال : قد نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل وأجدني أحب الحمد ونهانا عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال ونهانا أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا رجل جهير الصوت فقال : يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة ؟ فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في قوله : { بمفازة } قال بمنجاة وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله (1/615)
189 - { ولله ملك السموات والأرض والله على كل شيء قدير } (1/613)
قوله 190 - { إن في خلق السموات } هذه جملة مستأنفة لتقرير اختصاصه سبحانه بما ذكره فيها والمراد ذات السموات والأرض وصفاتها { واختلاف الليل والنهار } أي تعاقبهما وكون كل واحد منهما يخلف الآخر وكون زيادة أحدهما في نقصان الآخر وتفاوتهما طولا وقصرا وحرا وبردا وغير ذلك { لآيات } أي : دلالات واضحة وبراهين بينة تدل على الخالق سبحانه وقد تقدم تفسير بعض ما هنا في سورة البقرة والمراد بأولي الألباب : أهل العقول الصحيحة الخالصة عن شوائب النقص فإن مجرد التفكير فيما قصه الله في هذه الآية يكفي العاقل ويوصله إلى الإيمان الذي لا تزلزله الشبه ولا تدفعه التشكيكات (1/617)
قوله 191 - { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } الموصول نعت لأولي الألباب - وقيل : هو مفصول عنه خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح والمراد بالذكر هنا ذكره سبحانه في هذه الأحوال من غير فرق بين حال الصلاة وغيرها وذهب جماعة من المفسرين إلى أن الذكر هنا عبارة عن الصلاة : أي لا يضيعونها في حال من الأحوال فيصلونها قياما مع عدم العذر وقعودا وعلى جنوبهم مع العذر قوله { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } معطوف على قوله { يذكرون } وقيل : إنه معطوف على الحال أعني { قياما وقعودا } وقيل : إنه منقطع عن الأول والمعنى : أنهم يتفكرون في بديع صنعهما وإتقانهما مع عظم أجرامها فإن هذا الفكر إذا كان صادقا أوصلهم إلى الإيمان بالله سبحانه قوله { ربنا ما خلقت هذا باطلا } هو على تقدير القول : أي يقولون ما خلقت هذا عبثا ولهوا بل خلقته دليلا على حكمتك وقدرتك والباطل : الزائل الذاهب ومنه قول لبيد :
( ألا كل شيء ما خلا الله باطل )
وهو منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف : أي خلقا باطلا وقيل : منصوب بنزع الخافض وقيل : هو مفعول ثان وخلق بمعنى جعل أو منصوب على الحال والإشارة بقوله : { هذا } إلى السموات والأرض أو إلى الخلق على أنه بمعنى المخلوق قوله { سبحانك } أي : تنزيها لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها أن يكون خلقك لهذه المخلوقات باطلا وقوله { فقنا عذاب النار } الفاء لترتيب هذا الدعاء على ما قبله (1/618)
قوله 192 - { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } تأكيد لما تقدمه من استدعاء الوقاية من النار منه سبحانه وبيان للسبب الذي لأجله دعاه عباده بأن يقيهم عذاب النار وهو أن من أدخله النار فقد أخزاه أي أذله وأهانه وقال المفضل : معنى أخزيته أهلكته وأنشد :
( أخزى الإله بني الصليب عنيزة ... واللابسين ملابس الرهبان )
وقيل معناه : فضحته وأبعدته يقال أخزاه الله : أبعده ومقته والاسم الخزي قال ابن السكيت : خزى يخزي خزيا : إذا وقع في بلية (1/618)
قوله 193 - { ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان } المنادي عند أكثر المفسرين هو النبي صلى الله عليه و سلم وقيل : هو القرآن وأوقع السماع على المنادي مع كون المسموع هو النداء لأنه قد وصف المنادي بما يسمع وهو قوله { ينادي للإيمان أن آمنوا } وقال أبو علي الفارسي : إن ينادي هو المفعول الثاني وذكر ينادي مع أنه قد فهم من قوله { مناديا } لقصد التأكيد والتفخيم لشأن هذا المنادى به واللام في قوله { للإيمان } بمعنى إلى وقيل : إن ينادي يتعدى باللام وبإلى يقال : ينادي لكذا وينادي إلى كذا وقيل : اللام للعلة : أي لأجل الإيمان قوله { أن آمنوا } هي إما تفسيرية أو مصدرية وأصلها بأن آمنوا فحذف حرف الجر قوله { فآمنا } أي : امتثلنا ما يأمر به هذا المنادي من الإيمان فآمنا وتكرير النداء في قوله { ربنا } لإظهار التضرع والخضوع قيل : المراد بالذنوب هنا الكبائر وبالسيئات الصغائر والظاهر عدم اختصاص أحد اللفظين بأحد الأمرين والآخر بالآخر بل يكون المعنى في الذنوب والسيئات واحدا والتكرير للمبالغة والتأكيد كما أن معنى الغفر والكفر الستر والأبرار جمع بار أو بر وأصله من الاتساع فكأن البار متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمته قيل هم الأنبياء ومعنى اللفظ أوسع من ذلك (1/619)
قوله 194 - { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } هذا دعاء آخر والنكتة في تكرير النداء ما تقدم والموعود به على ألسن الرسل هو الثواب الذي وعد الله به أهل طاعته ففي الكلام حذف وهو لفظ الألسن كقوله { واسأل القرية } وقيل : المحذوف التصديق : أي ما وعدتنا على تصديق رسلك وقيل : ما وعدتنا منزلا على رسلك أو محمولا على رسلك والأول أولى وصدور هذا الدعاء منهم مع علمهم أن ما وعدهم الله به على ألسن رسله كائن لا محالة إما لقصد التعجيل أو للخضوع بالدعاء لكونه مخ العبادة وفي قولهم { إنك لا تخلف الميعاد } دليل على أنهم لم يخافوا خلف الوعد وأن الحامل لهم على الدعاء هو ما ذكرنا
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا : ما جاءكم به موسى من الآيات ؟ قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى فيكم ؟ قالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت { إن في خلق السموات والأرض } الآية وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال : بت عند خالتي ميمونة فنام رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ثم استيقظ فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران حتى ختم وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والطبراني والحاكم في الكنى والبغوي في معجم الصحابة عن صفوان بن المعطل قال : كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم في سفر فذكر نحوه وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود في قوله { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } الآية قال : إنما هذه في الصلاة إذا لم يستطع قائما فقاعدا وإن لم يستطع قاعدا فعى جنبه وقد ثبت في البخاري من حديث عمران بن حصين قال : [ كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه و سلم عن الصلاة فقال : صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ] وثبت فيه عنه قال : [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صلاة الرجل وهو قاعد فقال : من صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هذه حالاتك كلها يابن آدم اذكر الله وأنت قائم فإن لم تستطع فاذكره جالسا فإن لم تستطع جالسا فاذكره وأنت على جنبك يسر من الله وتخفيف
وأقول هذا التقييد الذي ذكره بعدم الاستطاعة مع تعميم الذكر لا وجه له لا من الآية ولا من غيرها فإنه لم يرد في شيء من الكتاب والسنة ما يدل على أنه لا يجوز الذكر من قعود إلا مع عدم استطاعة الذكر من قيام ولا يجوز على جنب إلا مع عدم استطاعته من قعود وإنما يصلح هذا التقييد لمن جعل المراد بالذكر هنا الصلاة كما سبق عن ابن مسعود وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن حبان في صحيحه وابن مردويه عن عائشة مرفوعا : ويل لمن قرا هذه الآية ولم يتفكر فيها وأخرج ابن أبي الدنيا في التفكر عن سفيان رفعه [ من قرأ آخر سورة آل عمران فلم يتفكر فيها ويله فعد أصابعه عشرا ] قيل للأوزاعي : ما غاية التفكر فيهن ؟ قال : يقرأهن وهو يعقلهن وقد وردت أحاديث وآثار عن السلف في استحباب التفكر مطلقا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس في قوله { من تدخل النار فقد أخزيته } قال : من تخلد وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن المسيب في الآية قال : هذه خاصمة بمن لا يخرج منها وأخرج ابن جرير والحاكم عن عمرو بن دينار قال : قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة فانتهيت إليه أنا وعطاء فقلت { وما هم بخارجين من النار } قال : أخبرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم الكفار قلت لجابر : فقوله { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } قال : وما أخزاه حين أحرقه بالنار وإن دون ذلك خزيا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله { مناديا ينادي للإيمان } قال : هو محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : هو القرآن ليس كل أحد سمع النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } قال : يستنجزون موعد الله على رسله وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ولا تخزنا يوم القيامة } قال : لا تفضحنا (1/619)
قوله 195 - { فاستجاب } الاستجابة بمعنى الإجابة وقيل : الإجابة عامة والاستجابة خاصة بإعطاء المسؤول وهذا الفعل يتعدى بنفسه وباللام يقال : استجابه واستجاب له والفاء للعطف وقيل على مقدر : أي دعوا بهذه الأدعية فاستجاب لهم وقيل على قوله : { ويتفكرون } وإنما ذكر سبحانه الاستجابة وما بعدها في جملة ما لهم من الأوصاف الحسنة لأنها منه إذ من أجيبت دعوته فقد رفعت درجته قوله { أني لا أضيع عمل عامل منكم } أي بأني وقرأ عيسى بن عمرو بكسر الهمزة على تقدير القول وقرأ أبي بثبوت الباء وهي للسببية : أي فاستجاب لهم ربهم بسبب أنه لا يضيع عمل عامل منهم والمراد بالإضاعة ترك الإثابة قوله { من ذكر أو أنثى } من بيانية ومؤكدة لما تقتضيه النكرة الواقعة في سياق النفي من العموم قوله { بعضكم من بعض } أي : رجالكم مثل نسائكم في الطاعة ونساؤكم مثل رجالكم فيها والجملة معترضة لبيان كون كل منهما من الآخر باعتبار تشعبهما من أصل واحد قوله { فالذين هاجروا } الآية هذه الجملة تتضمن تفصيل ما أجمل في قوله { أني لا أضيع عمل عامل } أي : فالذين هاجروا من أوطانهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم { وأخرجوا من ديارهم } في طاعة الله عز و جل { وقاتلوا } أعداء الله { وقتلوا } في سبيل الله وقرأ ابن كثير و ابن عامر { وقتلوا } على التكثير وقرأ الأعمش و حمزة و الكسائي { وقاتلوا وقتلوا } وهو مثل قول الشاعر :
( تصابى وأمسى علاه الكبر )
أي : قد علاه الكبر وأصل الواو المطلق الجمع بلا ترتيب كما قال به الجمهور والمراد هنا : أنهم قاتلوا وقتل بعضهم كما قال امرؤ القيس :
( فإن تقتلونا نقتلكمو )
وقرأ عمر بن عبد العزيز وقتلوا وقتلوا ومعنى قوله { وأوذوا في سبيلي } أي بسببه والسبيل : الدين الحق والمراد هنا : ما نالهم من الأذية من المشركين بسبب إيمانهم بالله وعملهم بما شرعه الله لعباده وقوله { لأكفرن } جواب قسم محذوف وقوله { ثوابا من عند الله } مصدر مؤكد عند البصريين لأن معنى قوله { لأدخلنهم جنات } لأثيبنهم ثوابا : أي إثابة أو تثويبا كائنا من عند الله وقال الكسائي : إنه منتصب على الحال وقال الفراء : على التفسير { والله عنده حسن الثواب } أي حسن الجزاء وهو ما يرجع على العامل من جزاء عمله من ثاب يثوب : إذا رجع
وقد أخرج سعيد بن منصور وعبد الرزاق والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن أم سلمة قالت : يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله { فاستجاب لهم } إلى آخر الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : ما من عبد يقول يا رب يا رب يا رب ثلاث مرات إلا نظر الله إليه فذكر للحسن فقال : أما تقرأ القرآن ؟ { ربنا إننا سمعنا مناديا } إلى قوله { فاستجاب لهم ربهم } وأخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت : آخر آية نزلت هذه الآية { فاستجاب لهم ربهم } إلى آخرها وقد ورد في فضل الهجرة أحاديث كثيرة (1/621)
قوله 196 - { لا يغرنك } خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد تثبيته على ما هو عليه كقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا آمنوا } وخطاب لكل أحد وهذه الآية متضمنة لقبح حال الكفار بعد ذكر حسن حال المؤمنين والمعنى : لا يغرنك ما هم فيه من تقلبهم في البلاد بالأسفار للتجارة التي يتوسعون بها في معاشهم (1/622)
فهو متاع قليل يتمتعون به في هذه الدار ثم مصيرهم إلى جهنم فقوله 197 - { متاع } خبر مبتدأ محذوف : أي هو متاع قليل لا اعتداد به بالنسبة إلى ثواب الله سبحانه { ومأواهم } أي : ما يأوون إليه والتقلب في البلاد : الاضطراب في الأسفار إلى الأمكنة ومثله قوله تعالى { فلا يغررك تقلبهم في البلاد } والمتاع ما يعجل الانتفاع به وسماه قليلا لانه فان وكل فان وإن كان كثيرا فهو قليل وقوله { وبئس المصير } ما مهدوا لأنفسهم في جهنم بكفرهم أو ما مهد الله لهم من النار فالمخصوص بالذم محذوف : وهو هذا المقدر (1/623)
قوله 198 - { لكن الذين اتقوا ربهم } هو استدراك مما تقدمه لأن معناه معنى النفي كأنه قال : ليس لهم في تقلبهم في البلاد كثير انتفاع { لكن الذين اتقوا } لهم الانتفاع الكثير والخلد الدائم وقرأ يزيد بن القعقاع لكن بتشديد النون قوله { نزلا } مصدر مؤكد عند البصريين كما تقدم في ثوابا وعند الكسائي والفراء مثل ما قالا في ثوابا والنزل ما يهيأ للنزيل والجمع أنزال قال الهروي { نزلا من عند الله } أي : ثوابا من عند الله { وما عند الله } مما أعده لمن أطاعه { خير للأبرار } مما يحصل للكفار من الربح في الأسفار فإنه متاع قليل عن قريب يزول (1/623)
قوله 199 - { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } هذه الجملة سيقت لبيان أن بعض أهل الكتاب لهم حظ من الدين وليسوا كسائرهم في فضائحم التي حكاها الله عنهم فيما سبق وفيما سيأتي فإن هذا البعض يجمعون بين الإيمان بالله وبما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم وما أنزله على أنبيائهم حال كونهم { خاشعين لله لا يشترون } أي : يستبدون { بآيات الله ثمنا قليلا } بالتحريف والتبديل كما يفعله سائرهم بل يحكون كتب الله سبحانه كما هي والإشارة بقوله { أولئك } إلى هذه الطائفة الصالحة من أهل الكتاب من حيث اتصافهم بهذه الصفات الحميدة { لهم أجرهم } الذي وعد الله سبحانه به بقوله { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } وتقديم الخبر يفيد اختصاص ذلك الأجر بهم وقوله { عند ربهم } في محل نصب على الحال (1/623)
قوله 200 - { يا أيها الذين آمنوا اصبروا } إلخ هذه الآية العاشرة من قوله سبحانه { إن في خلق السموات } ختم بها هذه السورة لما اشتملت عليه من الوصايا التي جمعت خير الدنيا والآخرة فحض على الصبر على الطاعات والشهوات والصبر : الحبس وقد تقدم تحقيق معناه والمصابرة مصابرة الأعداء قاله الجمهور : أي غالبوهم في الصبر على الشدائد الحرب وخص المصابرة بالذكر بعد أن ذكر الصبر لكونها أشد منه وأشق وقيل : المعنى صابروا على الصلوات وقيل : صابروا الأنفس عن شهواتها وقيل : صابروا الوعد الذي وعدتم ولا تيأسوا والقول الأول هو المعنى العربي ومنه قول عنترة :
( فلم أر حيا صابروا مثل صبرنا ... ولا كافحوا مثل الذين نكافح )
أي : صابروا العدو في الحرب قوله { ورابطوا } أي : أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها كما يربطها أعداؤكم وهذا قول جمهور المفسرين وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم غزو يرابط فيه وسيأتي ذكر من خرج عنه هذا والرباط اللغوي هو الأول ولا ينافيه تسميته صلى الله عليه و سلم لغيره رباطا كما سيأتي ويمكن إطلاق الرباط على المعنى الأول وعلى انتظار الصلاة قال الخليل : الرباط ملازمة الثغور ومواظبة الصلاة هكذا قال وهو من أئمة اللغة وحكى ابن فارس عن الشيباني أنه قال : يقال : ماء مترابط دائم لا يبرح وهو يقتضي تعدية الرباط إلى غير ارتباط الخيل في الثغور قوله { واتقوا الله } فلا تخالفوا ما شرعه لكم { لعلكم تفلحون } أي : تكونون من جملة الفائزين بكل مطلوب وهم المفلحون
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله { لا يغرنك تقلب الذين كفروا } تقلب ليلهم ونهارهم وما يجري عليهم من النعم قال عكرمة : قال ابن عباس وبئس المهاد : أي بئس المنزل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله { تقلبهم في البلاد } قال : ضربهم في البلاد وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله { وما عند الله خير للأبرار } قال : إنما سماهم الله أبرارا لأنهم بروا الآباء والأبناء كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حقا وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعا والأول أصح قاله السيوطي وأخرج ابن جرير عن ابن زيد { خير للأبرار } لمن يطيع الله وأخرج النسائي والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس قال : لما مات النجاشي قال صلى الله عليه و سلم : صلوا عليه قالوا : يا رسول الله نصلي على عبد حبشي ؟ فأنزل الله { وإن من أهل الكتاب } الآية وأخرج ابن جرير عن جابر مرفوعا أن المنافقين قالوا : انظروا إلى هذا يعني النبي صلى الله عليه و سلم يصلي على علج نصراني فنزلت وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في النجاشي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : هم مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد والذين اتبعوا محمدا صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن المبارك وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ما قدمنا ذكره وأخرج ابن مردويه عنه عن أبي هريرة قال : أما إنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه و سلم غزو يرابطون فيه ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلوات في مواقيتها ثم يذكرون الله فيها وقد ثبت في الصحيح وغيره من قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات : إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم ورابطوا عدوي وعدوكم وقد روي من تفاسير السلف غير هذا في سر الصبر على نوع من أنواع الطاعات والمصابرة على نوع آخر ولا تقوم بذلك حجة فالواجب الرجوع إلى المدلول اللغوي وقد قدمناه وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الرباط وفيها التصريح بأنه الرباط في سبيل الله وهو يرد ما قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد ندب إلى الرباط في سبيل الله وهو الجهاد فيحمل ما في الآية عليه وقد ورد عنه صلى الله عليه و سلم أنه سمي حراسة جيش المسلمين رباطا فأخرج الطبراني في الأوسط بسند جيد عن أنس قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أجر المرابط فقال : من رابط ليلة حارسا من وراء المسلمين كان له أجر من خلفه ممن صام وصلى ]
وقد ورد في فضل هذه العشر الآيات التي في آخر هذه السورة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم ما أخرجه ابن السني وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة ] وفي إسناده مظاهر بن أسلم وهو ضعيف وقد تقدم من حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ هذه العشر الآيات لما استيقظ وكذلك تقدم في غير الصحيحين من رواية صفوان بن المعطل عن النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج الدارمي عن عثمان بن عفان قال : [ من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة ] (1/623)
سورة النساء
هي مدنية كلها قال القرطبي : إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله تعالى { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } على ما سيأتي إن شاء الله قال النقاش : وقيل : نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة إلى المدينة وعلى ما تقدم عن بعض أهل العلم أن قوله تعالى { يا أيها الناس } حيثما وقع فإنه مكي يلزم أن يكون هذه السورة مكيا وبه قال علقمة وغيره وقال النحاس : هذه الآية مكية قال القرطبي : والصحيح الأول فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني قد بنى بها ولا خلاف بين العماء أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما بنى بعائشة بالمدينة ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها قال : وأما من قال : { يا أيها الناس } مكي حيث وقع فليس بصحيح فإن البقرة مدنية وفيها { يا أيها الناس } في موضعين وقد أخرج ابن الضريس في فضائله والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة النساء بالمدينة وفي إسناده العوفي وهو ضعيف وكذا أخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت وأخرجه ابن المنذر عن قتادة
وقد ورد في فضل هذه السورة ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن مسعود قال : إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } الآية { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الآية { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } الآية ثم قال : هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود سمع من أبيه وقد اختلف في ذلك وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن ابن مسعود قال : خمس آيات من النساء هن أحب إلي من الدنيا جميعا { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الآية { وإن تك حسنة يضاعفها } الآية { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية { من يعمل سوءا أو يظلم نفسه } الآية { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم } الآية ورواه ابن جرير ثم روي من طريق صالح المري عن قتادة عن ابن عباس قال : ثمان آيات نزلت في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت وذكر ما ذكره ابن مسعود وزاد { يريد الله ليبين لكم } الآية { والله يريد أن يتوب عليكم } الآية { يريد الله أن يخفف عنكم } الآية وأخرج أحمد وابن الضريس ومحمد بن نصر والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أخذ السبع فهو حبر ] وأخرج البيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أعطيت مكان التوراة السبع الطوال والمئين كل سورة بلغت مائة فصاعدا ] والمثاني كل سورة دون المئين وفوق المفصل وأخرج أبو يعلى وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أنس قال : [ وجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات ليلة شيئا فلما أصبح قيل : يا رسول الله إن أثر الوجع عليك لبين قال : أما إني على ما ترون بحمد الله قد قرات السبع الطوال ] وأخرج أحمد عن حذيفة قال : [ قمت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ السبع الطوال في سبع ركعات ] وأخرج عبد الرزاق عن بعض أهل النبي صلى الله عليه و سلم [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ بالسبع الطوال في ركعة واحدة ] وأخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قال : [ سلوني عن سورة النساء فإني قرأت القرآن وأنا صغير ] قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عنه قال : [ من قرأ سورة النساء فعلم ما يحجب مما لا يحجب علم الفرائض ]
المراد بالناس الموجودون عند الخطاب من بني آدم ويدخل من سيوجد بدليل خارجي وهو الإجماع على أنهم مكلفون بما كلف به الموجودون أو تغليب الموجودين على من لم يوجد كما غلب الذكور على الإناث في قوله { اتقوا ربكم } لاختصاص ذلك بجمع المذكر والمراد بالنفس الواحدة هنا آدم وقرأ ابن أبي عبلة واحد بغير هاء على مراعاة المعنى فالتأنيث باعتبار اللفظ والتذكير باعتبار المعنى قوله 1 - { وخلق منها زوجها } قيل : هو معطوف على مقدر يدل عليه الكلام : أي خلقكم من نفس واحدة خلقها أولا وخلق منها زوجها وقيل : على خلقكم فيكون الفعل الثاني داخلا مع الأول في حيز الصلة والمعنى : وخلق من تلك النفس التي هي عبارة عن آدم زوجها وهي حواء وقد تقدم في البقرة معنى التقوى والرب والزوج والبث والضمير في قوله { منها } راجع إلى آدم وحواء المعبر عنها بالنفس والزوج وقوله { كثيرا } وصف مؤكد لما تفيده صيغة الجمع لكونها من جموع الكثرة وقيل : هو نعت لمصدر محذوف : أي بثا كثيرا وقوله { ونساء } أي كثيرة وترك التصريح به استغناء بالوصف الأول قوله { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } قرأ أهل الكوفة بحذف التاء الثانية وأصله تتساءلون تخفيفا لاجتماع المثلين وقرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بإدغام التاء في السين والمعنى : يسأل بعضكم بعضا بالله والرحم فإنهم كانوا يقرنون بينهما في السؤال والمناشدة فيقولون : أسألك بالله والرحم وأنشدك الله والرحم وقرأ النخعي وقتادة والأعمش وحمزة { والأرحام } بالجر وقرأ الباقون بالنصب
وقد اختلف أئمة النحو في توجيه قراءة الجر فأما البصريون فقالوا : هي لحن لا تجوز القراءة بها وأما الكوفيون فقالوا : هي قراءة قبيحة قال سيبويه في توجيه هذا القبح : إن المضمر المجرور بمنزلة التنوين والتنوين لا يعطف عليه وقال الزجاج وجماعة بقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى { فخسفنا به وبداره الأرض } وجوز سيبويه ذلك في ضرورة الشعر وأنشد :
( فاليوم قربت تهجونا وتمدحنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب )
ومثله قول الآخر :
( تعلق في مثل السواري سيوفنا ... وما بينها والكعب بهو نفانف )
بعطف الكعب على الضمير في بينها وحكى أبو علي الفارسي أن المبرد قال : لو صليت خلف إمام يقرأ { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } بالجر لأخذت نعلي ومضيت وقد رد الإمام أبو نصر القشيري ما قاله القادحون في قراءة الجر فقال : ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء أثبتت عن النبي صلى الله عليه و سلم تواترا ولا يخفى عليك أن دعوى التواتر باطلة يعرف ذلك من يعرف الأسانيد التي رووها بها ولكن ينبغي أن يحتج للجواز بورود ذلك في أشعار العرب كما تقدم وكما في قوله بعضهم :
( وحسبك والضحاك سيف مهند )
وقول الآخر :
( وقد رام آفاق السماء فلم يجد ... له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا )
وقول الآخر :
( ما إن بها والأمور من تلف )
وقول الآخر :
( أكر على الكتيبة لست أدري ... أحتفي كان فيها أم سواها )
فسواها في موضع جر عطفا على الضمير في فيها ومنه قوله تعالى { وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين } وأما قراءة النصف فمعناها واضح جلي لأنه عطف الرحم على الاسم الشريف : أي اتقوا الله واتقوا الأرحام فلا تقطعوها فإنها مما أمر الله به ان يوصل وقيل : إنه عطف على محل الجار والمجرور في قوله { به } كقولك مررت بزيد وعمرا : أي اتقوا الله الذي تساءلون به وتتساءلون بالأرحام والأول أولى وقرأ عبد الله بن يزيد والأرحام بالرفع على الابتداء والخبر مقدر : أي والأرحام صلوها أو والأرحام أهل أن توصل وقيل : إن الرفع على الإغراء عند من يرفع به ومنه قول الشاعر :
( إن قوما منهم عمير وأشبا ... ه عمير ومنهم السفاح )
( لجديرون باللقاء إذا قا ... ل أخ النجدة السلاح السلاح )
والأرحام : اسم لجميع الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره لا خلاف في هذا بين أهل الشرع ولا بين أهل اللغة وقد خصص أبو حنيفة وبعض الزيدية الرحم بالمحرم في منع الرجوع في الهبة مع موافقتهم على أن معناها أعم ولا وجه لهذا التخصيص قال القرطبي : اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة انتهى وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة والرقيب : المراقب وهي صيغة مبالغة يقال : رقبت أرقب رقبة ورقبانا : إذا انتظرت (1/626)
قوله 2 - { وآتوا اليتامى أموالهم } خطاب للأولياء والأوصياء والإيتاء : الإعطاء واليتيم : من لا أب له وقد خصصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم وقد تقدم تفسير معناه في البقرة مستوفى وأطلق اسم اليتيم عليهم عند إعطائهم أموالهم مع أنهم لا يعطونها إلا بعد ارتفاع اسم اليتم بالبلوغ مجازا باعتبار ما كانوا عليه ويجوز أن يراد باليتامى المعنى الحقيقي وبالإيتاء ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة لا دفعها جميعها وهذه الآية مقيدة بالآية الأخرى وهي قوله تعالى { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } فلا يكون مجرد ارتفاع اليتم بالبلوغ مسوغا لدفع أموالهم إليهم حتى يؤنس منهم الرشد قوله { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } نهي لهم عن أن يصنعوا صنع الجاهلية في أموا اليتامى فإنهم كانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى ويعوضونه بالرديء من أموالهم ولا يرون بذلك بأسا وقيل المعنى : لا تأكلوا أموا اليتامى وهي محرمة خبيثة وتدعوا الطيب من أموالكم وقيل : المراد لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله والأول أولى فإن تبدل الشيء بالشيء في اللغة أخذه مكانه وكذلك استبداله ومنه قوله تعالى : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } وقوله { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } وأما التبديل فقد يستعمل كذلك كما في قوله { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } وأخرى بالعكس كما في قولك بدلت الحلقة بالخاتم : إذا أذبتها وجعلتها خاتما نص عليه الأزهري قوله { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الخلط فيكون الفعل مضمنا معنى الضم : أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم ثم نسخ هذا بقوله تعالى { وإن تخالطوهم فإخوانكم } وقيل : إن إلى بمعنى مع كقوله تعالى { من أنصاري إلى الله } والأول أولى والحوب : الإثم يقال : حاب الرجل يحوب حوبا : إذا أثم وأصله الزجر للإبل فسمي الإثم حوبا لأنه يزجر عنه والحوبة : الحاجة والحوب أيضا : الوحشة وفيه ثلاث لغات : ضم الحاء وهي قراءة الجمهور وفتح الحاء وهي قراءة الحسن قال الأخفش : وهي لغة تميم والثالثة الحاب وقرأ أبي بن كعب حابا على المصدر كقال قالا والتحوب التحزن ومنه قول طفيل :
( فذوقوا كما ذقنا عداه يحجر ... من الغيظ في أكبادنا والتحوب ) (1/630)
قوله 3 - { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا } وجه ارتباط الجزاء بالشرط أن الرجل كان يكفل اليتيمة لكونه وليا لها ويريد أن يتزوجها فلا يقسط لها في مهرها : أي يعدل فيه ويعطيها ما يعطيها غيره من الأزواج فنهاهم الله أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى ما هو لهن من الصداق وأمروا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى ما هو لهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن فهذا سبب نزول الآية كما سيأتي فهو نهي يخص هذه الصورة وقال جماعة من السلف : إن هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أول الإسلام من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء فقصرهم بهذه الآية على أربع فيكون وجه ارتباط الجزاء بالشرط أنهم إذا خافوا ألا يقسطوا في اليتامى فكذلك يخافون ألا يقسطوا في النساء لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في النساء والخوف من الأضداد فإن المخوف قد يكون معلوما وقد يكون مظنونا ولهذا اختلف الأئمة في معناه في الآية فقال أبو عبيدة : { خفتم } بمعنى أيقنتم وقال آخرون { خفتم } بمعنى ظننتم قال ابن عطية : وهو الذي اختاره الحذاق وأنه على بابه من الظن لا من اليقين والمعنى : من غلب على ظنه التقصير في العدل لليتيمة فليتركها وينكح غيرها وقرأ النخعي وابن وثاب { تقسطوا } بفتح التاء من قسط : إذا جار فتكون هذه القراءة على تقدير زيادة لا كأنه قال : وإن خفتم أن تقسطوا وحكى الزجاج أن أقسط يستعمل استعمال قسط والمعروف عند أهل اللغة أن أقسط بمعنى عدل وقسط بمعنى جار وما في قوله { ما طاب } موصولة وجاء بما مكان من لأنهما قد يتعاقبان فيقع كل واحد منهما مكان الآخر كما في قوله { والسماء وما بناها } { فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع } وقال البصريون : إن ما تقع للنعوت كما تقع لما لا يعقل يقال ما عندك فيقال : ظريف وكريم فالمعنى : فانكحوا الطيب من النساء : أي الحلال وما حرمه الله فليس بطيب وقيل : إن ما هنا مدية : أي ما دمتم مستحسنين للنكاح وضعفه ابن عطية وقال الفراء : إن ما ها هنا مصدرية قال النحاس : وهذا بعيد جدا وقرأ ابن أبي عبلة { فانكحوا ما طاب } وقد اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة ومن في قوله { من النساء } إما بيانية أو تبعيضية لأن المراد غير اليتائم قوله { مثنى وثلاث ورباع } في محل نصب على البدل من ما كما قاله أبو علي الفارسي وقيل على الحال وهذه الألفاظ لا تتصرف للعدل والوصفية كما هو مبين في علم النحو والأصل : انكحوا ما طاب لكم من النساء اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا
وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد كما يقال للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم أو هذا المال الذي في البدرة درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو عين مكانه أما لو كان مطلقا كما يقال : اقتسموا الدراهم ويراد به ما كسبوه فليس المعنى هكذا والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول على أن من قال لقوم يقتسمون مالا معينا كثيرا : اقتسموه مثنى وثلاث ورباع فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وبعضه أربعة أربعة كان هذا هو المعنى العربي ومعلوم أنه إذا قال القائل جاءني القوم مثنى وهم مائة ألف كان المعنى أنهم جاؤوه اثنين اثنين وهكذا في جاء القوم ثلاث ورباع والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد كما في قوله { اقتلوا المشركين } { أقيموا الصلاة } { آتوا الزكاة } ونحوها فقوله { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } معناه لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا هذا ما تقتضيه لغة العرب فالآية تدل على خلاف ما استدلوا بها عليه ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية { فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة } فإنه وإن كان خطابا للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن
وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة فكأنه قال : انكحوا مجموع هذا العدد المذكور فهذا جهل بالمعنى العربي ولو قال : انكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا كان هذا القول له وجه وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون أو لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره وذلك ليس بمراد من النظم القرآني وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب ثلث وربع بغير ألف قوله { فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة } فانكحوا واحدة كما يدل على ذلك قوله { فانكحوا ما طاب } وقيل : التقدير فالزموا أو فاختاروا واحدة والأول أولى والمعنى : فإن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجات في القسم ونحوه فانكحوا واحدة وفيه المنع من الزيادة على الواحدة لمن خاف ذلك وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف قال الكسائي : أي فواحدة تقنع وقيل التقدير : فواحدة فيها كفاية ويجوز أن تكون واحدة على قراءة الرفع خبر مبتدأ محذوف : أي فالمقنع واحدة قوله { أو ما ملكت أيمانكم } معطوف على واحدة : أي فانكحوا واحدة أو انكحوا ما ملكت أيمانكم من السراري وإن كثر عددهن كما يفيده الموصول والمراد نكاحهن بطريق الملك لا بطريق النكاح وفيه دليل على أنه لا حق للمملوكات في القسم كما يدل على ذلك جعله قسيما للواحدة في الأمن من عدم العدل وإسناد الملك إلى اليمين لكونها المباشرة لقبض الأموال وإقباضها ولسائر الأمور التي تنسب إلى الشخص في الغالب ومنه :
( إذا ما راية نصبت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين )
قوله { ذلك أدنى أن لا تعولوا } أي : ذلك أقرب إلى ألا تعولوا : أي تجوروا من عال الرجل يعول : إذا مال وجار ومنه قولهم عال السهم عن الهدف : مال عنه وعال الميزان إذا مال ومنه :
( قالوا اتبعنا رسول الله واطرحوا ... قول الرسول وعالوا في الموازين )
ومنه قول أبي طالب :
( بميزان صدق لا يغل شعيرة ... له شاهد من نفسه غير عائل )
ومنه أيضا :
( فنحن ثلاثة وثلاث ذود ... لقد عال الزمان على عيال )
والمعنى : إن خفتم عدم العدل بين الزوجات فهذه التي أمرتم بها أقرب إلى عدم الجور ويقال : عال الرجل يعيل : إذا افتقر وصار عالة ومنه قوله تعالى { وإن خفتم عيلة } ومنه قول الشاعر :
( وما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل )
وقال الشافعي { أن لا تعولوا } ألا تكثر عيالكم قال الثعلبي : وما قال هذا غيره وإنما يقال أعال يعيل : إذا كثر عياله وذكر ابن العربي أن عال تأتي لسبعة معان : الأول عال مال الثاني زاد الثالث جار الرابع افتقر الخامس أثقل السادس قام بمؤونة العيال ومنه قوله صلى الله عليه و سلم : [ وابدأ بمن تعول ] السابع عال غلب ومنه عيل صبري قال ويقال أعال الرجل : كثر عياله وأما عال بمعنى كثر عياله فلا يصح ويجاب عن إنكار الثعلبي لما قاله الشافعي وكذلك إنكار ابن العربي لذلك بأنه قد سبق الشافعي إلى القول به زيد بن أسلم وجابر بن زيد وهما إمامان من أئمة المسلمين لا يفسران القرآن هما والإمام الشافعي بما لا وجه له في العربية وقد أخرج ذلك عنهما الدارقطني في سننه وقد حكاه القرطبي عن الكسائي وأبي عمر الدوري وابن الأعرابي وقال أبو حاتم : كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا ولعله لغة وقال الثعلبي : قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب : سألت أبا عمر الدوري عن هذا وكان إماما في اللغة غير مدافع فقال : هي لغة حمير وأنشد :
( وإن الموت يأخذ كل حي ... بلا شك وإن أمشى وعالا )
أي : وإن كثرت ماشيته وعياله وقرأ طلحة بن مصرف { أن لا تعبدوا } قال ابن عطية : وقدح الزجاج في تأويل عال من العيال بأن الله سبحانه قد أباح كثرة السراري وفي ذلك تكثير العيال فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا وهذا القدح غير صحيح لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع وإنما العيال الحرائر ذوات الحقوق الواجبة وقد حكى ابن الأعرابي أن العرب تقول : عال الرجل إذا كثر عياله وكفى بهذا
وقد ورد عال لمعان غير السبعة التي ذكرها ابن العربي منها عال : اشتد وتفاقم حكاه الجوهري وعال الرجل في الأرض : إذا ضرب فيها حكاه الهروي وعال : إذا أعجز حكاه الأحمر فهذه ثلاثة معان غير السبعة والرابع عال كثر عياله فجملة معاني عال أحد عشر معنى (1/631)
قوله 4 - { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } الخطاب للأزواج وقيل : للأولياء والصدقات بضم الدال جمع صدقة كثمرة قال الأخفش : وبنو تميم يقولون صدقة والجمع صدقات وإن شئت فتحت وإن شئت أسكنت والنحلة بكسر النون وضمها لغتان وأصلها العطاء نحلت فلانا : أعطيته وعلى هذا فهي منصوبة على المصدرية لأن الإيتاء بمعنى الإعطاء وقيل : النخلة التدين فمعنى نحلة تدينا قاله الزجاج وعلى هذا فهي منصوبة على المفعول له وقال قتادة : النحلة الفريضة وعلى هذا فهي منصوبة على الحال وقيل : النحلة طيبة النفس قال أبو عبيد : ولا تكون النحلة إلا عن طيبة نفس ومعنى الآية على كون الخطاب للأزواج : أعطوا النساء اللاتي نكحتموهن مهورهن التي لهن عليكم عطية أو ديانة منكم أو فريضة عليكم أو طيبة من أنفسكم ومعناها على كون الخطاب للأولياء : أعطوا النساء من قراباتكم التي قبضتم مهورهن من أزواجهن تلك المهور وقد كان الولي يأخذ مهر قريبته في الجاهلية ولا يعطيها شيئا حكي ذلك عن أبي صالح والكلبي والأول أولى لأن الضمائر من أول السياق للأزواج وفي الآية دليل على أن الصداق واجب على الأزواج للنساء وهو مجمع عليه كما قال القرطبي قال : وأجمع العلماء أنه لا حد لكثيره واختلفوا في قليله وقرأ قتادة صدقاتهن بضم الصاد وسكون الدال وقرأ النخعي وابن وثاب بضمهما وقرأ الجمهور بفتح الصاد وضم الدال قوله { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } الضمير في منه راجع إلى الصداق الذي هو واحد الصدقات أو إلى المذكور وهو الصدقات أو هو بمنزلة اسم الإشارة كأنه قال من ذلك ونفسا تمييز وقال أصحاب سيبويه : منصوب بإضمار فعل لا تمييز : أي أعني نفسا والأول أولى وبه قال الجمهور والمعنى : فإن طبن : أي النساء لكم أيها الأزواج أو الأولياء عن شيء من المهر { فكلوه هنيئا مريئا } وفي قوله { طبن } دليل على أن المعتبر في تحليل ذلك منهن لهم إنما هو طيبة النفس لا مجرد ما يصدر منها من الألفاظ التي لا يتحقق معها طيبة النفس فإذا ظهر منها ما يدل على عدم طيبة نفسها لم يحل للزوج ولا للولي وإن كانت قد تلفظت بالهبة أو النذر أو نحوهما وما أقوى دلالة هذه الآية على عدم اعتبار ما يصدر من النساء من الألفاظ المفيدة للتمليك بمجردها لنقصان عقولهن وضعف إدراكهن وسرعة انخداعهن وانجذابهن إلى ما يراد منهن بأيسر ترغيب أو ترهيب وقوله { هنيئا مريئا } منصوبان على أنهما صفتان لمصدر محذوف : أي أكلا هنيئا مريئا أو قائمان مقام المصدر أو على الحال يقال : هناه الطعام الشراب يهينه ومرأه وأمرأه من الهنيء والمريء والفعل هنأ ومرأ : أي أتى من غير مشقة ولا غيظ وقيل : هو الطيب الذي لا تنغيص فيه وقيل : المحمود العاقبة الطيب الهضم وقيل : ما لا إثم فيه والمقصود هنا أنه حلال لهم خالص عن الشوائب وخص الأكل لأنه معظم ما يراد بالمال وإن كان سائر الانتفاعات به جائزة كالأكل
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { خلقكم من نفس واحدة } قال : آدم { وخلق منها زوجها } قال : حواء من قصرى آدم : أي قصيرى أضلاعه وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس مثله وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر قال : خلقت حواء من خلف آدم الأيسر وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال : من ضلع الخلف وهو من أسفل الأضلاع وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { واتقوا الله الذي تساءلون به } قال : تعاطون به وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع قال : تعاقدون وتعاهدون وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : يقول أسألك بالله والرحم وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : اتقوا الله الذي تساءلون به واتقوا الأرحام وصلوها وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد { إن الله كان عليكم رقيبا } قال : حفيظا وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : إن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عمه فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت { وآتوا اليتامى أموالهم } يعني الأوصياء يقول : أعطوا اليتامى أموالهم { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } يقول : لا تستبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم يقول لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد قال : لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدر لك { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } قال : مع أموالكم تخلطونها فتأكلونها جميعا { إنه كان حوبا } إثما وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا يورثون الصغار يأخذه الأكبر فنصيبه من الميراث طيب وهذا الذي يأخذ خبيث وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال مع أموالكم وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وجعل ولي اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله { يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم } قال : فخالطوهم وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما أن عروة سأل عائشة عن قول الله عز و جل : { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } قالت : يابن أختي هذه اليتيمى تكون في حجر وليها تشركه في مالها ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سننهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن وأن الناس قد استفتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد هذه الآية فأنزل الله { ويستفتونك في النساء } قالت عائشة : وقول الله في الآية الأخرى { وترغبون أن تنكحوهن } رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من باقي النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال وأخرج البخاري عن عائشة : أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق فكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } أحسبه قال : كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله وقد روي هذا المعنى من طرق وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في الآية قال : كان الرجل يتزوج بمال اليتيم ما شاء الله تعالى فنهى الله عن ذلك وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : قصر الرجال على أربع نسوة من أجل أموال اليتامى وأخرج خأسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } قال : كان الرجل يتزوج ما شاء فقال : كما تخافون ألا تعدلوا في اليتامى فخافوا ألا تعدلوا فيهن فقصرهم على الأربع وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : كانوا في الجاهلية ينكحون عشرا من النساء الأيامى وكانوا يعظمون شأن اليتيم فتفقدوا من دينهم شأن اليتامى وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : كما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى فخافوا ألا تعدلوا في النساء إذا جمعتموهن عندكم وأخرج ابن أبي حاتم من طريق محمد بن أبي موسى الأشعري عنه قال : فإن خفتم الزنا فانكحوهن يقول : كما خفتم في أموال اليتامى ألا تقسطوا فيها فكذلك فخافوا على أنفسكم ما لم تنكحوا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مالك { ما طاب لكم } قال : ما أحل لكم وأخرج ابن جرير عن الحسن وسعيد بن جبير مثله وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عائشة نحوه وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وابن ماجه والنحاس في ناسخه والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر [ أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : اختر منهن ] وفي لفظ [ أمسك منهن أربعا وفارق سائرهن ] هذا الحديث أخرجه هؤلاء المذكورين من طرق عن إسماعيل بن علية وغندر وزيد بن زريع وسعيد بن أبي عروبة وسفيان الثوري وعيسى بن يونس وعبد الرحمن بن محمد المحاربي والفضل بن موسى وغيرهم من الحفاظ عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه فذكره وقد علل البخاري هذا الحديث فحكى عنه الترمذي أنه قال : هذا حديث غير محفوظ والصحيح ما روي عن شعيب وغيره عن الزهري حدثت عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة فذكره وأما حديث الزهري عن أبيه : أن رجلا من ثقيف طلق نساءه فقال له عمر : لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال وقد رواه معمر عن الزهري مرسلا وهكذا رواه مالك عن الزهري مرسلا قال أبو زرعة : وهو أصح ورواه عقيل عن الزهري بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبو سويد قال : أبو حاتم : وهذا وهم إنما هو الزهري بلغنا عن عثمان بن أبي سويد وقد سامه أحمد برجال الصحيح فقال : حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا : حدثنا معمر عن الزهري قال أبو جعفر في حديثه : أخبرنا ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن غيلان فذكره وقد روي من غير طريق معمر والزهري فأخرجه البيهقي عن أيوب عن نافع وسالم عن ابن عمر أن غيلان فذكره وأخرج أبو داود وابن ماجه في سننهما عن عمير الأسدي قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : اختر منهن أربعا قال ابن كثير : إن إسناده حسن وأخرج الشافعي في مسنده عن نوفل بن معاوية الديلي قال : أسلمت وعندي خمس نسوة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أمسك أربعا وفارق الأخرى ] وأخرج ابن ماجه والنحاس في ناسخه عن قيس بن الحارث الأسدي قال : [ أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته فقال : اختر منهن أربعا وخل سائرهن ففعلت ] وهذه شواهد للحديث الأول كما قال البيهقي وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في سننه عن الحكم قال : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن المملوك لا يجمع من النساء فوق اثنتين وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية يقول : إن خفت ألا تعدل في أربع فثلاث وإلا فثنتين وإلا فواحدة فإن خفت ألا تعدل في واحدة فما ملكت يمينك وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله وأخرج أيضا عن الضحاك { فإن خفتم أن لا تعدلوا } قال : في المجامعة والحب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي : { أو ما ملكت أيمانكم } قال : السراري وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم { ذلك أدنى أن لا تعولوا } قال : ألا تجوروا قال ابن أبي حاتم قال أبي : هذا حديث خطأ والصحيح عن عائشة موقوف وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله { أن لا تعولوا } قال : ألا تميلوا وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : ألا تميلوا ثم قال : أما سمعت قول أبي طالب :
( بميزان قسط لا يخيس شعيرة ... ووازن صدق وزنه غير عائل )
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد : قال : ألا تميلوا وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي رزين وأبي مالك والضحاك مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في الآية قال : ذلك أدنى ألا يكثر من تعولوا وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة : قال : ألا تفتقروا وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوج أيمة أخذ صداقها دونها فنهاهم الله عن ذلك ونزلت { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { نحلة } قال : يعني بالنحلة المهر وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة { نحلة } قالت : واجبة وأخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن جريج { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } قال : فريضة مسماة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير { فإن طبن لكم } قال : هي للأزواج وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة { فإن طبن لكم عن شيء منه } قال : من الصداق وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } يقول : إذا كان من غير ضرار ولا خديعة فهو هنيء مريء كما قال الله (1/634)
هذا رجوع إلى بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى وقد تقدم الأمر بدفع أموالهم إليهم في قوله تعالى { وآتوا اليتامى أموالهم } فبين سبحانه ها هنا أن السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه وقد تقدم في البقرة معنى السفيه لغة
واختلف أهل العلم في هؤلاء السفهاء من هم ؟ فقال سعيد بن جبير : هم اليتامى لا تؤنوهم أموالكم قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في الآية وقال مالك : هم الأولاد الصغار لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها وتبقوا بلا شيء وقال مجاهد : هم النساء قال النحاس وغيره : وهذا القول لا يصح إنما تقول العرب سفائه أو سفيهات واختلفوا في وجه إضافة الأموال إلى المخاطبين وهي للسفهاء فقيل : أضافها إليهم لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها كقوله { فسلموا على أنفسكم } وقوله { فاقتلوا أنفسكم } أي : ليسلم بعضكم على بعض وليقتل بعضكم بعضا وقيل : أضافها إليهم لأنها من جنس أموالهم فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق في الأصل وقيل : المراد أموال المخاطبين حقيقة وبه قال أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة والمراد النهي عن دفعها إلى من لا يحسن تدبيرها كالنساء والصبيان ومن هو ضعيف الإدراك لا يهتدي إلى وجوه النفع التي تصلح المال ولا يتحنب وجوه الضرر التي تهلكه وتذهب به قوله 5 - { التي جعل الله لكم قياما } المفعول الأول محذوف والتقدير التي جعلها الله لكم وقيما قراءة أهل المدينة وأبي عامر وقرأ غيرهم { قياما } وقرأ عبد الله بن عمر قواما والقيام والقوام : ما يقيمك يقال : فلان قيام أهله وقوام بيته وهو الذي يقيم شأنه : أي يصلحه ولما انكسرت القاف في قوام أبدلوا الواو ياء قال الكسائي والفراء : قيما وقواما بمعنى قياما وهو منصوب على المصدر : أي لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فتقومون بها قياما وقال الأخفش : المعنى قائمة بأموركم فذهب إلى أنها جمع وقال البصريون قيما جمع قيمة كديمة وديم : أي جعلها الله قيمة للأشياء وخطأ أبو علي الفارسي هذا القول وقال : هي مصدر كقيام وقوام والمعنى : أنها صلاح للحال وثبات له فأما على قول من قال إن المراد أموالهم على ما يقتضيه ظاهر الإضافة فالمعنى واضح وأما على قول من قال إنها أموال اليتامى فالمعنى أنها من جنس ما تقوم معايشكم ويصلح به حالكم من الأموال وقرأ الحسن والنخعي { التي جعل } قال الفراء : الأكثر في كلام العرب النساء اللواتي والأموال التي وكذلك غير الأموال ذكره النحاس قوله { وارزقوهم فيها واكسوهم } أي : اجعلوا لهم فيها رزقا أو افرضوا لهم وهذا فيمن تلزم نفقته وكسوته من الزوجات والأولاد ونحوهم وأما على قول من قال إن الأموال هي أموال اليتامى فالمعنى اتجروا فيها حتى تربحوا وتنفقوهم من الأرباح أو اجعلوا لهم من أموالهم رزقا ينفقونه على أنفسهم ويكتسون به وقد استدل بهذه الآية على جواز الحجر على السفهاء وبه قال الجمهور وقال أبو حنيفة لا يحجر على من بلغ عاقلا واستدل بها أيضا على وجوب نفقة القرابة والخلاف في ذلك معروف في مواطنه قوله { وقولوا لهم قولا معروفا } قيل ادعوا لهم : بارك الله فيكم وحاطكم وصنع لكم وقيل معناه : عدوهم وعدا حسنا قولوا لهم : إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم ويقول الأب لابنه : مالي سيصير إليك وأنت إن شاء الله صاحبه ونحو ذلك والظاهر من الآية ما يصدق عليه مسمى القول الجميل ففيه إرشاد إلى حسن الخلق مع الأهل والأولاد أو مع الأيتام المكفولين وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما صح عنه [ خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ] (1/640)
قوله : 6 - { وابتلوا اليتامى } الابتلاء : الاختبار وقد تقدم تحقيقه وقد اختلفوا في معنى الاختبار فقيل : هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه ليعلم بنجابته وحسن تصرفه فيدفع إليه ماله إذا بلغ النكاح وآنس منه الرشد وقيل معنى الاختبار : أن يدفع إليه شيئا من ماله ويأمره بالتصرف فيه حتى يعلم حقيقة حاله وقيل معنى الاختبار : أن يرد النظر إليه في نفقة الدار ليعرف كيف تدبيره وإن كانت جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والمراد ببلوغ النكاح بلوغ الحلم لقوله تعالى { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } ومن علامات البلوغ الإنبات وبلوغ خمس عشرة سنة وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما : لا يحكم لمن لم يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة وهذه العلامات تعم الذكر والأنثى وتختص الأنثى بالحبل والحيض قوله { فإن آنستم } أي : أبصرتم ورأيتم ومنه قوله { آنس من جانب الطور نارا } قال الأزهري : تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحدا معناه : تبصر وقيل : هو هنا بمعنى وجد وتعلم : أي فإن وجدتم وعلمتم منهم رشدا وقراءة الجمهور { رشدا } بضم الراء وسكون الشين وقرأ ابن مسعود والسلمي وعيسى الثقفي بفتح الراء والشين قيل هما لغتان وقيل : هو بالضم مصدر رشد وبالفتح مصدر رشد
واختلف أهل العلم في معنى الرشد ها هنا فقيل : الصلاح في العقل والدين وقيل : في العقل خاصة قال سعيد بن جبير والشعبي : إنه لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا لم يؤنس رشده وإن كان شيخا قال الضحاك : وإن بلغ مائة سنة وجمهور العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول عنه الحجر وقال أبو حنيفة لا يحجر على الحر البالغ وإن كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا وبه قال النخعي وزفر وظاهر النظم القرآني أنها لا تدفع إليهم أموالهم إلا بعد بلوغ غاية هي بلوغ النكاح مقيدة هذه الغاية بإيناس الرشد فلا بد من مجموع الأمرين فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ وإن كانوا معروفين بالرشد ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد منهم والمراد بالرشد نوعه وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله وعدم التبذير بها ووضعها في مواضعها قوله { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا } الإسراف في اللغة : الإفراط ومجاوزة الحد وقال النضر بن شميل : السرف والتبذير والبدار المبادرة { أن يكبروا } في موضع نصب بقوله { بدارا } أي لا تأكلوا أموال اليتامى أكل إسراف وأكل مبادرة لكبرهم أو لا تأكلوا لأجل السرف ولأجل المبادرة أو لا تأكلوها مسرفين ومبادرين لكبرهم وتقولوا ننفق أموال اليتامى فيما نشتهي قبل أن يبلغوا فينتزعوها من أيدينا قوله { ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } بين سبحانه ما يحل لهم من أموال اليتامى فأمر الغني بالاستعفاف وتوفير مال الصبي عليه وعدم تناوله منه وسوغ للفقير أن يأكل بالمعروف
واختلف أهل العلم في الأكل بالمعروف ما هو ؟ فقال قوم : هو القرض إذا احتاج إليه ويقضي متى أيسر الله عليه وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة السلماني وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية والأوزاعي قال النخعي وعطاء والحسن وقتادة : لا قضاء على الفقير فيما يأكل بالمعروف وبه قال جمهور العلماء وهذا بالنظم القرآني ألصق فإن إباحة الأكل للفقير مشعرة بجواز ذلك له من غير قرض والمراد بالمعروف المتعارف به بين الناس فلا يترفه بأموال اليتامى ويبالغ في التنعم بالمأكول والمشروب والملبوس ولا يدع نفسه عن سد الفاقة وستر العورة والخطاب في هذه الآية لأولياء الأيتام القائمين بما يصلحهم كالأب والحد ووصيهما وقال بعض أهل العلم : المراد بالآية اليتيم إن كان غنيا وسع عليه وعف من ماله وإن كان فقيرا كان الإنفاق عليه بقدر ما يحصل له وهذا القول في غاية السقوط قوله : { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } أي : إذا حصل مقتضى الدفع فدفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم أنهم قد قبضوها منكم لتندفع عنكم التهم وتأمنوا عاقبة الدعاوى الصادرة منهم وقيل : إن الإشهاد المشروع هو ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم وقيل هو على رد ما استقرضه إلى أموالهم وظاهر النظم القرآني مشروعية الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم وهو يعم الإنفاق قبل الرشد والدفع للجميع إليهم بعد الرشد { وكفى بالله حسيبا } أي : حاسبا لأعمالكم شاهدا عليكم في كل شيء تعملونه ومن جملة ذلك معاملتكم لليتامى في أموالهم وفيه وعيد عظيم والباء زائدة أي كفى الله
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } يقول : لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو ابنتك ثم تضطر إلى ما في أيديهم ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤونتهم قال : وقوله { قواما } يعني قوامكم من معايشكم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه من طريق العوفي في الآية يقول : لا تسلط السفيه من ولدك على مالك وأمره أن يرزقه منه ويكسوه وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : هم بنوك والنساء وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها ] وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : هم الخدم وهم شياطين الإنس وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود قال : النساء والصبيان وأخرج ابن جرير عن حضرمي : أن رجلا عمد فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحق فقال الله { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير قال : هم اليتامى والنساء وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال : هو مال اليتيم يكون عندك يقول : لا تؤته إياه وأنفق عليه حتى يبلغ وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { وارزقوهم } يقول : أنفقوا عليهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد { وقولوا لهم قولا معروفا } قال : أمروا أن يقولوا لهم قولا معروفا في البر والصلة وأخرج ابن جرير عن ابن جريج { وقولوا لهم قولا معروفا } قال : عدة تعدونهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله { وابتلوا اليتامى } يعني اختبروا اليتامى عند الحلم { فإن آنستم } عرفتم { منهم رشدا } في حالهم والإصلاح في أموالهم { فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا } يعني تأكل مال اليتيم ببادرة قبل أن يبلغ فتحول بينه وبين ماله وأخرج البخاري وغيره عن عائشة قالت : أنزلت هذه الآية في ولي اليتيم { ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } بقدر قيامه عليه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وصححه عن ابن عباس { ومن كان غنيا فليستعفف } قال بغناه : { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } قال : يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم وأخرج ابن جرير عنه قال : هو القرض وأخرج عبد بن حميد والبيهقي عن ابن عباس قال : إن كان فقيرا أخذ من فضل اللبن وأخذ من فضل القوت ولا يجاوزه وما يستر عورته من الثياب فإن أيسر قضاه وإن أعسر فهو في حل وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طرق عن عمر بن الخطاب قال : إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف فإذا أيسرت قضيت وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم عن ابن عمر [ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ليس لي مال ولي يتيم فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك بماله ] وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } قال : نسختها { إن الذين يأكلون أموال اليتامى } الآية (1/641)
لما ذكر سبحانه حكم أموال اليتامى وصله بأحكام المواريث وكيفية قسمتها بين الورثة وأفرد سبحانه ذكر النساء بعد ذكر الرجال ولم يقل للرجال والنساء نصيب للإيذان بأصالتهن في هذا الحكم ودفع ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء وفي ذكر القرابة بيان لعلة الميراث مع التعميم لما يصدق عليه مسمى القرابة من دون تخصيص وقوله 7 - { مما قل منه أو كثر } بدل من قوله { مما ترك } بإعادة الجر والضمير في قوله { منه } راجع إلى المبدل منه وقوله { نصيبا } منتصب على الحال أو على المصدرية أو على الاختصاص وسيأتي ذكر السبب في نزول هذه الآية إن شاء الله تعالى وقد أجمل الله سبحانه في هذه المواضع قدر النصيب المفروض ثم أنزل قوله { يوصيكم الله في أولادكم } فتبين ميراث كل فرد (1/644)
قوله : 8 - { وإذا حضر القسمة أولو القربى } المراد بالقرارة هنا غير الوارثين وكذا اليتامى والمساكين شرع الله سبحانه أنهم إذا حضروا قسمة التركة كان لهم منها رزق فيرضخ لهم المتقاسمون شيئا منها وقد ذهب قوم إلى أن الآية محكمة وأن الأمر للندب وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بقوله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم } والأول أرجح لأن المذكور في الآية للقرابة غير الوارثين ليس هو من جملة الميراث حتى يقال : إنها منسوخة بآية المواريث إلا أن تقولوا : إن أولي القربى المذكورين هنا هم الوارثون كان للنسخ وجه وقالت طائفة : إن هذا الرضخ لغير الوارث من القرابة واجب بمقدار ما تطيب به أنفس الورثة وهو معنى الأمر الحقيقي فلا يصار إلى الندب إلا لقرينه والضمير في قوله { منه } راجع إلى المقسوم المدلول عليه بالقسمة وقيل : راجع إلى ما ترك والقول المعروف : هو القول الجميل الذي ليس فيه من بما صار إليهم من الرضخ ولا أذى (1/645)
قوله 9 - { وليخش الذين لو تركوا } هم الأوصياء كما ذهب إليه طائفة من المفسرين وفيه وعظ لهم بأن يفعلوا باليتامى الذي في حجورهم ما يحبون أن يفعل بأولادهم من بعدهم وقالت طائفة : المراد جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس وإن لم يكونوا في حجورهم وقال آخرون : إن المراد بهم من يحضر الميت عند موته أمروا بتقوى الله وبأن يقولوا للمحتضر قولا سديدا من إرشادهم إلى التخلص عن حقوق الله وحقوق بني آدم وإلى الوصية بالقرب المقربة إلى الله سبحانه وإلى ترك التبذير بماله وإحرام ورثته كما يخشون على ورثتهم من بعدهم لو تركوهم فقراء عالة يتكففون الناس وقال ابن عطية : الناس صنفان يصلح لأحدهما أن يقال له عند موته ما لا يصلح للآخر وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية ويحمل على أن يقدم لنفسه وإذا ترك ورثة ضعفاء مفلسين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين قال القرطبي : وهذا التفصيل صحيح قوله { لو تركوا } صلة الموصول والفاء في قوله { فليتقوا } لترتيب ما بعدها على ما قبلها والمعنى : وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم ثم أمرهم بتقوى الله والقول السديد للمحتضرين أو لأولادهم من بعدهم على ما سبق (1/645)
قوله 10 - { إن الذين يأكلون أموال اليتامى } استئناف يتضمن النهي عن ظلم الأيتام من الأولياء والأوصياء وانتصاب قوله { ظلما } على المصدرية : أي أكل ظلم أو على الحالية : أي ظالمين لهم قوله { إنما يأكلون في بطونهم نارا } أي : ما يكون سببا للنار تعبيرا بالمسبب عن السبب وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية وقوله { وسيصلون } قراءة عاصم وابن عامر بضم الياء على ما لم يسم فاعله وقرأ أبو حيوة بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام من التصلية بكثرة الفعل مرة بعد أخرى وقرأ الباقون بفتح الياء من صلى النار يصلاها والصلى هو التسخن بقرب النار أو مباشرتها ومنه قول الحارث بن عباد :
( لم أكن من جناتها علم اللـ ... ه وإني لحرها اليوم صالي )
والسعير : الجمر المشتعل
وقد أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار حتى يدركوا فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت وترك ابنتين وابنا صغيرا فجاء ابنا عمه وهما عصبته إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذا ميراثه كله فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت الآية فأرسل إليهما رسول الله فقال : لا تحركا من الميراث شيئا فإنه قد أنزل علي شيء احترت فيه إن للذكر والأنثى نصيبا ثم نزل بعد ذلك { ويستفتونك في النساء } وثم نزل { يوصيكم الله في أولادكم } فدعا بالميراث فأعطى المرأة الثمن وقسم ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال : نزلت في أم كلثوم ابنة أم كحلة أو أم كحة وثعلبة بن أوس وسويد وهم من الأنصار كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها فقالت : يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث من ماله فقال عم ولدها : يا رسول الله لا يركب فرسا ولا ينكي عدوا ويكسب عليها ولا يكتسب فنزلت وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله تعالى { وإذا حضر القسمة } قال : هي محكمة وليست بمنسوخة وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن خطاب بن عبد الله في هذه الآية قال : قضى بها أبو موسى وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن الحسن والزهري قالا : هي محكمة ما طابت به أنفسهم وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : يرضخ لهم فإن كان في ماله تقصير اعتذر إليهم فهو قولا معروفا وأخرج ابن المنذر عن عائشة أنها لم تنسخ وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم أن هذه الآية منسوخة بآية الميراث وأخرج أبو داود في ناسخه وعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال : هي منسوخة وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : إن كانوا كبارا يرضخوا وإن كانوا صغارا اعتذروا إليهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه في قوله { وليخش الذين لو تركوا } قال : هذا في الرجل يحضر الرجل عند موته فيسمعه يوصي وصية تضر بورثته فأمر الله الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب ولينظر لورثته كما يحب أن يصنع لورثته إذا خشي عليهم الضيعة وقد روي نحو هذا من طرق وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم عن أبي برزة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا فقيل : يا رسول الله من هم ؟ قال : ألم تر أن الله يقول { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } ] ؟ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال : حدثنا النبي صلى الله عليه و سلم عن ليلة أسري به قال : [ نظرت فإذا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار فيقذف في في أحدهم حتى يخرج من أسافلهم ولهم جؤار وصراخ فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء { الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } ] وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال : هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم ويأكلون أموالهم (1/646)
هذا تفصيل لما أجمل في قوله تعالى { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } الآية وقد استدل بذلك على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة وهذه الآية ركن من أركان الدين وعمدة من عمد الأحكام وأم من أمهات الآيات لاشتمالها على ما يهم من علم الفرائض وقد كان هذا العلم من أجل علوم الصحابة وأكثر مناظراتهم فيه وسيأتي بعد كمال تفسير ما اشتمل عليه كلام الله من الفرائض ذكر بعض فضائل هذا العلم إن شاء الله قوله 11 - { يوصيكم الله في أولادكم } أي : في بيان ميراثهم وقد اختلفوا هل يدخل أولاد الأولاد أم لا فقالت الشافعية : إنهم يدخلون مجازا لا حقيقة وقالت الحنفية : إنه يتناولهم لفظ الأولاد حقيقة إذا لم يوجد أولاد الصلب ولا خلاف أن بني البنين كالبنين في الميراث مع عدمهم وإنما هذا الخلاف في دلالة لفظ الأولاد على أولادهم مع عدمهم ويدخل في لفظ الأولاد من كان منهم كافرا ويخرج بالسنة وكذلك يدخل القاتل عمدا ويخرج أيضا بالسنة والإجماع ويدخل فيه الخنثى قال القرطبي : وأجمع العلماء أنه يورث من حيث يبول فإن بال منهما فمن حيث سبق فإن خرج البول منهما من غير سبق أحدهما فله نصف الذكر ونصف نصيب الأنثى وقيل : يعطى أقل النصيبين وهو نصيب الأنثى قاله يحيى بن آدم وهو قول الشافعي وهذه الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من الموارثة بالحلف والهجرة والمعاقدة وقد أجمع العلماء على أنه إذا كان مع الأولاد من له فرض مسمى أعطيه وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين للحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ [ ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ] إلا إذا كان ساقطا معهم كالأخوة لأم وقوله { للذكر مثل حظ الأنثيين } جملة مستأنفة لبيان الوصية في الأولاد فلا بد من تقدير ضمير يرجع إليهم : ويوصيكم الله في أولادكم للذكر منهم مثل حظ الأنثيين والمراد حال اجتماع الذكور والإناث وأما حال الانفراد فللذكر جميع الميراث وللأنثى النصف وللاثنتين فصاعدا الثلثان قوله { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } أي : فإن كن الأولاد والتأنيث باعتبار الخبر أو البنات أو المولودات نساء ليس معهن ذكر فوق اثنتين : أي زائدات على اثنتين على أن فوق صفة لنساء أو يكون خبرا ثانيا لكان { فلهن ثلثا ما ترك } الميت المدلول عليه بقرينة المقام وظاهر النظم القرآني أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعدا ولم يسم للاثنتين فريضة ولهذا اختلف أهل العلم في فريضتهما فذهب الجمهور إلى أنة لهما إذا انفردتا عن البنين الثلثين وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف اجتج الجمهور بالقياس على الأختين فإن الله سبحانه قال في شأنهما { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان } فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين كما ألحقوا الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين وقيل : في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث كان للإبنتين إذا انفردتا الثلثان هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرد قال النحاس : وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين وأيضا للمخالف أن يقول إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف فهذا دليل على أن هذا فرضهما ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة إذا انفردت النصف بقوله تعالى { وإن كانت واحدة فلها النصف } كان فرض البنتين إذا انفردتا فوق فرض الواحدة وأوجب القياس على الأختين الاقتصار للبنتين على الثلثين وقيل : إن فوق زائدة والمعنى : وإن كن نساء اثنتين كقوله تعالى { فاضربوا فوق الأعناق } أي الأعناق ورد هذا النحاس وابن عطية فقالا : هو خطأ لأن الظروف وجميع الأسماء لا تجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى قال ابن عطية : ولأن قوله { فوق الأعناق } هو الفصيح وليست فوق زائدة بل هي محكمة المعنى لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ كما قال دريد بن الصمة : اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال انتهى وأيضا لو كان لفظ فوق زائدا كما قالوا لقال فلهما ثلثا ما ترك ولم يقل فلهن ثلثا ما ترك وأوضح ما يحتج به للجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقي في سننه عن جابر قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال فقال : يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميراث { يوصيكم الله في أولادكم } الآية فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عمهما فقال : أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك أخرجوه من طرق عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال الترمذي : ولا يعرف إلا من حديثه قوله { وإن كانت واحدة فلها النصف } قرأ نافع وأهل المدينة { واحدة } بالرفع على أن كان تامة بمعنى : فإن وجدت واحدة أو حدثت واحدة وقرأ الباقون بالنصب قال النحاس : وهذه قراءة حسنة : أي وإن كانت المتروكة أو المولودة واحدة قوله { ولأبويه لكل واحد منهما السدس } أي : لأبوي المي وهو كناية عن غير مذكور وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه و { لكل واحد منهما السدس } بدل من قوله { ولأبويه } بتكرير العامل للتأكيد والتفصيل وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة { السدس } بسكون الدال وكذلك قرأ الثلث والربع إلى العشر بالسكون وهي لغة بني تميم وربيعة وقرأ الجمهور بالتحريك ضما وهي لغة أهل الحجاز وبني أسد في جميعها والمراد بالأبوين الأب والأم والتثنية على لفظ الأب للتغليب
وقد اختلف العلماء في الجد هل هو بمنزلة الأب فتسقط به الأخوة أم لا ؟ فذهب أبو بكر الصديق إلى أنه بمنزلة الأب ولم يخالفه أحد من الصحابة أيام خلافته واختلفوا في ذلك بعد وفاته فقال بقول أبي بكر ابن عباس وعبد الله بن الزبير وعائشة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة وعطاء وطاوس والحسن وقتادة وأبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق واحتجوا بمثل قوله تعالى { ملة أبيكم إبراهيم } وقوله : { يا بني آدم } وقوله صلى الله عليه و سلم : [ ارموا يا بني إسماعيل ] وذهب علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريث الجد مع الإخوة لأبوين أو لأب ولا ينقص معهم من الثلث ولا ينقص مع ذوي الفروض من السدس في قول زيد ومالك والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي وقيل : يشرك بين الجد والإخوة إلى السدس ولا ينقصه من السدس شيئا مع ذوي الفروض وغيرهم وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة وذهب الجمهور إلى أن الجد يسقط بني الإخوة وروى الشعبي عن علي أنه أجرى بني الإخوة في القاسمة مجرى الإخوة وأجمع العلماء على أن الجد لا يرث مع الأب شيئا وأجمع العلماء على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم وأجمعوا على أن الأب لا يسقط الجدة أم الأم
واختلفوا في توريث الجدة وابنها حي فروي عن زيد بن ثابت وعثمان وعلي أنها لا ترث وابنها حي وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وروي عن عمر وابن مسعود وأبي موسى أنها ترث معه وروي أيضا عن علي وعثمان وبه قال شريح وجابر بن زيد وعبيد الله بن الحسن وشريك وأحمد وإسحاق وابن المنذر قوله { إن كان له ولد } الولد يقع على الذكر والأنثى لكنه إذا كان الموجود الذكر من الأولاد وحده أو مع الأنثى منهم فليس للجد إلا السدس وإن كان الموجود أنثى كان للجد السدس بالفرض وهو عصبة فيما عدا السدس وأولاد ابن الميت كأولاد الميت قوله { فإن لم يكن له ولد } أي : ولا ولد ابن لما تقدم من الإجماع { وورثه أبواه } منفردين عن سائر الورثة كما ذهب إليه الجمهور من أن الأم لا تأخذ ثلث التركة إلا إذا لم يكن للميت وارث غير الأبوين أما لو كان معهما أحد الزوجين فليس للأم إلا ثلث الباقي بعد الموجود من الزوجين وروي عن ابن عباس أن للأم ثلث الأصل مع أحد الزوجين وهو يستلزم تفضيل الأم على الأب في مسألة زوج وأبوين مع الاتفاق على أنه أفضل منهما عند انفرادهما عن أحد الزوجين قوله { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } إطلاق الإخوة يدل على أنه لا فرق بين الإخوة لأبوين أو لأحدهما
وقد أجمع أهل العلم على أن الإثنين من الإخوة يقومون مقام الثلاثة فصاعدا في حجب الأم إلى السدس إلا ما يروى عن ابن عباس أنه جعل الاثنين كالواحد في عدم الحجب وأجمعوا أيضا على أن الأختين فصاعدا كالأخوين في حجب الأم قوله { من بعد وصية يوصي بها أو دين } قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم يوصى بفتح الصاد وقرأ الباقون بكسرها واختار الكسر أبو عبيد وأبو حاتم لأنه جرى ذكر الميت قبل هذا قال الأخفش : وتصديق ذلك قوله : { يوصين } و { توصون }
واختلف في وجه تقديم الوصية على الدين مع كونه مقدما عليها بالإجماع فقيل : المقصود تقديم الأمرين على الميراث من غير قصد إلى الترتيب بينهما - وقيل : لما كانت الوصية أقل لزوما من الدين قدمت اهتماما بها وقيل : قدمت لكثرة وقوعها فصارت كالأمر اللازم لكل ميت وقيل : قدمت لكونها حظ المساكين والفقراء وأخر الدين لكونه حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان وقيل : لما كانت الوصية ناشئة من جهة الميت قدمت بخلاف الدين فإنه ثابت مؤدى ذكر أو لم يذكر وقيل : قدمت لكونها تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض فربما يشق على الورثة إخراجها بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة بأدائه وهذه الوصية مقيدة بقوله تعالى { غير مضار } كما سيأتي إن شاء الله قوله { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } قيل خبر قوله { آباؤكم وأبناؤكم } مقدر أي هم المقسوم عليهم وقيل : إن الخبر قوله { لا تدرون } وما بعده { وأقرب } خبر قوله { أيهم } و { نفعا } تمييز : أي لا تدرون أيهم قريب لكم نفعه في الدعاء لكم والصدقة عنكم كما في الحديث الصحيح [ أو ولد صالح يدعو له ] وقال ابن عباس والحسن : قد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه وقال بعض المفسرين : إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الآخرة سأل الله أن يرفع إليه أباه وإذا كان الأب أرفع درجة من ابنه سأل الله أن يرفع ابنه إليه وقيل : المراد النفع في الدنيا والآخرة قاله ابن زيد وقيل المعنى : إنكم لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم أمن أوصى منهم فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا أو من ترك الوصية ووفر عليكم عرض الدنيا ؟ وقوى هذا صاحب الكشاف قال : لأن الجملة اعتراضية ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه ويناسبه قوله { فريضة من الله } نصب على المصدر المؤكد إذ معنى { يوصيكم } يفرض عليكم وقال مكي وغيره : هي حال مؤكدة والعامل يوصيكم والأول أولى { إن الله كان عليما } بقسمة المواريث { حكيما } حكم بقسمتها وبينها لأهلها وقال الزجاج : { عليما } بالأشياء قبل خلقها { حكيما } فيما يقدره ويمضيه منها (1/626)
قوله 12 - { ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد } الخطاب هنا للرجال والمراد بالولد ولد الصلب أو ولد الولد لما قدمنا من الإجماع { فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن } وهذا مجمع عليه لم يختلف أهل العلم في أن للزوج مع عدم الولد النصف ومع وجوده وإن سفل الربع وقوله { من بعد وصية } إلخ الكلام فيه كما تقدم قوله { ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم } هذا النصيب مع الولد والنصيب مع عدمه تنفرد به الواحدة من الزوجات ويشترك فيه الأكثر من واحدة لا خلاف في ذلك والكلام في الوصية والدين كما تقدم قوله { وإن كان رجل يورث كلالة } المراد بالرجل الميت و { يورث } على البناء للمفعول من ورث لا من أورث وهو خبر كان و { كلالة } حال من ضمير { يورث } أي : يورث حال كونه ذا كلالة أو على أن الخبر كلالة ويورث صفة لرجل : أي إن كان رجل يورث ذا كلالة ليس له ولد ولا والد وقرئ { يورث } مخففا ومشددا فيكون كلالة مفعولا أو حالا والمفعول محذوف : أي يورث وأريد حال كونه ذا كلالة أو يكون مفعولا له : أي لأجل الكلالة والكلالة مصدر من تكلله النسب : أي أحاط به وبه سمي الإكليل لإحاطته بالرأس وهو الميت الذي لا ولد له ولا والد هذا قول أبي بكر الصديق وعمر وعلي وجمهور أهل العلم وبه قال صاحب كتاب العين وأبي منصور اللغوي وابن عرفة والقتيبي وأبو عبيد وابن الأنباري وقد قيل إنه إجماع قال ابن كثير : وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور الخلف والسلف بل جميعهم وقد حكى الإجماع غير واحد وورد فيه حديث مرفوع انتهى وروى أبو حاتم والأثرم عن أبي عبيدة أنه قال : الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة قال أبو عمر بن عبد البر : ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له ولم يذكره في شرط الكلالة غيره وما يروى عن أبي بكر وعمر من أن الكلالة من لا ولد له خاصة فقد رجعا عنه وقال ابن زيد : الكلالة : الحي والميت جميعا وإنما سموا القرابة كلالة لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم بخلاف الابن والأب فإنهما طرفان له فإذا ذهبا تكلله النسب وقيل : إن الكلالة مأخوذة من الكلال وهو الإعياء فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد وإعياء وقال ابن الأعرابي : إن الكلالة بنو العم الأباعد وبالجملة فمن قرأ { يورث كلالة } بكسر الراء مشددة وهو بعض الكوفيين أو مخففة وهو الحسن وأيوب جعل الكلالة القرابة ومن قرأ { يورث } بفتح الراء وهم الجمهور احتمل أن يكون الكلالة الميت واحتمل أن يكون القرابة وقد روي عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس والشعبي أن الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة قال الطبري : الصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده لصحة خبر جابر [ فقلت : يا رسول الله إنما يرثني كلالة أفأوصي بمالي كله ؟ قال : لا ] انتهى وروي عن عطاء أنه قال : الكلالة المال قال ابن العربي : وهذا قول ضعيف لا وجه له وقال صاحب الكشاف : إن الكلالة تنطلق على ثلاثة : على من لم يخلف ولدا ولا والدا وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد انتهى قوله { أو امرأة } معطوف على رجل مقيد بما قيد به : أي أو امرأة تورث كلالة قوله { وله أخ أو أخت } قرأ سعد بن أبي وقاص من أم وسيأتي ذكر من أخرج ذلك عنه قال القرطبي : أجمع العلماء أن الإخوة ها هنا هم الإخوة لأم قال : ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم أو للأب ليس ميراثهم هكذا فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى { وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } هم الإخوة لأبوين أو لأب وأفرد الضمير في قوله { وله أخ أو أخت } لأن المراد كل واحد منهما كما جرت بذلك عادة العرب إذا ذكروا اسمين مستويين في الحكم فإنهم قد يذكرون الضمير الراجع إليهما مفردا كما في قوله تعالى { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة } وقوله { يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } وقد يذكرونه مثنى كما في قوله { إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما } وقد قدمنا في هذا كلاما أطول من المذكور هنا قوله { فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } الإشارة بقوله : من ذلك إلى قوله { وله أخ أو أخت } أي : أكثر من الأخ المنفرد أو الأخت المنفردة بواحد وذلك بأن يكون الموجود اثنين فصاعدا ذكرين أو أنثيين أو ذكرا وأنثى وقد استدل بذلك على أن الذكر كالأنثى من الإخوة لأم لأن الله شرك بينهم في الثلث ولم يذكر فضل الذكر على الأنثى كما ذكره في البنين والإخوة لأبوين أو لأب قال القرطبي : وهذا إجماع ودلت الآية على أن الإخوة لأم إذا استكملت بهم المسألة كانوا أقدم من الإخوة لأبوين أو لأب وذلك في المسألة المسماة بالحمارية وهي إذا تركت الميتة زوجا وأما وأخوين لأم وإخوة لأبوين فإن للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين لأم الثلث ولا شيء للإخوة لأبوين ووجه ذلك أنه قد وجد الشرط الذي يرث عنده الإخوة من الأم وهو كون الميت كلالة ويؤيد هذا حديث : [ ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر ] وهو في الصحيحين وغيرهما وقد قررنا دلالة الآية والحديث على ذلك في الرسالة التي سميناها المباحث الدرية في المسألة الحمارية وفي هذه المسألة خلاف بين الصحابة فمن بعدهم معروف قوله { من بعد وصية يوصي بها أو دين } الكلام فيه كما تقدم قوله { غير مضار } أي : يوصي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه الضرار كأن يقر بشيء ليس عليه أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الإضرار بالورثة أو يوصي لوارث مطلقا أو لغيره بزيادة على الثلث ولم تجزه الورثة وهذا القيد أعني قوله : { غير مضار } راجع إلى الوصية والدين المذكورين فهو قيد لهما فما صدر من الإقرارات بالديون أو الوصايا المنهي عنها له أو التي لا مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته فهو باطل مردود لا ينفد منه شيء لا الثلث ولا دونه قال القرطبي : وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز انتهى وهذا القيد أعني عدم الضرار هو قيد لجميع ما تقدم من الوصية والدين قال أبو السعود في تفسيره : وتخصيص القيد بهذا المقام لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم قوله { وصية من الله } نصب على المصدر : أي يوصيكم بذلك وصية من الله كقوله { فريضة من الله } قال ابن عطية : ويصح أن يعمل فيها مضار والمعنى : أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزا فتكون وصية على هذا مفعولا بها لأن الاسم الفاعل قد اعتمد على ذي الحال أو لكونه منفيا معنى وقرأ الحسن { وصية من الله } بالجر على إضافة اسم الفاعل إليها كقوله : يا سارق الليلة أهل الدار وفي كون هذه الوصية من الله سبحانه دليل على أنه قد وصى عباده بهذه التفاصيل المذكورة في الفرائض وأن كل وصية من عباده تخالفها فهي مسبوقة بوصية الله وذلك كالوصايا المتضمنة لتفضيل بعض الورثة على بعض أو المشتملة على الضرار بوجه من الوجوه (1/653)
والإشارة بقوله 13 - { تلك } إلى الأحكام المتقدمة وسماها حدودا لكونها لا تجوز مجاوزتها ولا يحل تعديها { ومن يطع الله ورسوله } في قسمة المواريث وغيرها من الأحكام الشرعية كما يفيده عموم اللفظ { يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } (1/656)
وهكذا قوله 14 - { ومن يعص الله ورسوله } قرأ نافع وابن عامر { ندخله } بالنون وقرأ الباقون بالياء التحتية قوله { وله عذاب مهين } أي : وله بعد إدخاله النار عذاب لا يعرف كنهه
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر قال : دعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله ؟ فنزلت وقد قدمنا أن سبب النزول سؤال امرأة سعد بن الربيع وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة يقال لها أم كحة وترك خمس جوار فأخذ الورثة ماله فشكت ذلك أم كحة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله هذه الآية { فإن كن نساء فوق اثنتين } ثم قال في أم كحة : { ولهن الربع مما تركتم } وأخرج سعيد بن منصور والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود قال : كان عمر بن الخطاب إذا سلك بنا طريقا فاتبعناه وجدناه سهلا وأنه سئل عن امرأة وأبوين فقال للمرأة الربع وللأم ثلث ما بقي وما بقي فللأب وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن زيد بن ثابت نحوه وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال : إن الأخوين لا يردان الأم عن الثلث قال الله { فإن كان له إخوة } والأخوان ليسا بلسان قومك إخوة فقال عثمان : لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتواريث به الناس وأخرج الحاكم والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت أنه قال : إن العرب تسمي الأخوين إخوة وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الجارود والدارقطني والبيهقي في سننه عن علي قال : إنكم تقرأون هذه الآية { من بعد وصية يوصي بها أو دين } وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى بالدين قبل الوصية وأن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } يقول : أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة عند الله يوم القيامة لأن الله سبحانه شفع للمؤمنين بعضهم في بعض وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله { أقرب لكم نفعا } قال : في الدنيا وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والدارمي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يقرأ { وله أخ أو أخت } وأخرج البيهقي عن الشعبي قال : ما ورث أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الإخوة من الأم مع الجد شيئا قط وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال : قضى عمر أن ميراث الأخوة لأم بينهم للذكر مثل الأنثى قال : ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علمه من رسول الله ولهذه الآية التي قال الله { فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال : الإضرار في الوصية من الكبائر ثم قرأ { غير مضار } وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عنه مرفوعا وفي إسناده عمر بن المغيرة أبو حفص المصيصي قال أبو القاسم بن عساكر : ويعرف بمفتي المساكين وروى عنه غير واحد من الأئمة قال فيه أبو حاتم الرازي : هو شيخ قال : وعلي بن المديني : هو مجهول لا أعرفه قال ابن جرير : والصحيح الموقوف انتهى ورجال إسناد هذا الموقوف رجال الصحيح فإن النسائي رواه في سننه عن علي بن حجر عن علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن عكرمة عنه وأخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه واللفظ له والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعون سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ] ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم { تلك حدود الله } إلى قوله { عذاب مهين } وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه مقال معروف وأخرج ابن ماجه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قطع ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة ] وأخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة مرفوعا وأخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور عن سليمان بن موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر نحوه وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتاه يعوده في مرضه فقال : إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بالثلثين ؟ فقال : لا قال : فالشطر ؟ قال : لا قال : فالثلث ؟ قال : الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ] وأخرج ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل قال : إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم : يعني الوصية وفي الصحيحين عن ابن عباس قال : وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ الثلث كثير ] وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال : ذكر عند عمر الثلث في الوصية فقال : الثلث وسط لا بخس ولا شطط وأخرج ابن أبي شيبة عن علي قال : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث ومن أوصى بالثلث لم يترك
فائدة ورد في الترغيب في تعلم الفرائض وتعليمها ما أخرجه الحاكم والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها ] وأخرجاه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تعلموا الفرائض وعلموه فإنه نصف العلم وإنه ينسى وهو أول ما ينزع من أمتي ] وقد روي عن عمر وابن مسعود وأنس آثار في الترغيب في الفرائض وكذلك روي عن جماعة من التابعين ومن بعدهم (1/656)
لما ذكر سبحانه في هذه السورة الإحسان إلى النساء وإيصال صدقاتهن إليهن وميراثهن مع الرجال ذكر التغليظ عليهن فيما يأتين به من الفاحشة لئلا يتوهمن أنه يسوغ لهن ترك التعفف 15 - { واللاتي } جمع التي بحسب المعنى دون اللفظ وفيه لغات : اللاتي بإثبات التاء والياء واللات بحذف الياء وإبقاء الكسرة لتدل عليها واللائي بالهمزة والياء واللاء بكسر الهمزة وحذف الياء ويقال في جمع الجمع اللواتي واللوائي واللوات واللواء والفاحشة : الفعلة القبيحة وهي مصدر كالعافية والعاقبة وقرأ ابن مسعود { الفاحشة } والمراد بها هنا الزنا خاصة وإتيانها فعلها ومباشرتها والمراد بقوله { من نسائكم } المسلمات وكذا { منكم } المراد به المسلمون قوله { فأمسكوهن في البيوت } كان هذا في أول الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى { الزانية والزاني فاجلدوا } وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحبس المذكور وكذلك الأذى باقيان مع الجلد لأنه لا تعارض بينها بل الجمع ممكن قوله { أو يجعل الله لهن سبيلا } هو ما في حديث عبادة الصحيح من قوله صلى الله عليه و سلم : [ خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ] الحديث (1/659)
قوله 16 - { واللذان يأتيانها منكم } اللذان تثنية الذي وكان القياس أن يقال اللذيان كرحيان قال سيبويه : حذفت الياء ليفرق بين الأسماء الممكنة وبين الأسماء المبهمة وقال أبو علي : حذفت الياء تخفيفا وقرأ ابن كثير { اللذان } بتشديد النون وهي لغة قريش وفيه لغة أخرى وهي { اللذا } بحذف النون وقرأ الباقون بتخفيف النون قال سيبويه : المعنى وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها : أي الفاحشة منكم ودخلت الفاء في الجواب لأن في الكلام معنى الشرط والمراد باللذان هنا الزاني والزانية تغليبا وقيل : الآية الأولى في النساء خاصة محصنات وغير محصنات والثانية في الرجال خاصة وجاء بلفظ التثنية لبيان صنفي الرجال من أحصن ومن لم يحصن فعقوبة النساء الحبس وعقوبة الرجال الأذى واختار هذا النحاس ورواه عن ابن عباس ورواه القرطبي عن مجاهد وغيره واستحسنه وقال السدي وقتادة وغيرهما الآية الأولى في النساء المحصنات ويدخل معهن الرجال المحصنون والآية الثانية في الرجل والمرأة البكرين ورجحه الطبري وضعفه النحاس وقال : تغليب المؤنث على المذكر بعيد وقال ابن عطية : إن معنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه وقيل : كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل فخصت المرأة بالذكر في الإمساك ثم جمعا في الإيذاء قال قتادة : كانت المراة تحبس ويؤذيان جميعا واختلف المفسرون في تفسير الأذى فقيل : التوبيخ والتعيير وقيل : السب والجفاء من دون تعيير وقيل : النيل باللسان والضرب بالنعال وقد ذهب قوم إلى أن الأذى منسوخ كالحبس وقيل : ليس بمنسوخ كما تقدم في الحبس قوله { فإن تابا } أي : من الفاحشة { وأصلحا } العمل فيما بعد { فأعرضوا عنهما } أي : اتركوهما وكفوا عنهما الأذى وهذا كان قبل نزول الحدود على ما تقدم من الخلاف (1/659)
قوله 17 - { إنما التوبة على الله } استئناف لبيان أن التوبة ليست بمقبولة على الإطلاق كما ينبئ عنه قوله { توابا رحيما } بل إنما تقبل من البعض دون البعض كما بينه النظم القرآني ها هنا فقوله { إنما التوبة } مبتدأ خبره قوله { للذين يعملون السوء بجهالة } وقوله { على الله } متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار أو متعلق بمحذوف وقع حالا عند من يجوز تقديم الحال التي هي ظرف على عاملها المعنوي وقيل المعنى : إنما التوبة على فضل الله ورحمته بعباده وقيل المعنى : إنما التوبة واجبة على الله وهذا على مذهب المعتزلة لأنهم يوجبون على الله عز و جل واجبات من جملتها قبول توبة التائبين وقيل : على هنا بمعنى عند وقيل : بمعنى من
وقد اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون } وذهب الجمهور إلى أنها تصح من ذنب دون ذنب خلافا للمعتزلة وقيل إن قوله { على الله } هو الخبر وقوله { للذين يعملون } متعلق بما تعلق به الخبر أو بمحذوف وقع حالا والسوء هنا : العمل السيء وقوله { بجهالة } متعلق بمحذوف وقع صفة أو حالا : أي يعملونها متصفين بالجهالة أو جاهلين وقد حكى القرطبي عن قتادة أنه قال : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن كل معصية فهي بجهالة عمدا كانت أو جهلا وحكي عن الضحاك ومجاهد أن الجهالة هنا العمد وقال عكرمة : أمور الدنيا كلها جهالة ومنه قوله تعالى { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } وقال الزجاج : معناه بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية وقيل معناه : أنهم لا يعلمون كنه العقوبة ذكره ابن فورك وضعفه ابن عطية قوله { ثم يتوبون من قريب } معناه : قبل أن يحضرهم الموت كما يدل عليه قوله { حتى إذا حضر أحدهم الموت } وبه قال أبو مجلز والضحاك وعكرمة وغيرهم والمراد قبل المعاينة للملائكة وغلبة المرء على نفسه ومن في قوله : { من قريب } للتبعيض : أي يتوبون بعض زمان قريب وهو ما عدا وقت حضور الموت وقيل معناه قبل المرض وهو ضعيف بل باطل لما قدمنا ولما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ] وقيل معناه : يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار قوله : { فأولئك يتوب الله عليهم } هو وعد منه سبحانه بأنه يتوب عليهم بعد بيانه أن التوبة لهم مقصورة عليهم (1/660)
وقوله 18 - { وليست التوبة للذين يعملون السيئات } تصريح بما فهم من حصر التوبة فيما سبق على من عمل السوء بجهالة ثم تاب من قريب قوله { حتى إذا حضر أحدهم الموت } حتى حرف ابتداء والجملة المذكورة بعدها غاية لما قبلها وحضور الموت حضور علاماته وبلوغ المريض إلى حالة السياق ومصيره مغلوبا على نفسه مشغولا بخروجها من بدنه وهو وقت الغرغرة المذكورة في الحديث السابق وهي بلوغ روحه حلقومه قاله الهروي وقوله { قال إني تبت الآن } أي : وقت حضور الموت قوله { ولا الذين يموتون وهم كفار } معطوف على الموصول في قوله { للذين يعملون السيئات } أي : ليست التوبة لأولئك ولا للذين يموتون وهم كفار مع أنه لا توبة لهم رأسا وإنما ذكروا مبالغة في بيان عدم قبول توبة من حضرهم الموت وأن وجودها كعدمها
وقد أخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس في قوله { واللاتي يأتين الفاحشة } قال : كانت المرأة إذا فجرت حبست في البيوت فإن ماتت ماتت وإن عاشت عاشت حتى نزلت الآية في سورة النور { الزانية والزاني فاجلدوا } فجعل الله لهن سبيلا فمن عمل شيئا جلد وأرسل وقد روي هذا عنه من وجوه وأخرج أبو داود في سننه عنه والبيهقي في قوله { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } إلى قوله { سبيلا } ثم جمعهما جميعا فقال { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } ثم نسخ ذلك بآية الجلد وقد قال بالنسخ جماعة من التابعين أخرجه أبو داود والبيهقي عن مجاهد وأخرجه عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن قتادة وأخرجه البيهقي في سننه عن الحسن وأخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وأخرجه ابن جرير عن السدي وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله { واللذان يأتيانها منكم } قال : كان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير وضرب بالنعال فأنزل الله بعد هذه الآية { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { واللذان يأتيانها منكم } قال : الرجلان الفاعلان وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير { واللذان يأتيانها منكم } يعني البكرين وأخرج ابن جرير عن عطاء قال : الرجل والمرأة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله { إنما التوبة على الله } الآية قال : هذه للمؤمنين وفي قوله { وليست التوبة للذين يعملون السيئات } قال : هذه لأهل النفاق { ولا الذين يموتون وهم كفار } قال : هذه لأهل الشرك وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة قال : اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة عمدا كان أو غيره وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي العالية أن أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة وأخرج ابن جرير من طريق الكلبي عن أبي عن صالح عن ابن عباس في قوله { إنما التوبة على الله } الآية قال : من عمل السوء فهو جاهل من جهالته عمل السوء { ثم يتوبون من قريب } قال : في الحياة والصحة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في الشعب عن الضحاك قال : كل شيء قبل الموت فهو قريب له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت فليس له ذلك وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : القريب : ما لم يغرغر وقد وردت أحاديث كثيرة في قبول توبة العبد ما لم يغرغر ذكرها ابن كثير في تفسيره ومنها الحديث الذي قدمنا ذكره (1/661)
هذا متصل بما تقدم من ذكر الزوجات والمقصود نفي الظلم عنهن والخطاب للأولياء ومعنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها وهو ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله 19 - { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية : كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى يموت أو ترد إليه صداقها وفي لفظ لابن جرير وابن أبي حاتم عنه : فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها وقد روي هذا السبب بألفاظ فمعنى { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } أي : لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث فتزعمون أنكم أحق بهن من غيركم وتحبسونهن لأنفسكم ولا يحل لكم أن { تعضلوهن } عن أن يتزوجن غيركم لتأخذوا ميراثهن إذا متن أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح قال الزهري وأبو مجلز : كان من عاداتهم إذا مات الرجل وله زوجة ألقى ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثت من الميت أو تموت فيرثها فنزلت الآية وقيل : الخطاب لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طمعا في إرثهن أو يفتدين ببعض مهورهن واختاره ابن عطية قال : ودليل ذلك قوله { إلا أن يأتين بفاحشة } إذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى تذهب بمالها إجماعا من الأمة وإنما ذلك للزوج قال الحسن : إذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى وترد إلى زوجها ما أخذت منه وقال أبو قلابة : إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه وقال السدي : إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن وقال قوم : الفاحشة البذاءة باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا وقال مالك وجماعة من أهل العلم : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك هذا كله على أن الخطاب في قوله { ولا تعضلوهن } للأزواج وقد عرفت مما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب في قوله { ولا تعضلوهن } لمن خوطب بقوله { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } فيكون المعنى : ولا يحل لكم أن تمنعوهن من الزواج { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } أي : ما آتاهن من ترثونه { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } جاز لكم حبسهن عن الأزواج ولا يخفى ما في هذا من التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج وتستعف من الزنا وكما أن جعل قوله { ولا تعضلوهن } خطابا للأولياء فيه هذا التعسف كذلك جعل قوله { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } خطابا للأزواج فيه تعسف ظاهر مع مخالفته لسبب نزول الآية الذي ذكرناه والأولى أن يقال : إن الخطاب في قوله { لا يحل لكم } للمسلمين : أي لا يحل لكم معاشر المسلمين أن ترثوا النساء كرها كما تفعله الجاهلية ولا يحل لكم معاشر المسلمين أن تعضلوا أزواجكم : أي تحسبوهن عندكم مع عدم رغوبكم فيهن بل لقصد أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهن من المهر يفتدين به من الحبس والبقاء تحتكم وفي عقدتكم مع كراهتكم لهن { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } جاز لكم مخالعتهن ببعض ما آتيتموهن قوله { مبينة } قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء وقرأ الباقون بفتحها وقرأ ابن عباس { مبينة } بكسر الباء وسكون الياء من أبان الشيء فهو مبين قوله { وعاشروهن بالمعروف } أي : يما هو معروف في هذه الشريعة وبين أهلها من حسن المعاشرة وهو خطاب للأزواج أو لما هو أعم وذلك يختلف باختلاف الأزواج في الغنى والفقر والرفاعة والوضاعة { فإن كرهتموهن } لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة ولا نشوز { فعسى } أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة وتبدلها بالمحبة فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة وحصول الأولاد فيكون الجزاء على هذا محذوفا مدلولا عليه بعلته : أي فإن كرهتموهن فاصبروا { فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا } أوK (1/663)
قوله 20 - { وآتيتم إحداهن قنطارا } قد تقدم بيانه في آل عمران والمراد به هنا المال الكثير فلا تأخذوا منه شيئا قيل : هي محكمة وقيل : هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله } والأولى أن الكل محكم والمراد هنا غير المختلعة لا يحل لزوجها أن يأخذ مما آتاها شيئا قوله { أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا } الاستفهام للإنكار والتقريع والجملة مقررة للجملة الأولى المشتملة على النهي (1/664)
وقوله 21 - { وكيف تأخذونه } إنكار بعد إنكار مشتمل على العلة التي تقتضي منع الأخذ : وهي الإفضاء قال الهروي : وهو إذا كانا في لحاف واحد جامع أو لم يجامع وقال الفراء : الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وإن لم يجامعها وقال ابن عباس ومجاهد والسدي : الإفضاء في هذه الآية : الجماع وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة يقال للشيء المختلط فضاء ويقال القوم فوضى وفضاء : أي مختلطون لا أمير عليهم قوله { وأخذن منكم ميثاقا غليظا } معطوف على الجملة التي قبله : أي والحال أن قد أفضى بعضكم إلى بعض وقد أخذن منكم ميثاقا غليظا وهو عقد النكاح ومنه قوله صلى الله عليه و سلم : [ فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ] وقيل : هو قوله تعالى { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وقيل : هو الأولاد (1/664)
قوله 22 - { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } نهي عما كانت عليه الجاهلية من نكاح نساء آبائهم إذا ماتوا وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا يحرم ثم بين سبحانه وجه النهي عنه فقال { إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا } هذه الصفات الثلاث تدل على أنه من أشد المحرمات وأقبحها وقد كانت الجاهلية تسميه نكاح المقت قال ثعلب : سألت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال : هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها ويقال لهذا الضيزم وأصل المقت البغض من مقته يمقته مقتا فهو ممقوت ومقيت قوله { إلا ما قد سلف } هو استثناء منقطع أي : لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه وقيل : إلا بمعنى بعد : أي بعد ما سلف وقيل : المعنى ولا ما سلف وقيل : هو استثناء متصل من قوله { ما نكح آباؤكم } يفيد المبالغة في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعلق بالمحال : يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوا فلا يحل لكم غيره قوله { وساء سبيلا } هي جارية مجرى بئس في الذم والعمل والمخصوص بالذم محذوف : أي ساء سبيلا سبيل ذلك النكاح وقيل : إنها جارية مجرى سائر الأفعال وفيها ضمير يعود إلى ما قبلها
وقد أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته وقد كان لهم ذلك في الجاهلية فأنزل الله { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في كبيشة بنت معمر بن معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت فتوفي عنها فجنح عليها ابنه فجاءت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فنزلت هذه الآية وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن عبد الرحمن بن البيلماني في قوله { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن } قال : نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية والأخرى في أمر الإسلام قال ابن المبارك { أن ترثوا النساء كرها } في الجاهلية ولا تعضلوهن في الإسلام وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله { ولا تعضلوهن } قال : لا تضر بامرأتك لتفتدي منك وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد { ولا تعضلوهن } يعني : أن ينكحن أزواجهن كالعضل في سورة البقرة وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : كان العضل في قريش بمكة : ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها وقد قدمنا عن ابن عباس في بيان السبب ما عرفت وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } قال : البغض والنشوز فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه وأخرج ابن جرير عن الضحاك نحوه أيضا وأخرج ابن جرير عن الحسن قال الفاحشة هنا الزنا وأخرج ابن جرير عن أبي قلابة وابن سيرين نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله { وعاشروهن بالمعروف } قال : خالطوهن قال ابن جرير : صحفه بعض الرواة وإنما هو خالقوهن وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : حقها عليك الصحبة الحسنة والكسوة والرزق المعروف وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل { وعاشروهن بالمعروف } يعني صحبتهن بالمعروف { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا } فيطلقها فتتزوج من بعده رجلا فيجعل الله له منها ولدا ويجعل الله في تزويجها خيرا كثيرا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الخير الكثير أن يعطف عليها فترزق ولدها ويجعل الله في ولدها خيرا كثيرا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي نحوه وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحو ما قال مقاتل وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وإن أردتم استبدال زوج } الآية قال : إن كرهت امرأتك وأعجبك غيرها فطلقت هذه وتزوجت تلك فأعط هذه مهرها وإن كان قنطارا وأخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى قال السيوطي بسند جيد : أن عمر نهى الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فاعترضت له امرأة من قريش فقالت : أما سمعت ما أنزل الله يقول { وآتيتم إحداهن قنطارا } فقال : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر فركب المنبر فقال : يا أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي ماله ما أحب قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل قال ابن كثير : إسناده جيد قوي وقد رويت هذه القصة بألفاظ مختلفة هذا أحدها وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الإفضاء هو الجماع ولكن الله يكني وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { وأخذن منكم ميثاقا غليظا } قال : الغليظ : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه وقال : وقد كان ذلك يؤخذ عنه عقد النكاح : الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن أبي مليكة أن ابن عمر كان إذا نكح قال : أنكحتك على ما أمر الله به إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وأخرج ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك نحوه وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس نحوه وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة ومجاهد في قوله : { وأخذن منكم ميثاقا غليظا } قال : أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو قول الرجل : ملكت وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كلمة النكاح التي تستحل بها فروجهن وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في سننه في قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } أنها نزلت لما أراد ابن أبي قيس الأسلت أن يتزوج امرأة أبيه بعد موته وأخرج ابن المنذر عن الضحاك { إلا ما قد سلف } إلا ما كان في الجاهلية وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن البراء قال : لقيت خالي ومعه الراية قلت : أين تريد ؟ قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله (1/665)
قوله 23 - { حرمت عليكم أمهاتكم } أي : نكاحهن وقد بين الله سبحانه في هذه الآية ما يحل وما يحرم من النساء فحرم سبعا من النسب وستا من الرضاع والصهر وألحقت السنة المتواترة تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ووقع عليه الإجماع فالسبع المحرمات من النسب الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت والمحرمات بالصهر والرضاع : الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين فهؤلاء ست والسابعة منكوحات الآباء والثامنة الجمع بين المرأة وعمتها قال الطحاوي : وكل هذا من المحكم المتفق عليه وغير جائز نكاح واحدة منهن بالإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم وقال بعض السلف : الأم والربيبة سواء لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى قالوا : ومعنى قوله { وأمهات نسائكم } أي : اللاتي دخلتم بهن وزعموا أن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعا رواه خلاس عن علي بن أبي طالب وروي عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت وابن الزبير ومجاهد قال القرطبي : ورواية خلاس عن علي لا تقوم بها حجة ولا تصح روايته عند أهل الحديث والصحيح عنه مثل قول الجماعة وقد أجيب عن قولهم إن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب بأن ذلك لا يجوز من جهة الإعراب وبيانه أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا فلا يجوز من جهة الإعراب وبيانه أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهويت نساء زيد الظريفات على أن يكون الظريف نعتا للجميع فكذلك في الآية لا يجوز أن يكون اللاتي دخلتم بهن نعتا لهم جميعا لأن الخبرين مختلفان قال ابن المنذر : والصحيح قول الجمهور لدخول جميع أمهات النساء في قوله { وأمهات نسائكم } ومما يدل على ما ذهب إليه الجمهور ما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالابنة أو لم يدخل وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة ] قال ابن كثير في تفسيره مستدلا للجمهور : وقد روي في ذلك خبر غير أن في إسناده نظرا فذكر هذا الحديث ثم قال وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه فإن إجماع الحجة على صحة القول به يغني عن الاستشهاد على صحته بغيره قال في الكشاف : وقد اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب على ما عليه ظاهر كلام الله تعالى انتهى ودعوى الإجماع مدفوعة بخلاف من تقدم واعلم أنه يدخل في لفظ الأمهات أمهاتهن وجداتهن وأم الأب وجداته وإن علون لأن كلهن أمهات لمن ولده من ولدته وإن سفل ويدخل في لفظ البنات بنات الأولاد وإن سفلن والأخوات تصدق على الأخت لأبوين أو لأحدهما والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو أحدهما وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أب الأم والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة ومباشرة وإن بعدت وكذلك بنت الأخت قوله { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } هذا مطلق مقيد بما ورد في السنة من كون الرضاع في الحولين إلا في مثل قصة إرضاع سالم مولى أبي حنيفة وظاهر النظم القرآني أنه يثبت حكم الرضاع بما يصدق عليه مسمى الرضاع لغة وشرعا ولكنه قد ورد تقييده بخمس رضعات في أحاديث صحيحة والبحث عن تقرير ذلك وتحقيقه يطول وقد استوفيناه في مصنفاتنا وقررنا ما هو الحق في كثير من مباحث الرضاع قوله { وأخواتكم من الرضاعة } الأخت من الرضاع هي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك سواء أرضعتها معك أو مع من قبلك أو بعدك من الإخوة والأخوات والأخت من الأم هي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر قوله { وأمهات نسائكم } قد تقدم الكلام على اعتبار الدخول وعدمه والمحرمات بالمصاهرة أربع : أم المرأة وابنتها وزوجة الأب وزوجة الابن قوله { وربائبكم } الربيبة بنت امرأة الرجل من غيره سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة فعلية بمعنى مفعولة قال القرطبي : واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم وإن لم تكن الربيبة في حجره وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا : لا تحرم الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم فله أن يتزوج بها وقد روي ذلك عن علي قال ابن المنذر والطحاوي : لم يثبت ذلك عن علي لأن راويه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس بن الحدثان عن علي وإبراهيم هذا لا يعرف وقال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا عن علي : وهذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم والحجور جمع حجر والراجح أنهن في حضانة أمهاتهن تحت حماية أزواجهن كما هو الغالب - وقيل المراد بالحجور البيوت : أي في بيوتكم حكاه الأثرم عن أبي عبيدة قوله { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } أي : في نكاح الربائب وهو تصريح بما دل عليه مفهوم ما قبله
وقد اختلف أهل العلم في معنى الدخول الموجب لتحريم الربائب : فروي عن ابن عباس أنه قال : الدخول الجماع وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما وقال مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث والزيدية : إن الزوج إذا لمس الأم لشهوة حرمت عليها ابنتها وهو أحد قولي الشافعي قال ابن جرير الطبري : وفي إجماع الجميع أن خلوة الرجل بامرأته لا تحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها وقبل النظر إلى فرجها لشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع انتهى وهكذا حكى الإجماع القرطبي فقال : وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها واختلفوا في النظر فقال مالك : إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها وقال الكوفيون : إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة وكذا قال الثوري ولم يذكر الشهوة وقال ابن أبي ليلى : لا تحرم بالنظر حتى يلمس وهو قول الشافعي والذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف هو النظر في معنى الدخول شرعا أو لغة فإن كان خاصا بالجماع فلا وجه لإلحاق غيره به من لمس أو نظر أو غيرهما وإن كان معناه أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كان مناط التحريم هو ذلك وأما الربيبة في ملك اليمين فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كره ذلك وقال ابن عباس : أحلتهما آية وحرمتهما آية ولم أكن لأفعله وقال ابن عبد البر : لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وابنتها من ملك اليمين لأن الله حرم ذلك في النكاح قال { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم } وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر وابن عباس وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم انتهى قوله { وحلائل أبنائكم } الحلائل : جمع حليلة وهي الزوجة سميت بذلك لأنها تحل مع الزوج حيث حل فهي فعيلة بمعنى فاعلة وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال فهي حليلة بمعنى محللة وقيل : لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه وقد أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء كان مع العقد وطء أو لم يكن لقوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } وقوله { وحلائل أبنائكم }
واختلف الفقهاء في العقد إذا كان فاسدا هل يقتضي التحريم أم لا ؟ كما هو مبين في كتب الفروع قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده وأجمع على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرمها على أبيه وابنه فإذا اشترى جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه لا أعلمهم يختلفون فيه فوجب تحريم ذلك تسليما لهم ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم قال : لا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم خلاف ما قلناه قوله : { الذين من أصلابكم } وصف للأبناء : أي دون من تبنيتم من أولاد غيركم كما كانوا يفعلونه في الجاهلية ومنه قوله تعالى { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } ومنه قوله تعالى { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } ومنه : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } وأما زوجة الابن من الرضاع فقد ذهب الجمهور إلى أنها تحرم على أبيه وقد قيل إنه إجماع مع أن الابن من الرضاع ليس من أولاد الصلب ووجهه ما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم من قوله : [ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] ولا خلاف أن أولاد الأولاد وإن سفلوا بمنزلة أولاد الصلب في تحريم نكاح نسائهم على آبائهم
وقد اختلف أهل العلم في وطء الزنا هل يقتضي التحريم أم لا ؟ فقال أكثر أهل العلم : إذا أصاب رجل امرأة بزنا لم يحرم عليه نكاحها بذلك وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها أو بابنتها وحسبه أن يقام عليه الحد وكذلك يجوز له عندهم أن يتزوج بأم من زنى بها وبابنتها وقالت طائفة من أهل العلم : إن الزنا يقتضي التحريم حكي ذلك عن عمران بن حصين والشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي وحكي ذلك عن مالك والصحيح عنه كقول الجمهور احتج الجمهور بقوله تعالى { وأمهات نسائكم } وبقوله { وحلائل أبنائكم } والموطوءة بالزنا لا يصدق عليها أنها من نسائهم ولا من حلائل أبنائهم
وقد أخرج الدارقطني عن عائشة قالت : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال : لا يحرم الحرام الحلال ] واحتج المحرمون بما روي في قصة جريج الثابتة في الصحيح أنه قال : يا غلام من أبوك ؟ فقال : فلان الراعي فنسب الابن نفسه إلى أبيه من الزنا وهذا احتجاج ساقط واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه و سلم : [ لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها ولم يفصل بين الحلال والحرام ] ويجاب عنه بأن هذا مطلق مقيد بما ورد من الأدلة الدالة على أن الحرام لا يحرم الحلال
واختلفوا في اللواط هل يقتضي التحريم أم لا ؟ فقال الثوري : إذا لاط بالصبي حرمت عليه أمه وهو قول أحمد بن حنبل قال : إذا تلوط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عليه امرأته وقال الأوزاعي : إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها لأنها بنت من قد دخل به ولا يخفى ما في قول هؤلاء من الضعف والسقوط النازل عن قول القائلين بأن وطء الحرام يقتضي التحريم بدرجات لعدم صلاحية ما تمسك به أولئك من الشبه على ما زعمه هؤلاء من اقتضاء اللواط للتحريم قوله { وأن تجمعوا بين الأختين } أي : وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين فهو في محل رفع عطفا على المحرمات السابقة وهو يشمل الجمع بينهما بالنكاح والوطء بملك اليمين وقيل : إن الآية خاصة بالجمع في النكاح لا في ملك اليمين وأما في الوطء بالملك فلا حق بالنكاح وقد أجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد النكاح
واختلفوا في الأختين بملك اليمين فذهب كافة العلماء إلى أنه يجوز الجمع بينهما في الوطء بالملك وأجمعوا على أنه يجوز الجمع بينهما في الملك فقط وقد توقف بعض السلف في الجمع بين الأختين في الوطء بالملك وسيأتي بيان ذلك واختلفوا في جواز عقد النكاح على أخت الجارية التي توطأ بالملك فقال الأوزاعي : إذا وطئ جارية له بملك يمين لم يجز له أن يتزوج أختها وقال الشافعي : ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت وقد ذهبت الظاهرية إلى جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما يجوز الجمع بينهما في الملك قال ابن عبد البر بعد أن ذكر ما روي عن عثمان بن عفان من جواز الجمع بين الأختين في الوطء بالملك : وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس ولكنهم اختلف عليهم ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز ولا بالعراق ولا ما وراءها من المشرق ولا بالشام ولا المغرب إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفي القياس وقد ترك من تعمد ذلك وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم } إلى آخر الآية أن النكاح بملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء فكذلك يجب أن يكون قياسا ونظرا الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب وكذا هو عند جمهورهم وهي الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها والله المحمود انتهى
وأقول : ها هنا إشكال وهو أنه قد تقرر أن النكاح يقال على العقد فقط وعلى الوطء فقط والخلاف في كون أحدهما حقيقة والآخر مجازا أو كونهما حقيقتين معروف فإن حملنا هذا التحريم المذكور في هذه الآية وهي قوله { حرمت عليكم أمهاتكم } إلى آخرها على أن المراد تحريم العقد عليهن لم يكن في قوله تعالى { وأن تجمعوا بين الأختين } دلالة على تحريم الجمع بين المملوكتين في الوطء بالملك وما وقع من إجماع المسلمين على أن قوله { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم } إلى آخره يستوي فيه الحرائر والإماء والعقد والملك لا يستلزم أن يكون محل الخلاف وهو الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين مثل محل الإجماع ومجرد القياس في مثل هذا الموطن لا تقوم به الحجة لما يرد عليه من النقوض وإن حملنا التحريم المذكور في الآية على الوطء فقط لم يصح ذلك للإجماع على تحريم عقد النكاح على جميع المذكورات من أول الآية إلى آخرها فلم يبق إلا حمل التحريم في الآية على تحريم عقد النكاح فيحتاج القائل بتحريم الجمع بين الأختين في الوطء بالملك إلى دليل ولا ينفعه أن ذلك قول الجمهور فالحق لا يعرف بالرجال فإن جاء به خالصا عن شوب الكدر فبها ونعمت وإلا كان الأصل الحل ولا يصح حمل النكاح في الآية على معنييه جميعا أعني العقد والوطء لأنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو ممنوع أو من باب الجمع بين معنيي المشترك وفيه الخلاف المعروف في الأصول فتدبر هذا
وقد اختلف أهل العلم إذا كان الرجل يطأ مملوكته بالملك ثم أراد أن يطأ أختها بالملك فقال علي وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق : لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق أو بأن يزوجها قال ابن المنذر : وفيه قول ثان لقتادة وهو أنه ينوي تحريم الأولى على نفسه ولا يقربها ثم يمسك عنها حتى تستبرئ المحرمة ثم يغشى الثانية وفيه قول ثالث وهو أنه لا يقرب واحدة منهما هكذا قال الحكيم وحماد وروي معنى ذلك عن النخعي وقال مالك : إذا كان عنده أختان بملك فله أن يطأ أيتهما شاء والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك أو تزويج أو بيع أو عتق أو كتابة أو إخدام طويل فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى ولم يوكل ذلك إلى أمانته لأنه متهم قال القرطبي : وقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها حتى تنقضي عدة المطلقة واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها فقالت طائفة : ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلق روي ذلك عن علي وزيد بن ثابت ومجاهد وعطاء والنخعي والثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي وقال طائفة : له أن ينكح أختها وينكح الرابعة لمن كان تحته أربع وطلق واحدة منهن طلاقا بائنا روي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبي ثور وأبي عبيد قال ابن المنذر : ولا أحسبه إلا قول مالك وهو أيضا إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت وعطاء قوله { إلا ما قد سلف } يحتمل أن يكون معناه معنى ما تقدم من قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } ويحتمل معنى آخر وهو جواز ما سلف وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين والصواب الاحتمال الأول أ (1/668)
قوله 24 - { والمحصنات من النساء } عطف على المحرمات المذكورات وأصل التحصن التمنع ومنه قوله تعالى { لتحصنكم من بأسكم } أي لتمنعكم ومنه الحصان بكسر الحاء للفرس لأنه يمنع صاحبه من الهلاك والحصان بفتح الحاء : المرأة العفيفة لمنعها نفسها ومنه قول حسان :
( حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل )
والمصدر الحصانة بفتح الحاء والمراد بالمحصنات هنا ذوات الأزواج وقد ورد الإحصان في القرآن لمعان هذا أحدها والثاني يراد به الحرة ومنه قوله تعالى { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات } وقوله { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } والثالث يراد به العفيفة ومنه قوله تعالى { محصنات غير مسافحات } { محصنين غير مسافحين } والرابع المسلمة ومنه قوله تعالى { فإذا أحصن }
وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية أعني قوله { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } فقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قلابة ومكحول والزهري : المراد بالمحصنات هنا : المسبيات ذوات الأزواج خاصة أي هن محرمات علكم إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من أرض الحرب فإن تلك حلال وإن كان لها زوج وهو قول الشافعي : أي أن السباء يقطع العصمة وبه قال ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور واختلفوا في استبرائها بماذا يكون ؟ كما هو مدون في كتب الفروع وقالت طائفة : المحصنات في هذه الآية العفائف وبه قال أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء ورواه عبيدة عن عمر ومعنى الآية عندهم : كل النساء حرام إلا ما ملكت أيمانكم : أي تملكون عصمتهن بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء وحكى ابن جرير الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئا ؟ فقال : كان ابن عباس لا يعلمها وروى ابن جرير أيضا عن مجاهد أنه قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل انتهى ومعنى الآية والله أعلم لا سترة به أي وحرمت عليكم المحصنات من النساء : أي المزوجات أعم من أن يكن مسلمات أو كافرات إلا ما ملكت أيمانكم منهن أما يسبي فإنها تحل ولو كانت ذات زوج أو بشراء فإنها تحل ولو كانت مزوجة وينفسخ النكاح الذي كان عليها بخروجها عن ملك سيدها الذي زوجها وسيأتي ذكر سبب نزول الآية إن شاء الله والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقد قرئ { المحصنات } بفتح الصاد وكسرها فالفتح على أن الأزواج أحصنوهن والكسر على أنهن أحصن فروجهن عن غير أزواجهن أو أحصن أزواجهن قوله { كتاب الله عليكم } منصوب على المصدرية : أي كتب الله ذلك عليكم كتابا وقال الزجاج والكوفيون : إنه منصوب على الإغراء : أي الزموا كتاب الله أو عليكم كتاب الله واعترضه أبو علي الفارسي بأن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب وهذا الاعتراض إنما يتوجه على قول من قال : إنه منصوب بعليكم المذكور في الآية وروي عن عبيدة السلماني أنه قال : إن قوله { كتاب الله عليكم } إشارة إلى قوله تعالى { مثنى وثلاث ورباع } وهو بعيد بل هو إشارة إلى التحريم المذكور في قوله { حرمت عليكم } إلى آخر الآية قوله { وأحل لكم ما وراء ذلكم } قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وأحل على البناء للمجهول وقرأ الباقون على البناء للمعلوم عطفا على الفعل المقدر في قوله { كتاب الله عليكم } وقيل على قوله { حرمت عليكم } ولا يقدح في ذلك اختلاف الفعلين وفيه دلالة على أنه يحل لهم نكاح ما سوى المذكورات وهذا عام مخصوص بما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها وقد أبعد من قال : إن تحريم الجمع بين المذكورات مأخوذ من الآية هذه لأنه حرم الجمع بين الأختين فيكون ما في معناه في حكمه وهو الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها وكذلك تحريم نكاح الأمة لمن يستطيع نكاح حرة كما سيأتي فإنه يخصص هذا العموم قوله { أن تبتغوا بأموالكم } في محل نصب على العلة : أي حرم عليكم ما حرم وأحل لكم ما أحل لأجل أن تبتغوا بأموالكم النساء الللاتي أجلهن الله لكم ولا تبتغوا بها الحرام فتذهب حال كونكم { محصنين } أي متعففين عن الزنا { غير مسافحين } أي غير زانين والسفاح : الزنا وهو مأخوذ من سفح الماء : أي صبه وسيلانه فكأنه سبحانه أمرهم بأن يطلبوا بأموالهم النساء على وجه النكاح لا على وجه السفاح وقيل إن قوله { أن تبتغوا بأموالكم } بدل من ما في قوله { ما وراء ذلكم } أي وأحل لكم الابتغاء بأموالكم والأول أولى وأراد سبحانه بالأموال المذكورة ما يدفعونه في مهور الحرائر وأثمان الإماء قوله { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } ما موصولة فيها معنى الشرط والفاء في قوله { فآتوهن } لتضمن الموصول معنى الشرط والعائد محذوف : أي فآتوهن أجورهن عليه
وقد اختلف أهل العلم في معنى الآية : فقال الحسن ومجاهد وغيرهما : المعنى فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الشرعي { فآتوهن أجورهن } أي مهورهن وقال الجمهور : إن المراد بهذه الآية نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام ويؤيد ذلك قراءة أبي بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه و سلم كما صح ذلك من حديث علي قال : نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر وهو في الصحيحين وغيرهما وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يوم فتح مكة [ يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء والله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ] وفي لفظ لمسلم أن ذلك كان في حجة الوداع فهذا هو الناسخ وقال سعيد بن جبير : نسختها آيات الميراث إذ المتعة لا ميراث فيها وقالت عائشة والقاسم بن محمد : تحريمها ونسخها في القرآن وذلك قوله تعالى { والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم ولا مما ملكت أيمانهم فإن من شأن الزوجة أن ترث وتورث وليست المستمتع بها كذلك وقد روي عن ابن عباس أنه قال بجواز المتعة وأنها باقية لم تنسخ وروي عنه أنه رجع عن ذلك عند أن بلغه الناسخ وقد قال بجوازها جماعة من الروافض ولا اعتبار بأقوالهم وقد أتعب نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسألة وتقوية ما قاله المجوزون لها وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه
وقد طولنا البحث ودفعنا الشبه الباطلة التي تمسك بها المجوزون لها في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه قوله { فريضة } منتصب على المصدرية المؤكدة أو على الحال : أي مفروضة قوله { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } أي : من زيادة أو نقصان في المهر فإن ذلك سائغ عند التراضي هذا عند من قال بأن الآية في النكاح الشرعي وأما عند الجمهور القائلين بأنها في المتعة فالمعنى التراضي في زيادة مدة المتعة أو نقصانها أو في زيادة ما دفعه إليها إلى مقابل الاستمتاع بها أو نقصانه (1/675)
قوله 25 - { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات } الطول : الغنى والسعة قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجمهور أهل العلم ومعنى الآية : فمن لم يستطع منكم غنى وسعة في ماله يقدر بها على نكاح المحصنات المؤمنات فلينكح من فتياتكم المؤمنات يقال : طال يطول طولا في الإفضال والقدرة وفلان ذو طول : أي ذو قدرة في ماله والطول بالضم : ضد القصر وقال قتادة والنخعي وعطاء والثوري : إن الطول الصبر ومعنى الآية عندهم أن من كان يهوى أمة حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها فإن له أن يتزوجها إذا لم يملك نفسه وخاف أن يبغي بها وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة وقال أبو حنيفة وهو مروي عن مالك : إن الطول المرأة الحرة فمن كان تحته حرة لم يحل له أن ينكح الأمة ومن لم يكن تحته حرة جاز له أن يتزوج أمة ولو كان غنيا وبه قال أبو يوسف واختاره ابن جرير واحتج له والقول الأول هو المطابق لمعنى الآية ولا يخلو ما عداه عن تكلف فلا يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة إلا إذا كان لا يقدر على أن يتزوج بالحرة لعدم وجود ما يحتاج إليه في نكاحها من مهر وغيره وقد استدل بقوله : { من فتياتكم المؤمنات } على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية وبه قال أهل الحجاز وجوزه أهل العراق ودخلت الفاء في قوله { فمن ما ملكت أيمانكم } لتضمن المبتدأ معنى الشرط وقوله { من فتياتكم المؤمنات } في محل نصب على الحال فقد عرفت أنه لا يجوز للرجل الحر أن يتزوج بالمملوكة إلا بشرط عدم القدرة على الحرة والشرط الثاني ما سيذكره الله سبحانه آخر الآية من قوله { ذلك لمن خشي العنت منكم } فلا يحل للفقير أن يتزوج بالمملوكة إلا إذا كان يخشى على نفسه العنت والمراد هنا الأمة المملوكة للغير وأما أمة الإنسان نفسه فقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز له أن يتزوجها وهي تحت ملكه لتعارض الحقوق واختلافها والفتيات جمع فتاة والعرب تقول للمملوك فتى وللمملوكة فتاة وفي الحديث الصحيح [ لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي ] قوله { والله أعلم بإيمانكم } فيه تسلية لمن ينكح الأمة إذا اجتمع فيه الشرطان المذكوران : أي كلكم بنو آدم وأكرمكم عند الله أتقاكم فلا تستنكفوا من الزواج بالإماء عند الضرورة فربما كان إيمان بعض الإماء أفضل من إيمان بعض الحرائر والجملة اعتراضية وقوله { بعضكم من بعض } مبتدأ وخبر ومعناه : أنهم متصلون في الأنساب لأنهم جميعا بنو آدم أو متصلون في الدين لأنهم جميعا أهل ملة واحدة وكتابهم واحد ونبيهم واحد والمراد بهذا توطئة نفوس العرب لأنهم كانوا يستهجنون أولاد الإماء ويستصغرونهم ويغضون منهم { فانكحوهن بإذن أهلهن } أي بإذن المالكين لهن لأن منافعهن لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له قوله { وآتوهن أجورهن بالمعروف } أي : أدوا إليهن مهورهن بما هو بالمعروف في الشرع وقد استدل بهذا من قال : إن الأمة أحق بمهرها من سيدها وإليه ذهب مالك وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد وإنما أضافها إليهن لأن التأدية إليهن تأدية إلى سيدهن لكونهن ماله قوله { محصنات } أي : عفائف وقرأ الكسائي { محصنات } بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله { والمحصنات من النساء } وقرأ الباقون بالفتح في جميع القرآن قوله { غير مسافحات } أي غير معلنات بالزنا والأخدان : الأخلاء والخدن والخدين المخادن : أي المصاحب - وقيل ذات الخدن : هي التي تزني سرا فهو مقابل للمسافحة وهي التي تجاهر بالزنا وقيل : المسافحة المبذولة وذات الخدن التي تزني بواحد وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنا ولا تعيب اتخاذ الأخدان ثم رفع الإسلام جميع ذلك قال الله { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } قوله { فإذا أحصن } قرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة وقرأ الباقون بضمها والمراد بالإحصان هنا الإسلام روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأنس والأسود بن يزيد وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وعطاء وإبراهيم النخعي والشعبي والسدي وروي عن عمر بن الخطاب بإسناد منقطع وهو الذي نص عليه الشافعي وبه قال الجمهور قال ابن عباس وأبو الدرداء ومجاهد وعكرمة وطاوس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم : إنه التزويج وروي عن الشافعي فعلى القول الأول لا حد على الأمة الكافرة وعلى القول الثاني لا حد على الأمة التي لم تتزوج وقال القاسم وسالم : إحصانها إسلامها وعفافها وقال ابن جرير : إن معنى القراءتين مختلف فمن قرأ أحصن بضم الهمزة فمعناه التزويج ومن قرأ بفتح الهمزة فمعناه الإسلام وقال قوم : إن الإحصان المذكور في الآية هو التزويج ولكن الحد واجب على الأمة المسلمة إذا زنت قبل أن تتزوج بالسنة وبه قال الزهري قال ابن عبد البر : ظاهر قول الله عز و جل يقتضي أنه لا حد على الأمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن وكان ذلك زيادة بيان قال القرطبي : ظهر المسلم حمى لا يستباح إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد قال ابن كثير في تفسيره : والأظهر والله أعلم أن المراد بالإحصان هنا التزويج لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه { ومن لم يستطع منكم طولا } إلى قوله { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } فالسياق كله في الفتيات المؤمنات فتعين أن المراد بقوله { فإذا أحصن } أي : تزوجن كما فسره به ابن عباس ومن تبعه قال : وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور لأنهم يقولون : إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة أو كافرة مزوجة أو بكرا مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة من الإماء وقد اختلف أجوبتهم عن ذلك ثم ذكر أن منهم من أجاب وهم الجمهور بتقديم منطوق الأحاديث على هذا المفهوم ومنهم من عمل على مفهوم الآية وقال : إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها وإنما تضرب تأديبا قال : وهو المحكي عن ابن عباس وإليه ذهب طاوس وسعيد بن جبير وأبو عبيد وداود الظاهري في رواية عنه فهؤلاء قدموا مفهوم الآية على العموم وأجابوا عن مثل حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في الصحيحين وغيرهما [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن الأمة : إذا زنت ولم تحصن قال : إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير ] بأن المراد بالجلد هنا التأديب وهو تعسف وأيضا قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ] الحديث ولمسلم من حديث علي قال : [ يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن ومن لم يحصن فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه و سلم زنت فأمرني أن أجلدها ] الحديث وأما ما أخرجه سعيد بن منصور وابن خزيمة والبيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليس على الأمة حد حتى تحصن بزوج فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات من العذاب ] فقد قال ابن خزيمة والبيهقي : إن رفعه خطأ والصواب وقفه قوله { فإن أتين بفاحشة } الفاحشة هنا الزنا { فعليهن نصف ما على المحصنات } أي الحرائر الأبكار لأن الثيب عليها الرجم وهو لا يتبعض وقيل : المراد بالمحصنات هنا المزوجات لأن عليهن الجلد والرجم والرجم لا يتبعض فصار عليهن نصف ما عليهن من الجلد والمراد بالعذاب هنا الجلد وإنما نقص حد الإماء عن حد الحرائر لأنهن أضعف وقيل : لأنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر وقيل : لأن العقوبة تجب على قدر النعمة كما في قوله تعالى { يضاعف لها العذاب ضعفين } ولم يذكر الله سبحانه في هذه الآية العبيد وهم لاحقون بالإماء بطريق القياس وكما يكون على الإماء والعبيد نصف الحد في الزنا كذلك يكون عليهم نصف الحد في القذف والشرب والإشارة بقوله : { ذلك لمن خشي العنت منكم } إلى نكاح الإماء والعنت : الوقوع في الإثم وأصله في اللغة انكسار العظم بعد الجبر ثم استعير لكل مشقة { وأن تصبروا } عن نكاح الإماء { خير لكم } من نكاحهن : أي صبركم خير لكم لأن نكاحهن يفضي إلى إرقاق الولد والغض من النفس (1/678)
قوله 26 - { يريد الله ليبين لكم } اللام هنا هي لام كي التي تعاقب أن قال الفراء : العرب تعاقب بين لام كي وأن فتأتي باللام التي على معنى كي في موضع أن في أردت وأمرت فيقولون : أردت أن تفعل وأردت لتفعل ومنه { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } { وأمرت لأعدل بينكم } { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } ومنه :
( أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل )
وحكى الزجاج هذا القول وقال : لو كانت اللام بمعنى أن لدخلت عليها لام أخرى كما تقول : جئت كي تكرمني ثم تقول : جئت لكي تكرمني وأنشد :
( أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود )
وقيل : اللام زائدة لتأكيد معنى الاستقبال أو لتأكيد إرادة التبيين ومفعول يبين محذوف : أي ليبين لكم ما خفي عليكم من الخير وقيل : مفعول يريد محذوف : أي يريد الله هذا ليبين لكم وبه قال البصريون وهو مروي عن سيبويه وقيل : اللام بنفسها ناصبة للفعل من غير إضمار أن وهي وما بعدها مفعول للفعل المتقدم وهو مثل قول الفراء السابق وقال بعض البصريين : إن قوله { يريد } مؤول بالمصدر مرفوع بالابتداء مثل : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ومعنى الآية : يريد الله ليبين لكم مصالح دينكم وما يحل لكم وما يحرم عليكم { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } أي : طرقهم وهم الأنبياء وأتباعهم لتقتدوا بهم { ويتوب عليكم } أي : ويريد أن يتوب عليكم فتوبوا إليه وتلافوا ما فرط منكم بالتوبة يغفر لكم ذنوبكم (1/681)
27 - { والله يريد أن يتوب عليكم } هذا تأكيد لما قد فهم من قوله { ويتوب عليكم } المتقدم وقيل : الأول معناه للإرشاد إلى الطاعات : والثاني فعل أسبابها وقيل : إن الثاني لبيان كمال منفعة إرادته سبحانه وكمال ضرر ما يريده الذين يتبعون الشهوات وليس المراد به مجرد إرادة التوبة حتى يكون من باب التكرير للتأكيد قيل : هذه الإرادة منه سبحانه في جميع أحكام الشرع وقيل : في نكاح الأمة فقط
واختلف في تعيين المتبعين للشهوات فقيل : هم الزناة وقيل : اليهود والنصارى وقيل : اليهود خاصة وقيل : هم المجوس لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب والأول أولى والميل : العدول عن طريق الاستواء والمراد بالشهوات هنا ما حرمه الشرع ودون ما أحله ووصف الميل بالعظم بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة نادرا (1/681)
قوله 28 - { يريد الله أن يخفف عنكم } بما مر من الترخيص لكم أو بكل ما فيه تخفيف عليكم { وخلق الإنسان ضعيفا } عاجزا غير قادر على ملك نفسه ودفعها عن شهواتها وفاء بحق التكليف فهو محتاج من هذه الحيثية إلى التخفيف فلهذا أراد الله سبحانه التخفيف عنه
وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع ثم قرأ { حرمت عليكم أمهاتكم } إلى قوله { وبنات الأخت } هذا من النسب وباقي الآية من الصهر والسابعة { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عن عمران بن حصين في قوله { وأمهات نسائكم } قال : هي مبهمة وأخرج هؤلاء عن ابن عباس قال : هي مبهمة إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها وأخرج هؤلاء إلا البيهقي عن علي في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها هل تحل له أمها ؟ قال : هي بمنزلة الربيبة وأخرج هؤلاء عن زيد بن ثابت أنه كان يقول : إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال في قوله { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم } أريد بهما الدخول جميعا وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير قال : الربيبة والأم سواء لا بأس بهما إذا لم يدخل بالمرأة وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : كانت عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي فوجدت عليها فلقيني علي بن أبي طالب فقال : ما لك ؟ فقلت : توفيت المرأة فقال علي : لها ابنة ؟ قلت : نعم وهي بالطائف قال : كانت في حجرك ؟ قلت : لا قال : فانكحها قلت : فأين قول الله { وربائبكم اللاتي في حجوركم } ؟ قال : إنها لم تكن في حجرك
وقد قدمنا قول من قال : إنه إسناد ثابت على شرط مسلم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : الدخول الجماع وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء قال : كنا نتحدث أن محمدا صلى الله عليه و سلم لما نكح امرأة زيد قال المشركون بمكة في ذلك فأنزل الله : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } ونزلت { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } ونزلت { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله { وأن تجمعوا بين الأختين } قال : يعني في النكاح وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال : ذلك في الحرائر فأما المماليك فلا بأس وأخرج ابن المنذر عنه نحوه من طريق أخرى وأخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عثمان بن عفان : أن رجلا سأله عن الأختين في ملك اليمين هل يجمع بينهما ؟ قال : أحلتهما آية وحرمتهما آية وما كنت لأصنع ذلك فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أراه علي بن أبي طالب فسأله عن ذلك فقال : لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي عن علي : أنه سئل عن رجل له أمتان أختان وطئ إحداهما وأراد أن يطأ الأخرى فقال : لا حتى يخرجها من ملكه وقيل : فإن زوجها عبده ؟ قال : لا حتى يخرجها من ملكه وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود : أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين الأمتين فكرهه فقيل يقول الله { إلا ما ملكت أيمانكم } فقال : وبعيرك أيضا مما ملكت يمينك وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي من طريق أبي صالح عن علي بن أبي طالب قال في الأختين المملوكتين : أحلتهما آية وحرمتهما آية ولا آمر ولا أنهي ولا أحل ولا أحرم ولا أفعل أنا وأهل بيتي وأخرج أحمد عن قيس قال : قلت لابن عباس : أيقع الرجل على المرأة وابنتها مملوكتين له ؟ فقال : أحلتهما آية وحرمتهما آية ولم أكن لأفعله وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عنه في الأختين من ملك اليمين : أحلتهما آية وحرمتهما آية وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبيهقي عن ابن عمر قال : إذا كان للرجل جاريتان أختان فغشي إحداهما فلا يقرب الأخرى حتى يخرج التي غشي من ملكه وأخرج البيهقي عن مقاتل بن سليمان قال : إنما قال الله في نساء الآباء { إلا ما قد سلف } لأن العرب كانوا ينكحون نساء الآباء ثم حرم النسب والصهر فلم يقل إلا ما قد سلف لأن العرب كانت لا تنكح النسب والصهر وقال في الأختين { إلا ما قد سلف } لأنهم كانوا يجمعون بينهما فحرم جمعهما جميعا إلا ما قد سلف قبل التحريم { إن الله كان غفورا رحيما } لما كان من جماع الأختين قبل التحريم وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث يوم حنين جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا فكأن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله في ذلك { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } يقول : إلا ما أفاء الله عليكم وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن ذلك سبب نزول الآية وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير مثله وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس في قوله { والمحصنات من النساء } قال : كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة والطبراني عن علي وابن مسعود في قوله
{ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } قال : على المشركات إذا سبين حلت له وقال ابن مسعود : المشركات والمسلمات وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { والمحصنات من النساء } قال : ذوات الأزواج وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس بن مالك مثله وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود مثله وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { والمحصنات } قال : العفيفة العاقلة من مسلمة أو من أهل الكتاب وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه في الآية قال : لا يحل له أن يتزوج فوق الأربع فما زاد فهو عليه حرام كأمه وأخته وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي العالية في قوله { والمحصنات من النساء } قال : يقول انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ثم حرم ما حرم من النسب والصهر ثم قال { والمحصنات من النساء } فرجع إلى أول السورة فقال : هن حرام أيضا إلا لمن نكح بصداق وسنة وشهود وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير عن عبيدة قال : أحل الله لك أربعا في أول السورة وحرم نكاح كل محصنة بعد الأربع إلا ما ملكت يمينك وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الإحصان إحصانان : إحصان نكاح وإحصان عفاف ] فمن قرأها والمحصنات بكسر الصاد فهن العفائف ومن قرأها والمحصنات بالفتح فهن المتزوجات قال ابن أبي حاتم : قال أبي هذا حديث منكر وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وأحل لكم ما وراء ذلكم } قال : ما وراء هذا النسب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : ما دون الأربع وأخرج ابن جرير عن عطاء قال : ما وراء ذات القرابة وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله { وأحل لكم ما وراء ذلكم } قال : ما ملكت أيمانكم وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيدة السلماني نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { محصنين غير مسافحين } قال : غير زانين وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وآتوهن أجورهن } يقول : إذا تزوج الرجل منكم المرأة ثم نكحها مرة واحدة فقد وجب صداقها كله والاستمتاع هو النكاح وهو قوله { وآتوا النساء صدقاتهن } وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : كانت المتعة في أول الإسلام وكانوا يقرأون هذه الآية فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى الآية فكان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى أنه يفرغ من حاجته ليحفظ متاعه ويصلح شأنه حتى نزلت هذه الآية { حرمت عليكم أمهاتكم } فنسخت الأولى فحرمت المتعة وتصديقها من القرآن { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } وما سوى هذا الفرج فهو حرام
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه أن ابن عباس قرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي بن كعب أنه قرأها كذلك وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن هذه الآية في نكاح المتعة وكذلك أخرج ابن جرير عن السدي والأحاديث في تحليل المتعة ثم تحريمها وهل كان نسخها مرة أو مرتين ؟ مذكورة في كتب الحديث وقد أخرج ابن جرير في تهذيبه وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : ماذا صنعت ذهبت الركاب بفتياك وقالت فيها الشعراء قال : وما قالوا ؟ قلت : قالوا :
( أقول للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس )
( هل لك في رخصة الأعطاف آنسة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس )
فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون لا والله ما بهذا أفتيت ولا هذا أردت ولا أحللتها إلا للمضطر وفي لفظ ولا أحللت منها إلا ما أحل الله من الميتة والدم ولحم الخنزير وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن رجالا كانوا يفرضون المهر ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة فقال الله { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به } قال : الراضي أن يوفي لها صداقها ثم يخيرها وأخرج ابن جرير عن زيد في الآية قال : إن وضعت لك منه شيئا فهو سائغ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس { ومن لم يستطع منكم طولا } يقول : من لم يكن له سعة { أن ينكح المحصنات } يقول الحرائر : { فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } فلينكح من إماء المؤمنين { محصنات غير مسافحات } يعني عفائف غير زواني في سر ولا علانية { ولا متخذات أخدان } يعني أخلاء { فإذا أحصن } ثم إذا تزوجت حرا ثم زنت { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } قال : من الجلد { ذلك لمن خشي العنت منكم } هو الزنا فليس لأحد من الأحرار أن ينكح الأمة إلا أن لا يقدر على حرة وهو يخشى العنت { وأن تصبروا } عن نكاح الإماء { فهو خير لكم } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد { ومن لم يستطع منكم طولا } يعني : من لا يجد منكم غنى { أن ينكح المحصنات } يعني الحرائر فلينكح الأمة المؤمنة { وأن تصبروا } عن نكاح الإماء { خير لكم } وهو حلال وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه قال : مما وسع الله به على هذه الأمة نكاح الأمة النصرانية واليهودية وإن كان موسرا وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي عنه قال : لا يصلح نكاح إماء أهل الكتاب لأن الله يقول { من فتياتكم المؤمنات } وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن الحسن [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن تنكح الأمة على الحرة والحرة على الأمة ومن وجد طولا لحرة فلا ينكح أمة ] وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن عباس قال : لا يتزوج الحر من الإماء إلا واحدة وأخرج ابن أبي شيبة عن قتادة نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله : { والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض } يقول : أنتم إخوة بعضكم من بعض وأخرج ابن المنذر عن السدي { فانكحوهن بإذن أهلهن } قال : بإذن مواليهن { وآتوهن أجورهن } قال : مهورهن وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : المسافحات المعلنات بالزنا والمتخذات أخدان : ذات الخليل الواحد قال : كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي فأنزل الله { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } وأخرج ابن أبي حاتم عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { فإذا أحصن } قال : إحصانها إسلامها وقال علي : اجلدوهن قال ابن أبي حاتم حديث منكر وقال ابن كثير في إسناده ضعيف ومبهم لم يسم ومثله لا تقوم به حجة وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس قال : حد العبد يفتري على الحر أربعون وأخرج ابن جرير عنه قال : العنت الزنا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي { ويريد الذين يتبعون الشهوات } قال : هم اليهود والنصارى وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { ويريد الذين يتبعون الشهوات } قال : الزنا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { يريد الله أن يخفف عنكم } يقول : في نكاح الأمة وفي كل شيء فيه يسر وأخرج ابن جرير عن ابن زيد { يريد الله أن يخفف عنكم } قال : رخص لكم في نكاح الإماء { وخلق الإنسان ضعيفا } قال : لو لم يرخص له فيها وأخرج ابن جرير والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت : أولهن { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم } والثانية { والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما } والثالثة { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } والرابعة { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما } والخامسة { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } الآية والسادسة { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله } الآية والسابعة { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية والثامنة { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله } للذين عملوا من الذنوب { غفورا رحيما } (1/682)
الباطل : ما ليس بحق ووجوه ذلك كثيرة ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع والتجارة في اللغة عبارة عن المعارضة وهذا الاستثناء منقطع : أي لكن تجارة عن تراض منكم جائزة بينكم أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالا لكم وقوله 29 - { عن تراض } صفة لتجارة : أي كائنة عن تراض وإنما نص الله سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات لكونها أكثرها وأغلبها وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز ومنه قوله تعالى : { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } وقوله { يرجون تجارة لن تبور }
واختلف العلماء في التراضي فقالت طائفة : تمامه وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختركما في الحديث الصحيح [ البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر ] وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم وقال مالك وأبو حنيفة : تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فيرتفع بذلك الخيار وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته وقد قرئ تجارة بالرفع على أن كان تامة وتجارة بالنصب على أنها ناقصة قوله { ولا تقتلوا أنفسكم } أي : لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضا إلا بسبب أثبته الشرع أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة ولا مانع من حمل الآية على جميع المعاني ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزاة ذات السلاسل فقرر النبي صلى الله عليه و سلم احتجاجه وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما (1/688)
قوله 30 - { ومن يفعل ذلك } أي : القتل خاصة أو أكل أموال الناس ظلما والقتل عدوانا وظلما وقيل : هو إشارة إلى كل ما نهي عنه في هذه السورة وقال ابن جرير : إنه عائد على ما نهي عنه من آخر وعيد وهو قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد إلا من قوله { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم } فإنه لا وعيد بعده إلا قوله { ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما } والعدوان : تجاوز الحد والظلم : وضع الشيء في غير موضعه وقيل : إن معنى العدوان والظلم واحد وتكريره لقصد التأكيد كما في قول الشاعر :
( وألفى قولها كذبا ومينا )
وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق كالقصاص وقتل المرتد وسائر الحدود الشرعية وكذلك قتل الخطأ قوله { فسوف نصليه } جواب الشرط : أي ندخله نارا عظيمة { وكان ذلك } أي : إصلاؤه النار { على الله يسيرا } لأنه لا يعجزه شيء وقرئ : نصليه بفتح النون روي ذلك عن الأعمش والنخعي وهو على هذه القراءة منقول من صلى ومنه شاة مصلية (1/688)
قوله 31 - { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } أي : إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي نهاكم الله عنها { نكفر عنكم سيئاتكم } أي : ذنوبكم التي هي صغائر وحمل السيئات على الصغائر هنا متعين لذكر الكبائر قبلها وجعل اجتنابها شرطا لتكفير السيئات
وقد اختلف أهل الأصول في تحقيق معنى الكبائر ثم في عددها فأما في تحقيقها فقيل : إن الذنوب كلها كبائر وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها كما يقال : الزنا صغيرة بالإضافة إلى الكفر والقبلة المحرمة صغيرة بالإضافة إلى الزنا وقد روي نحو هذا عن الاسفرايني والجويني والقشيري وغيرهم قالوا : والمراد بالكبائر التي يكون اجتنابها سببا لتكفير السيئات هي الشرك واستدلوا على ذلك بقراءة من قرأ { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } وعلى قراءة الجمع فالمراد أجناس الكفر واستدلوا على ما قالوه بقوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } قالوا : فهذه الآية مقيدة لقوله { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } وقال ابن عباس : الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب وقال ابن مسعود : الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية وقال سعيد بن جبير : كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو كبيرة وقال جماعة من أهل الأصول : الكبائر كل ذنب رتب الله عليه الحد أو صرح بالوعيد فيه وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره وأما الاختلاف في عددها فقيل : إنها سبع وقيل : سبعون وقيل : سبعمائة وقيل : غير منحصرة ولكن بعضها أكبر من بعض وسيأتي ما ورد في ذلك إن شاء الله قوله { وندخلكم مدخلا } أي : مكان دخول وهو الجنة { كريما } أي : حسنا مرضيا وقد قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر والكوفيون { مدخلا } بضم الميم وقرأ أهل المدينة بفتح الميم وكلاهما اسم مكان ويجوز أن يكون مصدرا
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني قال السيوطي بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } قال : إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن في الآية قال : كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية فنسخ ذلك الآية التي في النور { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } الآية وأخرج ابن ماجه وابن المنذر عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنما البيع عن تراض ] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح وعكرمة في قوله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } قالا : نهاهم عن قتل بعضهم بعضا وأخرج ابن المنذر عن مجاهد نحوه وأخرج ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي : { ولا تقتلوا أنفسكم } قال : أهل دينكم وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما } يعني : متعمدا اعتداء بغير حق { وكان ذلك على الله يسيرا } يقول : كان عذابه على الله هينا وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أرأيت قوله تعالى { ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا } في كل ذلك أم في قوله { ولا تقتلوا أنفسكم } ؟ قال : بل في قوله { ولا تقتلوا أنفسكم } وأخرج عبد بن حميد عن أنس بن مالك قال : هان ما سألكم ربكم { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : كل ما نهى عنه فهو كبيرة وقد ذكرت الطرفة : يعني النظرة وأخرج ابن جرير عنه قال : كل شيء عصي الله فيه هو كبيرة وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : كل ما وعد الله عليه النار كبيرة وأخرج ابن جرير والبيهقي في الشعب عنه قال : الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير ما قدمناه عنه وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس : أنه سئل عن الكبائر أسبع هي ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه : أن رجلا سأله كم الكبائر أسبع هي ؟ قال : هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار وأخرج البيهقي في الشعب عنه كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة وليس بكبيرة ما تاب عنه العبد وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ] وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال : ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ] وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الكبائر : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس شك شعبة واليمين الغموس ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر وقال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا : وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ] والأحاديث في تعداد الكبائر وتعيينها كثيرة جدا فمن رام الوقوف على ما ورد في ذلك فعليه بكتاب الزواجر في الكبائر فإنه قد أجمع فأوعى
واعلم أنه لا بد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيئات بمجرد اجتناب الكبائر بما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي هريرة وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه و سلم جلس على المنبر ثم قال : [ والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويؤدي الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى إنها لتصفق ثم تلا { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } ] وأخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها : قوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الآية وقوله { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } الآية وقوله { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية وقوله { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك } الآية وقوله { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } الآية (1/689)
قوله 32 - { ولا تتمنوا } التمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي وفيه النهي عن أن يتمنى الإنسان ما فضل الله به غيره من الناس عليه فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقسمة التي قسمها الله بين عباده على مقتضى إرادته وحكمته البالغة وفيه أيضا نوع من الحسد المنهي عنه إذا صحبه إرادة زوال تلك النعمة عن الغير
وقد اختلف العلماء في الغبطة هل تجوز أم لا ؟ وهي أن يتمنى أن يكون به حال مثل حال صاحبه من دون أن يتمنى زوال ذلك الحال عن صاحبه فذهب الجمهور إلى جواز ذلك واستدلوا بالحديث الصحيح [ لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الله وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ] وقد بوب عليه البخاري باب الاغتباط في العلم والحكم وعموم لفظ الآية يقتضي تحريم تمني ما وقع به التفضيل سواء كان مصحوبا بما يصير به من جنس الحسد أم لا وما ورد في السنة من جواز ذلك في أمور معينة يكون مخصصا لهذا العموم وسيأتي ذكر سبب نزول الآية ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقوله { للرجال نصيب } إلخ فيه تخصيص بعد التعميم ورجوع إلى ما يتضمنه سبب نزول الآية من أن أم سلمة قالت : يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزي ولا نقاتل فنستشهد وإنما لنا نصف الميراث فنزلت أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي وقد روي نحو هذا السبب من طرق بألفاظ مختلفة والمعنى في الآية : أن الله جعل لكل من الفريقين نصيبا على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته وعبر عن ذلك المجعول لكل فريق من فريقي النساء والرجال بالنصيب مما اكتسبوا على طريق الاستعارة التبعية شبه اقتضاء حال كل فريق لنصيبه باكتسابه إياه قال قتادة : للرجال نصيب مما اكتسبوا من الثواب والعقاب وللنساء كذلك وقال ابن عباس : المراد بذلك الميراث والاكتساب على هذا القول بمعنى ما ذكرناه قوله { واسألوا الله من فضله } عطف على قوله { ولا تتمنوا } وتوسيط التعليل بقوله { للرجال نصيب } إلخ بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير ما تضمنه النهي وهذا الأمر يدل على وجوب سؤال الله سبحانه من فضله كما قاله جماعة من أهل العلم (1/692)
قوله 33 - { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } أي : جعلنا لكل إنسان ورثة موالي يلون ميراثه فلكل مفعول ثان قدم على الفعل لتأكيد الشمول وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها : أي ليتبع كل أحد ما قسم الله له من الميراث ولا يتمن ما فضل الله به غيره عليه - وقد قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله بعدها { والذين عقدت أيمانكم } وقيل : العكس كما روى ذلك ابن جرير وذهب الجمهور إلى أن الناسخ لقوله { والذين عقدت أيمانكم } قوله تعالى { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } والموالي جمع مولى وهو يطلق على المعتق والمعتق والناصر وابن العم والجار وقيل : والمراد هنا العصبة : أي ولكل جعلنا عصبة يرثون ما أبقت الفرائض قوله { والذين عقدت أيمانكم } المراد بهم موالي الموالاة : كان الرجل من أهل الجاهلية يعاقد الرجل : أي يحالفه فيستحق من ميراثه نصيبا ثم ثبت في صدر الإسلام بهذه الآية ثم نسخ بقوله { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } وقراءة الجمهور عاقدت وروي عن حمزة أنه قرأ عقدت بتشديد القاف على التكثير : أي والذين عقدت لهم أيمانكم الحلف أو عقدت عهودهم أيمانكم والتقدير على قراءة الجمهور : والذين عاقدتهم أيمانكم فآتوهم نصيبهم : أي ما جعلتموه لهم بعقد الحلف (1/693)
قوله 34 - { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض } هذه الجملة مستأنفة مشتملة على بيان العلة التي استحق بها الرجال الزيادة كأنه قيل : كيف استحق الرجال ما استحقوا مما لم تشاركهم فيه النساء فقال { الرجال قوامون } إلخ والمراد أنهم يقومون بالذب عنهن كما تقوم الحكام والأمراء بالذب عن الرعاية وهم أيضا يقومون ما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن وجاء بصيغة المبالغة في قوله { قوامون } ليدل على أصالتهم في هذا الأمر والباء في قوله { بما فضل الله } للسببية والضمير في قوله { بعضهم على بعض } للرجال والنساء : أي إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل الله للرجال على النساء بما فضلهم به من كون فيهم الخلفاء والسلاطين والحكام والأمراء والغزاة وغير ذلك من الأمور قوله { وبما أنفقوا } أي : وبسبب ما أنفقوا من أموالهم وما مصدرية أو موصولة وكذلك هي في قوله { بما فضل الله } ومن تبعيضية والمراد ما أنفقوه في الإنفاق على النساء وبما دفعوه في مهورهن من أموالهم وكذلك ما ينفقونه في الجهاد وما يلزمهم في العقل
وقد استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على جواز فسخ النكاح إذا عجز الزوج عن نفقة زوجته وكسوتها وبه قال مالك والشافعي وغيرهما قوله { فالصالحات } أي من النساء { قانتات } أي : مطيعات لله قائمات بما يجب عليهن من حقوق الله وحقوق أزواجهن { حافظات للغيب } أي : لما يجب حفظه عند غيبة أزواجهن عنهن من حفظ نفوسهن وحفظ أموالهم وما في قوله { بما حفظ الله } مصدرية : أي بحفظ الله والمعنى : أنهن حافظات لغيب أزواجهن بحفظ الله لهن ومعونته وتسديده أو حافظات له بما استحفظهن من أداء الأمانة إلى أزواجهن على الوجه الذي أمر الله به أو حافظات له بحفظ الله لهن بما أوصى به الأزواج في شأنهن من حسن العشرة ويجوز أن تكون ما موصولة والعائد محذوف وقرأ أبو جعفر { بما حفظ الله } بنصب الاسم الشريف والمعنى بما حفظن الله : أي حفظن أمره أو حفظن دينه فحذف الضمير الراجع إليهن للعلم به وما على هذه القراءة مصدرية أو موصولة كالقراءة الأولى : أي بحفظهن الله أو بالذي حفظن الله به قوله { واللاتي تخافون نشوزهن } هذا خطاب للأزواج قيل : الخوف هنا على بابه وهو حالة تحدث في القلب عند حدوث أمر مكروه أو عند ظن حدوثه وقيل : المراد بالخوف هنا العلم والنشوز : العصيان وقد تقدم بيان أصل معناه في اللغة قال ابن فارس : يقال نشزت المرأة : استعصت على بعلها ونشز بعلها عليها : إذا ضربها وجفاها { فعظوهن } أي : ذكروهن بما أوجبه الله عليهن من الطاعة وحسن العشرة ورغبوهن ورهبوهن { واهجروهن في المضاجع } يقال هجره : أي تباعد منه والمضاجع : جمع مضجع وهو محل الاضطجاع : أي تباعدوا عن مضاجعتهن ولا تدخلوهن تحت ما تجعلونه عليكم حال الاضطجاع من الثياب وقيل : هو أن يوليها ظهره عند الاضطجاع وقيل : هو كناية عن ترك جماعها وقيل : لا تبيت معه في البيت الذي يضطجع فيه { واضربوهن } أي ضربا غير مبرح وظاهر النظم القرآني أنه يجوز للزوج أن يفعل جميع هذه الأمور عند مخافة النشوز وقيل : إنه لا يهجرها إلا بعد عدم تأثير الوعظ فإن أثر الوعظ لم ينتقل إلى الهجر وإن كفاه الهجر لم ينتقل إلى الضرب { فإن أطعنكم } كما يجب وتركن النشوز { فلا تبغوا عليهن سبيلا } أي : لا تتعرضوا لهن بشيء مما يكرهن لا بقول ولا بفعل وقيل المعنى : لا تكلفوهن الحب لكم فإنه لا يدخل تحت اختيارهن { إن الله كان عليا كبيرا } إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب : أي وإن كنتم تقدرون عليهن فاذكروا قدرة الله عليكم فإنها فوق كل قدرة والله بالمرصاد لكم
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } يقول : لا يتمنى الرجل فيقول : ليت أن لي مال فلان وأهله فنهى الله سبحانه عن ذلك ولكن يسأل الله من فضله { للرجال نصيب مما اكتسبوا } يعني : مما ترك الوالدان والأقربون للذكر مثل حظ الأنثيين وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة : أن سبب نزول الآية أن النساء قلن : لو جعل أنصباؤنا في الميراث كأنصباء الرجال ؟ وقال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث وقد تقدم ذكر سبب النزول وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { واسألوا الله من فضله } قال : ليس بعرض الدنيا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير { واسألوا الله من فضله } قال العبادة ليس من أمر الدنيا وأخرج الترمذي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل ] قال الترمذي : كذا رواه حماد بن واقد وليس بالحافظ ورواه أبو نعيم عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي صلى الله عليه و سلم وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح وكذا رواه ابن جرير وابن مردويه ورواه أيضا ابن مردويه من حديث ابن عباس وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس { ولكل جعلنا موالي } قال : ورثة { والذين عقدت أيمانكم } قال : كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه و سلم بينهم فلما نزلت { ولكل جعلنا موالي } نسخت ثم قال { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصى له وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه { ولكل جعلنا موالي } قال : عصبة { والذين عقدت أيمانكم } قال : كان الرجلان أيهما مات ورثه الآخر فأنزل الله { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا } يقول : إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت وهو المعروف وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل يقول : ترثني وأرثك وكان الأحياء يتحالفون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل حلف كان في الجاهلية أو عقد أدركه الإسلام فلا يزيده الإسلام إلا شدة ولا عقد ولا حلف في الإسلام - فنسختها هذه الآية { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } ] وأخرج أبو داود وابن جرير وابن مردويه والبيهقي عنه في الآية قال : كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما الآخر فنسخ ذلك في الأنفال { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن : أن رجلا من الأنصار لطم امرأته فجاءت تلتمس القصاص فجعل النبي صلى الله عليه و سلم بينهما القصاص فنزل { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم ونزل القرآن { الرجال قوامون على النساء } الآية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أردنا أمرا وأراد الله غيره وأخرج ابن مردويه عن علي نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { الرجال قوامون على النساء } يعني : أمراء عليهن أن تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته وطاعته أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله { بما فضل الله } فضله عليها بنفقته وسعيه { فالصالحات قانتات } قال : مطيعات { حافظات للغيب } يعني إذا كن كذا فأحسنوا إليهن وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة { حافظات للغيب } قال : حافظات للغيب بما استودعهن الله من حقه وحافظات لغيب أزواجهن وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : { حافظات للغيب } للأزواج وأخرج ابن جرير عن السدي قال : تحفظ على زوجها ماله وفرجها حتى يرجع كما أمرها الله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس { واللاتي تخافون نشوزهن } قال : تلك المرأة تنشز وتستخف بحق زوجها ولا تطيع أمره فأمره الله أن يعظها ويذكرها بالله ويعظم حقه عليها فإن قبلت وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها وذلك عليها تشديد فإن رجعت وإلا ضربها ضربا غير مبرح ولا يكسر لها عظما ولا يجرح بها جرحا { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } يقول : إذا أطاعتك فلا تتجنى عليها العلل وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { واهجروهن في المضاجع } قال : لا يجامعها وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عنه قال : يهجرها بلسانه ويغلط لها بالقول ولا يدع الجماع وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير عن عكرمة نحوه وأخرج ابن جرير عن عطاء : أنه سأل ابن عباس عن الضرب غير المبرح فقال : بالسواك ونحوه وقد أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص : أنه شهد خطبة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وفيها أنه قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن زمعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ؟ ثم يجامعها في آخر اليوم ] (1/694)
قد تقدم معنى الشقاق في البقرة وأصله أن كل واحد منهم يأخذ شقا غير شق صاحبه : أي ناحية غير ناحيته وأضيف الشقاق إلى الظرف لإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى : { بل مكر الليل والنهار } وقول الشاعر :
( يا سارق الليلة أهل الدار )
والخطاب للأمراء والحكام والضمير في قوله 35 - { بينهما } للزوجين لأنه قد تقدم ذكر ما يدل عليهما وهو ذكر الرجال والنساء { فابعثوا } إلى الزوجين { حكما } يحكم بينهما ممن يصلح لذلك عقلا ودينا وإنصافا وإنما نص الله سبحانه على أن الحكمين يكونان من أهل الزوجين لأنهما أقعد بمعرفة أحوالهما وإذا لم يوجد من أهل الزوجين من يصلح للحكم بينهما كان الحكمان من غيرهم وهذا إذ أشكل أمرهما ولم يتبين من هو المسيء منهما فأما إذا عرف المسيء فإنه يؤخذ لصاحبه الحق منه وعلى الحكمين أن يسعيا في إصلاح ذات البين جهدهما فإن قدرا على ذلك عملا عليه وإن أعياهما إصلاح حالهما ورأيا التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد ولا توكيل بالفرقة من الزوجين وبه قال مالك والأوزاعي وإسحاق وهو مروي عن عثمان وعلي وابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي وحكاه ابن كثير عن الجمهور قالوا : لأن الله قال { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } وهذا نص من الله سبحانه أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان وقال الكوفيون وعطاء وابن زيد والحسن وهو أحد قولي الشافعي : إن التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في البلد لا إليهما ما لم يوكلهما الزوجان أو يأمرهما الإمام والحاكم لأنهما رسولان شاهدان فليس إليهما التفريق ويرشد إلى هذا قوله { إن يريدا } أي الحكمان { إصلاحا } بين الزوجين { يوفق الله بينهما } لاقتصاره على ذكر الإصلاح دون التفريق ومعنى : { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } أي : يوقع الموافقة بين الزوجين حتى يعودا إلى الألفة وحسن العشرة ومعنى الإرادة : خلوص نيتهما لصلاح الحال بين الزوجين وقيل : إن الضمير في قوله { يوفق الله بينهما } للحكمين كما في قوله { إن يريدا إصلاحا } أي : يوفق بين الحكمين في اتحاد كلمتهما وحصول مقصودهما وقيل : كلا الضميرين للزوجين : أي إن يريدا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله بينهما الألفة والوفاق وإذا اختلف الحكمان لم ينفذ حكمهما ولا يلزم قبول قولهما بلا خلاف
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله { وإن خفتم شقاق بينهما } قال : هذا الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله أن تبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا امرأته عنه وقسروه على النفقة وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره الآخر ذلك ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي { إن يريدا إصلاحا } قال : هما الحكمان { يوفق الله بينهما } وكذلك كل مصلح يوفقه للحق والصواب وأخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق في المصنف وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عبيدة السلماني في هذه الآية قال : جاء رجل وامرأة إلى علي ومعهما فئام من الناس فأمرهم علي فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ثم قال للحكمين : تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا قالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي وقال الرجل : أما الفرقة فلا فقال : كذبت والله حتى تقر مثل الذي أقرت به وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين فقيل لنا : إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما والذي بعثهما عثمان وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن قال : إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه فأما الفرقة فليست بأيديهما وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه وأخرج البيهقي عن علي قال : إذا حكم أحد الحكمين ولم يحكم الآخر فليس حكمه بشيء حتى يجتمعا (1/697)
قد تقدم بيان معنى العبادة وشيئا إما مفعول به : أي لا تشركوا به شيئا من الأشياء من غير فرق بين حي وميت وجماد وحيوان وإما مصدر : أي لا تشركوا به شيئا من الإشراك من غير فرق بين الشرك الأكبر والأصغر والواضح والخفي وقوله 36 - { إحسانا } مصدر لفعل محذوف : أي أحسنوا بالوالدين إحسانا وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع وقد دل ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد الأمر بعبادة الله والنهي عن الإشراك به على عظم حقهما ومثله { أن اشكر لي ولوالديك } فأمر سبحانه بأن يشكرا معه قوله { وبذي القربى } أي صاحب القرابة وهو من يصح إطلاق اسم القربى عليه وإن كان بعيدا { واليتامى والمساكين } قد تقدم تفسيرهم والمعنى : وأحسنوا بذي القربى إلى آخر ما هو مذكور في هذه الآية { والجار ذي القربى } أي : القريب جواره وقيل : هو من له مع الجوار في الدار قرب في النسب { والجار الجنب } المجانب وهو مقابل للجار ذي القربى والمراد من يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيدة وفي ذلك دليل على تعميم الجيران بالإحسان إليهم سواء كانت الديار متقاربة أو متباعدة وعلى أن الجوار حرمة مرعية مأمور بها وفيه رد من على يظن أن الجار مختص بالملاصق دون من بينه وبينه حائل أو مختص بالقريب دون البعيد وقيل : إن المراد بالجار الجنب هنا هو الغريب وقيل : هو الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبين المجاور له وقرأ الأعمش والمفضل { والجار الجنب } بفتح الجيم وسكون النون : أي ذي الجنب وهو الناحية وأنشد الأخفش :
( الناس جنب والأمير جنب )
وقيل : المراد بالجار ذي القربى : المسلم وبالجار الجنب : اليهودي والنصراني
وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي يصدق عليه مسمى الجوار ويثبت لصاحبه الحق فروي عن الأوزاعي والحسن أنه إلى حد أربعين دارا من كل ناحية وروي عن الزهري نحوه وقيل : من سمع إقامة الصلاة وقيل : إذا جمعتهما محلة وقيل : من سمع النداء والأولى أن يرجع في معنى الجار إلى الشرع فإن وجد فيه ما يقتضي بيانه وأنه يكون جارا إلى حد كذا من الدور أو من مسافة الأرض كان العمل عليه متعينا وإن لم يوجد رجع إلى معناه لغة أو عرفا ولم يأت في الشرع ما يفيد أن الجار هو الذي بينه وبين جاره مقدار كذا ولا ورد في لغة العرب أيضا ما يفيد ذلك بل المراد بالجار في اللغة : المجاور ويطلق على معان قال في القاموس : والجار والمجرور والذي أجرته من أن يظلم والمجير والمستجير والشريك في التجارة وزوج المرأة وهي جارته وفرج المرأة وما قرب من المنازل والاست كالجارة والقاسم والحليف والناصر انتهى قال القرطبي في تفسيره : وروي [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إني نزلت محلة قوم وإن أقربهم إلي جوارا أشدهم لي أذى فبعث النبي صلى الله عليه و سلم أبا بكر وعمر وعليا يصيحون على أبواب المساجد : ألا إن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ] انتهى ولو ثبت هذا لكان مغنيا عن غيره ولكنه رواه كما ترى من غير عزو له إلى أحد كتب الحديث المعروفة وهو وإن كان إماما في علم الرواية فلا تقوم الحجة بما يرويه بغير سند مذكور ولا نقل عن كتاب مشهور ولا سيما وهو يذكر الواهيات كثيرا كما يفعل في تذكرته وقد ورد في القرآن ما يدل على أن المساكنة في مدينة مجاورة قال الله تعالى { لئن لم ينته المنافقون } إلى قوله { ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا } فجعل اجتماعهم في المدينة جوارا وأما الأعراف في مسمى الجوار فهي تختلف باختلاف أهلها ولا يصح حمل القرآن على أعراف متعارفة واصطلاحات متواضعة قوله { والصاحب بالجنب } قيل : هو الرفيق في السفر قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن أبي ليلى : هو الزوجة وقال ابن جريج : هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك ولا يبعد أن تتناول الآية جميع ما في هذه الأقوال مع زيادة عليها وهو كل من صدق عليه أنه صاحب بالجنب : أي بجنبك كمن يقف بجنبك في تحصيل علم أو تعلم صناعة أو مباشرة تجارة أو نحو ذلك قوله { وابن السبيل } قال مجاهد : هو الذي يجتاز بك مارا والسبيل الطريق فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه فالأولى تفسيره بمن هو على سفر فإن على المقيم أن يحسن إليه وقيل : هو المنقطع به وقيل : هو الضيف قوله { وما ملكت أيمانكم } أي : وأحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم إحسانا وهم العبيد والإماء وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بأنهم يطعمون مما يطعم مالكهم ويلبسون مما يلبس والمختال ذو الخيلاء وهو الكبر والتيه : أي لا يحب من كان متكبرا تائها على الناس مفتخرا عليهم والفخر : المدح للنفس والتطاول وتعديد المناقب وخص هاتين الصفتين لأنهما يحملان صاحبهما على الأنفة مما ندب الله إليه في هذه الآية
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن ابن عباس في قوله { والجار ذي القربى } يعني : الذي بينك وبينه قرابة { والجار الجنب } يعني : الذي ليس بينك وبينه قرابة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن نوف البكالي قال : الجار ذي القربى : المسلم والجار الجنب : اليهودي والنصراني وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله { والصاحب بالجنب } قال : الرفيق في السفر وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير ومجاهد مثله وأخرج الحكيم والترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم { والصاحب بالجنب } قال : هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر وامرأتك التي تضاجعك وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي قال : هو المرأة وأخرج هؤلاء والطبراني عن ابن مسعود مثله وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { وما ملكت أيمانكم } قال : مما خولك الله فأحسن صحبته : كل هذا أوصى الله به وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نحوه وقد ورد مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في بر الوالدين وفي صلة القرابة وفي الإحسان إلى اليتامى وفي الإحسان إلى الجار وفي القيام بما يحتاجه المماليك أحاديث كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة لا حاجة بنا إلى بسطها هنا وهكذا ورد في ذم الكبر والاختيال والفخر ما هو معروف (1/699)
قوله 37 - { الذين يبخلون } هم في محل نصب بدلا من قوله { من كان مختالا } أو على الدم أو في محل رفع على الابتداء والخبر مقدم : أي لهم كذا وكذا من العذاب ويجوز أن يكون مرفوعا بدلا من الضمير المستتر في قوله { مختالا فخورا } ويجوز أن يكون منصوبا على تقدير أعني أو مرفوعا على الخبر والمبتدأ مقدر : أي هم الذين يبخلون والجملة في محل نصب على البدل والبخل المذموم في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله وهؤلاء المذكورون في هذه الآية ضموا إلى ما وقعوا فيه من البخل الذي هو أشر خصال الشر ما هو أقبح منه وأدل على سقوط نفس فاعله وبلوغه في الرذالة إلى غايتها وهو أنهم مع بخلهم بأموالهم وكتمهم لما أنعم الله به عليهم من فضله { يأمرون الناس بالبخل } كأنهم يجدون في صدورهم من جود غيرهم بماله حرجا ومضاضة فلا كثر في عباده من أمثالكم هذه أموالكم قد بخلتم بها لكونكم تظنون انتقاصها بإخراج بعضها في مواضعه فما بالكم بخلتم بأموال غيركم ؟ مع أنه لا يلحقكم في ذلك ضرر وهل هذا إلا غاية اللوم ونهاية الحمق والرقاعة وقبح الطباع وسوء الاختيار وقد تقدم اختلاف القراءات في البخل وقد قيل : إن المراد بهذه الآية اليهود فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله في التوراة وقيل : المراد بها المنافقون ولا يخفى أن اللفظ أوسع من ذلك وأكثر شمولا وأعم فائدة (1/702)
قوله 38 - { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } عطف على قوله { الذين يبخلون } ووجه ذلك أن الأولين قد فرطوا بالبخل وبأمر الناس به وبكتم ما آتاهم الله من فضله وهؤلاء أفرطوا ببذل أموالهم في غير مواضعها لمجرد الرياء والسمعة كما يفعله من يريد أن يتسامع الناس بأنه كريم ويتطاول على غيره بذلك ويشمخ بأنفه عليه مع ما ضم إلى هذا الإنفاق الذي يعود عليه بالضرر من عدم الإيمان بالله وباليوم الآخر قوله { ومن يكن الشيطان له قرينا } في الكلام إضمار والتقدير ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فقرينهم الشيطان { ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا } والقرين المقارن وهو الصاحب والخليل والمعنى : من قبل الشيطان في الدنيا فقد قارنه فيها أو فهو قرينة في النار فساء الشيطان قرينا (1/703)
39 - { وماذا عليهم } أي : على هذه الطوائف { لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله } ابتغاء لوجهه وامتثالا لأمره : أي وماذا يكون عليهم من ضرر لو فعلوا ذلك (1/703)
قوله 40 - { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } المثقال مفعال من الثقل كالمقدار من القدر وهو منتصب على أنه نعت لمفعول محذوف : أي لا يظلم شيئا مثقال ذرة والذرة واحدة الذر وهي النمل الصغار وقيل : رأي النملة وقيل : الذرة الخردلة وقيل : كل جزء من أجزاء الهباء الذي يظهر فيما يدخل من الشمس من كوة أو غيرها ذرة والأول هو المعنى اللغوي الذي يجب حمل القرآن عليه والمراد من الكلام أن الله لا يظلم كثيرا ولا قليلا : أي لا يبخسهم من ثواب أعمالهم ولا يزيد في عقاب ذنوبهم وزن ذرة فضلا عما فوقها قوله : { وإن تك حسنة يضاعفها } قرأ أهل الحجاز { حسنة } بالرفع وقرأ من عداهم بالنصب والمعنى على القراءة الأولى : إن توجد حسنة على أن كان هي التامة لا الناقصة وعلى القراءة الثانية : إن تك فعلته حسنة يضاعفها وقيل إن التقدير : إن تك مثقال الذرة حسنة وأنث ضمير المثقال لكونه مضافا إلى المؤنث والأول أولى وقرأ الحسن { يضاعفها } بالنون وقرأ الباقون بالياء وهي الأرجح لقوله { ويؤت من لدنه أجرا عظيما } وقد تقدم الكلام في المضاعفة والمراد مضاعفة ثواب الحسنة [ (1/703)
قوله 41 - { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } كيف منصوبة بفعل مضمر كما هو رأي سيبويه أو محلها رفع كل على الابتداء كما هو رأي غيره والإشارة بقوله { هؤلاء } إلى الكفار وقيل : إلى كفار قريش خاصة والمعنى : فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ؟ وهذا الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع (1/704)
42 - { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } قرأ نافع وابن عامر { تسوى } بفتح التاء وتشديد السين وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وتخفيف السين وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين والمعنى على القراءة الأولى والثانية : أن الأرض هي التي تسوى بهم : أي أنهم تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها وقيل الباء في قوله { بهم } بمعنى على : أي تسوى عليهم الأرض وعلى القراءة الثالثة الفعل مبني للمفعول : أي لو سوى الله بهم الأرض فيجعلهم والأرض سواء حتى لا يبعثوا قوله { ولا يكتمون الله حديثا } عطف على { يود } أي : يومئذ يود الذين كفروا ويومئذ لا يكتمون الله حديثا ولا يقدرون على ذلك قال الزجاج : قال بعضهم { ولا يكتمون الله حديثا } مستانف لأن ما علمون ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه وقال بعضهم : هو معطوف والمعنى : يودون أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثا لأنه ظهر كذبهم
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان كردم بن يزيد حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالا من الأنصار ينتصحون لهم فيقولون : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون ؟ فأنزل الله فيهم { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } إلى قوله { وكان الله بهم عليما } وقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنها نزلت في اليهود وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد وأخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } قال : رأس نملة حمراء وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { وإن تك حسنة } وزن ذرة زادت على سيئاته { يضاعفها } فأما المشرك فيخفف به عنه العذاب ولا يخرج من النار أبدا وأخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اقرأ علي قلت يا رسول الله : اقرا عليك وعليك أنزل ؟ قال : نعم إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } قال : حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان ] وأخرجه الحاكم وصححه من حديث عمرو بن حريث وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي من ابن عباس في قوله { لو تسوى بهم الأرض } يعني : أن تسوى الأرض بالجبال والأرض عليهم وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية يقول : ودوا لو انخرقت بهم الأرض فساخوا فيها وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ولا يكتمون الله حديثا } قال : بجوارحهم (1/704)
قوله 43 - { يا أيها الذين آمنوا } جعل الخطاب خاصا بالمؤمنين لأنهم كانوا يقربون الصلاة حال السكر وأما الكفار فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى قوله { لا تقربوا } قال أهل اللغة : إذا قيل : لا تقرب بفتح الراء معناه لا تتلبس بالفعل وإذا كان بضم الراء كان معناه : لا تدن منه والمراد هنا : النهي عن التلبس بالصلاة وغشيانها وبه قال جماعة من المفسرين وإليه ذهب أبو حنيفة وقال آخرون : المراد مواضع الصلاة وبه قال الشافعي : وعلى هذا فلا بد من تقدير مضاف ويقوي هذا قوله { ولا جنبا إلا عابري سبيل } وقالت طائفة : المراد الصلاة ومواضعها معا لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين فكانا متلازمين قوله { وأنتم سكارى } الجملة في محل نصب على الحال وسكارى جمع سكران مثل كسالى جمع كسلان وقرأ النخعي سكري بفتح السين وهو تكسير سكران وقرأ الأعمش سكرى كحبلى صفة مفردة وقد ذهب العلماء كافة إلى أن المراد بالسكر هنا سكر الخمر إلا الضحاك فإنه قال : المراد سكر النوم وسيأتي بيان سبب نزول الآية وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه الأقوال قوله { حتى تعلموا ما تقولون } هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر : أي حتى يزول عنكم أثر السكر وتعلموا ما تقولونه فإن السكران لا يعلم ما يقوله وقد تمسك بهذا من قال : إن طلاق السكران لا يقع لانه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة وهو قول الليث بن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزني واختاره الطحاوي وقال : أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز والسكران معتوه كالموسوس وأجازت طائفة وقوع طلاقه وهو محكي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي واختلف قول الشافعي في ذلك وقال مالك : يلزمه الطلاق والقود في الجراح والقتل ولا يلزمه النكاح والبيع قوله { ولا جنبا } عطف على محل الجملة الحالية وهي قوله { وأنتم سكارى } والجنب لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع لأنه ملحق بالمصدر كالبعد والقرب قال الفراء : يقال : جنب الرجل وأجنب من الجنابة وقيل : يجمع الجنب في لغة على أجناب مثل عنق وأعناق وطنب وأطناب وقوله { إلا عابري سبيل } استثناء مفرغ أي : لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل والمراد به هنا السفر ويكون محل هذا الاستثناء المفرغ النصب على الحال من ضمير لا تقربوا بعد تقييده بالحال الثانية وهي قوله { ولا جنبا } لا بالحال الأولى وهي قوله { وأنتم سكارى } فيصير المعنى : لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال السفر فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم وهذا قول علي وابن عباس وابن جبير والحكم وغيرهم قالوا : لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال إلا المسافر فإنه يتيمم لأن الماء قد يعدم في السفر لا في الحضر فإن الغالب أنه لا يعدم وقال ابن مسعود وعكرمة والنخعي وعمرو بن دينار ومالك والشافعي : عابر السبيل هو المجتاز في المسجد وهو مروي عن ابن عباس فيكون معنى الآية على هذا لا تقربوا مواضع الصلاة : وهي المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب وفي القول الأول قوة من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي وضعف من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر وإن معناه : أنه يقرب الصلاة عند عدم الماء بالتيمم فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء كما يكون في المسافر وفي القول الثاني قوة من جهة عدم التكلف في معنى قوله { إلا عابري سبيل } وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها وبالجملة فالحال الأولى أعني قوله
{ وأنتم سكارى } تقوي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف وكذلك ما سيأتي من سبب نزول الآية يقوي ذلك وقوله { إلا عابري سبيل } يقوي تقدير المضاف : أي لا تقربوا مواضع الصلاة ويمكن أن يقال : إن بعض قيود النهي أعني { لا تقربوا } وهو قوله { وأنتم سكارى } يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي وبعض قيود النهي وهو قوله { إلا عابري سبيل } يدل على أنه المراد مواضع الصلاة ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد وهما لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم في المسجد من جانب إلى جانب وغاية ما يقال في هذا أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز بتأويل مشهور وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين : الأولى قول من قال { ولا جنبا إلا عابري سبيل } إلا مجتازي طريق فيه وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } فكان معلوما بذلك : أي أن قوله { ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } لو كان معنيا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله
{ وإن كنتم مرضى أو على سفر } معنى مفهوم وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك فإن كان ذلك كذلك فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل قال : والعابر السبيل المجتاز مرا وقطعا يقال منه : عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا ومنه قيل : عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه ومنه قيل للناقة القوية : هي عبر أسفار لقوتها على قطع الأسفار قال ابن كثير : وهذا الذي نصره يعني ابن جرير هو قول الجمهور وهو الظاهر من الآية انتهى قوله { حتى تغتسلوا } غاية للنهي عن قربان الصلاة أو مواضعها حال الجنابة والمعنى : لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل قوله { وإن كنتم مرضى } المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ وهو على ضربين كثير ويسير والمراد هنا : أن يخاف على نفسه التلف أو الضرر باستعمال الماء أو كان ضعيفا في بدنه لا يقدر على الوصول إلى موضع الماء وروي عن الحسن أنه يتطهر وإن مات وهذا باطل يدفعه قوله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقوله { ولا تقتلوا أنفسكم } وقوله : { يريد الله بكم اليسر } قوله { أو على سفر } فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر والخلاف مبسوط في كتب الفقه وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر وقال قوم : لا بد من ذلك وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر واختلفوا في الحاضر فذهب مالك وأصحابه وأبو حنيفة ومحمد إلى أنه يجوز في الحضر والسفر وقال الشافعي : لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف قوله { أو جاء أحد منكم من الغائط } هو المكان المنخفض والمجيء منه كناية عن الحدث والجمع الغيطان والأغواط وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء الحاجة تسترا عن أعين الناس ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان من المواضع لقضاء الحاجة تسترا عن أعين الناس ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا توسعا ويدخل في الغائط جميع الأحداث الناقضة للوضوء قوله { أو لامستم النساء } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر لامستم وقرأ حمزة والكسائي لمستم قيل : المراد بها بما في القراءتين الجماع وقيل : المراد به مطلق المباشرة وقيل : إنه يجمع الأمرين جميعا وقال محمد بن يزيد المبرد : الأولى في اللغة أن يكون لامستم بمعنى قبلتم ونحوه ولمستم بمعنى : غشيتم
واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال فقالت فرقة : الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع قالوا : والجنب لا سبيل له إلى التيمم بل يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء وقد روي هذا عن عمر بن الخطاب وابن مسعود قال ابن عبد البر : لم يقل بقولهما في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار انتهى وأيضا الأحاديث الصحيحة تدفعه وتبطله كحديث عمار وعمران بن حصين وأبي ذر في تيمم الجنب وقالت طائفة : هو الجماع كما في قوله { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } وقوله { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } وهو مروي عن علي وأبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وطاوس والحسن وعبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة ومقاتل بن حبان وأبي حنيفة وقال مالك : الملامس بالجماع يتيمم والملامس باليد يتيمم إذا التذ فإن لمسها بغير شهوة فلا وضوء وبه قال أحمد وإسحاق وقال الشافعي : إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو غيرها من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا وحكاه القرطبي عن ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة وقال الأوزاعي : إذا كان اللمس باليد نقض الطهر وإن كان بغير اليد لم ينقضه لقوله تعالى { فلمسوه بأيديهم } وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه وليس الأمر كذلك فقد اختلفت الصحابة ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة والكسائي بلفظ { أو لامستم } وهي محتملة بلا شك ولا شبهة ومع الاحتمال فلا تقوم الحجة بالمحتمل وهذا الحكم تعم به البلوى ويثبت به التكليف العام فلا يحل إثباته بمحتمل قد وقع النزاع في مفهومه وإذا عرفت هذا فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من اجتنب ولم يجد الماء فكان الجنب داخلا في الآية بهذا الدليل وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك وأما وجوب الوضوء أو التيمم على من لمس المرأة بيده أو بشيء من بدنه فلا يصح القول به استدلالا بهذه الآية لما عرفت من الاحتمال وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه و سلم أتاه رجل فقال : يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها ؟ وليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها فأنزل الله { أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } أخرجه أحمد والترمذي والنسائي من حديث معاذ قالوا : فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها ولا يخفاك أنه لا دلالة بهذا الحديث على محل النزاع فإن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها الله سبحانه في هذه الآية إذ لا صلاة إلا بوضوء وأيضا فالحديث منقطع لأنه من رواية ابن أبي ليلى عن معاذ ولم يلقه وإذا عرفت هذا فالأصل البراءة عن هذا الحكم فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة وأيضا قد ثبت عن عائشة من طرق أنها قالت : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يتوضأ ثم يقبل ثم يصلي ولا يتوضا ] وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن ماجه وما قيل من أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة ولم يسمع من عروة فقد رواه أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ورواه ابن جرير من حديث ليث عن عطاء عن عائشة ورواه أحمد أيضا وأبو داود والنسائي من حديث أبي روق الهمداني عن إبراهيم التيمي عن عائشة ورواه أيضا ابن جرير من حديث أم سلمة ورواه أيضا من حديث زينب السهمية ولفظ حديث أم سلمة : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقبلها وهو صائم ولا يفطر ولا يحدث وضوءا ] ولفظ حديث زينب السهمية : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ ] ورواه أحمد عن زينب السهمية عن عائشة قوله { فلم تجدوا ماء } هذا القيد إن كان راجعا إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط وهو المراض والسفر والمجيء من الغائط وملامسة النساء كان فيه دليل على أن المرض والسفر بمجردهما لا يسوغان التيمم بل لا بد مع وجود أحد السببين من عدم الماء فلا يجوز للمريض أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء ولا يجوز للمسافر أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء ولكنه يشكل على هذا أن الصحيح كالمريض إذا لم يجد الماء تيمم وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب وإن كان راجعا إلى الصورتين الأخيرتين : أعني قوله { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال وهو أن من صدق عليه اسم المريض أو المسافر جاز له التيمم وإن كان واجدا للماء قادرا على استعماله وقد قيل : إنه رجع هذا القيد إلى الآخرين مع كونه معتبرا في الأولين لندرة وقوعه فيهما وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط وتوجيه بارد وقال مالك ومن تابعه : ذكر الله المرض والسفر في شرط التيمم اعتبارا بالأغلب في من لم يجد الماء بخلاف الحاضر فإن الغالب وجوده فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه انتهى والظاهر أن المرض بمجرده مسوغ للتيمم وإن كان الماء موجودا إذا كان يتضرر باستعماله في الحال أو في المال ولا تعتبر خشية التلف فالله سبحانه يقول { يريد الله بكم اليسر } ويقول { وما جعل عليكم في الدين من حرج } والنبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ الدين يسر ] ويقول : [ يسروا ولا تعسروا ] وقال : [ قتلوه قتلهم الله ] ويقول : [ أمرت بالشريعة السمحة ] فإذا قلنا : إن قيد عدم وجود الماء راجع إلى الجميع كان وجه التنصيص على المرض هو أنه يجوز له التيمم والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضره فيكون اعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا يضره فإن في مجرد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون مظنة لعجزه عن الطلب لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف وأما وجه التنصيص على المسافر فلا شك أن الضرب في الأرض مظنة لإعواز الماء في بعض البقاع دون بعض قوله { فتيمموا } التيمم لغة : القصد يقال : تيممت الشيء : قصدته وتيممت الصعيد : تعمدته وتيممته بسهمي ورمحي : قصدته دون من سواه وأنشد الخليل :
( يممته الرمح شزرا ثم قلت له ... هذي البسالة لا لعب الزحاليق )
وقال امرؤ القيس :
( تيممتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي )
وقال :
( تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها ظامي )
قال ابن السكيت : قوله { فتيمموا } أي : اقصدوا ثم كثر استعمال هذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب وقال ابن الأنباري في قولهم قد تيمم الرجل : معناه قد مسح التراب على وجهه وهذا خلط منهما للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي فإن العرب لا تعرف التيمم بمعنى مسح الوجه واليدين وإنما هو معنى شرعي فقط وظاهر الأمر الوجوب وهو مجمع على ذلك والأحاديث في هذا الباب كثيرة قوله { صعيدا } الصعيد : وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج قال الزجاج : لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة قال الله تعالى { وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا } أي : أرضا غليظة لا تنبت شيئا وقال تعالى { فتصبح صعيدا زلقا } وقال ذو الرمة :
( كأنه بالضحى يرمي الصعيد به ... ونابه في عظام الرأس خرطوم )
وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض وجمع الصعيد صعدات
وقد اختلف أهل العلم فيما يجزئ التيمم به فقال مالك وأبو حنيفة والثوري والطبري : إنه يجزئ بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة وحملوا قوله { طيبا } على الطاهر الذي ليس بنجس وقال الشافعي وأحمد وأصحابهمما : إنه لا يجزئ التيمم إلا بالتراب فقط واستدلوا بقوله تعالى { صعيدا زلقا } أي : ترابا أملس طيبا وكذلك استدلوا بقوله { طيبا } قالوا : والطيب التراب الذي ينبت وقد تنوزع في معنى الطيب فقيل : الطاهر كما تقدم وقيل : المنبت كما هنا وقيل : الحلال والمحتمل لا تقوم به حجة ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب العزيز لكان الحق ما قاله الأولون لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فضلنا الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء ] وفي لفظ [ وجعل ترابها لنا طهورا ] فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية أو مخصص لعمومه أو مقيد لإطلاقه ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل : تيمم الصعيد : أي أخذ من غباره انتهى والحجر الصلد لا غبار له قوله { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } هذا المسح مطلق يتناول المسح بضربة أو ضربتين ويتناول المسح إلى المرفقين وبضربتين وما ورد في المسح إلى المرفقين أو إلى الرسغين وقد بينته السنة بيانا شافيا وقد جمعنا بين ما ورد في المسح بضربة وبضربتين وما ورد في المسح إلى الرسغ وإلى المرفقين في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا بما لا يحتاج فيه إلى غيره قوله { إن الله كان عفوا غفورا } أي : عفا عنكم وغفر لكم تقصيركم ورحمكم بالترخيص لكم والتوسعة عليكم
وقد أخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والضياء في المختارة عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه : أن الذي صلى بهم عبد الرحمن وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في الآية قال : نزلت في أبي بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد صنع لهم علي طعاما وشرابا فأكلوا وشربوا ثم صلى بهم المغرب فقرأ { قل يا أيها الكافرون } حتى ختمها فقال : ليس لي دين وليس لكم دين فنزلت وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والنسائي والبيهقي في سننه عن ابن عباس في هذه الآية قال : نسختها { إنما الخمر والميسر } الآية وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : لم يعن بها الخمر إنما عنى بها سكر النوم وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس { وأنتم سكارى } قال : النعاس وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن علي قوله { ولا جنبا إلا عابري سبيل } قال : نزلت في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي وفي لفظ قال : لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة فلا يجد الماء فيتيمم ويصلي حتى يجد الماء وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس في الآية يقول : لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إذا وجدتم الماء فإن لم تجدوا الماء فقد أحللت أن تمسحوا بالأرض وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : لا يمر الجنب ولا الحائض في المسجد إنما أنزلت { ولا جنبا إلا عابري سبيل } للمسافر يتيمم ثم يصلي وأخرج الدارقطني والطبراني وأبو نعيم في المعرفة وابن مردويه والبيهقي في سننه والضياء في المختارة عن الأسلع بن شريك قال : كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأصابني جنابة في ليلة باردة وأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم الرحلة فكرهت أن أرحل ناقة وأنا جنب وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ثم رضفت أحجار فأسخنت بها ماء فاغتسلت ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه فقال : يا أسلع ما لي أراك راحلتك تغيرت ؟ قلت : يا رسول الله لم أرحلها رحلها رجل من الأنصار قال : ولم ؟ قلت : إني أصابني جنابة فخشيت القر على نفسي فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا } إلى قوله { ولا جنبا إلا عابري سبيل } وأخرج ابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير والطبراني والبيهقي من وجه آخر عن أسلع قال : [ كنت أخدم النبي صلى الله عليه و سلم وأرحل له فقال لي ذات ليلة : يا أسلع قم فارحل لي قلت : يا رسول الله أصابتني جنابة فسكت عني ساعة حتى جاء جبريل بآية الصعيد فقال : قم يا أسلع فتيمم ] الحديث وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس { لا تقربوا الصلاة } قال : المساجد وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق عطاء الخراساني عنه { ولا جنبا إلا عابري سبيل } قال : لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل قال : تمر به مرأ ولا تجلس وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه وأخرج عبد الرزاق والبيهقي في سننه عنه أنه كان يرخص للجنب أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه ثم قرأ قوله { ولا جنبا إلا عابري سبيل } وأخرج البيهقي عن أنس نحوه وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير والبيهقي عن جابر قال : كان أحدنا يمر في المسجد وهو جنب مجتازا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { وإن كنتم مرضى } قال : نزلت في رجل من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ولم يكن له خادم فيناوله فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فأنزل الله هذه الآية وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله { وإن كنتم مرضى } قال : هو الرجل المجدور أو به الجراح أو القرح يجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت فيتيمم وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال : نال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم جراح ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت { وإن كنتم مرضى } الآية وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم والبيهقي من طرق عن ابن مسعود في قوله { أو لامستم النساء } قال : اللمس ما دون الجماع والقبلة منه وفيه الوضوء وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن ابن عمر أنه كان يتوضأ من قبلة المرأة ويقول : هي اللماس وأخرج الدارقطني والبيهقي والحاكم عن عمر قال : إن القبلة من اللمس فتوضأ منها وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن علي قال : اللمس هو الجماع ولكن الله كنى عنه وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر سعيد بن جبير قال : كنا في حجرة ابن عباس ومعنا عطاء بن أبي رباح ونفر من الموالي وعبيد بن عمير ونفر من العرب فتذاكرنا اللماس فقلت أنا وعطاء والموالي : اللمس باليد وقال عبيد بن عمير والعرب : هو الجماع فدخلت على ابن عباس فأخبرته فقال : غلبت الموالي وأصابت العرب ثم قال : إن اللمس والمس والمباشرة إلى الجماع ما هو ولكن الله يكني ما شاء بما شاء وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : إن أطيب الصعيد أرض الحرث (1/705)
قوله 44 - { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } كلام مستانف والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المسلمين والنصيب : الحظ والمراد اليهود أوتوا نصيبا من التوارة وقوله { يشترون } جملة حالية والمراد بالاشتراء الاستبدال وقد تقدم تحقيق معناه والمعنى : أن اليهود استبدلوا الضلالة وهي البقاء على اليهودية بعد وضوح الحجة على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم قوله { ويريدون أن تضلوا السبيل } عطف على قوله { يشترون } مشارك له في بيان سوء صنيعهم وضعف اختيارهم : أي لم يكتفوا بما جنوه على أنفسهم من استبدال الضلالة بالهدى بل أرادوا مع ضلالهم أن يتوصلوا بكتمهم وجحدهم إلى أن تضلوا أنتم أيها المؤمنون السبيل المستقيم الذي هو سبيل الحق (1/715)
45 - { والله أعلم بأعدائكم } أيها المؤمنون وما يريدونه بكم من الإضلال والجملة اعتراضية { وكفى بالله وليا } لكم { وكفى بالله نصيرا } ينصركم في مواطن الحرب فاكتفوا بولايته ونصره ولا تتولوا غيره ولا تستنصروه والباء في قوله { بالله } في الموضعين زائدة (1/716)
قوله 46 - { من الذين هادوا } قال الزجاج : إن جعلت متعلقة بما قبل فلا يوقف على قوله { نصيرا } وإن جعلت منقطعة فيجوز لوقف على { نصيرا } والتقدير : من الذين هادوا قوم يحرفون ثم حذف وهذا مذهب سيبويه ومثله قول الشاعر :
( لو قلت ما في قومها لم أيثم ... يفضلها في حسب وميسم )
قالوا : المعنى : لو قلت ما في قومها أحد يفضلها ثم حذف وقال الفراء : المحذوف لفظ من : أي من الذين هادوا من يحرفون الكلم كقوله { وما منا إلا له مقام معلوم } أي من له ومنه قول ذي الرمة :
( فظلوا ومنهم دمعه سابق له )
أي من دمعه وأنكره المبرد والزجاج لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة وقيل : إن قوله { من الذين هادوا } بيان لقوله { الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } والتحريف : الإمالة والإزالة : أي يميلونه ويزيلونه عن مواضعه ويجعلون مكانه غيره أو المراد أنهم يتأولونه على غير تاويله وذمهم الله عز و جل بذلك لأنهم يفعلونه عنادا وبغيا وتأثيرا لغرض الدنيا قوله { ويقولون سمعنا وعصينا } أي : سمعنا قولك وعصينا أمرك { واسمع غير مسمع } أي : اسمع حال كونك غير مسمع وهو يحتمل أن يكون دعاء على النبي صلى الله عليه و سلم والمعنى : اسمع لا سمعت ويحتمل أن يكون المعنى : اسمع غير مسمع مكروها أو اسمع غير مسمع جوابا وقد تقدم الكلام في راعنا ومعنى { ليا بألسنتهم } أنهم يلوونها عن الحق : أي يميلونها إلى ما في قلوبهم وأصل اللي : الفتل وهو منتصب على المصدر ويجوز أن يكون مفعولا لأجله قوله { وطعنا في الدين } معطوف على ليا : أي يطعنون في الدين بقولهم : لو كان نبيا لعلم أنا نسبه فأطلع الله سبحانه نبيه صلى الله عليه و سلم على ذلك { ولو أنهم قالوا سمعنا } قولك { وأطعنا } أمرك { واسمع } ما نقول { وانظرنا } أي : لو قالوا هذا مكان قولهم راعنا { لكان خيرا لهم } مما قالوه { وأقوم } أي أعدل وأولى من قولهم الأول وهو قولهم { سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا } لما في هذا من المخالفة وسوء الأدب واحتمال الذم في راعنا { ولكن } لم يسلكوا المسلك الحسن ويأتوا بما هو خير لهم وأقوم ولهذا { لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا } أي : إلا إيمانا قليلا وهو الإيمان ببعض الكتب دون بعض وببعض الرسل دون بعض (1/716)
قوله 47 - { يا أيها الذين أوتوا الكتاب } ذكر سبحانه أولا أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب وهنا ذكر أنهم أوتوا الكتاب والمراد أنهم أوتوا نصيبا منه لأنهم لم يعملوا بجميع ما فيه بل حرفوا وبدلوا وقوله { مصدقا } منتصب على الحال والطمس : استئصال أثر الشيء ومنه { فإذا النجوم طمست } يقال : نطمس بكسر الميم وضمها لغتان في المستقبل ويقال : طمس الأثر أي محاه كله ومنه { ربنا اطمس على أموالهم } أي : أهلكها ويقال : هو مطموس البصر ومنه { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } أي أعميناهم
واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة ؟ فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟ فذهب إلى الأول طائفة وذهب إلى الآخر آخرون وعلى الأول فالمراد بقوله { فنردها على أدبارها } نجعلها قفا : أي نذهب بآثار الوجه وتخطيطه حتى يصير على هيئة القفا وقيل : إنه بعد الطمس يردها إلى موضع القفا والقفا إلى مواضعها وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله { فنردها على أدبارها } فإن قيل : كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم ؟ فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين وقال المبرد : الوعيد باق منتظر وقال : لا بد من طمس في اليهود ونسخ قبل يوم القيامة قوله { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه قيل : المراد باللعن هنا المسخ لأجل تشبيهه بلعن أصحاب السبت وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير وقيل : المراد نفس اللعنة وهم ملعونون بكل لسان والمراد وقوع أحد الأمرين : إما الطمس أو اللعن وقد وقع اللعن ولكنه يقوي الأول تشبيه هذا اللعن بلعن أهل السبت قوله { وكان أمر الله مفعولا } أي : كائنا موجودا لا محالة أو يراد بالأمر المأمور والمعنى : أنه متى أراده كان كقوله { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } (1/717)
قوله 48 - { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } هذا الحكم يشمل جميع طوائف الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ولا يختص بكفار أهل الحرب لأن اليهود قالوا : عزير ابن الله وقالت النصارى : المسيخ ابن الله وقالوا : ثالث ثلاثة ولا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء قال ابن جرير : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز و جل إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ما لم تكن كبيرته شركا بالله عز و جل وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ورحمة وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة وقد تقدم قوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود وإذا كلم رسول الله صلى الله عليه و سلم لوى لسانه وقال : أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله فيه { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } الآية وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله { يحرفون الكلم عن مواضعه } يعني : يحرفون حدود الله في التوراة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله { يحرفون الكلم عن مواضعه } قال : تبديل اليهود التوراة { ويقولون سمعنا وعصينا } قالوا : سمعنا ما تقول ولا نطيعك { واسمع غير مسمع } قال : غير مقبول ما تقول { ليا بألسنتهم } قال : خلافا يلووه به ألسنتهم { واسمع وانظرنا } قال : أفهمنا لا تعجل علينا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس في قوله { واسمع غير مسمع } قال : يقولون اسمع لا سمعت وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : [ كلم رسول الله صلى الله عليه و سلم رؤساء من أحبار اليهود : منهم عبد الله بن صوريا وكعب نب أسد فقال لهم :
يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد وأنزل الله فيهم { يا أيها الذين أوتوا الكتاب } الآية ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله { من قبل أن نطمس وجوها } قال : طمسها أن تعمى { فنردها على أدبارها } يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى ونجعل لأحدهم عينين في قفاه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { من قبل أن نطمس وجوها } يقول : عن صراط الحق { فنردها على أدبارها } قال : في الضلالة وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن نحوه وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال : [ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام قال : وما دينه ؟ قال : يصلي ويوحد الله قال : استوهب منه دينه فإن أبى فابتعه منه فطلب الرجل منه ذلك فأبى عليه فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال : وجدته شحيحا على دينه فنزلت { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية ] وأخرج ابن الضريس وأبو يعلى وابن المنذر وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر
قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه و سلم : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقال : [ إني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ] فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر قال : [ لما نزلت { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } الآية قام رجل فقال : والشرك يا نبي الله ؟ فكره ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية ] وأخرج ابن المنذر عن أبي مجلز أن سؤال هذا الرجل هو سبب نزول { إن الله لا يغفر أن يشرك به } وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال في هذه الآية : إن الله حرم المغفرة على من مات وهو كافر وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم من المغفرة وأخرج الترمذي وحسنه عن علي قال : أحب آية إلي القرآن { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية (1/717)
قوله 49 - { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } تعجيب من حالهم وقد اتفق المفسرون على أن المراد اليهود واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم فقال الحسن وقتادة : هو قولهم { نحن أبناء الله وأحباؤه } وقولهم : { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } وقال الضحاك : هو قولهم لا ذنوب لنا ونحن كالأطفال وقيل قولهم : إن آباءهم يشفعون لهم وقيل : ثناء بعضهم على بعض ومعنى التزكية : التطهير والتنزيه فلا يبعد صدقها على جميع هذه التفاسير وعلى غيرها واللفظ يتناول كل من زكى نفسه بحق أو بباطل من اليهود وغيرهم ويدخل في هذا التقلب بالألقاب المتضمنة للتزكية كمحيي الدين وعز الدين ونحوهما قوله { بل الله يزكي من يشاء } أي : ذلك إليه سبحانه فهو العالم بمن يستحق التزكية من عباده ومن لا يستحقها فليدع العباد تزكية أنفسهم ويفوضوا أمر ذلك إلى الله سبحانه فإن تزكيتهم لأنفسهم مجرد دعاوى فاسدة تحمل عليها محبة النفس وطلب العلو والترفع والتفاخر ومثل هذه الآية قوله تعالى { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } قوله { ولا تظلمون } أي هؤلاء المزكون لأنفسهم { فتيلا } وهو الخيط الذي في نواة التمر وقيل : القشرة التي حول النواة وقيل : هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما فهو فتيل بمعنى مفتول والمراد هنا : الكناية عن الشيء الحقير ومثله { ولا يظلمون نقيرا } وهو النكتة التي في ظهر النواة والمعنى : أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم لأنفسهم بقدر هذا الذنب ولا يظلمون بالزيادة على ما يستحقون ويجوز أن يعود الضمير إلى { من يشاء } أي : لا يظلم هؤلاء الذين يزكيهم الله فتيلا مما يستحقونه من الثواب (1/720)
ثم عجب النبي صلى الله عليه و سلم من تزكيتهم لأنفسهم فقال 50 - { انظر كيف يفترون على الله الكذب } في قولهم ذلك والافتراء : الاختلاق ومنه افترى فلان على فلان : أي رماه بما ليس فيه وفريت الشيء : قطعته وفي قوله { وكفى به إثما مبينا } من تعظيم الذنب وتهويله ما لا يخفى (1/720)
قوله 51 - { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } هذا تعجيب من حالهم بعد التعجيب الأول وهم اليهود
واختلف المفسرون في معنى الجبت : فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية الجبت : الساحر بلسان الحبشة والطاغوت : الكاهن وروي عن عمر بن الخطاب أن الجبت : السحر والطاغوت الشيطان وروي عن ابن مسعود أن الجبت والطاغوت ها هنا كعب بن الأشرف وقال قتادة : الجبت : الشيطان والطاغوت : الكاهن وروي عن مالك أن الطاغوت : ما عبد من دون الله والجبت : الشيطان وقيل : هما كل معبود من دون الله أو مطاع في معصية الله وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا سير فيه فأبدلت التاء من السين قاله قطرب وقيل : الجبت : إبليس والطاغوت : أولياؤه قوله { ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } أي : يقول اليهود لكفار قريش : أنتم أهدى من الذين آمنوا بمحمد سبيلا : أي أقوم دينا وأرشد طريقا (1/721)
وقوله 52 - { أولئك } إشارة إلى القائلين { الذين لعنهم الله } أي : طردهم وأبعدهم من رحمته { ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } يدفع عنه ما نزل به من عذاب الله وسخطه (1/721)
قوله 53 - { أم لهم نصيب من الملك } أم منقطعة والاستفهام للإنكار يعني ليس لهم نصيب من الملك { فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } والفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف : أي إن جعل لهم نصيب من الملك على أن معنى أم الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني وقيل : هي عاطفة على محذوف والتقدير : أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من الملك فإذن لا يؤتون الناس نقيرا ؟ والنقير : النقرة في ظهر النواة وقيل : ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض والنقير أيضا : خشبة تنقر وينبذ فيها وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن النقير كما ثبت في الصحيحين وغيرهما والنقير : الأصل يقال : فلان كريم النقير : أي كريم الأصل والمراد هنا : المعنى الأول والمقصود به المبالغة في الحقارة كالقطمير والفتيل وإذن هنا ملغاة غير عاملة لدخول فاء العطف عليها ولو نصب لجاز قال سيبويه : إذن في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء التي تلغى إذ لم يكن الكلام معتمدا عليها فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت (1/721)
قوله 54 - { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } أم منقطعة مفيدة للانتقال عن توبيخهم بأمر إلى توبيخهم بآخر : أي بل يحسدون الناس يعني اليهود يحسدون النبي صلى الله عليه و سلم فقط أو يحسدونه هو وأصحابه على ما آتاهم الله من فضله من النبوة والنصر وقهر الأعداء قوله { فقد آتينا آل إبراهيم } هذا إلزام لليهود بما يعترفون به ولا ينكرونه : أي ليس ما آتينا محمدا وأصحابه من فضلنا ببدع حتى يحسدهم اليهود على ذلك فهم يعلمون بما آتينا آل إبراهيم وهم أسلاف محمد صلى الله عليه و سلم وقد تقدم تفسير الكتاب والحكمة والملك العظيم قيل : هو ملك سليمان (1/721)
واختاره ابن جرير 55 - { فمنهم } أي : اليهود { من آمن به } أي : بالنبي صلى الله عليه و سلم { ومنهم من صد عنه } أي : أعرض عنه وقيل : الضمير في به راجع إلى ما ذكر من حديث آل إبراهيم وقيل : الضمير راجع إلى إبراهيم والمعنى : فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من صد عنه وقيل : الضمير يرجع إلى الكتاب والأول أولى { وكفى بجهنم سعيرا } أي : نارا مسعرة
وقد أخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال : إن اليهود قالوا : إن آباءنا قد توفوا وهم لنا قربة عند الله وسيشفعون لنا ويزكوننا فقال الله لمحمد صلى الله عليه و سلم { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب وكذبوا قال الله : إني لا أظهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له ثم أنزل الله { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أن التزكية قولهم { نحن أبناء الله وأحباؤه } وقالوا : { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ولا يظلمون فتيلا } قال : الفتيل : ما خرج من بين الأصبعين وفي لفظ آخر عنه : هو أن تدلك بين أصبعيك فما خرج منهما فهو ذلك وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عنه قال : النقير : النقرة تكون في النواة التي نبتت منها النخلة والفتيل : الذي يكون على شق النواة والقطمير : القشر الذي يكون على النواة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه : قال : الفتيل الذي في الشق الذي في بطن النواة وأخرج الطبراني والبيهقي في الدلائل عنه قال : قدم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف مكة على قريش فخالفوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا لهم : أنتم أهل العلم القديم وأهل الكتاب فأخبوانا عنا وعن محمد قالوا : ما أنتم وما محمد ؟ قالوا : ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونفك العناة ونسقي الحجيج ونصل الأرحام قالوا : فما محمد ؟ قالوا : صنبور : أي فرد ضعيف قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار فقالوا : لا بل أنتم خير منه وأهدى سبيلا فأنزل الله { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } الآية وأخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة مرسلا وقد روي عن ابن عباس وعن عكرمة بلفظ آخر وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن السدي عن أبي مالك وأخرج نحوه أيضا البيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن عكرمة قال : الجبت والطاغوت صنمان وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمر في تفسير الجبت والطاغوت ما قدمناه عنه وأخرج ابن جبير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الجبت حيي بن أخطب والطاغوت : كعب بن الأشرف وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الجبت : الأصنام والطاغوت : الذي يكون بين يدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الجبت : اسم الشيطان بالحبشية والطاغوت : كهان العرب وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { أم لهم نصيب من الملك } قال : فليس لهم نصيب ولو كان لهم نصيب لم يؤتوا الناس نقيرا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال : النقير : النقطة التي في ظهر النواة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال : قال أهل الكتاب : زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة وليس له أهمية إلا النكاح فأي ملك أفضل من هذا ؟ فأنزل الله هذه الآية { أم يحسدون الناس } إلى قوله { ملكا عظيما } يعني : ملك سليمان وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : الناس في هذا الموضع النبي خاصة وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : هم هذا الحي من العرب (1/722)
قوله 56 - { بآياتنا } الظاهر عدم تخصيص بعض الآيات دون بعض و { سوف } كلمة تذكر للتهديد قاله سيبويه وينوب عنها السين وقد تقدم معنى نصلي في أول السورة والمراد : سوف ندخلهم نارا عظيمة وقرأ حميد بن قيس { نصليهم } بفتح النون قوله { كلما نضجت جلودهم } يقال : نضج الشيء نضجا ونضاجا ونضج اللحم وفلان نضج الرأي : أي محكمه والمعنى : أنها كلما احترقت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها : أي أعطاهم مكان كل جلد محترق جلدا آخر غير محترق فإن ذلك أبلغ في العذاب للشخص لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في الجلد المحترق وقيل المراد بالجلود : السرابيل التي ذكرها في قوله { سرابيلهم من قطران } ولا موجب لترك المعنى الحقيقي ها هنا وإن جاز إطلاق الجلود على السرابيل مجازا كما في قول الشاعر :
( كسا اللوم تيما خضرة في جلودها ... فويل لتيم من سرابيلها الخضر )
وقيل المعنى : أعدنا الجلد الأول جديدا ويأبى ذلك معنى التبديل قوله { ليذوقوا العذاب } أي : ليحصل لهم الذوق الكامل بذلك التبديل وقيل معناه : ليدوم لهم العذاب ولا ينقطع ثم أتبع وصف حال الكفار بوصف حال المؤمنين (1/724)
وقد تقدم تفسير الجنات التي تجري من تحتها الأنهار قوله 57 - { لهم فيها أزواج مطهرة } أي : من الأدناس التي تكون في نساء الدنيا والظل الظليل الكثيف الذي لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم ونحو ذلك وقيل : هو مجموع ظل الأشجار والقصور وقيل : الظل الظليل : هو الدائم الذي لا يزول واشتقاق الصفة من لفظ الموصوف للمبالغة كما يقال : ليل أليل
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله { كلما نضجت جلودهم } قال : إذا احترقت جلودهم بدلناهم جلودا بيضاء أمثال القراطيس وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عنه بسند ضعيف قال : قرئ عند عمر { كلما نضجت جلودهم } الآية فقال معاذ : عندي تفسيرها تبدل في ساعة مائة مرة فقال عمر : هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخرجه أبو نعيم في الحلية وابن مردويه أن القائل كعب وأنه قال : تبدل في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله { ظلا ظليلا } قال : هو ظل العرش الذي لا يزول (1/724)
هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع لأن الظاهر أن الخطاب يشمل جميع الناس في جميع الناس في جميع الامانات وقد روي عن علي وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب أنها خطاب لولاة المسلمين والأول أظهر وورودها على سبب كما سيأتي لا ينافي ما فيها من العموم فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول وتدخل الولاة في هذا الخطاب دخولا أوليا فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات ورد الظلامات وتحري العدل في أحكامهم ويدخل غيرهم من الناس في الخطاب فيجب عليهم رد ما لديهم من الأمانات والتحري في الشهادات والأخبار وممن قال بعموم هذا الخطاب : البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب واختاره جمهور المفسرين ومنهم ابن جرير وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها : الأبرار منهم والفجار كما قال ابن المنذر والأمانات جمع أمانة وهي مصدر بمعنى المفعول قوله 58 - { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } أي : وإن الله يأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل والعدل : هو فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم لا الحكم بالرأي المجرد فإن ذلك ليس من الحق في شيء إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله سبحانه وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم الله ورسوله ولا بما هو أقرب إليهما فهو لا يدري ما هو العدل لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته فضلا عن أن يحكم بها بين عباد الله قوله { نعما } ما موصوفة أو موصولة وقد قدمنا البحث في مثل ذلك
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم لما فتحج مكة وقبض مفاتح الكعبة من عثمان بن طلحة فنزل جبريل عليه السلام برد المفتاح فدعا النبي صلى الله عليه و سلم عثمان بن عفان طلحة ورده إليه وقرأ هذه الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن عساكر عن ابن جريج : أن هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة لما قبض منه صلى الله عليه و سلم مفتاح الكعبة فدعاه ودفعه إليه وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن أبي شيبة عن علي قال : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أد الأمانة لمن ائتمنتك ولا تخن من خانك ] وقد ثبت في الصحيح أن من خان إذا اؤتمن ففيه خصلة من خصال النفاق (1/725)
لما أمر سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق أمر الناس بطاعتهم ها هنا وطاعة الله عز و جل هي امتثال أوامره ونواهيه وطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم هي فيما أمر به ونهى عنه وأولي الأمر : هم الأئمة والسلاطين والقضاة وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الله كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال جابر بن عبد الله ومجاهد : إن أولي الأمر : هم أهل القرآن والعلم وبه قال مالك والضحاك وروي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم وقال ابن كيسان هم أهل العقل والرأي والراجح القول الأول قوله 59 - { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } المنازعة المجاذبة والنزع : الجذب كأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويجذبها والمراد الاختلاف والمجادلة وظاهر قوله { في شيء } يتناول أمور الدين والدنيا ولكنه لما قال { فردوه إلى الله والرسول } تبين به أن الشيء المتنازع فيه يختص بأمور الدين دون أمور الدنيا والرد إلى الله : هو الرد إلى كتابه العزيز والرد إلى الرسول : هو الرد إلى سنته المطهرة بعد موته وأما في حياته فالرد إليه سؤاله هذا معنى الرد إليهما وقيل : معنى الرد أن يقولوا : الله أعلم وهو قول ساقط وتفسير بارد وليس الرد في هذه الآية إلا الرد المذكور في قوله تعالى { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } قوله { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } فيه دليل على أن هذا الرد متحتم على المتنازعين وإنه شأن من يؤمن بالله واليوم الآخر والإشارة بقوله { ذلك } إلى الرد المأمور به { خير } لكم { وأحسن تأويلا } أي : مرجعا من الأول آل يؤول إلى كذا : أي صار إليه والمعنى : أن ذلك الرد خير لكم وأحسن مرجعا ترجعون إليه ويجوز أن يكون المعنى أن الرد أحسن تأويلا من تأويلكم الذي صرتم إليه عند التنازع
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس في قوله { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } قال : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي صلى الله عليه و سلم في سرية وقصته معروفة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عطاء في الآية قال : طاعة الله والرسول اتباع الكتاب والسنة { وأولي الأمر } قال : أولي الفقه والعلم وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال { وأولي الأمر منكم } هم الأمراء وفي لفظ هم أمراء السرايا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله في قوله { وأولي الأمر منكم } قال : أهل العلم وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي العالية نحوه أيضا وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } قال : إلى كتاب الله وسنة رسوله ثم قرأ { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ميمون بن مهران في الآية قال : الرد إلى الله الرد إلى كتابه والرد إلى رسوله ما دام حيا فإذا قبض فإلى سنته وأخرج ابن جرير عن قتادة والسدي مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله { ذلك خير وأحسن تأويلا } يقول : ذلك أحسن ثوابا وخير عاقبة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { وأحسن تأويلا } قال : وأحسن جزاء وقد وردت أحاديث كثيرة في طاعة الأمراء ثابتة في الصحيحين وغيرهما مقيدة بأن يكون ذلك في المعروف وأنه لا طاعة في معصية الله (1/726)
قوله 60 - { ألم تر إلى الذين يزعمون } فيه تعجيب لرسول الله صلى الله عليه و سلم من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله وهو القرآن وما أنزل على من قبله من الأنبياء فجاؤوا بما بنقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها ويوضح انهم ليسوا على شيء من ذلك أصلا وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله وعلى من قبله أن يكفروا به وسيأتي بيان سبب نزول الآية وبه يتضح معناها وقد تقدم تفسير الطاغوت والاختلاف في معناه قوله { ويريد الشيطان } معطوف على قوله { يريدون } والجملتان مسوقتان لبيان محل التعجب كأنه قيل : ماذا يفعلون ؟ فقيل : يريدون كذا ويريد الشيطان كذا وقوله { ضلالا } مصدر للفعل المذكور بحذف الزوائد كقوله { والله أنبتكم من الأرض نباتا } أو مصدر لفعل محذوف دل عليه الفعل المذكور والتقدير : ويريد الشيطان أن يضلهم فيضلون ضلالا (1/728)
61 - { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } والصدود : اسم للمصدر وهو الصد عند الخليل وعند الكوفيين أنهما مصدران : أي يعرضون عنك إعراضا (1/728)
قوله 62 - { فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم } بيان لعاقبة أمرهم وما صار إليه حالهم : أي كيف يكون حالهم { إذا أصابتهم مصيبة } أي وقت إصابتهم فإنهم يعجزون عند ذلك ولا يقدرون على الدفع والمراد { بما قدمت أيديهم } ما فعلوه من المعاصي التي من جملتها التحاكم إلى الطاغوت { ثم جاؤوك } يعتذرون عن فعلهم وهو عطف على { أصابتهم } وقوله { يحلفون } حال : أي جاؤوك حال كونهم حالفين { إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا } أي : ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان لا الإساءة والتوفيق بين الخصمين لا المخالفة لك وقال ابن كيسان : معناه ما أردنا إلا عدلا وحقا مثل قوله { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } (1/728)
فكذبهم الله بقوله 63 - { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } من النفاق والعداوة للحق قال الزجاج : معناه قد علم الله أنهم منافقون { فأعرض عنهم } أي : عن عقابهم وقيل : عن قبول اعتذارهم { وعظهم } أي : خوفهم من النفاق { وقل لهم في أنفسهم } أي : في حق أنفسهم وقيل معناه : قل لهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم { قولا بليغا } أي : بالغا في وعظهم إلى المقصود مؤثرا فيهم وذلك بان توعدهم بسفك دمائهم وسبي نسائهم وسلب أموالهم (1/729)
64 - { وما أرسلنا من رسول } من زائدة للتوكيد { إلا ليطاع } فيما أمر به ونهى عنه { بإذن الله } بعلمه وقيل : بتوفيقه { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك { جاءوك } متوسلين إليك متنصلين عن جناياتهم ومخالفتهم { فاستغفروا الله } لذنوبهم وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعا لهم فاستغفرت لهم وإنما قال { واستغفر لهم الرسول } على طريقة الإلتفات لقصد التفخيم لشأن الرسول صلى الله عليه و سلم { لوجدوا الله توابا رحيما } أي : كثير التوبة عليهم والرحمة لهم (1/729)
قوله 65 - { فلا وربك } قال ابن جرير : قوله { فلا } رد على ما تقدم ذكره تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ثم استأنف القسم بقوله { وربك لا يؤمنون } وقيل : إنه قدم لا على القسم اهتماما بالنفي وإظهارا لقوته ثم كرره بعد القسم تأكيدا وقيل : لا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي والتقدير : فوربك لا يؤمنون كما في قوله : { فلا أقسم بمواقع النجوم } { حتى يحكموك } أي جعلوك حكما بينهم في جميع أمورهم لا يحكمون أحدا غيرك وقيل : معناه يتحاكمون إليك ولا ملجئ لذلك { فيما شجر بينهم } أي اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لاختلاف أغصانه ومنه قول طرفة :
( وهم الحكام أرباب الهدى ... وسعاة الناس في الأمر الشجر )
أي المخلتلف ومنه تشاجر الرماح : أي اختلافها { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت } قيل : هو معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام : أي فتقضي بينهم ثم لا يجدوا والحرج : الضيق وقيل الشك ومنه قيل للشجر الملتف : حرج وحرجة وجمعها حراج وقيل الحرج : الإثم أي لا يجدون في أنفسهم إثما بإنكارهم ما قضيت { ويسلموا تسليما } أي : ينقادوا لأمرك وقضائك انقيادا لا يخالفونه في شيء قال الزجاج : { تسليما } مصدر مؤكد : أي ويسلمون لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا ولا شبهة فيه والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم كما يؤيد ذلك قوله { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وأما بعد موته فتحكيم الكتاب والسنة وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة أو في أحدهما وكان يعقل ما يرد عليه من حجج الكتاب والسنة بأن يكون عالما باللغة العربية وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعاني وبيان عارفا بما يحتاج إليه من علم الأصول بصيرا بالسنة المطهرة مميزا بين الصحيح وما يلحق به والضعيف وما يلحق به منصفا غير متعصب لمذهب من المذاهب ولا لنحلة من النحل ورعا لا يحيف ولا يميل في حكمه فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوة مترجم عنها حاكم بأحكامها وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود وترجف له الأفئدة فإنه أولا أقسم سبحانه بنفسه مؤكدا لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت } فضم إلى التحكيم أمرا آخر هو عدم وجود حرج : أي حرج في صدورهم فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافيا حتى يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان وانئلاج قلب وطيب نفس ثم لم يكتف بهذا كله بل ضم إليه قوله { ويسلموا } أي : يذعنوا وينقادوا ظاهرا وباطنا ثم لم يكتف بذلك بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال : { تسليما } فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ولا يجد الحرج في صدره بما قضي عليه ويسلم لحكم الله وشرعه تسليما لا يخالطه رد ولا تشويه مخالفة
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند قال السيوطي : صحيح عن ابن عباس قال : كان برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله { ألم تر إلى الذين يزعمون } الآية وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : كان الجلاس بن الصامت قبل توبته ومعقب بن قشير ورافع بن زيد كانوا يدعون الإسلام فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية فنزلت الآية المذكورة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } قال : الطاغوت رجل من اليهود كان يقال له : كعب بن الأشرف وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا : بل نحاكمكم إلى كعب فنزلت الآية وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن عبد الله بن الزبير : [ أن الزبير خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه و سلم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في شراج من الحرة وكانا يسقيان به كلاهما النخل فقال الأنصاري : سرح الماء
يمر فأبى عليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك واستوعى رسول الله صلى الله عليه و سلم للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري فلما أحفظ رسول الله الأنصاري استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } ] وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن الأسود : أن سبب نزول الآية أنه اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلان فقضى بينهما فقال المقضي عليه : ردنا إلى عمر فردهما فقتل عمر الذي قال ردنا ونزلت الآية فأهدر النبي صلى الله عليه و سلم دم المقتول وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن مكحول فذكر نحوه وبين أن الذي قتله عمر كان منافقا وهما مرسلان والقصة غريبة وابن لهيعة فيه ضعف (1/729)
66 - { لو } حرف امتناع وأن مصدرية أو تفسيرية لأن { كتبنا } في معنى أمرنا والمعنى : أن الله سبحانه لو كتب القتل والخروج من الديار على هؤلاء الموجودين من اليهود ما فعله إلا القليل منهم أو لو كتب ذلك على المسلمين ما فعله إلا القليل منهم والضمير في قوله { فعلوه } راجع إلى المكتوب الذي دل عليه كتبنا أو إلى القتل والخروج المدلول عليهما بالفعلين وتوحيد الضمير في مثل هذا قد قدمنا وجهه قوله { إلا قليل } قرأه الجمهور بالرفع على البدل وقرأ عبد الله بن عامر وعيسى بن عمر { إلا قليلا } بالنصب على الاستثناء وكذا هو في مصاحف أهل الشام والرفع أجود عند النحاة قوله { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } من اتباع الشرع والانقياد لرسول الله صلى الله عليه و سلم { لكان } ذلك { خيرا لهم } في الدنيا والآخرة { وأشد تثبيتا } لأقدامهم على الحق فلا يضطربون في أمر دينهم (1/732)
67 - { وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما } أي : وقت فعلهم لما يوعظون به (1/732)
68 - { ولهديناهم صراطا مستقيما } لا عوج فيه ليصلوا إلى الخير الذي يناله من امتثل ما أمر به وانقاد لمن يدعوه إلى الحق (1/732)
قوله 69 - { ومن يطع الله والرسول } كلام مستأنف لبيان فضل طاعة الله والرسول والإشارة بقوله { فأولئك } إلى المطيعين كما تفيده من { مع الذين أنعم الله عليهم } بدخول الجنة والوصول إلى ما أعد الله لهم والصديق المبالغ في الصدق كما تفيده الصيغة وقيل : هم فضلاء أتباع الأنبياء والشهداء : من ثبتت لهم الشهادة والصالحين : أهل الأعمال الصالحة والرفيق مأخوذ من الرفق وهو لين الجانب والمراد به المصاحب لارتفاقك بصحبته ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض وهو منتصب على التمييز أو الحال كما قال الأخفش
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } هم يهود كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضا وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سفيان أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي نحوه وقد روي من طرق أن جماعة من الصحابة قالوا : لما نزلت الآية لو فعل ربنا لفعلنا أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن وأخرجه ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله بن الزبير وأخرجه أيضا عن شريح بن عبيد وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والضياء المقدسي في صفة الجنة وحسنه عن عائشة قالت : [ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله : إنك لأحب إلي من نفسي وإنك لأحب إلى من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك وعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه و سلم حتى نزل جبريل بهذه الآية { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم } الآية ] وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس نحوه (1/732)
70 - { ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما } (1/732)
قوله 71 - { يا أيها الذين آمنوا } هذا خطاب لخلص المؤمنين وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله والحذر والحذر لغتان كالمثل والمثل قال الفراء : أكثر الكلام الحذر والحذر مسموع أيضا يقال : خذ حذرك أي إحذر وقيل معنى الآية : الأمر لهم يأخذ السلاح حذرا لأن به الحذر قوله { فانفروا } نفر ينفر بكسر الفاء نفيرا ونفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفورا والمعنى : انهضوا لقتال العدو أو النفير اسم للقوم الذين ينفرون وأصله من النفار والنفور وهو الفزع ومنه قوله تعالى { ولوا على أدبارهم نفورا } أي : نافرين قوله { ثبات } جمع ثبة : أي جماعة والمعنى : انفروا جماعات متفرقات قوله { أو انفروا جميعا } أي : مجتمعين جيشا واحدا ومعنى الآية : الأمر لهم بأن ينفروا على أحد الوصفين ليكون ذلك أشد على عدوهم وليأمنوا من أن يتخطفهم الأعداء إذا نفر كل واحد منهم وحده أو نحو ذلك وقيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى { انفروا خفافا وثقالا } وبقوله { إلا تنفروا يعذبكم } والصحيح أن الآيتين جميعا محكمتان : إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى نفور الجميع والأخرى عند الاكتفاء بنفور البعض دون البعض (1/733)
قوله 72 - { وإن منكم لمن ليبطئن } التبطئة والإبطاء التأخر والمراد : المنافقون كانوا يقعدون عن الخروج ويقعدون غيرهم والمعنى : أن من دخلائكم وجنسكم ومن أظهر إيمانه لكم نفاقا من يبطئ المؤمنين ويثبطهم واللام في قوله { لمن } لام توكيد وفي قوله { ليبطئن } لام جواب القسم ومن في موضع نصب وصلتها الجملة وقرأ مجاهد والنخعي والكلبي { ليبطئن } بالتخفيف { فإن أصابتكم مصيبة } من قتل أو هزيمة أو ذهاب مال قال هذا المنافق : قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم حتى يصيبني ما أصابهم (1/734)
73 - { ولئن أصابكم فضل من } غنيمة أو فتح { ليقولن } هذا المنافق قول نادم حاسد { يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما } قوله { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } جملة معترضة بين الفعل الذي هو ليقولن وبين مفعوله وهو { يا ليتني } وقيل : إن في الكلام تقديما وتأخيرا - وقيل المعنى : ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة : أي : كأن لم يعاقدكم على الجهاد وقيل : هو في موضع نصب على الحال وقرأ الحسن { ليقولن } بضم اللام على معنى من وقرأ ابن كثير وحفص بن عاصم { كأن لم تكن } بالتاء على لفظ المودة قوله { فأفوز } بالنصب على جواب التمني وقرأ الحسن { فأفوز } بالرفع (1/734)
قوله 74 - { فليقاتل في سبيل الله } هذا أمر للمؤمنين وقدم الظرف على الفاعل للاهتمام به { الذين يشترون } معناه يبيعون وهم المؤمنون والفاء في قوله { فليقاتل } جواب الشرط مقدر أي : إن لم يقاتل هؤلاء المذكورون سابقا الموصوفون بين منهم لمن ليبطئن فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم البائعون للحياة الدنيا بالآخرة ثم وعد المقاتلين في سبيل الله بأنه سيؤتيهم أجرا عظيما لا يقادر قدره وذلك أنه إذا قتل فاز بالشهادة التي هي أعلى درجات الأجور وإن غلب وظفر كان له أجر من قاتل في سبيل الله مع ما قد ناله من العلو في الدنيا والغنيمة وظاهر هذا يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما وربما يقال إن التسوية بينهما إنما هي في إيتاء الأجر العظيم ولا يلزم أن يكون أجرهما مستويا فإن كون الشيء عظيما هو من الأمور النسبية التي يكون بعضها عظيما بالنسبة إلى ما هو دونه وحقيرا بالنسبة إلى ما هو فوقه (1/734)
قوله 75 - { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله } خطاب للمؤمنين المأمورين بالقتال على طريق الالتفات قوله { والمستضعفين } مجرور عطفا على الاسم الشريف أي : ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وسبيل المستضعفين حتى تخلصوهم من الأسر وتريحوهم مما هم فيه من الجهد ويجوز أن يكون منصوبا على الاختصاص : أي وأخص المستضعفين فإنهم من أعظم ما يصدق عليه سبيل الله واختار الأول الزجاج والأزهري وقال محمد بن يزيد : أختار أن يكون المعنى وفي المستضعفين فيكون عطفا على السبيل والمراد بالمستضعفين هنا من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال الكفار وهم الذين كان يدعو لهم النبي صلى الله عليه و سلم فيقول : [ اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين ] كما في الصحيح ولا يبعد أن يقال : إن لفظ الآية أوسع والاعتبار بعموم اللفظ لولا تقييده بقوله : { الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها } فإنه يشعر باختصاص ذلك بالمستضعفين الكائنين في مكة لأنه قد أجمع المفسرون على أن المراد بالقرية الظالم أهلها مكة وقوله { من الرجال والنساء والولدان } بيان للمستضعفين (1/735)
قوله 76 - { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله } هذا ترغيب للمؤمنين وتنشيط لهم بأن قتالهم لهذا المقصد لا لغيره { والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت } أي : سبيل الشيطان أو الكهان أو الأصنام وتفسير الطاغوت هنا بالشيطان أولى لقوله { فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا } أي : مكره ومكر من اتبعه من الكفار
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { فانفروا ثبات } قال : عصبا يعني سرايا متفرقين { أو انفروا جميعا } يعني : كلكم وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه قال في سورة النساء { خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا } نسختها { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله { ثبات } أي : فرقا قليلا وأخرج عن قتادة في قوله { أو انفروا جميعا } أي : إذا نفر نبي الله صلى الله عليه و سلم فليس لأحد أن يتخلف عنه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { وإن منكم لمن ليبطئن } إلى قوله { فسوف نؤتيه أجرا عظيما } ما بين ذلك في المنافقين وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان في الآية قال : هو فيما بلغنا عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير { فليقاتل } يعني يقاتل المشركين { في سبيل الله } في طاعة الله { ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل } يعني : يقتله العدو { أو يغلب } يعني : يغلب العدو من المشركين { فسوف نؤتيه أجرا عظيما } يعني : جزاء وافرا في الجنة فجعل القاتل والمقتول من المسلمين في جهاد المشركين شريكين في الأجر وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { في سبيل الله والمستضعفين } قال : وفي المستضعفين وأخرج ابن جرير عن الزهري قال : وسبيل المستضعفين وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه من طريق العوفي قال : المستضعفون أناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها وأخرج البخاري عنه قال : [ أنا وأمي من المستضعفين ] وأخرج ابن جرير عنه قال : القرية الظالم أهلها مكة وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة مثله وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إذا رأيتم الشيطان فلا تخافوه واحملوا عليه { إن كيد الشيطان كان ضعيفا } قال مجاهد : كان الشيطان يتراءى لي في الصلاة فكنت أذكر قول ابن عباس فأحمل عليه فيذهب عني (1/735)
قوله 77 - { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } الآية قيل : هم جماعة من الصحابة أمروا بترك القتال في مكة بعد أن تسرعوا إليه فلما كتب عليهم بالمدينة تثبطوا عن القتال من غير شك في الدين بل خوفا من الموت وفرقا من هول القتل وقيل : إنها نزلت في اليهود وقيل في المنافقين أسلموا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه وهذا أشبه بالسياق لقوله : { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب } وقوله { وإن تصبهم حسنة } الآية ويبعد صدور مثل هذا من الصحابة قوله { كخشية الله } صفة مصدر محذوف : أي خشية كخشية الله أو حال : أي : تخشونهم مشبهين أهل خشية الله والمصدر مضاف إلى المفعول : أي كخشيتهم الله وقوله { أو أشد خشية } معطوف على { كخشية الله } في محل جر أو معطوف على الجار والمجرور جميعا فيكون في محل الحال كالمعطوف عليه أو للتنويع على معنى أن خشية بعضهم كخشية الله وخشية بعضهم أشد منها قوله { وقالوا } عطف على ما يدل عليه قوله { إذا فريق منهم } أي : فلما كتب عليهم القتال فاجأ فريق منهم خشية الناس { وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا } أي : هلا أخرتنا يريدون المهلة إلى وقت آخر قريب من الوقت الذي فرض عليهم فيه القتال فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم فقال { قل متاع الدنيا قليل } سريع الفناء لا يدوم لصاحبه وثواب الآخرة خير لكم من المتاع القليل { لمن اتقى } منكم ورغب في الثواب الدائم { ولا تظلمون فتيلا } أي : شيئا حقيرا يسيرا وقد تقدم تفسير الفتيل قريبا وإذا كنتم توفرون أجوركم ولا تنقصون شيئا منها فكيف ترغبون عن ذلك وتشتغلون بمتاع الدنيا مع قلته وانقطاعه (1/737)
وقوله 78 - { أينما تكونوا يدرككم الموت } كلام مبتدأ وفيه حث لمن قعد عن القتال خشية الموت وبيان لفساد ما خالطه من الجن وخامره من الخشية فإن الموت إذا كان كائنا لا محالة
( فمن لم يمت بالسيف مات بغيره )
والبروج جمع برج : وهو البناء المرتفع والمشيدة : المرفعة من شاد القصر : إذا رفعه وطلاه بالشيد وهو الجص وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه
وقد اختلف في هذه البروج ما هي ؟ فقيل : الحصون التي في الأرض وقيل : هي القصور قال الزجاج والقتيبي : ومعنى مشيدة مطولة وقيل : معناه مطلية بالشيد وهو الجص وقيل : المراد بالبروج بروج في سماء الدنيا مبنية حكاه مكي عن مالك وقال : ألا ترى إلى قوله { والسماء ذات البروج } { جعل في السماء بروجا } { ولقد جعلنا في السماء بروجا } وقيل : إن المراد بالبروج المشيدة هنا قصور من حديد وقرأ طلحة بن سليمان { يدرككم الموت } بالرفع على تقدير الفاء كما في قوله :
( وقال رائدهم أرسوا نزاولها ) (1/737)
قوله 79 - { وإن تصبهم حسنة } هذا وما بعده مختص بالمنافقين : أي إن تصبهم نعمة نسبوها إلى الله تعالى وإن تصبهم بلية ونقمة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فرد الله ذلك عليهم بقوله { قل كل من عند الله } ليس كما تزعمون ثم نسبهم إلى الجهل وعدم الفهم فقال { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } أي : ما بالهم هكذا قوله { ما أصابك من حسنة فمن الله } هذا الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس أو لرسول الله صلى الله عليه و سلم تعريضا لأمته : أي : ما أصابك من خصب ورخاء وصحة وسلامة فمن الله بفضله ورحمته وما أصابك من جهد وبلاء وشدة فمن نفسك بذنب أتيته فعوقبت عليه وقيل : إن هذا من كلام الذين لا يفقهون حديثا : أي فيقولون : ما أصابك من حسنة فمن الله وقيل : إن ألف الاستفهام مضمرة : أي أفمن نفسك ومثله قوله تعالى { وتلك نعمة تمنها علي } والمعنى : أو تلك نعمة ومثله قوله { فلما رأى القمر بازغا قال : هذا ربي } أي : أهذا ربي ومنه قول أبي خراش الهذلي :
( رموني وقالوا يا خويلد لم ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم )
أي : أهم أهم وهذا خلاف الظاهر وقد ورد في الكتاب العزيز ما يفيد مفاد هذه الآية كقوله تعالى { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } وقوله { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } وقد يظن أن قوله { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } مناف لقوله { قل كل من عند الله } ولقوله { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } وقوله { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } وقوله { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } وليس الأمر كذلك فالجمع ممكن كما هو مقرر في مواطنه قوله { وأرسلناك للناس رسولا } فيه البيان لعموم رسالته صلى الله عليه و سلم إلى الجميع كما يفيده التأكيد بالمصدر والعموم في الناس ومثله قوله { وما أرسلناك إلا كافة للناس } وقوله { يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } { وكفى بالله شهيدا } على ذلك (1/738)
قوله 80 - { من يطع الرسول فقد أطاع الله } فيه أن طاعة الرسول طاعة لله وفي هذا من النداء بشرف رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلو شانه وارتفاع مرتبته ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه ووجهه أن الرسول لا يأمر إلا بما أمر الله به ولا ينهى إلا عما نهى الله عنه { ومن تولى } أي أعرض { فما أرسلناك عليهم حفيظا } أي حافظا لأعمالهم إنما عليك البلاغ (1/739)
وقد نسخ هذا بآية السيف 81 - { ويقولون طاعة } بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف : أي أمرنا طاعة أو شأننا طاعة وقرأ الحسن والجحدري ونصر بن عاصم بالنصب على المصدر : أي نطيع طاعة وهذه في المنافقين في قول أكثر المفسرين : أي يقولون إذا كانوا عندك طاعة { فإذا برزوا من عندك } أي : خرجوا من عندك { بيت طائفة منهم } أي : زورت طائفة من هؤلاء القائلين غير الذي تقول لهم أنت وتأمرهم به أو غير الذي تقول لك هي من الطاعة لك وقيل معناه : غيروا وبدلوا وحرفوا قولك فيما عهدت إليهم والتبييت : التبديل ومنه قول الشاعر :
( أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر )
يقال بيت الرجل الأمر : إذا تدبره ليلا ومنه قوله تعالى { إذ يبيتون ما لا يرضى من القول } { والله يكتب ما يبيتون } أي : يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه وقال الزجاج : المعنى ينزله عليك في الكتاب قوله { فأعرض عنهم } أي : دعهم وشأنهم حتى يمكن الانتقام منهم وقيل معناه : لا تخبر بأسمائهم وقيل معناه : لا تعاقبهم ثم أمره بالتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه قيل وهذا منسوخ بآية السيف
وقد أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس : [ أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة ؟ فقال : إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } الآية ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في تفسير الآية نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد : أنها نزلت في اليهود وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله { فلما كتب عليهم القتال إذا فريق } الآية قال : نهى الله هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله { إلى أجل قريب } قال : هو الموت وأخرجا نحوه عن ابن جريج وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة { في بروج مشيدة } قال : في قصور محصنة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : هي قصور في السماء وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سفيان نحوه وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة في قوله { وإن تصبهم حسنة } يقول : نعمة { وإن تصبهم سيئة } قال : مصيبة { قل كل من عند الله } قال : النعم والمصائب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله { وإن تصبهم حسنة } قال : هذه في السراء والضراء وفي قوله { ما أصابك من حسنة } قال : هذه في الحسنات والسيئات وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { قل كل من عند الله } يقول : الحسنة والسيئة من عند الله أما الحسنة فأنعم بها عليك وأما السيئة فابتلاك بها وفي قوله { وما أصابك من سيئة } قال : ما أصابه يوم أحد أن شج وجهه وكسرت رباعيته وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عنه في قوله { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } قال : هذا يوم أحد يقول : ما كانت من نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك وأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد أن ابن عباس كان يقرأ وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك قال مجاهد : وكذلك قراءة أبي وابن مسعود وأخرج نحو قول مجاهد هذا ابن الأنباري في المصاحف وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله { ويقولون طاعة } قال : هم أناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه و سلم آمنا بالله ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم { فإذا برزوا } من عند رسول الله { بيت طائفة منهم } يقول : خالفوا إلى غير ما قالوا عنده فعابهم الله وأخرج ابن جرير عنه قال : غير أولئك ما قاله النبي صلى الله عليه و سلم (1/739)
الهمزة في قوله 82 - { أفلا يتدبرون } للإنكار والفاء للعطف على مقدر : أي أيعرضون عن القرآن فلا يتدبرونه يقال تدبرت الشيء : تفكرت في عاقبته وتأملته ثم استعمل في كل تأمل والتدبير : أن يدبر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته ودلت هذه الآية وقوله تعالى { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } على وجوب التدبر للقرآن ليعرف معناه والمعنى : أنهم لو تدبروه حق تدبره لوجدوه مؤتلفا غير مختلف صحيح المعاني قوي المباني بالغا في البلاغة إلى أعلى درجاتها { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } أي : تفاوتا وتناقضا ولا يدخل في هذا اختلاف مقادير الآيات والسور لأن المراد اختلاف التناقض والتفاوت وعدم المطابقة للواقع وهذا شأن كلام البشر لا سيما إذا طال وتعرض قائله للإخبار بالغيب فإنه لا يوجد منه صحيحا مطابقا للواقع إلا القليل النادر (1/741)
قوله 83 - { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } يقال : أذاع الشيء وأذاع به : إذا أفشاه وأظهره وهؤلاء هم جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئا من أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم أفشوه وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك قوله { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم } وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم أو هم الولاة عليهم { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } أي : يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم والمعنى : أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي صلى الله عليه و سلم هو الذي يذيعها أو يكون أولي الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك لانهم يعلمون ما ينبغي أن يفشى وما ينبغي أن يكتم والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء : إذا استخرجته والنبط : الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر عند حفرها وقيل : إن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين على المسلمين فيذيعونها فتحصل بذلك المفسدة قوله { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا } أي : لولا ما تفضل الله به عليكم من إرسال رسوله وإنزال كتابه لاتبعتم الشيطان فبقيتم على كفركم إلا قليلا منكم أو إلا اتباعا قليلا منكم وقيل المعنى : أذاعوا به إلا قليلا منهم فإنه لم يذع ولم يفش قاله الكسائي والأخفش والفراء وأبو عبيدة وأبو حاتم وابن جرير وقيل المعنى لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلا منهم قاله الزجاج
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } يقول : إن قول الله لا يختلف وهو حق ليس فيه باطل وإن قول الناس يختلف وأخرج عبد بن حميد ومسلم وابن أبي حاتم من طريق ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال : لما اعتزل النبي صلى الله عليه و سلم نساءه دخلت المسجد فوجدت الناس ينكتون بالحصا ويقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه و سلم نساءه فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق نساءه ونزلت هذه الآية { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : هذا في الإخبار إذا غزت سرية من المسلمين أخبر الناس عنها فقالوا : أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم هو يخبرهم به وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك { وإذا جاءهم } قال : هم أهل النفاق وأخرج ابن جرير عن أبي معاذ مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان } قال : فانقطع الكلام وقوله { إلا قليلا } فهو في أول الآية يخبر عن المنافقين : قال { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } يعني : بالقليل المؤمنين (1/741)
الفاء في قوله 84 - { فقاتل } قيل : هي متعلقة بقوله { ومن يقاتل في سبيل الله } إلخ : أي من أجل هذا فقاتل وقيل : متعلقة بقوله { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله } فقاتل وقيل : هي جواب شرط محذوف يدل عليه السياق تقديره : إذا كان الأمر ما ذكر من عدم طاعة المنافقين فقاتل أو إذا أفردوك وتركوك فقاتل قال الزجاج : أمر الله رسوله صلى الله عليه و سلم بالجهاد وإن قاتل وحده لأنه قد ضمن له النصر قال ابن عطية : هذا ظاهر اللفظ إلا أنه لم يجيء في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة فالمعنى والله أعلم : أنه خطاب له في اللفظ وفي المعنى له ولأمته : أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك يقال له { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } أي : لا تكلف غير نفسك ولا تلزم فعل غيرك وهو استئناف مقرر لما قبله لأن اختصاص تكليفه بفعل نفسه من موجبات مباشرته للقتال وحده وقرئ { لا تكلف } بالجزم على النهي وقرئ بالنون قوله { وحرض المؤمنين } أي : حضهم على القتال والجهاد يقال : حرضت فلانا على كذا : إذا أمرته به وحارض فلان على الأمر وأكب عليه وواظب عليه بمعنى واحد قوله { عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } فيه إطماع للمؤمنين بكف بأس الذين كفروا عنهم والاطماع من الله عز و جل واجب فهو وعد منه سبحانه ووعده كائن لا محالة { والله أشد بأسا } أي : أشد صولة وأعظم سلطانا { وأشد تنكيلا } أي : عقوبة يقال : نكلت بالرجل تنكيلا من النكال وهو العذاب والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان (1/743)
85 - { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها } أصل الشفاعة والشفعة ونحوهما من الشفع وهو الزوج ومنه الشفيع لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا ومنه ناقة شفوع : إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة وناقة شفيع : إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها والشفع : ضم واحد إلى واحد والشفعة : ضم ملك الشريك إلى ملكه فالشفاعة : ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع واتصال منفعة إلى المشفوع له والشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة والشفاعة السيئة في المعاصي فمن شفع في الخير لينفع فله نصيب منها أي من أجرها ومن شفع في الشر كمن يسعى بالنميمة والغيبة كان له كفل منها أي نصيب من وزرها والكفل : الوزر والإثم واشتقاقه من الكساء الذي يجعله الراكب على سنام البعير لئلا يسقط يقال اكتفلت البعير : إذا أدركت على سنامه كساء وركبت عليه لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيبا منه ويستعمل في النصيب من الخير والشر ومن استعماله في الخير قوله تعالى { يؤتكم كفلين من رحمته } { وكان الله على كل شيء مقيتا } أي : مقتدرا قاله الكسائي وقال الفراء : المقيت الذي يعطي كل إنسان قوته يقال : قته أقوته قوتا وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت وحكى الكسائي أقات يقيت وقال أبو عبيدة : المقيت الحافظ قال النحاس : وقول أبي عبيدة لأنه مشتق من القوت والقوت معناه : مقدار ما يحفظ الإنسان وقال ابن فارس في المجمل : المقيت المقتدر والمقيت : الحافظ والشاهد وأما قول الشاعر :
( ألي الفضل أم علي إذا حو ... سبت إني على الحساب مقيت )
فقال ابن جرير الطبري إنه من غير هذا المعنى (1/743)
قوله 86 - { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } التحية تفعلة من حييت والأصل تحيية مثل ترضية وتسمية فأدغموا الياء في الياء وأصلها الدعاء بالحياة والتحية : السلام وهذا المعنى هو المراد هنا ومثله قوله تعالى { وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله } وإلى هذا ذهب جماعة المفسرين وروي عن مالك أن المراد بالتحية هنا تشميت العاطس وقال أصحاب أبي حنيفة التحتية هنا الهدية لقوله { أو ردوها } ولا يمكن رد السلام بعينه وهذا فاسد لا ينبغي الالتفات إليه والمراد بقوله { فحيوا بأحسن منها } أن يزيد في الجواب على ما قاله المبتدئ بالتحتية فإذا قال المبتدئ : السلام عليكم قال المجيب : وعليكم السلام ورحمة الله وإذا زاد المبتدئ لفظا زاد المجيب على جملة ما جاء به المبتدئ لفظا أو ألفاظا نحو : وبركاته ومرضاته وتحياته
قال القرطبي : أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها ورده فريضة لقوله { فحيوا بأحسن منها أو ردوها } واختلفوا إذا رد واحد من جماعة هل يجزئ أو لا ؟ فذهب مالك الشافعي إلى الإجزاء وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجزئ عن غيره ويرد عليهم حديث علي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يجزئ من الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم ] أخرجه أبو داود وفي إسناده سعيد بن خالد الخزاعي المدني وليس به بأس وقد ضعفه بعضهم وقد حسن الحديث ابن عبد البر ومعنى قوله { أو ردوها } الاقتصار على مثل اللفظ الذي جاء به المبتدئ فإذا قال السلام عليكم قال المجيب : وعليكم السلام وقد ورد في السنة المطهرة في تعيين من يبتدئ بالسلام ومن يستحق التحية ومن لا يستحقها ما يغني عن البسط ها هنا قوله { إن الله كان على كل شيء حسيبا } يحاسبكم على كل شيء وقيل : معناه حفيظا وقيل : كافيا من قولهم أحسبني كذا : أي كفاني ومثله { حسبك الله } (1/744)
قوله 87 - { الله لا إله إلا هو } مبتدأ وخبر واللام في قوله { ليجمعنكم } جواب قسم محذوف : أي والله ليجمعنكم الله بالحشر إلى يوم القيامة : أي إلى حساب يوم القيامة وقيل : إلى بمعنى في وقيل : إنها زائدة والمعنى : ليجمعنكم يوم القيامة و { يوم القيامة } يوم القيام من القبور { لا ريب فيه } أي : في يوم القيامة أو في الجمع : أي جمعا لا ريب فيه { ومن أصدق من الله حديثا } إنكار لأن يكون أحد أصدق منه سبحانه وقرأ حمزة والكسائي ومن أزدق بالزاي وقرأ الباقون بالصاد والصاد الأصل وقد تبدل زايا لقرب مخرجها منها
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي سنان في قوله { وحرض المؤمنين } قال : عظهم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { من يشفع شفاعة حسنة } الآية قال : شفاعة الناس بعضهم لبعض وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { يكن له نصيب منها } قال : حظ منها وقوله { كفل منها } قال : الكفل هو الإثم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : الكفل الحظ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله { وكان الله على كل شيء مقيتا } قال : حفيظا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن رواحة : أنه سأله رجل عن قول الله { وكان الله على كل شيء مقيتا } قال : يقيت كل إنسان بقدر عمله وفي إسناده رجل مجهول وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { مقيتا } قال : شهيدا وأخرج ابن جرير عنه { مقيتا } قال : شهيدا حسيبا حفيظا وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { مقيتا } قال : قادرا وأخرج ابن جرير عن السدي قال : المقيت القدير وأخرج أيضا عن ابن زيد مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال : المقيت الرزاق وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا ذلك بأن الله يقول { وإذا حييتم بتحية } الآية وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند حسن عن سلمان الفارسي قال : [ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : السلام عليك يا رسول الله فقال : وعليك ورحمة الله ثم أتى آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله فقال : وعليك ورحمة الله وبركاته ثم جاء آخر فقال : السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال له : وعليك فقال له الرجل : يا نبي الله بأبي أنت وأمي أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي ؟ فقال : إنك لم تدع لنا شيئا قال الله : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } فرددناها عليك ] وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة : [ أن رجلا مر على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في مجلس فقال : سلام عليكم فقال : عشر حسنات فمر رجل آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله فقال : عشرون حسنة فمر رجل آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال : ثلاثون حسنة ] وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر مرفوعا نحوه وأخرج البيهقي عن سهل بن حنيف مرفوعا نحوه أيضا وأخرج أحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي عن عمران بن حصين مرفوعا نحوه أيضا وزاد بعد كل مرة أن النبي صلى الله عليه و سلم رد عليه ثم قال : عشر إلى آخره وأخرج أبو داود والبيهقي عن معاذ بن أنس الجهني مرفوعا نحوه وزاد بعد قوله وبركاته : ومغفرته فقال : أربعون يعني حسنة (1/745)
الاستفهام في قوله 88 - { ما لكم } للإنكار واسم الاستفهام مبتدأ وما بعده خبره والمعنى : أي شيء كائن لكم { في المنافقين } أي : في أمرهم وشأنهم حال كونكم { فئتين } في ذلك وحاصله الإنكار على المخاطبين أن يكون لهم شيء يوجب اختلافهم في شأن المنافقين وقد اختلف النحويون في انتصاب فئتين فقال الأخفش والبصريون على الحال كقولك : ما لك قائما وقال الكوفيون انتصابه على أنه خبر لكان وهي مضمرة والتقدير : فما لكم في المنافقين كنتم فئتين وسبب نزول الآية ما سيأتي وبه يتضح المعنى وقوله { والله أركسهم } معناه : ردهم إلى الكفر { بما كسبوا } وحكى الفراء والنضر بن شميل والكسائي أركسهم وركسهم : أي ردهم إلى الكفر ونكسهم فالركس والنكس : قلب الشيء على رأسه أو رد أوله إلى آخره والمنكوس المركوس وفي قراءة عبد الله بن مسعود وأبي { والله أركسهم } ومنه قول عبد الله بن رواحة :
( أركسوا في فئة مظلمة ... كسواد الليل يتلوها فتن )
والباء في قوله { بما كسبوا } سببية : أي أركسهم بسبب كسبهم وهو لحوقهم بدار الكفر والاستفهام في قوله { أتريدون أن تهدوا من أضل الله } للتقريع والتوبيخ وفيه دليل على أن من أضله الله لا تنجع فيه هداية البشر { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } قوله { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } أي : طريقا إلى الهداية (1/747)
قوله 89 - { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } هذا كلام مستأنف يتضمن بيان حال هؤلاء المنافقين وإيضاح أنهم يودون أن يكفر المؤمنون كما كفروا ويتمنوا ذلك عنادا وغلوا في الكفر وتماديا في الضلال فالكاف في قوله { كما } نعت مصدر محذوف : أي كفرا مثل كفرهم أو حال كما روي عن سيبويه قوله { فتكونون سواء } عطف على قوله { تكفرون } داخل في حكمه : أي ودوا كفركم ككفرهم وودوا مساواتكم لهم قوله { فلا تتخذوا منهم أولياء } جواب شرط محذوف : أي إذا كان حالهم ما ذكر فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا ويحققوا إيمانهم بالهجرة { فإن تولوا } عن ذلك { فخذوهم } إذا قدرتم عليهم { واقتلوهم حيث وجدتموهم } في الحل والحرم { ولا تتخذوا منهم وليا } توالونه { ولا نصيرا } تستنصرون به (1/747)
قوله 90 - { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } هو مستثنى من قوله { فخذوهم واقتلوهم } أي : إلا الذين يتصلون ويدخلون في قوم بينكم وبينهم ميثاق بالجوار والحلف فلا تقتلوهم لما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد وميثاق فإن العهد يشملهم هذا أصح ما قيل في معنى الآية وقيل : الاتصال هنا هو اتصال النسب والمعنى : إلا الذين ينتسبون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق قاله أبو عبيدة وقد أنكر ذلك أهل العلم عليه لأن النسب لا يمنع من القتال بالإجماع فقد كان بين المسلمين وبين المشركين أنساب ولم يمنع ذلك من القتال وقد اختلف في هؤلاء القوم الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم ميثاق فقيل : هم قريش كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه و سلم ميثاق { والذين يصلون } إلى قريش هم بنو مدلج وقيل : نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد بمناف كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه و سلم عهد وقل : خزاعة وقيل : بنو بكر بن زيد قوله { أو جاؤوكم حصرت صدورهم } عطف على قوله { يصلون } داخل في حكم الاستثناء : أي إلا الذين يصلون والذين جاءوكم ويجوز أن يكون عطفا على صفة قوم : أي إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق والذين يصلون إلى قوم جاءوكم حصرت صدورهم : أي ضاقت صدورهم عن القتال فأمسكوا عنه والحصر الضيق والانقباض قال الفراء : وهو أي حصرت صدورهم حال من المضمر المرفوع في جاءوكم كما تقول : جاء فلان ذهب عقله أي : قد ذهب عقله وقال الزجاج : هو خبر بعد خبر أي جاءوكم ثم أخبر فقال { حصرت صدورهم } فعلى هذا يكون حصرت بدلا من جاءوكم وقيل : حصرت في موضع خفض على النعت لقوم وقيل التقدير : أو جاءوكم رجال أو قوم حصرت صدورهم وقرأ الحسن { أو جاؤوكم حصرت صدورهم } نصبا على الحال وقرئ حصرات وحاصرات وقال محمد بن يزيد المبرد : حصرت صدورهم هو دعاء عليهم كما تقول : لعن الله الكافر وضعفه بعض المفسرين وقيل : أو بمعنى الواو وقوله { أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم } هو متعلق بقوله { حصرت صدورهم } أي : حصرت صدورهم عن قتالكم والقتال معكم لقومهم فضاقت صدورهم عن قتال الطائفتين وكرهوا ذلك { ولو شاء الله لسلطهم عليكم } ابتلاء منه لكم واختبارا كما قال سبحانه { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } أو تمحيصا لكم أو عقوبة بذنوبكم ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك واللام في قوله { فلقاتلوكم } جواب لو على تكرير الجواب : أي لو شاء الله لسلطهم ولقاتلوكم والفاء للتعقيب { فإن اعتزلوكم } ولم يتعرضوا لقتالكم { وألقوا إليكم السلم } أي : استسلموا لكم وانقادوا { فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } أي : طريقا فلا يحل لكم قتلهم ولا أسرهم ولا نهب أموالهم فهذا الاستسلام يمنع من ذلك ويحرمه (1/748)
91 - { ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم } فيظهرون لكم الإسلام ويظهرون لقومهم الكفر ليأمنوا من كلا الطائفتين وهم قوم من أهل تهامة طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله عليه و سلم ليأمنوا عنده وعند قومهم وقيل : هي في قوم من أهل مكة وقيل : في نعيم بن مسعود فإنه كان يأمن المسلمين والمشركين وقيل : في قوم من المنافقين وقيل : في أسد وغطفان { كل ما ردوا إلى الفتنة } أي دعاهم قومهم إليها وطلبوا منهم قتال المسلمين { أركسوا فيها } أي : قلبوا فيها فرجعوا إلى قومهم وقاتلوا المسلمين ومعنى الارتكاس الانتكاس { فإن لم يعتزلوكم } يعني : هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم { ويلقوا إليكم السلم } أي : يستسلمون لكم ويدخلون في عهدكم وصلحكم وينسلخون عن قومهم { ويكفوا أيديهم } عن قتالكم { فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم } أي : حيث وجدتموهم وتمكنتم منهم { وأولئكم } الموصوفون بتلك الصفات { جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا } أي : حجة واضحة تتسلطون بها عليهم وتقهرونهم بها بسبب ما في قلوبهم من المرض وما في صدورهم من الدغل وارتكاسهم في الفتنة بأيسر عمل وأقل سعي
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث زيد بن ثابت [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم فرقتين فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول لا فأنزل الله { فما لكم في المنافقين فئتين } الآية كلها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة ] هذا أصح ماروي في سبب نزول الآية وقد رويت أسباب غير ذلك وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { والله أركسهم } يقول : أوقعهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : ردهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } قال : نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن مالك المدلجي وفي بني خزيمة بن عامر بن عبد مناف وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عنه في قوله { إلا الذين يصلون } الآية قال : نسختها براءة { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي { حصرت صدورهم } يقول : ضاقت صدورهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع { وألقوا إليكم السلم } قال : الصلح وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { فإن اعتزلوكم } الآية قال : نسختها { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وأخرج ابن جرير عن الحسن وعكرمة في هذه الآية قال : نسختها براءة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { ستجدون آخرين } الآية قال : ناس من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه و سلم فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قومهم فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا ها هنا وها هنا فامر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصالحوا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنهم ناس كانوا بتهامة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في نعيم بن مسعود (1/749)
قوله 92 - { وما كان لمؤمن } هذا النفي هو بمعنى النهي المقتضي للتحريم كقوله { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } ولو كان هذا النفي على معناه لكان خبرا وهو يستلزم صدقه فلا يوجد مؤمن قتل مؤمنا قط وقيل : المعنى ما كان له ذلك في عهد الله وقيل : ما كان له ذلك فيما سلف كما ليس له الآين ذلك بوجه ثم استثنى منه استثناء منقطعا فقال : إلا خطأ أي ما كان له أن يقتله البتة لكن إن قتله خطا فعليه كذا هذا قول سيبويه والزجاج وقيل : هو استثناء متصل والمعنى : وما ثبت ولا وجد ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إذ هو مغلوب حيئذ وقيل المعنى : ولا خطأ قال النحاس : ولا يعرف ذلك في كلام العرب ولا يصح في المعنى لان الخطأ لا يحظر وقيل إن المعنى : ما ينبغي أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده فيكون قوله : خطأ منتصبا بانه مفعول له ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف : أي : إلا قتلا خطأ ووجوه الخطأ كثيرة ويضبطها عدم القصد والخطأ الاسم من أخطأ إذا لم يعتمد قوله { فتحرير رقبة مؤمنة } أي : فعليه تحرير رقبة مؤمنة يعتقها كفارة عن قتل الخطأ وعبر بالرقبة عن جميع الذات
واختلف العلماء في تفسير الرقبة المؤمنة فقيل : هي التي صلت وعقلت الإيمان فلا تجزئ الصغيرة وبه قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم وقال عطاء بن أبي رباح : إنها تجزئ الصغيرة المولودة بين المسلمين وقال جماعة منهم مالك والشافعي : يجزئ كل من حكم له بوجوب الصلاة عليه إن مات ولا يجزئ في قول جمهور العلماء أعمى ولا مقعد ولا أشل ويجزئ عند الأكثر الأعرج والأعور قال مالك إلا أن يكون عرجا شديدا ولا يجزئ عند أكثرهم المجنون وفي المقام تفاصيل طويلة مذكورة في علم الفروع قوله { ودية مسلمة إلى أهله } الدية : ما تعطى عوضا عن دم المقتول إلى ورثته والمسلمة : المدفوعة المؤداة والأهل المراد بهم الورثة وأجناس الدية وتفاصيلها قد بينتها السنة المطهرة قوله { إلا أن يصدقوا } أي : إلا أن يتصدق أهل المقتول على القاتل بالدية سمي العفو عنها صدقة ترغيبا فيه وقرأ أبي : إلا يتصدقوا وهذه الجملة المستثناة متعلقة بقوله { فدية مسلمة } أي : فعليه دية مسلمة إلا أن يقع العفو من الورثة عنها قوله { فإن كان من قوم عدو لكم } أي : فإن كان المقتول من قوم عدو لكم وهم الكفار الحربيون وهذه مسألة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم ثم أسلم ولم يهاجر وهم يظنون أنه لم يسلم وأنه باق على دين قومه فلا دية على قاتله بل عليه تحرير رقبة مؤمنة واختلفوا في وجه سقوط الدية فقيل : وجهه أن أولياء القتيل كفار لا حق لهم في الدية وقيل : وجهه أن هذا الذي آمن ولم يهاجر حرمته قليلة لقول الله تعالى { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء } وقال بعض أهل العلم : إن ديته واجبة لبيت المال قوله { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } أي : مؤقت أو مؤيد وقرأ الحسن { وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله } أي : فعلى قاتله دية مؤداة إلى أهله من أهل الإسلام وهم ورثته { وتحرير رقبة مؤمنة } كما تقدم { فمن لم يجد } أي الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها { فصيام شهرين متتابعين } أي فعليه صيام شهرين متتابعين لم يفصل بين يومين من أيام صومهما إفطار في نهار فلو أفطر استأنف هذا قول الجمهور وأما الإفطار لعذر شرعي كالحيض ونحوه فلا يوجب الاستئناف واختلف في الإفطار لعرض المرض قوله { توبة من الله } منصوب على أنه مفعول له : أي شرع ذلك لكل توبة أي : قبولا لتوبتكم أو منصوب على المصدرية : أي تاب عليكم توبة وقيل منصوب على الحال : أي حال كونه ذا توبة كائنة من الله (1/751)
قوله 93 - { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } لما بين سبحانه حكم القاتل خطأ بين حكم القاتل عمدا
وقد اختلف العلماء في معنى العمد فقال عطاء والنخعي وغيرهما : هو القتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المحدد أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها وقال الجمهور : إنه كل قتل من قاتل قاصد للفعل بحديدة أو بحجر أو بعصى أو بغير ذلك وقيده بعض أهل العلم بأن يكون بما يقتل مثله في العادة وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام : عمد وشبه عمد وخطأ واستدلوا على ذلك بأدلة ليس هذا مقام بسطها وذهب آخرون إلى أنه ينقسم إلى قسمين : عمد وخطأ ولا ثالث لهما واستدلوا بأنه ليس في القرآن إلا القسمان ويجاب عن ذلك بأن اقتصار القرآن على القسمين لا ينفي ثبوت قسم ثالث بالسنة وقد ثبت ذلك في السنة وقد جاءت هذه الآية بتغليظ عقوبة القاتل عمدا فجمع الله له فيها بين كون جهنم جزاء له : أي يستحقها بسبب هذا الذنب وبين كونه خالدا فيها وبين غضب الله عليه ولعنته له وإعداده له عذابا عظيما وليس وراء هذا التشديد تشديد ولا مثل هذا الوعيد وعيد وانتصاب خالدا على الحال وقوله { وغضب الله عليه } معطوف على مقدر يدل عليه السياق : أي جعل جزاءه جهنم او حكم عليه أو جازاه وغضب عليه وأعد له
وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له ؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال : اختلف فيها علماء أهل الكوفة فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } وهي آخر ما نزل وما نسختها شيء وقد روى النسائي عنه نحو هذا وروى النسائي عن زيد بن ثابت نحوه وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة وعبد الله بن عمرو وأبو سلمة وعبيد بن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم نقله ابن أبي حاتم عنهم وذهب الجمهور إلى أن التوبة منه مقبولة واستدلوا بمثل قوله تعالى { إن الحسنات يذهبن السيئات } وقوله { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } وقوله { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } قالوا أيضا : والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية الفرقان فيكون معناهما : فجزاؤه جهنم إلا من تاب لا سيما وقد اتحد السبب وهو القتل والموجب وهو التوعد بالعقاب واستدلوا أيضا بالحديث المذكور في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه و سلم : [ قال بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ثم قال : فمن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عذبه ] وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره في الذي قتل مائة نفس وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه والشافعي إلى أن القاتل عمدا داخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب وقد أوضحت في شرحي على المنتقى متمسك كل فريق
والحق أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله ويقبل من صاحبه الخروج منه والدخول في باب التوبة فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمدا لكن لا بد في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل وتسليم نفسه للقصاص إن كان واجبا أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجبا وكان القاتل غنيا متمكنا من تسليمها أو بعضها وأما مجرد التوبة من القاتل عمدا وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد من دون اعتراف ولا تسليم نفس فنحن لا يقطع بقبولها والله أرحم الراحمين هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } يقول : ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه من عهد الله الذي عهد إليه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { وما كان لمؤمن } الآية قال : إن عياش بن أبي ربيعة قتل رجلا مؤمنا كان يعذبه هو وأبو جهل وهو أخوه لأمه في اتباع النبي صلى الله عليه و سلم وعياش يحسب أن ذلك الرجل كافر وأوضح من هذا السياق ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال : كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل ثم خرج مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه و سلم يعني الحارث فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فنزلت { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } الآية فقرأها النبي صلى الله عليه و سلم عليه ثم قال له : قم فحرر وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي بأطول من هذا وقد روي من طرق غير هذه وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية فعدل ابو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له فوجد رجلا من القوم في غنم فحمل عليه بالسيف فقال : لا إله إلا الله فضربه وأخرج ابن منذه وأبو نعيم نحو ذلك ولكن فيه أن الذي قتل المتعوذ بكلمة الشهادة هو بكر بن حارثة الجهني وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { فتحرير رقبة مؤمنة } قال : يعني بالمؤمنة من قد عقل الإيمان وصلى وكل رقبة في القرآن لم تسم مؤمنة فإنه يجوز المولود فما فوقه ممن ليس به زمانة وفي قوله { ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } قال : عليه الدية مسلمة إلا أن يتصدق بها عليه وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال : في حرف أبي فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزئ فيها صبي وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والبيهقي عن أبي هريرة [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم بجارية سوداء فقال : يا رسول الله إن علي عتق رقبة مؤمنة فقال لها : أين الله ؟ فأشارت إلى السماء بأصبعها فقال لها : فمن أنا ؟ فأشارت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وإلى السماء : أي أنت رسول الله فقال أعتقها فإنها مؤمنة ] وقد روي من طرق وهو في صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي وقد وردت أحاديث في تقدير الدية وفي الفرق بين دية الخطأ ودية شبه العمد ودية المسلم ودية الكافر وهي معروفة فلا حاجة لنا في ذكرها في هذا الموضع وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن إبراهيم النخعي في قوله { ودية مسلمة إلى أهله } قال : هذا المسلم الذي ورثته مسلمون { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن } قال : هذا الرجل المسلم وقومه مشركون وليس بينهم وبين رسول الله عقد { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } قال : هذا الرجل المسلم وقومه مشركون وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم عقد فيقتل فيكون ميراثه للمسلمين وتكون ديته لقومه لأنهم يعقلون عنه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن } يقول : فإن كان في أهل الحرب وهو مؤمن فقتله خطأ فعلى قاتله أن يكفر بتحرير رقبة مؤمنة أو صيام شهرين متتابعين ولا دية عليه وفي قوله { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } يقول : إذا كان كافرا في ذمتكم فقتل فعلى قاتله الدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من طريق عطاء بن السائب عن أبي عياش قال : كان الرجل يجيء فيسلم ثم يأتي قومه وهم مشركون فيقيم فيهم فتعزوهم جيوش النبي صلى الله عليه و سلم فيقتل الرجل فيمن يقتل فأنزل الله هذه الآية { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } وليس له دية وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طريق عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { توبة من الله } يعني : تجاوزا من الله لهذه الأمة حيث جعل في قتل الخطا الكفارة وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة : أن رجلا من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة فاعطاه النبي صلى الله عليه و سلم الدية فقبلها ثم وثب على قاتل أخيه وفيه نزلت الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه وفيه أن مقيس بن صبابة لحق بمكة بعد ذلك وارتد عن الإسلام وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } بعد التي في سورة الفرقان بثمان سنين وهي قوله { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } إلى قوله : { غفورا رحيما } وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن زيد بن ثابت أن قوله { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } نزلت بعد قوله { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } بستة أشهر وأخرج ابن المنذر عنه قال : نزلت هذه الآية التي في النساء بعد قوله { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } بأربعة أشهر والآثار عن الصحابة في هذا كثيرة جدا والحق ما عرفناك (1/752)
هذا متصل بذكر الجهاد والقتال والضرب : السير في الأرض تقول العرب ضربت في الأرض : إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيرهما وتقول : ضربت الأرض بدون في : إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان ومنه قوله صلى الله عليه و سلم : [ لا يخرج رجلان يضربان الغائط ] قوله { فتبينوا } من التبين وهو التأمل وهي قراءة الجماعة إلا حمزة فإنه قرأ فتثبتوا من التثبت واختار القراءة الاولى أبو عبيدة وأبو حاتم قالا : لان من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبت وإنما خص السفر بالأمر بالتبين مع أن التبين والتثبت في أمر القتل واجبان حضرا وسفرا بلا خلاف لأن الحادثة التي هي سبب نزول الآية كانت في السفر كما سيأتي قوله { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام } وقرئ { السلام } ومعناهما واحد واختار أبو عبيدة السلام وخالفه أهل النظر فقالوا السلم هنا أشبه لانه بمعنى الانقياد والتسليم والمراد هنا : لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لست مؤمنا فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام وقيل : هما بمعنى الإسلام : أي : لا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام : أي كلمته وهي الشهادة لست مؤمنا وقيل : هما بمعنى التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام : أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم فقال السلام عليكم : لست مؤمنا والمراد نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه ويقولوا : إنه إنما جاء بذلك تعوذا وتقية وقرأ أبو جعفر { لست مؤمنا } من أمنه : إذا أجرته فهو مؤمن
وقد استدل بهذه الآية على أن من قتل كافرا بعد أن قال لا إله إلا الله قتل به لأنه قد عصم بهذه الكلمة دمه وماله وأهله وإنما سقط القتل عمن وقع منه ذلك في زمن النبي صلى الله عليه و سلم لأنهم تاولوا وظنوا أن من قالها خوفا من السلاح لا يكون مسلما ولا يصير بها دمه معصوما وأنه لا بد من أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف وفي حكم التكلم بكلمة الإسلام إظهار الانقياد بأن يقول : أنا مسلم أو أنا على دينكم لما عرفت من أن معنى الآية الاستسلام والانقياد وهو يحصل بكل ما يشعر بالإسلام من قول أو فعل ومن جملة ذلك كلمة الشهادة وكلمة التسليم فالقولان الآخران في معنى الآية داخلان تحت القول الأول قوله { تبتغون عرض الحياة الدنيا } الجملة في محل نصب على الحال : أي لا تقولوا تلك المقالة طالبين الغنيمة على أن يكون النهي راجعا إلى القيد والمقيد لا إلى القيد فقط وسمي متاع الدنيا عرضا لأنه عارض زائل غير ثابت قال أبو عبيدة : يقال : جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء وأما العرض بسكون الراء فهو ما سوى الدنانير والدراهم فكل عرض بالسكون عرض بالفتح وليس كل عرض بالفتح عرضا بالسكون وفي كتاب العين : العرض ما نيل من الدنيا ومنه قوله تعالى { تريدون عرض الدنيا } وجمعه عروض وفي المجمل لابن فارس : والعرض ما يعترض للإنسان من مرض ونحوه وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل أو أكثر والعرض من الأثاث ما كان غير نقد قوله { فعند الله مغانم كثيرة } هو تعليل للنهي : أي عند الله مما هو حلال لكم من دون ارتكاب محظور مغانم كثيرة تغتنمونها وتستغنون بها عن قتل من قد استسلم وانقاد واغتنام ماله { كذلك كنتم من قبل } أي : كنتم كفارا فحقنت دماؤكم لما تكلمتم بكلمة الشهادة أو كذلك كنتم من قبل تخفون إيمانكم عن قومكم خوفا على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز دينه فأظهرتم الإيمان وأعلنتم به وكرر الأمر بالتبين للتأكد عليهم لكونه واجبا لا فسحة فيه ولا رخصة
وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : لحق ناس من المسلمين رجلا معه غنيمة له فقال السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمة فنزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } الآية وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا : ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا فعدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله } وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم والبيهقي عن عبد الله بن أبي حدود الأسلمي قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى إضم فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحرث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له معه متيع ووطب من لبن فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه فقتله وأخذ بعيره ومتيعه فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } الآية وفي لفظ عند ابن إسحاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من حديث أبي حدرد هذا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لمحلم : أقتلته بعدما قال آمنت بالله ؟ فنزل القرآن وأخرج ابن جرير من حديث ابن عمر أن محلما جلس بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم ليستغفر له فقال : لا غفر الله لك فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه فما مضت به ساعة حتى مات ودفنوه فلفظته الأرض فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذكروا ذلك له فقال : إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ولكن الله أراد أن يعظكم ثم طرحوه في جبل وألقوا عليه الحجارة فنزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم } الآية وأخرج البزار والدارقطني في الإفراد والطبراني والضياء في المختارة عن ابن عباس أن سبب نزول الآية : أن المقداد بن الأسود قتل رجلا بعد ما قال : لا إله إلا الله وفي سبب النزول روايات كثيرة وهذا الذي ذكرناه أحسنها وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { كذلك كنتم من قبل } قال : تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه : يعني الذين قتلوه بعد أن ألقى إليهم السلام وفي لفظ تكتمون إيمانكم من المشركين { فمن الله عليكم } فأظهر الإسلام فأعلنتم إيمانكم { فتبينوا } قال : وعيد من الله ثان وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله { كذلك كنتم من قبل } قال : كنتم كفارا حتى من الله عليكم بالسلام وهداكم له (1/756)
التفاوت بين درجات من قعد عن الجهاد من غير عذر ودرجات من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه وإن كان معلوما لكن أراد سبحانه بهذا الإخبار تنشيط المجاهدين ليرغبوا وتبكيت القاعدين ليأنفوا قوله 95 - { غير أولي الضرر } قرأ أهل الكوفة وأبو عمرو بالرفع على أنه وصف للقاعدين كما قال الأخفش لأنهم لا يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير وقرأ أبو حيوة بكسر الراء على أنه وصف للمؤمنين وقرأ أهل الحرمين بفتح الراء على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين : أي إلا أولي الضرر فإنهم يستوون مع المجاهدين ويجوز أن يكون منتصبا على الحال من القاعدين : أي لا يستوي القاعدون الأصحاء في حال صحتهم وجازت الحال منهم لان لفظهم لفظ المعرفة قال العلماء : أهل الضرر هم أهل الأعذار لأنها أضرت بهم حتى منعتهم عن الجهاد وظاهر النظم القرآني أن صاحب العذر يعطى مثل أجر المجاهد - وقيل : يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله المجاهد بالتضعيف لأجل المباشرة قال القرطبي : والأول أصح إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك [ إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر ] قال : وفي هذا المعنى ما ورد في الخبر [ إذا مرض العبد قال الله تعالى : اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إلي ] قوله { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } هذا بيان لما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم الاستواء إجمالا والمراد هنا غير أولي الضرر حملا للمطلق على المقيد وقال هنا { درجة } وقال فيما بعد { درجات } فقال قوم : التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد وقال آخرون : فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر بدرجات قاله ابن جريج والسدي وغيرهما وقيل إن معنى درجة علوا : أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح ودرجة منتصبة على التمييز أو المصدرية لوقوعها موقع المرة من التفضيل : أي فضل الله تفضيله أو على نزع الخافض أو على الحالية من المجاهدين أي : ذوي درجة قوله { وكلا } مفعول أول لقوله { وعد الله } قدم عليه لإفادته القصر : أي كل واحد من المجاهدين والقاعدين وعده الله الحسنى : أي المثوبة وهي الجنة قوله { أجرا } هو منتصب على التمييز وقيل : على المصدرية لأن فضل بمعنى آجر التقدير آجرهم أجرا وقيل : مفعول ثان لفضل لتضمنه معنى الإعطاء وقيل : منصوب بنزع الخافض وقيل على الحال من درجات مقدم عليها (1/759)
96 - { درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما } وأما انتصاب درجات ومغفرة ورحمة : فهي بدل من أجرا وقيل إن مغفرة ورحمة ناصبهما أفعال مقدرة : أي غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة
وقد أخرج البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أملى عليه : [ لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله ] فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى ؟ فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه و سلم وفخذه على فخذي { غير أولي الضرر } وقد أخرج هذا المعنى عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث البراء وأخرجه أيضا سعيد بن منصور وأحمد وأبو داود وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه من حديث خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } عن بدر والخارجون إلى بدر وأخرجه عنه أيضا عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وأخرج عبد بن حميد والطبراني والبيهقي عنه قال : نزلت في قوم كانت تشغلهم أمراض وأوجاع فأنزل الله عذرهم من السماء وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن أنس بن مالك قال : نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم ولقد رأيته في بعض مشاهد المسلمين معه اللواء وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } قال : على أهل الضرر وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله { وكلا وعد الله الحسنى } قال : الجنة وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : كان يقال الإسلام درجة والهجرة درجة في الإسلام والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن محيريز في قوله { درجات } قال : الدرجات سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين سنة وأخرج نحوه عبد الرزاق في المصنف عن أبي مجلز وأخرج البخاري والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلا الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ] (1/760)
قوله 97 - { توفاهم } يحتمل أن يكون فعلا ماضيا وحذفت منه علامة التأنيث لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي ويحتمل أن يكون مستقبلا والأصل تتوفاهم فحذفت إحدى التاءين وحكى ابن فورك عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار - وقيل : تقبض أرواحهم وهو الأظهر والمراد بالملائكة ملائكة الموت لقوله تعالى { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } وقوله { ظالمي أنفسهم } حال : أي في حال ظلمهم أنفسهم وقول الملائكة { فيم كنتم } سؤال توبيخ : أي في شيء كنتم من أمور دينكم ؟ وقيل : المعنى أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أم كنتم مشركين وقيل : إن معنى السؤال التقريع لهم بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين وقولهم { كنا مستضعفين في الأرض } يعني : مكة لأن سبب النزول من أسلم بها ولم يهاجر كما سيأتي ثم أوقفتهم الملائكة على دينهم وألزمتهم الحجة وقطعت معذرتهم فقالوا { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } قيل : المراد بهذه الأرض المدينة والأولى العموم اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو الحق فيراد بالأرض كل بقعة من بقاع الأرض تصلح الهجرة إليها ويراد بالأرض الأولى كل أرض ينبغي الهجرة منها قوله { مأواهم جهنم } هذه الجملة خبر لأولئك والجملة خبر إن في قوله { إن الذين توفاهم الملائكة } ودخول الفاء لتضمن اسم إن معنى الشرط { وساءت } أي جهنم { مصيرا } أي : مكانا يصيرون إليه (1/761)
قوله 98 - { إلا المستضعفين } هو استثناء من الضمير في مأواهم وقيل : استثناء منقطع لعدم دخول المستضعفين في الموصول وضميره وقوله { من الرجال والنساء والولدان } متعلق بمحذوف أي : كائنين منهم والمراد بالمستضعفين من الرجال الزمنى ونحوهم والولدان كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام وإنما ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم لقصد المبالغة في أمر الهجرة وإيهام أنها تجب لو استطاعها غير المكلف فكيف من كان مكلفا وقيل : أراد بالولدان المراهقين والمماليك قوله { لا يستطيعون حيلة } صفة للمستضعفين أو للرجال والنساء والولدان أو حال من الضمير في المستضعفين وقيل : الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص : أي : لا يجدون حيلة ولا طريقا إلى ذلك وقيل السبيل : سبيل المدينة (1/762)
99 - { فأولئك } إشارة إلى المستضعفين الموصوفين بما ذكر { عسى الله أن يعفو عنهم } وجيء بكلمة الإطماع لتأكيد أمر الهجرة حتى يظن أن تركها ممن لا تجب عليه يكون ذنبا يجب طلب العفو عنه (1/762)
قوله 100 - { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة } هذه الجملة متضمنة للترغيب في الهجرة والتنشيط إليها وقوله { في سبيل الله } فيه دليل على أن الهجرة لا بد أن تكون بقصد صحيح ونية خالصة غير مشوبة بشيء من أمور الدنيا ومنه الحديث الصحيح [ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ]
وقد اختلف في معنى قوله سبحانه { يجد في الأرض مراغما } فقال ابن عباس وجماعة من التابعين ومن بعدهم : المراغم المتحول والمذهب وقال مجاهد : المراغم المتزحزح وقال ابن زيد : المراغم المهاجر وبه قال أبو عبيدة قال النحاس : فهذه الأقوال متفقة المعاني فالمراغم : المذهب والمتحول وهو الموضع الذي يراغم فيه وهو مشتق من الرغام وهو التراب ورغم أنف فلان : أي لصق بالتراب وراغمت فلانا : هجرته وعاديته ولم أبال أن رغم أنفه وقيل : إنما سمي مهاجرا ومراغما لأن الرجل كان إذا أسلم عادى قومه وهجرهم فسمي خروجه مراغما وسمي مسيره إلى النبي صلى الله عليه و سلم هجرة والحاصل في معنى الآية أن المهاجر يجد في الأرض مكانا يسكن فيه على رغم أنف قومه الذين هاجرهم : أي على ذلهم وهوانهم قوله { وسعة } أي : في البلاد وقيل : في الرزق ولا مانع من حمل السعة على ما هو أعم من ذلك قوله { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله } قرئ : يدركه بالجزم على أنه معطوف على فعل الشرط وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وبالنصب على إضمار أن والمعنى : أن من أدركه الموت قبل أن يصل إلى مطلوبه وهو المكان الذي قصد الهجرة إليه أو الأمر الذي قصد الهجرة له { فقد وقع أجره على الله } أي : ثبت ذلك عنده ثبوتا لا يتخلف { وكان الله غفورا } أي : كثير المغفرة { رحيما } أي : كثير الرحمة وقد استدل بهذه الآية على أن الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك أو بدار يعمل فيها بمعاصي الله جهارا إذا كان قادرا على الهجرة ولم يكن من المستضعفين لما في هذه الآية الكريمة من العموم وإن كان السبب خاصا كما تقدم وظاهرها عدم الفرق بين مكان ومكان وزمان وزمان وقد ورد في الهجرة أحاديث وورد ما يدل على أنه لا هجرة بعد الفتح وقد أوضحنا ما هو الحق في شرحنا على المنتقى فليرجع إليه
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم وقتل البعض فقال المسلمون : قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت بهم هذه الآية { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } قال : فكتب إلي من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت فيهم هذه الآية { ومن الناس من يقول : آمنا بالله فإذا أوذي في الله } إلى آخر الآية فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا وأيسوا من كل خير فنزلت فيهم { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجا فاخرجوا فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل وقد أخرجه البخاري وغيره عنه مقتصرا على أوله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله { إن الذين توفاهم الملائكة } إلى قوله { وساءت مصيرا } قال : نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن ربيعة بن الأسود وقيس ابن الوليد بن المغيرة وأبي العاص بن منبه بن الحجاج وعلي بن أمية بن خلف قال : لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعير قريش من رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة خرجوا معهم بشباب كارهين كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد فقتلوا ببدر كفارا ورجعوا عن الإسلام وهم هؤلاء الذين سميناهم وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن إسحاق وقد روي نحو هذا من طرق وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } فقال : كنت أنا وأمي من المستضعفين أنا من الولدان وأمي من النساء وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله { لا يستطيعون حيلة } قال : قوة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله { لا يستطيعون حيلة } قال : نهوضا إلى المدينة { ولا يهتدون سبيلا } قال : طريقا إلى المدينة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { مراغما كثيرا وسعة } قال : المراغم المتحول من أرض إلى أرض والسعة : الرزق وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { مراغما } قال : متزحزحا عما يكره وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله { وسعة } قال : ورخاء وأخرج أيضا عن مالك قال : سعة البلاد وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني قال السيوطي بسند رجاله ثقات عن ابن عباس قال : خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرا فقال لقومه : احملوني فأخرجوني من أرض الشرك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فنزل الوحي { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله } الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من وجه آخر عنه نحوه وأخرج ابن سعد وأحمد والحاكم وصححه عن عبد الله بن عتيك قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله وأين المجاهدون في سبيل الله ؟ فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله : يعني : بحتف أنفه على فراشه والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن قتل قعصاء فقد استوجب الجنة ] وأخرج أبو يعلى والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ومن خرج غازيا في سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة ] قال ابن كثير : وهذا حديث غريب من هذا الوجه (1/762)
قوله 101 - { وإذا ضربتم } قد تقدم تفسير الضرب في الأرض قريبا قوله { فليس عليكم جناح } فيه دليل على أن القصر ليس بواجب وإليه ذهب الجمهور وذهب الأقلون إلى أنه واجب ومنهم عمر بن عبد العزيز والكوفيون والقاضي إسماعيل وحماد بن أبي سليمان وهو مروي عن مالك واستدلوا بحديث عائشة الثابت في الصحيح [ فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر ] ولا يقدح في ذلك مخالفتها لما روت فالعمل على الرواية الثانية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ومثله حديث يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب قلت { ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وقد أمن الناس فقال لي عمر : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : [ صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ] أخرجه أحمد ومسلم وأهل السنن وظاهر قوله : [ فاقبلوا صدقته ] أن القصر واجب قوله { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ظاهر هذا الشرط أن القصر لا يجوز في السفر إلا مع خوف الفتنة من الكافرين لا مع الأمن ولكنه قد تقرر بالسنة أن النبي صلى الله عليه و سلم قصر مع الأمن كما عرفت فالقصر مع الخوف ثابت بالكتاب والقصر مع الأمن ثابت بالسنة ومفهوم الشرط لا يقوي على معارضة ما تواتر عنه صلى الله عليه و سلم من القصر مع الأمن وقد قيل : إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار ولهذا قال يعلى بن أمية لعمر ما قال كما تقدم وفي قراءة أبي : { أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } بسقوط { إن خفتم } والمعنى على هذه القراءة : كراهة أن يفتنكم الذين كفروا وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو فمن كان آمنا فلا قصر له وذهب آخرون إلى أن قوله { إن خفتم } ليس متصلا بما قبله وأن الكلام تم عند قوله { من الصلاة } ثم افتتح فقال { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف وقوله { إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا } معترض ذكر معنى هذا الجرجاني والمهدوي وغيرهما ورده القشيري والقاضي أبو بكر بن العربي وقد حكى القرطبي عن ابن عباس معنى ما ذكره الجرجاني ومن معه ومما يرد هذا ويدفعه الواو في قوله { وإذا كنت فيهم } وقد تكلف بعض المفسرين فقال : إن الواو زائدة وإن الجواب للشرط المذكور أعني قوله { إن خفتم } هو قوله { فلتقم طائفة } وذهب قوم إلى أن ذكمر الخوف منسوخ بالسنة وهي حديث عمر الذي قدمنا ذكره وما ورد في معناه قوله { أن يفتنكم الذين كفروا } قال الفراء : أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل وربيعة وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون أفتنت الرجل وفرق الخليل وسيبويه بينهما فقالا فتنته : جعلت فيه فتنة مثل كحلته وأفتنته : جعلته مفتنا وزعم الأصمعي أنه لا يعرف افتنته والمراد بالفتنة القتال والتعرض بما يكره قوله { عدوا } أي : أعداء (1/765)
قوله 102 - { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولمن بعده من أهل الأمر حكمه كما هو معروف في الأصول ومثله قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة } ونحوه وإلى هذا ذهب جمهور العلماء وشذ أبو يوسف وإسماعيل بن علية فقالا : لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه و سلم لأن هذا الخطاب خاص برسول الله صلى الله عليه و سلم قالا : ولا يلحق غيره به لما له صلى الله عليه و سلم من المزية العظمى وهذا مدفوع فقد أمرنا الله باتباع رسوله والتأسي به وقد قال صلى الله عليه و سلم : [ صلوا كما رأيتموني أصلي ] والصحابة رضي الله عنهم أعرف بمعاني القرآن وقد صلوها بعد موته في غير مرة كما ذلك معروف ومعنى { أقمت لهم الصلاة } أردت الإقامة كقوله { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } وقوله { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } قوله { فلتقم طائفة منهم معك } يعني : بعد أن تجعلهم طائفتين طائفة تقف بازاء العدو وطائفة تقوم منهم معك في الصلاة { وليأخذوا أسلحتهم } أي : الطائفة التي تصلي معه وقيل الضمير راجع إلأى الطائفة التي بإزاء العدو والأول أظهر لأن الطائفة القائمة بإزاء العدو لا بد أن تكون قائمة بأسلحتها وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك من كان في الصلاة لأنه يظن أن ذلك ممنوع منه حال الصلاة فأمره الله بأن يكون آخذا لسلاحه : أي غير واضع له وليس المراد الأخذ باليد بل المراد أن يكونوا حاملين لسلاحهم ليتناولوه من قرب إذا احتاجوا إليه وليكون ذلك أقطع لرجاء عدوهم من إمكان فرصته فيهم وقد قال بإرجاع الضمير من قوله { وليأخذوا أسلحتهم } إلى الطائفة القائمة بإزاء العدو ابن عباس قال : لان المصلية لا تحارب وقال غيره : إن الضمير راجع إلى المصلية وجوز الزجاج والنحاس أن يكون ذلك أمرا للطائفتين جميعا لأنه أرهب للعدو وقد أوجب أخذ السلاح في هذه الصلاة أهل الظاهر حملا للأمر على الوجوب وذهب أبو حنيفة إلى أن المصلين لا يحملون السلاح وأن ذلك يبطل الصلاة وهو مدفوع بما في هذه الآية وبما في الأحاديث الصحيحة قوله { فإذا سجدوا } أي : القائمون في الصلاة { فليكونوا } أي : الطائفة القائمة بإزاء العدو { من ورائكم } أي من وراء المصلين ويحتمل أن يكون المعنى : فإذا سجد المصلون معه : أي أتموا الركعة تعبيرا بالسجود عن جميع الركعة أو عن جميع الصلاة { فليكونوا من ورائكم } أي : فلينصرفوا بعد الفراغ إلى مقابلة العدو للحراسة { ولتأت طائفة أخرى } وهي : القائمة في مقابلة العدو التي لم تصل { فليصلوا معك } على الصفة التي كانت عليها الطائفة الأولى { وليأخذوا } أي : هذه الطائفة الأخرى { حذرهم وأسلحتهم } زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ السلاح قيل : وجهه أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى الله عليه و سلم في شغل شاغل وأما في المرة الأولى فربما يظنونهم قائمين للحرب وقيل : لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب ولم يبين في الآية الكريمة كم تصلي كل طائفة من الطائفتين ؟ وقد وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء مختلفة وصفات متعددة وكلها صحيحة مجزئة من فعل واحدة منها فقد فعل ما أمر به ومن ذهب من العلماء إلى اختيار صفة دون غيرها فقد أبعد عن الصواب وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى وفي سائر مؤلفاتنا قوله { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } هذه الجملة متضمنة للعلة التي لأجلها أمرهم الله بالحذر وأخذ الصلاح : أي ودوا غفلتكم عن أخذ السلاح وعن الحذر ليصلوا إلى مقصودهم وينالوا فرصتهم فيشدون عليكم شدة واحدة والأمتعة ما يتمتع به في الحرب ومنه الزاد والراحلة قوله : { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } رخص لهم سبحانه في وضع السلاح إذا نالهم أذى من الممطر وفي حال المرض لأنه يصعب مع هذين الأمرين حمل السلاح ثم أمرهم بأخذ الحذر لئلا يأتيهم العدو على غرة وهم غافلون
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي حنظلة قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان قلت : فأين قوله تعالى { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ونحن آمنون ؟ قال : سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه سأل ابن عمر : أرأيت قصر الصلاة في السفر ؟ إنا لا نجدها في كتاب الله إنما نجد ذكر صلاة الخوف فقال ابن عمر : يا ابن أخي إن الله أرسل محمدا صلى الله عليه و سلم ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعل وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي الصحيحين وغيرهما عن حارثة بن وهب الخزاعي قال : [ صليت مع النبي صلى الله عليه و سلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين ] وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وصححه والنسائي عن ابن عباس قال : [ صلينا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين ] وأخرج ابن جرير عن علي قال : [ سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ فأنزل
الله { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه و سلم فصلى الظهر فقال المشركون : قد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في أثرها فأنزل الله بين الصلاتين { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا * وإذا كنت فيهم } إلى قوله { إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا } فنزلت صلاة الخوف ] وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والدارقطني والحاكم وصححه عن أبي عياس الزرقي قال : [ كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم فنزل جبريل بهذه الآيات { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } ثم ذكر صفة الصلاة التي صلوها مع النبي صلى الله عليه و سلم ] والأحاديث في صفة صلاة الخوف كثيرة
وهي مستوفاة في مواطنها فلا نطول بذكرها ها هنا وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله { إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى } قال : نزلت في عبد الرحمن بن عوف كان جريحا (1/766)
103 - { قضيتم } بمعنى فرغتم من صلاة الخوف وهو أحد معاني القضاء ومثله { فإذا قضيتم مناسككم } { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } قوله { فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } أي : في جميع الأحوال حتى في حال القتال وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو أثر صلاة الخوف : أي إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله في هذه الأحوال وقيل معنى قوله { فإذا قضيتم الصلاة } إذا صليتم فصلوا قياما وقعودا أو على جنوبكم حسبما يقتضيه الحال عند ملاحمة القتال فهي مثل قوله { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } قوله { فإذا اطمأننتم } أي : أمنتم وسكنت قلوبكم والطمأنينة : سكون النفس من الخوف { فأقيموا الصلاة } أي : فأتوا بالصلاة التي دخل وقتها على الصفة المشروعة من الأذكار والأركان ولا تفعلوا ما أمكن فإن ذلك إنما هو في حال الخوف وقيل : المعنى في الآية أنهم يقضون ما صلوه في حال المسايفة لأنها حالة قلق وانزعاج وتقصير في الأذكار والأركان وهو مروي عن الشافعي والأول أرجح { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } أي : محدودا معينا يقال : وقته فهو موقوت ووقته فهو موقت والمعنى : إن الله افترض على عبادة الصلوات وكتبها عليهم في أوقاتها المحدودة لا يجوز لأحد أن يأتى بها في غير ذلك الوقت إلا لعذر شرعي من نوم أو سهو أو نحوهما (1/769)
قوله 104 - { ولا تهنوا في ابتغاء القوم } أي : لا تضعفوا في طلبهم وأظهروا القوة والجلد قوله { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون } تعليل للنهي المذكور قبله : أي ليس ما تجدونه من ألم الجراح ومزاولة القتال مختصا بكم بل هو أمر مشترك بينكم وبينهم فليسوا بأولى منكم بالصبر على حر القتال ومرارة الحرب ومع ذلك فلكم عليهم مزية لا توجد فيهم وهي أنكم ترجون من الله من الأجر وعظيم الجزاء ما لا يرجونه لكفرهم وجحودهم فأنتم أحق بالصبر منهم وأولى بعدم الضعف منهم فإن أنفسكم قوية لأنها ترى الموت مغنما وهم يرونه مغرما ونظير هذه الآية قوله تعالى { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } وقيل : إن الرجاء هنا بمعنى الخوف لأن من رجا شيئا فهو غير قاطع بحصوله فلا يخلو من خوف ما يرجو وقال الفراء والزجاج : لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي كقوله تعالى { ما لكم لا ترجون لله وقارا } أي لا تخافون له عظمة وقرأ عبد الرحمن الأعرج { إن تكونوا } بفتح الهمزة : أي : لأن تكونوا وقرأ منصور بن المعتمر تيلمون بكسر التاء ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقله
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } قال : بالليل والنهار في البر والبحر وفي السفر والحضر والغنى والفقر والسقم والصحة والسر والعلانية وعلى كل حال وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه بلغه أن قوما يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم فقال : إنما هذه إذا لم يستطع الرجل أن يصلي قائما صلى قاعدا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد { فإذا اطمأننتم } قال : إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة { فأقيموا الصلاة } قال : أتموها وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة نحوه وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه أيضا وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } يعني : مفروضا وأخرج ابن جرير عنه قال : الموقوت الواجب وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله { ولا تهنوا } قال : ولا تضعفوا وأخرجوا ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله { تألمون } قال : توجعون { وترجون من الله ما لا يرجون } قال : ترجون الخير (1/769)
قوله 105 - { بما أراك الله } إما بوحي أو بما هو جار على سنن ما قد أوحى الله به وليس المراد هنا رؤية العين لأن الحكم لا يرى بل المراد بما عرفه الله به وأرشده إليه قوله { ولا تكن للخائنين } أي : لاجل الخائنين خصيما : أي مخاصما عنهم مجادلا للمحقين بسببهم وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق (1/771)
قوله 106 - { واستغفر الله } أمر لرسول الله صلى الله عليه و سلم بالاستغفار قال ابن جرير : إن المعنى استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين : وسيأتي بيان السبب الذي نزلت لأجله الآية وبه يتضح المراد وقيل المعنى : واستغفر الله للمذنبين من أمتك والمخاصمين بالباطل (1/771)
قوله 107 - { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } أي : لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم والمجادلة مأخوذة من الجدل وهو الفتل وقيل : مأخوذة من الجدالة وهي وجه الأرض لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها وسمي ذلك خيانة لأنفسهم لأن ضرر معصيتهم راجع إليهم والخوان : كثير الخيانة والأثيم : كثير الإثم وعدم المحبة كناية عن البغض (1/771)
قوله 108 - { يستخفون من الناس } أي : يستترون منهم كقوله { ومن هو مستخف بالليل } أي مستتر وقيل معناه : يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله : أي لا يستترون منه أو لا يستحيون منه والحال أنه معهم في جميع أحوالهم عالم بما هم فيه فكيف يستخفون منه { إذ يبيتون } أي : يديرون الرأي بينهم وسماه تبييتا لأن الغالب أن تكون إدارة الرأي بالليل { ما لا يرضى من القول } أي : من الرأي الذي أداروه بينهم وسماه قولا لأنه لا يحصل إلا بعد المقاولة بينهم (1/771)
قوله 109 - { ها أنتم هؤلاء } يعني القوم الذين جادلوا عن صاحبهم السارق كما سيأتي والجملة مبتدأ وخبر قال الزجاج : { أولاء } بمعنى الذين و { جادلتم } بمعنى حاججتم { في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة } الاستفهام للإنكار والتوبيخ : أي فمن يخاصم ويجادل الله عنهم يوم القيامة عند تعذيبهم بذنوبهم ؟ { أم من يكون عليهم وكيلا } أي : مجادلا ومخاصما والوكيل في الأصل : القائم بتدبير الأمور والمعنى : من ذاك يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه
وقد أخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن قتادة بن النعمان قال كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر وكان بشر رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ينحله بعض العرب ثم يقول : قال فلان كذا وكذا قال فلان كذا وكذا فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث فقال :
( أو كلما قال الرجال قصيدة ... أصموا فقالوا ابن الأبيرق قالها )
قال : وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة : أي حمولة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص نفسه وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن رافع حملا من الدرمك فجعله في مشربة وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما فعدي عليه من تحت الليل فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي تعلم أن قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا قال : فتحسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا نارا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم قال : وكان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار : والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق وقال : أنا أسرق ؟ فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة قالوا : إليك عنا أيها الرجل فوالله ما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي : يا أهي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : سأنظر في ذلك فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك واجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلمته فقال : عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت قال قتادة : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك فأتاني عمي رفاعة فقال لي : يا ابن أخي ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : الله المستعان فلم نلبث أن نزل القرآن { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما } بني أبيرق { واستغفر الله } أي : مما قلت لقتادة { إن الله كان غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } إلى قوله { ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } أي : لو استغفروا الله لغفر لهم { ومن يكسب إثما } إلى قوله { فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا } قولهم للبيد { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك } يعني : أسير بن عروة فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسلاح فرده إلى رفاعة قال قتادة : فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد غشي في الجاهلية : أي كبر وكنت أرى إسلامه مدخولا فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي هو في سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى } إلى قوله { ضلالا بعيدا } فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمت به في الأبطح ثم قالت : أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني ورواه يونس بن بكير وغير واحد عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا لم يذكر فيه عن أبيه عن جده ورواه ابن أبي حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني عن محمد بن الصانع حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني حدثنا محمد بن سلمة فذكره بطوله ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن العباس بن أيوب والحسن بن يعقوب كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني عن محمد بن سلمة به ثم قال في آخره : قال محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن أبي إسرائيل وقد رواه الحاكم في المستدرك عن أبي العباس الأصم عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق بمعناه أتم منه ثم قال : هذا صحيح على شرط مسلم وقد أخرجه ابن سعد عن محمود بن لبيد قال : غدا بشير فذكره مختصرا وقد رويت هذه القصة مختصرة ومطولة عن جماعة من التابعين (1/771)
هذا من تمام القصة السابقة والمراد بالسوء : القبيح الذي يسوء به 110 - { أو يظلم نفسه } بفعل معصية من المعاصي أو ذنب من الذنوب التي لا تتعدى إلى غيره { ثم يستغفر الله } يطلب منه أن يغفر له ما قارفه من الذنب { يجد الله غفورا } لذنبه { رحيما } به وفيه ترغيب لمن وقع منه السرق من بني أبيرق أن يتوب إلى الله ويستغفره وأنه غفور لمن يستغفره رحيم به وقال الضحاك : إن هذه الآية نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقال : هل لي من توبة ؟ فنزلت وعلى كل حال فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فهي لكل عبد من عباد الله أذنب ذنبا ثم استغفر الله سبحانه (1/774)
قوله 111 - { ومن يكسب إثما } من الآثام بذنب يذنبه { فإنما يكسبه على نفسه } أي عاقبته عائدة عليه والكسب ما يجر به الإنسان إلى نفسه نفعا أو يدفع به ضررا ولهذا لا يسمى فعل الرب كسبا قاله القرطبي (1/774)
112 - { ومن يكسب خطيئة أو إثما } قيل : هما بمعنى واحد كرر للتأكيد وقال الطبري : إن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد والإثم لا يكون إلا عن عمد وقيل : الخطيئة الصغيرة والإثم : الكبيرة قوله { ثم يرم به بريئا } توحيد الضمير لكون العطف بأو أو لتغليب الإثم على الخطيئة وقيل : إنه يرجع إلى الكسب قوله { فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا } لما كانت الذنوب لازمة لفاعلها كانت كالثقل الذي يحمل ومثله { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } والبهتان مأخوذ من البهت : وهو الكذب على البريء بما ينبهت له ويتحير منه يقال : بهته بهتا وبهتانا : إذا قال عليه ما لم يقل ويقال بهت الرجل بالكسر : إذا دهش وتحير وبهت بالضم ومنه { فبهت الذي كفر } والإثم المبين : الواضح (1/774)
قوله 113 - { ولولا فضل الله عليك ورحمته } خطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم والمراد بهذا الفضل والرحمة لرسول الله أنه نبه على الحق في قصة بني أبيرق وقيل : المراد بهما النبوة والعصمة { لهمت طائفة منهم } أي : من الجماعة الذين عضدوا بني أبيرق كما تقدم { أن يضلوك } عن الحق { وما يضلون إلا أنفسهم } لأن وبال ذلك عائد عليهم { وما يضرونك من شيء } لأن الله سبحانه هو عاصمك من الناس ولأنك عملت بالظاهر ولا ضرر عليك في الحكم به قبل نزول الوحي والجار والمجرور في محل نصب على المصدرية : أي وما يضرونك شيئا من الضرر قوله { وأنزل الله عليك الكتاب } قيل : هذا ابتداء كلام وقيل الواو للحال : أي وما يضرونك من شيء حال إنزال الله عليك الكتاب والحكمة أو مع إنزال الله ذلك عليك قوله { وعلمك ما لم تكن تعلم } معطوف على أنزل : أي علمك بالوحي ما لم تكن تعلم من قبل { وكان فضل الله عليك عظيما } إذ لا فضل أعظم من النبوة ونزول الوحي
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } الآية قال : أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرا ثم استغفر الله يجد الله غفورا رحيما ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال : من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء ثم استغفر الله غفر له { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول } الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وعلمك ما لم تكن تعلم } قال : علمه الله بيان الدنيا والآخرة بين حلاله وحرامه ليحتج بذلك على خلقه وأخرج أيضا عن الضحاك قال : علمه الخير والشر وقد ورد في قبول الاستغفار وأنه يمحو الذنب أحاديث كثيرة مدونه في كتب السنة (1/775)
النجوى : السر بين الاثنين أو الجماعة تقول : ناجيت فلانا مناجاة ونجاء وهم ينتجون ويتناجون ونجوت فلانا أنجوه نجوى : أي ناجيته فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه : أي خلصته وأفردته والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله فالنجوى : المسارة مصدر وقد تسمى به الجماعة كما يقال قوم عدم قال الله تعالى { وإذ هم نجوى } فعلى الأول يكون الاستثناء منقطعا : أي لكل من أمر بصدقة أو متصلا على تقدير إلا نجوى من أمر بصدقة وعلى الثاني يكون الاستثناء متصلا في موضع خفض على البدل من كثير : أي لا خير في كثير إلا فيمن أم بصدقة وقد قال جماعة من المفسرين : إن النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين سواء كان ذلك سرا أو جهرا وبه قال الزجاج قوله 114 - { بصدقة } الظاهر أنها صدقة التطوع وقيل إنها صدقة الفرض والمعروف صدقة التطوع والأول أولى والمعروف لفظ عام يشمل جميع أنواع البر وقال مقاتل : المعروف هنا القرض والأول أول ومنه قول الحطيئة :
( من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس )
ومنه الحديث : [ كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق ] وقيل : المعروف إغاثة الملهوف والإصلاح بين الناس عام في الدماء والأعراض والأموال وفي كل شيء يقع التداعي فيه قوله { ومن يفعل ذلك } إشارة إلى الأمور المذكورة جعل مجرد الأمر بها خيرا ثم رغب في فعلها بقوله { ومن يفعل ذلك } لأن فعلها أقرب إلى الله من مجرد الأمر بها إذ خيرية الأمر بها إنما هي لكونه وسيلة إلى فعلها قوله { ابتغاء مرضاة الله } علة للفعل لأن من فعلها لغير ذلك فهو غير مستحق لهذا المدح والجزاء بل قد يكون غير ناج من الوزر والأعمال بالنيات (1/776)
115 - { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى } المشاققة : المعاداة والمخالفة وتبين الهدى ظهوره بأن يعلم صحة الرسالة بالبراهين الدالة على ذلك ثم يفعل المشاققة { ويتبع غير سبيل المؤمنين } أي : غير طريقهم وهو ما هم عليه من دين الإسلام والتمسك بأحكامه { نوله ما تولى } أي : نجعله واليا لما توالاه من الضلال { ونصله جهنم } قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو { نوله } { ونصله } بسكون الهاء في الموضعين وقرأ الباقون بكسرهما وهما لغتان وقرئ ونصله بفتح النون من صلاة وقد تقدم بيان ذلك وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على حجية الإجماع لقوله { ويتبع غير سبيل المؤمنين } ولا حجة في ذلك عندي لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره كما يفيده اللفظ ويشهد به السبب فلا تصدق على عالم من علماء هذه الملة الإسلامية اجتهد في بعض مسائل دين الإسلام فأداه اجتهاده إلى مخالفة من بعصره من المجتهدين فإنه إنما رام السلوك في سبيل المؤمنين وهو الدين القويم والملة الحنيفية ولم يتبع غير سبيلهم
وقد أخرج عبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن أم حبيبة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو ذكرا لله عز و جل ] قال سفيان الثوري هذا في كتاب الله { لا خير في كثير من نجواهم } الآية وقوله { يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا } وقوله { والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } وقد وردت أحاديث صحيحة في الصمت والتحذير من آفات اللسان والترغيب في حفظه وفي الحث على الإصلاح بين الناس وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله { ومن يفعل ذلك } تصدق أو أقرض أو أصلح بين الناس وأخرج أبو نصر السجزي في الإبانة عن أنس قال : [ جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله أنزل علي القرآن يا أعرابي { لا خير في كثير من نجواهم } إلى قوله { فسوف نؤتيه أجرا عظيما } يا أعرابي الأجر العظيم الجنة قال الأعرابي : الحمد لله الذي هدانا للإسلام ] وأخرج الترمذي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبدا ويد الله على الجماعة فمن شذ شذر في النار ] وأخرجه الترمذي والبيهقي أيضا عن ابن عباس مرفوعا (1/776)
قوله 116 - { إن الله لا يغفر أن يشرك به } قد تقدم تفسير هذه الآية وتكريرها بلفظها للتأكيد وقيل : كررت هنا لأجل قصة بني أبيرق وقيل : إنها نزلت هنا لسبب غير قصة بني أبيرق وهو ما رواه الثعلبي والقرطبي في تفسيرهما على الضحاك : أن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلا أني لم أشرك بالله شيئا مذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أوقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له وإني لنادم وتائب ومستغفر فما حالي عند الله ؟ فأنزل الله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية { ومن يشرك بالله فقد ضل } عن الحق { ضلالا بعيدا } لأن الشرك أعظم أنواع الضلال وأبعدها من الصواب (1/778)
117 - { إن يدعون من دونه إلا إناثا } أي : ما يدعون من دون الله إلا أصناما لها أسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة وقيل : المراد بالإناث الموات التي لا روح لها كالخشبة والحجر وقيل : المراد بالإناث الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله وقرئ وثنا بضم الواو والثاء جمع وثن روى هذه القراءة ابن الأنباري عن عائشة وقرأ ابن عباس إلا أثنا جمع وثن أيضا وأصله وثن فأبدلت الواو همزة وقرأ الحسن إلا أنثا بضم الهمزة والنون بعدها مثلثة جمع أنيث كغدير وغدر وحكى الطبري أنه جمع إناث كثمار وثمر وحكى هذه القراءة أبو عمرو الداني عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : وقرأ بها ابن عباس والحسن وأبو حيوة وعلى جميع هذه القراءات فهذا الكلام خارج مخرج التوبيخ للمشركين والإزراء عليهم والتضعيف لعقولهم لكونهم عبدوا من دون الله نوعا من ضعيفا { وإن يدعون إلا شيطانا مريدا } أي : وما يدعون من دون الله إلا شيطانا مريدا وهو إبليس لعنه الله لأنهم إذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه وقد تقدم اشتقاق لفظ الشيطان والمريد : المتمرد المعاتي من مرد : إذا عتا قال الأزهري : المريد الخارج عن الطاعة وقد مرد الرجل مرودا : إذا عتا وخرج عن الطاعة فهو مارد ومريد ومتمرد وقال ابن عرفة : هو الذي ظهر شره يقال شجرة مرداء : إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها ومنه قيل للرجل أمرد : أي ظاهر مكان الشعر من عارضيه (1/778)
قوله 118 - { لعنه الله } أصل اللعن الطرد والإبعاد وقد تقدم وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط قوله : { وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا } معطوف على قوله { لعنه الله } والجملتان صفة لشيطان : أي شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله له وبين هذا القول الشنيع والنصيب المفروض : هو المقطوع المقدر : أي لأجعلن قطعة مقدرة من عباد الله تحت غوايتي وفي جانب إضلالي حتى أخرجهم من عبادة الله إلى الكفر به (1/779)
قوله 119 - { ولأضلنهم } اللام جواب قسم محذوف والإضلال : الصرف عن طريق الهداية إلى طريق الغواية وهكذا اللام في قوله : { ولأمنينهم ولآمرنهم } والمراد بالأماني التي يمنيهم بها الشيطان : هي الأماني الباطلة الناشئة عن تسويله ووسوسته وقوله : { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام } أي : ولآمرنهم بتبتك آذان الأنعام : أي تقطيعها فليبتكنها بموجب أمري والبتك : القطع ومنه سيف باتك يقال : بتكه وبتكه مخففا ومشددا ومنه قوله زهير :
( طارت وفي كفه من ريشها بتك )
أي : قطع وقد فعل الكفار ذلك امتثالا لأمر الشيطان واتباعا لرسمه فشقوا آذان البحائر والسوائب كما ذلك معروف قوله { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } أي : ولآمرنهم بتغيير خلق الله فليغيرنه بموجب أمري لهم واختلف العلماء في هذا التغيير ما هو ؟ فقالت طائفة : هو الخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان وقال آخرون : إن المراد بهذا التغيير هو أن الله سبحانه خلق الشمس والقمر والأحجار والنار ونحوها من المخلوقات لما خلقها له فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة وبه قال الزجاج وقيل : المراد بهذا التغيير تغيير الفطرة التي فطر الله الناس عليها ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور حملا شموليا أو بدليا
وقد رخص طائفة من العلماء في خصاء البهائم إذا قصد بذلك زيادة الانتفاع به لسمن أو غيره وكره ذلك آخرون وأما خصاء بني آدم فحرام وقد كره قوم شراء الخصي قال القرطبي : ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز وأنه مثلة وتغيير لخلق الله وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود قاله أبو عمر بن عبد البر { ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله } باتباعه وامتثال ما يأمر به من دون اتباع لما أمر الله به ولا امتثال له { فقد خسر خسرانا مبينا } أي واضحا ظاهرا (1/779)
120 - { يعدهم } المواعيد الباطلة { ويمنيهم } الأماني العاطلة { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } أي : وما يعدهم الشيطان بما يوقعه في خواطرهم من الوساوس الفارغة { إلا غرورا } يغرهم به ويظهر لهم فيه النفع وهو ضرر محض وانتصاب غرورا على أنه قد نعت لمصدر محذوف : أي وعدا غرورا أو على أنه مفعول ثان أو مصدر على غير لفظه قال ابن عرفة : الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه وله باطن مكروه وهذه الجملة اعتراضية (1/780)
قوله 121 - { أولئك } إشارة إلى أولياء الشيطان وهذا مبتدأ وخبره الجملة وهي قوله { مأواهم جهنم } قوله { محيصا } أي : معدلا من حاص يحيص وقيل : ملجأ ومخلصا والمحيص اسم مكان وقيل : مصدر (1/780)
قوله 122 - { والذين آمنوا } إلخ جعل هذا الوعد للذين آمنوا مقترنا بالوعيد المتقدم للكافرين قوله { وعد الله حقا } قال في الكشاف مصدران : الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره ووجهه أن الأول مؤكد لمضمون الجملة الإسمية ومضمونها وعد والثاني مؤكد لغيره : أي حق ذلك حقا قوله { ومن أصدق من الله قيلا } هذه الجملة مؤكدة لما قبلها والقيل مصدر قال كالقول : أي لا أجد أصدق قولا من الله عز و جل وقيل : إن قيلا اسم لا مصدر وإنه منتصب على التمييز
وقد أخرج الترمذي من حديث علي أنه قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } قال الترمذي : حسن غريب وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي مالك في قوله { إن يدعون من دونه إلا إناثا } قال : اللات والعزة ومناة كلها مؤنثة وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن المنذر وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن أبي بن كعب في الآية قال : مع كل صنم جنيه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { إن يدعون من دونه إلا إناثا } قال : موتى وأخرج مثله عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن وأخرج مثله أيضا عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن الحسن قال : كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونها يسمونها أنثى بني فلان فأنزل الله { إن يدعون من دونه إلا إناثا } وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك قال المشركون : إن الملائكة بنات الله وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى قال : اتخذوهن أربابا وصوروهن صور الجواري فحلوا وقلدوا وقالوا : هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده : يعنون الملائكة وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله { وقال لأتخذن من عبادك } إلخ قال : هذا إبليس يقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلأى الجنة وأخرج ابن المنذر عن الربيع مثله وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله { فليبتكن آذان الأنعام } قال : التبتيك في البحيرة والسائبة يبتكون آذانها لطواغيتهم وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أنس انه كره الإخصاء وقال فيه نزلت { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس مثله وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن عمر قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن خصاء البهائم والخيل ] وأخرج ابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صبر الروح وإخصاء البهائم ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } قال : دين الله وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن سعيد بن جبير مثله أيضا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال : الوشم (1/780)
قرأ أبو جعفر بتخفيف الياء من أماني في الموضعين واسم ليس محذوف : أي ليس دخول الجنة أو الفضل أو القرب من الله بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب كما يدل على ذلك سبب نزول الآية الآتي وقيل : ضمير يعود إلى وعد الله وهو بعيد ومن أماني أهل الكتاب قولهم { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } وقولهم { نحن أبناء الله وأحباؤه } وقولهم { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } قوله 123 - { من يعمل سوءا يجز به } قيل : المراد بالسوء الشرك وظاهر الآية أعم من ذلك فكل من عمل سوءا أي سوء كان فهو مجزي به من غير فرق بين المسلم والكافر وفي هذه الجملة ما ترجف له القلوب من الوعيد الشديد وقد كان لها في صدور المسلمين عند نزولها موقع عظيم كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال : [ لما نزلت { من يعمل سوءا يجز به } بلغت من المسلمين مبلغا شديدا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها ] قوله { ولا يجد له } قرأه الجماعة بالجزم عطفا على الجزاء وروى ابن بكار عن ابن عامر { ولا يجد } بالرفع استئنافا : أي ليس لمن يعمل السوء من دون الله وليا يواليه ولا نصيرا ينصره (1/782)
124 - { ومن يعمل من الصالحات } أي بعضها حال كونه { من ذكر أو أنثى } وحال كونه مؤمنا والحال الأولى لبيان من يعمل والحال الأخرى لإفادة اشتراط الإيمان في كل عمل صالح { فأولئك } إشارة إلى العمل المتصف بالإيمان { يدخلون الجنة } قرأ أبو عمرو وابن كثير { يدخلون } بضم حرف المضارعة على البناء للمجهول وقرأ الباقون بفتحها على البناء للمعلوم { ولا يظلمون نقيرا } أي : لا ينقصون شيئا حقيرا وقد تقدم تفسير النقير (1/782)
125 - { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله } أي : أخلص نفسه له حال كونه محسنا : أي عاملا للحسنات { واتبع ملة إبراهيم } أي : دينه حال كون المتبع { حنيفا } أي : مائلا عن الأديان الباطلة إلى دين الحق وهو الإسلام { واتخذ الله إبراهيم خليلا } أي : جعله صفوة له وخصه بكراماته قال ثعلب : إنما سمي الخليل خليلا لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خليلا إلا ملأته وأنشد قول بشار :
( قد تخللت مسلك الروح مني ... وبه سمي الخليل خليلا )
وخليل فعل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم وقيل : هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب وقد كان إبراهيم عليه السلام محبوبا لله ومحبا له وقيل : الخليل من الاختصاص فالله سبحانه اختص إبراهيم برسالته في ذلك الوقت واختاره لها واختار هذا النحاس وقال الزجاج : معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل (1/782)
126 - { ولله ما في السموات وما في الأرض } فيه إشارة إلى أنه سبحانه اتخذ إبراهيم خليلا لطاعته لا لحاجته ولا للتكثر به والاعتضاد بمخاللته { وكان الله بكل شيء محيطا } هذه الجملة مقررة لمعنى الجملة التي قبلها : أي أحاط علمه بكل شيء { لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها }
وقد أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قالت العرب : لا نبعث ولا نحاسب وقالت اليهود والنصارى { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } وقالوا : { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } فأنزل الله { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به } وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن مسروق قال : احتج المسلمون وأهل الكتاب فقال المسلمون : نحن أهدى منكم وقال أهل الكتاب : نحن أهدى منكم فنزلت ففلج عليهم المسلمون بهذه الآية { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن } الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مسروق قال : تفاخر النصارى وأهل الإسلام فقال هؤلاء نحن أفضل منكم وقال هؤلاء : نحن أفضل منكم فنزلت وقد ورد معنى هذه الروايات من طرق كثيرة مختصرة ومطولة وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن المنذر عن أبي بكر الصديق أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له لما نزلت هذه الآية : أما أنت وأصحابك يا أبا بكر فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله به من سيئاته ] وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن ابن عمر لقيه فسأله عن هذه الآية { ومن يعمل من الصالحات } قال : الفرائض وأخرج الحاكم وصححه عن جندب أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول قبل أن يتوفى : [ إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ] وأخرج الحاكم أيضا وصححه عن ابن عباس قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه و سلم ؟ (1/783)
سبب نزول هذه الآية سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغيره فأمر الله نبيه صلى الله عليه و سلم أن يقول لهم { الله يفتيكم } أي : يبين لكم حكم ما سألتم عنه وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم { الله يفتيكم } قوله { وما يتلى عليكم } معطوف على قوله { الله يفتيكم } والمعنى : والقرآن الذي يتلى عليكم يفتيكم فيهن والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى قوله تعالى { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } ويجوز أن يكون قوله { وما يتلى } معطوفا على الضمير في قوله { يفتيكم } الراجع إلى المبتدأ لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالمفعول والجار والمجرور ويجوز أن يكون مبتدأ وفي الكتاب خبره على أن المراد به اللوح المحفوظ وقد قيل في إعرابه غير ما ذكرنا ولم نذكره لضعفه وقوله { في يتامى النساء } على الوجه الأول والثاني صلة لقوله { يتلى } وعلى الوجه الثالث بدل من قوله { فيهن } { اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن } أي : ما فرض لهن من الميراث وغيره { وترغبون } معطوف على قوله { لا تؤتونهن } عطف جملة مثبتة على جملة منفية وقيل : حال من فاعل { تؤتونهن } وقوله { أن تنكحوهن } يحتمل أن يكون التقدير في أن تنكحوهن : أي ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن ويحتمل أن يكون التقدير في أن تنكحوهن : أي ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن ويحتمل أن يكون التقدير وترغبون عن أن تنكحوهن لعدم جمالهن قوله { والمستضعفين من الولدان } معطوف على يتامى النساء : أي وما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي المستضعفين من الولدان وهو قوله تعالى تعالى { يوصيكم الله في أولادكم } وقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا من كان مستضعفا من الولدان كما سلف وإنما يورثون الرجال القائمين بالقتال وسائر الأمور قوله { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } معطوف على قوله { في يتامى النساء } كالمستضعفين أي : وما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط : أي العدل ويجوز أن يكون في محل نصب : أي ويأمركم أن تقوموا { وما تفعلوا من خير } في حقوق المذكورين { إن الله كان عليما } يجازيكم بحسب فعلكم من خير وشر
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { ويستفتونك في النساء } الآية قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر ولا يورثون المرأة فلما كان الإسلام قال : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب } في أول السورة في الفرائض وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في الآية قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئا كانوا يقولون : لا يغزون ولا يغنمون خيرا ففرض الله لهن الميراث حقا واجبا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه بأطول منه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن إبراهيم في الآية قال : كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها وحبسوها من التزويج حتى تموت فيرثونها فأنزل الله هذا وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة في قوله { ويستفتونك في النساء } إلى قوله : { وترغبون أن تنكحوهن } قالت : هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها قد شركته في ماله حتى في العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فتشركه في ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذه الآية وأخرج ابن المنذر من طريق ابن عون عن الحسن وابن سيرين في هذه الآية قال أحدهما : ترغبون فيهن وقال الآخر : ترغبون عنهن (1/784)
امرأة مرفوعة بفعل مقدر يفسره ما بعده : أي وإن خافت امرأة وخافت بمعنى : توقعت ما تخاف من زوجها وقيل : معناه تيقنت وهو خطأ قال الزجاج : المعنى 128 - { وإن امرأة خافت من بعلها } دوام النشوز قال النحاس : الفرق بين النشوز والإعراض : أن النشوز التباعد والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها وظاهر الآية أنها تجوز المصالحة عند مخافة أي نشوز أو أعي إعراض والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي سيأتي وظاهرها أنه يجوز التصالح بأي نوع من أنواعه إما بإسقاط النوبة أو بعضها أو بعض النفقة أو بعض المهر قوله { أن يصلحا } هكذا قرأه الجمهور وقرأ الكوفيون { أن يصلحا } وقراءة الجمهور أولى لأن قاعدة العرب أن الفعل إذا كان بين اثنين فصاعدا قيل : تصالح الرجلان أو القوم لا أصلح وقوله { صلحا } منصوب على أنه اسم مصدر أو على أنه مصدر محذوف الزوائد أو منصوب بفعل محذوف : أي فيصلح حالهما صلحا وقيل : هو منصوب على المفعولية وقوله { بينهما } ظرف للفعل أو في محل نصب على الحال قوله { والصلح خير } لفظ عام يقتضي أن الصلح الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق أو خير من الفرقة أو من الخصومة وهذه الجملة اعتراضية قوله { وأحضرت الأنفس الشح } إخبار منه سبحانه بأن الشح في كل واحد منهما بل في كل الأنفس الإنسانية كائن وأنه جعل كأنه حاضر لها لا يغيب عنها بحال من الأحوال وأن ذلك بحكم الجبلة والطبيعة فالرجل يشح بما يلزمه للمرأة من حسن العشرة وحسن النفقة ونحوها والمرأة تشح على الرجل بحقوقها اللازمة للزوج فلا تترك له شيئا منها وشح الأنفس : بخلها بما يلزمها أو يحسن فعله بوجه من الوجوه ومنه { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } قوله { وإن تحسنوا وتتقوا } أي : تحسنوا عشرة النساء وتتقوا ما لا يجوز من النشوز والإعراض { فإن الله كان بما تعملون خبيرا } فيجازيكم يا معشر الأزواج بما تستحقونه (1/786)
قوله 129 - { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } أخبر سبحانه بنفي استطاعتهم للعدل بين النساء على الوجه الذي لا ميل فيه ألبتة لما جبلت عليه الطباع البشرية من ميل النفس إلى هذه دون هذه وزيادة هذه في المحبة ونقصان هذه وذلك بحكم الخلقة بحيث لا يملكون قلوبهم ولا يستطيعون توقيف أنفسهم على التسوية ولهذا كان يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم : [ اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك ] ولما كانوا لا يستطيعون ذلك ولو حرصوا عليه وبالغوا فيه نهاهم عز و جل عن أن يميلوا كل الميل لأن ترك ذلك وتجنب الجور كل الجور في وسعهم وداخل تحت طاقتهم فلا يجوز لهم أن يميلوا عن إحداهن إلى الأخرى كل الميل حتى يذروا الأخرى كالمعلقة التي ليست ذات زوج ولا مطلقة تشبيها بالشيء الذي هو معلق غير مستقر على شيء وفي قراءة أبي فتذروها كالمسجونة قوله { وإن تصلحوا } أي : ما أفسدتم من الأمور التي تركتم ما يجب عليكم فيها من عشرة النساء والعدل بينهن { وتتقوا } كل الميل الذي نهيتم عنه { فإن الله كان غفورا رحيما } لا يؤاخذكم بما فرط منكم (1/787)
قوله 130 - { وإن يتفرقا } أي : لم يتصالحا بل فارق كل واحد منهما صاحبه { يغن الله كلا } منهما : أي يجعله مستغنيا عن الآخر بأن يهيئ للرجل امرأة توافقه وتقر بها عينه وللمرأة رجلا تغتبط بصحبته ويرزقهما { من سعته } رزقا يغنيهما به عن الحاجة { وكان الله واسعا حكيما } واسع الفضل صادرة أفعاله على جهة الإحكام والإتقان
وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن عباس قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله لا تطلقني وأجعل يومي لعائشة ففعل ونزلت هذه الآية { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا } الآية قال ابن عباس : فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز وأخرج أبو داود والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة أن سبب نزول الآية هو قصة سودة المذكورة وأخرج البخاري وغيره عنها في الآية قالت : الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول : أجعلك من شأني في حل فنزلت هذه الآية وأخرج الشافعي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي عن سعيد بن المسيب أن ابنة محمد بن سلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كبرا أو غيره فأراد طلاقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك فاصطلحا وجرت السنة بذلك ونزل القرآن { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا } الآية وأخرج أبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن علي أنه سئل عن هذه الآية فقال : هو رجل عنده امرأتان فتكون إحداهما قد عجزت أو تكون دميمة فيريد فراقها فتصالحه على أن يكون عندها ليلة وعند الأخرى ليالي ولا يفارقها فما طابت به نفسها فلا بأس به فإن رجعت سوى بينهما وقد ورد عن جماعة من الصحابة نحو هذا وثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت : [ لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقسم لها بيوم سودة ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله { وأحضرت الأنفس الشح } قال : هواه في الشيء يحرص عليه وفي قوله { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } قال : في الحب والجماع وفي قوله { فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة } قال : لا هي أيمة ولا ذات زوج وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن المنذر عن عائشة قالت : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ] وإسناده صحيح وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأهل السنن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط ] قال الترمذي : إنما أسنده همام ورواه هشام الدستوائي عن قتادة قال : كان يقال ولا يعرف هذا الحديث مرفوعا إلا من حديث همام وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود في قوله { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } قال : الجماع وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال : الحب (1/787)
قوله 131 - { ولله ما في السموات وما في الأرض } هذه الجملة مستأنفة لتقرير كمال سعته سبحانه وشمول قدرته { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } أمرناهم فيما أنزلناه عليهم من الكتب واللام في الكتاب للجنس { وإياكم } عطف على الموصول { أن اتقوا الله } أي : أمرناهم وأمرناكم بالتقوى وهو في موضع نصب بقوله { وصينا } أو منصوب بنزع الخافض قال الأخفش : أي بأن اتقوا الله ويجوز أن تكون أن مفسرة لأن التوصية في معنى القول قوله { وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض } معطوف على قوله { أن اتقوا } أي : وصيناهم وإياكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم إن تكفروا وفائدة هذا التكرير التأكيد ليتنبه العباد على سعة ملكه وينظروا في ذلك ويعلموا أنه غني عن خلقه (1/789)
132 - { ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا } (1/789)
133 - { إن يشأ يذهبكم } أي يفنكم { ويأت بآخرين } أي : بقوم آخرين غيركم وهو كقوله تعالى { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } (1/789)
134 - { من كان يريد ثواب الدنيا } وهو من يطلب بعمله شيئا من أمور الدنيا كالمجاهد يطلب الغنيمة دون الأجر { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } فما باله يقتصر على أدنى الثوابين وأحقر الأجرين وهلا طلب بعمله ما عند الله سبحانه وهو ثواب الدنيا والآخرة فيحرزها جميعا ويفوز بهما وظاهر الآية العموم وقال ابن جرير الطبري : إنها خاصة بالمشركين والمنافقين { وكان الله سميعا بصيرا } يسمع ما يقولونه ويبصر ما يفعلونه
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وكان الله غنيا } عن خلقه { حميدا } قال : مستحمدا إليهم وأخرجا أيضا عن علي مثله وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله { وكفى بالله وكيلا } قال : حفيظا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه في قوله { إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين } قال : قادر والله ربنا على ذلك أن يهلك من خلقه ما شاء ويأتي بآخرين من بعدهم (1/789)
قوله 135 - { قوامين } صيغة مبالغة : أي ليتكرر منكم القيام بالقسط وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم وهو الإقرار بما عليكم من الحقوق وأما شهادته على والديه فبأن يشهد عليهما بحق للغير وكذلك الشهادة على الأقربين وذكر الأبوين لوجوب برهما وكونهما أحب الخلق إليه ثم ذكر الأقربين لأنهم مظنة المودة والتعصب فإذا شهدوا على هؤلاء بما عليهم فالأجنبي من الناس أحرى أن يشهدوا عليه وقد قيل : إن معنى الشهادة على النفس أن يشهد بحق على من يخشى لحوق ضرر منه على نفسه وهو بعيد وقوله { شهداء لله } خبر بعد خبر لكان أو حال ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث وقال ابن عطية : الحال فيه ضعيفة في المعنى لأنها تحصص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط وقوله { لله } أي : لمرضاته وثوابه وقوله { ولو على أنفسكم } متعلق بشهداء هذا المعنى الظاهر من الآية وقيل معنى { شهداء لله } بالوحدانية فيتعلق قوله { ولو على أنفسكم } بقوامين والأول أولى قوله { إن يكن غنيا أو فقيرا } اسم كان مقدر : أي إن يكن المشهود عليه غنيا فلا يراعى لأجل غناه استجلابا لنفعه وإشفاقا عليه فيترك الشهادة عليه أو فقيرا فلا يراعى لأجل فقره رحمة له وإشفاقا عليه فيترك الشهادة عليه وإنما قال { فالله أولى بهما } ولم يقل به مع أن التخيير إنما يدل على الحصول لواحد لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما وقال الأخفش : تكون أو بمعنى الواو وقيل : إنه يجوز ذلك مع تقدم ذكرهما كما في قوله { وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس } وقد تقدم في مثل هذا ما هو أبسط مما هنا وقرأ أبي { فالله أولى بهم } وقرأ ابن مسعود إن يكن غني أو فقير على أن كان تامة { فلا تتبعوا الهوى } نهاهم عن اتباع الهوى وقوله { أن تعدلوا } في موضع نصب وهو إما من العدل كأنه قال : فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس أو من العدول كأنه قال : فلا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق أو كراهة أن تعدلوا عن الحق قوله : { وإن تلووا } من اللي يقال : لويت فلانا حقه : إذا دفعته عنه والمراد لي الشهادة ميلا إلى المشهود عليه وقرأ ابن عامر والكوفيون { وإن تلووا } من الولاية : أي وإن تلوا الشهادة وتتركوا ما يجب عليكم من تأديتها على وجه الحق وقد قيل إن هذه القراءة تفيد معنيين : الولاية والإعراض والقراءة الأولى تفيد معنى واحدا وهو الإعراض وزعم بعض النحويين أن القراءة الثانية غلط ولحن لأنه لا معنى للولاية ها هنا قال النحاس وغيره : وليس يلزم هذا ولكن يكون تلوا بمعنى تلووا وذلك أن أصله تلووا فاستثقلت الضمة على الواو بعدها واو أخرى فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين وذكر الزجاج نحوه قوله { أو تعرضوا } أي : عن تأدية الشهادة من الأصل { فإن الله كان بما تعملون خبيرا } أي : بما تعملون من اللي والإعراض أو من كل عمل وفي هذا وعيد شديد لمن لم يأت بالشهادة كما تجب عليه وقد روي أن هذه الآية تعم القاضي والشهود أما الشهود فظاهر وأما القاضي لذلك بأن يعرض عن أحد الخصمين أو يلوي عن الكلام معه وقيل : هي خاصة بالشهود (1/790)
قوله : 136 - { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } أي : اثبتوا على إيمانكم ودوموا عليه والخطاب هنا للمؤمنين جميعا { والكتاب الذي نزل على رسوله } هو القرآن واللام للعهد { والكتاب الذي أنزل من قبل } هو كل كتاب واللام للجنس وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { نزل } و { أنزل } بالضم وقرأ الباقون بالفتح فيهما وقيل : إن الآية نزلت في المنافقين والمعنى : يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله وقيل : نزلت في المشركين والمعنى : يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله وهما ضعيفان قوله : { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر } أي بشيء من ذلك { فقد ضل } عن القصد { ضلالا بعيدا } وذكر الرسول فيما سبق لذكر الكتاب الذي أنزل عليه وذكر الرسل هنا لذكر الكتب جملة فناسبه ذكر الرسل جملة وتقديم الملائكة على الرسل لأنه الوسائط بين الله وبين رسله
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين } الآية قال : أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم لا يحابون غنيا لغناه ولا يرحمون مسكينا لمسكنته وفي قوله { فلا تتبعوا الهوى } فتذروا الحق فتجوروا { وإن تلووا } يعني بألسنتكم بالشهادة { أو تعرضوا } عنها وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عنه في معنى الآية قال : الرجلان يجلسان عند القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة كانت البقرة أول سورة نزلت ثم أردفها سورة النساء قال : فكان الرجل تكون عنده الشهادة قبل ابن عمه أو ذوي رحمه فيلوي بها لسانه أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر فيقضي حين يوسر فنزلت { كونوا قوامين بالقسط } الآية وأخرج ابن جرير عنه أيضا { وإن تلووا أو تعرضوا } يقول : تلوي لسانك بغير الحق وهي اللجلجة فلا تقيم الشهادة على وجهها والإعراض : الترك وأخرج الثعلبي عن ابن عباس [ أن عبد الله بن سلام وأسدا وأسيدا ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلاما ابن أخت عبد الله بن سلام وسلمة ابن أخيه ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا : لا نفعل فنزلت { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله } الآية ] وينبغي النظر في صحة هذا فالثعلبي رحمه الله ليس من رجال الرواية ولا يفرق بين الصحيح والموضوع وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في هذه الآية قال : يعني بذلك أهل الكتاب كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل وأقروا على أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم فلما بعث الله رسوله دعاهم إلى أن يؤمنوا بمحمد والقرآن وذكرهم الذي أخذ عليهم من الميثاق فمنهم من صدق النبي صلى الله عليه و سلم واتبعه ومنهم من كفر (1/791)
137 - { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا } أخبر الله سبحانه عن هذه الطائفة التي آمنت ثم كفرت ثم آمنت ثم كفرت ثم ازدادت كفرا بعد ذلك كله أنه لم يكن الله سبحانه ليغفر لهم ذنوبهم ولا ليهديهم سبيلا يتوصلون به إلى الحق ويسلكونه إلى الخير لأنه يبعد منهم كل البعد أن يخلصوا لله ويؤمنوا إيمانا صحيحا فإن هذا الاضطراب منهم تارة يدعون أنهم مؤمنون وتارة يمرقون من الإيمان ويرجعون إلى ما هو دأبهم وشأنهم من الكفر المستمر والجحود الدائم يدل أبلغ دلالة على أنهم متلاعبون بالدين ليست لهم نية صحيحة ولا قصد خالص قيل : المراد بهؤلاء اليهود فإنهم آمنوا بموسى ثم كفروا بعزير ثم آمنوا بعزير ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه و سلم وقيل : آمنوا بموسى ثم كفروا به بعبادتهم العجل ثم آمنوا به عند عوده إليهم ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه و سلم والمراد بالآية أنهم ازدادوا كفرا واستمروا على ذلك كما هو الظاهر من حالهم وإلا فالكافر إذا آمن وأخلص إيمانه وأقلع عن الكفر فقد هداه الله السبيل الموجب للمغفرة والإسلام يجب ما قبله ولكن لما كان هذا مستبعدا منهم جدا كان غفران ذنوبهم وهدايتهم إلى سبيل الحق مستبعدا (1/793)
قوله 138 - { بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما } إطلاق البشارة على ما هو شر خالص لهم تهكم بهم وقد مر تحقيقه (1/793)
وقوله 139 - { الذين يتخذون الكافرين أولياء } وصف للمنافقين أو منصوب على الذم : أي يجعلون الكفار أولياء لهم يوالونهم على كفرهم ويمالئونهم على ضلالهم وقوله : { من دون المؤمنين } في محل نصب على الحال : أي يوالون الكافرين متجاوزين ولاية المؤمنين { أيبتغون عندهم العزة } هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ والجملة معترضة قوله { فإن العزة لله جميعا } هذه الجملة تعليل لما تقدم من توبيخهم بابتغاء العزة عند الكافرين وجميع أنواع العزة وأفرادها مختص بالله سبحانه وما كان منها مع غيره فهو من فيضه وتفضله كما في قوله { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } والعزة : الغلبة يقال عزه يعزه عزا : إذا غلبه (1/793)
140 - { وقد نزل عليكم في الكتاب } الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق لأن من أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل ما أنزله الله وقيل : إنه خطاب للمنافقين فقط كما يفيده التشديد والتوبيخ وقرأ عاصم ويعقوب { نزل } بفتح النون والزاي وتشديدها وفاعله ضمير راجع إلى اسم الله تعالى في قوله { فإن العزة لله جميعا } وقرأ حميد بتخفيف الزاي مفتوحة مع فتح النون وقرأ الباقون بضم النون مع كسر الزاي مشددة على البناء للمجهول وقوله { أن إذا سمعتم آيات الله } في محل نصب على القراءة الأولى على أنه مفعول نزل وفي محل رفع على القراءة الثانية على أنه فاعل وفي محل رفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله على القراءة الثالثة وأن هي المخففة من الثقيلة والتقدير أنه إذا سمعتم آيات الله والكتاب : هو القرآن وقوله { يكفر بها ويستهزأ بها } حالان : أي إذا سمعتم الكفر والاتسهزاء بآيات الله فأوقع السماع على الآيات والمراد سماع الكفر والاستهزاء وقوله { فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره } أي : أنزل عليكم في الكتاب أنكم عند هذا السماع للكفر والاستهزاء بآيات الله لا تقعدوا معهم ما داموا كذلك حتى يخوضوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بها والذي أنزل الله عليهم الكتاب هو قوله تعالى { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } وقد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود حال سخريتهم بالقرآن واستهزائهم به فنهوا عن ذلك
وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية كما يقع كثيرا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة ولم يبق في أيديهم سوى قال إمام مذهبنا كذا وقال فلان من أتباعه بكذا وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا ولا بالوا به بالة وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه الفائل واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل مقدما على الله وعلى كتابه وعلى رسوله فإنا لله وإنا إليه راجعون ما صنعت هذه المذاهب بأهلها والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم كما أوضحنا ذلك في رسالتنا المسماة ب [ القول المفيد في حكم التقليد ] وفي مؤلفنا المسمى ب [ أدب الطلب ومنتهى الأرب ] اللهم انفعنا بما علمتنا واجعلنا من المقتدين بالكتاب والسنة وباعد بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار يا مجيب السائلين
قوله { إنكم إذا مثلهم } تعليل للنهي : أي إنكم إن فعلتم ذلك ولم تنتهوا فأنتم مثلهم في الكفر قيل : وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل :
( وكل قرين بالمقارن يقتدي )
وهذه الآية محكمة عند جميع أهل العلم إلا ما يروى عن الكلبي فإنه قال : هي منسوخة بقوله تعالى { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } وهو مردود فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها قوله { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } هذا تعليل لكونهم مثلهم في الكفر قيل : وهم القاعدون والمقعود إليهم عند من جعل الخطاب موجها إلى المنافقين (1/794)
قوله 141 - { الذين يتربصون بكم } أي : ينتظرون بكم ما يتجدد ويحدث لكم من خير أو شر والموصول في محل نصب على أنه صفة للمنافقين أو بدل منهم فقط دون الكافرين لأن التربص المذكور هو من المنافقين دون الكافرين ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم { فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم } هذه الجملة والجملة التي بعدها حكاية لتربصهم : أي إن حصل لكم فتح من الله بالنصر على من يخالفكم من الكفار { قالوا } لكم { ألم نكن معكم } في الاتصاف بظاهر الإسلام والتزام أحكامه والمظاهرة والتسويد وتكثير العدد { وإن كان للكافرين نصيب } من الغلب لكم والظفر بكم { قالوا } للكافرين { ألم نستحوذ عليكم } أي : ألم نقهركم ونغلبكم ونتمكن منكم ولكن أبقينا عليكم وقيل المعنى : إنهم قالوا للكفار الذين ظفروا بالمسلمين ألم نستحوذ عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم ؟ والأول أولى فإن معنى الاستحواذ : الغلب يقال استحوذ على كذا : أي غلب عليه ومنه قوله تعالى { استحوذ عليهم الشيطان } ولا يصح أن يقال : ألم نغلبكم حتى هابكم المسلمون ولكن المعنى : ألم نغلبكم يا معشر الكافرين ونتمكن منكم فتركناكم وأبقينا عليكم حتى حصل لكم هذا الظفر بالمسلمين { ونمنعكم من المؤمنين } بتخذيلهم وتثبيطهم عنكم حتى ضعفت قلوبهم عن الدفع لكم وعجزوا عن الانتصاف منكم والمراد أنهم يميلون مع من له الغلب والظفر من الطائفتين ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة وهذا شأن المنافقين أبعدهم الله وشأن من حذا حذوهم من أهل الإسلام من التظهر لكل طائفة بأنه معها على الأخرى والميل إلى من معه الحظ من الدنيا في مال أو جاه فيلقاه بالتملق والتودد والخضوع والذلة ويلقى من لاحظ له من الدنيا بالشدة والغلظة وسوء الخلق ويزدري به ويكافحه بكل مكروه فقبح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها قوله { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } بما انطوت عليه ضمائرهم من النفاق والبغض للحق وأهله ففي هذا اليوم تنكشف الحقئق وتظهر الضمائر وإن حقنوا في الدنيا دماءهم وحفظوا أموالهم بالتكلم بكلمة الإسلام نفاقا { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } هذا في يوم القيامة إذا كان المراد بالسبيل النصر والغلب أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة قال ابن عطية : قال جميع أهل التأويل : إن المراد بذلك يوم القيامة قال ابن العربي : وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله يعني قوله { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } وذلك يسقط فائدته إذ يكون تكرارا هذا معنى كلامه وقيل المعنى : إن الله لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين يمحو به دولتهم ويذهب آثارهم ويستبيح بيضتهم كما يفيده الحديث الثابت في الصحيح [ وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ] وقيل : إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل ولا تاركين للنهي عن المنكر كما قال تعالى { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } قال ابن العربي : وهذا نفيس جدا وقيل : إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعا فإن وجد فبخلاف الشرع هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله { إن الذين آمنوا ثم كفروا } الآية قال : هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه في الآية قال : هؤلاء اليهود آمنوا بالتوراة ثم كفروا ثم ذكر النصارى فقال { ثم آمنوا ثم كفروا } يقول : آمنا بالإنجيل ثم كفروا { ثم ازدادوا كفرا } بمحمد صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : هؤلاء المنافقون آمنوا مرتين ثم كفروا مرتين ثم ازدادوا كفرا بعد ذلك وأخرج ابن أبي حاتم عن عباس في قوله { ثم ازدادوا كفرا } قال : تموا على كفرهم حتى ماتوا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي وائل قال : إن الرجل ليتكلم في المجلس بالكلمة من الكذب ليضحك بها جلساءه فيسخط الله عليهم جميعا فذكروا ذلك لإبراهيم النخعي فقال : صدق أبو وائل أو ليس ذلك في كتاب الله ؟ { فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره } وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : أنزل في سورة الأنعام { حتى يخوضوا في حديث غيره } ثم ينزل التشديد في سورة النساء { إنكم إذا مثلهم } وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير أن الله جامع المنافقين من أهل المدينة والكافرين من أهل مكة الذين خاضوا واستهزأوا بالقرآن في جهنم جميعا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد { الذين يتربصون بكم } قال : هم المنافقون يتربصون بالمؤمنين { فإن كان لكم فتح من الله } إن أصاب المسلمين من عدوهم غنيمة قال المنافقون { ألم نكن } قد كنا { معكم } فأعطونا من الغنيمة مثل ما تأخذون { وإن كان للكافرين نصيب } يصيبونه من المسلمين قال المنافقون للكفار { ألم نستحوذ عليكم } ألم نبين لكم أنا على أما أنتم عليه قد كنا نثبطهم عنكم وأخرج ابن جرير عن السدي { ألم نستحوذ عليكم } قال : نغلب عليكم وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه عن علي أنه قيل له : أرأيت هذه الآية { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون فقال : ادنه ادنه ثم قال { فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : في الآخرة وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي مالك نحوه أيضا وأخرج ابن جرير عن السدي { سبيلا } قال : حجة (1/795)
قوله 142 - { إن المنافقين يخادعون الله } هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين وفضائحهم وقد تقدم معنى الخدع في البقرة ومخادعتهم لله هي أنهم يفعلون فعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر ومعنى كون الله خادعهم : أنه صنع بهم صنع من يخادع من خادعه وذلك أنه تركهم على ما هم عليه من التظهر بالإسلام في الدنيا فعصم به أموالهم ودماءهم وأخر عقوبتهم إلى الدار الآخرة فجازهم على خداعهم بالدرك الأسفل من النار قال في الكشاف : والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه والكسالى بضم الكاف جمع كسلان وقرئ بفتحها والمراد أنهم يصلون وهم متكاسلون متثاقلون لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا والرياء إظهار الجميل ليراه الناس لا لاتباع أمر الله وقد تقدم بيانه والمراءاة المفاعلة قوله { ولا يذكرون الله إلا قليلا } معطوف على يراؤون : أي لا يذكرونه سبحانه إلا ذكرا قليلا أو لا يصلون إلا صلاة قليلة ووصف الذكر بالقلة لعدم الإخلاص أو لكونه غير مقبول أو لكونه قليلا في نفسه لأن الذي يفعل الطاعة لقصد الرياء إنما يفعلها في المجامع ولا يفعلها خاليا كالمخلص (1/798)
قولبه 143 - { مذبذبين بين ذلك } المذبذب المتردد بين أمرين والذبذبة الاضطراب يقال : ذبذبه فتذبذب ومنه قول النابغة :
( ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب )
قال ابن الجني : المذبذب القلق الذي لا يثبت على حال فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين لا مخلصين الإيمان ولا مصرحين بالكفر قال في الكشاف : وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين : أي يذاد ويدفع فلا يقر في جانب واحد كما يقال : فلان يرمي به الرجوان إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب كأن المعنى : كلما مال إلى جانب ذب عنه انتهى وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح الذالين وقرأ ابن عباس بكسر الذال الثانية وفي حرف أبي متذبذبين وقرأ الحسن بفتح الميم والذالين وانتصاب { مذبذبين } إما على الحال أو على الذم والإشارة بقوله بين ذلك إلى الإيمان والكفر قوله { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } أي : لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين ومحل الجملة النصب على الحال أو على البدل من مذبذبين أو على التفسير له { ومن يضلل الله } أي : يخذله ويسلبه التوفيق { فلن تجد له سبيلا } أي : طريقا يوصله إلى الحق (1/799)
قوله 144 - { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين } أي : لا تجعلوهم خاصة لكم وبطانة توالونهم من دون إخوانكم من المؤمنين كما فعل المنافقون من موالاتهم للكافرين { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } الاستفهام للتقريع والتوبيخ : أي أتريدون أن تجعلوا الله عليكم حجة بينة يعذبكم بها بسبب ارتكابكم لما نهاكم عنه من موالاة الكافرين (1/799)
145 - { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } قرأ الكوفيون { الدرك } بسكون الراء وقرأ غيرهم بتحريكها قال أبو علي : هما لغتان والجمع أدراك وقيل : جمع المحرك أدراك مثل جمل وأجمال وجمع الساكن أدرك مثل فلس وأفلس قال النحاس : والتحريك أفصح والدرك : الطبقة والنار دركات سبع فالمنافق في الدرك الأسفل منها وهي الهاوية لغلظ كفره وكثرة غوائله وأعلى الدركات جهنم ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية وقد تسمى جميعها باسم الطبقة العليا أعاذنا الله من عذابها { ولن تجد لهم نصيرا } يخلصهم من ذلك الدرك والخطاب لكل من يصلح له أو للنبي صلى الله عليه و سلم (1/799)
146 - { إلا الذين تابوا } استثناء من المنافقين : أي إلا الذين تابوا عن النفاق { وأصلحوا } ما أفسدوا من أحوالهم { وأخلصوا دينهم لله } أي : جعلوه خالصا له غير مشوب بطاعة غيره والاعتصام بالله : التمسك به والوثوق بوعده والإشارة بقوله { أولئك } إلى الذين تابوا واتصفوا بالصفات السابقة قوله { مع المؤمنين } قال الفراء : أي من المؤمنين يعني الذين لم يصدر منهم نفاق أصلا قال القتيبي : حاد عن كلامهم غضبا عليهم فقال { فأولئك مع المؤمنين } ولم يقل هم المؤمنون انتهى والظاهر أن معنى مع معتبر هنا : أي فأولئك مصاحبون للمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة ثم بين ما أعد الله للمؤمنين الذين هؤلاء معهم فقال { وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما } وحذفت الياء من يؤت في الخط كما حذفت في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها ومثله { يوم يدع الداع } و { سندع الزبانية } { يوم يناد المناد } ونحوها فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين (1/800)
قوله 147 - { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } هذه الجملة متضمنة لبيان أنه لا غرض له سبحانه في التعذيب إلا مجرد المجازاة للعصاة والمعنى : أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم فإن ذلك لا يزيد في ملكه كما أن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه { وكان الله شاكرا عليما } أي : يشكر عباده على طاعته فيثيبهم عليها ويتقبلها منهم والشكر في اللغة : الظهور يقال شكور : إذا ظهر من سمنها فوق ما تعطى من العلف
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسن في قوله { إن المنافقين يخادعون الله } الآية قال : يلقي على مؤمن ومنافق نور يمشون به يوم القيامة حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ومضى المؤمنون بنورهم فتلك خديعة الله إياهم وأخرج ابن جرير عن السدي نحوه وأخرج ابن المنذر عن مجاهد وسعيد بن جبير نحوه أيضا ولا أدري من أين جاء لهم هذا التفسير فإن مثله لا ينقل إلا عن النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في الآية قال : نزلت في عبد الله بن أبي وأبي عامر بن النعمان وقد ورد في الأحاديث الصحيحة وصف صلاة المنافق وأنه يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر فيها إلا قليلا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله { مذبذبين بين ذلك } قال : هم المنافقون { لا إلى هؤلاء } يقول : لا إلى أصحاب محمد { ولا إلى هؤلاء } اليهود وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن مثل المنافق مثل الشاة الغائرة بين الغنمين تغير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة فلا تدري أيهما تتبع ؟ ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } قال : إن الله السلطان على خلقه ولكنه يقول عذرا مبينا وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كل سلطان في القرآن فهو حجة والله سبحانه أعلم وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } قال : في توابيت من حديد مقفلة عليهم وفي لفظ مبهمة عليهم : أي مغلقة لا يهتدى لمكان فتحها وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن مسعود نحوه أيضا وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم } الآية قال : إن الله لا يعذب شاكرا ولا مؤمنا (1/800)
نفي الحب كناية عن البغض وقراءة الجمهور 148 - { إلا من ظلم } على البناء للمجهول وقرأ زيد بن أسلم وابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب { إلا من ظلم } على البناء للمعلوم وهو على القراءة الأولى استثناء متصل بتقدير مضاف محذوف : أي إلا جهر من ظلم وقيل : إنه على القراءة الأولى أيضا منقطع : أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان
واختلف أهل العلم في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم فقيل : هو أن يدعو على من ظلمه وقيل : لا بأس أن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه بأن يقول : فلان ظلمني أو هو ظالم أو نحو ذلك وقيل معناه : إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه فهو مباح له والآية على هذا في الإكراه وكذا قال قطرب قال : ويجوز أن يكون على البدل كأنه قال لا يحب الله إلا من ظلم : أي لا يحب الظالم بل يحب المظلوم والظاهر من الآية أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح بلفظ [ لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته ] وأما على القراءة الثانية فالاستثناء منقطع : أي : إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له وقال قوم : معنى الكلام : لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول لكن من ظلم فإنه يحهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في ذلك وهذا شأن كثير من الظلمة فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم على من ظلموه وينالون من عرضه وقال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى إلا من ظلم فقال سوءا فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه ويكون استثناء ليس من الأول { وكان الله سميعا عليما } هذا تحذير للظالم بأن الله يسمع ما يصدر منه ويعلم به ثم بعد أن أباح للمظلوم أن يجهر بالسوء ندب إلى ما هو الأولى والأفضل (1/801)
فقال 149 - { إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء } تصابون به { فإن الله كان عفوا } عن عباده { قديرا } على الانتقام منهم بما كسبت أيديهم فاقتدوا به سبحانه فإنه يعفو مع القدرة
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول } قال : لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما فإنه رخص له أن يدعو على من ظلمه وإن يصبر فهو خير له وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في الآية قال : نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاة من الأرض فلم يضفه ثم ذكر أنه لم يضفه لم يزد على ذلك وأخرج ابن المنذر عن إسماعيل { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } قال : كان الضحاك بن مزاحم يقول : هذا على التقديم والتأخير يقول الله ما فعل بعذابكم إن شكرتم وآمنتم إلا من ظلم وكان يقرأها كذلك ثم قال { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول } أي : على كل حال هكذا قال وهو قريب من التحريف لمعنى الآية وقد أخرج ابن أبي شيبة والترمذي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من دعا على من ظلمه فقد انتصر ] وروى نحوه أبو داود عنها من وجه آخر وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ المتسابان ما قالاه فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم ] (1/802)
لما فرغ من ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه و سلم فكان ذلك كالكفر بجميع الرسل والكتب المنزلة والكفر بذلك كفر بالله وينبغي حمل قوله 150 - { إن الذين يكفرون بالله ورسله } على أنه استلزم ذلك كفرهم ببعض الكتب والرسل لا أنهم كفروا بالله ورسله جميعا فإن أهل الكتاب لم يكفروا بالله ولا بجميع رسله لكنهم لما كفروا بالبعض كان ذلك كفر بالله وبجميع الرسل ومعنى : { ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله } أنهم كفروا بالرسل بسبب كفرهم ببعضهم وآمنوا بالله فكان ذلك تفريقا بين الله وبين رسله { ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض } هم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد كذلك النصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد { ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا } أي : يتخذوا بين الإيمان والكفر دينا متوسطا بينهما فالإشارة بقوله { ذلك } إلى قوله : نؤمن ونكفر (1/803)
151 - { أولئك هم الكافرون } أي : الكاملون في الكفر وقوله { حقا } مصدر مؤكد لمضمون الجملة : أي حق ذلك حقا أو هو صفة لمصدر الكافرين : أي كفرا حقا (1/803)
قوله 152 - { ولم يفرقوا بين أحد منهم } بأن يقولوا : نؤمن ببعض ونكفر ببعض ودخول بين على أحد لكونه عاما في المفرد مذكرا ومؤنثا ومثناهما وجمعهما وقد تقدم تحقيقه والإشارة بقوله { أولئك } إلى الذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال { أولئك } أعداء الله اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى وكفروا بالقرآن ومحمد اتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رسله وأخرج ابن جرير عن السدي وابن جريج نحوه (1/803)
قوله 153 - { يسألك أهل الكتاب } هم اليهود سألوه صلى الله عليه و سلم أن يرقى إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدعيه يدل على صدقه دفعة واحدة كما أتى موسى بالتوراة تعنتا منهم أبعدهم الله فأخبره الله عز و جل بأنهم قد سألوا موسى سؤالا أكبر من هذا السؤال فقالوا { أرنا الله جهرة } أي : عيانا وقد تقدم معناه في البقرة وجهرة نعت لمصدر محذوف : أي رؤية جهرة وقوله { فقد سألوا } جواب شرط مقدر : أي إن استكبرت هذا السؤال منهم لك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك قوله { فأخذتهم الصاعقة } هي النار التي نزلت عليهم من السماء فأهلكتهم والباء في قوله { بظلمهم } لسببية : أي بسبب ظلمهم في سؤالهم الباطل لامتناع الرؤية عيانا في هذه الحالة وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة فقد جاءت بذلك لامتناع الرؤية عيانا في هذه الحالة وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة فقد جاءت بذلك الأحاديث المتواترة ومن استدل بهذه الآية على امتناع الرؤية يوم القيامة فقد غلط غلطا بينا ثم لم يكتفوا بهذا السؤال الباطل الذي نشأ منهم بسبب ظلمهم بعد ما رأوا المعجزات بل ضموا إليه ما هو أقبح منه وهو عبادة العجل وفي الكلام حذف والتقدير : فأحييناهم فاتخذوا العجل والبينات : البراهين والدلائل والمعجزات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها { فعفونا عن ذلك } أي : عما كان منهم من التعنت وعبادة العجل { وآتينا موسى سلطانا مبينا } أي : حجة بينة وهي الآيات التي جاء بها وسميت سلطانا لأن من جاء بها قهر خصمه ومن ذلك أمر الله سبحانه له بأن يأمرهم بقتل أنفسهم توبة عن معصيتهم فإنه من جملة السلطان الذي قهرهم به (1/804)
154 - { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم } أي : بسبب ميثاقهم ليعطوه لأنه روي أنهم امتنعوا من قبول شريعة موسى فرفع الله عليهم الطور فقبلوها وقيل : إن المعنى بسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ منهم وهو العمل بما في التوراة وقد تقدم رفع الجبل في البقرة وكذلك تفسير دخولهم الباب سجدا { وقلنا لهم لا تعدوا في السبت } فتأخذوا ما أمرتم بتركه فيه من الحيتان وقد تقدم تفسير ذلك وقرئ لا تعتدوا وتعدوا بفتح العين وتشديد الدال { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } مؤكدا وهو العهد الذي أخذه عليهم في التوراة وقيل إنه عهد مؤكدا باليمين فسمي غليظا لذلك (1/805)
قوله 155 - { فبما نقضهم ميثاقهم } ما مزيدة للتوكيد أو نكرة ونقضهم بدل منها والباء متعلقة بمحذوف والتقدير : فبنقضهم ميثاقهم لعناهم وقال الكسائي : هو متعلق بما قبله والمعنى : فأخذتهم الصاعقة بظلمهم إلى قوله { فبما نقضهم ميثاقهم } قال : ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة بسببه بما بعده من نقضهم ميثاقهم وقتلهم الأنبياء وما بعده وأنكر ذلك ابن جرير الطبري وغيره لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى والذين قتلوا الأنبياء ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برمتهم بالبهتان قال المهدوي وغيره : وهذا لا يلزم لأنه يجوز أن يخبر عنهم والمراد آباؤهم وقال الزجاج : المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم لأن هذه القصة ممتدة إلى قوله { فبظلم من الذين هادوا حرمنا } ونقضهم الميثاق أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلى الله عليه و سلم وقيل المعنى : فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم وقيل المعنى : فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلا والفاء في قوله { فلا يؤمنون } مقحمة قوله { وكفرهم بآيات الله } معطوف على ما قبله وكذا قوله { وقتلهم } والمراد بآيات الله كتبهم التي حرفوها والمراد بالأنبياء الذين قتلوهم يحيى وزكرياء وغلف جمع أغلف وهو المغطى بالغلاف : أي قلوبنا في أغطية فلا تفقه ما تقول وقيل : إن غلف جمع غلاف والمعنى : أن قلوبهم أوعية للعلم فلا حاجة لهم إلى علم غير ما قد حوته قلوبهم وهو كقولهم { قلوبنا في أكنة } وغرضهم بهذا رد حجة الرسل قوله { بل طبع الله عليها بكفرهم } هذه الجملة اعتراضية : أي ليس عدم قبولهم للحق بسبب كونها غلفا بحسب مقصدهم الذي يريدونه بل بحسب الطبع من الله عليها والطبع : الختم وقد تقدم إيضاح معناه في البقرة وقوله { فلا يؤمنون إلا قليلا } أي : هي مطبوع عليها من الله بسبب كفرهم فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا أو إلا قليلا منهم كعبد الله بن سلام ومن أسلم معه منهم (1/805)
وقوله 156 - { وبكفرهم } معطوف على قولهم وإعادة الجار لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه وهذا التكرير لإفادة أنهم كفروا كفرا بعد كفر وقيل : إن المراد بهذا الكفر كفرهم بالمسيح فحذف لدلالة ما بعد عليه قوله { وقولهم على مريم بهتانا عظيما } هو رميها بيوسف النجار وكان من الصالحين والبهتان : الكذب المفرط الذي يتعجب منه (1/806)
قوله 157 - { وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } معطوف على ما قبله وهو من جملة جناياتهم وذنوبهم لأنهم كذبوا بأنهم قتلوه وافتخروا بقتله وذكروه بالرسالة استهزاء لأنهم ينكرونها ولا يعترفون بأنه نبي وما ادعوه من أنهم قتلوه قد اشتمل على بيان صفته وإيضاح حقيقته الإنجيل وما فيه هو من تحريف النصارى : أبعدهم الله فقد كذبوا وصدق الله القائل في كتابه العزيز { وما قتلوه وما صلبوه } والجملة حالية : أي قالوا ذلك والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه { ولكن شبه لهم } أي : ألقي شبهه على غيره وقيل : لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه { وإن الذين اختلفوا فيه } أي : في شأن عيسى فقال بعضهم قتلناه وقال من عاين رفعه إلى السماء ما قتلناه وقيل : إن الاختلاف بينهم هو أن النسطورية من النصارى قالوا : صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته وقالت الملكانية : وقع القتل والصلب على المسيح بكماله ناسوته ولاهوته ولهم من جنس هذا الاختلاف كلام طويل لا أصل له ولهذا قال الله { وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه } أي : في تردد لا يخرج إلى حيز الصحة ولا إلى حيز البطلان في اعتقادهم بل هم مترددون مرتابون في شكهم يعمهون وفي جهلهم يتحيرون و { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } من زائدة لتوكيد نفي العلم والاستثناء منقطع : أي لكنهم يتبعون الظن وقيل : هو بدل بما قبله والأول أولى لا يقال إن اتباع الظن ينافي الشك الذي أخبر الله عنهم بأنهم فيه لأن المراد هنا بالشك التردد كما قدمنا والظن نوع منه وليس المراد به هنا ترجح أحد الجانبين قوله { وما قتلوه يقينا } أي : قتلا يقينا على أنه صفة مصدر محذوف أو متيقنين على أنه حال وهذا على أن الضمير في قتلوه لعيسى وقيل : إنه يعود إلى الظن والمعنى : ما قتلوا ظنهم يقينا كقولك قتلته علما إذا علمته علما تاما قال أبو عبيدة : ولو كان المعنى وما قتلوه عيسى يقينا لقال وما قتلوه فقط وقيل المعنى : وما قتلوه الذي شبه لهم وقيل المعنى : بل رفعه الله إليه يقينا وهو خطأ لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها وأجاز ابن الأنباري نصب يقينا بفعل مضمر هو جواب قسم ويكون { بل رفعه الله إليه } كلاما مستأنفا ولا وجه لهذه الأقوال والضمائر قبل قتلوه وبعده لعيسى وذكر اليقين هنا لقصد التهكم بهم لإشعاره بعلمهم في الجملة (1/806)
قوله 158 - { بل رفعه الله إليه } رد عليهم وإثبات لما هو الصحيح وقد تقدم ذكر رفعه عليه السلام في آل عمران (1/807)
قوله 159 - { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى والمعنى : وما من أهل الكتاب أحد إلا والله ليؤمنن به قبل موته والضمير في به راجع إلى عيسى والضمير في موته راجع إلى ما دل عليه الكلام وهو لفظ أحد المقدر أو الكتابي المدلول عليه بأهل الكتاب وفيه دليل على أنه لا يموت يهودي أو نصراني إلا وقد آمن بالمسيح وقيل : كلا الضميرين لعيسى والمعنى : أنه لا يموت عيسى حتى يؤمن به كل كتابي في عصره وقيل : الضمير الأول لله وقيل : إلى محمد وقد اختار كون الضميرين لعيسى ابن جرير وقال به جماعة من السلف وهو الظاهر والمراد الإيمان به عند نزوله في آخر الزمان كما وردت بذلك الأحاديث المتواترة { ويوم القيامة يكون } عيسى على أهل الكتاب { شهيدا } يشهد على اليهود بالتكذيب له وعلى النصارى بالغلو فيه حتى قالوا هو ابن الله
وقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : إن موسى جاء بالألواح من عند الله فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك فأنزل الله { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء } إلى { وقولهم على مريم بهتانا عظيما } وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال : إن اليهود والنصارى قالوا لمحمد صلى الله عليه و سلم : لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنك رسول الله وإلى فلان أنك رسول الله فأنزل الله { يسألك أهل الكتاب } الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { أرنا الله جهرة } قال : إنهم إذا رأوه فقد رأوه وإنما قالوا جهرة أرنا الله قال : هو مقدم ومؤخر وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله { ورفعنا فوقهم الطور } قال : جبل كانوا في أصله فرفعه الله فجعله فوقهم كأنه ظلة فقال : لتأخذن أمري أو لأرمينكم به فقالوا : نأخذه فأمسكه الله عنهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وقولهم على مريم بهتانا عظيما } قال : رموها بالزنا وأخرج سعيد بن منصور والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال : إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له : اجلس ثم أعاد عليهم فقال الشاب فقال : اجلس ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال : أنا فقال : أنت ذاك فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى في روزنة في البيت إلى السماء قال : وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به وافترقوا ثلاث فرق فقالت طائفة : كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء فهؤلاء اليعوقبية وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا فأنزل الله عليه { فآمنت طائفة من بني إسرائيل } يعني : الطائفة التي آمنت في زمن عيسى { وكفرت طائفة } يعني : التي كفرت في زمن عيسى { فأيدنا الذين آمنوا } في زمن عيسى بإظهار محمد دينهم على دين الكافرين قال ابن كثير بعد أن ساقه بهذا اللفظ عن ابن أبي حاتم قال : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وصدق ابن كثير فهؤلاء كلهم من رجال الصحيح وأخرجه النسائي من حديث أبي كريب عن أبي معاوية بنحوه وقد رويت قصته عليه السلام من طرق بألفاظ مختلفة وساقها عبد بن حميد وابن جرير عن وهب بن منبه على صفة قريبة مما في الإنجيل وكذلك ساقها ابن المنذر عنه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { وما قتلوه يقينا } قال : لم يقتلوا ظنهم يقينا وأخرج ابن المنذر عن مجاهد مثله وأخرج ابن جرير عن ابن جويبر والسدي مثله أيضا وأخرج الفريابي وعبد بن حميد والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } قال : خروج عيسى ابن مريم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه في الآية قال : قبل موت عيسى وأخرجا عنه أيضا قال : قبل موت اليهودي وأخرج ابن جرير عنه قال : إنه سيدرك أناس من أهل الكتاب عيسى حين يبعث سيؤمنون به وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عنه قال : [ ليس يهودي يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى قيل لابن عباس أرأيت إن خر من فوق بيت ؟ قال : يتكلم به في الهواء فقيل : أرأيت إن ضرب عنق أحدهم ؟ قال : يتلجلج به لسانه ] وقد روي نحو هذا عنه من طرق وقال به جماعة من التابعين وذهب كثير من التابعين فمن بعدهم إلى أن المراد قبل موت عيسى كما روي عن ابن عباس قبل هذا وقيده كثير منهم بأنه يؤمن به من أدركه عند نزوله إلى الأرض وقد تواترت الأحاديث بنزول عيسى حسبما أوضحنا ذلك في مؤلف مستقل يتضمن ذكر ما ورد في المنتظر والدجال والمسيح (1/807)
الباء في قوله 160 - { فبظلم } للسببية والتنكير والتنوين للتعظيم : أي فبسبب ظلم عظيم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم لا بسبب شيء آخر كما زعموا أنها كانت محرمة على من قبلهم وقال الزجاج : هذا بدل من قوله { فبما نقضهم } والطيبات المذكورة هي ما نصه الله سبحانه { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } الآية { وبصدهم } أنفسهم وغيرهم { عن سبيل الله } وهو اتباع محمد صلى الله عليه و سلم وتحريفهم وقتلهم الأنبياء وما صد منهم من الذنوب المعروفة وقوله { كثيرا } مفعول للفعل المذكور : أي بصدهم ناسا كثيرا أو صفة مصدر محذوف : أي صدا كثيرا (1/809)
161 - { وأخذهم الربا وقد نهوا عنه } أي : معاملتهم فيما بينهم بالربا وأكلهم له وهو محرم عليهم { وأكلهم أموال الناس بالباطل } كالرشوة والسحت الذي كانوا يأخذونه (1/810)
قوله 162 - { لكن الراسخون في العلم منهم } استدراك من قوله { وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما } أو { من الذين هادوا } وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا : إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها فنزل { لكن الراسخون } والراسخ : هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه والرسوخ : الثبوت وقد تقدم الكلام عليه في آل عمران والمراد عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ونحوهما والراسخون مبتدأ ويؤمنون خبره والمؤمنون معطوف على الراسخون والمراد بالمؤمنين إما من آمن من أهل الكتاب أو من المهاجرين والأنصار أو من الجميع قوله { والمقيمين الصلاة } قرأ الحسن ومالك بن دينار وجماعة { والمقيمين الصلاة } على العطف على ما قبله وكذا هو في مصحف ابن مسعود واختلف في وجه نصبه على قراءة الجمهور على أقوال : الأول قول سيبويه أنه نصب على المدح : أي أعني المقيمين قال سيبويه : هذا باب ما ينتصب على التعظيم ومن ذلك { والمقيمين الصلاة } وأنشد :
( وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم ... إلا نميرا أطاعت أمر غاويها )
( الطاعنين ولما يطعنوا أحدا ... والقائلون لمن دار نخيلها )
وأنشد :
( لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر )
( النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر )
قال النحاس : وهذا أصح ما قيل في المقيمين وقال الكسائي والخليل : هو معطوف على قوله { بما أنزل إليك } قال الأخفش : وهذا بعيد لأن المعنى يكون هكذا : ويؤمنون بالمقيمين ووجهه محمد بن يزيد المبرد بأن المقيمين هنا هم الملائكة فيكون المعنى : يؤمنون بما أنزل إليك وبما أنزل من قبلك وبالملائكة واختار هذا وحكي أن النصب على المدح بعيد لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر وخبر الراسخون هو قوله { أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما } وقيل : إن المقيمين معطوف على الضمير في قوله { منهم } وفيه أنه عطف على مضمر بدون إعادة الخافض وحكي عن عائشة أنها سئلت عن المقيمين في هذه الآية وعن قوله تعالى { إن هذان لساحران } وعن قوله { والصابئون } في المائدة ؟ فقالت : يا ابن أخي الكتاب أخطأوا أخرجه عنها أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وقال أبان بن عثمان كان الكاتب يملي علي فيكتب فكتب { لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون } ثم قال : ما أكتب ؟ فقيل له : أكتب { والمقيمين الصلاة } فمن ثم وقع هذا أخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر قال القشيري : وهذا باطل لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة فلا يظن بهم ذلك ويجاب عن القشيري بأنه قد روي عن عثمان بن عفان أنه لما فرغ من المصحف وأتي به إليه قال : أرى فيه شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها أخرجه عنه ابن أبي داود من طرق وقد رجح قول سيبويه كثير من أئمة النحو والتفسير ورجح قول الخليل والكسائي ابن جرير الطبري والقفال وعلى قول سيبويه تكون الجملة معترضة بين المبتدأ والخر على قول من قال : إن خبر الراسخون هو قوله { أولئك سنؤتيهم } أو بين المعطوف والمعطوف عليه إن جعلنا خبر الراسخون هو يؤمنون وجعلنا قوله { والمؤتون الزكاة } عطفا على المؤمنون لا على قول سيبويه أن المؤتون الزكاة مرفوع على الابتداء أو على تقدير مبتدأ محذوف : أي هم المؤتون الزكاة قوله { والمؤمنون بالله واليوم الآخر } هم مؤمنو أهل الكتاب وصفوا أولا بالرسوخ في العلم ثم بالإيمان بكتب الله وأنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويؤمنون بالله واليوم الآخر وقيل : المراد بهم المؤمنون من المهاجرين والأنصار كما سلف وأنهم جامعون بين هذه الأوصاف والإشارة بقوله { أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما } إلى الراسخون وما عطف عليه (1/810)
قوله 163 - { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } هذا متصل بقوله { يسألك أهل الكتاب } والمعنى : أن أمر محمد صلى الله عليه و سلم كأمر من تقدمه من الأنبياء فما بالكم تطلبون منه ما لم يطلبه أحد من المعاصرين للرسل والوحي إعلام في خفاء يقال : وحي إليه بالكلام وحيا وأوحى يوحي إيحاء وخص نوحا لكونه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع وقيل غير ذلك والكاف في قوله { كما } نعت مصدر محذوف : أي : إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح أو حال : أي أوحينا إليك هذا الإيحاء حال كونه مشبها بإيحائنا إلى نوح قوله { وأوحينا إلى إبراهيم } معطوف على { أوحينا إلى نوح } { وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } وهم أولاد يعقوب كما تقدم { وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان } خص هؤلاء بالذكر بعد دخولهم في لفظ النبيين تشريفا لهم كقوله { وملائكته ورسله وجبريل } وقدم عيسى على أيوب ومن بعده مع كونهم في زمان قبل زمانه ردا على اليهود الذي كفروا به وأيضا فالواو ليس إلا لمطلق الجمع قوله { وآتينا داود زبورا } معطوف على أوحينا والزبور : كتاب داود قال القرطبي : وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام وإنما هي حكم ومواعظ انتهى قلت : هو مائة وخمسون مزمورا والمزمور : فصل يشتمل على كلام لداود يستغيث بالله من خصومه ويدعو الله عليهم ويستنصره وتارة يأتي بمواعظ وكان يقول ذلك في الغالب في الكنيسة ويستعمل مع تكلمه بذلك شيئا من الآلات التي لها نغمات حسنة كما هو مصرح بذلك في كثير من تلك المزمورات والزبير : الكتابة والزبور بمعنى المزبور : أي المكتوب كالرسول والحلوب والركوب وقرأ حمزة { زبورا } بضم الزاي جمع زبر كفلس وفلوس والزبر بمعنى المزبور والأصل في الكلمة التوثيق يقال : بئر مزبورة : أي مطوية بالحجارة والكتاب سمي زبورا لقوة الوثيقة به (1/811)
قوله 164 - { ورسلا } منصوب بفعل مضمر يدل عليه { أوحينا } أي : وأرسلنا رسلا { قد قصصناهم عليك من قبل } وقيل : هو منصوب بفعل دل عليه { قصصناهم } أي : وقصصنا رسلا ومثله ما أنشده سيبويه :
( أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا )
( والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا )
أي : وأخشى الذئب وقرأ أبي { رسل } بالرفع على تقدير ومنهم رسل ومعنى : { من قبل } أنه قصهم عليه من قبل هذه السورة أو من قبل هذا اليوم قيل : إنه لما قص الله في كتابه بعض أسماء أنبيائه ولم يذكر أسماء بعض قالت اليهود : ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى فنزل { وكلم الله موسى تكليما } وقراءة الجمهور برفع الاسم الشريف على أن الله هو الذي كلم موسى وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب بنصب الاسم الشريف على أن موسى هو الذي كلم الله سبحانه و { تكليما } مصدر مؤكد وفائدة التأكيد دفع توهم كون التكليم مجازا كما قال الفراء إن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وقيل : ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام قال النحاس : وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا (1/812)
قوله 165 - { رسلا مبشرين ومنذرين } بدل من رسلا الأول أو منصوب بفعل مقدر : أي وأرسلنا أو على الحال بأن يكون رسلا موطئا لما بعده أو على المدح : أي مبشرين لأهل الطاعات ومنذرين لأهل المعاصي قوله { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } أي : معذرة يعتذرون بها كما في قوله تعالى { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا : ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك } وسميت المعذرة حجة مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة تنبيها على أن هذه المعذرة مقبولة لديه تفضلا منه ورحمة ومعنى قوله { بعد الرسل } بعد إرسال الرسل { وكان الله عزيزا } لا يغالبه مغالب { حكيما } في أفعاله التي من جملتها إرسال الرسل
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد { وبصدهم عن سبيل الله كثيرا } قال : أنفسهم وغيرهم عن الحق وأخرج ابن إسحاق في الدلائل عن ابن عباس في قوله { لكن الراسخون في العلم منهم } قال : نزلت في عبد الله بن سلام وأسيد بن شعبة وثعلبة بن شعبة حين فارقوا اليهود وأسلموا وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عنه أن بعض اليهود قال : يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى فأنزل الله { إنا أوحينا إليك } الآية وأخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن حبان في صحيحه والحاكم وابن عساكر عن أبي ذر قال : [ قلت يا رسول الله كم الأنبياء ؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قلت : كم الرسل منهم ؟ قال : ثلثمائة وثلاثة عشر جم غفير وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن أبي أمامة مرفوعا إلا أنه قال : والرسل ثلثمائة وخمسة عشر ] وأخرج أبو يعلى والحاكم بسند ضعيف عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي ثم كان عيسى ثم كنت أنا بعده ] وأخرج الحاكم عن أنس بسند ضعيف نحوه وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ] (1/813)
قوله 166 - { لكن الله يشهد } الاسم الشريف مبتدأ والفعل خبره ومع تشديد النون هو منصوب على أنه اسم لكن والاستدراك من محذوف مقدر كأنهم قالوا : ما نشهد لك يا محمد بهذا : أي الوحي والنبوة فنزل { لكن الله يشهد } وقوله { والملائكة يشهدون } جملة معطوفة على الجملة الأولى أو جملة حالية وكذلك قوله { أنزله بعلمه } جملة حالية : أي متلبسا بعلمه الذي لا يعلمه غيره من كونك أهلا لما اصطفاك الله له من النبوة وأنزله عليك من القرآن { وكفى بالله شهيدا } أي : كفى الله شاهدا والباء زائدة وشهادة الله سبحانه هي ما يصنعه من المعجزات الدالة على صحة النبوة فإن وجود هذه المعجزات شهادة للنبي صلى الله عليه و سلم بصدق ما أخبر به من هذا وغيره (1/814)
167 - { إن الذين كفروا } بكل ما يجب الإيمان به أو بهذا الأمر الخاص وهو ما في هذا المقام { وصدوا عن سبيل الله } وهو دين الإسلام بإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه و سلم بقولهم : ما نجد صفته في كتابنا وإنما النبوة في ولد هرون وداود وبقولهم : إن شرع موسى لا ينسخ { قد ضلوا ضلالا بعيدا } عن الحق بما فعلوا لأنهم مع كفرهم منعوا غيرهم عن الحق (1/814)
168 - { إن الذين كفروا } بجحدهم { وظلموا } غيرهم بصدهم عن السبيل أو ظلموا محمدا بكتمانهم نبوته أو ظلموا أنفسهم بكفرهم ويجوز الحمل على جميع هذه المعاني { لم يكن الله ليغفر لهم } إذا استمروا على كفرهم وماتوا كافرين { ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم } لكونهم اقترفوا ما يوجب لهم ذلك بسوء اختيارهم وفرط شقائهم وجحدوا الواضح وعاندوا البين (1/814)
169 - { خالدين فيها أبدا } أي : يدخلهم جهنم خالدين فيها وهي حال مقدرة وقوله { أبدا } منصوب على الظرفية وهو لدفع احتمال أن الخلود هنا يراد به المكث الطويل { وكان ذلك } أي : تخليدهم في جهنم أو تكر المغفرة لهم والهداية مع الخلود في جهنم { على الله يسيرا } لأنه سبحانه لا يصعب عليه شيء { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } (1/815)
170 - { فآمنوا خيرا لكم } اختلف أئمة النحو في انتصاب خيرا على ماذا ؟ فقال سيبويه والخليل بفعل مقدر : أي واقصدوا أو أتوا خيرا لكم وقال الفراء : هو نعت لمصدر محذوف : أي فآمنوا إيمانا خيرا لكم وذهب أبو عبيدة والكسائي إلى أنه خبر لكان مقدرة : أي فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم وأقوى هذه الأقوال الثالث ثم الأول ثم الثاني على ضعف فيه { وإن تكفروا } أي : وإن تستمروا على كفركم { فإن لله ما في السموات والأرض } من مخلوقاته وأنتم من جملتهم ومن كان خاليا لكم ولها فهو قادر على مجازاتكم بقبيح أفعالكم ففي هذه الجملة وعيد لهم مع إيضاح وجه البرهان وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان لأنهم يعترفون بأن الله خالقهم { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } (1/815)
قوله 171 - { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } الغلو : هو التجاوز في الحد ومنه غلا السعر يغلو غلاء وغلا الرجل في الأمر غلوا وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها والمراد بالآية النهي لهم عن الإفراط تارة والتفريط أخرى فمن الإفراط غلو النصارى في عيسى حتى جعلوه ربا ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة وما أحسن قول الشاعر :
( ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم )
{ ولا تقولوا على الله إلا الحق } وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله ولا تقولوا الباطل كقول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى : المسيح ابن الله { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } المسيح مبتدأ وعيسى بدل منه وابن مريم صفة لعيسى ورسول الله الخبر ويجوز أن يكون عيسى ابن مريم عطف بيان والجملة تعليل للنهي وقد تقدم الكلام على المسيح في آل عمران قوله { وكلمته } عطف على رسول الله و { ألقاها إلى مريم } حال أي كونه بقوله كن فكان بشرا من غير أب وقيل { كلمته } بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبرين بقوله { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } وقيل : الكلمة ها هنا بمعنى الآية ومنه { وصدقت بكلمات ربها } وقوله { ما نفدت كلمات الله } قوله { وروح منه } أي : يرسل جبريل فنفخ في درع مريم فحملت بإذن الله وهذه الإضافة للتفضيل وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى وقيل : قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحا ويضاف إلى الله فيقال هذا روح من الله : أي من خلقه كما يقال في النعمة إنها من الله وقيل { روح منه } أي : من خلقه كما قال تعالى { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه } أي : من خلقه وقيل { روح منه } أي : رحمة منه وقيل { روح منه } أي : برهان منه وكان عيسى برهانا وحجة على قومه وقوله { منه } متعلق بمحذوف وقع صفة لروح أي : كائنة منه وجعلت الروح منه سبحانه وإن كانت بنفخ جبريل لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ { فآمنوا بالله ورسله } أي : بأنه سبحانه إله واحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وبأن رسله صادقون مبلغون عن الله ما أمرهم بتبليغه ولا تكذبوهم ولا تغلوا فيهم فتجعلوا بعضهم آلهة قوله { ولا تقولوا ثلاثة } ارتفاع ثلاثة على أنه خبر مبتدأ محذوف قال الزجاج : أي لا تقولوا آلهتنا ثلاثة وقال الفراء وأبو عبيد : أي لا تقولوا هم ثلاثة كقوله { سيقولون ثلاثة } وقال أبو علي الفارسي : لا تقولوا هو ثالث ثلاثة فحذف المبتدأ والمضاف والنصارى مع تفرق مذاهبهم متفقون على التثليث ويعنون بالثلاثة الثلاثة الأقانيم فيجعلونه سبحانه جوهرا واحدا وله ثلاثة أقانيم ويعنون بالأقانيم أقنوم الوجود وأقنوم الحياة وأقنوم العلم وربما يعبرون عن الأقانيم بالآب والابن وروح القدس فيعنون بالأب الوجود وبالروح الحياة وبالابن المسيح وقيل : المراد بالآلهة الثلاثة : الله سبحانه وتعالى ومريم والمسيح وقد اختبط النصارى في هذا اختباطا طويلا
ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى : فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان وتارة يوصف بأنه ابن الله وتارة يوصف بأنه ابن الرب وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين والحق ما أخبرنا الله به في القرآن وما خالفه في التوراة والإنجيل أو الزبور فهو من تحريف المحرفين وتلاعب المتلاعبين ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام
وحاصل ما فيها جميعا أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه إليه وذكر ما جرى له من المعجزات والمراجعات لليهود ونحوهم فاختلفت ألفاظهم واتفقت معانيها وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ والضبط وذكر ما قاله عيسى وما قيل له وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء ولا أنزل على عيسى من عنده كتابا بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوراة ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها وهكذا الزبور فإنه من أوله إلى آخره من كلام داود عليه السلام وكلام الله أصدق وكتابه أحق وقد أخبرنا أن الانجيل كتابه ينزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم وأن الزبور كتابه آتاه داود وأنزله عليه قوله { انتهوا خيرا لكم } أي : انتهوا عن التثليث وانتصاب خيرا هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله { فآمنوا خيرا لكم } { إنما الله إله واحد } لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد { سبحانه أن يكون له ولد } أي : أسبحه تسبيحا عن أن يكون له ولد { له ما في السموات وما في الأرض } وما جعلتمون له شريكا أو ولدا هو من جملة ذلك والمملوك المخلوق لا يكون شريكا ولا ولدا { وكفى بالله وكيلا } بكل الخلق أمورهم إليه ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : [ دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لهم : إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله قالوا : ما نعلم ذلك فأنزل الله { لكن الله يشهد } الآية ] وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن أبي موسى أن النجاشي قال لجعفر : ما يقول صاحبك في ابن مريم ؟ قال : يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته أخرجه من البتول العذراء لم يقربها بشر فتناول عودا من الأرض فرفعه فقال : يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه وأخرجه البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود بأطول من هذا وأخرج البخاري عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ] (1/815)
أصل يستنكف نكف وباقي الحروف زائدة يقال : نكفت من الشيء واستنكفت منه وأنكفته : أي نزهته عما يستنكف منه قال الزجاج : استنكف أي : أنف مأخوذ من نكفت الدمع : إذا نحيته بأصبعك عن خديك وقيل : هو من النكف وهو العيب يقال : ما عليه في هذا الأمر نكف ولا كف : أي عيب ومعنى الأول : لن يأنف عن العبودية ولن يتنزه عنها ومعنى الثاني : لن يعيب العبودية ولن ينقطع عنها { ولا الملائكة المقربون } عطف على المسيح : أي ولن يستنكف الملائكة المقربون عن أن يكونوا عبادا لله
وقد استدل بهذا القائلون بتفضيل الملائكة على الأنبياء وقرر صاحب الكشاف وجه الدلالة بما لا يسمن ولا يغني من جوع وادعى أن الذوق قاض بذلك ونعم الذوق العربي إذا خالطه محبة المذهب وشابه شوائب الجمود كان هكذا وكل من يفهم لغة العرب يعلم أن من قال لا يأنف من هذه المقالة إمام ولا مأموم أو لا كبير ولا صغير أولا جليل ولا حقير ثم يدل هذا على أن المعطوف أعظم شأنا من المعطوف عليه وعلى كل حال فما أردأ الاشتغال بهذه المسألة وما أقل فائدتها وما أبعدها عن أن تكون مركزا من المراكز الشرعية الدينية وجسرا من الجسور { ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر } أي : يأنف تكبرا ويعد نفسه عن العبادة { فسيحشرهم إليه جميعا } المستنكف وغيره فيجازي كلا بعمله وترك ذكر غير المستنكف هنا لدلالة أول الكلام عليه ولكون الحشر لكلا الطائفتين (1/818)
173 - { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم } من غير أن يفوتهم منها شيء { وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما } بسبب استنكافهم واستكبارهم { ولا يجدون لهم من دون الله وليا } يواليهم { ولا نصيرا } ينصرهم (1/819)
قوله 174 - { يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم } بما أنزله عليكم من كتبه وبمن أرسله إليكم من رسله وما نصبه لهم من المعجزات والبرهان : ما يبرهن به على المطلوب { وأنزلنا إليكم نورا مبينا } وهو القرآن وسماه نورا لأنه يهتدى به من ظلمة الضلال (1/819)
175 - { فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به } أي : بالله وقيل : بالنور المذكور { فسيدخلهم في رحمة منه } يرحمهم بها { وفضل } يتفضل به عليهم { ويهديهم إليه } أي : إلى امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه أو إليه سبحانه وتعالى باعتبار مصيرهم إلى جزائه وتفضله { صراطا مستقيما } أي : طريقا يسلكونه إليه مستعيما لا عوج فيه وهو التمسك بدين الإسلام وترك غيره من الأديان قال أبو علي الفارسي : الهاء في قوله { إليه } راجعة إلى ما تقدم من اسم الله وقيل : راجعة إلى القرآن وقيل : إلى الفضل وقيل : إلى الرحمة والفضل لأنهما بمعنى الثواب وانتصاب صراطا على أنه مفعول ثان للفعل المذكور وقيل : على الحال
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال { لن يستنكف المسيح } لن يستكبر وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والإسماعيلي في معجمه بسند ضعيف عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله { فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } قال : أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا وقد ساقه ابن كثير في تفسيره فقال : وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن إسماعيل بن عبد الله الكندي عن الأعمش عن شقيق عن ابن مسعود فذكره وقال : هذا إسناد لا يثبت وإذا روي عن ابن مسعود موقوفا فهو جيد وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة { قد جاءكم برهان } أي : بينة { وأنزلنا إليكم نورا مبينا } قال : هذا القرآن وأخرجا أيضا عن مجاهد قال : برهان حجة وأخرجا أيضا عن ابن جريج في قوله { واعتصموا به } قال : القرآن (1/819)
قد تقدم الكلام في الكلالة في أول هذه السورة وسيأتي ذكر المتفتي المقصود بقوله 176 - { يستفتونك } قوله { إن امرؤ هلك } أي : إن امرؤ هلك كما تقدم في قوله { وإن امرأة خافت } وقوله { ليس له ولد } إما صفة لامرؤ أو حال ولا وجه للمنع من كونه حالا والولد يطلق على الذكر والأنثى واقتصر على عدم الولد هنا مع أن عدم الوالد معتبر في الكلالة اتكالا على ظهور ذلك قيل : والمراد بالولد هنا الابن وهو أحد معنيي المشترك لأن البنت لا تسقط الأخت وقوله { وله أخت } عطف على قوله { ليس له ولد } والمراد بالأخت هنا هي الأخت لأبوين أو لأب لا لأم فإن فرضها السدس كما ذكر سابقا وقد ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن الأخوات لأبوين أو لأب عصبة للبنات وإن لم يكن معهم أخ وذهب ابن عباس إلى أن الأخوات لا يعصبن البنات وإليه ذهب داود الظاهري وطائفة وقالوا : إنه لا ميراث للأخت لأبوين أو لأب مع البنت واحتجوا بظاهر هذه الآية فإنه جعل عدم الولد المتناول للذكر والأنثى قيدا في ميراث الأخت وهذا استدلال صحيح لو لم يرد في السنة ما يدل على ثبوت ميراث الأخت مع البنت وهو ما ثبت في الصحيح أن معاذا قضى على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم في بنت وأخت فجعل للبنت النصف وللأخت النصف وثبت في الصحيح أيضا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت فجعل للبنت النصف ولبنت الابن السدس وللأخت الباقي ] فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون البنت قوله { وهو يرثها } أي المرء يرثها : أي يرث الأخت { إن لم يكن لها ولد } ذكر إن كان المراد بإرثه لها حيازته لجميع ما تركته وإن كان المراد ثبوت ميراثه له في الجملة أعم من أن يكون كلا أو بعضا صح تفسير الولد بما يتناول الذكر والأنثى واقتصر سبحانه في هذه الآية على نفي الولد مع كون الأب يسقط الأخ كما يسقطه الولد الذكر لأن المراد بيان حقوق الأخ مع الولد فقط هنا وأما سقوطه مع الأب فقد تبين بالسنة كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه و سلم : [ ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر ] والأب أولى من الأخ { فإن كانتا اثنتين } أي : فإن كان من يرث بالأخوة اثنتين والعطف على الشرطية السابقة والتأنيث والتثنية وكذلك الجمع في قوله { وإن كانوا إخوة } باعتبار الخبر { فلهما الثلثان مما ترك } المرء إن لم يكن له ولد كما سلف وما فوق الاثنتين من الأخوات يكون لهن الثلثان بالأولى { وإن كانوا } أي : من يرث بالأخوة { إخوة رجالا ونساء } أي : مختلطين ذكورا وإناثا { فللذكر } منهم { مثل حظ الأنثيين } تعصيبا { يبين الله لكم أن تضلوا } أي : يبين لكم حكم الكلالة وسائر الأحكام كراهة أن تضلوا هكذا حكاه القرطبي عن البصريين وقال الكسائي : المعنى لئلا تضلوا ووافقه الفراء وغيره من الكوفيين { والله بكل شيء } من الأشياء التي هذه الأحكام المذكورة منها { عليم } أي : كثير العلم
وقد أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن جابر بن عبد الله قال : [ دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صب علي فعقلت فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث ؟ فنزلت آية الفرائض ] وأخرجه عنه ابن سعد وابن أبي حاتم بلفظ أنزلت في { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } وأخرج ابن راهويه وابن مردويه عن عمر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم : كيف تورث الكلالة : فأنزل الله { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } الآية وأخرج مالك ومسلم وابن جرير والبيهقي عن عمر قال : [ ما سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن شيء أكثر مما سألته في الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال : ما تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ] وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والبيهقي عن البراء بن عازب قال : [ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله عن الكلالة ؟ فقال : تكفيك آية الصيف ] وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر قال : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه : الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن البراء بن عازب قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن سيرين قال : كان عمر بن الخطاب إذا قرأ { يبين الله لكم أن تضلوا } قال : اللهم من بينت له الكلالة فلم تبين لي
وقد أوضحنا الكلام خلافا واستدلالا وترجيحا في شأن الكلالة في أوائل هذه السورة فلا نعيده
وإلى هنا انتهى الجزء الأول من التفسير المبارك : المسمى فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير بقلم مؤلفه الراجي من ربه سبحانه أن يعينه على تمامه وينفع به من شاء من عباده ويجعله ذخيرة له عند وفوده إلى الدار الآخرة محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله لهما
وكان الانتهاء إلى هذا الموضع في يوم العيد الأكبر يوم النحر المبارك من سنة أربع وعشرين بعد مائتين وألف من الهجرة النبوية حامدا لله ومصليا ومسلما على رسوله وحبيبه محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه اهـ
الحمد له : كمل مساعا والحمد لله في شهر القعدة من عام سنة 1232
يحيى بن علي الشوكاني (1/820)
سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال القرطبي : هي مدنية بالإجماع وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : المائدة مدنية وأخرج أحمد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن جبير بن نفيرقال : حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم من حرام فحرموه وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر قال : آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح وأخرج أحمد عنه قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها قال ابن كثير : تفرد به أحمد قلت : وفي إسناده ابن لهيعة وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والطبراني وأبو نعيم في الدلائل والبيهقي في شعب الإيمان عن أسماء بنت يزيد نحوه وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والبغوي في معجمه وابن مردويه والبيهقي في دلائل النبوة عن أم عمرو بنت عيسى عن عمها نحوه أيضا وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب القرظي نحوه وزاد أنها نزلت في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة وهكذا أخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس بهذه الزيادة وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ المائدة من آخر القرآن تنزيلا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها ] وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في النسخ عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال : لم ينسخ من المائدة شيء وكذا أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عنه وكذا أخرجه عبد بن حميد و أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي وكذا أخرجه عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن المنذر عن الحسن البصري وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي قال : لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد } وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } وأخرج عبد بن حميد في مسنده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ في خطبته سورة المائدة والتوبة وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال : [ لما رجع صلى الله عليه و سلم من الحديبية قال : يا علي أشعرت أنها نزلت علي سورة المائدة ؟ ونعمت الفائدة ] قال ابن العربي : هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم اعتقاده وقال ابن عطية : هذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه و سلم
هذه الآية التي افتتح الله بها هذه السورة إلى قوله : 1 - { إن الله يحكم ما يريد } فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية مع شمولها لأحكام عدة : منها الوفاء بالعقود ومنها تحليل بهيمة الأنعام ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحل ومنها تحريم الصيد على المحرم ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم وقد حكى النقاش أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن فقال : نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث وحلل تحليلا عاما ثم استثنى بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا قوله : { أوفوا بالعقود } يقال : أوفى ووفى لغتان وقد جمع بينهما الشاعر فقال :
( أما ابن طوف فقد أوفى بذمته ... كما وفى بقلاص النجم حاديها )
والعقود : والعهود وأصل العقود الربوط واحدها عقد يقال : عقدت الحبل والعهد فهو يستعمل في الأجسام والمعاني وإذا استعمل في المعاني كما هنا أفاد أنه شديد الإحكام قوي التوثيق قيل : المراد بالعقود هي التي عقدها الله على عباده وألزمهم بها من الأحكام وقيل هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات والأولى شمول الآية للأمرين جميعا ولا وجه لتخصيص بعضها دون بعض قال الزجاج : المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض انتهى والعقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله وسنة رسول الله فإن خالفهما فهو رد لا يجب الوفاء به ولا يحل قوله : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } الخطاب للذين آمنوا والبهيمة : اسم لكل ذي أربع سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها ومنه باب مبهم : أي مغلق وليل بهيم وبهمة للشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى وحلقة مبهمة : لا يدري أين طرفاها والأنعام : اسم للإبل والبقر والغنم سميت بذلك لما في مشيها من اللين وقيل بهيمة الأنعام : وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر الوحشية وغير ذلك حكاه ابن جرير الطبري عن قوم وحكاه غيره عن السدي والربيع وقتادة والضحاك قال ابن عطية : وهذا قول حسن وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج وما انضاف إليها من سائر الحيوانات يقال له أنعام مجموعة معها وكأن المفترس كالأسد وكل ذي ناب خارج عن حد الأنعام فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع وقيل بهيمة الأنعام : ما لم تكن صيدا لأن الصيد يسمى وحشا لا بهيمة وقيل بهيمة الأنعام : الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأنعام فهي تؤكل من دون ذكاة وعلى القول الأول أعني تخصيص الأنعام بالإبل والبقر والغنم تكون الإضافة بيانية ويلحق بها ما يحل مما هو خارج عنها بالقياس بل وبالنصوص التي في الكتاب والسنة كقوله تعالى : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة } الآية وقوله صلى الله عليه و سلم : [ يحرم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير ] فإنه يدل بمفهومه على أن ما عداه حلال وكذلك سائر النصوص الخاصة بنوع كما في كتب السنة المطهرة قوله : { إلا ما يتلى عليكم } استثناء من قوله : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } أي إلا مدلول ما يتلى عليكم فإنه ليس بحلال والمتلو : هو ما نص الله على تحريمه نحو قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } الآية ويلحق به ما صرحت السنة بتحريمه وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون المراد به إلا ما يتلى عليكم الآن ويحتمل أن يكون المراد به في مستقبل الزمان فيدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ويحتمل الأمرين جميعا قوله : { غير محلي الصيد } ذهب البصريون إلى أن قوله : { إلا ما يتلى عليكم } استثناء من بهيمة الأنعام وقوله : { غير محلي الصيد } استثناء آخر منه أيضا فالاستثناءان جميعا من بهيمة الأنعام والتقدير : أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرومون وقيل : الاستثناء الأول من بهيمة الأنعام والاستثناء الثاني هو من الاستثناء الأول ورد بأن هذا يستلزم إباحة الصيد في حال الإحرام لأنه مستثنى من المحظور فيكون مباحا وأجاز الفراء أن يكون { إلا ما يتلى } في موضع رفع على البدل ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة وما قاربها من الأجناس قال : وانتصاب { غير محلي الصيد } على الحال من قوله : { أوفوا بالعقود } وكذا قال الأخفش وقال غيرهما : حال من الكاف والميم في { لكم } والتقدير : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد : أي الاصطياد في البر وأكل صيده ومعنى عدم إحلالهم له تقرير حرمته عملا واعتقادا وهم حرم : أي محرومون وجملة { وأنتم حرم } في محل نصب على الحال من الضمير في { محلي } ومعنى هذا التقييد ظاهر عند من يخص بهيمة الأنعام بالحيوانات الوحشية البرية التي يحل أكلها كأنه قال : أحل لكم صيد البر إلا في حال الإحرام وأما على قول من يجعل الإضافة بيانية فالمعنى : أحلت لكم بهيمة هي الأنعام حال تحريم الصيد عليكم بدخولكم في الإحرام لكونكم محتاجين إلى ذلك فيكون المراد بهذا التقييد الامتنان عليهم بتحليل ما عدا ما هو محرم عليهم في تلك الحال والمراد بالحرم من هو محرم بالحج أو العمرة أو بهما وسمي محرما لكونه يحرم عليه الصيد والطيب والنساء وهكذا وجه تسمية الحرم حرما والإحرام إحراما وقرأ الحسن والنخعي ويحيى بن وثاب حرم بسكون الراء وهي لغة تميمية يقولون في رسل رسل وفي كتب كتب ونحو ذلك قوله : { إن الله يحكم ما يريد } من الأحكام المخالفة لما كانت العرب تعتاده فهو مالك الكل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه (2/5)
قوله : 2 - { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } الشعائر : جمع شعيرة على وزن فعيلة قال ابن فارس : ويقال للواحدة : شعار وهو أحسن ومنه الإشعار للهدي والمشاعر : المعالم واحدها مشعر وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات قيل المراد بها هنا جميع مناسك الحج : وقيل الصفا والمروة والهدي والبنيان والمعنى على هذين القولين : لا تحلوا هذه الأمور بأن يقع منكم الإخلال بشيء منها أو بأن تحولوا بينها وبين من أراد فعلها ذكر سبحانه النهي عن أن يحلوا شعائر الله عقب ذكره تحريم صيد المحرم وقيل المراد بالشعائر هنا فرائض الله ومنه { ومن يعظم شعائر الله } وقيل هي حرمات الله ولا مانع من حمل ذلك على الجميع اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولا بما يدل عليه السياق قوله : { ولا الشهر الحرام } المراد به الجنس فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم وهي أربعة : ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب : أي لا تحلوها بالقتال فيها وقيل المراد به هنا شهر الحج فقط قوله : { ولا الهدي } هو ما يهدى إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة الواحدة هدية نهاهم سبحانه عن أن يحلوا حرمة الهدي بأن يأخذوه على صاحبه أو يحولوا بينه وبين المكان الذي يهدى إليه وعطف الهدي على الشعائر مع دخوله تحتها لقصد التنبيه على مزيد خصوصيته والتشديد في شأنه قوله : { ولا القلائد } جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو نحوه وإحلالها بأن تؤخذ غصبا وفي النهي عن إحلال القلائد تأكيد للنهي عن إحلال الهدي وقيل المراد بالقلائد المقلدات بها ويكون عطفه على الهدي لزيادة التوصية بالهدي والأول أولى وقيل المراد بالقلائد ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم فهو على حذف مضاف : أي ولأصحاب القلائد قوله : { ولا آمين البيت الحرام } أي قاصديه من قولهم أممت كذا : أي قصدته وقرأ الأعمش : ولا آمي البيت الحرام بالإضافة والمعنى : لا تمنعوا من قصد البيت الحرام لحج أو عمرة أو ليسكن فيه وقيل إن سبب نزول هذه الآية أن المشركين كانوا يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنزل : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } إلى آخر الآية فيكون ذلك منسوخا بقوله : { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقوله : { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } وقوله صلى الله عليه و سلم : [ لا يحجن بعد العام مشرك ] وقال قوم : الآية محكمة وهي في المسلمين قوله : { يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } جملة حالية من الضمير المستتر في { آمين } قال جمهور المفسرين : معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة ويبتغون مع ذلك رضوان الله وقيل كان منهم من يطلب التجارة ومنهم من يبتغي بالحج رضوان الله ويكون هذا الابتغاء للرضوان بحسب اعتقادهم وفي ظنهم عند من جعل الآية في المشركين وقيل المراد بالفضل هنا الثواب لا الأرباح في التجارة قوله : { وإذا حللتم فاصطادوا } هذا تصريح بما أفاده مفهوم { وأنتم حرم } أباح لهم الصيد بعد أن حظره عليهم لزوال السبب الذي حرم لأجله وهو الإحرام قوله : { ولا يجرمنكم شنآن قوم } قال ابن فارس : جرم وأجرم ولا جرم بمعنى قولك لا بد ولا محالة وأصلها من جرم أي كسب وقيل المعنى : لا يحملنكم قاله الكسائي وثعلب وهو يتعدى إلى مفعولين يقال : جرمني كذا على بغضك : أي حملني عليه ومنه قول الشاعر :
( ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا )
أي حملتهم على الغضب وقال أبو عبيدة والفراء : معنى { لا يجرمنكم } لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل والعدل إلى الجور والجريمة والجارم بمعنى الكاسب ومنه قول الشاعر :
( جريمة ناهض في رأس نيق ... يرى لعظام ما جمعت صليبا )
معناه كاسب قوت والصليب : الودك ومنه قول الآخر :
( يا أيها المشتكي عكلا وما جرمت ... إلى القبائل من قتل وإيئاس )
أي كسبت والمعنى في الآية : لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء عليهم أو لا يكسبنكم بغضهم اعتداءكم للحق إلى الباطل ويقال : جرم يجرم جرما : إذا قطع قال علي بن عيسى الرماني : وهو الأصل فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب ولا جرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه قال الخليل : معنى { لا جرم أن لهم النار } لقد حق أن لهم النار وقال الكسائي : جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد : أي اكتسب وقرأ ابن مسعود : { لا يجرمنكم } بضم الياء والمعنى : لا يكسبنكم ولا يعرف البصريون أجرم وإنما يقولون جرم لا غير والشنآن : البغض وقرئ بفتح النون وإسكانها يقال : شنيت الرجل أشنوه شناء ومشنأة وشنآنا كل ذلك : إذا أبغضته وشنآن هنا مضاف إلى المفعول : أي بغض قوم منكم لا بغض قوم لكم قوله : { أن صدوكم } بفتح الهمزة مفعول لأجله : أي لأن صدوكم وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة على الشرطية وهو اختيار أبي عبيد وقرأ الأعمش : { أن يصدكم } والمعنى على قراءة الشرطية : لا يحملنكم بغضهم إن وقع منهم الصد لكم عن المسجد الحرام على الاعتداء عليهم قال النحاس : وأما إن صدوكم بكسر إن فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء : منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان وكان المشركون صدوا المؤمنين عام الحديبية سنة ست فالصد كان قبل الآية وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده كما تقول : لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك فهذا لا يكون إلا للمستقبل وإن فتحت كان للماضي وما أحسن هذا الكلام وقد أنكر أبو حاتم وأبو عبيدة شنآن بسكون النون لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة وخالفهما غيرهما فقال : ليس هذا مصدرا ولكنه اسم فاعل على وزن كسلان وغضبان ولما نهاهم عن الاعتداء أمرهم بالتعاون على البر والتقوى كائنا ما كان قيل : إن البر والتقوى لفظان لمعنى واحد وكرر للتأكد وقال ابن عطية : إن البر يتناول الواجب والمندوب والتقوى تختص بالواجب وقال الماوردي : إن في البر رضا الناس وفي التقوى رضا الله فمن جمع بينهما فقد تمت سعادته ثم نهاهم سبحانه عن التعاون على الإثم والعدوان فالإثم : كل فعل أو قول يوجب إثم فاعله أو قائله والعدوان : التعدي على الناس بما فيه ظلم فلا يبقى نوع من أنواع الموجبات للإثم ولا نوع من أنواع الظلم للناس الذين من جملتهم النفس إلا وهو داخل تحت هذا النهي لصدق هذين النوعين على كل ما يوجد فيه معناهما ثم أمر عباده بالتقوى وتوعد من خالف ما أمر به فتركه أو خالف ما نهى عنه ففعله بقوله : { إن الله شديد العقاب }
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : { أوفوا بالعقود } قال : ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله لا تغدروا ولا تنكثوا وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال : هي عقود الجاهلية الحلف وروى عنه ابن جرير أنه قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ وأوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن في قوله : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } قال : الإبل والبقر والغنم وأخرج ابن جرير عن ابن عمر في قوله : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } قال : ما في بطونها قلت : إن خرج ميتا آكله ؟ قال : نعم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : { إلا ما يتلى عليكم } قال : الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به إلى آخر الآية فهذا ما حرم الله من بهيمة الأنعام وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لا تحلوا شعائر الله } قال : كان المشركون يحجون البيت الحرام ويهدون الهدايا ويعظمون حرمة المشاعر وينحرون في حجهم فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فقال الله : { لا تحلوا شعائر الله } وفي قوله : { ولا الشهر الحرام } يعني : لا تستحلوا قتالا فيه { ولا آمين البيت الحرام } يعني : من توجه قبل البيت الحرام فكان المؤمنون والمشركون يحجون جميعا فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا حج البيت أو يتعرضوا له من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعد هذه الآية : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } وفي قوله : { يبتغون فضلا } يعني أنهم يرضون الله بحجهم { ولا يجرمنكم } يقول : لا يحملنكم { شنآن قوم } يقول : عداوة قوم { وتعاونوا على البر والتقوى } قال : البر ما أمرت به والتقوى ما نهيت عنه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : شعائر الله ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرم والهدي : ما لم يقلد والقلائد مقلدات الهدي { ولا آمين البيت الحرام } يقول : من توجه حاجا وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { لا تحلوا شعائر الله } قال : مناسك الحج وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت وقد اشتد ذلك عليهم فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : نصد هؤلاء كما صدنا أصحابنا فأنزل الله : { ولا يجرمنكم } ] الآية وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه عن وابصة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : [ البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك ] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي والحاكم والبيهقي عن النواس بن سمعان قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن البر والإثم فقال : [ البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ] وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة [ أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الإثم فقال : ما حاك في نفسك فدعه قال فما الإيمان ؟ قال : من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن ] (2/9)
هذا شروع في المحرمات التي أشار إليها سبحانه بقوله : { إلا ما يتلى عليكم } والميتة قد تقدم ذكرها في البقرة وكذلك الدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله وما هنا من تحريم مطلق الدم مقيد بكونه مسفوحا كما تقدم حملا للمطلق على المقيد وقد ورد في السنة تخصيص الميتة بقوله صلى الله عليه و سلم : [ أحل لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال ] أخرجه الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وفي إسناده يقال ويقويه حديث : [ هو الطهور ماؤه والحل ميتته ] وهو عند أحمد وأهل السنن وغيرهم وصححه جماعة منهم ابن خزيمة وابن حبان وقد أطلنا الكلام عليه في شرحنا للمنتقي والإهلال رفع الصوت لغير الله كأن يقول بسم اللات والعزى ونحو ذلك ولا حاجة بنا هنا إلى تكرير ما قد أسلفناه ففيه ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره 3 - { والمنخنقة } هي التي تموت بالخنق : وهو حبس النفس سواء كان ذلك بفعلها كأن تدخل رأسها في حبل أو بين عودين أو بفعل آدمي أو بغيره وقد كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها { والموقوذة } هي التي تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية يقال : وقذه يقذه وقذا فهو وقيذ والوقد شدة الضرب وفلان وقيذ : أي مثخن ضربا وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك فيضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى تموت ثم يأكلونها ومنه قول الفرزدق :
( شغارة تقذ الفصيل برجلها ... فطارة لقوادم الأظفار )
قال ابن عبد البر : واختلف العلماء قديما وحديثا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض ويعني بالبندق قوس البندقة وبالمعراض السهم الذي لا ريش له أو العصا التي رأسها محدد قال : فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته على ما روي عن ابن عمر وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي وخالفهم الشاميون في ذلك قال الأوزاعي في المعراض : كله خرق أو لم يخرق فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأسا قال ابن عبد البر : هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر والمعروف عن ابن عمر ما ذكر مالك عن نافع قال : والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة حديث عدي بن حاتم وفيه : [ ما أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ ] انتهى
قلت : والحديث في الصحيحين وغيرهما عن عدي قال : [ قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب فقال : إذا رميت بالمعراض فخرق فكله وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله ] فقد اعتبر صلى الله عليه و سلم الخرق وعدمه فالحق أنه لا يحل إلا ما خرق لا ما صدم فلا بد من التذكية قبل الموت وإلا كان وقيذا وأما البنادق المعروفة الآن : وهي بنادق الحديد التي يجعل فيها البارود والرصاص ويرمى بها فلم يتكلم عليها أهل العلم لتأخر حدوثها فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية إلا في المائة العاشرة من الهجرة وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا مات ولم يتمكن الصائد من تذكيته حيا والذي يظهر لي أنه حلال لأنها تخرق وتدخل في الغالب من جانب منه وتخرج من الجانب الآخر وقد قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح السابق : [ إذا رميت بالمعراض فخرق فكله ] فاعتبر الخرق في تحليل الصيد قوله : { والمتردية } هي التي تتردى من علو إلى أسفل فتموت من غير فرق بين أن تتردى من جبل أو بئر أو مدفن أو غيرها والتردي مأخوذ من الردى وهو الهلاك وسواء تردت بنفسها أو ردها غيرها قوله : { والنطيحة } هي فعيلة بمعنى مفعولة وهي التي تنطحها أخرى فتموت من دون تذكية وقال قوم أيضا : فعيلة بمعنى فاعلة لأن الدابتين تتناطحان فتموتان وقال : نطيحة ولم يقل نطيح مع أنه قياس فعيل لأن لزوم الحذف مختص بما كان من هذا الباب صفة لموصوف مذكور فإن لم يذكر ثبتت التاء للنقل من الوصفية إلى الإسمية وقرأ أبو ميسرة والمنطوحة قوله : { وما أكل السبع } أي ما افترسه ذو ناب كالأسد والنمر والذئب والضبع ونحوها والمراد هنا ما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع كله قد فني ومن العرب من يخص اسم السبع بالأسد وكانت العرب إذا أكل السبع شاة ثم خلصوها منه أكلوها وإن ماتت ولم يذكوها وقرأ الحسن أبو حيوة السبع بسكون الباء وهي لغة لأهل نجد ومنه قول حسان في عتبة بن أبي لهب :
( من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع )
وقرأ ابن مسعود وأكيلة السبع وقرأ ابن عباس : وأكيل السبع قوله : { إلا ما ذكيتم } في محل نصب على الاستثناء المتصل عند الجمهور وهو راجع على ما أدركت ذكاته من المذكورات سابقا وفيه حياة وقال المدنيون : وهو المشهور من مذهب مالك وهو أحد قولي الشافعي أنه إذا بلغ السبع منها إلا ما لا حياة معه فإنها لا تؤكل وحكاه في الموطأ عن زيد بن ثابت وإليه ذهب إسماعيل القاضي فيكون الاستثناء على هذا القول منقطعا : أي حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي يحل ولا يحرم والأول أولى والذكاة في كلام العرب الذبح قاله قطرب وغيره وأصل الذكاة في اللغة : التمام : أي تمام استكمال القوة والذكاء حدة القلب والذكاء سرعة الفطنة والذكوة ما تذكى منه النار ومنه أذكيت الحرب والنار : أوقدتهما وذكاء اسم الشمس والمراد هنا : إلا ما أدركتم ذكاته على التمام والتذكية في الشرع : عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور مقرونا بالقصد لله وذكر اسمه عليه وأما الآلة التي تقع بها الذكاة فذهب الجمهور إلى أن كل ما أنهر الدم وفري الأوداج فهو آلة للذكاة ما خلا السن والعظم وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة قوله : { وما ذبح على النصب } قال ابن فارس : النصب حجر كان ينصب فيعبد ويصب عليه دماء الذبائح والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد وقيل النصب : جمع واحده نصاب كحمار وحمر وقرأ طلحة بضم النون وسكون الصاد وروي عن أبي عمرو بفتح النون وسكون الصاد وقرأ الجحدري بفتح النون والصاد جعله اسما موحدا كالجبل والجمل والجمع أنصاب كالأجبال والأجمال قال مجاهد : هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها قال ابن جريج : كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من البيت ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه و سلم : نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال فأنزل الله : { وما ذبح على النصب } والمعنى : والنية بذلك تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز ولهذا قيل إن على بمعنى اللام : أي لأجلها قالها قطرب وهو على هذا داخل فيما أهل به لغير الله وخص بالذكر لتأكيد تحريمه ولدفع ما كانوا يظنونه من ذلك لتشريف البيت وتعظيمه قوله : { وأن تستقسموا بالأزلام } معطوف على ما قبله : أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام والأزلام قداح الميسر واحدها زلم قال الشاعر :
( بات يقاسيها غلام كلزم ... ليس براعي إبل ولا غنم )
( ولا بجزار على ظهر وضم )
وقال آخر :
( فلئن جذيمة قتلت ساداتها ... فنساؤها يضربن بالأزلام )
والأزلام للعرب ثلاثة أنواع : أحدها مكتوب فيه افعل والآخر مكتوب فيه لا تفعل والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه إذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج واحدا منها فإن خرج الأول فعل ما عزم عليه وإن خرج الثاني تركه وإن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين وإنما قيل لهذا الفعل استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون فعله كما يقال استسقى : أي استدعى السقي فالاستقسام : طلب القسم والنصيب وجملة قداح الميسر عشرة وقد قدمنا بيانها وكانوا يضربون بها في المقامرة وقيل : إن الأزلام كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها وقيل : هي الشطرنج وإنما حرم الله الاستقسام بالأزلام لأنه تعرض لدعوى علم الغيب وضرب من الكهانة قوله : { ذلكم فسق } إشارة إلى الاستقسام بالأزلام أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا والفسق : الخروج عن الحد وقد تقدم بيان معناه وفي هذا وعيد شديد لأن الفسق هو أشد الكفر لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة متوسطة بين الإيمان والكفر قوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } المراد اليوم الذي نزلت فيه الآية وهو يوم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع وقيل : سنة ثمان وقيل : المراد باليوم الزمان الحاضر وما يتصل به ولم يرد يوما معينا ويئس فيه لغتان ييس بياءين يأسا وأيس إياسا وإياسة قاله النضر بن شميل : أي حصل لهم اليأس من إبطال دينكم وأن يردوكم إلى دينهم كما كانوا يزعمون { فلا تخشوهم } : أي لا تخافوا منهم أن يغلبوكم أو يبطلوا دينكم { واخشون } فأنا القادر على كل شيء إن نصرتكم فلا غالب لكم وإن خذلتكم لم يستطع غيري أن ينصركم قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } جعلته كاملا غير محتاج إلى إكمال لظهوره على الأديان كلها وغلبته لها ولكمال أحكامه التي يحتاج المسلمون إليها من الحلال والحرام والمشتبه ووفى ما تضمنه الكتاب والسنة من ذلك ولا يخفى ما يستفاد من تقديم قوله : { لكم } قال الجمهور : المراد بالإكمال هنا : نزول معظم الفرائض والتحليل والتحريم قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كآية الربا وآية الكلالة ونحوهما والمراد باليوم المذكور هنا هو يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر هكذا ثبت في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب وقيل : إنها نزلت في يوم الحج الأكبر قوله : { وأتممت عليكم نعمتي } بإكمال الدين المشتمل على الأحكام وبفتح مكة وقهر الكفار وإياسهم عن الظهور عليكم كما وعدتكم بقولي : { ولأتم نعمتي عليكم } قوله : { ورضيت لكم الإسلام دينا } : أي أخبرتكم برضاي به لكم فإنه سبحانه لم يزل راضيا لأمة نبيه صلى الله عليه و سلم بالإسلام فلا يكون لاختصاص الرضا بهذا اليوم كثير فائدة إن حملناه على ظاهره ويحتمل أن يريد رضيت لكم الإسلام الذي أنتم عليه اليوم دينا باقيا إلى انقضاء أيام الدنيا ودينا منتصب على التمييز ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا قوله : { فمن اضطر في مخمصة } هذا متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض : أي من دعته الضرورة { في مخمصة } أي مجاعة إلى أكل الميتة وما بعدها من المحرمات والخمص : ضمور البطن ورجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة ومنه أخمص القدم ويستعمل كثيرا في الجوع قال الأعشى :
( تبيتون في المشتاء ملأى بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا )
قوله : { غير متجانف } الجنف : الميل والإثم : الحرام : أي حال كون المضطر في مخمصة غير مائل لإثم وهو بمعنى غير باغ ولا عاد وكل مائل فهو متجانف وجنف وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب والسلمي متجنف { فإن الله غفور رحيم } به لا يؤاخذه بما ألجأته إليه الضرورة في الجوع مع عدم ميله بأكل ما حرم عليه إلى الإثم بأن يكون باغيا على غيره أو متعديا لما دعت إليه الضرورة حسبما تقدم
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي أمامة قال : [ بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله وأعرض عليهم شعائر الإسلام فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة دم واجتمعوا عليها يأكلونها قالوا : هلم يا صدي فكل قلت : ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم لما أنزل الله عليه قالوا : وما ذلك ؟ قال : فتلوت عليهم هذه الآية : { حرمت عليكم الميتة } ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { وما أهل لغير الله به } قال : وما أهل للطواغيت به { والمنخنقة } قال : التي تخنق فتموت { والموقوذة } قال : الشاة التي تنطح الشاة { وما أكل السبع } يقول : ما أخذ السبع { إلا ما ذكيتم } يقول : ذبحتم من ذلك وبه روح فكلوه { وما ذبح على النصب } قال : النصب أنصاب كانوا يذبحون ويهلون عليها { وأن تستقسموا بالأزلام } قال : هي القداح كانوا يستقسمون بها في الأمور { ذلكم فسق } يعني من أكل ذلك كله فهو فسق واخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الرداة التي تتردى في البئر والمتردية التي تتردى من الجبل وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله : { وأن تستقسموا بالأزلام } قال : حصى بيض كانوا يضربون بها وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في الآية قال : كانوا إذا أرادوا أمرا أو سفرا يعمدون إلى قداح ثلاثة يكتبون على واحد منها : أمرني وعلى الآخر : نهاني ويتركون الثالث مخللا بينهما ليس عليه شيء ثم يجيلونها فإن خرج الذي عليه أمرني مضوا لأمرهم وإن خرج الذي عليه نهاني كفوا وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } قال : يئسوا أن يرجعوا إلى دينهم أبدا وأخرج البيهقي عنه في الآية قال : يقول يئس أهل مكة أن يرجعوا إلى دينهم عبادة الأوثان أبدا { فلا تخشوهم } في اتباع محمد { واخشون } في عبادة الأوثان وتكذيب محمد فلما كان واقفا بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يديه والمسلمون يدعون الله { اليوم أكملت لكم دينكم } يقول حلالكم وحرامكم فلن ينزل بعد هذا حلال ولا حرام { وأتممت عليكم نعمتي } قال : منتي فلم يحج معكم مشرك { ورضيت } يقول : اخترت { لكم الإسلام دينا } فمكث رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد نزول هذه الآية أحدا وثمانين يوما ثم قبضه الله إليه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا وقد أتمه فلا ينقص أبدا وقد رضيه فلا يسخطه أبدا وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن طارق بن شهاب قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال : وأي آية ؟ قالوا { اليوم أكملت لكم دينكم } قال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه و سلم والساعة التي نزلت فيها نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم عشية عرفة في يوم الجمعة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فمن اضطر } يعني إلى ما حرم مما سمى في صدر هذه السورة { في مخمصة } يعني في مجاعة { غير متجانف لإثم } يقول غير متعمد لإثم (2/13)
هذا شروع في بيان ما أحله الله لهم بعد بيان ما حرمه الله عليهم وسيأتي ذكر سبب نزول الآية قوله : 4 - { ماذا أحل لهم } أي شيء أحل لهم أو ما الذي أحل لهم من المطاعم إجمالا ومن الصيد ومن طعام أهل الكتاب ومن نسائهم قوله : { قل أحل لكم الطيبات } هي ما يستلذه آكله ويستطيبه مما أحله الله لعباده وقيل هي الحلال وقد سبق الكلام في هذا وقيل الطيبات : الذبائح لأنها طابت بالتذكية وهو تخصيص للعام بغير مخصص والسبب والسياق لا يصلحان لذلك قوله : { وما علمتم من الجوارح } وهو معطوف على الطيبات بتقدير مضاف لتصحيح المعنى : أي أحل لكم الطيبات وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية علمتم بضم العين وكسر اللام : أي علمتم من أمر الجوارح والصيد بها قال القرطبي : وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل على أن الإباحة تناولت ما علمنا من الجوارح وهو يتضمن الكلب وسائر جوارح الطير وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع إلا ما خصه الدليل : وهو الأكل من الجوارح : أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير قال : أجمعت الأمة على أن الكلب إذا لم يكن أسود وعلمه مسلم ولم يأكل من صيده الذي صاده وأثر فيه بجرح أو تنييب وصاد به مسلم وذكر اسم الله عند إرساله أن صيده صحيح يؤكل بلا خلاف فإن انخرم شرط من هذه الشروط دخل الخلاف فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب يقال جرح فلان واجترح : إذا اكتسب ومنه الجارحة لأنه يكتسب بها ومنه اجتراح السيئات ومنه قوله تعالى : { ويعلم ما جرحتم بالنهار } وقوله : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات } قوله : { مكلبين } حال والمكلب : معلم الكلاب لكيفية الاصطياد والأخص معلم الكلاب وإن كان معلم سائر الجوارح مثله لأن الاصطياد بالكلاب هو الغالب ولم يكتف بقوله : { وما علمتم من الجوارح } مع أن التكليب هو التعليم لقصد التأكيد لما لا بد منه من التعليم وقيل : إن السبع يسمى كلبا فيدخل كل سبع يصاد به وقيل : إن هذه الآية خاصة بالكلاب وقد حكى ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال : ما يصاد بالبزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فهو لك حلال وإلا فلا تطعمه قال ابن المنذر : وسئل أبو جعفر عن البازي : هل يحل صيده ؟ قال : لا إلا أن تدرك ذكاته وقال الضحاك والسدي : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } هي الكلاب خاصة فإن كان الكلب أسود بهيما فكره صيده الحسن وقتادة والنخعي وقال أحمد : ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما وبه قال ابن راهويه فأما عامة أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم واحتج من منع من صيد الكلب الأسود بقوله صلى الله عليه و سلم : [ الكلب الأسود شيطان ] أخرجه مسلم وغيره والحق أن يحل صيد كل ما يدخل تحت عموم الجوارح من غير فرق بين الكلب وغيره وبين الأسود من الكلاب وغيره وبين الطير وغيره ويؤيد هذا أن سبب نزول الآية سؤال عدي بن حاتم عن صيد البازي كما سيأتي قوله : { تعلمونهن مما علمكم الله } الجملة في محل نصب على الحال : أي مما علمكم الله مما أدركتموه بما خلقه فيكم من العقل الذي تهتدون به إلى تعليمها وتدريبها حتى تصير قابلة لإمساك الصيد عند إرسالكم لها قوله : { فكلوا مما أمسكن عليكم } الفاء للتفريع والجملة متفرعة على ما تقدم من تحليل صيد ما علموه من الجوارح ومن في قوله : { مما أمسكن عليكم } للتبعيض لأن بعض الصيد لا يؤكل كالجلد والعظم وما أكله الكلب ونحوه وفيه دليل على أنه لا بد أن يمسكه على صاحبه فإن أكل منه فإنما أمسكه على نفسه كما في الحديث الثابت في الصحيح وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يحل أكل الصيد الذي يقصده الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي : وهو مروي عن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وروي عن علي وابن عباس والحسن البصري والزهري وربيعة ومالك والشافعي في القديم أنه يؤكل صيده ويرد عليهم قوله تعالى : { مما أمسكن عليكم } وقوله صلى الله عليه و سلم لعدي بن حاتم : [ إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك ] وهو في الصحيحين وغيرهما وفي لفظ لهما : [ فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه ] وأما ما أخرجه أبو داود بإسناد جيد من حديث أبي ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه ] وقد أخرجه أيضا بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأخرجه أيضا النسائي فقد جمع بعض الشافعية بين هذه الأحاديث بأنه إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم وإن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه الانتظار وجاع فأكل من الصيد لجوعه لا لكونه أمسكه على نفسه فإنه لا يؤثر ذلك ولا يحرم به الصيد وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني وحديث عمرو بن شعيب وهذا جمع حسن وقال آخرون : إنه إذا أكل الكلب منه حرم لحديث عدي وإن أكل غيره لم يحرم للحديثين الآخرين وقيل : يحمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أمسكه وخلاه ثم عاد فأكل منه
وقد سلك كثير من أهل العلم طريق الترجيح ولم يسلكوا طريق الجمع لما فيها من البعد قالوا : وحديث عدي بن حاتم أرجح لكونه في الصحيحين وقد قررت هذا المسلك في شرحي للمنتقي بما يزيد الناظر فيه بصيرة قوله : { واذكروا اسم الله عليه } الضمير في { عليه } يعود إلى { ما علمتم } أي سموا عليه عند إرساله أو لما أمسكن عليكم : أي سموا عليه إذا أردتم ذكاته وقد ذهب الجمهور إلى وجوب التسمية عند إرسال الجارح واستدلوا بهذه الآية ويؤيده حديث عدي بن حاتم الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ : [ إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله ] وقال بعض أهل العلم : إن المراد التسمية عند الأكل قال القرطبي : وهو الأظهر واستدلوا بالأحاديث التي فيها الإرشاد إلى التسمية وهذا خطأ فإن النبي صلى الله عليه و سلم قد وقت التسمية بإرسال الكلب وإرسال السهم ومشروعية التسمية عند الأكل حكم آخر ومسألة غير هذه المسألة فلا وجه لحمل ما ورد في الكتاب والسنة هنا على ما ورد في التسمية عند الأكل ولا ملجئ إلى ذلك وفي لفظ في الصحيحين من حديث عدي : [ إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فكل ] وقد ذهب جماعة إلى أن التسمية شرط وذهب آخرون إلى أنها سنة فقط وذهب جماعة إلى أنها شرط على الذاكر لا الناسي وهذا أقوى الأقوال وأرجحها قوله : { واتقوا الله إن الله سريع الحساب } أي حسابه سبحانه سريع إتيانه وكل آت قريب (2/19)
قوله : 5 - { اليوم أحل لكم الطيبات } هذه الجملة مؤكدة للجملة الأولى وهي قوله : { أحل لكم الطيبات } وقد تقدم بيان الطيبات قوله : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } الطعام : اسم لما يؤكل ومنه الذبائح وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه هنا بالذبائح وفي هذه الآية دليل على أن جميع طعام أهل الكتب من غير فرق بين اللحم وغيره حلال للمسلمين وإن كانوا لا يذكرون على ذبائحهم اسم الله وتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال وإن ذكر اليهودي على ذبيحته اسم عزير وذكر النصراني على ذبيحته اسم المسيح وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس والزهري وربيعة والشعبي ومكحول وقال علي وعائشة وابن عمر : إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تأكل وهو قول طاوس والحسن وتمسكوا بقوله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ويدل عليه أيضا قوله : { وما أهل لغير الله به } وقال مالك : إنه يكره ولا يحرم فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله وأما مع عدم العلم فقد حكى الكيا الطبري وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية ولما ورد في السنة من أكله صلى الله عليه و سلم من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية وهو في الصحيح وكذلك الجراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر وعلم بذلك النبي صلى الله عليه و سلم وهو في الصحيح أيضا وغير ذلك والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود والنصارى وأما المجوس فذهب الجمهور إلى أنها لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم لأنهم ليسوا بأهل كتاب على المشهور عند أهل العلم وخالف في ذلك أبو ثور وأنكر عليه الفقهاء ذلك حتى قال أحمد بن حنبل : أبو ثور كاسمه يعني في هذه المسألة وكأنه تمسك بما يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا أنه قال في المجوس : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ولم يثبت بهذا اللفظ وعلى فرض أن له أصلا ففيه زيادة تدفع ما قاله وهي قوله غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم وقد رواه بهذه الزيادة جماعة ممن لا خبرة له بفن الحديث من المفسرين والفقهاء ولم يثبت الأصل ولا الزيادة بل الذي ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ الجزية من مجوس هجر وأما بنو تغلب فكان علي بن أبي طالب ينهى عن ذبائحهم لأنهم عرب وكان يقول : إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر وهكذا سائر العرب المتنصرة كتنوخ وجذام ولحم وعاملة ومن أشبههم قال ابن كثير : وهو قول غير واحد من السلف والخلف وروي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب وقال القرطبي : وقال جمهور الأمة إن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو من غيرهم وكذلك اليهود قال : ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام يجوز أكله قوله : { وطعامكم حل لهم } أي وطعام المسلمين حلال لأهل الكتاب وفيه دليل على أنه يجوز للمسلمين أن يطعموا أهل الكتاب من ذبائحهم وهذا من باب المكافأة والمجازاة وإخبار المسلمين بأن ما يأخذونه منهم من أعراض الطعام حلال لهم بطريق الدلالة الالتزامية قوله : { والمحصنات من المؤمنات } اختلف في تفسير المحصنات هنا فقيل العفائف وقيل الحرائر وقرأ الشعبي بكسر الصاد وبه قرأ الكسائي وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في البقرة والنساء والمحصنات مبتدأ ومن المؤمنات وصف له والخبر محذوف أي حل لكم وذكرهن هنا توطئة وتمهيدا لقوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } والمراد بهن الحرائر دون الإماء هكذا قال الجمهور وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف أن هذه الآية تعم كل كتابية حرة أو أمة وقيل المراد بأهل الكتاب هنا الإسرائيليات وبه قال الشافعي وهو تخصيص بغير مخصص وقال عبد الله بن عمر : لا تحل النصرانية قال : ولا أعلم شركا أكبر من أن تقول ربها عيسى وقد قال الله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } الآية ويجاب عنه بأن هذه الآية مخصصة للكتابيات من عموم المشركات فيبنى العام على الخاص وقد استدل من حرم نكاح الإماء الكتابيات بهذه الآية لأنه حملها على الحرائر وبقوله تعالى : { فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم وخالفهم من قال : إن الآية تعم أو تخص العفائف كما تقدم والحاصل أنه يدخل تحت هذه الآية الحرة العفيفة من الكتابيات على جميع الأقوال إلا على قول ابن عمر في النصرانية ويدخل تحتها الحرة التي ليست بعفيفة والأمة العفيفة على قول من يقول : إنه يجوز استعمال المشرك في كلا معنييه وأما من لم يجوز ذلك فإن حمل المحصنات هنا على الحرائر لم يقل بجواز نكاح الأمة عفيفة كانت أو غير عفيفة إلا بدليل آخر ويقول بجواز نكاح الحرة العفيفة كانت أو غير عفيفة وإن حمل المحصنات هنا على العفائف قال بجواز نكاح الحرة العفيفة والأمة العفيفة دون غير العفيفة منهما قوله : { إذا آتيتموهن أجورهن } أي مهورهن وجواب إذا محذوف : أي فهن حلال أو هي ظرف الخبر المحصنات المقدر : أي حل لكم قوله : { محصنين } منصوب على الحال : أي حال كونكم أعفاء بالنكاح وكذا قوله : { غير مسافحين } منصوب على الحال من الضمير في محصنين أو صفة لمحصنين والمعنى : غير مجاهرين بالزنا قوله : { ولا متخذي أخدان } معطوف على { غير مسافحين } أو على { مسافحين } { ولا } مزيدة للتأكيد والخدن يقع على الذكر والأنثى : أي لم يتخذوا معشوقات فقد شرط الله في الرجال العفة وعدم المجاهرة بالزنا وعدم اتخاذ أخدان كما شرط في النساء أن يكن محصنات { ومن يكفر بالإيمان } أي بشرائع الإسلام { فقد حبط عمله } أي بطل { وهو في الآخرة من الخاسرين } وقرأ ابن السميفع فقد حبط بفتح الباء اهـ
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه [ عن أبي رافع : أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره بقتل الكلاب في الناس فقالوا : يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فسكت النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله : { يسألونك ماذا أحل لهم } الآية ] وأخرج ابن جرير عن عكرمة نحوه أخرج أيضا عن محمد بن كعب القرظي نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالا يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فنزلت وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الشعبي : أن عدي بن حاتم الطائي أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله فذكر نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } قال : هي الكلاب المعلمة والبازي والجوارح يعني الكلاب والفهود والصقور وأشباهها أخرج ابن جرير عنه قال : آية المعلم أن يمسك صيده فلا يأكل منه حتى يأتي صاحبه وأخرج عنه أيضا قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وأخرج عبد بن حميد عنه نحوه وزاد : وإذا أكل الصقر فلا تأكل لأن الكلب تستطيع أن تضربه والصقر لا تستطيع وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عنه في قوله : { وطعام الذين أوتوا الكتاب } قال : ذبائحهم وفي قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } قال : حل لكم { إذا آتيتموهن أجورهن } يعني مهورهن { محصنين } يعني تنكحونهن بالمهر والبينة { غير مسافحين } غير متغالين بالزنا { ولا متخذي أخدان } يعني يسرون بالزنا وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } قال : أحل الله لنا محصنتين محصنة مؤمنة ومحصنة من أهل الكتاب نساؤنا عليهم حرام ونساؤهم لنا حلال وأخرج ابن جرير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا ] وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن عمر بن الخطاب قال : المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة وأخرج الطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : إنما أحلت ذبائح اليهود والنصارى من أجل أنهم آمنوا بالتوراة والإنجيل وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } قال الحرائر وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال : العفائف (2/22)
قوله : 6 - { إذا قمتم } إذا أردتم القيام تعبيرا بالمسبب عن السبب كما في قوله : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله }
وقد اختلف أهل العلم في هذا الأمر عند إرادة القيام إلى الصلاة فقالت طائفة : هو عام في كل قيام إليها سواء كان القائم متطهرا أو محدثا فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ وهو مروي عن علي وعكرمة وقال ابن سيرين : كان الخلفاء يتوضأون لكل صلاة وقالت طائفة أخرى : إن هذا الأمر خاص بالنبي صلى الله عليه و سلم وهو ضعيف فإن الخطاب للمؤمنين والأمر لهم وقالت طائفة : الأمر للندب طلبا للفضل وقال آخرون : إن الوضوء لكل صلاة كان فرضا عليهم بهذه الآية ثم نسخ في فتح مكة وقال جماعة : هذ الأمر خاص بمن كان محدثا وقال آخرون : المراد إذا قمتم من النوم إلى الصلاة فيعم الخطاب كل قائم من نوم وقد أخرج مسلم وأحمد وأهل السنن عن بريدة قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد فقال له عمر : يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال : عمدا فعلته يا عمر ] وهو مروي من طرق كثيرة بألفاظ متفقة في المعنى وأخرج البخاري وأحمد وأهل السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي صلى الله عليه و سلم يتوضأ عند كل صلاة قال : قلت فأنتم كيف كنتم تصنعون ؟ قال : كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث فتقرر بما ذكر أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث وبه قال جمهور أهل العلم وهو الحق قوله : { فاغسلوا وجوهكم } الوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة وهو عضو مشتمل على أعضاء وله طول وعرض فحده في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين وفي العرض من الأذن إلى الأذن وقد ورد الدليل بتخليل اللحية واختلف العلماء في غسل ما استرسل والكلام في ذلك مبسوط في مواطنه وقد اختلف أهل العلم أيضا : هل يعتبر في الغسل الدلك باليد أم يكفي إمرار الماء والخلاف في ذلك معروف والمرجع اللغة العربية فإن ثبت فيها أن الدلك داخل في مسمى الغسل كان معتبرا وإلا فلا قال في شمس العلوم : غسل الشيء غسلا إذا أجرى عليه الماء ودلكه انتهى وأما المضمضة والاستنشاق فإذا لم يكن لفظ الوجه يشمل باطن الفم والأنف فقد ثبت غسلها بالسنة الصحيحة والخلاف في الوجوب وعدمه معروف وقد أوضحنا ما هو الحق في مؤلفاتنا قوله : { وأيديكم إلى المرافق } إلى للغاية وأما كون ما بعدها يدخل فيما قبلها فمحل خلاف وقد ذهب سيبويه وجماعة إلى أن ما بعدها إن كان من نوع ما قبلها دخل وإلا فلا وقيل إنها هنا بمعنى مع وذهب قوم إلى أنها تفيد الغاية مطلقا وأما الدخول وعدمه فأمر يدور مع الدليل وقد ذهب الجمهور إلى أن المرافق تغسل واستدلوا بما أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جده عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه ولكن القاسم هذا متروك وجده ضعيف قوله : { وامسحوا برؤوسكم } قيل : الباء زائدة والمعنى : امسحوا رؤوسكم وذلك يقتضي تعميم المسح لجميع الرأس وقيل هي للتبعيض وذلك يقتضي أنه يجزئ مسح بعضه واستدل القائلون بالتعميم بقوله تعالى في التيمم : { فامسحوا بوجوهكم } ولا يجزئ مسح بعض الوجه اتفاقا وقيل إنها للإلصاق : أي ألصقوا أيديكم برؤوسكم وعلى كل حال فقد ورد في السنة المطهرة ما يفيد أنه يكفي مسح بعض الرأس كما أوضحناه في مؤلفاتنا فكان هذا دليلا على المطلوب غير محتمل كاحتمال الآية على فرض أنها محتملة ولا شك أن من أمر غيره بأن يمسح رأسه كان ممتثلا بفعل ما يصدق عليه مسمى المسح وليس في لغة العرب ما يقتضي أنه لا بد في مثل هذا الفعل من مسح جميع الرأس وهكذا سائر الأفعال المتعدية نحو اضرب زيدا أو اطعنه أو ارجمه فإنه يوجد المعنى العربي بوقوع الضرب أو الطعن أو الرجم على عضو من أعضائه ولا يقول قائل من أهل اللغة أو من هو عالم بها إنه لا يكون ضاربا إلا بإيقاع الضرب على كل جزء من أجزاء زيد وكذلك الطعن والرجم وسائر الأفعال فاعرف هذا حتى يتبين لك ما هو الصواب من الأقوال في مسح الرأس فإن قلت : يلزم مثل هذا في غسل الوجه واليدين والرجلين قلت : ملتزم لولا البيان من السنة في الوجه والتحديد بالغاية في اليدين والرجلين بخلاف الرأس فإنه ورد في السنة مسح الكل ومسح البعض قوله : { وأرجلكم إلى الكعبين } قرأ نافع بنصب الأرجل وهي قراءة الحسن البصري والأعمش وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة بالجر وقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين لأنها معطوفة على الوجه وإلى هنا ذهب جمهور العلماء وقراءة الجر تدل على أنه يجوز الاقتصار على مسح الرجلين لأنها معطوفة على الرأس وإليه ذهب ابن جرير الطبري وهو مروي عن ابن عباس قال ابن العربي : اتفقت الأمة على وجوب غسلهما وما علمت من رد ذلك إلا الطبري من فقهاء المسلمين والرافضة من غيرهم وتعلق الطبري بقراءة الجر قال القرطبي : قد روي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان قال : وكان عكرمة يمسح رجليه وقال : ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح وقال عامر الشعبي : نزل جبريل بالمسح قال : وقال قتادة : افترض الله مسحتين وغسلتين قال : وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح وجعل القراءتين كالروايتين وقواه النحاس ولكنه قد ثبت في السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة من فعله صلى الله عليه و سلم وقوله غسل الرجلين فقط وثبت عنه أنه قال : [ ويل للأعقاب من النار ] وهو في الصحيحين وغيرهما فأفاد وجوب غسل الرجلين وأنه لا يجزئ مسحهما لأن شأن المسح أن يصيب ما أصاب ويخطي ما أخطأ فلو كان مجزئا لما قال : [ ويل للأعقاب من النار ] وقد ثبت عنه أنه قال بعد أن توضأ وغسل رجليه : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رجلا توضأ فترك على قدمه مثل موضع الظفر فقال له [ ارجع فأحسن وضوءك ] وأما المسح على الخفين فهو ثابت بالأحاديث المتواترة وقوله : { إلى الكعبين } الكلام فيه كالكلام في قوله : { إلى المرافق } وقد قيل في وجه جمع المرافق وتثنية الكعاب إنه لما كان في كل رجل كعبان ولم يكن في كل يد إلا مرفق واحد ثنيت الكعاب تنبيها على أن لكل رجل كعبين بخلاف المرافق فإنها جمعت لأنه لما كان في كل يد مرفق واحد لم يتوهم وجود غيره ذكر معنى هذا ابن عطية وقال الكواشي : ثني الكعبين وجمع المرافق لنفي توهم أن في كل واحدة من الرجلين كعبين وإنما في كل واحدة كعب واحد له طرفان من جانبي الرجل بخلاف المرفق فهي أبعد عن الوهم انتهى
وبقي من فرائض الوضوء النية والتسمية ولم يذكرا في هذه الآية بل وردت بهما السنة وقيل : إن في هذه الآية ما يدل على النية لأنه لما قال : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } كان تقدير الكلام : فاغسلوا وجوهكم لها وذلك هو النية المعتبرة قوله : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } أي فاغتسلوا بالماء وقد ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء استدلالا بهذه الآية وذهب الجمهور إلى وجوب التيمم للجنابة مع عدم الماء وهذه الآية هي للواجد على أن التطهر هو أعم من الحاصل بالماء أو بما هو عوض عنه مع عدمه وهو التراب وقد صح عن عمر وابن مسعود الرجوع إلى ما قاله الجمهور للأحاديث الصحيحة الواردة في تيمم الجنب مع عدم الماء وقد تقدم تفسير الجنب في النساء قوله : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط } قد تقدم تفسير هذا في سورة النساء مستوفى وكذلك تقدم الكلام على ملامسة النساء وعلى التيمم وعلى الصعيد ومن في قوله : { منه } لابتداء الغاية وقيل : للتبعيض قيل : ووجه تكرير هذا هنا لاستيفاء الكلام في أنواع الطهارة { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } أي ما يريد بأمركم بالطهارة بالماء أو بالتراب التضييق عليكم في الدين ومنه قوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ثم قال : { ولكن يريد ليطهركم } من الذنوب وقيل من الحدث الأصغر والأكبر { وليتم نعمته عليكم } أي بالترخيص لكم في التيمم عند عدم الماء أو بما شرعه لكم من الشرائع التي عرضكم بها للثواب { لعلكم تشكرون } نعمته عليكم فتستحقون بالشكر ثواب الشاكرين
وقد أخرج مالك والشافعي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن زيد بن أسلم في قوله : { إذا قمتم إلى الصلاة } قال : قمتم من المضاجع يعني النوم وأخرج ابن جرير عن السدي مثله وأخرج ابن جرير أيضا عنه يقول : إذا قمتم وأنتم على غير طهر وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن في قوله : { فاغسلوا وجوهكم } قال : ذلك الغسل الدلك وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير عن أنس أنه قيل له : إن الحجاج خطبنا فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى الخبث من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما قال أنس : صدق الله وكذب الحجاج قال الله : { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم } وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما وأخرج سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على غسل القدمين وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { من حرج } قال : من ضيق وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله : { وليتم نعمته عليكم } قال : تمام النعمة دخول الجنة لم يتم نعمته على عبد لم يدخل الجنة (2/25)
7 - { نعمة الله } قيل : هي الإسلام والميثاق : العهد قيل : المراد به هنا : ما أخذه على بني آدم كما قال : { وإذ أخذ ربك من بني آدم } الآية قال مجاهد وغيره : نحن وإن لم نذكره فقد أخبرنا الله به وقيل : هو خطاب لليهود والعهد : ما أخذه عليهم في التوراة وذهب جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم إلى أنه العهد الذي أخذه النبي صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة عليهم وهو السمع والطاعة في المنشط والمكره وأضافه تعالى إلى نفسه لأنه عن أمره وإذنه كما قال : { إنما يبايعون الله } وبيعة العقبة مذكورة في كتب السير وهذا متصل بقوله : { أوفوا بالعقود } قوله : { إذ قلتم سمعنا وأطعنا } أي وقت قولكم هذا القول وهذا متعلق بواثقكم أو بمحذوف وقع حالا : أي كائنا هذا الوقت و { ذات الصدور } ما تخفيه الصدور لكونها مختصة بها لا يعلمها أحد ولهذا أطلق عليها ذات التي بمعنى الصاحب وإذا كان سبحانه عالما بها فكيف بما كان ظاهرا جليا (2/29)
قوله 8 - { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين } قد تقدم تفسيرها في النساء وصيغة المبالغة في { قوامين } تفيد أنهم مأمورون بأن يقوموا بها أتم قيام { لله } أي لأجله تعظيما لأمره وطمعا في ثوابه والقسط : العدل وقد تقدم الكلام على قوله : { يجرمنكم } مستوفى : أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل وكتم الشهادة { اعدلوا هو } أي العدل المدلول عليه بقوله : اعدلوا { أقرب للتقوى } التي أمرتم بها غير مرة : أي أقرب لأن تتقوا الله أو لأن تتقوا النار (2/30)
قوله : 9 - { لهم مغفرة وأجر عظيم } هذه الجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني لقوله : { وعد } على معنى وعدهم أن لهم مغفرة أو وعدهم مغفرة فوقعت الجملة موقع المفرد فأغنت عنه ومثله قول الشاعر :
( وجدنا الصالحين لهم جزاء ... وجنات وعينا سلسبيلا ) (2/30)
قوله : 10 - { أصحاب الجحيم } أي ملابسوها (2/30)
قوله : 11 - { إذ هم قوم } ظرف لقوله : { اذكروا } أو للنعمة أو لمحذوف وقع حالا منها : { أن يبسطوا } أي بأن يبسطوا وقوله : { فكف } معطوف على قوله : { هم } وسيأتي بيان سبب نزول هذه الآية وبه يتضح المعنى
وقد أخرج ابن جرير والطبراني في الكبير عن ابن عباس في قوله : { إذ قلتم سمعنا وأطعنا } يعني حيث بعث الله النبي صلى الله عليه و سلم وأنزل عليه الكتاب قالوا : آمنا بالنبي والكتاب وأقررنا بما في التوراة فذكرهم الله ميثاقه الذي أقروا به على أنفسهم وأمرهم بالوفاء به وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال : النعم الآلاء { وميثاقه الذي واثقكم به } قال الذي واثق به بني آدم في ظهر آدم عليه السلام وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن كثير في قوله : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } الآية قال : نزلت في يهود خيبر ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم يستفتيهم في دية فهموا أن يقتلوه فذلك قوله : { ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا } الآية وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن جابر بن عبد الله [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نزل منزلا فتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها فعلق النبي صلى الله عليه و سلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه فسله ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : من يمنعك مني ؟ قال : الله قال الأعرابي مرتين أو ثلاثا
من يمنعك مني ؟ والنبي صلى الله عليه و سلم يقول : الله فشام الأعرابي السيف فدعا النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه ] قال معمر : وكان قتادة يذكر نحو هذا ويذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا بالنبي صلى الله عليه و سلم فأرسلوا هذا الأعرابي ويتأول { اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم } الآية وأخرج الحاكم وصححه عنه بنحوه وذكر أن اسم الرجل غورث بن الحارث وأنه [ لما قال النبي صلى الله عليه و سلم : الله سقط السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه و سلم وقال : من يمنعك مني ؟ قال : كن خير آخذ قال : فشهد أن لا إله إلا الله ] وأخرجه أيضا ابن إسحاق وأبو نعيم في الدلائل عنه وأخرج ابن نعيم في الدلائل عن ابن عباس : أن بني النضير هموا أن يطرحوا حجرا على النبي صلى الله عليه و سلم ومن معه فجاء جبريل فأخبره بما هموا فقام ومن معه فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم } الآية وروي نحو هذا من طرق عن غيره وقصة الأعرابي وهو غورث المذكور ثابتة في الصحيح (2/30)
قوله : 12 - { ولقد أخذ الله } كلام مستأنف يتضمن ذكر بعض ما صدر من بني إسرائيل من الخيانة وقد تقدم بيان الميثاق الذي أخذه الله عليهم واختلف المفسرون في كيفية بعث هؤلاء النقباء بعد الإجماع منهم على أن النقيب كبير القوم العالم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها والنقاب : الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة ويقال : نقيب القوم لشاهدهم وضمينهم والنقيب : الطريق في الجبل هذا أصله وسمي به نقيب القوم لأنه طريق إلى معرفة أمورهم والنقيب : أعلى مكانا من العريف فقيل : المراد ببعث هؤلاء النقباء أنهم بعثوا أمناء على الاطلاع على الجبارين والنظر في قوتهم ومنعتهم فساروا ليختبروا حال من بها ويخبروا بذلك فاطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة وظنوا أنهم لا قبل لهم بها فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل وأن يعلموا به موسى فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فأخبروا قراباتهم ففشا الخبر حتى بطل أمر الغزو وقالوا : { اذهب أنت وربك فقاتلا } وقيل : إن هؤلاء النقباء كفل كل واحد منهم على سبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله وهذا معنى بعثهم وسيأتي ذكر بعض ما قاله جماعة من السلف في ذلك قوله : { وقال الله إني معكم } أي قال ذلك لبني إسرائيل وقيل : للنقباء والمعنى : إني معكم بالنصر والعون واللام في قوله : { لئن أقمتم الصلاة } هي الموطئة للقسم المحذوف وجوابه : { لأكفرن } وهو ساد مسد جواب الشرط والتعزير : التعظيم والتوقير وأنشد أبو عبيدة :
( وكم من ماجد لهم كريم ... ومن ليث يعزر في الندي )
أي يعظم ويوقر ويطلق التعزير على الضرب والرد يقال : عزرت فلانا : إذا أدبته ورددته عن القبيح فقوله : { وعزرتموهم } أي عظمتموهم على المعنى الأول أو رددتم عنهم أعداءهم ومنعتموهم على الثاني قوله : { وأقرضتم الله قرضا حسنا } أي أنفقتم في وجوه الخير و { قرضا } مصدر محذوف الزوائد كقوله تعالى : { وأنبتها نباتا حسنا } أو مفعول ثان لأقرضتم والحسن : قيل هو ما طابت به النفس وقيل ما ابتغي به وجه الله وقيل الحلال قوله : { فمن كفر بعد ذلك } أي بعد الميثاق أو بعد الشرط المذكور { فقد ضل سواء السبيل } أي أخطأ وسط الطريق (2/32)
قوله : 13 - { فبما نقضهم ميثاقهم } الباء سببية وما زائدة أي فبسبب نقضهم ميثاقهم { لعناهم } أي طردناهم وأبعدناهم { وجعلنا قلوبهم قاسية } أي صلبة لا تعي خيرا ولا تعقله وقرأ حمزة والكسائي قسية بتشديد الياء من غير ألف وهي قراءة ابن مسعود والنخعي ويحيى بن وثاب يقال درهم قسي مخفف السين مشدد الياء : أي زائف ذكر ذلك أبو عبيد وقال الأصمعي وأبو عبيدة : درهم قسي كأنه معرب قاس وقرأ الأعمش قسية بتخفيف الياء وقرأ الباقون : { قاسية } { يحرفون الكلم عن مواضعه } الجملة مستأنفة لبيان حالهم أو حالية : أي يبدلونه بغيره أو يتأولونه على غير تأويله وقرأ السلمي والنخعي الكلام قوله : { ولا تزال تطلع على خائنة منهم } أي لا تزال يا محمد تقف على خائنة منهم والخائنة : الخيانة وقيل هو نعت لمحذوف والتقدير فرقة خائنة وقد تقع للمبالغة نحو علامة ونسابة إذا أردت المبالغة في وصفه بالخيانة وقيل خائنة معصية قوله : { إلا قليلا منهم } استثناء من الضمير في { منهم } { فاعف عنهم واصفح } قيل هذا منسوخ بآية السيف وقيل خاص بالمعاهدين (2/33)
قوله : 14 - { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم } أي في التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم وبما جاء به قال الأخفش : هو كقولك أخذت من زيد ثوبه ودرهم فرتبة الذين بعد أخذنا وقال الكوفيون بخلافه وقيل إن الضمير في قوله : { ميثاقهم } راجع إلى بني إسرائيل : أي أخذنا من النصارى مثل ميثاق المذكورين قبلهم من بني إسرائيل وقال : { من الذين قالوا إنا نصارى } ولم يقل ومن النصارى للإيذان بأنهم كاذبون في دعوى النصرانية وأنهم أنصار الله قوله : { فنسوا حظا مما ذكروا به } أي نسوا من الميثاق المأخوذ عليهم نصيبا وافرا عقب أخذه عليهم { فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء } أي ألصقنا ذلك بهم مأخوذ من الغراء : وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه يقال غرى بالشيء يغري غريا بفتح الغين مقصورا وغراء بكسرها ممدودا : أي أولع به حتى كأنه صار ملتصقا به ومثل الإغراء التحرش وأغريت الكلب : أي أولعته بالصيد والمراد بقوله : { بينهم } اليهود والنصارى لتقدم ذكرهم جميعا وقيل بين النصارى خاصة لأنهم أقرب مذكور وذلك لأنهم افترقوا إلى اليعقوبية والنسطورية والملكانية وكفر بعضهم بعضا وتظاهروا بالعداوة في ذات بينهم قال النحاس : وما أحسن ما قيل في معنى { أغرينا بينهم العداوة والبغضاء } إن الله عز و جل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم فكل فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها قوله : { وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } تهديد لهم : أي سيلقون جزاء نقض الميثاق
وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل } قال : أخذ مواثيقهم بأن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره { وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا } أي كفيلا كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { اثني عشر نقيبا } قال : من كل سبط من بني إسرائيل رجال أرسلهم موسى إلى الجبارين فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة فرجع النقباء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم إلا يوشع بن نون وكالب بن يافنة فإنهما أمرا الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم فعصوهما وأطاعوا الآخرين فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما فتاهت بنو إسرائيل أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا في تيههم ذلك فضرب موسى الحجر لكل سبط عينا حجرا لهم يحملونه معهم فقال لهم موسى : اشربوا يا حمير فنهاه الله عن سبهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { اثني عشر نقيبا } قال : هم من بين إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى المدينة فجاءوا بحبة من فاكهتهم وقر رجل فقال : اقدروا قوة قوم وبأسهم وهذه فاكهتهم فعند ذلك فتنوا فقالوا : لا نستطيع القتال { فاذهب أنت وربك فقاتلا } وقد ذكر ابن إسحاق أسماء هؤلاء الأسباط وأسماؤهم مذكورة في السفر الرابع من التوراة وفيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وعزرتموهم } قال : أعنتموهم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { وعزرتموهم } قال : نصرتموهم وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { فبما نقضهم ميثاقهم } قال : هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { يحرفون الكلم عن مواضعه } يعني حدود الله يقولون إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه وإن خالفكم فاحذروا وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { ونسوا حظا مما ذكروا به } قال : نسوا الكتاب وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { ولا تزال تطلع على خائنة منهم } قال : هم يهود مثل الذي هموا به من النبي صلى الله عليه و سلم يوم دخل عليهم حائطهم وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : { ولا تزال تطلع على خائنة منهم } قال : كذب وفجور وفي قوله : { فاعف عنهم واصفح } قال : لم يؤمر يومئذ بقتالهم فأمره الله أن يعفو عنهم ويصفح ثم نسخ ذلك في براءة فقال : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } الآية وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن إبراهيم النخعي في قوله : { فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } قال : أغرى بعضهم ببعض بالخصومات والجدال في الدين (2/33)
الألف واللام في الكتاب للجنس والخطاب لليهود والنصارى 15 - { قد جاءكم رسولنا } أي محمد صلى الله عليه و سلم حال كونه : { يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب } المنزل عليكم وهو التوراة والإنجيل : كآية الرجم وقصة أصحاب السبت الممسوخين قردة { ويعفو عن كثير } مما تخفونه فيترك بيانه لعدم اشتماله على ما يجب بيانه عليه من الأحكام الشرعية فإن ما لم يكن كذلك لا فائدة تتعلق ببيانه إلا مجرد افتضاحكم وقيل المعنى : إنه يعفو عن كثير فيتجاوزه ولا يخبركم به وقيل : يعفو عن كثير منكم فلا يؤاخذكم بما يصدر منهم والجملة في محل نصب عطفا على الجملة الحالية : أعني قوله : { يبين لكم } قوله : { قد جاءكم من الله نور } جملة مستأنفة مشتملة على بيان أن محمدا صلى الله عليه و سلم قد تضمنت بعثته فوائد غير ما تقدم من مجرد البيان قال الزجاج : النور محمد صلى الله عليه و سلم وقيل الإسلام والكتاب المبين : القرآن فإنه المبين (2/35)
والضمير في قوله : 16 - { يهدي به } راجع إلى الكتاب أو إليه وإلى النور لكونهما كالشيء الواحد { من اتبع رضوانه } أي ما رضيه الله و { سبل السلام } طرق السلامة من العذاب الموصلة إلى السلام المنزهة عن كل آفة وقيل المراد بالسلام : الإسلام { ويخرجهم من الظلمات } الكفرية { إلى النور } الإسلامي { ويهديهم إلى صراط مستقيم } إلى طريق يتوصلون بها إلى الحق لا عوج فيها ولا مخافة
وقد أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : { رسولنا } قال : هو محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير أيضا عن عكرمة قال : [ إن نبي الله صلى الله عليه و سلم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال : أيكم أعلم ؟ فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى والذي رفع الطور بالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل فقال : إنه لما كثير فينا جلدنا مائة جلدة وحالقنا الرؤوس فحكم عليهم بالرجم فنزلت هذه الآية ] وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : { ويعفو عن كثير } يقول عن كثير من الذنوب وأخرج ابن جرير عن السدي قال : { سبل السلام } هي سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه وابتعث به رسله : وهو الإسلام (2/36)
ضمير الفصل في قوله : 17 - { هو المسيح } يفيد الحصر قيل وقد قال بذلك بعض طوائف النصارى وقيل لم يقبل به أحد منهم ولكن استلزم قولهم : { إن الله هو المسيح } لا غيره وقد تقدم في آخر سورة النساء ما يكفي ويغني عن التكرار قوله : { قل فمن يملك من الله شيئا } الاستفهام للتوبيخ والتقريع والملك والملك : الضبط والحفظ والقدرة من قولهم ملكت على فلان أمره : أي قدرت عليه : أي فمن يقدر أن يمنع { إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } وإذا لم يقدر أحد أن يمنع من ذلك فلا إله إلا الله ولا رب غيره ولا معبود بحق سواه ولو كان المسيح إلها كما تزعم النصارى لكان له من الأمر شيء ولقدر على أن يدفع عن نفسه أقل حال ولم يقدر على أن يدفع عن أمه الموت عند نزوله بها وتخصيصها بالذكر مع دخولها في عموم من في الأرض لكون الدفع منه عنها أولى وأحق من غيرها فهو إذا لم يقدر على الدفع عنها أعجز عن أن يدفع عن غيرها وذكر من في الأرض للدلالة على شمول قدرته وأنه إذا أراد شيئا كان لا معارض له في أمره ولا مشارك له في قضائه { ولله ملك السموات والأرض وما بينهما } أي ما بين النوعين من المخلوقات قوله : { يخلق ما يشاء } جملة مستأنفة مسوقة لبيان أنه سبحانه خالق الخلق بحسب مشيئته وأنه يقدر على كل شيء لا يستصعب عليه شيء (2/36)
قوله : 18 - { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } أثبتت اليهود لأنفسها ما أثبتته لعزير حيث قالوا : { عزير ابن الله } وأثبتت النصارى لأنفسها ما أثبتته للمسيح حيث قالوا : { المسيح ابن الله } وقيل هو على حذف مضاف : أي نحن أتباع أبناء الله وهكذا أثبتوا لأنفسهم أنهم أحباء الله بمجرد الدعوى الباطلة والأماني العاطلة فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يرد عليهم فقال : { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } أي إن كنتم كما تزعمون فما باله يعذبكم بما تقترفونه من الذنوب بالقتل والمسخ وبالنار في يوم القيامة كما تعترفون بذلك لقولكم : { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } فإن الابن من جنس أبيه لا يصدر عنه ما يستحيل على الأب وأنتم تذنبون والحبيب لا يعذب حبيبه وأنتم تعذبون فهذا يدل على أنكم كاذبون في هذه الدعوى وهذا البرهان هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف قوله : { بل أنتم بشر ممن خلق } عطف على مقدر يدل عليه الكلام : أي فلستم حينئذ كذلك { بل أنتم بشر ممن خلق } أي من جنس من خلقه الله تعالى يحاسبهم على الخير والشر ويجازي كل عامل بعمله { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما } من الموجودات { وإليه المصير } أي تصيرون إليه عند انتقالكم من دار الدنيا إلى دار الآخرة
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم نعمان بن أضاء وبحري بن عمرو وشاس بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته فقالوا : ما تخوفنا يا محمد { نحن أبناء الله وأحباؤه } كقول النصارى فأنزل الله فيهم : { وقالت اليهود والنصارى } إلى آخر الآية وأخرج أحمد في مسنده عن أنس قال : [ مر النبي صلى الله عليه و سلم في نفر من أصحابه وصبي في الطريق فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول : ابني ابني فسعت فأخذته فقال القوم : يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ولا والله لا يلقي حبيبه في النار ] وإسناده في المسند هكذا : حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس فذكره ومعنى الآية يشير إلى معنى هذا الحديث ولهذا قال بعض مشايخ الصوفية لبعض الفقهاء : أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه ؟ فلم يرد عليه فتلا الصوفي هذه الآية وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا والله لا يعذب الله حبيبه ولكن قد يبتليه في الدنيا ] وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله : { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } يقول : يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذبه (2/37)
المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى والرسول هو محمد صلى الله عليه و سلم : 19 - { ويبين الله لكم } حال والمبين هو ما شرعه الله لعباده وحذف للعلم به لأن بعثة الرسل إنما هي بذلك والفترة أصلها السكون يقال فتر الشيء : سكن وقيل هي الانقطاع قاله أبو علي الفارسي وغيره ومنه فتر الماء : إذا انقطع عما كان عليه من البرد إلى السخونة وفتر الرجل عن عمله : إذا انقطع عما كان عليه من الجد فيه وامرأة فاترة الطرف : أي منقطعة عن حدة النظر والمعنى : أنه انقطع الرسل قبل بعثه صلى الله عليه و سلم مدة من الزمان واختلف في قدر مدة تلك الفترة وسيأتي بيان ذلك قوله : { أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير } تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حين فترة : أي كراهة أن تقولوا هذا القول معتذرين عن تفريطكم و من في قوله : { من بشير } زائدة للمبالغة في نفي المجيء والفاء في قوله : { فقد جاءكم } هي الفصيحة مثل قول الشاعر :
( فقد جئنا خراسانا )
أي لا تعتذروا فقد جاءكم بشير ونذير وهو محمد صلى الله عليه و سلم { والله على كل شيء قدير } ومن جملة مقدوراته إرساله رسوله على فترة من الرسل
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم يهود إلى الإسلام فرغبهم فيه وحذرهم فأبوا عليه فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب : يا معشر يهود اتقوا الله فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته فقال رافع بن حرملة ووهب بن يهوذا : ما قلنا لكم هذا وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل الله : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل } الآية وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال : هو محمد صلى الله عليه و سلم جاء بالحق الذي فرق الله به بين الحق والباطل فيه بيان وموعظة ونور وهدى وعصمة لمن أخذ به قال : وكانت الفترة بين عيسى ومحمد ستمائة سنة وما شاء الله من ذلك وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه قال : كانت خمسمائة سنة وستين سنة وقال الكلبي : خمسمائة سنة وأربعين سنة وأخرج ابن المنذر عن ابن جرير قال : كانت خمسمائة سنة وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : كانت أربعمائة سنة وبضعا وثلاثين سنة وأخرج ابن سعد في كتاب الطبقات عن ابن عباس قال : كان بين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة سنة ولم يكن بينهما فترة فإنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم وكان بين ميلاد عيسى ومحمد صلى الله عليه و سلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة بعث في أولها ثلاثة أنبياء كما قال الله تعالى : { إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث } والذي عزز به شمعون وكان من الحواريين وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولا أربعمائة سنة وأربعة وثلاثين سنة وقد قيل غير ما ذكرنا (2/38)
هذه الآيات متضمنة للبيان من الله سبحانه بأن أسلاف اليهود الموجودين في عصر محمد صلى الله عليه و سلم تمردوا على موسى وعصوه كما تمرد هؤلاء على نبينا صلى الله عليه و سلم وعصوه وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه و سلم وروي عن عبد الله بن كثير أنه قرأ : 20 - { يا قوم اذكروا } بضم الميم وكذا قرأ فيما أشبهه وتقديره : يا أيها القوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء : أي وقت هذا الجعل وإيقاع الذكر على الوقت مع كون المقصود ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة لأن الأمر بذكر الوقت أمر بذكر ما وقع فيه بطريق الأولى وامتن عليهم سبحانه بجعل الأنبياء فيهم مع كونه قد جعل أنبياء من غيرهم لكثرة من بعثه من الأنبياء منهم قوله : { وجعلكم ملوكا } أي وجعل منكم ملوكا وإنما حذف حرف الجر لظهور أن معنى الكلام على تقديره ويمكن أن يقال : إن منصب النبوة لما كان لعظم قدره وجلالة خطره بحيث لا ينسب إلى غير من هو له قال فيه : { إذ جعل فيكم أنبياء } ولما كان منصب الملك مما يجوز نسبته إلى غير من قال به كما تقول قرابة الملك نحن الملوك قال فيه : { وجعلكم ملوكا } وقيل المراد بالملك : أنهم ملكوا أمرهم بعد أن كانوا مملوكين لفرعون فهم جميعا ملوك بهذا المعنى : وقيل معناه : أنه جعلهم ذوي منازل لا يدخل عليهم غيرهم إلا بإذن وقيل غير ذلك والظاهر أن المراد من الآية الملك الحقيقي ولو كان بمعنى آخر لما كان للامتنان به كثير معنى فإن قلت : قد جعل غيرهم ملوكا كما جعلهم قلت : قد كثر الملوك فيهم كما كثر الأنبياء فهذا وجه الامتنان قوله : { وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } أي من المن والسلوى والحجر والغمام وكثرة الأنبياء وكثرة الملوك وغير ذلك والمراد عالمي زمانهم وقيل إن الخطاب هاهنا لأمة محمد صلى الله عليه و سلم وهو عدول عن الظاهر غير موجب والصواب ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أنه من كلام موسى لقومه وخاطبهم بهذا الخطاب توطئة وتمهيدا لما بعده من أمره لهم بدخول الأرض المقدسة (2/38)
وقد اختلف في تعيينها فقال قتادة : هي الشام وقال مجاهد : الطور وما حوله وقال ابن عباس والسدي وغيرهما : أريحاء وقال الزجاج : دمشق وفلسطين وبعض الأردن وقول قتادة : يجمع هذه الأقوال المذكورة بعده والمقدسة : المطهرة وقيل المباركة 21 - { التي كتب الله لكم } أي قسمها وقدرها لهم في سابق علمه وجعلها مسكنا لكم { ولا ترتدوا على أدباركم } أي لا ترجعوا عن أمري وتتركوا طاعتي وما أوجبته عليكم من قتال الجبارين جبنا وفشلا { فتنقلبوا } بسبب ذلك { خاسرين } لخير الدنيا والآخرة (2/41)
22 - { قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين } قال الزجاج : الجبار من الآدميين العاتي وهو الذي يجبر الناس على ما يريد وأصله على هذا من الإجبار وهو الإكراه فإنه يجبر غيره على ما يريده يقال أجبره : إذا أكرهه وقيل هو مأخوذ من جبر العظم فأصل الجبار على هذا المصلح لأمر نفسه ثم استعمل في كل من جر إلى نفسه نفعا بحق أو باطل وقيل إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه قال الفراء : لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين جبار من أجبر ودراك من أدرك والمراد هنا : أنهم قوم عظام الأجسام طوال متعاظمون قيل هم قوم من بقية قوم عاد وقيل هم من ولد عيص بن إسحاق وقيل هم من الروم : ويقال إن منهم عوج بن عنق المشهور بالطول المفرط وعنق هي بنت آدم قيل كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع قال ابن كثير : وهذا شيء يستحيا من ذكره ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ثم لم يزل الخلق ينقص ] ثم قد ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا وأنه كان ولد زنية وأنه امتنع من ركوب السفينة وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته وهذا كذب وافتراء فإن الله ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } وقال تعالى : { فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين } وقال تعالى : { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } وإذا كان ابن نوح الكافر غرق فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر ولد زنية ؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق والله أعلم انتهى كلامه
قلت : لم يأت في أمر هذا الرجل ما يقتضي تطويل الكلام في شأنه وما هذا بأول كذبة اشتهرت في الناس ولسنا بملزومين بدفع الأكاذيب التي وضعها القصاص ونفقت عند من لا يميز بين الصحيح والسقيم فكم في بطون دفاتر التفاسير من أكاذيب وبلايا وأقاصيص كلها حديث خرافة وما أحق من لا تمييز عنده لفن الرواية ولا معرفة به أن يدع التعرض لتفسير كتاب الله ويضع هذه الحماقات والأضحوكات في المواضع المناسبة لها من كتب القصاص قوله : { فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } هذا تصريح بما هو مفهوم من الجملة التي قبل هذه الجملة لبيان أن امتناعهم من الدخول ليس إلا لهذا السبب (2/41)
قوله : 23 - { قال رجلان } هما يوشع وكالب بن يوفنا أو ابن فانيا وكانا من الإثني عشر نقيبا كما مر بيان ذلك وقوله : { من الذين يخافون } أي يخافون من الله عز و جل وقيل من الجبارين : أي هذان الرجلان من جملة القوم الذين يخافون من الجبارين وقيل من الذين يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم وقيل إن الواو في { يخافون } لبني إسرائيل : أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير يخافون بضم الياء : أي يخافهم غيرهم قوله : { أنعم الله عليهما } في محل رفع على أنه صفة ثانية لرجلان بالإيمان واليقين بحصول ما وعدوا به من النصر والظفر { ادخلوا عليهم الباب } أي باب بلد الجبارين { فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } قالا : هذه المقالة لبني إسرائيل والظاهر أنهما قد علما بذلك من خبر موسى أو قالاه ثقة بوعد الله أو كانا قد عرفا أن الجبارين قد ملئت قلوبهم خوفا ورعبا (2/42)
24 - { قالوا } أي بنو إسرائيل لموسى { إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها } وكان هذا القول منهم فشلا وجبنا أو عنادا وجرأة على الله وعلى رسوله { فاذهب أنت وربك فقاتلا } قالوا هذا جهلا بالله عز و جل وبصفاته وكفرا بما يجب له أو استهانة بالله ورسوله وقيل أرادوا بالذهاب الإرادة والقصد وقيل أرادوا بالرب هارون وكان أكبر من موسى وكان موسى يطيعه { إنا هاهنا قاعدون } أي لا نبرح هاهنا لا نتقدم معك ولا نتأخر عن هذا الموضع وقيل أرادوا بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر (2/42)
25 - { قال } موسى { رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي } يحتمل أن يعطف وأخي على نفسي وأن يعطف على الضمير في { إني } أي إني لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملك إلا نفسه قال هذا تحسرا وتحزنا واستجلابا للنصر من الله عز و جل { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } أي افصل بيننا : يعني نفسه وأخاه وبين القوم الفاسقين وميزنا عن جملتهم ولا تلحقنا بهم في العقوبة وقيل المعنى : فاقض بيننا وبينهم وقيل إنما أراد في الآخرة وقرأ عبيد بن عمير { فافرق } بكسر الراء (2/42)
26 - { قال فإنها } أي الأرض المقدسة { محرمة عليهم } أي على هؤلاء العصاة بسبب امتناعهم من قتال الجبارين { أربعين سنة } ظرف للتحريم : أي أنه محرم عليهم دخولها هذه المدة لا زيادة عليه فلا يخالف هذا التحريم ما تقدم من قوله : { التي كتب الله لكم } فإنها مكتوبة لمن بقي منهم بعد هذه المدة وقيل إنه لم يدخلها أحد ممن قال : { إنا لن ندخلها } فيكون توقيت التحريم بهذه المدة باعتبار ذراريهم وقيل إن { أربعين سنة } ظرف لقوله : { يتيهون في الأرض } أي يتيهون هذا المقدار فيكون التحريم مطلقا والموقت : هو التيه وهو في اللغة الحيرة يقال منه : تاه يتيه تيها أو توها إذا تحير فالمعنى : يتحيرون في الأرض قيل إن هذه الأرض التي تاهوا فيها كانت صغيرة نحو ستة فراسخ كانوا يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا وكانوا سيارة مستمرين على ذلك لا قرار لهم
واختلف أهل العلم هل كان معهم موسى وهارون أم لا ؟ فقيل لم يكونا معهم لأن التيه عقوبة وقيل كانا معهم لكن سهل الله عليهما ذلك كما جعل النار بردا وسلاما على إبراهيمز وقد قيل كيف يقع هذا لجماعة من العقلاء في مثل هذه الأرض اليسيرة في هذه المدة الطويلة ؟ قال أبو علي : يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هم عليها إذا ناموا إلى المكان الذي ابتدأوا منه وقد يكون بغير ذلك من الأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارقة للعادة
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : { وجعلكم ملوكا } قال : ملكهم الخدم وكانوا أول من ملك الخدم وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار سمي ملكا وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه في الآية قال : الزوجة والخادم والبيت وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا في قوله : { وجعلكم ملوكا } قال : المرأة والخدم { وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } قال : الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا ] وأخرج ابن جرير والزبير بن بكار في الموقفيات عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من كان له بيت وخادم فهو ملك ] وأخرج أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم في الآية قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ زوجة ومسكن وخادم ] وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأله رجل : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ قال : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم قال : فأنت من الأغنياء قال : إن لي خادما قال : فأنت من الملوك وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { وجعلكم ملوكا } قال : جعل لهم أزواجا وخدما وبيوتا { وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } قال : المن والسلوى والحجر والغمام وأخرج ابن جرير من طريق مجاهد عن ابن عباس في الآية قال : المن والسلوى والحجر والغمام وقد ثبت في الحديث الصحيح : [ من أصبح منكم معافى في جسده آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ] وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { ادخلوا الأرض المقدسة } قال : الطور وما حوله وأخرج عنه أيضا قال : هي أريحاء وأخرج ابن عساكر عن معاذ بن جبل قال : هي ما بين العريش إلى الفرات وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال : هي الشام وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله : { التي كتب الله لكم } قال : التي أمركم الله بها وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال : أمر القوم بها كما أمرنا بالصلاة والزكاة والحج والعمرة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين فسار بمن معه حتى نزل قريبا من المدينة وهي أريحاء فبعث إليهم اثني عشر عينا من كل سبط منهم عين ليأتوه بخبر القوم فدخلوا المدينة فرأوا أمرا عظيما من هيئتهم وجسمهم وعظمهم فدخلوا حائطا لبعضهم فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه فجعل يجتني الثمار فنظر إلى آثارهم فتتبعهم فكلما أصاب واحدا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة حتى التقط الإثني عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال الملك : قد رأيتم شأننا وأمرنا اذهبوا فأخبروا صاحبكم قال : فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم فقال : اكتموا عنا فجعل الرجل يخبر أباه وصديقه ويقول : اكتم عني فأشيع ذلك في عسكرهم ولم يكتم منهم إلا رجلان يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وهما اللذان أنزل الله فيهما { قال رجلان من الذين يخافون } وقد روي نحو هذا مما يتضمن المبالغة في وصف هؤلاء وعظم أجسامهم ولا فائدة في بسط ذلك فغالبه من أكاذيب القصاص كما قدمنا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فافرق } يقول : اقض وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه يقول : افصل بيننا وبينهم وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : { فإنها محرمة عليهم } قال : أبدا وفي قوله : { يتيهون في الأرض } قال : أربعين سنة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : تاهوا أربعين سنة فهلك موسى وهارون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون وهو الذي قام بالأمر بعد موسى وهو الذي افتتحها وهو الذي قيل له اليوم يوم جمعة فهموا بافتتاحها فدنت الشمس للغروب فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا فنادى الشمس إني مأمور وأنت مأمورة فوقفت حتى افتتحها فوجد فيها من الأموال ما لم يرد مثله قط فقربوه إلى النار فلم تأت فقال فيكم الغلول فدعا رؤوس الأسباط وهم إثنا عشر رجلا فبايعهم والتصقت يد رجل منهم بيده فقال : الغلول عندك فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب لها عينان من ياقوت وأسنان من لؤلؤ فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلتها وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن (2/42)
ووجه اتصال هذا بما قبله التنبيه من الله على أن ظلم اليهود ونقضهم المواثيق والعهود هو كظلم ابن آدم لأخيه فالداء قديم والشر أصيل
وقد اختلف أهل العلم في ابني آدم المذكورين هل هما لصلبه أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى الأول وذهب الحسن والضحاك إلى الثاني وقالا : إنهما كانا من بني إسرائيل فضرب بهما المثل في إبانة حسد اليهود وكانت بينهما خصومة فتقربا بقربانين ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل قال ابن عطية : وهذا وهم كيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب ؟ قال الجمهور من الصحابة فمن بعدهم : واسمهما قابيل وهابيل وكان قربان قابيل حزمة من سنبل لأنه كان صاحب زرع واختارها من أردأ زرعه حتى إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها وكان قربان هابيل كبشا لأنه كان صاحب غنم أخذه من أجود غنمه فتقبل قربان هابيل فرفع إلى الجنة فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدى به الذبيح عليه السلام كذا قال جماعة من السلف ولم يتقبل قربان قابيل فحسده وقال : لأقتلنك وقيل سبب هذا القربان أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى إلا شيثا عليه السلام فإنها ولدته منفردا وكان آدم عليه السلام يزوج الذكر من هذا البطن بالأنثى من البطن الآخر ولا تحل له أخته التي ولدت معه فولدت مع قابيل أخت جميلة واسمها إقليما ومع هابيل أخت ليست كذلك واسمها ليوذا فلما أراد آدم تزويجها قال قابيل : أنا أحق بأختي فأمره آدم فلم يأتمر وزجره فلم ينزجر فاتفقوا على القربان وأن يتزوجها من يقبل قربانه 27 - قوله : { بالحق } متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر { واتل } أي تلاوة متلبسة بالحق أو صفة لنبأ : أي نبأ متلبسا بالحق والمراد بأحدهما هابيل وبالآخر قابيل و { قال لأقتلنك } استئناف بياني كأنه فماذا قال الذي لم يتقبل قربانه ؟ وقوله : { قال إنما يتقبل الله من المتقين } استئناف كالأول كأنه قيل : فماذا قال الذي تقبل قربانه ؟ وإنما للحصر : أي إنما يتقبل الله القربان من المتقين لا من غيرهم وكأنه يقول لأخيه : إنما أتيت من قبل نفسك لا من قبلي فإن عدم تقبل قربانك بسبب عدم تقواك (2/45)
قوله : 28 - { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني } أي لئن قصدت قتلي واللام هي الموطئة و { ما أنا بباسط } جواب القسم ساد مسد جواب الشرط وهذا استسلام للقتل من هابيل كما ورد في الحديث : [ إذا كانت الفتنة فكن كخير ابني آدم وتلا النبي صلى الله عليه و سلم هذه الآية ] قال مجاهد : كان الفرض عليهم حينئذ أن لا يسل أحد سيفا وأن لا يمتنع ممن يريد قتله قال القرطبي : قال علماؤنا : وذلك مما يجوز ورود التعبد به إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعا وفي وجوب ذلك عليه خلاف والأصح وجوب ذلك لما فيه من النهي عن المنكر وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه الدفع واحتجوا بحديث أبي ذر وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة وكف اليد عند الشبهة على ما بيناه في كتاب التذكرة انتهى كلام القرطبي وحديث أبي ذر المشار إليه هو عند مسلم وأهل السنن إلا النسائي وفيه : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا كيف تصنع ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك قال : فإن لم أترك قال : فأت من أنت منهم فكن فيهم قال : فآخذ سلاحي ؟ قال : إذن تشاركهم فيما هم فيه ولكن إذا خشيت أن يردعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك ] وفي معناه أحاديث عن جماعة من الصحابة سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وخباب بن الأرت وأبي بكر وابن مسعود وأبي واقد وأبي موسى (2/46)
قوله : 29 - { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار } هذا تعليل لامتناعه من المقاتلة بعد التعليل الأول وهو { إني أخاف الله رب العالمين }
اختلف المفسرون في المعنى فقيل : أراد هابيل إني أريد أن تبوء بالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك وبإثمك الذي تحملته بسبب قتلي وقيل المراد بإثمي الذي يختص بي بسبب سيأتي فيطرح عليك بسبب ظلمك لي وتبوء بإثمك في قتلي وهذا يوافق معناه معنى ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه و سلم : [ يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه ] ومثله قوله تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } وقيل المعنى : إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى : { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم } أي أن لا تميد بكم وقوله : { يبين الله لكم أن تضلوا } أي أن لا تضلوا وقال أكثر العلماء : إن المعنى { إني أريد أن تبوء بإثمي } أي بإثم قتلك لي : { وإثمك } الذي قد صار عليك بذنوبك من قبل قتلي قال الثعلبي : هذا قول عامة المفسرين وقيل هو على وجه الإنكار : أي أو إني أريد على وجه الإنكار كقوله تعالى : { وتلك نعمة } أي أو تلك نعمة قاله القشيري ووجهه بأن إرادة القتل معصية وسئل أبو الحسن بن كيسان كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار ؟ فقال : وقعت الإرادة بعدما بسط يده إليه بالقتل وهذا بعيد جدا وكذلك الذي قبله وأصل باء رجع إلى المباءة وهي المنزل - وباءوا بغضب من الله - أي رجعوا (2/47)
قوله : 30 - { فطوعت له نفسه قتل أخيه } أي سهلت نفسه عليه الأمر وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع يده سهل عليه يقال تطوع الشيء : أي سهل وانقاد وطوعه فلان له : أي سهله قال الهروي : طوعت وطاوعت واحد يقال طاع له كذا : إذا أتاه طوعا وفي ذكر تطويع نفسه له بعدما تقدم من قول قابيل : { لأقتلنك } وقول هابيل : { لتقتلني } دليل على أن التطويع لم يكن قد حصل له عند تلك المقاولة قوله : { فقتله } قال ابن جرير ومجاهد وغيرهما : روي أنه جهل كيف يقتل أخاه فجاءه إبليس بطائر أو حيوان غيره فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل وقيل غير ذلك مما يحتاج إلى تصحيح الرواية (2/47)
قوله : 31 - { فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه } قيل إنه لما قتل أخاه لم يدر كيف يواريه لكونه أول ميت مات من بني آدم فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فحفر له ثم حثا عليه فلما رآه قابيل { قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي } فواراه والضمير المستكن في { ليريه } للغراب وقيل لله سبحانه و { كيف } في محل نصب على الحال من ضمير { يواري } والجملة ثاني مفعولي يريه والمراد بالسوأة هنا ذاته كلها لكونها ميتة و { قال } استئناف جواب سؤال مقدر من سوق الكلام كأنه قيل : فماذا قال عند أن شاهد الغراب يفعل ذلك ؟ و { يا ويلتى } كلمة تحسر وتحزن والألف بدل من ياء المتكلم كأنه دعا ويلته بأن تحضر في ذلك الوقت والويلة الهلكة والكلام خارج مخرج التعجب منه من عدم اهتدائه لمواراة أخيه كما اهتدى الغراب إلى ذلك { فأواري } بالنصب على أنه جواب الاستفهام وقرئ بالسكون على تقدير فأنا أواري { فأصبح من النادمين } على قتله وقيل لم يكن ندمه ندم توبة بل ندم لفقده لا على قتله وقيل غير ذلك
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس قال : [ نهى أن تنكح المرأة أخاها توأمها وأن ينكحها غيره من إخوتها وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة فبينما هم كذلك ولد له امرأة وضيئة وولد له أخرى قبيحة دميمة فقال أخو الدميمة : أنكحني أختك وأنكحك أختي فقال : لا أنا أحق بأختي فقربا قربانا فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض وصاحب الحرث بصبرة من طعام فتقبل من صاحب الكبش ولم يتقبل من صاحب الزرع ] قال ابن كثير في تفسيره : إسناده جيد وكذا قال السيوطي في الدر المنثور وأخرج ابن جرير عنه قال : كان من شأن بني آدم أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل فبينما ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قربانا ثم ذكرا ما قرباه وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : { لئن بسطت إلي يدك } قال : كتب عليهم إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع منه وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } يقول : إني أريد أن تكون عليك خطيئتك ودمي فتبوء بهما جميعا وأخرج ابن جرير عنه { بإثمي } قال : بقتلك إياي { وإثمك } قال : بما كان منك قبل ذلك وأخرج عن قتادة والضحاك مثله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { فطوعت له نفسه قتل أخيه } قال : شجعته على قتل أخيه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال : زينت له نفسه وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : { فطوعت له نفسه قتل أخيه } فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال فأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنما له وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فحفر له ثم حثا عليه فلما رآه { قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب } وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل ] وقد روي في صفة قتله لأخيه روايات الله أعلم بصحتها (2/47)
قوله : 32 - { من أجل ذلك } أي من أجل ذلك القاتل وجريرته وبسبب معصيته وقال الزجاج : أي من جنايته قال : يقال أجل الرجل على أهله شرا يأجل أجلا إذا جنى مثل أخذ يأخذ أخذا وقرأ أبو جعفر من أجل بكسر النون وحذف الهمزة وهي لغة قال في شرح الدرة : قرأ أبو جعفر منفردا من أجل ذلك بكسر الهمزة مع نقل حركتها إلى النون قبلها وقيل يجوز أن يكون قوله : { من أجل ذلك } متعلقا بقوله : { من النادمين } فيكون الوقف على قوله : { من أجل ذلك } والأولى ما قدمنا والمعنى : أن نبأ ابني آدم هو الذي تسبب عنه الكتب المذكور على بني إسرائيل وعلى هذا جمهور المفسرين وخص بني إسرائيل بالذكر لأن السياق في تعداد جناياتهم ولأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس ووقع التغليظ فيهم إذ ذاك لكثرة سفكهم للدماء وقتلهم للأنبياء وتقديم الجار والمجرور على الفعل الذي هو متعلق به أعني كتبنا : يفيد القصر : أي من أجل ذلك لا من غيره ومن لابتداء الغاية { أنه من قتل نفسا } واحدة من هذا النفوس { بغير نفس } أي بغير نفس توجب القصاص فيخرج عن هذا من قتل نفسا بنفس قصاصا قوله : { أو فساد في الأرض } قرأ الجمهور بالجر عطفا على نفس وقرأ الحسن بالنصب على تقدير فعل محذوف يدل عليه أول الكلام تقديره : أو أحدث فسادا في الأرض وفي هذا ضعف ومعنى قراءة الجمهور : أن من قتل نفسا بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا وقد تقرر أن كل حكم مشروط يتحقق أحد شيئين فنقيضه مشروط بانتفائهما معا وكل حكم مشروط بتحققهما معا فنقيضه مشروط بانتفاء أحدهما ضرورة أن نقيض كل شيء مشروط بنقيض شرطه
وقد اختلف في هذا الفساد المذكور في هذه الآية ماذا هو ؟ فقيل هو الشرك وقيل قطع الطريق وظاهر النظم القرآني أنه ما يصدق عليه أنه فساد في الأرض فالشرك فساد في الأرض وقطع الطريق فساد في الأرض وسفك الدماء وهتك الحرم ونهب الأموال فساد في الأرض والبغي على عباد الله بغير حق فساد في الأرض وهدم البنيان وقطع الأشجار وتغوير الأنهار فساد في الأرض فعرفت بهذا أنه يصدق على هذه الأنواع أنها فساد في الأرض وهكذا الفساد الذي سيأتي في قوله : { ويسعون في الأرض فسادا } يصدق على هذه الأنواع وسيأتي تمام الكلام على معنى الفساد قريبا قوله : { فكأنما قتل الناس جميعا } اختلف المفسرون في تحقيق هذا التشبيه للقطع بأن عقاب من قتل الناس جميعا أشد من عقاب من قتل واحدا منهم فروي عن ابن عباس أنه قال : المعنى من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعا أخرج هذا عنه ابن جرير وروي عن مجاهد أنه قال : المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما فلو قتل الناس جميعا لم يزد على هذا قال : ومن سلم من قتل فلم يقتل أحدا فكأنما أحيا الناس جميعا
وقد أخرج نحو هذا عنه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال في تفسير هذه الآية : أوبق نفسه كما لو قتل الناس جميعا أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وروي عن الحسن أنه قال : فكأنما قتل الناس جميعا في الوزر وكأنما أحيا الناس جميعا في الأجر وقال ابن زيد : المعنى أن من قتل نفسا فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من قتل الناس جميعا { ومن أحياها } أي من عفا عمن وجب قتله حكاه عنه القرطبي وحكي عن الحسن أنه العفو بعد المقدرة : يعني أحياها وروي عن مجاهد أن إحياءها : إنجاؤها من غرق أو حرق أو هدم أو هلكة حكاه عنه ابن جرير وابن المنذر وقيل المعنى : أن من قتل نفسا فالمؤمنون كلهم خصماؤه لأنه قد وتر الجميع { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } أي وجب على الكل شكره وقيل المعنى : أن من استحل واحدا فقد استحل الجميع لأنه أنكر الشرع وعلى كل حال فالإحياء هنا عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة فهو مجاز إذ المعنى الحقيقي مختص بالله عز و جل والمراد بهذا التشبيه في جانب القتل تهويل أمر القتل وتعظيم أمره في النفوس حتى ينزجر عنه أهل الجرأة والجسارة وفي جانب الإحياء الترغيب إلى العفو عن الجناة واستنقاذ المتورطين في الهلكات قوله : { ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات } جملة مستقلة مؤكدة باللام الموطئة للقسم متضمنة للإخبار بأن الرسل عليهم الصلاة والسلام قد جاءوا العباد بما شرعه الله لهم من الأحكام التي من جملتها أمر القتل وثم في قوله : { ثم إن كثيرا منهم } للتراخي الرتبي والاستبعاد العقلي والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما ذكر مما كتبه الله على بني إسرائيل : أي إن كثيرا منهم بعد ذلك الكتب { في الأرض لمسرفون } في القتل (2/49)
قوله : 33 - { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } قد اختلف في الناس في سبب نزول هذه الآية فذهب الجمهور إلى أنها نزلت في العرنيين وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : لأنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع الطريق ويسعى في الأرض بالفساد قال ابن المنذر : قول مالك صحيح (2/51)
قال أبو ثور محتجا لهذا القول : إن قوله في هذه الآية 34 - { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } يدل على أنها نزلت في غير أهل الشرك لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام انتهى وهكذا يدل على هذا قوله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } وقوله صلى الله عليه و سلم : [ الإسلام يهدم ما قبله ] أخرجه مسلم وغيره وحكى ابن جرير الطبري في تفسيره عن بعض أهل العلم أن هذه الآية : أعني آية المحاربة نسخت فعل النبي صلى الله عليه و سلم في العرنيين ووقف الأمر على هذه الحدود وروي عن محمد بن سيرين أنه قال : كان هذا قبل أن تنزل الحدود يعني فعله صلى الله عليه و سلم بالعرنيين وبهذا قال جماعة من أهل العلم وذهب جماعة آخرون إلى أن فعله صلى الله عليه و سلم بالعرنيين منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن المثلة والقائل بهذا مطالب ببيان تأخر الناسخ وسيأتي سياق الروايات الواردة في سبب النزول والحق أن هذه الآية تعم المشرك وغيره لمن ارتكب ما تضمنته ولا اعتبار بخصوص السبب بل الاعتبار بعموم اللفظ قال القرطبي في تفسيره : ولا خلاف بين أهل العلم في أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود انتهى ومعنى قوله مترتب : أي ثابت قيل المراد بمحاربة الله المذكورة في الآية هي محاربة رسول الله صلى الله عليه و سلم ومحاربة المسلمين في عصره ومن بعد عصره بطريق العبارة دون الدلالة ودون القياس لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول فيحتاج في تعميم الخطاب لغيرهم إلى دليل آخر وقيل إنها جعلت محاربة المسلمين محاربة لله ولرسوله إكبارا لحربهم وتعظيما لأذيتهم لأن الله سبحانه لا يحارب ولا يغالب والأولى أن تفسر محاربة الله سبحانه بمعاصيه ومخالفة شرائعه ومحاربة الرسول تحمل على معناها الحقيقي وحكم أمته حكمه وهم أسوته والسعي في الأرض فسادا يطلق على أنواع من الشر كما قدمنا قريبا قال ابن كثير في تفسيره : قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب : إن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض وقد قال تعالى : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } انتهى
إذا تقرر لك ما قررناه من عموم الآية ومن معنى المحاربة والسعي في الأرض فسادا فاعلم أن ذلك يصدق على كل من وقع منه ذلك سواء كان مسلما أو كافرا في مصر وغير مصر في كل قليل وكثير وجليل وحقير وأن حكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية من القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض ولكن لا يكون هذا حكم من فعل أي ذنب من الذنوب بل من كان ذنبه هو التعدي على دماء العباد وأموالهم فيما عدا ما قد ورد له حكم غير هذا الحكم في كتاب الله أو سنة رسوله كالسرقة وما يجب فيه القصاص لأنا نعلم أنه قد كان في زمنه صلى الله عليه و سلم من تقع منه ذنوب ومعاص غير ذلك ولا يجري عليه صلى الله عليه و سلم هذا الحكم المذكور في هذه الآية وبهذا تعرف ضعف ما روي عن مجاهد في تفسير المحاربة المذكورة في هذه الآية أنها الزنا والسرقة ووجه ذلك أن هذين الذنبين قد ورد في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه و سلم لهما حكم غير هذا الحكم
وإذا عرفت ما هو الظاهر من معنى هذه الآية على مقتضى لغة العرب التي أمرنا بأن نفسر كتاب الله وسنة رسوله بها فإياك أن تغتر بشيء من التفاصيل المروية والمذاهب المحكية إلا أن يأتيك الدليل الموجب لتخصيص هذا العموم أو تقييد هذا المعنى المفهوم من لغة العرب فأنت وذاك اعمل به وضعه في موضعه وأما ما عداه :
( فدع عنك نهبا صيح في حجراته ... وهات حديثا ما حديث الرواحل )
على أنا سنذكر من هذه المذاهب ما تسمعه اعلم أنه قد اختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وأبو ثور : إن من شهر السلاح في قبة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله وبهذا قال مالك وصرح بأن المحارب عنده من حمل على الناس في مصر أو في برية أو كابرهم على أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة قال ابن المنذر : اختلف عن مالك في هذه المسألة فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة وروي عن ابن عباس غير ما تقدم فقال في قطاع الطريق : إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض وروي عن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء على اختلاف في الرواية عن بعضهم وحكاه ابن كثير عن الجمهور وقال أيضا : وهكذا عن غير واحد من السلف والأئمة وقال أبو حنيفة : إذا قتل قتل وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه : إن شاء قطع يديه ورجليه وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه وقال أبو يوسف : القتل يأتي على كل شيء ونحوه قول الأوزاعي وقال الشافعي : إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة وإذا قتل قتل وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب وروي عنه أنه قال : يصلب ثلاثة أيام وقال أحمد : إن قتل قتل وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي ولا أعلم لهذه التفاصيل دليلا لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله إلا ما رواه ابن جرير في تفسيره وتفرد بروايته فقال : حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي حبيب : أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية فكتب إليه يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة قال أنس : فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل وأخافوا السبيل وأصابوا الفرج الحرام قال أنس : فسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم جبريل عن القضاء فيمن حارب فقال : من سرق وأخاف الطريق فاقطع يده لسرقته ورجله بإضافته ومن قتل فاقتله ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه وهذا مع ما فيه من النكارة الشديدة لا يدرى كيف صحته ؟ قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره لشيء من التفاصيل التي ذكرناها ما لفظه : ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره إن صح سنده ثم ذكره قوله : { ويسعون في الأرض فسادا } هو إما منتصب على المصدرية أو على أنه مفعول له أو على الحال بالتأويل : أي مفسدين قوله : { أو يصلبوا } ظاهره أنهم يصلبون أحياء حتى يموتوا لأنه أحد الأنواع التي خير الله بينها وقال قوم : الصلب إنما يكون بعد القتل ولا يجوز أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب ويجاب بأن هذه عقوبة شرعها الله سبحانه في كتابه لعباده قوله { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } ظاهره قطع إحدى اليدين وإحدى الرجلين من خلاف سواء كانت المقطوعة من اليدين هي اليمنى أو اليسرى وكذلك الرجلان ولا يعتبر إلا أن يكون القطع من خلال إما يمنى اليدين مع يسرى الرجلين أو يسرى اليدين مع يمنى الرجلين وقيل المراد بهذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى فقط قوله : { أو ينفوا من الأرض } اختلف المفسرون في معناه فقال السدي : هو أن يطلب بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه الحد أو يخرج من دار الإسلام هربا وهو محكي عن ابن عباس وأنس ومالك والحسن البصري والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري حكاه الرماني في كتابه عنهم وحكى عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ويطلبون لتقام عليهم الحدود وبه قال الليث بن سعد وروي عن مالك أنه ينفى من البلد الذي أحدث فيه إلى غيره ويحبس فيه كالزاني ورجحه ابن جرير والقرطبي وقال الكوفيون : نفيهم سجنهم فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها والظاهر من الآية أنه يطرد من الأرض التي وقع منه فيها ما وقع من غير سجن ولا غيره والنفي قد يقع بمعنى الإهلاك وليس هو مرادا هنا قوله : { ذلك لهم خزي في الدنيا } الإشارة إلى ما سبق ذكره من الأحكام والخزي : الذل والفضيحة قوله : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } استثنى الله سبحانه التائبين قبل القدرة عليهم من عموم المعاقبين بالعقوبات السابقة والظاهر عدم الفرق بين الدماء والأموال وبين غيرها من الذنوب الموجبة للعقوبات المعينة المحدودة فلا يطالب التائب قبل القدرة بشيء من ذلك وعليه عمل الصحابة وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يسقط القصاص وسائر حقوق الآدميين بالتوبة قبل القدرة والحق الأول وأما التوبة بعد القدرة فلا تسقط بها العقوبة المذكورة في الآية كما يدل عليه ذكر قيد { قبل أن تقدروا عليهم } قال القرطبي : وأجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب فإن قتل محارب أخا امرئ وأتاه في حال المحاربة فليس إلى طالب الدم من أمر المحاربة شيء ولا يجوز عفو ولي الدم
وقد أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل } يقول : من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلما وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قيل له في هذه الآية يعني قوله : { فكأنما قتل الناس جميعا } أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل ؟ فقال : أي والذي لا إله غيره وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس في قوله : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } قال : نزلت في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله وأخرج ابن جرير والطبراني في الكبير عنه في هذه الآية قال : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله نبيه فيهم : إن شاء قتل وإن شاء صلب وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأما النفي فهو الضرب في الأرض فإن جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤخذ بما سلف وأخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أن هذه الآية نزلت في الحرورية وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن نفرا من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلموا واجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلى الله عليه و سلم في طلبهم قافة فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا فأنزل الله : { إنما جزاء الذين يحاربون } الآية وفي مسلم عن أنس أنه قال : إنما سمل النبي صلى الله عليه و سلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة وأخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال : إذا خرج المحارب فأخذ المال ولم يقتل قطع من خلاف وإذا خرج فقتل ولم يأخذ المال قتل وإذا خرج وأخذ المال وقتل قتل وصلب وإذا خرج فأخاف السبيل ولم يأخذ المال ولم يقتل نفي وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : من شهر السلاح في قبة الإسلام وأفسد السبيل فظهر عليه وقدر فإمام المسلمين مخير فيه : إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله قال : { أو ينفوا من الأرض } يهربوا ويخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب وأخرج ابن جرير عنه قال : نفيه أن يطلب وأخرج أيضا عن أنس نحوه وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي قال : كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب فكلم رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى عليا فقال : يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ؟ قال : { أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } ثم قال : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } فقال سعيد : وإن كان حارثة بن بدر قال : وإن كان حارثة بن بدر قال : هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا فهو آمن قال : نعم فجاء به إليه فبايعه وقبل ذلك منه وكتب له أمانا (2/51)
35 - { ابتغوا } اطلبوا { إليه } لا إلى غيره و { الوسيلة } فعيلة من توسلت إليه : إذا تقربت إليه قال عنترة :
( إن الرجال لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحلي وتخضبي )
وقال آخر :
( إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا ... وعاد التصابي بيننا والوسائل )
فالوسيلة : القربة التي ينبغي أن تطلب وبه قال أبو وائل والحسن ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد وروي عن ابن عباس وعطاء وعبد الله بن كثير قال ابن كثير في تفسيره : وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه والوسيلة أيضا درجة في الجنة مختصة برسول الله صلى الله عليه و سلم وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة ] وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة ] وفي الباب أحاديث وعطف { وابتغوا إليه الوسيلة } على { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } يفيد أن الوسيلة غير التقوى وقيل هي التقوى لأنها ملاك الأمر وكل الخير فتكون الجملة الثانية على هذا مفسرة للجملة الأولى والظاهر أن الوسيلة التي هي القربة تصدق على التقوى وعلى غيرها من خصال الخير التي يتقرب العباد بها إلى ربهم { وجاهدوا في سبيله } من لم يقبل دينه { لعلكم تفلحون } (2/35)
قوله : { إن الذين كفروا } كلام مبتدأ مسوق لزجر الكفار وترغيب المسلمين في امتثال أوامر الله سبحانه { لو أن لهم ما في الأرض } من أموالها ومنافعها وقيل المراد لكل واحد منهم ليكون أشد تهويلا وإن كان الظاهر من ضمير الجمع خلاف ذلك و { جميعا } تأكيد وقوله : { ومثله } عطف على ما في الأرض و { معه } في محل نصب على الحال { ليفتدوا به } ليجعلوه فدية لأنفسهم وأفرد الضمير إما لكونه راجعا إلى المذكور أو لكونه بمنزلة اسم الإشارة : أي ليفتدوا بذلك و { من عذاب يوم القيامة } متعلق بالفعل المذكور { ما تقبل منهم } ذلك وهذا هو جواب لو (2/57)
قوله : 37 - { يريدون أن يخرجوا من النار } هذا استئناف بياني كأنه قيل : كيف حالهم فيما هم فيه من هذا العذاب الأليم ؟ فقيل يريدون أن يخرجوا من النار وقرئ { أن يخرجوا } من أخرج ويضعف هذه القراءة { وما هم بخارجين منها } ومحل هذه الجملة أعني قوله : { وما هم بخارجين منها } النصب على الحال وقيل إنها جملة اعتراضية
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وابتغوا إليه الوسيلة } قال : الوسيلة القربة وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة مثله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : { وابتغوا إليه الوسيلة } قال : تقربوا إلى الله بطاعته والعمل بما يرضيه وأخرج مسلم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة ] قال : يريد الفقير فقلت لجابر يقول الله : { يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها } قال : اتل أول الآية { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به } ألا إنهم الذين كفروا وأخرج ابن جرير عن عكرمة : أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس : تزعم أن قوما يخرجون من النار وقد قال الله تعالى : { وما هم بخارجين منها } فقال ابن عباس : ويحك اقرأ ما فوقها هذه للكفار قال الزمخشري في الكشاف بعد ذكره لهذا : إنه مما لفقته المجبرة ويا لله العجب من رجل لا يفرق بين أصح الصحيح وبين أكذب الكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم يتعرض للكلام على ما لا يعرفه ولا يدري ما هو ؟ وقد تواترت الأحاديث تواترا لا يخفى على من له أدنى إلمام بعلم الرواية بأن عصاة الموحدين يخرجون من النار فمن أنكر هذا فليس بأهل للمناظرة لأنه أنكر ما هو من ضروريات الشريعة اللهم غفرا (2/57)
لما ذكر سبحانه حكم من يأخذ المال جهارا وهو المحارب عقبه بذكر من يأخذ المال خفية وهو السارق وذكر السارقة مع السارق لزيادة البيان لأن غالب القرآن الاقتصار على الرجال في تشريع الأحكام وقد اختلف أئمة النحو في خبر السارق والسارقة هل هو مقدر أم هو فاقطعوا ؟ فذهب إلى الأول سيبويه وقال تقديره : فيما فرض عليكم أو فيما يتلى عليكم السارق والسارقة : أي حكمهما وذهب المبرد والزجاج إلى الثاني ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط إذ المعنى : الذي سرق والتي سرقت وقرئ 38 - { والسارق والسارقة } بالنصب على تقدير اقطعوا ورجح هذه القراءة سيبويه قال : الوجه في كلام العرب النصب كما تقول زيدا اضربه ولكن العامة أبت إلا الرفع يعني عامة القراء والسرقة بكسر الراء اسم الشيء المسروق والمصدر من سرق يسرق سرقا قاله الجوهري : وهو أخذ الشيء في خفية من الأعين ومنه استرق السمع وسارقه النظر قوله : { فاقطعوا } القطع معناه الإبانة والإزالة وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين تثنيتين وقد بينت السنة المطهرة أن موضع القطع الرسغ وقال قوم : يقطع من المرفق وقال الخوارج : من المنكب والسرقة لا بد أن تكون ربع دينار فصاعدا ولا بد أن تكون من حرز كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة وقد ذهب إلى اعتبار الربع الدينار الجمهور وذهب قوم إلى التقدير بعشرة دراهم وذهب الجمهور إلى اعتبار الحرز وقال الحسن البصري إذا جمع الثياب في البيت قطع وقد أطال الكلام في بحث السرقة أئمة الفقه وشراح الحديث بما لا يأتي التطويل به هاهنا بكثير فائدة قوله : { جزاء بما كسبا } مفعول له : أي فاقطعوا للجزاء أو مصدر مؤكد لفعل محذوف : أي فجاوزهما جزاء والباء سببية وما مصدرية : أي بسبب كسبهما أو موصولة : أي جزاء بالذي كسباه من السرقة وقوله : { نكالا } بدل من جزاء وقيل هو علة للجزاء : والجزاء علة للقطع يقال نكلت به : إذا فعلت به ما يجب أن ينكل به عن ذلك الفعل (2/58)
قوله : 39 - { فإن الله يتوب عليه } ولكن اللفظ عام فيشمل السارق وغيره من المذنبين والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقد استدل بهذا عطاء وجماعة على أن القطع يسقط بالتوبة وليس هذا الاستدلال بصحيح لأن هذه الجملة الشرطية لا تفيد إلا مجرد قبول التوبة وإن الله يتوب على من تاب وليس فيها ما يفيد أنه لا قطع على التائب وقد كان في زمن النبوة يأتي إلى النبي صلى الله عليه و سلم من وجب عليه حد تائبا عن الذنب الذي ارتكبه طالبا لتطهيره بالحد فيحده النبي صلى الله عليه و سلم وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أنه قال للسارق بعد قطعه : تب إلى الله ثم قال : تاب الله عليك ] أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة وأخرج أحمد وغيره أن هذه الآية نزلت في المرأة التي كانت تسرق المتاع لما قالت للنبي صلى الله عليه و سلم بعد قطعها : هل لي من توبة وقد ورد في السنة ما يدل على أن الحدود إذا رفعت إلى الأئمة وجبت وامتنع إسقاطها (2/59)
قوله : 40 - { ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض } هذا الاستفهام للإنكار مع تقرير العلم وهو كالعنوان لقوله : { يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء } أي من كان له ملك السموات والأرض فهو قادر على هذا التعذيب الموكول إلى المشيئة والمغفرة الموكولة إليها
وقد أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { جزاء بما كسبا نكالا من الله } قال : لا ترثوا لهم فيه فإنه أمر الله الذي أمر به قال : وذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول : اشتدوا على الفساق واجعلوهم يدا يدا ورجلا رجلا وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه } يقول : الحد كفارته والأحاديث في قدر نصاب السرقة وفي سائر ما يتعلق بتفاصيل هذا الحد مذكورة في كتب الحديث فلا نطيل بذلك (2/59)
قوله : 41 - { لا يحزنك } قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي والحزن والحزن خلاف السرور وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين : وأحزنه غيره وحزنه قال اليزيدي : حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما وفي الآية النهي له صلى الله عليه و سلم عن التأثر لمسارعة الكفرة في كفرهم تأثرا بليغا لأن الله سبحانه قد وعده في غير موطن بالنصر عليهم والمسارعة إلى الشيء : الوقوع فيه بسرعة والمراد هنا وقوعهم في الكفر بسرعة عند وجود فرصة وآثر لفظ في على لفظ إلى للدلالة على استقرارهم فيه ومن في قوله : { من الذين قالوا } بيانية والجملة مبينة للمسارعين في الكفر والباء في { بأفواههم } متعلقة بقالوا لا بآمنا وهؤلاء الذين قالوا آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون { ومن الذين هادوا } يعني اليهود وهو معطوف على { من الذين قالوا آمنا } وهو تمام الكلام والمعنى : أن المسارعين في الكفر طائفة المنافقين وطائفة اليهود (2/61)
وقوله : 42 - { سماعون للكذب } خبر مبتدأ محذوف : أي هم سماعون للكذب فهو راجع إلى الفريقين أو إلى المسارعين واللام في قوله : { للكذب } للتقوية أو لتضمين السماع معنى القبول وقيل إن قوله : { سماعون } مبتدأ خبره { من الذين هادوا } أي ومن الذين هادوا قوم { سماعون للكذب } أي قابلون لكذب رؤسائهم المحرفين للتوراة قوله : { سماعون لقوم آخرين } خبر ثان واللام فيه كاللام في للكذب وقيل اللام للتعليل في الموضعين أي سماعون لكلام رسول الله لأجل الكذب عليه وسماعون لأجل قوم آخرين وجهوهم عيونا لهم لأجل أن يبلغوهم ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم قوله : { لم يأتوك } صفة لقوم : أي لم يحضروا مجلسك وهم طائفة من اليهود كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم تكبرا وتمردا وقيل هم جماعة من المنافقين كانوا يتجنبون مجالس رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الفراء : ويجوز سماعين كما قال : { ملعونين أينما ثقفوا } قوله : { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } من جملة صفات القوم المذكورين : أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها ويتأولونه على غير تأويله والمحرفون هم اليهود وقيل إن هذه الجملة خبر مبتدأ محذوف وقيل في محل نصب على الحال من { لم يأتوك } وقيل مستأنفة لا محل لها من الإعراب لقصد تعداد معايبهم ومثالبهم ومعنى { من بعد مواضعه } من بعد كونه موضوعا في مواضعه أو من بعد وضعه في مواضعه التي وضعه الله فيها من حيث لفظه أو من حيث معناه قوله : { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } جملة حالية من ضمير يحرفون أو مستأنفة أو صفة لقوم أو خبر مبتدأ محذوف والإشارة بقولهم : { هذا } إلى الكلام المحرف : أي إن أوتيتم من جهة محمد هذا الكلام الذي حرفناه فخذوه واعملوا به وإن لم تؤتوه بل جاءكم بغيره فاحذروا من قبوله والعمل به قوله : { ومن يرد الله فتنته } أي ضلالته { فلن تملك له من الله شيئا } أي فلا تستطيع دفع ذلك عنه ولا تقدر على نفعه وهدايته وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها وظاهرها العموم ويدخل فيها هؤلاء الذين سياق الكلام معهم دخولا أوليا والإشارة بقوله : { أولئك } إلى من تقدم ذكرهم من الذين قالوا آمنا بأفواههم ومن الذين هادوا وهو مبتدأ وخبره الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم : أي لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق كما طهر قلوب المؤمنين { لهم في الدنيا خزي } بظهور نفاق المنافقين وبضرب الجزية على الكافرين وظهور تحريفهم وكتمهم لما أنزل الله في التوراة قوله : { سماعون للكذب } كرره تأكيدا لقبحه وليكون كالمقدمة لما بعده وهو { أكالون للسحت } وهما من جملة أخبار ذلك المبتدأ المقدر سابقا والسحت بضم السين وسكون الحاء : المال الحرام وأصله الهلاك والشدة من سحته : إذا هلكه ومنه { فيسحتكم بعذاب } ومنه قول الفرزدق :
( وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحت أو محلق )
ويقال للحالق اسحت : أي استأصل وسمي الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات : أي يذهبها ويستأصلها وقال الفراء : أصله كلب الجوع وقيل هو الرشوة والأول أولى والرشوة تدخل في الحرام دخولا أوليا وقد فسره جماعة بنوع من أنواع الحرام خاص كالهدية لمن يقضي له حاجة وحلوان الكاهن والتعميم أولى بالصواب قوله : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } فيه تخيير لرسول الله صلى الله عليه و سلم وبين الحكم بينهم والإعراض عنهم
وقد استدل به على أن حكام المسلمين مخيرون بين الأمرين وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم فذهب قوم إلى التخيير وذهب آخرون إلى الوجوب وقالوا : إن هذه الآية منسوخة بقوله : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } وبه قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي : وهو الصحيح من قول الشافعي وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء قوله : { وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا } أي إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم فلا سبيل لهم عليك لأن الله حافظك وناصرك عليهم وإن اخترت الحكم بينهم { فاحكم بينهم بالقسط } أي بالعدل الذي أمرك الله به وأنزله عليك (2/61)
قوله : 43 - { وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله } فيه تعجيب له صلى الله عليه و سلم من تحكيمهم إياه مع كونهم لا يؤمنون به ولا بما جاء به مع أن ما يحكمونه فيه هو موجود عندهم في التوراة كالرجم ونحوه وإنما يأتون إليه صلى الله عليه و سلم ويحكمونه طمعا منهم في أن يوافق تحريفهم وما صنعوه بالتوراة من التغيير قوله : { ثم يتولون } عطف على يحكمونك { من بعد ذلك } أي من بعد تحكيمهم لك وجملة قوله : { وما أولئك بالمؤمنين } لتقرير مضمون ما قبلها (2/63)
وقوله : 44 - { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } استئناف يتضمن تعظيم التوراة وتفخيم شأنها وأن فيها الهدى والنور وهو بيان الشرائع والتبشير بمحمد صلى الله عليه و سلم وإيجاب اتباعه قوله : { يحكم بها النبيون } هم أنبياء بني إسرائيل والجملة إما مستأنفة أو حالية و { الذين أسلموا } صفة مادحة للنبيين وفيه إرغام لليهود المعاصرين له صلى الله عليه و سلم بأن أنبياءهم كانوا يدينون بدين الإسلام الذي دان به محمد صلى الله عليه و سلم وقيل المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه و سلم وعبر عنه بلفظ الجمع تعظيما قوله : { للذين هادوا } متعلق بيحكم والمعنى : أنه يحكم بها النبيون للذين هادوا عليهم والربانيون العلماء الحكماء وقد سبق تفسيره والأحبار العلماء مأخوذ من التحبير وهو التحسين فهم يحبرون العلم : أي يحسنونه قال الجوهري : الحبر واحد أحبار اليهود بالفتح وبالكسر والكسر أفصح وقال الفراء : هو بالكسر وقال أبو عبيدة : هو بالفتح قوله : { بما استحفظوا من كتاب الله } الباء للسببية واستحفظوا أمروا بالحفظ : أي أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبديل والجار والمجرور متعلق بيحكم : أي يحكمون بها بسبب هذا الاستحفاظ قوله :
{ وكانوا عليه شهداء } أي على كتاب الله والشهداء الرقباء فهم يحمون عن التغيير والتبديل بهذه المراقبة والخطاب بقوله : { فلا تخشوا الناس } لرؤساء اليهود وكذا في قوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } والاشتراء الاستبدال وقد تقدم تحقيقه قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } لفظ من من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة بل بكل من ولي الحكم وقيل إنها مختصة بأهل الكتاب وقيل بالكفار مطلقا لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبيرة وقيل هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله وقع استخفافا أو استحلالا أو جحدا والإشارة بقوله : { أولئك } إلى من والجمع باعتبار معناها وكذلك ضمير الجماعة في قوله : { هم الكافرون }
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } قال : هم اليهود { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } قال : هم المنافقون وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال : إن الله أنزل { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } { الظالمون } { الفاسقون } أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله ورسول الله يومئذ لم يظهر عليهم فقتلت الذليلة من العزيزة فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق فقالت الذليلة : وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد ودية بعضهم نصف دية بعض ؟ إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وفرقا منكم فأما إذا قدم محمد صلى الله عليه و سلم فلا نعطيكم ذلك فكانت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما ففكرت العزيزة فقالت : والله ما محمد يعطيكم منهم ضعف ما نعطيهم منكم ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما وقهرا لهم فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من يخبر لكم رأيه فإن أعطاكم ما تريدون حكمتوه وإن لم يعطكم حذرتموه ولم تحكموه فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ناسا من المنافقين يختبرون لهم رأيه فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا فأنزل الله { يا أيها الرسول لا يحزنك } إلى قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ثم قال فيهم : والله أنزلت وإياهم عنى وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : [ أول مرجوم رجمه رسول الله صلى الله عليه و سلم من اليهود زنى رجل منهم وامرأة فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا : فتيا نبي من أنبيائك قال : فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم وهو جالس في المسجد وأصحابه فقالوا : يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا فلم يكلمهم حتى أتى
بيت مدراسهم فقام على الباب : فقال : أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟ قالوا : يحمم ونجبه ويجلد والتجبية : أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه و سلم سكت ألظ به النشدة فقال : اللهم إذ نشدتنا نجب فإنا نجد في التوراة الرجم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : فما أول ما ارتخصتم أمر الله ؟ قال : زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا : والله لا ترجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم قال النبي صلى الله عليه و سلم : فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما ] قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا } فكان النبي صلى الله عليه و سلم منهم وأخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق أخرى عن أبي هريرة وذكر فيه أن الشاب المذكور هو عبد الله بن صوريا وأخرج نحو حديث أبي هريرة أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث البراء بن عازب
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر : [ أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما تجدون في التوراة ؟ قالوا : نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم قالوا صدق فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فرجما ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله في قوله : { ومن الذين هادوا سماعون للكذب } قال : يهود المدينة { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } قال : يهود فدك { يحرفون الكلم } قال : يهود فدك يقولون ليهود المدينة { إن أوتيتم هذا } الجلد { فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } الرجم وأخرج أبو داود وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عنه قال : زنى رجل من أهل فدك فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا وذكر القصة وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { أكالون للسحت } قال : أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب وأخرج
عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال : السحت الرشوة في الدين قال سفيان : يعني في الحكم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود أيضا قال : من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمة أو يرد عليه حقا فأهدى له هدية فقبلها فذلك السحت فقيل له : يا أبا عبد الرحمن إنا كنا نعد السحت الرشوة في الحكم فقال ذلك الكفر : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وقد روي نحو هذا عنه من طرق وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : رشوة الحكام حرام وهي السحت الذي ذكر الله في كتابه وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن ثابت قال : السحت الرشوة وأخرج عبد بن حميد عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن السحت فقال : الرشا فقيل له في الحكم قال : ذاك الكفر وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عمر قال : بابان من السحت يأكلهما الناس : الرشاء في الحكم ومهر الزانية وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في تحريم الرشوة ما هو معروف وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : آيتان نسختا من سورة المائدة : آية القلائد وقوله : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم مخيرا : إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم فنزلت { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } قال : فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا وأخرج نحوه في الآية الآخرة عنه أبو عبيدة وابن المنذر وابن مردويه وأخرج عبد الرزاق عن عكرمة نحوه وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس أن الآيات من المائدة التي قال فيها : { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } إلى قوله : { المقسطين } إنما نزلت في الدية من بني النضير وقريظة وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف يودون الدية كاملة وأن بني قريظة كانوا يودون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله ذلك فيهم فحملهم رسول الله صلى الله عليه و سلم على الحق في ذلك فجعل الدية سواء وأخرج نحوه عنه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وعندهم التوراة فيها حكم الله } يعني حدود الله فأخبره الله بحكمه في التوراة قال : { وكتبنا عليهم فيها } إلى قوله : { والجروح قصاص } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : { يحكم بها النبيون الذين أسلموا } يعني النبي صلى الله عليه و سلم { للذين هادوا } يعني اليهود وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال : الذين أسلموا النبي ومن قبله من الأنبياء يحكمون بما فيها من الحق وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : الربانيون والأحبار الفقهاء والعلماء وأخرج عن مجاهد قال : الربانيون العلماء الفقهاء وهم فوق الأحبار وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : الربانيون العباد والأحبار العلماء وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الربانيون الفقهاء العلماء وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : الربانيون هم المؤمنون والأحبار هم القراء وأخرج ابن جرير عن السدي { فلا تخشوا الناس } فتكتموا ما أنزلت { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } على أن تكتموا ما أنزلت وأخرج ابن جرير عن ابن زيد { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } قال : لا تأكلوا السحت على كتابي وأخرج ابن جرير وابن المذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ومن لم يحكم } يقول : من جحد الحكم بما أنزل الله فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال : إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه وإنه ليس كفر ينقل من الملة بل دون كفره وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح في قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } { هم الظالمون } { هم الفاسقون } قال : كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وأخرج سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما أنزل الله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } و { الظالمون } و { الفاسقون } في اليهود خاصة وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن حذيفة أن هذه الآيات ذكرت عنده { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } و { الظالمون } و { الفاسقون } فقال رجل : إن هذا في بني إسرائيل فقال حذيفة : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة
ولهم كل مرة كلا والله لتسلكن طريقهم قد الشراك وأخرج ابن المنذر نحوه عن ابن عباس (2/63)
قوله : 45 - { وكتبنا } معطوف على أنزلنا التوراة ومعناها فرضنا بين الله سبحانه في هذه الآية ما فرضه على بني إسرائيل : من القصاص في النفس والعين والأنف والأذن والسن والجروح وقد استدل أبو حنيفة وجماعة من أهل العلم بهذه الآية فقالوا : إنه يقتل المسلم بالذمي لأنه نفس وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم : إن هذه الآية خبر عن شرع من قبلنا وليس بشرع لنا وقد قدمنا في البقرة في شرح قوله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى } ما فيه كفاية
وقد اختلف أهل العلم في شرع من قبلنا هل يلزمنا أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أنه يلزمنا إذا لم ينسخ وهو الحق وقد ذكر ابن الصباغ في الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه قال ابن كثير في تفسيره : وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة لعموم هذه الآية الكريمة انتهى
وقد أوضحنا ما هو الحق في هذا في شرحنا على المنتقى وفي هذه الآية لليهود وتقريع لكونهم يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة كما حكاه هنا ويفاضلون بين الأنفس كما سبق بيانه وقد كانوا يقيدون بني النضير من بني قريظة ولا يقيدون بني قريظة من بني النضير قوله : { والعين بالعين } قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بالنصب أيضا في الكل إلا في الجروح فبالرفع وقرأ الكسائي وأبو عبيد بالرفع في الجميع عطفا على المحل لأن النفس قبل دخول الحرف الناصب عليها كانت مرفوعة على الابتداء وقال الزجاج : يكون عطفا على المضمر في النفس لأن التقدير : إن النفس هي مأخوذة بالنفس فالأسماء معطوفة على هي قال ابن المنذر : ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام يتضمن بيان الحكم للمسلمين والظاهر من النظم القرآن أن العين إذا فقئت حتى لم يبق فيا مجال للإدراك أنها تفقأ عين الجاني بها والأنف إذا جدعت جميعها فإنها تجدع أنف الجاني بها والأذن إذا قطعت جميعها فإنها تقطع أذن الجاني بها وكذلك السن فأما لو كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين أو ببعض الأنف أو ببعض الأذن أو ببعض السن فليس في هذه الآية ما يدل على ثبوت القصاص
وقد اختلف أهل العلم في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته وكلامهم مدون في كتب الفروع والظاهر من قوله : { والسن بالسن } أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب والأضراس والرباعيات وأنه يؤخذ بعضها ببعض ولا فضل لبعض على بعض وإليه ذهب أكثر أهل العلم كما قال ابن المنذر وخالف في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن تبعه وكلامهم مدون في مواطنه ولكنه ينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للسن المأخوذة من المجني عليه فإن كانت ذاهبة فما يليها قوله : { والجروح قصاص } أي ذوات قصاص وقد ذكر أهل العلم أنه لا قصاص في الجروح التي يخاف منها التلف ولا فيما كان لا يعرف مقداره عمقا أو طولا أو عرضا وقد قدر أئمة الفقه أرش كل جراحة بمقادير معلومة وليس هذا موضع بيان كلامهم ولا موضع استيفاء بيان ما ورد له أرش مقدر قوله : { فمن تصدق به فهو كفارة له } أي من تصدق من المستحقين للقصاص بالقصاص بأن عفا عن الجاني فهو كفارة للمتصدق يكفر الله عنه بها ذنوبه وقيل إن المعنى : فهو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة لأن العفو يقوم مقام أخذ الحق منه والأول أرجح لأن الضمير يعود على هذا التفسير الآخر إلى غير مذكور قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } ضمير الفصل مع اسم الإشارة وتعريف الخبر يستفاد منها أن هذا الظلم الصادر منهم ظلم عظيم بالغ إلى الغاية (2/68)
قوله : 46 - { وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم } هذا شروع في بيان حكم الإنجيل بعد بيان حكم التوراة : أي جعلنا عيسى ابن مريم يقفو آثارهم : أي آثار النبيين الذين أسلموا من بني إسرائيل يقال قفيته مثل عقبته : إذا أتبعته ثم يقال قفيته بفلان وعقبته به فيتعدى إلى الثاني بالباء والمفعول الأول محذوف استغناء عنه بالظرف وهو على آثارهم لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه وانتصاب { مصدقا } على الحال من عيسى { وآتيناه الإنجيل } عطف على قفنا ومحل الجملة أعني { فيه هدى } النصب على الحال من الإنجيل { ونور } عطف على هدى وقوله : { ومصدقا } معطوف على محل { فيه هدى } أي أن الإنجيل أوتيه عيسى حال كونه مشتملا على الهدى والنور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وقيل إن مصدقا معطوف على مصدقا الأول فيكون حالا من عيسى مؤكدا للحال الأول ومقررا له والأول أولى لأن التأسيس خير من التأكيد قوله : { وهدى وموعظة للمتقين } عطف على مصدقا داخل تحت حكمه منضما إليه : أي مصدقا وهاديا وواعظا للمتقين (2/69)
قوله : 47 - { وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه } هذا أمر لأهل الإنجيل بأن يحكموا بما أنزل الله فيه فإنه قبل البعثة المحمدية حق وأما بعدها فقد أمروا في غير موضع بأن يعملوا بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه و سلم في القرآن الناسخ لكل الكتب المنزلة وقرأ الأعمش وحمزة بنصب الفعل من يحكم على أن اللام لام كي وقرأ الباقون بالجزم على أن اللام للأمر فعلى القراءة الأولى تكون اللام متعلقة بقوله : وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه وعلى القراءة الثانية هو كلام مستأنف قال مكي : والاختيار الجزم لأن الجماعة عليه ولأن ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله لأهل الإنجيل وقال النحاس : والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان لأن الله سبحانه لم ينزل كتابا إلا ليعمل بما فيه (2/70)
قوله : 48 - { وأنزلنا إليك الكتاب } خطاب لمحمد صلى الله عليه و سلم والكتاب القرآن والتعريف للعهد و { بالحق } متعلق بمحذوف وقع حالا : أي متلبسا بالحق وقيل هو حال من فاعل أنزلنا وقيل من ضمير النبي صلى الله عليه و سلم و { مصدقا لما بين يديه } حال من الكتاب والتعريف في الكتاب أعني قوله : { مصدقا لما بين يديه من الكتاب } للجنس : أي أنزلنا إليك يا محمد القرآن حال كونه متلبسا بالحق وحال كونه مصدقا لما بين يديه من كتب الله المنزلة لكونه مشتملا على الدعوة إلى الله والأمر بالخير والنهي عن الشر كما اشتمل عليه قوله : { ومهيمنا عليه } عطف على مصدقا والضمير في عليه عائد إلى الكتاب الذي صدقه القرآن وهيمن عليه والمهيمن الرقيب وقيل الغالب المرتفع وقيل الشاهد : وقيل الحافظ وقيل المؤتمن قال المبرد : أصله مؤيمن أبدل من الهمزة هاء كما قيل في أرقت الماء هرقت وبه قال الزجاج وأبو علي الفارسي وقال الجوهري : هو من أمن غيره من الخوف وأصله أأمن فهو مؤأمن بهمزتين قلبت الثانية ياء كراهة لاجتماعهما فصار مؤيمن ثم صيرت الأولى هاء كما قالوا هراق الماء وأراقه يقال هيمن على الشيء يهيمن : إذا كان له حافظا فهو له مهيمن كذا عن
أبي عبيد وقرأ مجاهد وابن محيصن مهيمنا عليه بفتح الميم أي هيمن عليه الله سبحانه والمعنى على قراءة الجمهور : أن القرآن صار شاهدا بصحة الكتب المنزلة ومقررا لما فيها مما لم ينسخ وناسخا لما خالفه منها ورقيبا عليها وحافظا لما فيها من أصول الشرائع وغالبا لها لكونه المرجع في المحكم منها والمنسوخ ومؤتمنا عليها لكونه مشتملا على ما هو معمول به منها وما هو متروك قوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } أي بما أنزله إليك في القرآن لاشتماله على جميع ما شرعه الله لعباده في جميع الكتب السابقة عليه { ولا تتبع أهواءهم } أي أهواء أهل الملل السابقة وقوله : { عما جاءك من الحق } متعلق بلا تتبع على تضمينه معنى لا تعدل أو لا تنحرف { عما جاءك من الحق } متبعا لأهوائهم وقيل متعلق بمحذوف : أي لا تتبع أهواءهم عادلا أو منحرفا عن الحق وفيه النهي له صلى الله عليه و سلم عن أن يتبع أهوية أهل الكتاب ويعدل عن الحق الذي أنزله الله عليه فإن كل ملة من الملل تهوى أن يكون الأمر على ما هم عليه وما أدركوا عليه سلفهم وإن كان باطلا منسوخا أو محرفا عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء كما وقع في الرجم ونحوه مما حرفوه من كتب الله قوله : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } الشرعة والشريعة في الأصل : الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين والمنهاج : الطريقة الواضحة البينة وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد الشريعة : ابتداء الطريق والمنهاج الطريق المستمر ومعنى الآية : أنه جعل التوراة لأهلها والإنجيل لأهله والقرآن لأهله وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم قوله : { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } بشريعة واحدة وكتاب واحد ورسول واحد { ولكن ليبلوكم } أي ولكن لم يشأ ذلك الاتحاد بل شاء الإبتلاء لكم باختلاف الشرائع فيكون { ليبلوكم } متعلقا بمحفوظ دل عليه سياق الكلام وهو ما ذكرنا ومعنى { في ما آتاكم } فيما أنزله عليكم من الشرائع المختلفة باختلاف الأوقات والأشخاص قوله : { فاستبقوا الخيرات } أي إذا كان المشيئة قد قضت باختلاف الشرائع فاستبقوا إلى فعل ما أمرتم بفعله وترك ما أمرتم بتركه والاستباق : المسارعة { إلى الله مرجعكم جميعا } لا إلى غيره وهذه الجملة كالعلة لما قبلها (2/70)
قوله : 49 - { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } عطف على الكتاب : أي أنزلنا عليك الكتاب والحكم بما فيه وقد استدل بهذا على نسخ التخير المتقدم في قوله : { أو أعرض عنهم } وقد تقدم تفسير { ولا تتبع أهواءهم } قوله : { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } أي يضلوك عنه ويصرفوك بسبب أهوائهم التي يريدون منك أن تعمل عليها وتؤثرها { فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } أي إن أعرضوا عن قبول حكمك بما أنزل الله عليك فذلك لما أراده الله من تعذيبهم ببعض ذنوبهم وهو ذنب التولي عنك والإعراض عما جئت به { وإن كثيرا من الناس لفاسقون } متمردون عن قبول الحق خارجون عن الإنصاف (2/71)
قوله : 50 - { أفحكم الجاهلية يبغون } الاستفهام للإنكار والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر كما في نظائره والمعنى : أيعرضون عن حكمك بما أنزل الله عليك ويتولون عنه ويبتغون حكم الجاهلية والاستفهام في { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } للإنكار أيضا : أي لا أحسن من حكم الله عند أهل اليقين لا عند أهل الجهل والأهواء
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس { كتبنا عليهم فيها } في التوراة وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عنه قال : كتب عليهم هذا في التوراة وكانوا يقتلون الحر بالعبد فيقولون كتب علينا أن النفس بالنفس وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر في قوله : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله { فهو كفارة له } قال : للمجروح وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما من مسلم يصاب بشيء في جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة ] وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس { ومهيمنا عليه } قال : مؤتمنا عليه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عنه قال : المهيمن الأمين والقرآن أمين على كل كتاب قبله وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه في قوله : { شرعة ومنهاجا } قال : سبيلا وسنة وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا أن نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا : يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود وإن بينا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك فأبى ذلك وأنزل الله فيهم : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } إلى قوله : { لقوم يوقنون } وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { أفحكم الجاهلية يبغون } قال : يهود وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : هذا في قتيل اليهود (2/71)
قوله : 51 - { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا } الظاهر أنه خطاب للمؤمنين حقيقة وقيل المراد بهم المنافقون ووصفهم بالإيمان باعتبار ما كانوا يظهرونه وقد كان يوالون اليهود والنصارى فنهوا عن ذلك والأولى أن يكون خطابا لكل من يتصف بالإيمان أعم من أن يكون ظاهرا وباطنا أو ظاهرا فقط فيدخل المسلم والمنافق ويؤيد هذا قوله : { فترى الذين في قلوبهم مرض } والاعتبار بعموم اللفظ وسيأتي في بيان سبب نزول الآية ما يتضح به المراد والمراد من النهي عن اتخاذهم أولياء أن يعاملوا معاملة الأولياء في المصادفة والمعاشرة والمناصرة وقوله : { بعضهم أولياء بعض } تعليل للنهي والمعنى : أن بعض اليهود أولياء البعض الآخر منهم وبعض النصارى أولياء البعض الآخر منهم وليس المراد بالبعض إحدى طائفتي اليهود والنصارى وبالبعض الآخر الطائفة الأخرى للقطع بأنهم في غاية من العداوة والشقاق { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } وقيل المراد أن كل واحدة من الطائفتين توالي الأخرى وتعاضدها وتناصرها على عداوة النبي صلى الله عليه و سلم وعداوة ما جاء به وإن كانوا في ذات بينهم متعادين متضادين ووجه تعليل النهي بهذه الجملة أنها تقتضي أن هذه الموالاة هي شأن هؤلاء الكفار لا شأنكم فلا تفعلوا ما هو من فعلهم فتكونوا مثلهم ولهذا عقب هذه الجملة التعليلية بما هو كالنتيجة لها فقال : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } أي فإنه من جملتهم وفي عدادهم وهو وعيد شديد فإن المعصية الموجبة للكفر هي التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية وقوله : { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } تعليل للجملة التي قبلها : أي أن وقوعهم في الكفر هو بسبب عدم هدايته سبحانه لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر كمن يوالي الكافرين (2/73)
قوله : 52 - { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم } الفاء للسببية والخطاب إما للرسول صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح له : أي ما ارتكبوه من الموالاة ووقعوا فيه من الكفر هو بسبب ما في قلوبهم من مرض النفاق وقوله : { يسارعون } في محل نصب إما على أنه المفعول الثاني إذا كانت الرؤية قلبية أو على أنه حال إذا كانت بصرية وجعل المسارعة في موالاتهم مسارعة فيهم للمبالغة في بيان رغوبهم في ذلك حتى كأنهم مستقرون فيهم داخلون في عدادهم وقد قرئ { فسيرى } بالتحتية واختلف في فاعله ما هو ؟ فقيل هو الله عز و جل وقيل هو كل من تصح منه الرؤيا وقيل هو الموصول ومفعوله { يسارعون فيهم } على حذف أن المصدرية : أي فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم فلما حذفت ارتفع الفعل كقوله :
( ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغا )
والمرض في القلوب : هو النفاق والشك في الدين وقوله : { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } جملة مشتملة على تعليل المسارعة في الموالاة : أي أن هذه الخشية هي الحاملة لهم على المسارعة وقيل إن الجملة حال من ضمير يسارعون والدائرة : ما تدور من مكاره الدهر : أي نخشى أن تظفر الكفار بمحمد صلى الله عليه و سلم فتكون الدولة لهم وتبطل دولته فيصيبنا منهم مكروه ومنه قول الشاعر :
( يرد عنك القدر المقدورا ... ودائرات الدهر أن تدورا )
أي دولات الدهر الدائرة من قوم إلى قوم وقوله : { فعسى الله أن يأتي بالفتح } رد عليهم ودفع لما وقع لهم من الخشية وعسى في كلام الله وعد صادق لا يتخلف والفتح : ظهور النبي صلى الله عليه و سلم على الكافرين ومنه ما وقع من قتل مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم وإجلاء بني النضير وقيل هو فتح بلاد المشركين على المسلمين وقيل فتح مكة والمراد بالأمر من عنده سبحانه هو كل ما تندفع به صولة اليهود ومن معهم وتنكسر به شوكتهم وقيل هو إظهار أمر المنافقين وإخبار النبي صلى الله عليه و سلم بما أسروا في أنفسهم وأمره بقتلهم وقيل هو الجزية التي جعلها الله عليهم وقيل الخصب والسعة للمسلمين فيصبح المنافقون { على ما أسروا في أنفسهم } من النفاق الحامل لهم على الموالاة { نادمين } على ذلك لبطلان الأسباب التي تخيلوها وانكشاف خلافها (2/74)
قوله : 53 - { يقول الذين آمنوا } قرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق وأهل الكوفة بإثبات الواو وقرأ الباقون بحذفها فعلى القراءة الأولى مع رفع يقول يكون كلاما مبتدأ مسوقا لبيان ما وقع من هذه الطائفة وعلى قراءة النصب يكون عطفا على { فيصبحوا } وقيل على { يأتي } والأولى أولى لأن هذا القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامة الكافرين لا عند إتيان الفتح وقيل هو معطوف على الفتح كقول الشاعر :
( للبس عباءة وتقر عيني )
وأما على قراءة حذف الواو فالجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر والإشارة بقوله : { أهؤلاء } إلى المنافقين : أي يقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين { أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم } بالمناصرة والمعاضدة في القتال أو يقول بعض المؤمنين لبعض مشيرين إلى المنافقين وهذه الجملة مفسرة للقول وجهد الأيمان : أغلظها وهو منصوب على المصدر أو على الحال : أي أقسموا بالله جاهدين قوله : { حبطت أعمالهم } أي بطلت وهو من تمام قول المؤمنين أو جملة مستأنفة والقائل الله سبحانه والأعمال هي التي عملوها في الموالاة أو كل عمل يعملونه (2/74)
قوله : 54 - { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم } قرأ أهل المدينة والشام { يرتدد } بدالين بفك الإدغام وهي لغة تميم وقرأ غيرهم بالإدغام وهذا شروع في بيان أحكام المرتدين بعد بيان أن موالاة الكافرين من المسلم كفر وذلك نوع من أنواع الردة والمراد بالقوم الذين وعد الله سبحانه بالإتيان بهم هم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجيشه من الصحابة والتابعين الذين قاتل بهم أهل الردة ثم كل من جاء بعدهم من المقاتلين للمرتدين في جميع الزمن ثم وصف سبحانه هؤلاء القوم بهذه الأوصاف العظيمة المشتملة على غاية المدح ونهاية الثناء من كونهم يحبون الله وهو يحبهم ومن كونهم { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } والأذلة : جمع ذليل لا ذلول والأعزة : جمع عزيز : أي يظهرون العطف والحنو والتواضع للمؤمنين ويظهرون الشدة والغلظة والترفع على الكافرين ويجمعون بين المجاهدة في سبيل الله وعدم خوف الملامة في الدين بل هم متصلبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزراء بأهل الدين وقلب محاسنهم مساوئ ومناقبهم مثالب حسدا وبغضا وكراهة للحق وأهله والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم من الصفات التي اختصهم الله بها والفضل : اللطف والإحسان (2/75)
قوله : 55 - { إنما وليكم الله } لما فرغ سبحانه من بيان من لا تحل موالاته بين من هو الولي الذي تجب موالاته ومحل { الذين يقيمون الصلاة } الرفع على أنه صفة للذين آمنوا أو بدل منه أو النصب على المدح وقوله : { وهم راكعون } جملة حالية من فاعل الفعلين اللذين قبله والمراد بالركوع : الخشوع والخضوع : أي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم خاشعون خاضعون لا يتكبرون وقيل هو حال من فاعل الزكاة والمراد بالركوع هو المعنى المذكور : أي يضعون الزكاة في مواضعها غير متكبرين على الفقراء ولا مترفعين عليهم وقيل المراد بالركوع على المعنى الثاني : ركوع الصلاة ويدفعه عدم جواز إخراج الزكاة في تلك الحال (2/75)
56 - { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } ثم وعد سبحانه من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا بأنهم الغالبون لعدوهم وهو من وضع الظاهر موضع المضمر ووضع حزب الله موضع ضمير الموالين لله ولرسوله وللمؤمنين والحزب : الصنف من الناس من قولهم حزبه كذا : أي نابه فكأن المتحزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة التي تنوب وحزب الرجل : أصحابه والحزب : الورد وفي الحديث : [ فمن فاته حزبه من الليل ] وتحزبوا : اجتمعوا والأحزاب : الطوائف وقد وقع ولله الحمد ما وعد الله به أولياءه وأولياء رسله وأولياء عباده المؤمنين من الغلب لعدوهم فإنهم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والإجلاء وضرب الجزية حتى صاروا لعنهم الله أذل الطوائف الكفرية وأقلهم شوكة وما زالوا تحت كلكل المؤمنين يطحنونهم كيف شاءوا ويمتهنونهم كما يريدون من بعد البعثة الشريفة المحمدية إلى هذه الغاية
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : [ لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه و سلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول وقام دونهم ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من خلفهم وكان أحد بني عوف بن الخزرج وله من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد الله بن أبي بن سلول فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم وفيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } إلى قوله : { فإن حزب الله هم الغالبون } ] وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : أسلم عبد الله بن أبي بن سلول ثم قال : إن بيني وبين قريظة والنضير حلفا وإني أخاف الدوائر فارتد كافرا وقال عبادة بن الصامت : أتبرأ إلى الله من حلف قريظة والنضير وأتولى الله ورسوله فنزلت وأخرج ابن مردويه أيضا من طريق عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده نحو ذلك وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة فذكر نحو ما تقدم وأخرج ابن جرير عن الزهري قال : لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من يهود : آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر فقال مالك بن الصيف : غركم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال أما لو أصررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يدان بقتالنا فقال عبادة وذكر نحو ما تقدم عنه وعن عبد الله بن أبي وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا } قال : إنها في الذبائح من دخل في دين قوم فهو منهم وأخرج عبد بن حميد عن حذيفة قال : ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر وتلا { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية { فترى الذين في قلوبهم مرض } كعبد الله بن أبي { يسارعون فيهم } في ولايتهم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في سننه وابن عساكر عن قتادة قال : أنزل الله هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم } وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه و سلم ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد : أهل المدينة وأهل مكة وأهل الجواثي من عبد القيس وقال الذين ارتدوا : نصلي الصلاة ولا نزكي والله لا تغصب أموالنا فكلم أبا بكر في ذلك ليتجاوز عنهم وقيل له إنهم لو قد فقهوا أدوا الزكاة فقال : والله لا أفرق بين شيء جمعه الله ولو منعوني عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه فبعث الله عصائب مع أبي بكر فقاتلوا حتى أقروا بالماعون وهو الزكاة قال قتادة : فكنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } إلى آخر الآية وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل عن الحسن نحوه وأخرج ابن جرير عن شريح بن عبيد قال : [ لما أنزل الله { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } الآية قال عمر : أنا وقومي يا رسول الله ؟ قال : لا بل هذا وقومه يعني أبا موسى الأشعري ] وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة في مسنده وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن عياض الأشعري قال : [ لما نزلت { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : هم قوم هذا وأشار إلى أبي موسى الأشعري ] وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والحاكم في جمعه لحديث شعبة والبيهقي وابن عساكر عن أبي موسى الأشعري [ قال : تليت عند النبي صلى الله عليه و سلم { فسوف يأتي الله بقوم } الآية فقال النبي صلى الله عليه و سلم : قومك يا أبا موسى أهل اليمن ] وأخرج ابن أبي حاتم في الكنى والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ وابن مردويه بسند حسن عن جابر بن عبد الله قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله : { فسوف يأتي الله بقوم } الآية فقال : هؤلاء قوم من أهل اليمن ثم كندة ثم السكون ثم تجيب ] وأخرج البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال : هم قوم من أهل اليمن ثم من كندة ثم من السكون وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال : هم أهل القادسية وأخرج البخاري في تاريخه عن القاسم بن مخيمرة قال : أتيت ابن عمر فرحب بي ثم تلا { من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم } الآية ثم ضرب على منكبي وقال : أحلف بالله إنكم لمنكم أهل اليمن ثلاثا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عطية بن سعد قال في قوله : { إنما وليكم الله ورسوله } إنها نزلت في عبادة بن الصامت وأخرج
الخطيب في المتفق والمفترق عن ابن عباس قال : [ تصدق علي بخاتم وهو راكع فقال النبي للسائل : من أعطاك هذا الخاتم ؟ قال : ذاك الراكع فأنزل الله فيه { إنما وليكم الله ورسوله } ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت في علي بن أبي طالب وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن علي بن أبي طالب نحوه وأخرج ابن مردويه عن عمار نحوه أيضا وأخرج الطبراني في الأوسط بسند فيه مجاهيل عنه نحوه (2/76)
قوله : 57 - { لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا } هذا النهي عن موالاة المتخذين للدين هزوا ولعبا يعم كل من حصل منه ذلك من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع المنتمين إلى الإسلام والبيان بقوله : { من الذين أوتوا الكتاب } إلى آخره لا ينافي دخول غيرهم تحت النهي إذا وجدت فيه العلة المذكورة التي هي الباعثة على النهي قوله : { والكفار } قرأ أبو عمرو والكسائي بالجر على تقدير من : أي ومن الكفار قال الكسائي : وفي حرف أبي ( ومن الكفار ) وقرأ من عداهما بالنصب قال النحاس : وهو أوضح وأبين وقال مكي : لولا اتفاق الجماعة على النصب لاخترت الخفض لقوته في الإعراب وفي المعنى والمراد بالكفار هنا المشركون وقيل المنافقون { واتقوا الله } يترك ما نهاكم عنه من هذا وغيره { إن كنتم مؤمنين } فإن الإيمان يقتضي ذلك (2/79)
والنداء الدعاء برفع الصوت وناداه مناداة ونداء : صاح به وتنادوا : أي نادى بعضهم بعضا وتنادوا : أي جلسوا في النادي والضمير في 58 - { اتخذوها } للصلاة : أي اتخذوا صلاتكم هزؤا ولعبا وقيل الضمير للمناداة المدلول عليها بناديتم قيل وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذا الموضع وأما قوله تعالى في الجمعة : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } فهو خاص بنداء الجمعة وقد اختلف أهل العلم في كون الأذان واجبا أو غير واجب وفي ألفاظه وهو مبسوط في مواطنه قوله : { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } أي ذلك بسبب أنهم قوم لا يعقلون لأن الهزؤ واللعب شأن أهل السفه والخفة والطيش (2/79)
قوله : 59 - { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا } يقال : نقمت على الرجل بالكسر فأنا ناقم : إذا عبت عليه قال الكسائي : نقمت بالكسر لغة ونقمت الأمر أيضا ونقمت : إذا كرهته وانتقم الله منه : أي عاقبه والاسم منه النقمة والجمع نقمات مثل كلمة وكلمات وإن شئت سكنت القاف ونقلت حركتها إلى النون والجمع نقم مثل نعمة ونعم وقيل المعنى يسخطون وقيل ينكرون قال عبد الله بن قيس الرقيات :
( ما نقموا من بني أمية إلا ... أنهم يحملون إن غضبوا )
وقال الله سبحانه : { وما نقموا منهم } والمعنى في الآية : هل تعيبون أو تسخطون أو تنكرون أو تكرهون منا إلا إيماننا بالله وبكتبه المنزلة وقد علمتم بأنا على الحق { وأن أكثركم فاسقون } بترككم للإيمان والخروج عن امتثال أوامر الله وقوله : { وأن أكثركم فاسقون } معطوف على أن آمنا : أي ما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمردكم وخروجكم عن الإيمان وفيه أن المؤمنين لم يجمعوا بين الأمرين المذكورين فإن الإيمان من جهتهم والتمرد والخروج من جهة الناقمين وقيل هو على تقدير محذوف : أي واعتقادنا أن أكثركم فاسقون وقيل إن قوله : { أن آمنا } هو منصوب على أنه مفعول له والمفعول محذوف فيكون { وأن أكثركم فاسقون } معطوفا عليه عطف العلة على العلة والتقدير : وما تنقمون منا إلا لأن آمنا ولأن أكثركم فاسقون وقيل معطوف على علة محذوفة أي لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون وقيل الواو في قوله : { وأن أكثركم فاسقون } هي التي بمعنى مع : أي ما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم فاسقون وقيل هو منصوب بفعل محذوف يدل عليه هل تنقمون : أي ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون وقيل هو مرفوع على الابتداء والخبر محذوف : أي وفسقكم معلوم فتكون الجملة حالية وقرئ بكسر إن من قوله : { وأن أكثركم فاسقون } فتكون جملة مستأنفة (2/79)
قوله : 60 - { قل هل أنبئكم بشر من ذلك } بين الله سبحانه لرسوله أن فيهم من العيب ما هو أولى بالعيب وهو ما هم عليه من الكفر الموجب للعن الله وغضبه ومسخه والمعنى : هل أنبئكم بشر من نقمكم علينا أو بشر مما تريدون لنا من المكروه أو بشر من أهل الكتاب أو بشر من دينهم وقوله : { مثوبة } أي جزاء ثابتا وهي مختصة بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر ووضعت هنا موضع العقوبة على طريقة { فبشرهم بعذاب أليم } وهي منصوبة على التمييز من بشر وقوله : { من لعنه الله } خبر لمبتدأ محذوف مع تقدير مضاف محذوف : أي هو لعن من لعنه الله أو هو دين من لعنه الله ويجوز أن يكون في محل جر بدلا من شر قوله : { وجعل منهم القردة والخنازير } أي مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير وهم اليهود فإن الله مسخ أصحاب السبت قردة وكفار مائدة عيسى منهم خنازير قوله : { وعبد الطاغوت } قرأ حمزة بضم الباء من عبد وكسر التاء من { الطاغوت } أي جعل منهم عبد الطاغوت بإضافة عبد إلى الطاغوت والمعنى : وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت لأن فعل من صيغ المبالغة كحذر وفطن للتبليغ في الحذر والفطنة وقرأ الباقون بفتح الباء من { عبد } وفتح التاء من { الطاغوت } على أنه فعل ماض معطوف على فعل ماض وهو غضب ولعن كأنه قيل : ومن عبد الطاغوت أو معطوف على القردة والخنازير : أي جعل منهم القردة والخنازير وجعل منهم عبد الطاغوت حملا على لفظ من وقرأ أبي وابن مسعود { وعبد الطاغوت } حملا على معناها وقرأ ابن عباس { وعبد } بضم العين والباء كأنه جمع عبد كما يقال : سقف وسقف ويجوز أن يكون جمع عبيد كرغيف ورغف أو جمع عابد كبازل وبزل وقرأ أبو واقد وعباد جمع عابد للمبالغة كعامل وعمال وقرأ البصريون وعباد جمع عابد أيضا كقائم وقيام ويجوز أن يكون جمع عبد وقرأ أبو جعفر الرقاشي وعبد الطاغوت على البناء للمفعول والتقدير وعبد الطاغوت فيهم وقرأ عون العقيلي وابن بريدة وعابد الطاغوت على التوحيد وروي عن ابن مسعود وأبي أنهما قرآ ( وعبدة الطاغوت ) وقرأ عبيد بن عمير ( وأعبد الطغوت ) مثل كلب وأكلب وقرئ { وعبد الطاغوت } عطفا على الموصول بناء على تقدير مضاف محذوف وهي قراءة ضعيفة جدا والطاغوت : الشيطان أو الكهنة أو غيرهما مما قد تقدم مستوفى قوله : { أولئك شر مكانا } الإشارة إلى الموصوفين بالصفات المتقدمة وجعلت الشرارة للمكان وهي لأهله للمبالغة ويجوز أن يكون الإسناد مجازيا قوله : { وأضل عن سواء السبيل } معطوف على شر أي هم أضل من غيرهم عن الطريق المستقيم والتفضيل في الموضعين للزيادة مطلقا أو لكونهم أشر وأضل مما يشاركهم في أصل الشرارة والضلال (2/80)
قوله : { وإذا جاؤوكم قالوا آمنا } أي إذا جاءوكم أظهروا الإسلام قوله : { وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به } جملتان حاليتان : أي جاءوكم حال كونهم قد دخلوا عندك متلبسين بالكفر وخرجوا من عندك متلبسين به لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك بل خرجوا كما دخلوا { والله أعلم بما كانوا يكتمون } عندك من الكفر وفيه وعيد شديد وهؤلاء هم المنافقون وقيل هم اليهود الذين قالوا : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } (2/81)
قوله : 62 - { وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح له والضمير في { منهم } عائد إلى المنافقين أو اليهود أو إلى الطائفتين جميعا { يسارعون في الإثم } في محل نصب على الحال على أن الرواية بصرية أو هو مفعول ثان لترى على أنها قلبية والمسارعة : المبادرة والإثم : الكذب أو الشرك أو الحرام والعدوان : الظلم المتعدي إلى الغير أو مجاوزة الحد في الذنوب والسحت : الحرام فعلى قول من فسر الإثم بالحرام يكون تكريره للمبالغة والربانيون علماء النصارى والأحبار : علماء اليهود وقيل الكل من اليهود لأن هذه الآيات فيهم ثم وبخ علماءهم في تركهم لنهيهم فقال : { لبئس ما كانوا يصنعون } وهذا فيه زيادة على قوله : { لبئس ما كانوا يعملون } لأن العمل لا يبلغ درجة الصنع حتى يتدرب فيه صاحبه ولهذا تقول العرب سيف صنيع إذا جود عامله عمله فالصنع هو العمل الجيد لا مطلق العلم فوبخ سبحانه الخاصة وهم العلماء التاركون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما هو أغلظ وأشد من توبيخ فاعل المعاصي فليفتح العلماء لهذه الآية مسامعهم ويفرجوا لها عن قلوبهم فإنها قد جاءت بما فيه البيان الشافي لهم بأن كفهم عن المعاصي مع ترك إنكارهم على أهلها لا يسمن ولا يغني من جوع بل هم أشد حالا وأعظم وبالا من العصاة فرحم الله عالما قام بما أوجبه الله عليه من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو أعظم ما افترضه الله عليه وأوجب ما أوجب عليه النهوض به اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الذين لا يخافون فيك لومة لائم وأعنا على ذلك وقونا عليه ويسره لنا وانصرنا على من تعدى حدودك وظلم عبادك إنه لا ناصر لنا سواك ولا مستعان غيرك يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسيد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا } إلى قوله : { والله أعلم بما كانوا يكتمون } وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا } قال : كان منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إلى الصلاة قالت اليهود والنصارى : قد قاموا لا قاموا فإذا رأوهم ركعوا وسجدوا استهزأوا بهم وضحكوا منهم قال : وكان رجل من اليهود تاجرا إذا سمع المنادي ينادي بالأذان قال : أحرق الله الكاذب قال : فبينما هو كذلك إذ دخلت جاريته بشعلة من نار فطارت شرارة منها في البيت فأحرقته وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال : كان رجل من النصارى فذكر نحو قصة الرجل اليهودي وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : [ أتى النبي صلى الله عليه و سلم نفر من اليهود
فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال : أؤمن بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا : لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به فأنزل الله فيهم { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا } إلى قوله : { فاسقون } ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وجعل منهم القردة والخنازير } قال : مسخت من يهود وأخرج أبو الشيخ عن أبي مالك أنه قيل له : كانت القردة والخنازير قبل أن يمسخوا ؟ قال : نعم وكانوا مما خلق من الأمم وأخرج مسلم وابن مردويه عن ابن مسعود قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن القردة والخنازير هما مما مسخ الله فقال : إن الله لم يهلك قوما أو قال : لم يمسخ قوما فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وإذا جاؤوكم قالوا آمنا } الآية قال أناس من اليهود : كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه و سلم فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به وهم متمسكون بضلالتهم وبالكفر فكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال : هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يهودا يقول : دخلوا كفارا وخرجوا كفارا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي زيد في قوله : { وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان } قال : هؤلاء اليهود { لبئس ما كانوا يعملون } إلى قوله : { لبئس ما كانوا يصنعون }
قال : يصنعون ويعملون واحد قال لهؤلاء حين لم ينتهوا كما قال لهؤلاء حين عملوا (2/81)
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : 63 - { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار } قال : فهل لا ينهاهم الربانيون والأحبار وهم الفقهاء والعلماء وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار } وأخرجه ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك بن مزاحم نحوه وقد وردت أحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا حاجة لنا في بسطها هنا (2/83)
قوله : 64 - { يد الله مغلولة } اليد عند العرب تطلق على الجارحة ومنه قوله تعالى : { وخذ بيدك ضغثا } وعلى النعمة يقولون كم يد لي عند فلان وعلى القدرة ومنه قوله تعالى : { قل إن الفضل بيد الله } أو على التأييد ومنه قوله صلى الله عليه و سلم : [ يد الله مع القاضي حين يقضي ] وتطلق على معان أخر وهذه الآية هي على طريق التمثيل كقوله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } والعرب تطلق غل اليد على البخل وبسطها على الجود مجازا ولا يريدون الجارحة كما يصفون البخيل بأنه جعد الأنامل ومقبوض الكف ومنه قول الشاعر :
( كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها ... وكل باب من الخيرات مفتوح )
( فاستبدلت بعده جعدا أنامله ... كأنما وجهه بالخل منضوح )
فمراد اليهود هنا عليهم لعائن الله أن الله بخيل فأجاب سبحانه عليهم بقوله : { غلت أيديهم } دعاء عليهم بالبخل فيكون الجواب عليهم مطابقا لما أرادوه بقوله : { يد الله مغلولة } ويجوز أن يراد غل أيديهم حقيقة بالأسر في الدنيا أو بالعذاب في الآخرة ويقوي المعنى الأول أن البخل قد لزم اليهود لزوم الظل للشمس فلا ترى يهوديا وإن كان ماله في غاية الكثرة إلا وهو من أبخل خلق الله وأيضا المجاز أوفق بالمقام لمطابقته لما قبله قوله : { ولعنوا بما قالوا } معطوف على ما قبله والباء سببية : أي أبعدوا من رحمة الله بسبب قولهم : { يد الله مغلولة } ثم رد سبحانه بقوله : { بل يداه مبسوطتان } أي بل هو في غاية ما يكون من الجود وذكر اليدين مع كونهم لم يذكروا إلا اليد الواحدة مبالغة في الرد عليهم بإثبات ما يدل على غاية السخاء فإن نسبة الجود إلى اليدين أبلغ من نسبته إلى اليد الواحدة وهذه الجملة الإضرابية معطوفة على جملة مقدرة يقتضيها المقام : أي كلا ليس الأمر كذلك { بل يداه مبسوطتان } وقيل المراد بقوله : { بل يداه مبسوطتان } نعمة الدنيا الظاهرة ونعمتها الباطنة وقيل نعمة المطر والنبات وقيل الثواب والعقاب وحكى الأخفش عن ابن مسعود أنه قرأ بل يداه بسيطتان : أي منطلقتان كيف يشاء قوله : { ينفق كيف يشاء } جملة مستأنفة مؤكدة لكمال جوده سبحانه : أي إنفاقه على ما تقتضيه مشيئته فإن شاء وسع وإن شاء قتر فهو الباسط القابض فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة لا لشيء آخر فإن خزائن ملكه لا تفنى ومواد جوده لا تتناهى قوله : { وليزيدن كثيرا منهم } إلخ اللام هي لام القسم : أي ليزيدن كثيرا من اليهود والنصارى ما أنزل إليك من القرآن المشتمل على هذه الأحكام الحسنة { طغيانا وكفرا } أي طغيانا إلى طغيانهم وكفرا إلى كفرهم قوله : { وألقينا بينهم } أي بين اليهود { العداوة والبغضاء } أو بين اليهود والنصارى قوله : { كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله } أي كلما جمعوا للحرب جمعا وأعدوا له عدة شتت الله جمعهم وذهب بريحهم فلم يظفروا بطائل ولا عادوا بفائدة بل لا يحصلون من ذلك إلا على الغلب لهم وهكذا لا يزالون يهيجون الحروب ويجمعون عليها ثم يبطل الله ذلك والآية مشتملة على استعارة بليغة وأسلوب بديع { ويسعون في الأرض فسادا } أي يجتهدون في فعل ما فيه فساد ومن أعظمه ما يريدونه من إبطال الإسلام وكيد أهله وقيل المراد بالنار هنا الغضب : أي كلما أثاروا في أنفسهم غضبا أطفأه الله بما جعله من الرعب في صدورهم والذلة والمسكنة المضروبتين عليهم قوله : { والله لا يحب المفسدين } إن كانت اللام للجنس فهم داخلون في ذلك دخولا أوليا وإن كانت للعهد فوضع الظاهر موضع المضمر لبيان شدة فسادهم وكونهم لا ينفكون عنه (2/84)
قوله : 65 - { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا } أي لو أن المتمسكين بالكتاب وهم اليهود والنصارى على أن التعريف للجنس { آمنوا } الإيمان الذي طلبه الله منهم ومن أهم الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم كما أمروا بذلك في كتب الله المنزلة عليهم { واتقوا } المعاصي التي من أعظمها ما هم عليه من الشرك بالله والجحود لما جاء به رسول الله { لكفرنا عنهم سيئاتهم } التي اقترفوها وإن كانت كثيرة متنوعة وقيل المعنى : لوسعنا عليهم في أرزاقهم (2/85)
66 - { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } أي أقاموا ما فيهما من الأحكام التي من جملتها الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم قوله : { وما أنزل إليهم من ربهم } من سائر كتب الله التي من جملتها القرآن فإنها كلها وإن نزلت على غيرهم فهي في حكم المنزلة عليهم لكونهم متعبدين بما فيها { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } ذكر فوق وتحت للمبالغة في تيسر أسباب الرزق لهم وكثرتها وتعدد أنواعها قوله : { منهم أمة مقتصدة } جواب سؤال مقدر كأنه قيل هل جميعهم متصفون بالأوصاف السابقة أو البعض دون البعض والمقتصدون منهم هم المؤمنون كعبد الله بن سلام ومن تبعه وطائفة من النصارى { وكثير منهم ساء ما يعملون } وهم المصرون على الكفر المتمردون عن إجابة محمد صلى الله عليه و سلم والإيمان بما جاء به
وقد أخرج ابن إسحاق والطبراني في الكبير وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس : إن ربك بخيل لا ينفق فأنزل الله : { وقالت اليهود يد الله مغلولة } الآية وأخرج أبو الشيخ عنه أنها نزلت في فنحاص اليهودي وأخرج مثله ابن جرير عن عكرمة وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وقالت اليهود يد الله مغلولة } أي بخيلة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا } قال : حملهم حسد محمد والعرب على أن تركوا القرآن وكفروا بمحمد ودينه وهم يجدونه مكتوبا عندهم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { كلما أوقدوا نارا للحرب } قال : حرب محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في الآية : كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرقه الله وأطفأ حدهم ونارهم وقذف في قلوبهم الرعب وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا } قال : آمنوا بما أنزل على محمد واتقوا ما حرم الله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } قال : العمل بهما وأما ما أنزل إليهم فمحمد صلى الله عليه و سلم وما أنزل عليه وأما { لأكلوا من فوقهم } فأرسلت عليهم مطرا وأما { من تحت أرجلهم } يقول أنبت لهم من الأرض من رزقي ما يغنيهم { منهم أمة مقتصدة } وهم مسلمة أهل الكتاب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { لأكلوا من فوقهم } يعني لأرسل عليهم السماء مدرارا { ومن تحت أرجلهم } قال : تخرج الأرض من بركتها وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس قال : الأمة المقتصدة : الذين لا هم فسقوا في الدين ولا هم غلوا قال : والعلو الرغبة والفسق التقصير عنه وأخرج أبو الشيخ عن السدي { أمة مقتصدة } يقول مؤمنة وأخرج ابن مردويه قال : حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا أحمد بن يونس الضبي حدثنا عاصم بن علي حدثنا أبو معشر عن يعقوب بن زيد بن طلحة عن زيد بن أسلم عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر حديثا قال : ثم حدثهم النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ تفرقت أمة موسى على اثنتين وسبعين ملة واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار وتفرقت أمة عيسى على اثنتين وسبعين ملة واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار تعلو أمتي على الفريقين جميعا ملة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون منها في النار قالوا : من هم يا رسول الله ؟ قال : الجماعات الجماعات ] قال يعقوب بن زيد : كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم تلا فيه قرآنا قال : { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم } إلى قوله : { منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون } وتلا أيضا : { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } يعني أمة محمد صلى الله عليه و سلم قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره لهذا الحديث ما لفظه : وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة قد ذكرناها في موضع آخر انتهى قلت : أما زيادة كونها في النار إلا واحدة فقد ضعفها جماعة من المحدثين بل قال ابن حزم إنها موضوعة (2/85)
العموم الكائن في ما أنزل يفيد أنه يجب عليه صلى الله عليه و سلم أن يبلغ جميع ما أنزل الله إليه لا يكتم منه شيئا وفيه دليل على أنه لم يسر إلى أحد مما يتعلق بما أنزله الله إليه شيئا ولهذا ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : من زعم أن محمدا صلى الله عليه و سلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب وفي صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال : قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر { فإن لم تفعل } ما أمرت به من تبليغ الجميع بل كتمت ولو بعضا من ذلك { فما بلغت رسالته } قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة إلا شعبة { رسالته } على التوحيد وقرأ أهل المدينة وأهل الشام { رسالاته } على الجمع قال النحاس : والجمع أبين لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ثم يبينه انتهى وفيه نظر فإن نفي التبليغ عن الرسالة الواحدة أبلغ من نفيه عن الرسالات كما ذكره علماء البيان على خلاف في
ذلك وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم لأمته ما نزل إليهم وقال لهم في غير موطن : هل بلغت ؟ فيشهدون له بالبيان فجزاه الله عن أمته خيرا ثم إن الله سبحانه وعده بالعصمة من الناس دفعا لما يظن أنه حامل على كتم البيان وهو خوف لحوق الضرر من الناس وقد كن ذلك بحمد الله فإنه بين لعباد الله ما نزل إليهم على وجه التمام ثم حمل من أبى من الدخول في الدين على الدخول فيه طوعا أو كرها وقتل صناديد الشرك وفرق جموعهم وبدد شملهم وكانت كلمة الله هي العليا فأسلم كل من نازعه ممن لم يسبق فيه السيف العذل حتى قال يوم الفتح لصناديد قريش وأكابرهم : ما تظنون أني فاعل بكم ؟ فقالوا : أخ كريم وابن أخ كريم فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء وهكذا من سبقت له العناية من علماء هذه الأمة يعصمه الله من الناس إن قام ببيان حجج الله وإيضاح براهينه وصرخ بين ظهراني من ضاد الله وعانده ولم يمتثل لشرعه كطوائف المبتدعة وقد رأينا من هذا في أنفسنا وسمعناه في غيرنا ما يزيد المؤمن إيمانا وصلابة في دين الله وشدة شكيمة في القيام بحجة الله وكل ما يظنه متزلزلو الأقدام ومضطربو القلوب من نزول الضرر بهم وحصول المحن عليهم فهو خيالات مختلة وتوهمات باطلة فإن كل
محنة في الظاهر هي محنة في الحقيقة لأنها لا تأتي إلا بخير في الأولى والأخرى : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } قوله : { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } جملة متضمنة لتعليل ما سبق من العصمة : أي إن الله لا يجعل لهم سبيلا إلى الإضرار بك فلا تخف وبلغ ما أمرت بتبليغه
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : لما نزلت { بلغ ما أنزل إليك من ربك } قال : يا رب إنما أنا واحد كيف أصنع ؟ يجتمع علي الناس فنزلت { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعا وعرفت أن الناس مكذبي فوعدني لأبلغن أو ليعذبني فأنزلت { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك لم تبلغ رسالته وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك } على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك إن عليا مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) وأخرج ابن أبي حاتم عن عنترة قال : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال : إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلى الله عليه و سلم للناس فقال : ألم تعلم أن الله قال : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم سوداء في بيضاء وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل : أي آية أنزلت من السماء أشد عليك ؟ قال : كنت بمنى أيام موسم فاجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم فأنزل علي جبريل فقال : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك } الآية قال : فقمت عند العقبة فناديت يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي وله الجنة أيها الناس قولوا لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة قال : فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون بالتراب والحجارة ويبزقون في وجهي ويقولون : كذاب صابئ فعرض علي عارض فقال : يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه ] قال الأعمش : فبذلك يفتخر بنو العباس ويقولون فيهم نزلت : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } هوى النبي
صلى الله عليه و سلم أبا طالب وشاء الله عباس بن عبد المطلب وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحرس حتى نزلت { والله يعصمك من الناس } فأخرج رأسه من القبة فقال : أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله قال الحاكم في المستدرك : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأخرج الطبراني وابن مردويه من حديث أبي سعيد وقد روي في هذا المعنى أحاديث وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال : [ لما غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم بني أنمار نزل ذات الرقيع بأعلى نخل فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه فقال الوارث من بني النجار : لأقتلن محمدا فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال : أقول له أعطني سيفك فإذا أعطانيه قتلته به فأتاه فقال : يا محمد أعطني سيفك أشمه فأعطاه إياه فرعدت يده حتى سقط من يده فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حال الله بينك وبين ما تريد فأنزل الله سبحانه : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك } الآية ] قال ابن كثير : وهذا حديث غريب من هذا الوجه وأخرج ابن حبان في صحيحه وابن مردويه عن أبي هريرة نحو هذه القصة ولم يسم الرجل وأخرج ابن جرير من حديث محمد بن كعب القرظي نحوه وفي الباب روايات وقصة غورث بن الحارث ثابتة في الصحيح وهي معروفة ومشهورة (2/87)
قوله : 90 - { على شيء } فيه تحقير وتقليل لما هم عليه : أي لستم على شيء يعتد به حتى تقيموا التوراة والإنجيل : أن تعملوا بما فيهما من أوامر الله ونواهيه التي من جملتها أمركم باتباع محمد صلى الله عليه و سلم ونهيكم عن مخالفته قال أبو علي الفارسي : ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما قوله : { وما أنزل إليكم من ربكم } قيل هو القرآن فإن إقامة الكتابين لا تصح بغير إقامته ويجوز أن يكون المراد ما أنزل إليهم على لسان الأنبياء من غير الكتابين قوله : { وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا } أي كفرا إلى كفرهم وطغيانا على طغيانهم والمراد بالكثير منهم من لم يسلم واستمر على المعاندة وقيل المراد به العلماء منهم وتصدير هذه الجملة بالقسم لتأكيد مضمونها قوله : { فلا تأس على القوم الكافرين } أي دع عنك التأسف على هؤلاء فإن ضرر ذلك راجع إليهم ونازل بهم وفي المتبعين لك من المؤمنين غنى لك عنهم (2/90)
قوله : 69 - { إن الذين آمنوا } إلخ جملة مستأنفة لترغيب من عداهم من المؤمنين والمراد بالمؤمنين هنا الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون { والذين هادوا } أي دخلوا في دين اليهود { والصابئون } مرتفع على الابتداء وخبره محذوف والتقدير : والصابون والنصارى كذلك قال الخليل وسيبويه : الرفع محمول على التقديم والتأخير والتقدير : إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابون والنصارى كذلك وأنشد سيبويه قول الشاعر :
( وإلا فاعلموا أنا وانتم ... بغاة ما بقينا في شقاق )
أي وإلا فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك ومثله قوله ضابي البرجمي :
( فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب )
أي فإني لغريب وقيار كذلك وقال الكسائي والأخفش : إن { الصابئون } معطوف على المضمر في { هادوا } قال النحاس : سمعت الزجاج يقول وقد ذكر له قول الكسائي والأخفش : هذا خطأ من وجهين : أحدهما أن المضمر المرفوع لا يعطف عليه حتى يؤكد وثانيهما أن المعطوف شريك المعطوف عليه فيصير المعنى : إن الصابئين قد دخلوا في اليهودية وهذا محال وقال الفراء : إنما جاز الرفع لأن إن ضعيفة فلا تؤثر إلا في الإسم دون الخبر فعلى هذا هو عنده معطوف على محل اسم إن أو على مجموع إن واسمها وقيل إن خبر إن مقدر والجملة الآتية خبر الصابئون والنصارى كما في قول الشاعر :
( نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف )
وقيل إن إن هنا بمعنى نعم : فالصابون مرتفع بالابتداء ومثله قول قيس بن الرقيات :
( بكر العواذل في الصبا ... ح يلمنني وألومنه )
( ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنه )
قال الأخفش : إنه بمعنى نعم والهاء للسكت وقد تقدم الكلام على الصابئين والنصارى في البقرة وقرئ الصابيون بياء صريحة تخفيفا للهمزة وقرئ الصابون بدون ياء وهو من صبا يصبو لأنهم صبوا إلى اتباع الهوى وقرئ والصابئين عطفا على اسم إن قوله : { من آمن بالله } مبتدأ خبره { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } والمبتدأ وخبره خبر لإن ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والعائد إلى اسم إن محذوف : أي من آمن منهم ويجوز أن يكون من آمن بدلا من اسم إن وما عطف عليه ويكون خبر إن { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } والمعنى على تقدير كون المراد بالذين آمنوا المنافقين كما قدمنا : أن من آمن من هذه الطوائف إيمانا خالصا على الوجه المطلوب وعمل عملا صالحا فهو الذي لا خوف عليه ولا حزن وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا جميع أهل الإسلام : المخلص والمنافق فالمراد بمن آمن من اتصف بالإيمان الخالص واستمر عليه ومن أحدث إيمانا خالصا بعد نفاقه (2/91)
قوله : 70 - { لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل } كلام مبتدأ لبيان بعض أفعالهم الخبيثة وقد تقدم في البقرة بيان معنى الميثاق { وأرسلنا إليهم رسلا } ليعرفوهم بالشرائع وينذروهم { كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم } جملة شرطية وقعت جوابا لسؤال ناس من الأحبار بإرسال الرسل كأنه قيل : ماذا فعلوا بالرسل ؟ وجواب الشرط محذوف : أي عصوه وقوله : { فريقا كذبوا وفريقا يقتلون } جملة مستأنفة أيضا جواب عن سؤال ناس عن الجواب الأول كأنه قيل : كيف فعلوا بهم ؟ فقيل فريقا منهم كذبوهم ولم يتعرضوا لهم بضرر وفريقا آخر منهم قتلوهم وإنما قال : { وفريقا يقتلون } لمراعاة رؤوس الآي فمن كذبوه عيسى وأمثاله من الأنبياء وممن قتلوه زكريا ويحيى (2/92)
قوله : 71 - { وحسبوا أن لا تكون فتنة } أي حسب هؤلاء الذين أخذ الله عليهم الميثاق أن لا يقع من الله عز و جل ابتلاء واختبار بالشدائد اغترارا بقولهم : { نحن أبناء الله وأحباؤه } قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي { تكون } بالرفع على أن هي المخففة من الثقيلة وحسب بمعنى علم لأن أن معناها التحقيق وقرأ الباقون بالنصب على أن ناصبة للفعل وحسب بمعنى الظن قال النحاس : والرفع عند النحويين في حسبت وأخواتها أجواد ومثله :
( ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وأن لا يشهد اللهو أمثالي )
قوله : { فعموا وصموا } أي عموا عن إبصار الهدى وصموا عن استماع الحق وهذه إشارة إلى ما وقع من بني إسرائيل في الابتداء من مخالفة أحكام التوراة وقتل شعيا ثم تاب الله عليهم حين تابوا فكشف عنهم القحط { ثم عموا وصموا كثير منهم } وهذا إشارة إلى ما وقع منهم بعد التوبة من قتل يحيى بن زكريا وقصدهم لقتل عيسى وارتفاع { كثير } على البدل من الضمير في الفعلين قال الأخفش : كما تقول رأيت قومك ثلاثتهم وإن شئت كان على إضمار مبتدأ : أي العمي والصم كثير منهم ويجوز أن يكون كثير مرتفعا على الفاعلية على لغة من قال : أكلوني البراغيث ومنه قول الشاعر :
( ولكن دفافي أبوه وأمه ... بحوران يعصرن السليط أقاربه )
وقرئ { عموا وصموا } بالبناء للمفعول : أي أعماهم الله وأصمهم (2/92)
قوله : 72 - { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض فضائح أهل الكتاب والقائلون بهذه المقالة هم فرقة منهم : يقال لهم اليعقوبية وقيل هم الملكانية قالوا : إن الله عز و جل حل في ذات عيسى فرد الله عليهم بقوله : { وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم } أي والحال أنه قد قال المسيح هذه المقالة فكيف يدعون الإلهية لمن يعترف على نفسه بأنه عبد مثلهم ؟ قوله : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة } الضمير للشأن وهذا كلام مبتدأ يتضمن بيان أن الشرك يوجب تحريم دخول الجنة وقيل هو من قول عيسى : { وما للظالمين من أنصار } ينصرونهم فيدخلونهم الجنة أو يخلصونهم من النار (2/93)
قوله : 73 - { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } وهذا كلام أيضا مبتدأ لبيان بعض مخازيهم والمراد بثالث ثلاثة واحد من ثلاثة ولهذا يضاف إلى ما بعده ولا يجوز التنوين كا قال الزجاج وغيره وإنما ينون وينصب ما بعده إذا كان ما بعده دونه بمرتبة نحو ثالث اثنين ورابع ثلاثة والقائل بأنه سبحانه وتعالى ثالث ثلاثة هم النصارى والمراد بالثلاثة : الله سبحانه وعيسى ومريم كما يدل عليه قوله : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين } وهذا هو المراد بقولهم ثلاثة أقانيم : إقنيم الأب وإقنيم الابن وإقنيم روح القدس وقد تقدم في سورة النساء كلام في هذا ثم رد الله سبحانه عليهم هذه الدعوى الباطلة فقال : { وما من إله إلا الله الواحد } أي ليس في الوجود إلا الله سبحانه وهذه الجملة حالية والمعنى : قالوا تلك المقالة والحال أنه لا موجود إلا الله ومن في قوله : { من إله } لتأكيد الاستغراق المستفاد من النفي { وإن لم ينتهوا عما يقولون } من الكفر { ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } جواب قسم محذوف ساد مسد جواب الشرط ومن في { منهم } بيانية أو تبعيضية (2/93)
74 - { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه } الفاء للعطف على مقدر والهمزة للإنكار (2/93)
قوله : 75 - { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } أي هو مقصور على الرسالة لا يجاوزها كما زعمتم وجملة { قد خلت من قبله الرسل } صفة لرسول : أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله وما وقع منه من المعجزات لا يوجب كونه إلها فقد كان لمن قبله من الرسل مثلها فإن الله أحيا العصا في يد موسى وخلق آدم من غير أب فكيف جعلتم إحياء عيسى للموتى ووجوده من غير أب يوجبان كونه إلها فإن كان كما تزعمون إلها لذلك فمن قبله الرسل الذين جاءوا بمثل ما جاء به آلهة وأنتم لا تقولون بذلك قوله : { وأمه صديقة } عطف على المسيح : أي وما أمه إلا صديقة : أي صادقة فيما تقوله أو مصدقة لما جاء به ولدها من الرسالة وذلك لا يستلزم الإلهية لها بل هي كسائر من يتصف بهذا الوصف من النساء قوله : { كانا يأكلان الطعام } استئناف يتضمن التقرير لما أشير إليه من أنهما كسائر أفراد البشر : أي من كان يأكل الطعام كسائر المخلوقين فليس برب بل هو عبد مربوب ولدته النساء فمتى يصلح لأن يكون ربا ؟ وأما قولكم إنه كان يأكل الطعام بناسوته لا بلاهوته فهو كلام باطل يستلزم اختلاط الإله بغير الإله واجتماع الناسوت واللاهوت ولو جاز اختلاط القديم بالحادث لجاز أن يكون القديم حادثا ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره من العباد { انظر كيف نبين لهم الآيات } أي الدلالات وفيه تعجيب من حال هؤلاء الذين يجعلون تلك الأوصاف مستلزمة للإلهية ويغفلون عن كونها موجودة في زمن لا يقولون بأنه إله { ثم انظر أنى يؤفكون } أي كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان ؟ يقال : أفكه يأفكه إذا صرفه وكرر الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب وجاء بثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : [ جاء نافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حرملة فقالوا : يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله حق ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكفرتم منها بما أمرتم أن تبينوه للناس فبرئت من أحداثكم قالوا : فإنا نؤخذ بما في أيدينا وإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا نتبعك فأنزل الله فيهم : { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل } إلى قوله : { القوم الكافرين } ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : { وحسبوا أن لا تكون فتنة } قال : بلاء وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة مثله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } قال : النصارى يقولون إن الله ثالث ثلاثة وكذبوا وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : تفرقت بنو إسرائيل ثلاث فرق في عيسى فقالت فرقة هو الله وقالت فرقة هو ابن الله وقالت فرقة هو عبد الله وروحه وهي المقتصدة وهي مسلمة أهل الكتاب (2/93)
أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقول لهم هذا القول إلزاما لهم وقطعا لشبهتهم : أي أتعذبون من دون الله متجاورين إياه ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ؟ بل هو عبد مأمور وما جرى على يده من النفع أو دفع من الضر فهو بإقدار الله له وتمكينه منه وأما هو فهو يعجز عن أن يملك لنفسه شيئا من ذلك فضلا عن أن يملكه لغيره ومن كان لا ينفع ولا يضر فكيف تتخذونه إلها وتعبدونه وأي سبب يقتضي ذلك ؟ والمراد هنا المسيح عليه السلام وقدم سبحانه الضر على النفع لأن دفع المفاسد أهم من جلب المصالح 76 - { والله هو السميع العليم } أي كيف تعبدون ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والحال أن الله هو السميع العليم ومن كان كذلك فهو القادر على الضر والنفع لإحاطته بكل مسموع ومعلوم ومن جملة ذلك مضاركم ومنافعكم (2/95)
قوله : 77 - { تغلوا في دينكم } لما أبطل سبحانه جميع ما تعلقوا به من الشبه الباطلة نهاهم عن الغلو في دينهم وهو المجاوزة للحد كإثبات الإلهية لعيسى كما يقوله النصارى أو حطه عن مرتبته العلية كما يقوله اليهود فإن كل ذلك من الغلو المذموم وسلوك طريقة الإفراط أو التفريط واختيارهما على طريق الصواب { وغير } منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف : أي غلوا غير غلو الحق وأما الغلو في الحق بإبلاغ كلية الجهد في البحث عنه واستخراج حقائقه فليس بمذموم وقيل إن النصب على الاستثناء المتصل وقيل على المنقطع { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل } وهم أسلاف أهل الكتاب من طائفتي اليهود والنصارى : أي قبل البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم { وأضلوا كثيرا } من الناس { وضلوا عن سواء السبيل } أي عن قصدهم طريق محمد صلى الله عليه و سلم بعد البعثة والمراد أن أسلافهم ضلوا من قبل البعثة وأضلوا كثيرا من الناس إذ ذاك وضلوا من بعد البعثة إما بأنفسهم أو جعل ضلال من أضلوه ضلالا لهم لكونهم سنوا لهم ذلك ونهجوه لهم وقيل المراد بالأول كفرهم بما يقتضيه العقل وبالثاني كفرهم بما يقتضيه الشرع (2/95)
قوله : 78 - { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل } أي لعنهم الله سبحانه { على لسان داود وعيسى ابن مريم } أي في الزبور والإنجيل على لسان داود وعيسى بما فعلوه من المعاصي كاعتدائهم في السبت وكفرهم بعيسى قوله : { ذلك بما عصوا } جملة مستأنفة جواب عن سؤال مقدر والإشارة بذلك إلى اللعن : أي ذلك اللعن بسبب المعصية والاعتداء لا بسبب آخر (2/96)
ثم بين سبحانه المعصية والاعتداء بقوله : 79 - { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } فأسند الفعل إليهم لكون فاعله من جملتهم وإن لم يفعلوه جميعا والمعنى : أنهم كانوا لا ينهون العاصي عن معاودة معصية قد فعلها أو تهيأ لفعلهان ويحتمل أن يكون وصفهم بأنهم قد فعلوا المنكر باعتبار حالة النزول لا حالة ترك الإنكار وبيان العصيان والاعتداء بترك التناهي عن المنكر لأن من أخل بواجب النهي عن المنكر فقد عصى الله سبحانه وتعدى حدوده والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية وأجل الفرائض الشرعية ولهذا كان تاركه شريكا لفاعل المعصية ومستحقا لغضب الله وانتقامه كما وقع لأهل السبت فإن الله سبحانه مسخ من لم يشاركهم في الفعل ولكن ترك الإنكار عليهم كما مسخ المعتدين فصاروا جميعا قردة وخنازير { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } ثم إن الله سبحانه قال مقبحا لعدم التناهي عن المنكر { لبئس ما كانوا يفعلون } أي من تركهم لإنكار ما يجب عليهم إنكاره (2/96)
80 - { ترى كثيرا منهم } أي من اليهود مثل كعب بن الأشرف وأصحابه { يتولون الذين كفروا } أي المشركين وليسوا على دينهم { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم } أي سولت وزينت أو ما قدموه لأنفسهم ليردوا عليه يوم القيامة والمخصوص بالذم هو { أن سخط الله عليهم } أي موجب سخط الله عليهم على حذف مضاف أو هو سخط الله عليهم على حذف مبتدأ وقيل هو : أي أن سخط الله عليهم بدل من ما (2/96)
81 - { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي } أي نبيهم { وما أنزل إليه } من الكتاب { ما اتخذوهم } أي المشركين { أولياء } لأن الله سبحانه ورسوله المرسل إليهم وكتابه المنزل عليهم قد نهوهم عن ذلك { ولكن كثيرا منهم فاسقون } أي خارجون عن ولاية الله وعن الإيمان به وبرسوله وبكتابه
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { لا تغلوا في دينكم } يقول : لا تبتدعوا وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : كانوا مما غلوا فيه أن دعوا لله صاحبة وولدا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وضلوا عن سواء السبيل } قال : يهود وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول له : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال : { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود } إلى قوله : { فاسقون } ثم قال : كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ] وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا فلا نطول بذكرها وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :
{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود } يعني في الزبور { وعيسى ابن مريم } يعني في الإنجيل وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي مالك الغفاري في الآية قال : لعنوا على لسان داود فجعلوا قردة وعلى لسان عيسى فجعلوا خنازير وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة نحوه وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعا : قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار فقام مائة وإثنا عشر رجلا من عبادهم فأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا في آخر النهار فهم الذين ذكر الله { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل } الآيات وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم } قال : ما أمرتهم وأخرج ابن أبي حاتم والخرائطي في مساوي الأخلاق وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يا معشر المسلمين إياكم والزنا فإن فيه ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة فأما التي في الدنيا : فذهاب البهاء ودوام الفقر وقصر العمر وأما التي في الآخرة : فسخط الله وسوء الحساب والخلود في النار ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم : { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون } ] قال ابن كثير في تفسيره : هذا الحديث ضعيف على كل حال وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } قال : المنافقون (2/97)
قوله : 82 - { لتجدن } إلخ هذه جملة مستأنفة مقررة لما فيها من تعداد مساوئ اليهود وهناتهم ودخول لام القسم عليها يزيدها تأكيدا وتقريرا والخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح له كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز والمعنى في الآية : أن اليهود والمشركين لعنهم الله أشد جميع الناس عداوة للمؤمنين وأصلبهم في ذلك وأن النصارى أقرب الناس مودة للمؤمنين واللام في { للذين آمنوا } في الموضعين متعلقة بمحذوف وقع صفة لعداوة ومودة وقيل هو متعلق بعداوة ومودة والإشارة بقوله : { ذلك } إلى كونهم أقرب مودة والباء في { بأن منهم قسيسين } للسببية : أي ذلك بسبب أن منهم قسيسين وهو جمع قس وقسيس قاله قطرب والقسيس : العالم وأصله من قس : إذا تتبع الشيء وطلبه قال الراجز :
( يصبحن عن قس الأذى غوافلا )
وتقسست أصواتهم بالليل تسمعتها والقس : النميمة والقس أيضا : رئيس النصارى في الدين والعلم وجمعه قسوس أيضا وكذلك القسيس : مثل الشر والشرير ويقال في جمع قسيس تكسيرا قساوسة بإبدال إحدى السينين واوا والأصل قساسة فالمراد بالقسيسين في الآية : المتبعون للعلماء والعباد وهو إما عجمي خلطته العرب بكلامها أو عربي والرهبان : جمع راهب كركبان وراكب والفعل رهب الله يرهبه : أي خافه والرهبانية والترهب : التعبد في الصوامع قال أبو عبيد : وقد يكون رهبان للواحد والجمع قال الفراء : ويجمع رهبان إذا كان للمفرد رهبان وهابين كقربان وقرابين وقد قال جرير في الجمع :
( رهبان مدين لو رأوك ترهبوا )
وقال الشاعر في استعمال رهبان مفردا :
( لو أبصرت رهبان دير في الجبل ... لانحدر الرهبان يسعى ونزل ) (2/98)
ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم لا يستكبرون عن قول الحق بل هم متواضعون بخلاف اليهود فإنهم على ضد ذلك وهذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها 83 - { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول } معطوف على جملة { وأنهم لا يستكبرون } { تفيض من الدمع } أي تمتلئ فتفيض لأن الفيض لا يكون إلا بعد الامتلاء جعل الأعين تفيض والفائض : إنما هو الدمع قصدا للمبالغة كقولهم دمعت عينه قال امرؤ القيس :
( ففاضت دموع العين مني صبابة ... على النحر حتى بل دمعي محملي )
قوله : { مما عرفوا من الحق } من الأولى لابتداء الغاية والثانية بيانية : أي كان ابتداء الفيض ناشئا من معرفة الحق ويجوز أن تكون الثانية تبعيضية وقرئ { ترى أعينهم } على البناء للمجهول وقوله : { يقولون ربنا آمنا } استئناف مسوق لجواب سؤال مقدر كأنه قيل فما حالهم عند سماع القرآن ؟ فقال : { يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } أي آمنا بهذا الكتاب النازل من عندك على محمد وبمن أنزلته عليه فاكتبنا مع الشاهدين على الناس يوم القيامة من أمة محمد أو مع الشاهدين بأنه حق أو مع الشاهدين بصدق محمد وأنه رسولك إلى الناس (2/99)
قوله : 84 - { وما لنا لا نؤمن بالله } كلام مستأنف والاستفهام للاستبعاد { ولنا } متعلق بمحذوف و { لا نؤمن } في محل نصب في الحال والتقدير : أي شيء حصل لنا حال كوننا لا نؤمن بالله وبما جاءنا من الحق ؟ والمعنى : أنهم استبعدوا انتفاء الإيمان منهم مع وجود المقتضى له وهو الطمع في إنعام الله فالاستفهام والنفي متوجهان إلى القيد والمقيد جميعا كقوله تعالى : { ما لكم لا ترجون لله وقارا } والواو في { ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } للحال أيضا بتقدير مبتدأ : أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في الدخول مع الصالحين ؟ فالحال الأولى والثانية صاحبهما الضمير في { لنا } وعاملهما الفعل المقدر : أي حصل ويجوز أن تكون الحال الثانية من الضمير في { نؤمن } والتقدير : وما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع في صحبة الصالحين (2/100)
قوله : 85 - { فأثابهم الله بما قالوا } إلخ أثابهم على هذا القول مخلصين له معتقدين لمضمونه (2/100)
قوله : 86 - { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } التكذيب بالآيات كفر فهو من باب عطف الخاص على العام والجحيم : النار الشديدة الإيقاد ويقال جحم فلان النار : إذا شدد إيقادها ويقال أيضا لعين الأسد : جحمة لشدة اتقادها قال الشاعر :
( والحرب لا تبقى لجاحمها التحيل والمزاح )
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ولتجدن أقربهم مودة } الآية قال : هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله ] وفي لفظ : [ إلا حدث نفسه بقتله ] قال ابن كثير : وهو غريب جدا وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : ما ذكر الله به النصارى من خير فإنما يراد به النجاشي وأصحابه وأخرج أبو الشيخ عنه قال : هم ناس من الحبشة آمنوا إذا جاءتهم مهاجرة المؤمنين فذلك لهم وأخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع } وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والواحدي من طريق ابن شهاب قال : أخبرني سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعروة بن الزبير قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه كتابا إلى النجاشي فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم ثم أمر جعفر بن أبي طالب أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ عليهم سورة مريم فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع وهم الذين أنزل الله فيهم { ولتجدن أقربهم مودة } إلى قوله : { من الشاهدين } وأخرج عبد بن حميد ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير في الآية قال : هم رسل النجاشي بإسلامه وإسلام قومه كانوا سبعين رجلا يختارهم من قومه الخير فالخير في الفقه والسن وفي لفظ : بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثين رجلا فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة يس فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق فأنزل الله فيهم : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا } الآية ونزلت هذه الآية فيهم أيضا : { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } إلى قوله : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا } وأخرج عبد بن حميد والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بدون ذكر العدد وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم اثني عشر رجلا سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا فأنزل الله فيهم : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول } الآية والروايات في هذا الباب كثيرة وهذا المقدار يكفي فليس المراد إلا بيان سبب نزول الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { قسيسين } قال : هم علماؤهم وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : القسيسون عبادهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : { فاكتبنا مع الشاهدين } قال : أمة محمد صلى الله عليه و سلم (2/100)
الطيبات : هي المستلذات مما أحله الله لعباده نهى الذين آمنوا عن أن يحرموا على أنفسهم شيئا منها إما لظنهم أن في ذلك طاعة لله وتقربا إليه وأنه من الزهد في الدنيا لرفع النفس عن شهواتها أو لقصد أن يحرموا على أنفسهم شيئا مما أحله لهم كما يقع من كثير من العوام من قولهم : حرام علي وحرمته على نفسي ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل تحت هذا النهي القرآني قال ابن جرير الطبري : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح ولذلك رد النبي صلى الله عليه و سلم التبتل على عثمان بن مظعون
فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب الله عباده إليه وعمل به رسول الله صلى الله عليه و سلم وسنه لأمته واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فإذا كان ذلك كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء قال : فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الردية لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته قوله : { ولا تعتدوا } أي لا تعتدوا على الله بتحريم طيبات ما أحل الله لكم أو لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله عليكم : أي تترخصوا فتحللوا حراما كما نهيتم عن التشديد على أنفسكم بتحريم الحلال وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن من حرم على نفسه شيئا مما أحل الله له فلا يحرم عليه ولا يلزمه كفارة وقال أبو حنيفة وأحمد ومن تابعهما : إن من حرم شيئا صار محرما عليه وإذا تناوله لزمته الكفارة وهو خلاف ما في هذه الآية وخلاف ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ولعله يأتي في سورة التحريم ما هو أبسط من هذا إن شاء الله وقوله : { إن الله لا يحب المعتدين } تعليل لما قبله وظاهره إنه تحريم كل اعتداء : أي مجاوزة لما شرعه الله في كل أمر من الأمور (2/102)
88 - { وكلوا مما رزقكم الله } حال كونه { حلالا طيبا } أي غير محرم ولا مستقذر أو أكلا حلالا طيبا أو كلوا حلالا طيبا مما رزقكم الله ثم وصاهم الله سبحانه بالتقوى فقال : { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون }
وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عدي في الكامل والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوة وإني حرمت علي اللحم فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } وقد روي من وجه آخر مرسلا وروي موقوفا على ابن عباس وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال : [ نزلت في رهط من الصحابة قالوا : نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني ] وقد ثبت نحو هذا في الصحيحين وغيرهما من دون ذكر أن ذلك سبب نزول الآية وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في المراسيل وابن جرير عن أبي مالك أن هؤلاء الرهط : هم عثمان بن مظعون وأصحابه وفي الباب روايات كثيرة بهذا المعنى وكثير منها مصرح بأن ذلك سبب نزول الآية وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم
[ أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه و سلم ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له فقال لامرأته : حبست ضيفي من أجلي هو حرام علي فقالت امرأته : هو حرام علي فقال الضيف : هو حرام علي فلما رأى ذلك وضع يده وقال : كلوا بسم الله ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد أصبت فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ] وهذا أثر منقطع ولكن في صحيح البخاري في قصة الصديق مع أضيافه ما هو شبيه بهذا وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال : كنا عند عبد الله فجيء بضرع فتنحى رجل فقال له عبد الله : ادن فقال : إني حرمت أن آكله فقال عبد الله : ادن فاطعم وكفر عن يمينك وتلا هذه الآية وأخرجه أيضا الحاكم في مستدركه وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (2/103)
قد تقدم تفسير اللغو والخلاف فيه في سورة البقرة و 89 - { في أيمانكم } صلة { يؤاخذكم } قيل و { في } بمعنى من والأيمان جمع يمين وفي الآية دليل على أن أيمان اللغو لا يؤاخذ الله الحالف بها ولا تجب بها الكفارة وقد ذهب الجمهور من الصحابة ومن بعدهم إلى أنها قول الرجل : لا والله وبلى والله في كلامه غير معتقد لليمين وبه فسر الصحابة الآية وهم أعرف بمعاني القرآن قال الشافعي : وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة قوله : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } قرئ بتشديد { عقدتم } وبتخفيفه وقرئ { عقدتم } والعقد على ضربين : حسي كعقد الحبل وحكمي كعقد البيع واليمين والعهد قال الشاعر :
( قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا )
فاليمين المعقدة من عقد القلب ليفعلن أو لا يفعلن في المستقبل : أي ولكن يؤاخذكم بأيمانكم المعقدة الموثقة بالقصد والنية إذا حنثتم فيها وأما اليمين الغموس : فهي يمين مكر وخديعة وكذب قد باء الحالف بإثمها وليست بمعقودة ولا كفارة فيها كما ذهب إليه الجمهور وقال الشافعي : هي يمين معقودة لأنها مكتسبة بالقلب معقودة بخبر مقرونة باسم الله والراجح الأول وجميع الأحاديث الواردة في تكفير اليمين متوجهة إلى المعقودة ولا يدل شيء منها على الغموس بل ما ورد في الغموس إلا الوعيد والترهيب وإنها من الكبائر بل من أكبر الكبائر وفيها نزل قوله تعالى : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } الآية قوله : { فكفارته } الكفارة : هي مأخوذة من التكفير وهو التستير وكذلك الكفر هو الستر والكافر هو الساتر لأنها تستر الذنب وتغطيه والضمير في كفارته راجع إلى ما في قوله : { بما عقدتم } { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } المراد بالوسط هنا المتوسط بين طرفي الإسراف والتقتير وليس المراد به الأعلى كما في غير هذا الموضع : أي أطعموهم من المتوسط مما تعتادون إطعام أهليكم منه ولا يجب عليكم أن تطعموهم من أعلاه ولا يجوز لكم أن تطعموهم من أدناه وظاهره أنه يجزئ إطعام عشرة حتى يشبعوا وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه قال : لا يجزئ إطعام العشرة غداء دون عشاء حتى يغديهم ويعشيهم قال أبو عمر : هو قول أئمة الفتوى بالأمصار وقال الحسن البصري وابن سيرين : يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزا وسمنا أو خبزا ولحما وقال عمر بن الخطاب وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وميمون بن مهران وأبو مالك والضحاك والحكم ومكحول وأبو قلابة ومقاتل : يدفع إلى كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر وروي ذلك عن علي وقال أبو حنيفة نصف صاع بر وصاع مما عداه وقد أخرج ابن ماجه وابن مردويه عن ابن عباس قال : كفر رسول الله صلى الله عليه و سلم بصاع من تمر وكفر الناس به ومن لم يجد فنصف صاع من بر وفي إسناده عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي وهو مجمع على ضعفه وقال الدارقطني : متروك قوله : { أو كسوتهم } عطف على إطعام قرئ بضم الكاف وكسرها وهما لغتان مثل أسوة وإسوة وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميفع اليماني أو كأسوتهم : يعني كأسوة أهليكم والكسوة في الرجال تصدق على ما يكسو البدن ولو كان ثوبا واحدا وهكذا في كسوة النساء وقيل الكسوة للنساء درع وخمار وقيل المراد بالكسوة ما تجزئ به الصلاة قوله : { أو تحرير رقبة } أي إعتاق مملوك والتحرير : الإخراج من الرق وتستعمل التحرير في فك الأسير وإعفاء المجهود يعمل عن عمله وترك إنزال الضرر به ومنه قول الفرزدق :
( أبني غدانة أنني حررتكم ... فوهبتكم لعطية بن جعال )
أي حررتكم من الهجاء الذي كان سيضع منكم ويضر بأحسابكم
ولأهل العلم أبحاث في الرقبة التي تجزئ في الكفارة وظاهر هذه الآية أنها تجزئ كل رقبة على أي صفة كانت وذهب جماعة منهم الشافعي إلى اشتراط الإيمان فيها قياسا على كفارة القتل { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } أي فمن لم يجد شيئا من الأمور المذكورة فكفارته صيام ثلاثة أيام وقرئ متتابعات حكي ذلك عن ابن مسعود وأبي فتكون هذه القراءة مقيدة لمطلق الصوم وبه قال أبو حنيفة والثوري وهو أحد قولي الشافعي وقال مالك والشافعي في قوله الآخر : يجزئ التفريق { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم ثم أمرهم بحفظ الأيمان وعدم المسارعة إليها أو إلى الحنث بها والإشارة بقوله : { كذلك } إلى مصدر الفعل المذكور بعده أي مثل ذلك البيان { يبين الله لكم } وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز { لعلكم تشكرون } ما أنعم به عليكم من بيان شرائعه وإيضاح أحكامه
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما نزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } في القوم الذين كانوا حرموا على أنفسهم النساء واللحم قالوا : يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ فأنزل الله : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير في اللغو قال : هو الرجل يحلف على الحلال وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : هما الرجلان يتبايعان يقول أحدهما : والله لا أبيعك بكذا ويقول الآخر : والله لا أشتريه بكذا وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن النخعي قال : اللغو أن يصل كلامه بالحلف : والله لتأكلن والله لتشربن ونحو هذا لا يريد به يمينا ولا يتعمد حلفا فهو لغو اليمين ليس عليه كفارة وقد تقدم الكلام في البقرة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } قال : بما تعبدتم وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة نحوه وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقيم كفارة اليمين مدا من حنطة وفي إسناده النضر بن زرارة بن عبد الكريم الذهلي الكوفي قال أبو حاتم : مجهول وذكره ابن حبان في الثقات وقد تقدم حديث ابن عباس وتضعيفه وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت أبي بكر قالت : كنا نعطي في كفارة اليمين بالمد الذي نقتات به وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال : إني أحلف لا أعطي أقواما ثم يبدو لي فأعطيهم فأطعم عشرة مساكين كل مسكين صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو نصف صاع من قمح وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال : في كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق قال : في كفارة اليمين مد من حنطة لكل مسكين وأخرج هؤلاء إلا ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت مثله وأخرج هؤلاء أيضا عن ابن عمر مثله وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة مثله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال : تغديهم وتعشيهم إن شئت خبزا ولحما أو خبزا وزيتا أو خبزا وسمنا أو خبزا تمرا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } قال : من عسركم ويسركم وأخرج ابن ماجه عنه قال : الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة وكان الرجل يقوت أهله قوتا فيه شدة فنزلت : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه نحو ذلك وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { أو كسوتهم } قال : عباءة لكل مسكين قال ابن كثير : حديث غريب وأخرج ابن مردويه [ عن حذيفة قال : قلت يا رسول الله { أو كسوتهم } ما هو ؟ قال : عباءة عباءة ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : عباءة لكل مسكين أو شملة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال : الكسوة ثوب أو إزار وأخرج ابن جرير والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : في كفارة اليمين هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة الأول فالأول فإن لم يجد من ذلك شيئا فصيام ثلاثة أيام متتابعات وأخرج ابن مردويه عنه نحوه (2/104)
قوله : 90 - { يا أيها الذين آمنوا } خطاب لجميع المؤمنين وقد تقدم تفسير الميسر في سورة البقرة { والأنصاب } هي الأصنام المنصوبة للعبادة { والأزلام } قد تقدم تفسيرها في أول هذه السورة والرجس يطلق على العذرة والأقذار وهو خبر للخمر وخبر للمعطوف عليه محذوف وقوله : { من عمل الشيطان } صفة لرجس : أي كائن من عمل الشيطان بسبب تحسينه لذلك وتزيينه له وقيل هو الذي كان عمل هذه الأمور بنفسه فاقتدى به بنو آدم والضمير في { فاجتنبوه } راجع إلى الرجس أو إلى المذكور وقوله : { لعلكم تفلحون } علة لما قبله قال في الكشاف : أكد تحريم الخمر والميسر وجوها من التأكيد منها تصدير الجملة بإنما ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام ومنه قوله صلى الله عليه و سلم : [ شارب الخمر كعابد الوثن ] ومنها أنه جعلهما رجسا كما قال : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت ومنها أنه أمر بالاجتناب ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحا كان الارتكاب خيبة ومحقة ومنها أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمر وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلوات انتهى
وفي هذه الآية دليل على تحريم الخمر لما تضمنه الأمر بالاجتناب من الوجوب وتحريم الصد ولما تقرر في الشريعة من تحريم قربان الرجس فضلا عن جعله شرابا يشرب قال أهل العلم من المفسرين وغيرهم : كان تحريم الخمر بتدريج ونوازل كثيرة لأنهم كانوا قد ألفوا شربها وحببها الشيطان إلى قلوبهم فأول ما نزل في أمرها { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } فترك عند ذلك بعض من المسلمين شربها ولم يتركه آخرون ثم نزل قوله تعالى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فتركها البعض أيضا وقالوا : لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة وشربها البعض في غير أوقات الصلاة حتى نزلت هذه الآية : { إنما الخمر والميسر } فصارت حراما عليهم حتى كان يقول بعضهم ما حرم الله شيئا أشد من الخمر وذلك لما فهموه من التشديد فيما تضمنته هذه الآية من الزواجر وفيما جاءت به الأحاديث الصحيحة من الوعيد لشاربها وأنها من كبائر الذنوب (2/107)
وقد أجمع على ذلك المسلمون إجماعا لا شك فيه ولا شبهة وأجمعوا أيضا على تحريم بيعها والانتفاع بها ما دامت خمرا وكما دلت هذه الآية على تحريم الخمر دلت أيضا على تحريم الميسر والأنصاب والأزلام وقد أشارت هذه الآية إلى ما في الخمر والميسر من المفاسد الدنيوية بقوله : 91 - { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء } ومن المفاسد الدينية بقوله : { ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } قوله : { فهل أنتم منتهون } فيه زجر بليغ يفيده الاستفهام الدال على التقريع والتوبيخ ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما سمع هذا : انتهينا (2/108)
ثم أكد الله سبحانه هذا التحريم بقوله : 92 - { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا } أي مخالفتهما : أي مخالفة الله ورسوله فإن هذا وإن كان أمرا مطلقا فالمجيء به في هذا الموضع يفيد ما ذكرناه من التأكيد وهكذا ما أفاده بقوله : { فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } أي إن أعرضتم عن الامتثال فقد فعل الرسول ما هو الواجب عليه من البلاغ الذي فيه رشادكم وصلاحكم ولم تضروا بالمخالفة إلا أنفسكم وفي هذا من الزجر ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه (2/108)
قوله : 93 - { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } أي من المطاعم التي يشتهونها والطعم وإن كان استعماله في الأكل أكثر لكنه يجوز استعماله في الشرب ومنه قوله تعالى : { ومن لم يطعمه فإنه مني } أباح الله سبحانه لهم في هذه الآية جميع ما طعموا كائنا ما كان مقيدا بقوله : { إذا ما اتقوا } أي اتقوا ما هو محرم عليهم كالخمر وغيره من الكبائر وجميع المعاصي { وآمنوا } بالله { وعملوا الصالحات } من الأعمال التي شرعها الله لهم : أي استمروا على عملها قوله : { ثم اتقوا } عطف على اتقوا الأول : أي اتقوا ما حرم عليهم بعد ذلك مع كونه كان مباحا فيما سبق { وآمنوا } بتحريمه { ثم اتقوا } ما حرم عليهم بعد التحريم المذكور قبله مما كان مباحا من قبل { وأحسنوا } أي اعملوا الأعمال الحسنة هذا معنى الآية وقيل التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة وقيل إن التكرير باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والوسط والمنتهى وقيل إن التكرار باعتبار ما يتقيه الإنسان فإنه ينبغي له أن يترك المحرمات توقيا من العذاب والشبهات توقيا من الوقوع في الحرام وبعض المباحات حفظا للنفس عن الخسة وقيل إنه لمجرد التأكيد كما في قوله تعالى :
{ كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون } هذه الوجوه كلها مع قطع النظر عن سبب نزول الآية إما مع النظر إلى سبب نزولها وهو أنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة : كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر ؟ فنزلت فقد قيل : إن المعنى { اتقوا } الشرك { وآمنوا } بالله ورسوله { ثم اتقوا } الكبائر { وآمنوا } أي ازدادوا إيمانا { ثم اتقوا } الصغائر { وأحسنوا } أي تنفلوا قال ابن جرير الطبري : الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال : [ نزل في الخمر ثلاث آيات فأول شيء { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية فقيل حرمت الخمر فقيل : يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله فسكت عنهم ثم نزلت هذه الآية : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فقيل حرمت الخمر فقالوا : يا رسول الله لا نشربها قرب الصلاة فسكت عنهم ثم نزلت : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر } الآية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حرمت الخمر ] وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال : حرمت الخمر ثلاث مرات وذكر نحو حديث ابن عمر [ فقال الناس : يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على
فراشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان فأنزل الله : { ليس على الذين آمنوا } الآية وقال النبي صلى الله عليه و سلم : لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال : في نزل تحريم الخمر صنع رجل من الأنصار طعاما فدعا ناسا فأتوه فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر وذلك قبل أن تحرم الخمر فتفاخروا فقالت الأنصار : الأنصار خير من المهاجرين وقال قريش : قريش خير فأهوى رجل بلحي جمل فضرب على أنفي فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فنزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } الآية وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : أنزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته فيقول : صنع بي هذا أخي فلان وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن والله لو كان بي رؤوفا رحيما ما صنع بي هذا حتى وقعت الضغائن في قلوبهم فأنزل الله هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } إلى قوله : { فهل أنتم منتهون } فقال ناس من المتكلفين : هي رجس وهي في بطن فلان قتل يوم بدر وفلان قتل يوم أحد فأنزل الله هذه الآية : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية وقد رويت في سبب النزول روايات كثيرة موافقة لما قد ذكرناه وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : الميسر هو القمار كله وأخرج ابن مردويه عن وهب بن كيسان قال : قلت لجابر متى حرمت الخمر ؟ قال : بعد أحد وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : نزل تحريم الخمر في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : كل القمار من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال : النرد والشطرنج من الميسر وأخرج عبد بن حميد عن علي قال : الشطرنج ميسر الأعاجم وأخرج ابن أبي حاتم عن القاسم بن محمد أنه سئل عن النرد أهي من الميسر ؟ قال : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبيهقي في الشعب عنه أيضا أنه قيل له : هذه النرد تكرهونها فما بال الشطرنج ؟ قال : كل ما ألهي عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر وأخرجوا أيضا عن ابن الزبير قال : يا أهل مكة بلغني عن رجال يلعبون بلعبة يقال لها النردشير والله يقول في كتابه : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } إلى قوله : { فهل أنتم منتهون } وإني أحلف بالله لا أوتي بأحد يلعب بها إلا عاقبته في شعره وبشره وأعطيت سلبه من أتاني به وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك بن أنس قال : الشطرنج من النرد بلغنا عن ابن عباس أنه ولي مال يتيم فأحرقها وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي جعفر أنه سئل عن الشطرنج فقال : تلك المجوسية فلا تلعبوا بها وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله ] وأخرج أحمد عن عبد الرحيم الخطمي سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم فيصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي ] وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عمر قال : اللاعب بالنرد قمارا كآكل لحم الخنزير واللاعب بها من غير قمار كالمدهن بودك الخنزير وأخرج ابن أبي الدنيا عن يحيى بن كثير قال : [ مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوم يلعبون بالنرد فقال قلوب لاهية وأيدي عليلة وألسنة لاغية ] وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن قتادة قال : الميسر القمار وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طريق ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد قالوا : كل شيء فيه قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن ابن سيرين قال : القمار من الميسر وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن يزيد بن شريح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ثلاث من الميسر : الصفير بالحمام والقمار والضرب بالكعاب ] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأنصاب حجارة كانوا يذبحون لها والأزلام قداح كانوا يستقسمون بها الأمور وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : كانت لهم حصيات إذا أراد أحدهم أن يغزو أو يجلس استقسم بها وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الأزلام قال : هي كعاب فارس التي يقتمرون بها وسهام العرب وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم الخمر وشاربها والوعيد الشديد عليه وأن كل مسكر حرام وهي مدونة في كتب الحديث فلا نطول المقام بذكرها فلسنا بصدد ذلك بل نحن بصدد ما هو متعلق بالتفسير (2/108)
قوله : 94 - { ليبلونكم } أي ليختبرنكم واللام جواب قسم محذوف كان الصيد أحد معايش العرب فابتلاهم الله بتحريمه مع الإحرام وفي الحرم كما ابتلى بني إسرائيل أن لا يعتدوا في السبت وكان نزول الآية في عام الحديبية أحرم بعضهم وبعضهم لم يحرم فكان إذا عرض صيد اختلفت فيه أحوالهم
وقد اختلف العلماء في المخاطبين بهذه الآية هل هم المحلون أو المحرمون ؟ فذهب إلى الأول مالك وإلى الثاني ابن عباس والراجح أن الخطاب للجميع ولا وجه لقصره على البعض دون البعض و من في { من الصيد } للتبعيض وهو صيد البر قاله ابن جرير الطبري وغيره وقيل إن من بيانية : أي شيء حقير من الصيد وتنكير شيء للتحقير قوله : { تناله أيديكم ورماحكم } قرأ ابن وثاب { يناله } بالياء التحتية هذه الجملة تقتضي تعميم الصيد وأنه لا فرق بين ما يؤخذ باليد وهو ما لا يطيق الفرار كالصغار والبيض وبين ما تناله الرماح : وهو ما يطيق الفرار وخص الأيدي بالذكر : لأنها أكثر ما يتصرف به الصائد في أخذ الصيد وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم الآلات للصيد عند العرب قوله : { ليعلم الله من يخافه بالغيب } أي ليتميز عند الله من يخافه منكم بسبب عقابه الأخروي فإنه غائب عنكم غير حاضر { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } أي بعد هذا البيان الذي امتحنكم الله به لأن الاعتداء بعد العلم بالتحريم معاندة لله سبحانه وتجرئة عليه (2/112)
قوله : 95 - { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } نهاهم عن قتل الصيد في حال الإحرام وفي معناه { غير محلي الصيد وأنتم حرم } وهذا النهي شامل لكل أحد من ذكور المسلمين وإناثهم لأنه يقال رجل حرام وامرأة حرام والجمع حرم وأحرم الرجل : دخل في الحرم قوله : { ومن قتله منكم متعمدا } المتعمد : هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام والمخطئ : هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا والناسي : هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه وقد استدل ابن عباس وأحمد في رواية وداود عنه باقتصاره سبحانه على العامد بأنه لا كفارة على غيره بل لا تجب إلا عليه وحده وبه قال سعيد بن جبير وطاوس وأبو ثور وقيل إنها تلزم الكفارة المخطئ والناسي كما تلزم المتعمد وجعلوا قيد التعمد خارجا مخرج الغالب روي عن عمر والحسن والنخعي والزهري وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وروي عن ابن عباس وقيل إنه يجب التكفير على العامد الناسي لإحرامه وبه قال مجاهد قال : فإن كان ذاكرا لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها قوله : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } أي فعليه جزاء مماثل لما قتله و { من النعم } بيان للجزاء المماثل قيل المراد المماثلة في القيمة وقيل في الخلقة وقد ذهب إلى الأول أبو حنيفة وذهب إلى الثاني مالك والشافعي وأحمد والجمهور وهو الحق لأن البيان للمماثل بالنعم يفيد ذلك وكذلك يفيده هديا بالغ الكعبة وروي عن أبي حنيفة أنه يجوز إخراج القيمة ولو وجد المثل وأن المحرم مخير وقرئ { فجزاء مثل ما قتل } وقرئ { فجزاء مثل } على إضافة جزاء إلى مثل وقرئ بنصبهما على تقدير فليخرج جزاء مثل ما قتل وقرأ الحسن { النعم } بسكون العين تخفيفا { يحكم به } أي بالجزاء أو بمثل ما قتل { ذوا عدل منكم } أي رجلان معروفان بالعدالة بين المسلمين فإذا حكما بشيء لزم وإن اختلفا رجع إلى غيرهما ولا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين وقيل يجوز وبالأول قال أبو حنيفة وبالثاني قال الشافعي في أحد قوليه : وظاهر الآية يقتضي حكمين غير الجاني قوله : { هديا بالغ الكعبة } نصب هديا على الحال أو البدل من مثل و { بالغ الكعبة } صفة لهديا لأن الإضافة غير حقيقية والمعنى أنهما إذا حكما بالجزاء فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإرسال إلى مكة والنحر هنالك والإشعار والتقليد ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها وإنما أراد الحرم ولا خلاف في هذا قوله : { أو كفارة } معطوف على محل من النعم : وهو الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف و { طعام مساكين } عطف بيان لكفارة أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف { أو عدل ذلك } معطوف على طعام وقيل هو معطوف على جزاء وفيه ضعف فالجاني مخير بين هذه الأنواع المذكورة وعدل الشيء ما عادله من غير جنسه و { صياما } منصوب على التمييز وقد قرر العلماء عدل كل صيد من الإطعام والصيام وقد ذهب إلى أن الجاني يخير بين الأنواع المذكورة جمهور العلماء وروي عن ابن عباس أنه لا يجزئ المحرم الإطعام والصوم إلا إذا لم يجد الهدي والعدل بفتح العين وكسرها لغتان وهما الميل قاله الكسائي وقال الفراء : عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه وبفتح العين مثله من غير جنسه وبمثل قول الكسائي قال البصريون قوله : { ليذوق وبال أمره } عليه لإيجاب الجزاء : أي أوجبنا ذلك عليه ليذوق وبال أمره والذوق مستعار لإدراك المشقة ومثله { ذق إنك أنت العزيز الكريم } والوبال : سوء العاقبة والمرعى الوبيل : الذي يتأذى به بعد أكله وطعام وبيل : إذا كان ثقيلا قوله : { عفا الله عما سلف } يعني في جاهليتكم من قتلكم للصيد وقيل عما سلف قبل نزول الكفارة { ومن عاد } إلى ما نهيتم عنه من قتل الصيد بعد هذا البيان { فينتقم الله منه } خبر مبتدأ محذوف : أي فهو ينتقم الله منه قيل المعنى : إن الله ينتقم منه في الآخرة فيعذبه بذنبه وقيل ينتقم منه بالكفارة قال شريح وسعيد بن جبير : يحكم عليه في أول مرة فإذا عاد لم يحكم عليه بل يقال له : اذهب ينتقم الله منك : أي ذنبك أعظم من أن يكفر (2/113)
قوله : 96 - { أحل لكم صيد البحر } الخطاب لكل مسلم أو للمحرمين خاصة وصيد البحر ما يصاد فيه والمراد بالبحر هنا كل ماء يوجد فيه صيد بحري وإن كان نهرا أو غديرا قوله : { وطعامه متاعا لكم وللسيارة } الطعام لكل ما يطعم وقد تقدم وقد اختلف في المراد به هنا فقيل : هو ما قذف به البحر وطفا عليه وبه قال كثير من الصحابة والتابعين وقيل طعامه ما ملح منه وبقي وبه قال جماعة وروي عن ابن عباس وقيل طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره وبه قال قوم وقيل المراد به ما يطعم من الصيد : أي ما يحل أكله وهو السمك فقط وبه قالت الحنفية والمعنى : أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأحل لكم المأكول منه وهو السمك فيكون التخصيص بعد التعميم وهو تكلف لا وجه له ونصب متاعا على أنه مصدر : أي متعتم به متاعا وقيل مفعول له مختص بالطعام : أي أحل لكم طعام البحر متاعا وهو تكلف جاء به من قال بالقول الأخير بل إذا كان مفعولا له كان من الجميع : أي أحل لكم مصيد البحر وطعامه تمتيعا لكم : أي لمن كان مقيما منكم يأكله طريا { وللسيارة } أي المسافرين منكم يتزودونه ويجعلونه قديدا وقيل السيارة : هم الذين يركبونه خاصة قوله : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } أي حرم عليكم ما يصاد في البر ما دمتم محرمين وظاهره تحريم صيده على المحرم ولو كان الصائد حلالا وإليه ذهب الجمهور إن كان الحلال صاده للمحرم لا إذا لم يصده لأجله وهو القول الراجح وبه يجمع بين الأحاديث وقيل إنه يحل له مطلقا وإليه ذهب جماعة : وقيل يحرم عليه مطلقا وإليه ذهب آخرون وقد بسطنا هذا في شرحنا للمنتقي قوله : { واتقوا الله الذي إليه تحشرون } أي اتقوا الله فيما نهاكم عنه الذي إليه تحشرون لا إلى غيره وفيه تشديد ومبالغة في التحذير وقرئ { وحرم عليكم صيد البر } بالبناء للفاعل وقرئ { ما دمتم } بكسر الدال (2/114)
قوله : 97 - { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس } جعل هنا بمعنى خلق وسميت الكعبة كعبة لأنها مربعة والتكعيب التربيع وأكثر بيوت العرب مدورة لا مربعة وقيل سميت كعبة لنتوئها وبروزها وكل بارز كعب مستديرا كان أو غير مستدير ومنه كعب القدم وكعوب القنا وكعب ثدي المرأة و { البيت الحرام } عطف بيان وقيل مفعول ثان ولا وجه له وسمي بيتا لأن له سقوفا وجدرا وهي حقيقة البيت وإن لم يكن به ساكن وسمي حراما لتحريم الله سبحانه إياه وقوله : { قياما للناس } كذا قرأ الجمهور وقرأ ابن عامر { قيما } وهو منصوب على أنه المفعول الثاني إن كان جعل هو المتعدي إلى مفعولين وإن كان بمعنى خلق كما تقدم فهو منتصب على الحال ومعنى كونه قياما : أنه مدار لمعاشهم ودينهم : أي يقومون فيه بما يصلح دينهم ودنياهم : يأمن فيه خفائفهم وينصر فيه ضعيفهم ويربح فيه تجارهم ويتعبد فيه متعبدهم قوله : { والشهر الحرام } عطف على الكعبة وهو ذو الحجة وخصه من بين الأشهر الحرم لكونه زمان تأدية الحج وقيل هو اسم جنس والمراد به الأشهر الحرم ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب فإنهم كانوا لا يطلبون فيها دما ولا يقاتلون بها عدوا ولا يهتكون فيها حرمة فكانت من هذه الحيثية قياما للناس { والهدي والقلائد } أي وجعل الله الهدي والقلائد قياما للناس والمراد بالقلائد : ذوات القلائد من الهدي ولا مانع من أن يراد بالقلائد أنفسها والإشارة بذلك إلى الجعل : أي ذلك الجعل { لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض } أي لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل أمر السموات والأرض ويعلم مصالحكم الدينية والدنيوية فإنها من جملة ما فيهما فكل ما شرعه لكم فهو جلب لمصالحكم ودفع لما يضركم { وأن الله بكل شيء عليم } هذا تعميم بعد التخصيص (2/115)
98 - { اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم } ثم أمرهم بأن يعلموا بأن الله لمن انتهك محارمه ولم يتب عن ذلك شديد العقاب وأنه لمن تاب وأناب غفور رحيم (2/116)
99 - { ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } ثم أخبرهم أن ما على رسوله إلا البلاغ لهم فإن لم يمتثلوا ويطيعوا فما ضروا إلا أنفسهم وما جنوا إلا عليها وأما الرسول عليه الصلاة و السلام فقد فعل ما يجب عليه وقام بما أمره الله به
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { ومن قتله منكم متعمدا } قال : إن قتله متعمدا أو ناسيا أو خطأ حكم عليه فإن عاد متعمدا عجلت له العقوبة إلا أن يعفو الله عنه وفي قوله : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } قال : إذا قتل المحرم شيئا من الصيد حكم عليه فيه فإن قتل ظبيا أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فإن قتل أيلا ونحوه فعليه بقرة فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا فإن لم يجد صام عشرين يوما وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه فعليه بدنة فإن لم يجد أطعم ستين مسكينا فإن لم يجد صام ثلاثين يوما والطعام مد مد يشبعهم وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن الحكم أن عمر كتب أن يحكم عليه في الخطأ والعمد وأخرجا نحوه عن عطاء وقد روي نحو هذا عن جماعات من السلف من غير فرق بين العامد والخاطئ والناسي وروي عن آخرين اختصاص ذلك بالعامد
وللسلف في تقدير الجزاء المماثل وتقدير القيمة أقوال مبسوطة في مواطنها وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال في بيضة النعام : [ صيام يوم أو إطعام مسكين ] وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن ذكوان عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله وأخرج أيضا عن عائشة عنه صلى الله عليه و سلم نحوه وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه من طريق أبي المهزم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ في بيض النعام ثمنه ] وقد استنثى النبي صلى الله عليه و سلم من حيوانات الحرم الخمس الفواسق كما ورد ذلك في الأحاديث فإنه يجوز للمحرم أن يقتلها ولا شيء عليه وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم } ما لفظ ميتا فهو طعامه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي هريرة موقوفا مثله وأخرج أبو الشيخ عن أبي بكر الصديق نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة أن أبا بكر الصديق قال في قوله : { أحل لكم صيد البحر وطعامه } قال : صيد البحر ما تصطاده أيدينا وطعامه ما لاثه البحر وفي لفظ : كل ما فيه وفي لفظ : طعامه ميتته ويؤيد هذا ما في الصحيحين من حديث العنبرة التي ألقاها البحر فأكل الصحابة منها وقررهم رسول الله صلى الله عليه و سلم على ذلك وحديث هو : [ الطهور ماؤه والحل ميتته ] وحديث : [ أحل لكم ميتتان ودمان ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس } قال : قياما لدينهم ومعالم حجهم وأخرج ابن جرير عنه قال : قيامها أن يأمن من توجه إليها وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال : جعل الله الكعبة البيت الحرام والشهر الحرام قياما للناس يأمنون به في الجاهلية الأولى لا يخاف بعضهم من بعض حين يلقونهم عند البيت أو في الحرم أو في الشهر الحرام وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد } قال : حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية فكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يقرب وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه وكان الرجل لو لقي الهدي مقلدا وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر فحمته ومنعته من الناس وكان إذا نفر تقلد قلادة من الإذخر أو من السمر فتمنعه من الناس حتى يأتي أهله حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم { قياما للناس } قال : أمنا (2/116)
قيل المراد بالخبيث والطيب : الحرام والحلال وقيل المؤمن والكافر وقيل العاصي والمطيع وقيل الرديء والجيد والأولى أن الاعتبار بعموم اللفظ فيشمل هذه المذكورات وغيرها مما يتصف بوصف الخبث والطيب من الأشخاص والأعمال والأقوال فالخبيث لا يساوي الطيب بحال من الأحوال قوله : 100 - { ولو أعجبك كثرة الخبيث } قيل الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وقيل لكل مخاطب يصلح لخطابه بهذا والمراد نفي الاستواء في كل الأحوال ولو في حال كون الخبيث معجبا للرائي للكثرة التي فيه فإن هذه الكثرة مع الخبيث في حكم العدم لأن خبث الشيء يبطل فائدته ويمحق بركته ويذهب بمنفعته والواو إما للحال أو للعطف على مقدر : أي لا يستوي الخبيث والطيب لو لم تعجبك كثرة الخبيث ولو أعجبك كثرة الخبيث كقولك أحسن إلى فلان وإن أساء إليك : أي أحسن إليه إن لم يسيء إليك وإن أساء إليك وجواب لو محذوف : أي ولو أعجبك كثرة الخبيث فلا يستويان (2/117)
قوله : 101 - { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } أي لا تسألوا عن أشياء لا حاجة لكم بالسؤال عنها ولا هي مما يعنيكم في أمر دينكم فقوله : { إن تبد لكم تسؤكم } في محل جر صفة لأشياء : أي لا تسألوا عن أشياء متصفة بهذه الصفة من كونها إذا بدت لكم : أي ظهرت وكلفتم بها ساءتكم نهاهم الله عن كثرة مساءلتهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم فإن السؤال عما لا يعني ولا تدعو إليه حاجة قد يكون سببا لإيجابه على السائل وعلى غيره قوله : { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } هذه الجملة من جملة صفة أشياء والمعنى : لا تسألوا عن أشياء أن تسألوا عنها حين ينزل القرآن وذلك مع وجود رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أظهركم ونزول الوحي عليه { تبد لكم } أي تظهر لكم بما يجيب عليكم به النبي صلى الله عليه و سلم أو ينزل به الوحي فيكون ذلك سببا للتكاليف الشاقة وإيجاب ما لم يكن واجبا وتحريم ما لم يكن محرما بخلاف السؤال عنها بعد انقطاع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه لا إيجاب ولا تحريم يتسبب عن السؤال
وقد ظن بعض أهل التفسير أن الشرطية الثانية فيها إباحة السؤال مع وجود رسول الله صلى الله عليه و سلم ونزول الوحي عليه فقال : إن الشرطية الأولى أفادت عدم جواز السؤال والثانية أفادت جوازه فقال إن المعنى : وإن تسألوا عن غيرها مما مست إليه الحاجة تبد لكم بجواب رسول الله صلى الله عليه و سلم عنها وجعل الضمير في { عنها } راجعا إلى أشياء غير الأشياء المذكورة وجعل ذلك كقوله : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } وهو آدم ثم قال : { ثم جعلناه نطفة } أي ابن آدم قوله : { عفا الله عنها } أي عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى ذلك وقيل المعنى : إن تلك الأشياء التي سألتم عنها هي مما عفا عنه ولم يوجبه عليكم فكيف تتسببون بالسؤال لإيجاب ما هو عفو من الله غير لازم ؟ وضمير { عنها } عائد إلى المسألة الأولى وإلى أشياء على الثاني على أن تكون جملة { عفا الله عنها } صفة ثالثة لأشياء والأول أولى لأن الثاني يستلزم أن يكون ذلك المسؤول عنه قد شرعه الله ثم عفا عنه ويمكن أن يقال إن العفو بمعنى الترك : أي تركها الله ولم يذكرها بشيء فلا تبحثوا عنها وهذا معنى صحيح لا يستلزم ذلك اللازم الباطل ثم جاء سبحانه بصيغة المبالغة في كونه غفورا حليما ليدل بذلك على أنه لا يعاجل من عصاه بالعقوبة لكثرة مغفرته وسعة حلمه (2/118)
قوله : 102 - { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } الضمير يرجع إلى المسألة المفهومة من { لا تسألوا } لكن ليست هذه المسألة بعينها بل مثلها في كونها مما لا حاجة إليه ولا توجبه الضرورة الدينية ثم لم يعملوا بها بل أصبحوا بها كافرين : أي ساترين لها تاركين للعمل بها وذلك كسؤال قوم صالح الناقة وأصحاب عيسى المائدة ولا بد من تقييد النهي في هذه الآية بما لا تدعو إليه حاجة كما قدمنا لأن الأمر الذي تدعو الحاجة إليه في أمور الدين والدنيا قد أذن الله بالسؤال عنه فقال : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وقال صلى الله عليه و سلم : [ قاتلهم الله ألا سألوا فإنما شفاء العي السؤال ] (2/119)
قوله : 103 - { ما جعل الله من بحيرة } هذا كلام مبتدأ يتضمن الرد على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه وجعل ههنا بمعنى سمى كما قال { إنا جعلناه قرآنا عربيا } والبحيرة : فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة والذبيحة وهي مأخوذة من البحر وهو شق الأذن قال ابن سيده : البحيرة هي التي خليت بلا راع قيل هي التي يجعل درها للطواغيت فلا يحتلبها أحد من الناس وجعل شق أذنها علامة لذلك وقال الشافعي : كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت وقيل إن الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإن كان الخامس ذكرا بحروا أذنه فأكله الرجال والنساء وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها وقيل إذا نتجت الناقة خمسة أبطن من غير تقييد بالإناث شقوا أذنها وحرموا ركوبها ودرها والسائبة : الناقة تسيب أو البعير يسيب نذر على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله فلا يحبس عن رعي ولا ماء ولا يركبه أحد قاله أبو عبيد قال الشاعر :
( وسائبة لله تنمي تشكرا ... إن الله عافى عامرا ومجاشعا )
وقيل هي التي تسيب لله فلا قيد عليها ولا راعي لها ومنه قول الشاعر :
( عقرتم ناقة كانت لربي ... مسيبة فقوموا للعقاب )
وقيل هي التي تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر فعند ذلك لا يركب ظهرها ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف وقيل كانوا يسيبون العبد فيذهب حيث يشاء لا يد عليه لأحد والوصيلة : قيل هي الناقة إذا ولدت أنثى بعد أنثى وقيل هي الشاة كانت إذا ولدت أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم وقيل كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكرا ذبح فأكل منه الرجال والنساء وإن كانت أنثى تركت في الغنم وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبح لمكانها وكان لحمها حراما على النساء إلا أن يموت فيأكلها الرجال والنساء والحام : الفحل الحامي ظهره عن أن يركب وكانوا إذا ركب ولد الفحل قالوا حمى ظهره فلا يركب قال الشاعر :
( حماها أبو قابوس في عز ملكه ... كما قد حمى أولاده الفحل ) (2/119)
وقيل هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم ما قالوا ذلك إلا افتراء على الله وكذبا لا لشرع شرعه الله لهم ولا لعقل دلهم عليه وسبحان الله العظيم ما أرك عقول هؤلاء وأضعفها يفعلون هذه الأفاعيل التي هي محض الرقاعة ونفس الحمق 104 - { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } وهذه أفعال آبائهم وسننهم التي سنوها لهم وصدق الله سبحانه حيث يقول : { أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون } أي ولو كانوا جهلة ضالين والواو للحال دخلت عليها همزة الاستفهام وقيل للعطف على جملة مقدرة : أي أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في البقرة وقد صارت هذه المقالة التي قالتها الجاهلية نصب أعين المقلدة وعصاهم التي يتوكأون عليها إن دعاهم داعي الحق وصرخ لهم صارخ الكتاب والسنة فاحتجاجهم بمن قلدوه ممن هو مثلهم في التعبد بشرع الله مع مخالفة قوله لكتاب الله أو لسنة رسوله هو كقول هؤلاء وليس الفرق إلا في مجرد العبارة اللفظية لا في المعنى الذي عليه تدور الإفادة والاستفادة اللهم غفرا
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية : قال الخبيث هم المشركون والطيب هم المؤمنون وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال : [ خطب النبي صلى الله عليه و سلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال رجل : من أبي ؟ فقال فلان فنزلت هذه الآية : { لا تسألوا عن أشياء } ] وأخرج البخاري وغيره نحوه من حديث ابن عباس وقد بين هذا السائل في روايات أخر أنه عبد الله بن حذافة وأنه قال : من أبي ؟ قال النبي صلى الله عليه و سلم : أبوك حذافة وأخرج ابن حبان عن أبي هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب فقال : ياأيها الناس إن الله قد افترض عليكم الحج فقام رجل فقال : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت عنه فأعادها ثلاث مرات فقال : لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ] وذلك أن هذه الآية : أعني { لا تسألوا عن أشياء } نزلت في ذلك وقد أخرج عنه نحو هذا ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه أيضا وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم وابن مردويه عن علي نحوه وكل هؤلاء صرحوا في أحاديثهم أن الآية نزلت في ذلك وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال : كانوا يسألون عن الشيء وهو لهم حلال فما زالوا يسألون حتى يحرم عليهم وإذا حرم عليهم وقعوا فيه وأخرج ابن المنذر عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله حد حدودا فلا تعتدوها وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها ] وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { لا تسألوا عن أشياء } قال : البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ولا يجلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر والحامي فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس فإن كان ذكرا ذبحوه فأكله الرجال دون النساء وإن كانت أنثى جدعوا آذانها فقالوا هذه بحيرة وأما السائبة فكانوا يسيبون من أنعامهم لآلهتهم لا يركبون لها ظهرا ولا يحلبون لها لبنا ولا يجزون لها وبرا ولا يحملون عليها شيئا وأما الوصيلة فالشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع فإن كان ذكرا أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء وإن كانت أنثى استحيوها وإن كان ذكرا أو أنثى في بطن استحيوهما وقالوا وصلته أخته فحرمته علينا وأما الحام فالفحل من الإبل إذا ولد لولده قالوا : حمى هذا ظهره فلا يحملون عليه شيئا ولا يجزون له وبرا ولا يمنعونه من حمى ولا من حوض يشرب منه وإن كان الحوض لغير صاحبه وأخرج نحوه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق العوفي (2/120)
أي الزموا أنفسكم أو احفظوها كما تقول عليك زيدا : أي الزمه قرئ 105 - { لا يضركم } بالجزم على أنه جواب الأمر الذي يدل عليه اسم الفعل وقرأ نافع وغيره بالرفع على أنه مستأنف كقول الشاعر :
( فقال رائدهم أرسوا نزاولها )
أو على أن ضم الراء للاتباع وقرئ { لا يضركم } بكسر الضاد وقرئ لا يضيركم والمعنى : لا يضركم ضلال من ضل من الناس إذا اهتديتم للحق أنتم في أنفسكم وليس في الآية ما يدل على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن من تركه مع كونه من أعظم الفروض الدينية فليس بمهتد وقد قال الله سبحانه { إذا اهتديتم } وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبا مضيقا متحتما فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال أو يخشى على نفسه أن يحل به ما يضره ضررا يسوغ له معه الترك { إلى الله مرجعكم } يوم القيامة { فينبئكم بما كنتم تعملون } في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته
وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والدارقطني والضياء في المختارة وغيرهم عن قيس بن أبي حازم قال : قام أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه وقال : يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وإنكم تضعونها على غير مواضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ] وفي لفظ لابن جرير عنه : [ والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله منه بعقاب ] وأخرج الترمذي وصححه وابن ماجة وابن جرير والبغوي في معجمه وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي أمية الشعثاني قال : [ أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية ؟ قال : أية آية ؟ قلت : قوله { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : بل ائتمروا بالمعروف
وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم ] وفي لفظ [ قيل : يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم ؟ قال : بل أجر خمسين منكم ] وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه [ عن عامر الأشعري أنه كان فيهم أعمى فاحتبس على رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أتاه فقال : ما حبسك ؟ قال : يا رسول الله قرأت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } قال : فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : أين ذهبتم ؟ إنما هي لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ] وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ عن الحسن : أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله : { عليكم أنفسكم } فقال : يا أيها الناس إنه ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال : فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن
حيد عنه في الآية قال : [ مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف فإذا كان كذلك فعليكم أنفسكم ] وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر أنه قال في هذه الآية : إنها لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن رجل قال : كنت في خلافة عمر بن الخطاب بالمدينة في حلقة فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا فيهم شيخ حسبت أنه قال أبي بن كعب فقرأ { عليكم أنفسكم } فقال : إنما تأويلها في آخر الزمان وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن أبي مازن قال : انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة فإذا قوم جلوس فقرأ أحدهم { عليكم أنفسكم } فقال أكثرهم : لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال : كنت في حلقة فيها أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وإني لأصغر القوم فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقلت : أليس الله يقول : { عليكم أنفسكم } ؟ فأقبلوا علي بلسان واحد فقالوا : تنزع آية من القرآن لا نعرفها ولا ندري ما تأويلها ؟ حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت ثم أقبلوا يتحدثون فلما حضر قيامهم قالوا : إنك غلام حدث السن وإنك نزعت آية لا ندري ما هي ؟ وعسى أن تدرك ذلك الزمان : إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحو حديث أبي ثعلبة الخشني المتقدم وفي آخره : [ كأجر خمسين رجلا منكم ] وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : ذكرت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لم يجئ تأويلها لا يجيء تأويلها حتى يهبط عيسى ابن مريم عليه السلام ] والروايات في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية ففيه ما يرشد إلى ما قدمناه من الجمع بين هذه الآية وبين الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2/122)
قال مكي : هذه الآيات الثالث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما قال ابن عطية : هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها وذلك بين من كتابه رحمه الله : يعني من كتاب مكي قال القرطبي : ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا قال السعد في حاشيته على الكشاف : واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعرابا ونظما وحكما قوله : 106 - { شهادة بينكم } أضاف الشهادة إلى البين توسعا لأنها جارية بينهم وقيل أصله شهادة ما بينكم فحذفت ما وأضيفت إلى الظرف كقوله تعالى : { بل مكر الليل والنهار } ومنه قول الشاعر :
( تصافح من لاقيت لي ذا عداوة ... صفايا وعني بين عينيك منزوي )
أراد ما بين عينيك ومثله الآخر :
( ويوما شهدناه سليما وعامرا )
أي شهدنا فيه ومنه قوله تعالى : { هذا فراق بيني وبينك } قيل والشهادة هنا بمعنى الوصية وقيل بمعنى الحضور للوصية وقال ابن جرير الطبري : هي هنا بمعنى اليمين فيكون المعنى : يمين ما بينكم أن يحلف اثنان واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم لله حكما يجب فيه على الشاهد يمين واختار هذا القول القفال وضعف ذلك ابن عطية واختار أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود قوله : { إذا حضر أحدكم الموت } ظرف للشهادة والمراد إذا حضرت علاماته لأن من مات لا يمكنه الإشهاد وتقديم المفعول للاهتمام ولكمال تمكن الفاعل عند النفس وقوله : { حين الوصية } ظرف لحضر أو للموت أو بدل من الظرف الأول وقوله : { اثنان } خبر شهادة على تقدير محذوف : أي شهادة اثنين أو فاعل للشهادة على أن خبرها محذوف : أي فيما فرض عليكم شهادة بينكم اثنان على تقدير أن يشهد اثنان ذكر الوجهين أبو علي الفارسي قوله : { ذوا عدل منكم } صفة للاثنان وكذا منكم : أي كائنان منكم : أي من أقاربكم { أو آخران } معطوف على { اثنان } و { من غيركم } صفة له : أي كائنان من الأجانب وقيل إن الضمير في { منكم } للمسلمين وفي { غيركم } للكفار وهو الأنسب لسياق الآية وبه قال أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس وغيرهما فيكون في الآية دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر في خصوص الوصايا كما يفيده النظم القرآني ويشهد له السبب للنزول وسيأتي فإذا لم يكن مع الموصي من يشهد على وصيته من المسلمين فليشهد رجلان من أهل الكفر فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا وأن ما شهدا به حق فيحكم حينئذ بشهادتهم { فإن عثر } بعد ذلك { على أنهما } كذا أو خانا حلف رجلان من أولياء الموصي وغرم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما من خيانة أو نحوها هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبو مجلز والنخعي وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي والثوري وأبو عبيد وأحمد بن حنبل وذهب إلى الأول : أعني تفسير ضمير { منكم } بالقرابة أو العشيرة وتفسير { من غيركم } بالأجانب الزهري والحسن وعكرمة وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء أن الآية منسوخة واحتجوا بقوله : { ممن ترضون من الشهداء } وقوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } فهما عامان في الأشخاص والأزمان والأحوال وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين ولا تعارض بين عام وخاص قوله : { إن أنتم } هو فاعل فعل محذوف يفسره ضربتم أو مبتدأ وما بعده خبره والأول مذهب الجمهور من النحاة والثاني مذهب الأخفش والكوفيين والضرب في الأرض هو السفر وقوله : { فأصابتكم مصيبة الموت } معطوف على ما قبله وجوابه محذوف أي إن ضربتم في الأرض فنزل بكم الموت وأردتم الوصية ولم تجدوا شهودا عليها مسلمين ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم وبما تركتم فارتابوا في أمرهما وادعوا عليهما خيانة فالحكم أن تحبسوهما ويجوز أن يكون استئنافا لجواب سؤال مقدر كأنهم قالوا : فكيف نصنع إن ارتبنا في الشهادة ؟ فقال : تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم في شهادتهما وخص بعد الصلاة : أي صلاة العصر قاله الأكثر لكونه الوقت الذي يغضب الله على من حلف فيه فاجرا كما في الحديث الصحيح وقيل لكونه وقت اجتماع الناس وقعود الحكام للحكومة وقيل صلاة الظهر وقيل أي صلاة كانت قال أبو علي الفارسي : { تحبسونهما } صفة لآخران واعترض بين الصفة والموصوف بقوله : { إن أنتم ضربتم في الأرض } والمراد بالحبس : توقيف الشاهدين في ذلك الوقت لتحليفهما وفيه دليل على جواز الحبس بالمعنى العام وعلى جواز التغليظ على الحالف بالزمان والمكان ونحوهما قوله : { فيقسمان بالله } معطوف على { تحبسونهما } أي يقسم بالله الشاهدان على الوصية أو الوصيان
وقد استدل بذلك ابن أبي ليلى على تحليف الشاهدين مطلقا إذا حصلت الريبة في شهادتهما وفيه نظر لأن تحليف الشاهدين هنا إنما هو لوقوع الدعوى عليهما بالخيانة أو نحوها قوله : { إن ارتبتم } جواب هذا الشرط محذوف دل عليه ما تقدم كما سبق قوله : { لا نشتري به ثمنا } جواب القسم والضمير في { به } راجع إلى الله تعالى والمعنى : لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض النزر فنحلف به كاذبين لأجل المال الذي ادعيتموه علينا وقيل يعود إلى القسم : أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من أعراض الدنيا وقيل يعود إلى الشهادة وإنما ذكر الضمير لأنها بمعنى القول : أي لا نستبدل بشهادتنا ثمنا قال الكوفيون : المعنى ذا ثمن فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وهذا مبني على أن العروض لا تسمى ثمنا وعند الأكثر أنها تسمى ثمنا كا تسمى مبيعا قوله : { ولو كان ذا قربى } أي ولو كان المقسم له أو المشهود له قريبا فإنا نؤثر الحق والصدق ولا نؤثر العرض الدنيوي ولا القرابة وجواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه : أي ولو كان ذا قربى لا نشتري به ثمنا قوله : { ولا نكتم شهادة الله } معطوف على { لا نشتري } داخل معه في حكم القسم وأضاف الشهادة إلى الله سبحانه لكونه الآمر بإقامتها والناهي عن كتمها (2/125)
قوله : 107 - { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } عثر على كذا : اطلع عليه يقال عثرت منه على خيانة : أي اطلعت وأعثرت غيري عليه ومنه قوله تعالى : { وكذلك أعثرنا عليهم } وأصل العثور الوقوع والسقوط على الشيء ومنه قول الأعشى :
( بذات لوث عصرنا إذ عثرت ... فالتعس أولى لها من أن أقول لعا )
والمعنى : أنه إذا اطلع بعد التحليف على أن الشاهدين أو الوصيين استحقا إثما : أي استوجبا إثما إما بكذب في الشهادة أو اليمين أو بظهور خيانة قال أبو علي الفارسي : الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ لأن آخذه يأثم بأخذه فسمي إثما كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة وقال سيبويه : المظلمة اسم ما أخذ منك فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر قوله : { فآخران يقومان مقامهما } أي فشاهدان آخران أو فحالفان آخران يقومان مقام اللذين عثر على أنهما استحقا إثما فيشهدان أو يحلفان على ما هو الحق وليس المراد أنهما يقومان مقامهما في أداء الشهادة التي شهدها المستحقان للإثم قوله : { من الذين استحق عليهم الأوليان } استحق مبني للمفعول في قراءة الجمهور : وقرأ علي وأبي وابن عباس وحفص على البناء للفاعل و { الأوليان } على القراءة الأولى مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هما الأوليان كأنه قيل من هما ؟ فقيل هما الأوليان وقيل هو بدل من الضمير في يقومان أو من آخران وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة { الأولين } جمع أول على أنه بدل من الذين أو من الهاء والميم في عليهم وقرأ الحسن { الأوليان } والمعنى على بناء الفعل للمفعول : من الذين استحق عليهم الإثم : أي جنى عليهم وهم أهل الميت وعشيرته فإنهم أحق بالشهادة أو اليمين من غيرهم فالأوليان تثنية أولى والمعنى على قراءة البناء للفاعل : من الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين لكونهما الأقربين إلى الميت فالأوليان فاعل استحق ومفعوله أن يجردوهما للقيام بالشهادة وقيل المفعول محذوف والتقدير : من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها قوله : { فيقسمان بالله } عطف على { يقومان } : أي فيحلفان بالله لشهادتنا : أي يميننا فالمراد بالشهادة هنا اليمين كما في قوله تعالى : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } أي يحلفان لشهادتنا على أنهما كاذبان خائنان أحق من شهادتهما : أي من يمينهما على أنهما صادقان أمينان { وما اعتدينا } أي تجاوزنا الحق في يميننا { إنا إذا لمن الظالمين } إن كنا حلفنا على باطل (2/127)
قوله : 108 - { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } أي ذلك البيان الذي قدمه الله سبحانه في هذه القصة وعرفنا كيف يصنع من أراد الوصية في السفر ؟ ولم يكن عنده أحد من أهله وعشيرته وعنده كفار { أدنى } أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود المتحملون للشهادة على الوصية بالشهادة على وجهها فلا يحرفوا ولا يبدلوا ولا يخونوا وهذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر المنفعة والفائدة في هذا الحكم الذي شرعه الله في هذا الموضع من كتابه فالضمير في { يأتوا } عائد إلى شهود الوصية من الكفار وقيل إنه راجع إلى المسلمين المخاطبين بهذا الحكم والمراد تحذيرهم من الخيانة وأمرهم بأن يشهدوا الحق قوله : { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } أي ترد على الورثة فيحلفون على خلاف ما شهد به شهود الوصية فيفتضح حينئذ شهود الوصية وهو معطوف على قوله : { أن يأتوا } فتكون الفائدة في شرع الله سبحانه لهذا الحكم هي أحد الأمرين : إما احتراز شهود الوصية عن الكذب والخيانة فيأتون بالشهادة على وجهها أو يخافوا الافتضاح إذا ردت الأيمان على قرابة الميت فحلفوا بما يتضمن كذبهم أو خيانتهم فيكون ذلك سببا لتأدية شهادة شهود الوصية على وجهها من غير كذب ولا خيانة وقيل إن { يخافوا } معطوف على مقدر بعد الجملة الأولى والتقدير : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة بسبب الكذب والخيانة أو يخافوا الافتضاح برد اليمين فأي الخوفين وقع حصل المقصود { واتقوا الله } في مخالفة أحكامه { والله لا يهدي القوم الفاسقين } الخارجين عن طاعته بأي ذنب ومنه الكذب في اليمين أو الشهادة
وحاصل ما تضمنه هذا المقام من الكتاب العزيز أن من حضرته علامات الموت أشهد على وصيته عدلين من عدول المسلمين فإن لم يجد شهودا مسلمين وكان في سفر ووجد كفارا جاز له أن يشهد رجلين منهم على وصيته فإن ارتاب بهما ورثة الموصي حلفا بالله على أنهما شهدا بالحق وما كتما من الشهادة شيئا ولا خانا مما تركه الميت شيئا فإن تبين بعد ذلك خلاف ما أقسما عليه من خلل في الشهادة أو ظهور شيء من تركة الميت زعما أنه قد صار في ملكهما بوجه من الوجوه حلف رجلان من الورثة وعمل بذلك
وقد أخرج الترمذي وضعفه وابن جرير وابن أبي حاتم والنحاس في تاريخه وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر وهو الكلبي عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } قال : برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو عظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله قال تميم : فلما أخذنا ذلك الجامع فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا : ما ترك غير هذا أو ما دفع إلينا غيره قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } إلى قوله : { أن ترد أيمان بعد أيمانهم } فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدي بن بداء وفي إسناده أبو النضر وهو محمد بن السائب الكلبي صاحب التفسير قال الترمذي : تركه أهل العلم بالحديث وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والنحاس والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخرصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه و سلم بالله ما كتمتماها ولا أطلعتما ثم وجدوا الجام بمكة فقيل : اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم وأخذوا الجام قال : وفيهم نزلت { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } الآية وفي إسناده محمد بن أبي القاسم الكوفي قال الترمذي : قيل إنه صالح الحديث وقد روى ذلك أبو داود من طريقه وقد روى جماعة من التابعين أن هذه القصة هي السبب في نزول الآية وذكرها المفسرون في تفاسيرهم وقال القرطبي : إنه أجمع أهل التفسير على أن هذه القصة هي سبب نزول الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } الآية قال : هذا لمن مات وعنده المسلمون أمره الله أن يشهد على وصيته عدلين مسلمين ثم قال : { أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض } فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين أمر الله بشهادة رجلين من غير المسلمين فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بالله بعد الصلاة ما اشتريا بشهادتهما ثمنا قليلا فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما وثم رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة فذلك قوله : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } يقول : إن اطلع على أن الكافرين كذبا { ذلك أدنى أن } يأتي الكفاران { بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } فتترك شهادة الكافرين ويحكم بشهادة الأولياء فليس على شهود المسلمين أقسام : إنما الأقسام إذا كانا كافرين وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية فقال : هذا رجل خرج مسافرا ومعه مال فأدركه قدره فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين فإن لم يجد عدلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب فإن أدى فسبيل ما أدى وإن جحد استحلف بالله الذي لا إله إلا هو دبر صلاة إن هذا الذي دفع إلي وما غيبت منه شيئا فإذا حلف بريء فإذا أتى بعد ذلك صاحبا الكتاب فشهدا عليه ثم ادعى القوم عليه من تسميتهم ما لهم جعلت أيمان الورثة مع شهادتهم ثم اقتطعوا حقه فذلك الذي يقول الله : { اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم } وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله : { أو آخران من غيركم } قال : من غير المسلمين من أهل الكتاب وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : هذه الآية منسوخة وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم في الآية قال : كان ذلك في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام وذلك في أول الإسلام والأرض حرب والناس كفار إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه بالمدينة وكان الناس يتوارثون بالوصية ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض وعمل المسلمون بها وأخرج ابن جرير أيضا عن الزهري قال : مضت السنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر إنما هي في المسلمين وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عبيدة في قوله : { تحبسونهما من بعد الصلاة } قال : صلاة العصر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { لا نشتري به ثمنا } قال : لا نأخذ به رشوة { ولا نكتم شهادة الله } وإن كان صاحبها بعيدا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } أي اطلع منهما على خيانة على أنهما كذبا أو كتما وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : { الأوليان } قال : بالميت وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قول : { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } يقول : ذلك أحرى أن يصدقوا في شهادتهم { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } يقول : وأن يخافوا العتب وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } قال : فتبطل أيمانهم وتؤخذ أيمان هؤلاء (2/128)
قوله : 109 - { يوم يجمع الله الرسل } العامل في الظرف فعل مقدر : أي اسمعوا أو اذكروا أو احذروا وقال الزجاج : هو منصوب بقوله : { واتقوا الله } المذكور في الآية الأولى وقيل بدل من مفعول { اتقوا } بدل اشتمال وقيل ظرف لقوله : { لا يهدي } المذكور قبله وقيل منصوب بفعل مقدر متأخر تقديره : { يوم يجمع الله الرسل } يكون من الأحوال كذا وكذا قوله : { ماذا أجبتم } أي أي إجابة أجابتكم به أممكم الذين بعثكم الله إليهم ؟ أو أي جواب أجابوكم به ؟ وعلى الوجهين تكون ما منصوبة بالفعل المذكور بعدها وتوجيه السؤال إلى الرسل لقصد توبيخ قومهم وجوابهم بقولهم : { لا علم لنا } مع أنهم عالمون بما أجابوا به عليهم تفويض منهم وإظهار للعجز وعدم القدرة ولا سيما مع علمهم بأن السؤال سؤال توبيخ فإن تفويض الجواب إلى الله أبلغ في حصول ذلك وقيل المعنى : لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وقيل لا علم لنا بما اشتملت عليه بواطنهم وقيل المعنى : لا علم لنا إلا علم ما أنت أعلم به منا وقيل إنهم ذهلوا عما أجاب به قومهم لهول المحشر (2/131)
قوله : 110 - { إذ قال الله يا عيسى ابن مريم } إذ بدل من يوم يجمع وهو تخصيص بعد التعميم وتخصيص عيسى عليه السلام من بين الرسل لاختلاف طائفتي اليهود والنصارى فيه إفراطا وتفريطا هذه تجعله إلها وهذه تجعله كاذبا وقيل هو منصوب بتقدير اذكر قوله : { اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } ذكره سبحانه نعمته عليه وعلى أمه مع كونه ذاكرا لها عالما بتفضل الله سبحانه بها لقصد تعريف الأمم بما خصهما الله به من الكرامة وميزهما به من علو المقام أو لتأكيد الحجة وتبكيت الجاحد بأن منزلتهما عند الله هذه المنزلة وتوبيخ من اتخذهما إلهين ببيان أن ذلك الإنعام عليهما كله من عند الله سبحانه وأنهما عبدان من جملة عباده منعم عليهما بنعم الله سبحانه ليس لهما من الأمر شيء قوله : { إذ أيدتك بروح القدس } إذ ظرف للنعمة لأنها بمعنى المصدر : أي اذكر إنعامي عليك وقت تأييدي لك أو حال من النعمة : أي كائنة ذلك الوقت { أيدتك } قويتك مأخوذ من الأيد وهو القوة وفي روح القدس وجهان : أحدهما أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها وقيل إنه جبريل عليه السلام وقيل إنه الكلام الذي يحيي به الأرواح والقدس : الطهر وإضافته إليه لكونه سببه وجملة { تكلم الناس } مبينة لمعنى التأييد و { في المهد } في محل نصب على الحال : أي تكلم الناس حال كونك صبيا وكهلا لا يتفاوت كلامك في الحالتين مع أن غيرك يتفاوت كلامه فيهما تفاوتا بينا وقوله : { وإذ علمتك الكتاب } معطوف على { إذ أيدتك } أي واذكر نعمتي عليك وقت تعليمي لك الكتاب : أي جنس الكتاب أو المراد بالكتاب الخط وعلى الأول يكون ذكر التوراة والإنجيل من عطف الخاص على العام وتخصيصهما بالذكر لمزيد اختصاصه بهما : أما التوراة فقد كان يحتج بها على اليهود في غالب ما يدور بينه وبينهم من الجدال كما هو مصرح بذلك في الإنجيل وأما الإنجيل فلكونه نازلا عليه من عند الله سبحانه والمراد بالحكمة جنس الحكمة وقيل هي الكلام المحكم { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير } أي تصور تصويرا مثل صورة الطير { بإذني } لك بذلك وتيسيري له { فتنفخ } في الهيئة المصورة { فتكون } هذه الهيئة { طائر } متحركا حيا كسائر الطيور { وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني } لك وتسهيله عليك وتيسيره لك وقد تقدم تفسير هذا مطولا في البقرة فلا نعيده { وإذ تخرج الموتى } من قبورهم فيكون ذلك آية لك عظيمة { بإذني } وتكرير بإذني في المواضع الأربعة للاعتناء بأن ذلك كله من جهة الله ليس لعيسى عليه السلام فيه فعل إلا مجرد امتثاله لأمر الله سبحانه قوله : { وإذ كففت } معطوف على { إذ تخرج } كففت معناه : دفعت وصرفت { بني إسرائيل عنك } حين هموا بقتلك { إذ جئتهم بالبينات } بالمعجزات الواضحات { فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر بين لما عظم ذلك في صدرهم وانبهروا منه لم يقدروا على جحده بالكلية بل نسبوه إلى السحر (2/132)
قوله : 111 - { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي } هو معطوف على ما قبله وقد تقدم تفسير ذلك والوحي في كلام العرب معناه الإلهام : أي ألهمت الحواريين وقذفت في قلوبهم وقيل معناه : أمرتهم على ألسنة الرسل أن يؤمنوا بي بالتوحيد والإخلاص ويؤمنوا برسالة رسولي قوله : { قالوا آمنا } جملة مستأنفة كأنه قيل ماذا قالوا ؟ فقال : قالوا آمنا { واشهد بأننا مسلمون } أي مخلصون للإيمان : أي واشهد يا رب أو واشهد يا عيسى
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم } فيفزعون فيقولون : { لا علم لنا } فترد إليهم أفئدتهم فيعلمون وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال : ذلك أنهم نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول فلما سئلوا قالوا : لا علم لنا ثم نزلوا منزلا آخر فشهدوا على قومهم وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : قالوا : لا علم لنا فرقا يذهل عقولهم ثم يرد الله إليهم عقولهم فيكونون هم الذين يسألون بقول الله : { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا كان يوم القيامة يدعى بالأنبياء وأممها ثم يدعى بعيسى فيذكره نعمته عليه فيقر بها فيقول : يا عيسى ابن مريم { اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } الآية ثم يقول أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ فينكر أن يكون قال ذلك فيؤتى بالنصارى فيسألون فيقولون نعم هو أمرنا بذلك فيطول شعر عيسى حتى يأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده فيجاثيهم بين يدي الله مقدار ألف عام حتى يوقع عليهم الحجة ويرفع لهم الصليب وينطلق بهم إلى النار ] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات } أي بالآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير وإبراء الأسقام والخبر بكثير من الغيوب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { وإذ أوحيت إلى الحواريين } يقول : قذفت في قلوبهم وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه (2/133)
قوله : 112 - { إذ قال الحواريون } الظرف منصوب بفعل مقدر : أي اذكر أو نحوه كما تقدم قيل والخطاب لمحمد صلى الله عليه و سلم قرأ الكسائي : { هل يستطيع } بالفوقية ونصب ربك وبه قرأ علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقرأ الباقون بالتحتية ورفع ربك واستشكلت القراءة الثانية بأنه قد وصف سبحانه الحواريون بأنهم قالوا : { آمنا واشهد بأننا مسلمون } والسؤال عن استطاعته لذلك ينافي ما حكوه عن أنفسهم وأجيب بأن هذا كان في أول معرفتهم قبل أن تستحكم معرفتهم بالله ولهذا قال عيسى في الجواب عن هذا الاستفهام الصادر منهم : { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } أي لا تشكوا في قدرة الله وقيل إنهم ادعوا الإيمان والإسلام دعوى باطلة ويرده أن الحواريين هم خلصاء عيسى وأنصاره كما قال : { من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله } وقيل إن ذلك صدر ممن كان معهم وقيل إنهم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه فإنهم كانوا مؤمنين عارفين بذلك وإنما هو كقول الرجل : هل يستطيع فلان أن يأتي مع علمه بأن يستطيع ذلك ويقدر عليه فالمعنى : هل يفعل ذلك وهل يجب إليه ؟ وقيل إنهم طلبوا الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام : { رب أرني كيف تحيي الموتى } الآية ويدل على هذا قولهم من بعد { وتطمئن قلوبنا } وأما القراءة الأولى فالمعنى : هل تستطيع أن تسأل ربك قال الزجاج : المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله فهو من باب { واسأل القرية } والمائدة : الخوان إذا كان عليه الطعام من ماده : إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدم إليه قاله قطرب وغيره وقيل هي فاعلة بمعنى مفعولة كـ { عيشة راضية } قاله أبو عبيدة فأجابهم عيسى عليه السلام بقوله : { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } أي اتقوه من هذا السؤال وأمثاله إن كنتم صادقين في إيمانكم فإن شأن المؤمن ترك الاقتراح على ربه على هذه الصفة وقيل إنه أمرهم بالتقوى ليكون ذلك ذريعة إلى حصول ما طلبوه (2/134)
قوله : 113 - { قالوا نريد أن نأكل منها } بينوا به الغرض من سؤالهم نزول المائدة وكذا ما عطف عليه من قولهم : { وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين } والمعنى : تطمئن قلوبنا بكمال قدرة الله أو بأنك مرسل إلينا من عنده أو بأن الله قد أجابنا إل ما سألناه ونعلم علما يقينا بأنك قد صدقتنا في نبوتك ونكون عليها من الشاهدين عند من لم يحضرها من بني إسرائيل أو من سائر الناس أو من الشاهدين لله بالوحدانية أو من الشاهدين : أي الحاضرين دون السامعين (2/135)
ولما رأى عيسى ما حكوه عن أنفسهم من الغرض بنزول المائدة قال : { اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء } أي كائنة أو نازلة من السماء وأصل اللهم عند سيبويه وأتباعه : يا الله فجعلت الميم بدلا من حرف النداء وربنا نداء ثان وليس بوصف و { تكون لنا عيدا } وصف لمائدة وقرأ الأعمش يكون لنا عيدا أي يكون يوم نزولها لنا عيدا وقد كان نزولها يوم الأحد وهو يوم عيد لهم والعيد واحد الأعياد وإنما جميع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد وقيل للفرق بينه وبين أعواد جمع عود ذكر معناه الجوهري وقيل أصله من عاد يعود : أي رجع فهو عود بالواو وتقلب ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد فقيل ليوم الفطر والأضحى عيدان لأنهما يعودان في كل سنة وقال الخليل : العيد كل يوم جمع كأنهم عادوا إليه وقوله : { لأولنا وآخرنا } بدل من الضمير في لنا بتكرير العامل : أي لمن في عصرنا ولمن يأتي بعدنا من ذرارينا وغيرهم قوله : { وآية منك } عطف على { عيدا } : أي دلالة وحجة واضحة على كمال قدرتك وصحة إرسالك من أرسلته { وارزقنا } أي أعطنا هذه المائدة المطلوبة أو ارزقنا رزقا نستعين به على عبادتك { وأنت خير الرازقين } بل لا رازق في الحقيقة غيرك ولا معطي سواك (2/135)
فأجاب الله سبحانه سؤال عيسى عليه السلام فقال : 115 - { إني منزلها } أي المائدة { عليكم }
وقد اختلف أهل العلم هل نزلت عليهم المائدة أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى الأول وهو الحق لقوله سبحانه : { إني منزلها عليكم } ووعده الحق وهو لا يخلف الميعاد وقال مجاهد : ما نزلت وإنما هو ضرب مثل ضربه الله لخلقه نهيا لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه وقال الحسن : وعدهم بالإجابة فلما قال : { فمن يكفر بعد منكم } استغفروا الله وقالوا لا نريدها قوله : { فمن يكفر بعد منكم } أي بعد تنزيلها { فإني أعذبه عذابا } أي تعذيبا { لا أعذبه } صفة لعذابا والضمير عائد إلى العذاب بمعنى التعذيب : أي لا أعذب مثل ذلمك التعذيب { أحدا من العالمين } قيل المراد عالمي زمانهم وقيل جمع العالمين وفي هذا من التهديد والترهيب ما لا يقادر قدره
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة قالت : كان الحواريون أعلم بالله من أن يقولوا : { هل يستطيع ربك } إنما قالوا : هل تستطيع أنت ربك أن تدعوه ويؤيد هذا ما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه و سلم : { هل يستطيع ربك } بالتاء يعني الفوقية وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قرأها كذلك وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : المائدة الخوان وتطمئن : توقن وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { تكون لنا عيدا } يقول : نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس : أنه كان يحدث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم ؟ فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا : يا معلم الخير قلت لنا إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ففعلنا ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة } إلى قوله : { أحدا من العالمين } فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخافوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير ] وقد روي موقوفا على عمار قال الترمذي : والوقف أصح وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : المائدة سمكة وأريغفة وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه قال : نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه سمك وخبز يأكلون منه أينما تولوا إذا شاءوا وأخرج ابن جرير نحوه عنه من طريق عكرمة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمرو قال : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون (2/136)
قوله : 116 - { وإذ قال الله } معطوف على ما قبله في محل نصب بعامله أو بعامل مقدر هنا : أي اذكر وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذا القول منه سبحانه هو يوم القيامة والنكتة توبيخ عباد المسيح وأمه من النصارى وقال السدي وقطرب : إنه قال له هذا القول عند رفعه إلى السماء لما قالت النصارى فيه ما قالت والأول أولى : قيل : { وإذ } هنا بمعنى إذا كقوله تعالى : { ولو ترى إذ فزعوا } أي إذا فزعوا وقول أبي النجم :
( ثم جزاك الله عني إذ جزى ... جنات عدن في السموات العلى )
أي إذا جزى وقول الأسود بن جعفر الأسدي :
( وفي الآن إذ هازلتهن فإنما ... يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا )
أي إذا هازلتهن تعبيرا عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقيق وقوعه وقد قيل في توجيه هذا الاستفهام منه تعالى إنه لقصد التوبيخ كما سبق وقيل لقصد تعريف المسيح بأن قومه غيروا بعده وادعوا عليه ما لم يقله وقوله : { من دون الله } متعلق بقوله : { اتخذوني } على أنه حال : أي متجاوزين الحد ويجوز أن يتعلق بمحذوف هو صفة لإلهين : أي كائنين من دون الله قوله : { سبحانك } تنزيه له سبحانه : أي أنزهك تنزيها { ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } أي ما ينبغي لي أن أدعي لنفس ما ليس من حقها { إن كنت قلته فقد علمته } رد ذلك إلى علمه سبحانه وقد علم أنه لم يقله فثبت بذلك عدم القول منه قوله : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } هذه الجملة في حكم التعليل لما قبلها : أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك وهذا الكلام من باب المشاكلة كما هو معروف عند علماء المعاني والبيان وقيل المعنى : تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك وقيل تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه وقيل تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد (2/137)
قوله : 117 - { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } هذه جملة مقررة لمضمون ما تقدم : أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني { أن اعبدوا الله ربي وربكم } هذا تفسير لمعنى { ما قلت لهم } أي ما أمرتهم وقيل عطف بيان للمضمر في { به } وقيل بدل منه { وكنت عليهم شهيدا } أي حفيظا ورقيبا أرعى أحوالهم وأمنعهم عن مخالفة أمرك { ما دمت فيهم } أي مدة دوامي فيهم { فلما توفيتني } قيل هذا يدل على أن الله سبحانه توفاه قبل أن يرفعه وليس بشيء لأن الأخبار قد تظافرت بأنه لم يمت وأنه باق في السماء على الحياة التي كان عليها في الدنيا حتى ينزل إلى الأرض آخر الزمان ومنه قوله تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } وبمعنى النوم ومنه قوله تعالى : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } أي ينيمكم وبمعنى الرفع ومنه { فلما توفيتني } { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك } { كنت أنت الرقيب عليهم } أصل المراقبة : المراعاة أي كنت الحافظ لهم والعالم بهم والشاهد عليهم (2/138)
118 - { إن تعذبهم فإنهم عبادك } تصنع بهم ما شئت وتحكم فيهم بما تريد { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } أي القادر على ذلك الحكيم في أفعاله قيل قاله على وجه الاستعطاف كما يستعطف السيد لعبده ولهذا لم يقل إن تعذبهم فإنهم عصوك وقيل قاله على وجه التسليم لأمر الله والانقياد له ولهذا عدل عن الغفور الرحيم إلى العزيز الحكيم (2/139)
قوله : 119 - { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } أي صدقهم في الدنيا وقيل في الآخرة والأول أولى قرأ نافع وابن محيصن { يوم } بالنصب وقرأ الباقون بالرفع فوجه النصب أنه ظرف للقول : أي قال الله هذا القول يوم ينفع الصادقين ووجه الرفع أنه خبر للمبتدأ هو وما أضيف إليه وقال الكسائي نصب { يوم } ها هنا لأنه مضاف إلى الجملة وأنشد :
( على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع )
وبه قال الزجاج ولا يجيز البصريون ما قالاه إلا إذا أضيف الظرف إلى فعل ماض وقرأ الأعمش { هذا يوم ينفع } بتنوين يوم كما في قوله : { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا } فكلاهما مقطوع عن الإضافة بالتنوين وقد تقدم تفسير قوله : { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا } قوله : { رضي الله عنهم ورضوا عنه } أي رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال ولا تتصوره عقولهم والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم وأعلى منازل الكرامة والإشارة بذلك إلى نيل ما نالوه من دخول الجنة والخلود فيها أبدا ورضوان الله عنهم والفوز : الظفر بالمطلوب على أتم الأحوال (2/139)
قوله : 120 - { لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير } جاء سبحانه بهذه الخاتمة دفعا لما سبق من إثبات من أثبت إلهية عيسى وأمه وأخبر بأن ملك السموات والأرض له دون عيسى وأمه ودون سائر مخلوقاته وأنه القادر على كل شيء دون غيره وقيل المعنى : أن له ملك السموات والأرض يعطي الجنات للمطيعين جعلنا الله منهم
وقد أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال : تلقى عيسى حجته والله لقاه في قوله : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم فلقاه الله سبحانه : { ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } الآية وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : يقول الله هذا يوم القيامة ألا ترى أنه يقول : { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : قال الله ذلك لما رفع عيسى إليه وقالت النصارى ما قالت وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { أن اعبدوا الله ربي وربكم } قال : سيدي وسيدكم وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { كنت أنت الرقيب عليهم } قال : الحفيظ وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } قال : ما كنت فيهم وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس { إن تعذبهم فإنهم عبادك } يقول : عبيدك قد استوجبوا العذاب بمقالتهم { وإن تغفر لهم } أي من تركت منهم ومد في عمره حتى أهبك من السماء إلى الأرض لقتل الدجال فزالوا عن مقالتهم ووحدوك { فإنك أنت العزيز الحكيم } وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } يقول : هذا يوم ينفع الموحدين توحيدهم (2/139)
سورة الأنعام
قال الثعلبي : سورة الأنعام مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة وهي { وما قدروا الله حق قدره } إلى آخر ثلاث آيات و { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى آخر ثلاث آيات قال ابن عطية : وهي الآيات المحكمات يعني في هذه السورة وقال القرطبي : هي مكية إلا آيتين هما { وما قدروا الله حق قدره } نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين وقوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات } نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أنزلت سورة الأنعام بمكة وأخرج أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عنه قال : أنزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة وحولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفا من الملائكة وأخرج ابن مردويه عن أسماء قال : نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه و سلم وهو في مسير في زجل من الملائكة وقد نظموا ما بين السماء والأرض وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد نحوه وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد ] وهو من طريق إبراهيم بن نائلة شيخ الطبراني عن إسماعيل بن عمرو عن يوسف بن عطية بن عون عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكره وابن مردويه رواه عن الطبراني عن إسماعيل المذكور به وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتقديس والأرض ترتج ورسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم ] وأخرج الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم والإسماعيلي في معجمه والبيهقي عن جابر قال : لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : [ لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق ] وأخرج البيهقي وضعفه والخطيب في تاريخه عن علي بن أبي طالب قال : أنزل القرآن خمسا خمسا ومن حفظه خمسا خمسا لم ينسه إلا سورة الأنعام فإنها نزلت جملة يشيعها من كل سماء سبعون ملكا حتى أدوها إلى النبي صلى الله عليه و سلم ما قرئت على عليل إلا شفاه الله وأخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعا نحو حديث ابن عمر وأخرج النحاس في تاريخه عن ابن عباس قال : سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة { قل تعالوا أتل ما حرم } إلى تمام الآيات الثلاث وأخرج الديلمي بسند ضعيف عن أنس مرفوعا [ ينادي مناد : يا قارئ سورة الأنعام هلم إلى الجنة بحبك إياها وتلاوتها ] وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة قال : نزلت سورة الأنعام جميعها معها سبعون ألف ملك كلها مكية إلا { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } فإنها مدنية وأخرج أبو عبيد في فضائله والدارمي في مسنده ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال : الأنعام من نواجب القرآن وأخرج محمد بن نصر عن ابن مسعود مثله وأخرج السلفي بسند واه عن ابن عباس مرفوعا : [ من قرأ إذا صلى الغداة ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى { ويعلم ما تكسبون } نزل إليه أربعون ألف ملك يكتب له مثل أعمالهم ونزل إليه ملك من فوق سبع سموات ومعه مرزبة من حديد فإن أوحى الشيطان في قلبه شيئا من الشر ضربه ضربة حتى يكون بينه وبينه سبعون حجابا فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى : أنا ربك وأنت عبدي امش في ظلي واشرب من الكوثر واغتسل من السلسبيل وادخل الجنة بغير حساب ولا عذاب ] وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من صلى الفجر في جماعة وقعد في مصلاه وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام وكل الله به سبعين ملكا يسبحون الله ويستغفرون له إلى يوم القيامة ] وفي فضائل هذه السورة روايات عن جماعة من التابعين مرفوعة وغير مرفوعة قال القرطبي : قال العلماء : هذه السورة أصل في محجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة وعليها بنى المتكلمون أصول الدين
بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله للدلالة على أن الحمد كله له ولإقامة الحجة على الذين هم بربهم يعدلون وقد تقدم في سورة الفاتحة ما يغني عن الإعادة له هنا ثم وصف نفسه بأنه الذي خلق السموات والأرض إخبارا عن قدرته الكاملة الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد فإن من اخترع ذلك وأوجده هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد والخلق يكون بمعنى الاختراع وبمعنى التقدير وقد تقدم تحقيق ذلك وجمع السموات لتعدد طباقها وقدمها على الأرض لتقدمها في الوجود { والأرض بعد ذلك دحاها } قوله : 1 - { وجعل الظلمات والنور } معطوف على خلق ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله : { خلق السموات والأرض } ثم ذكر خلق الأعراض بقوله : { وجعل الظلمات والنور } لأن الجواهر لا تستغني عن الأعراض
واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظلمات والنور فقال جمهور المفسرين : المراد بالظلمات سواد الليل وبالنور ضياء النهار وقال الحسن : الكفر والإيمان قال ابن عطية : وهذا خروج عن الظاهر انتهى والأولى أن يقال : إن الظلمات تشمل كل ما يطلق عليه اسم الظلمة والنور يشمل كل ما يطلق عليه اسم النور فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات } وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها قال النحاس : جعل هنا بمعنى خلق : وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد وقال القرطبي : جعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره قال ابن عطية : وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق فيكون الجمع معطوفا على الجمع والمفرد معطوفا على المفرد وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل ولهذا كان النهار مسلوخا من الليل قوله : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } معطوف على الحمد لله أو على خلق السموات والأرض وثم لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السموات والأرض والظلمات والنور فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه لا الكفر به واتخاذ شريك له وتقديم المفعول للاهتمام ورعاية الفواصل وحذف المفعول لظهوره : أي يعدلون به ما لا يقدر على شيء مما يقدر عليه وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه تلك النعم ويكون من الكفرة الكفر (2/140)
قوله : 2 - { هو الذي خلقكم من طين } في معناه قولان : أحدهما : وهو الأشهر وبه قال الجمهور : أن المراد آدم عليه السلام وأخرجه مخرج الخطاب للجميع لأنهم ولده ونسله الثاني : أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين ذكر الله سبحانه خلق آدم وبنيه بعد خلق السموات والأرض إتباعا للعالم الأصغر بالعالم الأكبر والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث ورد لجحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه قوله : { ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده } جاء بكلمة ثم لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت
وقد اختلف السلف ومن بعدهم في تفسير الأجلين فقيل { قضى أجلا } يعني الموت { وأجل مسمى عنده } يعني القيامة وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك ومجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم وعطية والسدي وخصيف ومقاتل وغيرهم وقيل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت والثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو قريب من الأول وقيل الأول مدة الدنيا والثاني عمر الإنسان إلى حين موته وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وقيل الأول قبض الأرواح في النوم والثاني قبض الروح عند الموت وقيل الأول ما يعرف من أوقات الأهلة والبروج وما يشبه ذلك والثاني أجل الموت وقيل الأول لمن مضى والثاني لمن بقي ولمن يأتي وقيل إن الأول الأجل الذي هو محتوم والثاني الزيادة في العمر لمن وصل رحمه فإن كان برا تقيا وصولا لرحمه زيد في عمره وإن كان قاطعا للرحم لم يزد له ويرشد إلى هذا قوله تعالى : { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن صلة الرحم تزيد في العمر وورد عنه أن دخول البلاد التي قد فشا بها الطاعون والوباء من أسباب الموت وجاز الابتداء بالنكرة في قوله : { وأجل مسمى عنده } لأنها قد تخصصت بالصفة قوله : { ثم أنتم تمترون } استبعاد لصدور الشك منهم مع وجود المقتضى لعدمه : أي كيف تشكون في البعث مع مشاهدتكم في أنفسكم من الابتداء والانتهاء ما يذهب بذلك ويدفعه فإن من خلقكم من طين وصيركم أحياء تعلمون وتعقلون وخلق لكم هذه الحواس والأطراف ثم سلب ذلك عنكم فصرتم أمواتا وعدتم إلى ما كنتم عليه من الجمادية لا يعجزه أن يبعثكم ويعيد هذه الأجسام كما كانت ويرد إليها الأرواح التي فارقتها بقدرته وبديع حكمته (2/143)
قوله : 3 - { وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون } قيل إن في السموات وفي الأرض متعلق باسم الله باعتبار ما يدل عليه من كونه معبودا ومتصرفا ومالكا : أي هو المعبود أو المالك أو المتصرف في السموات والأرض كما تقول : زيد الخليفة في الشرق والغرب : أي حاكم أو متصرف فيهما وقيل المعنى : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض فلا تخفى عليه خافية فيكون العامل فيهما ما بعدهما قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل فيه وقال ابن جرير : هو الله في السموات ويعلم سركم وجهركم في الأرض والأول أولى ويكون { يعلم سركم وجهركم } جملة مقررة لمعنى الجملة الأولى لأن كونه سبحانه في السماء والأرض يستلزم علمه بأسرار عباده وجهرهم وعلمه بما يكسبونه من الخير والشر وجلب النفع ودفع الضرر
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن علي أن هذه الآية أعني الحمد لله إلى قوله : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } نزلت في أهل الكتاب وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه نحوه وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : نزلت هذه الآية في الزنادقة قالوا : إن الله لم يخلق الظلمة ولا الخنافس ولا العقارب ولا شيئا قبيحا وإنما يخلق النور وكل شيء حسن فأنزلت فيهم هذه الآية وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس { وجعل الظلمات والنور } قال : الكفر والإيمان وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : إن الذين بربهم يعدلون هم أهل الشرك وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي مثله وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : { يعدلون } يشركون وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } قال : الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله وليس لله عدل ولا ند وليس معه آلهة ولا اتخذ صاحبة ولا ولدا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس
{ هو الذي خلقكم من طين } يعني آدم { ثم قضى أجلا } يعني أجل الموت { وأجل مسمى عنده } أجل الساعة والوقوف عند الله وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عنه في قوله : { ثم قضى أجلا } قال : أجل الدنيا وفي لفظ أجل موته { وأجل مسمى عنده } قال : الآخرة لا يعلمه إلا الله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه { قضى أجلا } قال : هو اليوم يقبض فيه الروح ثم يرجع إلى صاحبه من اليقظة { وأجل مسمى عنده } قال : هو أجل موت الإنسان (2/144)
قوله : 4 - { وما تأتيهم } إلخ كلام مبتدأ لبيان بعض أسباب كفرهم وتمردهم وهو الإعراض عن آيات الله التي تأتيهم كمعجزات الأنبياء وما يصدر عن قدرة الله الباهرة مما لا يشك من له عقل أنه فعل الله سبحانه والإعراض : ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله و من في { من آية } مزيدة للاستغراق و من في { من آيات } تبعيضية : أي وما تأتيهم آية من الآيات التي هي بعض آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (2/146)
والفاء في 5 - { فقد كذبوا } جواب شرط مقدر : أي إن كانوا معرضين عنها فقد كذبوا بما هو أعظم من ذلك وهو الحق { لما جاءهم } قيل المراد بالحق هنا القرآن وقيل محمد صلى الله عليه و سلم { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } أي أخبار الشيء الذي كانوا به يستهزئون وهو القرآن أو محمد صلى الله عليه و سلم على أن ما عبارة عن ذلك تهويلا للأمر وتعظيما له : أي سيعرفون أن هذا الشيء الذي استهزأوا به ليس بموضع للاستهزاء وذلك عند إرسال عذاب الله عليهم كما يقال : اصبر فسوف يأتيك الخبر عن إرادة الوعيد والتهديد وفي لفظ الأنباء ما يرشد إلى ذلك فإنه لا يطلق إلا على خبر عظيم (2/146)
قوله : 6 - { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } كلام مبتدأ لبيان ما تقدمه والهمزة للإنكار و كم يحتمل أن تكون الاستفهامية وأن تكون الخبرية وهي معلقة لفعل الرؤية عن العمل فيما بعده و { من قرن } تمييز والقرن يطلق على أهل كل عصر سموا بذلك لاقترانهم : أي ألم يعرفوا بسماع الأخبار ومعاينة الآثار كم أهلكنا من قبلهم من الأمم الموجودة في عصر بعد عصر لتكذيبهم أنبياءهم وقيل القرن مدة من الزمان وهي ستون عاما أو سبعون أو ثمانون أو مائة على اختلاف الأقوال فيكون ما في الآية على تقدير مضاف محذوف : أي من أهل قرن قوله : { مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم } مكن له في الأرض جعل له مكانا فيها ومكنه في الأرض : أثبته فيها والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : كيف ذلك وقيل إن هذه الجملة صفة لقرن والأول أولى و ما في { ما لم نمكن } نكرة موصوفة بما بعدها : أي مكناهم تمكينا لم نمكنه لكم والمعنى : إنا أعطينا القرون الذين هم قبلكم ما لم نعطكم من الدنيا وطول الأعمار وقوة الأبدان وقد أهلكناهم جميعا فإهلاككم وأنتم دونهم بالأولى قوله : { وأرسلنا السماء عليهم مدرارا } يريد المطر الكثير عبر عنه بالسماء لأنه ينزل من السماء ومنه قول الشاعر :
( إذا نزل السماء بأرض قوم )
والمدرار صيغة مبالغة تدل على الكثرة كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور وميناث للتي تلد الإناث يقال در اللبن يدر : إذا أقبل على الحالب بكثرة وانتصاب { مدرارا } على الحال وجريان الأنهار من تحتهم معناه من تحت أشجارهم ومنازلهم : أي أن الله وسع عليهم النعم بعد التمكين لهم في الأرض فكفروها فأهلكهم الله بذنوبهم { وأنشأنا من بعدهم } أي من بعد إهلاكهم { قرنا آخرين } فصاروا بدلا من الهالكين وفي هذا بيان لكمال قدرته سبحانه وقوة سلطانه وأنه يهلك من يشاء ويوجد من يشاء (2/146)
قوله : 7 - { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } في هذه الجملة بيان شدة صلابتهم في الكفر وأنهم لا يؤمنون ولو أنزل الله على رسوله كتابا مكتوبا في قرطاس بمرأى منهم ومشاهدة { فلمسوه بأيديهم } حتى يجتمع لهم إدراك الحاستين : حاسة البصر وحاسة اللمس { لقال الذين كفروا } منهم { إن هذا إلا سحر مبين } ولم يعملوا بما شاهدوا ولمسوا وإذا كان هذا حالهم في المرئي المحسوس فكيف فيما هو مجرد وحي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بواسطة ملك لا يرونه ولا يحسونه ؟ والكتاب مصدر بمعنى الكتابة والقرطاس : الصحيفة (2/147)
قوله : 8 - { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } هذه الجملة مشتملة على نوع آخر من أنواع جحدهم لنبوته صلى الله عليه و سلم وكفرهم بها : أي قالوا هلا أنزل الله عليك ملكا نراه ويكلمنا أنه نبي حتى نؤمن به ونتبعه ؟ كقولهم : { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا } { ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر } أي لو أنزلنا ملكا على الصفة التي اقترحوها بحيث يشاهدونه ويخاطبونه ويخاطبهم { لقضي الأمر } أي لأهلكناهم إذ لم يؤمنوا عند نزوله ورؤيتهم له لأن مثل هذه الآية البينة وهي نزول الملك على تلك الصفة إذا لم يقع الإيمان بعدها فقد استحقوا الإهلاك والمعالجة بالعقوبة { ثم لا ينظرون } أي لا يمهلون بعد نزوله ومشاهدتهم له وقيل إن المعنى : إن الله سبحانه لو أنزل ملكا مشاهدا لم تطق قواهم البشرية أن يبقوا بعد مشاهدته أحياء بل تزهق أرواحهم عند ذلك فيبطل ما أرسل الله له رسله وأنزل به كتبه من هذا التكليف الذي كلف به عباده { لنبلوهم أيهم أحسن عملا } (2/147)
قوله : 9 - { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } أي لو جعلنا الرسول إلى النبي ملكا يشاهدونه ويخاطبونه لجعلنا ذلك الملك رجلا لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك على صورته التي خلقه الله عليها إلا بعد أن يتجسم بالأجسام الكثيفة المشابهة لأجسام بني آدم لأن كل جنس يأنس بجنسه فلو جعل الله سبحانه الرسول إلى البشر أو الرسول إلى رسوله ملكا مشاهدا مخاطبا لنفروا منه ولم يأنسوا به ولداخلهم الرعب وحصل معهم من الخوف ما يمنعهم من كلامه ومشاهدته هذا أقل حال فلا تتم المصلحة من الإرسال وعند أن يجعله الله رجلا : أي على صورة رجل من بني آدم ليسكنوا إليه ويأنسوا به سيقول الكافرون إنه ليس بملك وإنما هو بشر ويعودون إلى مثل ما كانوا عليه قوله : { وللبسنا عليهم ما يلبسون } أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم لأنهم إذا رأوه في صورة إنسان قالوا هذا إنسان وليس بملك فإن استدل لهم بأنه ملك كذبوه قال الزجاج : المعنى للبسنا عليهم : أي على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم وكانوا يقولون لهم : إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق فيلبسون عليهم بهذا ويشككونهم فأعلم الله عز و جل أنه لو نزل ملكا في صورة رجل لوجدوا سبيلا إلى اللبس كما يفعلون واللبس : الخلط يقال : لبست عليه الأمر ألبسه لبسا : أي خلطته وأصله التستر بالثوب ونحوه (2/147)
ثم قال سبحانه مؤنسا لنبيه صلى الله عليه و سلم ومسليا له 10 - { ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } يقال : حاق الشيء يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا نزل : أي فنزل ما كانوا به يستهزئون وأحاط بهم : وهو الحق حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به (2/148)
11 - { قل سيروا في الأرض } أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين سافروا في الأرض وانظروا آثار من كان قبلكم لتعرفوا ما حل بهم من العقوبات وكيف كانت عاقبتهم بعدما كانوا فيه من النعيم العظيم الذي يفوق ما أنتم فيه فهذه ديارهم خاربة وجناتهم مغبرة وأراضيهم مكفهرة فإذا كانت عاقبتهم هذه العاقبة فأنتم بهم لاحقون وبعد هلاكهم هالكون
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين } يقول : ما يأتيهم من شيء من كتاب الله إلا أعرضوا عنه وفي قوله : { فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } يقول : سيأتيهم يوم القيامة أنباء ما استهزأوا به من كتاب الله عز و جل وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : { من قرن } قال : أمة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم } يقول : أعطيناهم ما لم نعطكم وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { وأرسلنا السماء عليهم مدرارا } يقول : يتبع بعضها بعضا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن هارون التيمي في الآية قال : المطر في إبانه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم } يقول : لو أنزلنا من السماء صحفا فيها كتاب { فلمسوه بأيديهم } لزادهم ذلك تكذيبا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { فلمسوه بأيديهم } قال : فمسوه ونظروا إليه لم يصدقوا به وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال : دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } الآية وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } قال : ملك في صورة رجل { ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر } لقامت الساعة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { لقضي الأمر } يقول : لو أنزل الله ملكا ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ولو أنزلنا ملكا } قال : ولو أتاهم ملك في صورته { لقضي الأمر } لأهلكناهم { ثم لا ينظرون } لا يؤخرون { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } يقول : لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة { وللبسنا عليهم ما يلبسون } يقول : لخلطنا عليهم ما يخلطون وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } قال : في صورة رجل في خلق رجل وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } يقول : في صورة آدمي وأخرج ابن جرير عن ابن زيد نحوه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { وللبسنا عليهم } يقول : شبهنا عليهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال : شبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال : مر رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغني بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل بن هشام فهمزوه واستهزأوا به فغاظه ذلك فأنزل الله : { ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } (2/148)
قوله : 12 - { قل لمن ما في السموات والأرض } هذا احتجاج عليهم وتبكيت لهم والمعنى : قل لهم هذا القول فإن قالوا فقل لله وإذا ثبت أن له ما في السموات والأرض إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب ولكنه كتب على نفسه الرحمة : أي وعد بها فضلا منه وتكرما وذكر النفس هنا عبارة عن تأكد وعده وارتفاع الوسائط دونه وفي الكلام ترغيب للمتولين عنه إلى الإقبال إليه وتسكين خواطرهم بأنه رحيم بعباده لا يعاجلهم بالعقوبة وأنه يقبل منهم الإنابة والتوبة ومن رحمته لهم إرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأدلة قوله : { ليجمعنكم إلى يوم القيامة } اللام جواب قسم محذوف قال الفراء وغيره : يجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله : { الرحمة } ويكون ما بعدها مستأنفا على جهة التبيين فيكون المعنى { ليجمعنكم } ليمهلنكم وليؤخرن جمعكم وقيل المعنى : ليجمعنكم في القبور إلى اليوم الذي أنكرتموه وقيل : { إلى } بمعنى في : أي ليجمعنكم في يوم القيامة وقيل يجوز أن يكون موضع { ليجمعنكم } النصب على البدل من الرحمة فتكون اللام بمعنى أن والمعنى : كتب ربكم على نفسه الرحمة أن يجمعنكم كما قالوا في قوله تعالى : { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه } أي أن يسجنوه وقيل إن جملة { ليجمعنكم } مسوقة للترهيب بعد الترغيب وللوعيد بعد الوعد : أي إن أمهلكم برحمته فهو مجازيكم بجمعكم ثم معاقبة من يستحق عقوبته من العصاة والضمير في { لا ريب فيه } لليوم أو للجمع قوله : { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } قال الزجاج : إن الموصول مرتفع على الابتداء وما بعده خبره كما تقول : الذي يكرمني فله درهم فالفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط وقال الأخفش : إن شئت كان { الذين } في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في { ليجمعنكم } أي ليجمعن المشركين الذين خسروا أنفسهم وأنكره المبرد وزعم أنه خطأ لأنه لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب لا يقال : مررت بك زيد ولا مررت بي زيد ويل يجوز أن يكون { الذين } مجرورا على البدل من المكذبين الذين تقدم ذكرهم أو على النعت لهم وقيل إنه منادى وحرف النداء مقدر (2/150)
قوله : 13 - { وله ما سكن في الليل والنهار } أي لله وخص الساكن بالذكر لأن ما يتصف بالسكون أكثر مما يتصف بالحركة وقيل المعنى : ما سكن فيهما أو تحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر وهذا من جملة الاحتجاج على الكفرة (2/151)
قوله : 14 - { قل أغير الله أتخذ وليا } الاستفهام للإنكار قال لهم : ذلك لما دعوه إلى عبادة الأصنام ولما كان الإنكار لاتخاذ غير الله وليا لا لاتخاذ الولي مطلقا دخلت الهمزة على المفعول لا على الفعل والمراد بالولي هنا : المعبود : أي كيف أتخذ غير الله معبودا ؟ و { فاطر السموات والأرض } مجرور على أنه نعت لاسم الله وأجاز الأخفش الرفع على إضمار مبتدأ وأجاز الزجاج النصب على المدح وأجاز أبو علي الفارسي نصبه بفعل مضمر كأنه قيل : أترك فاطر السموات والأرض قوله : { وهو يطعم ولا يطعم } قرأ الجمهور بضم الياء وكسر العين في الأول وضمها وفتح العين في الثاني : أي يرزق ولا يرزق وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش بفتح الياء في الثاني وفتح العين وقرئ بفتح الياء والعين في الأول وضمها وكسر العين في الثاني على أن الضمير يعود إلى الولي المذكور وخص الإطعام دون غيره من ضروب الإنعام لأن الحاجة إليه أمس قوله : { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم } أمره سبحانه بعدما تقدم من اتخاذ غير الله وليا أن يقول لهم إنه مأمور بأن يكون أول من أسلم وجهه لله من قومه وأخلص من أمته وقيل معنى { أسلم } استسلم لأمر الله ثم نهاه الله عز و جل أن يكون من المشركين والمعنى : أمرت بأن أكون أول من أسلم ونهيت عن الشرك : أي يقول لهم هذا (2/151)
ثم أمره أن يقول : 15 - { إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } أي إن عصيته بعبادة غيره أو مخالفة أمره أو نهيه والخوف : توقع المكروه وقيل هو بمعنى العلم : أي إني أعلم إن عصيت ربي أن لي عذابا عظيما (2/151)
قوله : 16 - { من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه } قرأ أهل المدينة وأهل مكة وابن عامر على البناء للمفعول : أي من يصرف عنه العذاب واختار هذه القراءة سيبويه وقرأ الكوفيون على البناء للفاعل وهو اختيار أبي حاتم فيكون الضمير على هذه القراءة لله ومعنى { يومئذ } يوم العذاب العظيم { فقد رحمه } الله أي نجاه وأنعم عليه وأدخله الجنة والإشارة بذلك إلى الصرف أو إلى الرحمة : أي فذلك الصرف أو الرحمة { الفوز المبين } أي الظاهر الواضح وقرأ أبي { من يصرف عنه } (2/151)
قوله : 17 - { وإن يمسسك الله بضر } أي إن ينزل الله بك ضرا من فقر أو مرض { فلا كاشف له إلا هو } أي لا قادر على كشفه سواه { وإن يمسسك بخير } من رخاء أو عافية { فهو على كل شيء قدير } ومن جملة ذلك المس بالشر والخير (2/152)
قوله : 18 - { وهو القاهر فوق عباده } القهر : الغلبة والقاهر : الغالب وأقهر الرجل : إذا صار مقهورا ذليلا ومنه قول الشاعر :
( تمنى حصين أن يسود خزاعة ... فأمسى حصين قد أذل وأقهرا )
ومعنى : { فوق عباده } فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم لا فوقية المكان كما تقول : السلطان فوق رعيته : أي بالمنزلة والرفعة وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة وهو منع غيره عن بلوغ المراد { وهو الحكيم } في أمره { الخبير } بأفعال عباده (2/152)
قوله : 19 - { قل أي شيء أكبر شهادة } أي مبتدأ وأكبر خبره وشهادة تمييز والشيء يطلق على القديم والحادث والمحال والممكن والمعنى : أي شهيد أكبر شهادة فوضع شيء موضع شهيد وقيل إن { شيء } هنا موضوع موضع اسم الله والمعنى : لله أكبر شهادة : أي انفراده بالربوبية وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم فهو شهيد بيني وبينكم وقيل إن قوله : { الله شهيد بيني وبينكم } هو الجواب لأنه إذا كان الشهيد بينه وبينهم كان أكبر شهادة له صلى الله عليه و سلم وقيل إنه قد تم الجواب عند قوله : { قل الله } يعني الله أكبر شهادة ثم ابتدأ فقال : { شهيد بيني وبينكم } أي هو شهيد بيني وبينكم قوله : { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } أي أوحى الله إلي هذا القرآن الذي تلوته عليكم لأجل أن أنذركم به وأنذر به من بلغ إليه : أي كل من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة وفي هذه الآية من الدلالة على شمول أحكام القرآن لمن سيوجد كشمولها لمن قد كان موجودا وقت النزول ما لا يحتاج معه إلى تلك الخزعبلات المذكورة في علم أصول الفقه وقرأ أبو نهيك { وأوحي } على البناء للفاعل وقرأ ابن عداة على البناء للمفعول قوله : { أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى } الاستفهام للتوبيخ والتقريع على قراءة من قرأ بهمزتين على الأصل أو بقلب الثانية وأما من قرأ على الخبر فقد حقق عليهم شركهم وإنما قال : { آلهة أخرى } لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث كذا قال الفراء ومثله قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى } وقال : { فما بال القرون الأولى } { قل لا أشهد } أي فأنا لا أشهد معكم فحذف لدلالة الكلام عليه وذلك لكون هذه الشهادة باطلة ومثله { فإن شهدوا فلا تشهد معهم } وما في { مما تشركون } موصولة أو مصدرية : أي من الأصنام التي تجعلونها آلهة أو من إشراككم بالله (2/152)
قوله : 20 - { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } الكتاب للجنس فيشمل التوراة والإنجيل وغيرهما : أي يعرفون رسول الله صلى الله عليه و سلم قال به جماعة من السلف وإليه ذهب الزجاج وقيل إن الضمير يرجع إلى الكتاب : أي يعرفونه معرفة محققة بحيث لا يلتبس عليهم منه شيء و { كما يعرفون أبناءهم } بيان لتحقق تلك المعرفة وكمالها وعدم وجود شك فيها فإن معرفة الآباء للأبناء هي البالغة إلى غاية الإتقان إجمالا وتفصيلا قوله : { الذين خسروا أنفسهم } في محل رفع على الابتداء وخبره { فهم لا يؤمنون } ودخول الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط : وقيل إن الموصول خبر مبتدأ محذوف وقيل هو نعت للموصول الأول وعلى الوجهين الأخيرين يكون { فهم لا يؤمنون } معطوفا على جملة { الذين آتيناهم الكتاب } والمعنى على الوجه الأول أن الكفار الخاسرين لأنفسهم بعنادهم وتمردهم لا يؤمنون بما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى الوجهين الأخيرين أن أولئك الذين آتاهم الله الكتاب هم الذين خسروا أنفسهم بسبب ما وقعوا فيه من البعد عن الحق وعدم العمل بالمعرفة التي ثبتت لهم فهم لا يؤمنون (2/153)
قوله : 21 - { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } أي اختلق على الله الكذب فقال : إن في التوراة أو الإنجيل ما لم يكن فيهما { أو كذب بآياته } التي يلزمه الإيمان بها من المعجزة الواضحة البينة فجمع بين كونه كاذبا على الله ومكذبا بما أمره الله بالإيمان به ومن كان هكذا فلا أحد من عباد الله أظلم منه والضمير في { إنه لا يفلح الظالمون } للشأن
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سلمان الفارسي قال : إنا نجد في التوراة أن الله خلق السموات والأرض ثم جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة وأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة فبها يتراحمون وبها يتعاطفون وبها يتباذلون وبها يتزاورون وبها تحن الناقة وبها تنتج البقرة وبها تيعر الشاة وبها تتابع الطير وبها تتابع الحيتان في البحر فإذا كان يوم القيامة جمع تلك الرحمة إلى ما عنده ورحمته أفضل وأوسع وقد أخرج مسلم وأحمد وغيرهما عن سلمان عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ خلق الله يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة : منها رحمة يتراحم بها الخلق وتسعة وتسعون ليوم القيامة فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة ] وثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لما قضى الله الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي ] وقد روي من طرق أخرى بنحو هذا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { وله ما سكن في الليل والنهار } يقول : ما استقر في الليل والنهار وفي قوله : { قل أغير الله أتخذ وليا } قال : أما الولي فالذي تولاه ويقر له بالربوبية وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { فاطر السموات والأرض } قال : بديع السموات والأرض وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن جرير وابن الأنباري عنه قال : كنت لا أدري ما فطر السموات والأرض ؟ حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها يقول : أنا ابتدأتها وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { وهو يطعم ولا يطعم } قال : يرزق ولا يرزق وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { من يصرف عنه } قال : من يصرف عنه العذاب وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله : { وإن يمسسك بخير } يقول : بعافية وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : [ جاءالنمام بن زيد وقردم بن كعب وبحري بن عمرو فقالوا : يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا إله إلا الله بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو فأنزل الله : { قل أي شيء أكبر شهادة } الآية ] وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به } يعني أهل مكة { ومن بلغ } يعني من بلغه هذا القرآن من الناس فهو له نذير وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية { وأوحي إلي هذا القرآن } كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى كسرى وقيصر والنجاشي وكل جبار يدعوهم إلى الله عز و جل وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم والخطيب وابن النجار عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من بلغه القرآن فكأنما شافهته به ثم قرأ { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } ] وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال : [ من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه و سلم ] وفي لفظ : [ من بلغه القرآن حتى تفهمه وتعقله كان كمن عاين رسول الله صلى الله عليه و سلم وكلمه ] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد في قوله : { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به } قال : العرب { ومن بلغ } قال : العجم وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : قال النضر وهو من بني عبد الدار : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى فأنزل الله { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } الآية (2/153)
قوله : 22 - { ويوم نحشرهم } قرأ الجمهور بالنون في الفعلين وقرئ بالياء فيهما وناصب الظرف محذوف مقدر متأخرا : أي يوم نحشرهم كان كيت وكيت والاستفهام في { أين شركاؤكم } للتقريع والتوبيخ للمشركين وأضاف الشركاء إليهم لأنها لم تكن شركاء لله في الحقيقة بل لما سموها شركاء أضيفت إليهم وهي ما كانوا يعبدونه من دون الله أو يعبدونه مع الله قوله : { الذين كنتم تزعمون } أي تزعمونها شركاء فحذف المفعولان معا ووجه التوبيخ بهذا الاستفهام أن معبوداتهم غابت عنهم في تلك الحال أو كانت حاضرة ولكن لا ينتفعون بها بوجه من الوجوه فكان وجودها كعدمها (2/155)
قوله : 23 - { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } قال الزجاج : تأويل هذه الآية أن الله عز و جل أخبر بقصص المشركين وافتتانهم بشركهم ثم أخبر أن فتنتهم لم تكن حتى رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك ونظير هذا في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع في هلكة تبرأ منه فتقول : ما كانت محبتك إياه إلا أن تبرأ منه انتهى فالمراد بالفتنة على هذا كفرهم : أي لم تكن عاقبة كفرهم الذي افتخروا به وقاتلوا عليه إلا ما وقع منهم من الجحود والحلف على نفيه بقوله : { والله ربنا ما كنا مشركين } وقيل المراد بالفتنة هنا جوابهم : أي لم يكن جوابهم إلا الجحود والتبري فكان هذا الجواب فتنة لكونه كذبا وجملة { ثم لم تكن فتنتهم } معطوفة على عامل الظرف المقدر كما مر والاستثناء مفرغ وقرئ { فتنتهم } بالرفع والنصب و { يكن } و { تكن } والوجه ظاهر وقرئ { لم تكن فتنتهم } وقرئ { ربنا } بالنصب على النداء (2/155)
24 - { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } بإنكار ما وقع منهم في الدنيا من الشرك { وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي زال وذهب افتراؤهم وتلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من أن الشركاء يقربوهم إلى الله هذا على أن ما مصدرية وقيل هي موصولة عبارة عن الآلهة : أي فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله فلم يغن عنهم شيئا وهذا تعجيب لرسول الله صلى الله عليه و سلم من حالهم المختلفة ودعواهم المتناقضة وقيل لا يجوز أن يقع منهم كذب في الآخرة لأنها دار لا يجري فيها غير الصدق فمعنى { والله ربنا ما كنا مشركين } نفي شركهم عند أنفسهم وفي اعتقادهم ويؤيد هذا قوله تعالى : { ولا يكتمون الله حديثا } (2/156)
قوله : 25 - { ومنهم من يستمع إليك } هذا كلام مبتدأ لبيان ما كان يصنعه بعض المشركين في الدنيا والضمير عائد إلى الذين أشركوا : أي وبعض الذين أشركوا يستمع إليك حين تتلو القرآن { وجعلنا على قلوبهم أكنة } أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم والأكنة : الأغطية جمع كنان مثل الأسنة والسنان كننت الشيء في كنه : إذا جعلته فيه وأكننته أخفيته وجملة { وجعلنا على قلوبهم أكنة } أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم والأكنة : الأغطية جمع كنان مثل الأسنة والسنان كننت الشيء في كنه : إذا جعلته فيه وأكننته أخفيته وجملة { جعلنا على قلوبهم أكنة } مستأنفة للإخبار بمضمونها أو في محل نصب على الحال : أي وقد جعلنا على قلوبهم أغطية كراهة أن يفقهوا القرآن أو لئلا يفقهوه والوقر : الصمم يقال : وقرت أذنه تقر وقرا : أي صمت وقرأ طلحة بن مصرف { وقرا } بكسر الواو : أي جعل في آذانهم ما سدها عن استماع القول على التشبيه بوقر البعير وهو مقدار ما يطيق أن يحمله وذكر الأكنة والوقر تمثيل لفرط بعدهم عن فهم الحق وسماعه كأن قلوبهم لا تعقل وأسماعهم لا تدرك { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } أي لا يؤمنوا بشيء من الآيات التي يرونها من المعجزات ونحوها لعنادهم وتمردهم قوله : { حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين } حتى هنا هي الابتدائية التي تقع بعدها الجمل وجملة يجادلونك في محل نصب على الحال والمعنى : أنهم بلغوا من الكفر والعناد أنهم إذا جاءوك مجادلين لم يكتفوا بمجرد عدم الإيمان بل يقولون إن هذا إلا أساطير الأولين وقيل حتى هي الجارة وما بعدها في محل جر والمعنى : حتى وقت مجيئهم مجادلين يقولون إن هذا إلا أساطير الأولين وهذا غاية التكذيب ونهاية العناد والأساطير قال الزجاج : واحدها أسطار وقال الأخفش : أسطورة وقال أبو عبيدة : أسطارة وقال النحاس : أسطور وقال القشيري : أسطير وقيل هو جمع لا واحد له كعباديد وأبابيل والمعنى : ما سطره الأولون في الكتب من القصص والأحاديث قال الجوهري : الأساطير الأباطيل والترهات (2/156)
قوله : 26 - { وهم ينهون عنه وينأون عنه } أي ينهى المشركون الناس عن الإيمان بالقرآن أو بمحمد صلى الله عليه و سلم ويبعدون هم في أنفسهم عنه وقيل إنها نزلت في أبي طالب فإنه كان ينهى الكفار عن أذية النبي صلى الله عليه و سلم ويبعد هو عن إجابته { وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون } أي ما يهلكون بما يقع منهم من النهي والنأي إلا أنفسهم بتعريضها لعذاب الله وسخطه والحال أنهم ما يشعرون بهذا البلاء الذي جلبوه على أنفسهم (2/157)
قوله : 27 - { ولو ترى إذ وقفوا على النار } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لكل من تتأتى منه الرؤية وعبر عن المستقبل يوم القيامة بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه كما ذكره علماء المعاني و { وقفوا } معناه حبسوا يقال : وقفته وقفا ووقت وقوفا وقيل معنى : { وقفوا على النار } أدخلوها فتكون على بمعنى في وقيل هي بمعنى الباء : أي وقفوا بالنار أي بقربها معاينين لها ومفعول ترى محذوف وجواب لو محذوف ليذهب السامع كل مذهب والتقدير : لو تراهم إذ وقفوا على النار لرأيت منظرا هائلا وحالا فظيعا { فقالوا يا ليتنا نرد } أي إلى الدنيا { ولا نكذب بآيات ربنا } أي التي جاءنا بها رسوله صلى الله عليه و سلم { ونكون من المؤمنين } بها العاملين بما فيها والأفعال الثلاثة داخلة تحت التمني : أي تمنوا الرد وأن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين برفع الأفعال الثلاثة كما هي قراءة الكسائي وأهل المدينة وشعبة وابن كثير وأبي عمرو وقرأ حفص وحمزة بنصب نكذب ونكون بإضمار أن بعد الواو على جواب التمني واختار سيبويه القطع في { ولا نكذب } فيكون غير داخل في التمني والتقدير : ونحن لا نكذب على معنى الثبات على ترك التكذيب : أي لا نكذب رددنا أو لم نرد قال : وهو مثل دعني ولا أعود : أي لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني واستدل أبو عمرو بن العلاء على خروجه من التمني بقوله : { وإنهم لكاذبون } لأن الكذب لا يكون في التمني وقرأ ابن عامر { ونكون } بالنصب وأدخل الفعلين الأولين في التمني وقرأ أبي { ولا نكذب بآيات ربنا } وقرأ هو وابن مسعود { يا ليتنا نرد ولا نكذب } بالفاء والنصب والفاء ينصب بها في جواب التمني كما ينصب بالواو كما قال الزجاج وقال أكثر البصريين : لا يجوز الجواب إلا بالفاء (2/157)
قوله : 28 - { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } هذا إضراب عما يدل عليه التمني من الوعد بالإيمان والتصديق : أي لم يكن ذلك التمني منهم عن صدق نية وخلوص اعتقاد بل هو لسبب آخر وهو أنه بدا لهم ما كانوا يخفون : أي يجحدون من الشرك وعرفوا أنهم هالكون بشركهم فعدلوا إلى التمني والمواعيد الكاذبة وقيل : بدا لهم ما كانوا يخفون من النفاق والكفر بشهادة جوارحهم عليهم وقيل : بدا لهم ما كانوا يكتمون من أعمالهم القبيحة كما قال تعالى : { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } وقال المبرد : بدا لهم جزاء كفرهم الذي كانوا يخفونه وهو مثل القول الأول وقيل المعنى : أنه ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفون عنهم من أمر البعث والقيامة { ولو ردوا } إلى الدنيا حسبما تمنوا { لعادوا } لفعل ما نهوا عنه من القبائح التي رأسها الشرك كما عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند { وإنهم لكاذبون } أي متصفون بهذه الصفة لا ينفكون عنها بحال من الأحوال ولو شاهدوا ما شاهدوا وقيل المعنى : وإنهم لكاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من الصدق والإيمان وقرأ يحيى بن وثاب { ولو ردوا } بكسر الراء لأن الأصل رددوا فنقلت كسرة الدال إلى الراء وجملة { وإنهم لكاذبون } معترضة بين المعطوف وهو وقالوا وبين المعطوف عليه وهو لعادوا : أي لعادوا إلى ما نهوا عنه (2/157)
29 - { وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا } أي ما هي إلا حياتنا الدنيا { وما نحن بمبعوثين } بعد الموت وهذا من شدة تمردهم وعنادهم حيث يقولون هذه المقالة على تقدير أنهم رجعوا إلى الدنيا بعد مشاهدتهم للبعث (2/158)
قوله : 30 - { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } قد تقدم تفسيره في قوله : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } أي حبسوا على ما يكون من أمر ربهم فيهم وقيل على بمعنى عند وجواب لو محذوف : أي لشاهدت أمرا عظيما والاستفهام في { أليس هذا بالحق } للتقريع والتوبيخ : أي أليس هذا البعث الذي ينكرونه كائنا موجودا وهذا الجزاء الذي يجحدونه حاضرا { قالوا بلى وربنا } اعترفوا بما أنكروا وأكدوا اعترافهم بالقسم { قال فذوقوا العذاب } الذي تشاهدونه وهو عذاب النار { بما كنتم تكفرون } أي بسبب كفركم به أو بكل شيء مما أمرتم بالإيمان به في دار الدنيا
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ثم لم تكن فتنتهم } قال : معذرتهم وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه { ثم لم تكن فتنتهم } قال : حجتهم { إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } يعني المنافقين والمشركين قالوا وهم في النار : هلم فلنكذب فلعله أن ينفعنا فقال الله : { انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم } في القيامة { ما كانوا يفترون } يكذبون في الدنيا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله : { والله ربنا ما كنا مشركين } ثم قال : { ولا يكتمون الله حديثا } قال : بجوارحهم وأخرج عبد بن حميد عن قتادة { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } قال : باعتذارهم الباطل { وضل عنهم ما كانوا يفترون } قال : ما كانوا يشركون وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ومنهم من يستمع إليك } قال : قريش وفي قوله : { وجعلنا على قلوبهم أكنة } قال : كالجعبة للنبل وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا } قال : يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئا كمثل البهيمة التي لا تسمع النداء ولا تدري ما يقال لها وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال : الغطاء أكن قلوبهم أن يفقهوه والوقر الصمم و { أساطير الأولين } أساجيع الأولين وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : أساطير الأولين : أحاديث الأولين وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : أساطير الأولين : كذب الأولين وباطلهم وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { وهم ينهون عنه وينأون عنه } قال : نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يردوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ويتباعد عما جاء به وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن القاسم بن مخيمرة نحوه وأخرج ابن جرير عن عطاء نحوه أيضا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : ينهون عنه الناس أن يؤمنوا به { وينأون عنه } : يتباعدون وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه قال : لا يلقونه ولا يدعون أحدا يأتيه وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن الحنفية في الآية قال : كفار مكة كانوا يدفعون الناس عنه ولا يجيبونه وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : ينهون عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه و سلم { وينأون عنه } يتباعدون عنه وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال في الآية قال : نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه و سلم وكانوا عشرة فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه في السر وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } قال : من أعمالهم { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } يقول : ولو وصل الله لهم دنيا كدنياهم التي كانوا فيها لعادوا إلى أعمالهم أعمال السوء التي كانوا نهوا عنها وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى فقال : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } أي ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حيل بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا (2/158)
قوله : 31 - { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } هم الذين تقدم ذكرهم والمراد من تكذيبهم بلقاء الله تكذيبهم بالبعث وقيل تكذيبهم بالجزاء والأول أولى لأنهم الذين قالوا قريبا { إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة } أي القيامة وسميت ساعة لسرعة الحساب فيها ومعنى بغتة : فجأة يقال : بغتهم الأمر يبغتهم بغتا وبغتة قال سيبويه : وهي مصدر في موضع الحال قال : ولا يجوز أن يقاس عليه فلا يقال : جاء فلان سرعة و { حتى } غاية للتكذيب لا للخسران فإنه لا غاية له { قالوا يا حسرتنا } هذا جواب إذا جاءتهم أوقعوا النداء على الحسرة وليست بمنادى في الحقيقة ليدل ذلك على كسرة تحسرهم والمعنى : يا حسرتنا احضري فهذا أوانك كذا قال سيبويه في هذا النداء وأمثاله كقولهم : يا للعجب ويا للرجل وقيل هو تنبيه للناس على عظم ما يحل بهم من الحسرة كأنهم قالوا : يا أيها الناس تنبهوا على عظيم ما بنا من الحسرة والحسرة : الندم الشديد { على ما فرطنا فيها } أي على تفريطنا في الساعة : أي في الاعتداد لها والاحتفال بشأنها والتصديق بها ومعنى فرطنا ضيعنا وأصله التقدم يقال فرط فلان : أي تقدم وسبق إلى الماء ومنه قوله صلى الله عليه و سلم : [ وأنا فرطكم على الحوض ] ومنه الفارط : أي المتقدم فكأنه أرادوا بقولهم : { على ما فرطنا } أي على ما قدمنا من عجزنا عن التصديق بالساعة والاعتداد لها وقال ابن جرير الطبري : إن الضمير في فرطنا فيها يرجع إلى الصفقة وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الإيمان بالكفر والدنيا بالآخرة { قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا } في صفقتنا وإن لم تذكر في الكلام فهو دال عليها لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة وقيل الضمير راجع إلى الحياة : أي على ما فرطنا في حياتنا قوله : { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } هذه الجملة حالية : أي يقولون تلك المقالة والحال أنهم { يحملون أوزارهم على ظهورهم } أي ذنوبهم جمع وزر : يقال وزر يزر فهو وازر وموزور وأصله من الوزر قال أبو عبيدة : يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع : احمل وزرك : أي ثقلك ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية والمعنى : أنها لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها وجعلها محمولة على الظهور تمثيل { ألا ساء ما يزرون } أي بئس ما يحملون (2/160)
قوله : 32 - { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } أي وما متاع الدنيا إلا لعب ولهو على تقدير حذف مضاف أو ما الدنيا من حيث هي إلا لعب ولهو والقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم : { ما هي إلا حياتنا الدنيا } واللعب معروف وكذلك اللهو وكل ما يشغلك فقد ألهاك وقيل أصله الصرف عن الشيء ورد بأن اللهو بمعنى الصرف لامه ياء يقال : لهيت عنه ولام اللهو واو يقال : لهوت بكذا { وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون } سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا : أي هي خير للذين يتقون الشرك والمعاصي أفلا تعقلون ذلك قرأ ابن عامر { ولدار الآخرة } بلام واحدة وبالإضافة وقرأ الجمهور باللام التي للتعريف معها وجعل الآخرة نعتا لها والخبر خير وقرئ { تعقلون } بالفوقية والتحتية (2/161)
قوله : 33 - { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } هذه اللام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه و سلم عما ناله من الغم والحزن بتكذيب الكفار له ودخول قد للتكثير فإنها قد تأتي لإفادته كما تأتي رب والضمير في { إنه } للشأن وقرئ بفتح الياء من يحزنك وضمها وقرئ { يكذبونك } مشددا ومخففا واختار أبو عبيد قراءة التخفيف قال النحاس : وقد خولف أبو عبيد في هذا ومعنى { يكذبونك } على التشديد : ينسبونك إلى الكذب ويردون عليك ما قلته ومعنى المخفف : أنهم لا يجدونك كذابا يقال أكذبته : وجدته كذابا وأبخلته : وجدته بخيلا وحكى الكسائي عن العرب : أكذبت الرجل : أخبرت أنه جاء بالكذب وكذبته : أخبرت أنه كاذب وقال الزجاج : كذبته إذا قلت له كذبت وأكذبته : إذا أردت أن ما أتى به كذب والمعنى : أن تكذيبهم ليس يرجع إليك فإنهم يعترفون لك بالصدق ولكن تكذيبهم راجع إلى ما جئت به ولهذا قال : { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } ووضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التوبيخ لهم والإزراء عليهم ووصفهم بالظلم لبيان أن هذا الذي وقع منهم ظلم بين (2/161)
قوله : 34 - { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } هذا من جملة التسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم : أي أن هذا الذي وقع من هؤلاء إليك ليس هو بأول ما صنعه الكفار مع من أرسله الله إليهم بل قد وقع التكذيب لكثير من الرسل المرسلين من قبلك فاقتد بهم ولا تحزن واصبر كما صبروا على ما كذبوا به وأوذوا حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم فإنا لا نخلف الميعاد و { لكل أجل كتاب } { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا } { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } { إنهم لهم المنصورون } { وإن جندنا لهم الغالبون } { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } { ولا مبدل لكلمات الله } بل وعده كائن وأنت منصور على المكذبين ظاهر عليهم وقد كان ذلك ولله الحمد { ولقد جاءك من نبإ المرسلين } ما جاءك من تجري قومهم عليهم في الابتداء وتكذيبهم لهم ثم نصرهم عليهم في الانتهاء وأنت ستكون عاقبة هؤلاء المكذبين لك كعاقبة المكذبين للرسل فيرجعون إليك ويدخلون في الدين الذي تدعوهم إليه طوعا أو كرها (2/162)
قوله : 35 - { وإن كان كبر عليك إعراضهم } كان النبي صلى الله عليه و سلم يكبر عليه إعراض قومه ويتعاظمه ويحزن له فبين له الله سبحانه أن هذا الذي وقع منهم من توليهم عن الإجابة له والإعراض عما دعا إليه هو كائن لا محالة لما سبق في علم الله عز و جل وليس في استطاعته وقدرته إصلاحهم وإجابتهم قبل أن يأذن الله بذلك ثم علق ذلك بما هو محال فقال : { فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية } { أو سلما في السماء فتأتيهم بآية } منها فافعل ولكنك لا تستطيع ذلك فدع الحزن و { لا تذهب نفسك عليهم حسرات } و { لست عليهم بمصيطر } والنفق : السرب والمنفذ ومنه النافقاء لجحر اليربوع ومنه المنافق وقد تقدم في البقرة ما يغني عن الإعادة والسلم : الدرج الذي يرتقي عليه وهو مذكر لا يؤنث وقال الفراء : إنه يؤنث قال الزجاج : وهو مشتق من السلامة لأنه يسلك به إلى موضع الأمن وقيل : إن الخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم فالمراد به أمته لأنها كانت تضيق صدورهم بتمرد الكفرة وتصميمهم على كفرهم ولا يشعرون أن لله سبحانه في ذلك حكمة لا تبلغها العقول ولا تدركها الأفهام فإن الله سبحانه لو جاء لرسوله صلى الله عليه و سلم بآية تضطرهم إلى الإيمان لم يبق للتكليف الذي هو الابتلاء والامتحان معنى ولهذا قال : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } جمع إلجاء وقسر ولكنه لم يشأ ذلك ولله الحكمة البالغة { فلا تكونن من الجاهلين } فإن شدة الحرص والحزن لإعراض الكفار عن الإجابة قبل أن يأذن الله بذلك هو صنيع أهل الجهل ولست منهم فدع الأمور مفوضة إلى عالم الغيب والشهادة فهو أعلم بما فيه المصلحة ولا تحزن لعدم حصول ما يطلبونه من الآيات التي لو بدا لهم بعضها لكان إيمانهم بها اضطرارا (2/162)
36 - { إنما يستجيب الذين يسمعون } أي إنما يستجيب لك إلى ما تدعو إليه الذين يسمعون سماع تفهم بما تقتضيه العقول وتوجبه الأفهام وهؤلاء ليسوا كذلك بل هم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ولا يعقلون لما جعلنا على قلوبهم من الأكنة وفي آذانهم من الوقر ولهذا قال : { والموتى يبعثهم الله } شبههم بالأموات بجامع أنهم جميعا لا يفهمون الصواب ولا يعقلون الحق : أي أن هؤلاء لا يلجئهم الله إلى الإيمان وإن كان قادرا على ذلك كما يقدر على بعثة الموتى للحساب { ثم إليه يرجعون } إلى الجزاء فيجازي كلا بما يليق به كما تقتضيه حكمته البالغة
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { قالوا يا حسرتنا } قال : الحسرة الندامة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : { يا حسرتنا } قال : الحسرة أن يرى أهل النار منازلهم من الجنة فتلك الحسرة وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { ألا ساء ما يزرون } قال : ما يعلمون وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { لعب ولهو } قال : كل لعب : لهو وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والضياء في المختارة عن علي بن أبي طالب قال : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه و سلم : إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به فأنزل الله { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي يزيد المدني أن أبا جهل قال : والله إني لأعلم أنه صادق ولكن متى كنا تبعا لبني عبد مناف ؟ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن أبي ميسرة نحو رواية علي بن أبي طالب وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } قال : يعلمون أنك رسول الله ويجحدون وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : { ولقد كذبت رسل من قبلك } قال : يعزي نبيه صلى الله عليه و سلم وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال : { فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض } والنفق : السرب فتذهب فيه فتأتيهم بآية أو تجعل لهم سلما في السماء فتصعد عليه { فتأتيهم بآية } أفضل مما أتيناهم به فافعل { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } يقول سبحانه : لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { نفقا في الأرض } قال : سربا { أو سلما في السماء } قال : يعني الدرج وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : { إنما يستجيب الذين يسمعون } قال : المؤمنون { والموتى } قال : الكفار وأخرج هؤلاء عن مجاهد مثله (2/163)
هذا كان منهم تعنتا ومكابرة حيث لم يقتدوا بما قد أنزله الله على رسوله من الآيات البينات التي من جملتها القرآن وقد علموا أنهم قد عجزوا عن أن يأتوا بسورة مثله ومرادهم بالآية هنا هي التي تضطرهم إلى الإيمان كنزول الملائكة بمرأى منهم ومسمع أو نتق الجبل كما وقع لبني إسرائيل فأمره الله سبحانه أن يجيبهم بأن الله قادر على أن ينزل على رسوله آية تضطرهم إلى الإيمان ولكنه ترك ذلك لتظهر فائدة التكليف الذي هو الابتلاء والامتحان وأيضا لو نزل آية كما طلبوا لم يمهلهم بعد نزولها بل سيعاجلهم بالعقوبة إذا لم يؤمنوا قال الزجاج : طلبوا أن يجمعهم على الهدى يعني جمع إلجاء { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن الله قادر على ذلك وأنه تركه لحكمة بالغة لا تبلغها عقولهم (2/164)
قوله : 38 - { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } الدابة من دب يدب فهو داب : إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو وقد تقدم بيان ذلك في البقرة { ولا طائر } معطوف على { دابة } مجرور في قراءة الجمهور وقرأ الحسن وعبد الله بن أبي إسحاق { ولا طائر } بالرفع عطفا على موضع من دابة على تقدير زيادة من و { بجناحيه } لدفع الإبهام لأن العرب تستعمل الطيران لغير الطير كقولهم : طرفي حاجتي : أي أسرع وقيل إن اعتدال جسد الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران ومع عدم الاعتدال يميل فأعلمنا سبحانه أن الطيران بالجناحين وقيل ذكر الجناحين للتأكيد كضرب بيده وأبصر بعينيه ونحو ذلك والجناح : أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء وأصله الميل إلى ناحية من النواحي والمعنى : ما من دابة من الدواب التي تدب في أي مكان من أمكنة الأرض ولا طائر يطير في أي ناحية من نواحيها { إلا أمم أمثالكم } أي جماعات مثلكم خلقهم الله كما خلقكم ورزقهم كما رزقكم داخلة تحت علمه وتقديره وإحاطته بكل شيء وقيل : { أمثالها } في ذكر الله والدلالة عليه وقيل : { أمثالها } في كونهم محشورين روي ذلك عن أبي هريرة وقال سفيان بن عيينة : أي ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه فمنهم من يعدو كالأسد ومنهم من يشره كالخنزير ومنهم من يعوي كالكلب ومنهم من يزهو كالطاوس وقيل : { أمثالكم } في أن لها أسماء تعرف بها وقال الزجاج : { أمثالكم } في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص والأولى أن تحمل المماثلة على كل ما يمكن وجود شبه فيه كائنا ما كان قوله : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } أي ما أغفلنا عنه ولا ضيعنا فيه من شيء والمراد بالكتاب : اللوح المحفوظ فإن الله أثبت فيه جميع الحوادث وقيل إن المراد به القرآن : أي ما تركنا في القرآن من شيء من أمر الدين إما تفصيلا أو إجمالا ومثله قوله تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } وقال : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } ومن جملة ما أجمله في الكتاب العزيز قوله : { ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فأمر في هذه الآية باتباع ما سنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فكل حكم سنه الرسول لأمته قد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز بهذه الآية وبنحو قوله تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } وبقوله : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } ومن في { من شيء } مزيدة للاستغراق قوله : { ثم إلى ربهم يحشرون } يعني الأمم المذكورة وفيه دلالة على أنها تحشر كما يحشر بنو آدم وقد ذهب إلى هذا جمع من العلماء ومنهم أبو ذر وأبو هريرة والحسن وغيرهم وذهب ابن عباس إلى أن حشرها موتها وبه قال الضحاك والأول أرجح للآية ولما صح في السنة المطهرة من أنه يقاد يوم القيامة للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ولقول الله تعالى : { وإذا الوحوش حشرت } وذهبت طائفة من العلماء إلى أن المراد بالحشر المذكور في الآية حشر الكفار وما تخلل كلام معترض قالوا : وأما الحديث فالمقصود به التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص واستدلوا أيضا بأن في هذا الحديث خارج الصحيح عن بعض الرواة زيادة ولفظه : [ حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء وللحجر لم ركب على الحجر ؟ والعود لم خدش العود ؟ ] قالوا : والجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها (2/164)
قوله : 39 - { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم } أي لا يسمعون بأسماعهم ولا ينطقون بألسنتهم نزلهم منزلة من لا يسمع ولا ينطق لعدم قبولهم لما ينبغي قبوله من الحجج الواضحة والدلائل الصحيحة وقال أبو علي : يجوز أن يكون صممهم وبكمهم في الآخرة قوله : { في الظلمات } أي في ظلمات الكفر والجهل والحيرة لا يهتدون لشيء مما فيه صلاحهم والمعنى : كائنين في الظلمات التي تمنع من إبصار المبصرات وضموا إلى الصمم والبكم عدم الانتفاع بالأبصار لتراكم الظلمة عليهم فكانت حواسهم كالمسلوبة التي لا ينتفع بها بحال وقد تقدم في البقرة تحقيق المقام بما يغني عن الإعادة ثم بين سبحانه أن الأمر بيده ما شاء يفعل من شاء تعالى أن يضله أضله ومن شاء أن يهديه جعله على صراط مستقيم لا يذهب به إلى غير الحق ولا يمشي فيه إلا إلى صوب الاستقامة
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله : { إلا أمم أمثالكم } قال : أصنافا مصنفة تعرف بأسمائها وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : الطير أمة والإنس أمة والجن أمة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي : قال : خلق أمثالكم وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في الآية قال : الذرة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس { ما فرطنا في الكتاب من شيء } يعني ما تركنا شيئا إلا وقد كتبناه في أم الكتاب وأخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ عن قتادة نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ثم إلى ربهم يحشرون } قال : موت البهائم حشرها وفي لفظ قال : يعني بالحشر الموت وأخرج عبد الرزاق وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : [ ما من دابة ولا طائر إلا سيحشر يوم القيامة ثم يقتص لبعضها من بعض حتى يقتص للجلحاء من ذات القرن ثم يقال لها : كوني ترابا فعند ذلك يقول الكافر : { يا ليتني كنت ترابا } وإن شئتم فاقرأوا { وما من دابة في الأرض } الآية ] وأخرج ابن جرير عن أبي ذر قال : انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال لي : [ يا أبا ذر أتدري فيم انتطحتا ؟ قلت : لا قال : لكن الله يدري وسيقضي بينهما ] قال أبو ذر : ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما وأخرجه أيضا أحمد وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ] (2/166)
قوله : 40 - { أرأيتكم } الكاف والميم عند البصريين للخطاب ولا حظ لهما في الإعراب وهو اختيار الزجاج وقال الكسائي والفراء وغيرهما : إن الكاف والميم في محل نصب بوقوع الرؤية عليهما والمعنى : أرأيتم أنفسكم قال الكشاف مرجحا للمذهب الأول : إنه لا محل للضمير الثاني يعني الكاف من الإعراب لأنك تقول : أرأيتك زيدا ما شأنه فلو جعلت للكاف محلا لكنت كأنك تقول : أرأيت نفسك زيدا ما شأنه وهو خلف من القول انتهى والمعنى : أخبروني { إن أتاكم عذاب الله } كما أتى غيركم من الأمم { أو أتتكم الساعة } أي القيامة { أغير الله تدعون } هذا على طريقة التبكيت والتوبيخ : أي أتدعون غير الله في هذه الحالة من الأصنام التي تعبدونها أم تدعون الله سبحانه وقوله : { إن كنتم صادقين } تأكيد لذلك التوبيخ : أي أغير الله من الأصنام تدعون إن كنتم صادقين أن أصنامكم تضر وتنفع وأنها آلهة كما تزعمون (2/167)
قوله : 41 - { بل إياه تدعون } معطوف على منفي مقدر أي لا تدعون غيره بل إياه تخصون بالدعاء { فيكشف ما تدعون إليه } أي فيكشف عنكم ما تدعونه إلى كشفه إن شاء أن يكشفه عنكم لا إذا لم يشأ ذلك قوله : { وتنسون ما تشركون } أي وتنسون عند أن يأتيكم العذاب ما تشركون به تعالى : أي ما تجعلونه شريكا له من الأصنام ونحوها فلا تدعونها ولا ترجون كشف ما بكم منها بل تعرضون عنها إعراض الناس وقال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى : وتتركون ما تشركون (2/167)
قوله : 42 - { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك } كلام مبتدأ مسوق لتسلية النبي صلى الله عليه و سلم : أي ولقد أرسلنا إلى أمم كائنة من قبلك رسلا فكذبوهم { فأخذناهم بالبأساء والضراء } أي البؤس والضر وقيل : البأساء المصائب في الأموال والضراء المصائب في الأبدان وبه قال الأكثر : { لعلهم يتضرعون } أي يدعون الله بضراعة مأخوذ من الضراعة وهي الذل يقال : ضرع فهو ضارع ومنه قول الشاعر :
( لبيك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح ) (2/168)
قوله : 43 - { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا لكنهم لم يتضرعوا وهذا عتاب لهم على ترك الدعاء في كل الأحوال حتى عند نزول العذاب بهم لشدة تمردهم وغلوهم في الكفر ويجوز أن يكون المعنى أنهم تضرعوا عند أن نزل بهم العذاب وذلك تضرع ضروري لم يصدر عن إخلاص فهو غير نافع لصاحبه والأول أولى كما يدل عليه { ولكن قست قلوبهم } أي صلبت وغلظت { وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } أي أغواهم بالتصميم على الكفر والاستمرار على المعاصي (2/168)
قوله : 44 - { فلما نسوا ما ذكروا به } أي تركوا ما ذكروا به أو أعرضوا عما ذكروا به لأن النسيان لو كان على حقيقته لم يؤاخذوا به إذ ليس هو من فعلهم وبه قال ابن عباس وابن جريج وأبو علي الفارسي والمعنى : أنهم لما تركوا الاتعاظ بما ذكروا به من البأساء والضراء وأعرضوا عن ذلك { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } أي لما نسوا ما ذكروا به استدرجناهم بفتح أبواب كل نوع من أنواع الخير عليهم { حتى إذا فرحوا بما أوتوا } من الخير على أنواعه فرح بطر وأشر وأعجبوا بذلك وظنوا أنهم إنما أعطوه لكون كفرهم الذي هم عليه حقا وصوابا : { أخذناهم بغتة } أي فجأة وهم غير مترقبين لذلك والبغتة : الأخذ على غرة من غير تقدمة أمارة وهي مصدر في موضع الحال لا يقاس عليها عند سيبويه قوله : { فإذا هم مبلسون } المبلس : الحزين الآيس من الخير لشدة ما نزل به من سوء الحال ومن ذلك اشتق اسم إبليس يقال : أبلس الرجل إذا سكت وأبلست الناقة إذا لم ترع قال العجاج :
( صاح هل تعرف رسما مكرسا ... قال نعم أعرفه وأبلسا )
أي تحير لهول ما رأى والمعنى : فإذا هم محزونون متحيرون آيسون من الفرح (2/168)
قوله : 45 - { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } الدابر الآخر يقال : دبر القوم يدبرهم دبرا : إذا كان آخرهم في المجيء والمعنى : أنه قطع آخرهم : أي استؤصلوا جميعا حتى آخرهم قال قطرب : يعني أنهم استؤصلوا وأهلكوا قال أمية بن أبي الصلت :
( فأهلكوا بعذاب حص دابرهم ... فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا )
ومنه التدبير لأنه أحكام عواقب الأمور قوله : { والحمد لله رب العالمين } أي على هلاكهم وفيه تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه سبحانه عند نزول النعم التي من أجلها هلاك الظلمة الذين يفسدون في الأرض لا يصلحون فإنهم أشد على عباد الله من كل شديد اللهم أرح عبادك المؤمنين من ظلم الظالمين واقطع دابرهم وأبدلهم بالعدل الشامل لهم
وقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله : { فأخذناهم بالبأساء والضراء } قال : خوف السلطان وغلاء السعر وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فلما نسوا ما ذكروا به } قال : يعني تركوا ما ذكروا به وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج { فلما نسوا ما ذكروا به } قال : ما دعاهم الله إليه ورسله أبوه وردوه عليهم وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } قال : رخاء الدنيا ويسرها وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { حتى إذا فرحوا بما أوتوا } قال : من الرزق { أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } قال : مهلكون متغير حالهم { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } يقول : فقطع أصل الذين ظلموا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن النضر الحارثي في قوله : { أخذناهم بغتة } قال : أمهلوا عشرين سنة ولا يخفى أن هذا مخالف لمعنى البغتة لغة ومحتاج إلى نقل عن الشارع وإلا فهو كلام لا طائل تحته وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : المبلس المجهود المكروب الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه والمبلس أشد من المستكين وفي قوله : { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } قال : استؤصلوا (2/169)
هذا تكرير للتوبيخ لقصد تأكيد الحجة عليهم ووحد السمع لأنه مصدر يدل على الجمع بخلاف البصر ولهذا جمعه والختم : الطبع وقد تقدم تحقيقه في البقرة والمراد : أخذ المعاني القائمة بهذه الجوارح أو أخذ الجوارح نفسها والاستفهام في { من إله غير الله يأتيكم به } للتوبيخ و من مبتدأ و إله خبره و غير الله صفة للخبر ووحد الضمير في به مع أن المرجع متعدد على معنى : فمن يأتيكم بذلك المأخوذ أو المذكور وقيل الضمير راجع إلى أحد هذه المذكورات وقيل إن الضمير بمنزلة اسم الإشارة : أي يأتيكم بذلك المذكور ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالنظر في تصريف الآيات وعدم قبولها لها تعجيبا له من ذلك والتصريف المجيء بها على جهات مختلفة تارة إنذار وتارة إعذار وتارة ترغيب وتارة ترهيب وقوله : 46 - { ثم هم يصدفون } عطف على نصرف ومعنى يصدفون : يعرضون يقال : صدف عن الشيء : إذا أعرض عنه صدفا وصدوفا (2/170)
قوله : 47 - { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله } أي أخبروني عن ذلك وقد تقدم تفسير البغتة قريبا أنها الفجأة قال الكسائي : بغتهم يبغتهم بغتا وبغتة : إذا أتاهم فجأة : أي من دون تقديم مقدمات تدل على العذاب والجهرة أن يأتي العذاب بعد ظهور مقدمات تدل عليه وقيل البغتة : إتيان العذاب ليلا والجهرة : إتيان العذاب نهارا كما في قوله تعالى : { بياتا أو نهارا } { هل يهلك إلا القوم الظالمون } الاستفهام للتقرير : أي ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا القوم الظالمون وقرئ يهلك على البناء للفاعل قال الزجاج : معناه هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم ؟ انتهى (2/170)
قوله : 48 - { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } كلام مبتدأ لبيان الغرض من إرسال الرسل : أي مبشرين لمن أطاعهم بما أعد الله له من الجزاء العظيم ومنذرين لمن عصاهم بما له عند الله من العذاب الوبيل : وقيل مبشرين في الدنيا بسعة الرزق وفي الآخرة بالثواب ومنذرين مخوفين بالعقاب وهما حالان مقدرتان : أي ما نرسلهم إلا مقدرين تبشيرهم وإنذارهم { فمن آمن وأصلح } أي آمن بما جاءت به الرسل { وأصلح } حال نفسه بفعل ما يدعونه إليه { فلا خوف عليهم } بوجه من الوجوه { ولا هم يحزنون } بحال من الأحوال هذا حال من آمن وأصلح (2/170)
49 - { والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون } وأما حال المكذبين فهو أن يمسهم العذاب بسبب فسقهم : أي خروجهم عن التصديق والطاعة
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { يصدفون } قال : يعدلون وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { يصدفون } قال : يعرضون وقال في قوله : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة } قال : فجأة آمنين أو جهرة قال : وهم ينظرون وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : كل فسق في القرآن فمعناه الكذب (2/171)
أمره الله سبحانه بأن يخبرهم لما كثر اقتراحهم عليه وتعنتهم بإنزال الآيات التي تضطرهم إلى الإيمان أنه لم يكن عنده خزائن الله حتى يأتيهم بما اقترحوه من الآيات والمراد خزائن قدرته التي تشتمل على كل شيء من الأشياء ويقول لهم : إنه لا يعلم الغيب حتى يخبرهم به ويعرفهم بما سيكون في مستقبل الدهر { ولا أقول لكم إني ملك } حتى تكلفوني من الأفعال الخارقة للعادة ما لا يطيقه البشر وليس في هذا ما يدل على أن الملائكة أفضل من الأنبياء وقد اشتغل بهذه المفاضلة قوم من أهل العلم ولا يترتب على ذلك فائدة دينية ولا دنيوية بل الكلام في مثل هذا من الاشتغال بما لا يعني ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } أي ما أتبع إلا ما يوحيه الله إلي وقد تمسك بذلك من لم يثبت اجتهاد الأنبياء عملا بما يفيده القصر في هذه الآية والمسألة مدونة في الأصول والأدلة عليها معروفة وقد صح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أوتيت القرآن ومثله معه ] { قل هل يستوي الأعمى والبصير } هذا الاستفهام للإنكار والمراد أنه لا يستوي الضال والمهتدي أو المسلم والكافر أو من اتبع ما أوحي إليه ومن لم يتبعه والكلام تمثيل { أفلا تتفكرون } في ذلك حتى تعرفوا عدم الاستواء بينهما فإنه بين لا يلتبس على من له أدنى عقل وأقل تفكر (2/171)
قوله : 51 - { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } الإنذار : الإعلام والضمير في به راجع إلى ما يوحى وقيل إلى الله وقيل إلى اليوم الآخر وخص الذين يخافون أن يحشروا لأن الإنذار يؤثر فيهم لما حل بهم من الخوف بخلاف من لا يخاف الحشر من طوائف الكفر لجحوده به وإنكاره له فإنه لا يؤثر فيه ذلك قيل ومعنى يخافون : يعلمون ويتيقنون أنهم محشورون فيشمل كل من آمن بالبعث من المسلمين وأهل الذمة وبعض المشركين وقيل معنى الخوف على حقيقته والمعنى : أنه ينذر به من يظهر عليه الخوف من الحشر عند أن يسمع النبي صلى الله عليه و سلم يذكره وإن لم يكن مصدقا به في الأصل لكنه يخاف أن يصح ما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم فإن من كان كذلك تكون الموعظة فيه أنجع والتذكير له أنفع قوله : { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } الجملة في محل نصب على الحال : أي أنذر به هؤلاء الذين يخافون الحشر حال كونهم لا ولي لهم يواليهم ولا نصير يناصرهم ولا شفيع يشفع لهم من دون الله وفيه رد على من زعم من الكفار المعترفين بالحشر أن آباءهم يشفعون لهم وهم أهل الكتاب أو أن أصنامهم تشفع لهم وهم المشركون (2/172)
قوله : 52 - { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } الدعاء : العبادة مطلقا وقيل المحافظة على صلاة الجماعة وقيل الذكر وقراءة القرآن وقيل المراد الدعاء لله يجلب النفع ودفع الضرر قيل : والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام على ذلك والاستمرار وقيل هو على ظاهره و { يريدون وجهه } في محل نصب على الحال والمعنى : أنهم مخلصون في عبادتهم لا يريدون بذلك إلا وجه الله تعالى : أي يتوجهون بذلك إليه لا إلى غيره قوله : { ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء } هذا كلام معترض بين النهي وجوابه متضمن لنفي الحامل على الطرد : أي حساب هؤلاء الذين أردت أن تطردهم موافقة لمن طلب ذلك منك هو على انفسهم ما عليك منه شيء وحسابك على نفسك ما عليهم منه شيء فعلام تطردهم ؟ هذا على فرض صحة وصف من وصفهم بقوله : { ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } وطعن عندك في دينهم وحسبهم فكيف وقد زكاهم الله عز و جل بالعبادة والإخلاص وهذا هو مثل قوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وقوله : { ما عليك من حسابهم من شيء } وهو من تمام الاعتراض : أي إذا كان الأمر كذلك فأقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل ومن
في { ما عليك من حسابهم من شيء } للتبعيض والثانية للتوكيد وكذا في { ما من حسابك عليهم من شيء } قوله : { فتكون من الظالمين } جواب للنهي أعني { ولا تطرد الذين يدعون ربهم } أي فإن فعلت ذلك كنت من الظالمين وحاشاه عن وقوع ذلك وإنما هو من باب التعريض لئلا يفعل ذلك غيره صلى الله عليه و سلم من أهل الإسلام كقوله تعالى : { لئن أشركت ليحبطن عملك } وقيل إن { فتكون من الظالمين } معطوف على فتطردهم على طريق التسبب والأول أولى (2/172)
قوله : 53 - { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } أي مثل ذلك الفتن العظيم فتنا بعض الناس ببعض والفتنة : الاختبار : أي عاملناهم معاملة المختبرين واللام في { ليقولوا } للعاقبة : أي ليقول البعض الأول مشيرين إلى البعض الثاني { أهؤلاء } الذين { من الله عليهم من بيننا } أي أكرمهم بإصابة الحق دوننا قال النحاس : وهذا من المشكل لأنه يقال : كيف فتنوا ليقولوا هذا القول وهو إن كان على طريقة الإنكار كفر وأجاب بجوابين : الأول : أن ذلك واقع منهم على طريقة الاستفهام لا على سبيل الإنكار والثاني : أنهم لما اختبروا بهذا كان عاقبته هذا القول منهم كقوله : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا } قوله : قوله : { أليس الله بأعلم بالشاكرين } هذا الاستفهام للتقرير والمعنى : أن مرجع الاستحقاق لنعم الله سبحانه هو الشكر وهو أعلم بالشاكرين له فما بالكم تعترضون بالجهل وتنكرون الفضل (2/173)
قوله : 54 - { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا } هم الذين نهاه الله عن طردهم وهم المستضعفون من المؤمنين كما سيأتي بيانه { فقل سلام عليكم } أمره الله بأن يقول لهم هذا القول تطييبا لخواطرهم وإكراما لهم والسلام والسلامة : بمعنى واحد فمعنى سلام عليكم : سلمكم الله وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم بعد نزول هذه الآية إذا رآهم بدأهم بالسلام وقيل : إن هذا السلام هو من جهة الله : أي أبلغهم منا السلام قوله : { كتب ربكم على نفسه الرحمة } أي أوجب ذلك إيجاب فضل وإحسان وقيل : كتب ذلك في اللوح المحفوظ قيل : هذا من جملة ما أمره الله سبحانه بإبلاغه إلى أولئك الذين أمره بإبلاغ السلام إليهم تبشيرا بسعة مغفرة الله وعظيم رحمته قوله : { أنه من عمل منكم سوءا بجهالة } قرأ ابن عامر وعاصم ونافع بفتح أن من أنه وقرأ الباقون بكسرها فعلى القراءة الأولى تكون هذه الجملة بدلا من الرحمة : أي كتب ربكم على نفسه أنه من عمل إلى آخره وعلى القراءة الثانية تكون هذه الجملة مفسرة للرحمة بطريق الاستئناف وموضع بجهالة النصب على الحال : أي عمله وهو جاهل قيل : والمعنى أنه فعل فعل الجاهلين لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة مع علمه بذلك أو ظنه فقد فعل فعل أهل الجهل والسفه لا فعل أهل الحكمة والتدبير وقيل المعنى : أنه عمل ذلك وهو جاهل لما يتعلق به من المضرة فتكون فائدة التقييد بالجهالة الإيذان بأن المؤمن لا يباشر ما يعلم أنه يؤدي إلى الضرر قوله : { ثم تاب من بعده } أي من بعد عمله { وأصلح } ما أفسده بالمعصية فراجع الصواب وعمل الطاعة { إن الله غفور رحيم } قرأ ابن عامر وعاصم بفتح الهمزة من فإنه وقرأ الباقون الكسر فعلى القراءة الأولى تكون أن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف : أي فأمره أن الله غفور رحيم وهذا اختيار سيبويه واختار أبو حاتم أن الجملة في محل رفع على الابتداء والخبر مضمر كأنه قيل فله : { أنه غفور رحيم } قال : لأن المبتدأ هو ما بعد الفاء وأما على القراءة الثانية فالجملة مستأنفة (2/173)
قوله : 55 - { وكذلك نفصل الآيات } أي مثل ذلك التفصيل نفصلها والتفصيل التبيين والمعنى : أن الله فصل لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين وبين لهم حكم كل طائفة قوله : { ولتستبين سبيل المجرمين } قال الكوفيون : هو معطوف على مقدر : أي وكذلك نفصل الآيات لنبين لكم ولتستبين قال النحاس : وهذا الحذف لا يحتاج إليه وقيل : إن دخول الواو للعطف على المعنى : قرئ { لتستبين } بالفوقية والتحتية فالخطاب على الفوقية للنبي صلى الله عليه و سلم : أي لتستبين يا محمد سبيل المجرمين وسبيل منصوب على قراءة نافع وأما على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحفص بالرفع فالفعل مسند إلى سبيل وأما على التحتية فالفعل مسند إلى سبيل ايضا وهي قراءة حمزة والكسائي وشعبة بالفرع وإذا استبان سبيل المجرمين فقد استبان سبيل المؤمنين
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { قل هل يستوي الأعمى والبصير } قال : الأعمى الكافر الذي عمي عن حق الله وأمره ونعمه عليه والبصير : العبد المؤمن الذي أبصر بصرا نافعا فوحد الله وحده وعمل بطاعة ربه وانتفع بما أتاه الله وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن مسعود : قال مر الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه و سلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك { أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } أنحن نكون تبعا لهؤلاء اطردهم عنا فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فأنزل الله فيهم القرآن { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } إلى قوله : { والله عليم بالظالمين } وقد أخرج هذا السبب مطولا ابن جرير وابن المنذر عن عطرمة وفيه : إن الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل والحارث بن عامر بن نوفل ومطعم بن عدي بن الخيار بن نوفل في أشراف الكفار من عبد مناف وأخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل عن خباب قال : جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فذكر نحو حديث عبد الله بن مسعود مطولا قال ابن كثير : هذا حديث غريب فإن هذه الآية مكية والأقرع وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر وأخرج مسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص قال : لقد نزلت هذه الآية في ستة : أنا وعبد الله بن مسعود وبلال ورجل من هذيل ورجلان لست أسميهما فقال المشركون للنبي صلى الله عليه و سلم : اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه و سلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } وقد روي في بيان السبب روايات موافقة لما ذكرنا في المعنى وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بالغداة والعشي } قال : يعني الصلاة المكتوبة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : الصلاة المكتوبة الصبح والعصر وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إبراهيم النخعي في الآية قال : هم أهل الذكر لا تطردهم عن الذكر قال سفيان : أي أهل الفقه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } يعني أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء فقال الأغنياء للفقراء : { أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } يعني أهؤلاء هداهم الله وإنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج { أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } أي لو كان لهم كرامة على الله ما أصابهم هذا الجهد وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ماهان قال : أتى قوم النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوبا عظاما فما رد عليهم شيئا فانصرفوا فأنزل الله : { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا } الآية فدعاهم فقرأها عليهم وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : أخبرت أن قوله : { سلام عليكم } كانوا إذا دخلوا على النبي صلى الله عليه و سلم بدأهم السلام فقال : { سلام عليكم } وإذا لقيهم فكذلك أيضا وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله : { وكذلك نفصل الآيات } قال : نبين الآيات وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { ولتستبين سبيل المجرمين } قال : الذين يأمرونك بطرد هؤلاء (2/174)
قوله : 56 - { قل إني نهيت } أمره الله سبحانه أن يعود إلى مخاطبة الكفار ويخبرهم بأنه نهى عن عبادة ما يدعونه ويعبدونه من دون الله : أي نهاه اله عن ذلك وصرفه وزجره ثم أمره سبحانه بأن يقول لهم : { لا أتبع أهواءكم } أي لا أسلك المسلك الذي سلكتموه في دينكم من اتباع الأهواء والمشي على ما توجيه المقاصد الفاسدة التي يتسبب عنها الوقوع في الضلال قوله : { قد ضللت إذا } أي اتبعت أهواءكم فيما طلبتموه من عبادة معبوداتكم وطرد من أردتم طرده { وما أنا من المهتدين } إن فعلت ذلك وهذه الجملة الإسمية معطوفة على الجملة التي قبلها والمجيء بها إسمية عقب تلك الفعلية للدلالة على الدوام والثبات وقرئ { ضللت } بفتح اللام وكسرها وهما لغتان قال أبو عمرو : ضللت بكسر اللام لغة تميم وهي قراءة ابن وثاب وطلحة بن مصرف والأولى هي الأصح والأفصح لأنها لغة أهل الحجاز وهي قراءة الجمهور قال الجوهري : والضلال والضلالة ضد الرشاد وقد ضللت أضل قال الله تعالى : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي } قال فهذه : يعني المفتوحة لغة نجد وهي الفصيحة وأهل العالية يقول : ضللت بالكسر أضل انتهى (2/176)
قوله : 57 - { قل إني على بينة من ربي } البينة : الحجة والبرهان : أي إني على برهان من ربي ويقين لا على هوى وشك أمره الله سبحانه بأن يبين لهم أن ما هو عليه من عبادة ربه هو عن حجة برهانية يقينية لا كما هم عليه من اتباع الشبه الداحضة والشكوك الفاسدة التي لا مستند لها إلا مجرد الأهوية الباطلة قوله : { وكذبتم به } أي بالرب أو بالعذاب أو بالقرآن أو بالبينة والتذكير للضمير باعتبار المعنى وهذه الجملة إما حالية بتقدير قد : أي والحال أن قد كذبتم به أو جملة مستأنفة مبينة لما هم عليه من التكذيب بما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الحجج الواضحة والبراهين البينة (2/177)
قوله : 58 - { ما عندي ما تستعجلون به } أخبرهم بأنه لم يكن عنده ما يتعجلونه من العذاب فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء نحوه قوله : { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا } وقولهم : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } وقولهم : { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } وقيل : { ما عندي ما تستعجلون به } من الآيات التي تقترحونها علي قوله : { إن الحكم إلا لله } : أي ما الحكم في كل شيء إلا لله سبحانه ومن جملة ذلك ما تستعجلون به من العذاب أو الآيات المقترحة والمراد : الحكم الفاصل بين الحق والباطل قوله : { يقص الحق } قرأ نافع وابن كثير وعاصم { يقص } بالقاف والصاد المهملة وقرأ الباقون { يقض } بالضاد المعجمة والياء وكذا قرأ علي وأبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن المسيب وهو مكتوب في المصحف بغير ياء فعلى القراءة الأولى هو من القصص : أي يقص القصص الحق أو نم قص أثره : أي يتبع الحق فيما يحكم به وعلى القراءة الثانية هو من القضاء : أي يقضي القضاء بين عباده والحق منتصب على المفعولية أو على أنه صفة لمصدر محذوف : أي يقضي القضاء الحق أو يقص القصص الحق { وهو خير الفاصلين } أي بين الحق والباطل بما يقضي به بين عباده ويفصله لهم في كتابه ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم : { لو أن عندي ما تستعجلون به } أي ما تطلبون تعجيله بأن يكون إنزاله بكم مقدورا لي وفي وسعي { لقضي الأمر بيني وبينكم } أي لقضى الله الأمر بيننا بأن ينزله الله سبحانه بكم بسؤالي له وطلبي ذلك أو المعنى : لو كان العذاب الذي تطلبونه وتستعجلون به عندي وفي قبضتي لأنزلته بكم وعند ذلك يقضي الأمر بيني وبينكم { والله أعلم بالظالمين } وبالوقت الذي ينزل فيه عذابهم وبما تقتضيه مشيئته من تأخيره استدراجا لهم وإعذارا إليهم (2/177)
قوله : 59 - { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } المفاتح جمع مفتح بالفتح : وهو المخزن : أي عنده مخازن الغيب جعل للأمور الغيبية مخازن تخزن فيها على طريق الاستعارة أو جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح جعل للأمور الغيبية مفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن منها على طريق الاستعارة أيضا ويؤيد أنها جمع مفتح بالكسر قراءة ابن السميفع ( وعنده مفاتيح الغيب ) فإن المفاتيح جمع مفتاح والمعنى : إن عنده سبحانه خاصة مخازن الغيب أو المفاتح التي يتوصل بها إلى المخازن وقوله : { لا يعلمها إلا هو } جملة مؤكدة لمضمون الجملة الأولى وأنه لا علم لأحد من خلقه بشيء من الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها ويندرج تحت هذه الآية علم ما يستعجله الكفار من العذاب كما يرشد إليه السياق اندراجا أوليا وفي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من المدعين ما ليس من شأنهم ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم ولقد ابتلي الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم : [ من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد ] قوله : { ويعلم ما في البر والبحر } خصهما بالذكر لأنهما من أعظم مخلوقات الله : أي يعلم ما فيهما من حيوان وجماد علما مفصلا لا يخفى عليه منه شيء أو خصهما لكونهما أكثر ما يشاهده الناس ويتطلعون لعلم ما فيهما { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } أي من ورق الشجر وهو تخصيص بعد التعميم : أي يعلمها ويعلم زمان سقوطها ومكانه وقيل : المراد بالورقة ما يكتب فيه الآجال والأرزاق وحكى النقاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها هنا السقط من أولاد بني آدم قال ابن عطية : وهذا قول جار على طريقة الرموز ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه { ولا حبة } كائنة { في ظلمات الأرض } أي في الأمكنة المظلمة وقيل في بطن الأرض : { ولا رطب ولا يابس } بالخفض عطفا على حبة : وهي معطوفة على ورقة وقرأ ابن السميفع والحسن وغيرهما بالرفع عطفا على موضع من ورقة وقد شمل وصف الرطوبة واليبوسة جميع الموجودات قوله : { إلا في كتاب مبين } هو اللوح المحفوظ فتكون هذه الجملة بدل اشتمال من { إلا يعلمها } وقيل : هو عبارة عن علمه فتكون هذه الجملة بدل كل من تلك الجملة
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني في قوله : { قل إني على بينة من ربي } قال : على ثقة وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله : { لقضي الأمر بيني وبينكم } قال : لقامت الساعة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { وعنده مفاتح الغيب } قال : يقول خزائن الغيب وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وعنده مفاتح الغيب } قال : هن خمس { إن الله عنده علم الساعة } إلى قوله : { عليم خبير } وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله ] وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } قال : ما من شجرة في بر ولا بحر إلا وبها ملك يكتب ما يسقط من ورقها وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد نحوه وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن جحادة في قوله : { وما تسقط من ورقة } قال : لله تبارك وتعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده فذلك قوله : { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } وأخرج الخطيب في تاريخه بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من زرع على الأرض ولا ثمار على أشجار إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم هذا رزق فلان ابن فلان ] فذلك قوله تعالى : { وما تسقط من } الآية وقد رواه ابن يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكره وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية : { ولا رطب ولا يابس } فقال : الرطب واليابس من كل شيء (2/178)
قوله : 60 - { يتوفاكم بالليل } أي ينيمكم فيقبض فيه نفوسكم التي بها تميزون وليس ذلك موتا حقيقة فهو مثل قوله : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } والتوفي استيفاء الشيء وتوفيت الشيء واستوفيته : إذا أخذته أجمع قال الشاعر :
( إن بني الأدرم ليسوا من أحد ... ولا توفاهم قريش في العدد )
قيل : الروح إذا خرجت من البدن في المنام بقيت فيه الحياة وقيل : لا تخرج منه الروح بل الذهن فقط والأولى أن هذا أمر لا يعرفه إلا الله سبحانه قوله : { ويعلم ما جرحتم بالنهار } أي كسبتم بجوارحكم من الخير والشر قوله : { ثم يبعثكم فيه } أي في النهار يعني اليقظة وقيل : يبعثكم من القبور فيه : أي في شأن ذلك الذي قطعتم فيه أعماركم من النوم بالليل والكسب بالنهار وقيل في الكلام تقديم وتأخير والتقدير : هو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه وقيل ثم يبعثكم فيه : أي في المنام ومعنى الآية : أن إمهاله تعالى للكفار ليس للغفلة عن كفرهم فإنه عالم بذلك ولكن { ليقضى أجل مسمى } أي معين لكل فرد من أفراد العباد من حياة ورزق { ثم إليه مرجعكم } أي رجوعكم بعد الموت { ثم ينبئكم بما كنتم تعملون } فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته (2/180)
قوله : 61 - { وهو القاهر فوق عباده } المراد فوقية القدرة والرتبة كما يقال : السلطان فوق الرعية وقد تقدم بيانه في أول السورة قوله : { ويرسل عليكم حفظة } أي ملائكة جعلهم الله حافظين لكم ومنه قوله : { وإن عليكم لحافظين } والمعنى : أنه يرسل عليكم من يحفظكم من الآفات ويحفظ أعمالكم والحفظة جمع حافظ مثل كتبة جمع كاتب { وعليكم } متعلق بيرسل لما فيه من معنى الاستيلاء وتقديمه على حفظة ليفيد العناية بشأنه وأنه أمر حقيق بذلك وقيل هو متعلق بحفظة قوله : { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } حتى يحتمل أن تكون هي الغائبة : أي ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما أمروا بحفظه مما يتعلق بكم { حتى إذا جاء أحدكم الموت } ويحتمل أن تكون الابتدائية والمراد بمجيء الموت مجيء علاماته وقرأ حمزة { توفته رسلنا } وقرأ الأعمش تتوفاه والرسل هم أعوان ملك الموت ومعنى توفته : استوفت روحه { لا يفرطون } أي لا يقصرون ويضيعون وأصله من التقدم وقال أبو عبيدة : لا يتوانون وقرأ عبيد بن عمير لا يفرطون بالتخفيف : أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به من الإكرام والإهانة (2/180)
قوله : 62 - { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } معطوف على توفته والضمير راجع إلى أحد لأنه في معنى الكل مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة : أي ردوا بعد الحشر إلى الله : أي إلى حكمه وجزائه { مولاهم } مالكهم الذي يلي أمورهم { الحق } قرأ الجمهور بالجر صفة لاسم الله وقرأ الحسن { الحق } بالنصب على إضمار فعل : أي أعني أو أمدح أو على المصدر { وهو أسرع الحاسبين } لكونه لا يحتاج إلى ما يحتاجون إليه من الفكر والروية والتدبر
وقد أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مع كل إنسان ملك إذا نام يأخذ نفسه فإذا أذن الله في قبض روحه قبضه وإلا ردها الله فذلك قوله تعالى : { يتوفاكم بالليل } ] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال : ما من ليلة إلا والله يقبض الأرواح كلها فيسأل كل نفس عما عمل صاحبها من النهار ثم يدعو ملك الموت فيقول : اقبض روح هذا وما من يوم إلا وملك الموت ينظر في كتاب حياة الإنسان قائل يقول ثلاثة وقائل يقول خمسا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال : أما وفاته إياهم بالليل فمنامهم وأما { جرحتم بالنهار } فيقول : ما اكتسبتم بالنهار { ثم يبعثكم فيه } قال : في النهار { ليقضى أجل مسمى } وهو الموت وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { ويعلم ما جرحتم } قال : ما كسبتم من الإثم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { ويرسل عليكم حفظة } قال : هم المعقبات من الملائكة يحفظونه ويحفظون عمله وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال : أعوان ملك الموت من الملائكة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وهم لا يفرطون } يقول : لا يضيعون (2/181)
قيل المراد بظلمات البر والبحر : شدائدهما قال النحاس : والعرب تقول يوم مظلم : إذا كان شديدا فإذا عظمت ذلك قالت : يوم ذو كوكب : أي يحتاجون فيه لشدة ظلمته إلى كوكب وأنشد سيبويه :
( بني أسد هل تعلمون بلاءنا ... إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا )
والاستفهام للتقريع والتوبيخ : أي من ينجيكم من شدائدهما العظيمة ؟ قرأ أبو بكر عن عاصم 63 - { خفية } بكسر الخاء وقرأ الباقون بضمها وهما لغتان وقرأ الأعمش { وخفية } من الخوف وجملة { تدعونه } في محل نصب على الحال : أي من ينجيكم من ذلك حال دعائكم له دعاء تضرع وخفية أو متضرعين ومخفين والمراد بالتضرع هنا : دعاء الجهر قوله : { لئن أنجيتنا } كذا قرأ أهل المدينة وأهل الشام وقرأ الكوفيون { لئن أنجانا } والجملة في محل نصب على تقدير القول : أي قائلين لئن أنجيتنا من هذه الشدة التي نزلت بنا وهي الظلمات المذكورة { لنكونن من الشاكرين } لك على ما أنعمت به علينا من تخليصنا من هذه الشدائد (2/182)
قوله : 64 - { قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب } قرأ الكوفيون وهشام : { ينجيكم } بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف وقراءة التشديد تفيد التكثير وقيل معناهما واحد والضمير في { منها } راجع إلى الظلمات والكرب : الغم يأخذ بالنفس ومنه رجل مكروب قال عنترة :
( ومكروب كشفت الكرب عنه ... بطعنة فيص لما دعاني )
اه
{ ثم أنتم تشركون } بالله سبحانه بعد أن أحسن إليك بالخلوص من الشدائد وذهاب الكروب شركاء لا ينفعونكم ولا يضرونكم ولا تقدرون على تخليصكم من كل ما ينزل بكم فكيف وضعتم هذا الشرك موضع ما وعدتم به من أنفسكم من الشكر ؟ (2/182)
ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم : 65 - { هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا } أي الذي قدر على إنجائكم من تلك الشدائد ودفع عنكم تلك الكروب قادر على أن يعيدكم في شدة ومحنة وكرب يبعث عذابه عليكم من كل جانب فالعذاب المبعوث من جهة الفوق : ما ينزل من السماء من المطر والصواعق والمبعوث من تحت الأرجل : الخسف والزلازل والغرق وقيل : { من فوقكم } يعني الأمراء الظلمة { من تحت أرجلكم } يعني السفلة وعبيد السوء قوله : { أو يلبسكم شيعا } قرأ الجمهور بفتح التحتية من لبس الأمر : إذا خلطه وقرأ أبو عبد الله المديني بضمها : أي يجعل ذلك لباسا لكم قيل والأصل : أو يلبس عليكم أمركم فحذف أحد المفعولين مع حرف الجر كما في قوله تعالى : { وإذا كالوهم أو وزنوهم } والمعنى : يجعلكم مختلطي الأهواء مختلفي النحل متفرقي الآراء وقيل : يجعلكم فرقا يقاتل بعضكم بعضا والشيع : الفرق أي يخلطكم فرقا قوله : { ويذيق بعضكم بأس بعض } أي يصيب بعضكم بشدة بعض من قتل وأسر ونهب { ويذيق } معطوف على { يبعث } وقرئ { نذيق } بالنون { انظر كيف نصرف الآيات } نبين لهم الحجج والدلالات من وجوه مختلفة { لعلهم يفقهون } الحقيقة فيعودون إلى الحق الذي بيناه لهم بيانات متنوعة
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } يقول : من كرب البر والبحر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسير الآية عن ابن عباس قال : يقول إذا أضل الرجل الطريق دعا الله { لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } قال : يعني من أمرائكم { أو من تحت أرجلكم } يعني سفلتكم { أو يلبسكم شيعا } يعني بالشيع الأهواء المختلفة { ويذيق بعضكم بأس بعض } قال : يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه من وجه آخر في تفسير الآية قال : { عذابا من فوقكم } أئمة السوء { أو من تحت أرجلكم } قال : خدم السوء وأخرج أبو الشيخ عنه أيضا من وجه آخر قال : { من فوقكم } من قبل أمرائكم وأشرافكم { أو من تحت أرجلكم } قال : من قبل سفلتكم وعبيدكم وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي مالك { عذابا من فوقكم } قال : القذف { أو من تحت أرجلكم } قال : الخسف وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد مثله وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أيضا { من فوقكم } قال : الصيحة والحجارة والريح { أو من تحت أرجلكم } قال : الرجفة والخسف وهما عذاب أهل التكذيب { ويذيق بعضكم بأس بعض } قال : عذاب أهل الإقرار وأخرج البخاري وغيره عن جابر بن عبد الله قال : [ لما نزلت هذه الآية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أعوذ بوجهك { أو من تحت أرجلكم } قال : أعوذ بوجهك { أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } قال : هذا أهون أو أيسر ] وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم من حديث طويل عن ثوبان وفيه : [ وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها ] وأخرج مسلم وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال : سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيهما وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ] وأخرج أحمد والحاكم وصححه من حديث جابر بن عتيك نحوه وأخرج نحوه أيضا ابن مردويه من حديث أبي هريرة وأخرج أيضا ابن أبي شيبة وابن مردويه من حديث حذيفة بن اليمان نحوه وأخرج أحمد والنسائي وابن مردويه عن أنس نحوه أيضا وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص [ عن النبي صلى الله عليه و سلم في هذه الآية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم } فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد ] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والضياء في المختارة عن أبي بن كعب في هذه الآية قال : هن أربع وكلهن عذاب وكلهن واقع لا محالة فمضت اثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم بخمس وعشرين سنة : فألبسوا شيعا وذاق بعضهم بأس بعض وبقيت اثنتان واقعتان لا محالة : الخسف والرجم والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية (2/182)
قوله : 66 - { وكذب به قومك } الضمير راجع إلى القرآن أو إلى العذاب وقومه المكذبون : هم قريش وقيل كل معاند وجملة { وهو الحق } في محل نصب على الحال : أي كذبوا بالقرآن أو العذاب والحال أنه حق وقرأ ابن أبي عبلة { وكذبت } بالتاء { قل لست عليكم بوكيل } أي لست بحفيظ على أعمالكم حتى أجازيكم عليها قيل وهذه الآية منسوخة بآية القتال وقيل ليست بمنسوخة إذ لم يكن إيمانهم في وسعه (2/185)
قوله : 67 - { لكل نبإ مستقر } أي لكل شيء وقت يقع فيه والنبأ : الشيء الذي ينبأ عنه وقيل المعنى : لكل عمل جزاء قال الزجاج : يجوز أن يكون وعيدا لهم بما ينزل بهم في الدنيا وقال الحسن : هذا وعيد من الله للكفار لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث { وسوف تعلمون } ذلك بحصوله ونزوله بهم كما علموا يوم بدر بحصول ما كان النبي صلى الله عليه و سلم يتوعدهم به (2/185)
قوله : 68 - { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح له والخوض : أصله في الماء ثم استعمل في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيها بغمرات الماء فاستعير من المحسوس للمعقول وقيل هو مأخوذ من الخلط وكل شيء خضته فقد خلطته ومنه خاض الماء بالعسل : خلطه والمعنى : إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والرد والاستهزاء فدعهم ولا تقعد معهم لسماع مثل هذا المنكر العظيم حتى يخوضوا في حديث مغاير له أمره الله سبحانه بالإعراض عن أهل المجالس التي يستهان فيها بآيات الله إلى غاية هي الخوض في غير ذلك
وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله ويرد ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه فأقل الأحوال أن يترك مجالستهم وذلك يسير عليه غير عسير وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزهه عما يتلبسون به شبهة يشبهون بها على العامة فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر
وقد شاهدنا من هذه المجالس الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا عليه وبلغت إليه طاقتنا ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها علم أن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرمات ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة فإنه ربما يتفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه فيعمل بذلك مدة عمره ويلقى الله به معتقدا أنه من الحق وهو من أبطل الباطل وأنكر المنكر قوله : { وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى } إما هذه هي الشرطية وتلزمها غالبا نون التأكيد ولا تلزمها نادرا ومنه قول الشاعر :
( إما يصبك عدو في منازله ... يوما فقل كيف يستعلي وينتصر )
وقرأ ابن عباس ينسيك بتشديد السين ومثله قول الشاعر :
( وقد ينسيك بعض الحاجة الكسل )
والمعنى : إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فلا تقعد بعد الذكرى إذا ذكرت { مع القوم الظالمين } أي الذين ظلموا أنفسهم بالاستهزاء بالآيات والتكذيب بها قيل : وهذا الخطاب وإن كان ظاهره للنبي صلى الله عليه و سلم فالمراد التعريض لأمته لتنزهه عن أن ينسيه الشيطان وقيل : لا وجه لهذا فالنسيان جائز عليه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة : [ إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني ] ونحو ذلك (2/185)
قوله : 69 - { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } أي ما على الذين يتقون مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات الله من حساب الكفار من شيء وقيل المعنى : ما على الذين يتقون ما يقع منهم من الخوض في آيات الله في مجالستهم لهم من شيء : وعلى هذا التفسير ففي الآية الترخيص للمتقين من المؤمنين في مجالسة الكفار إذا اضطروا إلى ذلك كما سيأتي عند ذكر السبب قيل : وهذا الترخيص كان في أول الإسلام وكان الوقت وقت تقية ثم نزل قوله تعالى : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره } فنسخ ذلك قوله : { ولكن ذكرى لعلهم } ذكرى في موضع نصب على المصدر أو رفع على أنها مبتدأ وخبرها محذوف : أي ولكن عليهم ذكرى وقال الكسائي : المعنى ولكن هذه ذكرى والمعنى على الاستدراك من النفي السابق : أي ولكن عليهم الذكرى للكافرين بالموعظة والبيان لهم بأن ذلك لا يجوز أما على التفسير الأول فلأن مجرد اتقاء مجالس هؤلاء الذين يخوضون في آيات الله لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما على التفسير الثاني فالترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير { لعلهم يتقون } الخوض في آيات الله إذا وقعت منكم الذكرى لهم وأما جعل الضمير للمتقين فبعيد جدا (2/186)
قوله : 70 - { وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا } أي اترك هؤلاء الذين اتخذوا الدين الذي كان يجب عليهم العمل به والدخول فيه لعبا ولهوا ولا تعلق قلبك بهم فإنهم أهل تعنت وإن كنت مأمورا بإبلاغهم الحجة وقيل هذه الآية منسوخة بآية القتال وقيل المعنى : أنهم اتخذوا دينهم الذي هم عليه لعبا ولهوا كما في فعلهم بالأنعام من تلك الجهالات والضلالات المتقدم ذكرها وقيل المراد بالدين هنا العيد : أي اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا وجملة { وغرتهم الحياة الدنيا } معطوفة على { اتخذوا } أي غرتهم حتى آثروها على الآخرة وأنكروا البعث وقالوا : { إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين } قوله : { وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت } الضمير في { به } للقرآن أو للحساب والإبسال : تسليم المرء نفسه للهلاك ومنه أبسلت ولدي : أي رهنته في الدم لأن عاقبة ذلك الهلاك قال النابغة :
( ونحن رهنا بالإفاقة عامرا ... بما كان في الدرداء رهنا فأبسلا )
اه
أي فهلك والدرداء : كتيبة كانت لهم معروفة بهذا الاسم فالمعنى : وذكر به خشية أو مخافة أو كراهة أن تهلك نفس بما كسبت : أي ترتهن وتسلم للهلكة وأصل الإبسال : المنع ومنه شجاع باسل : أي ممتنع من قرنه قوله : { وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها } العدل هنا : الفدية والمعنى : وإن بذلت تلك النفس التي سلمت للهلاك كل فدية لا يؤخذ منها ذلك العدل حتى تنجو به من الهلاك وفاعل { يؤخذ } ضمير يرجع إلى العدل لأنه بمعنى المفدى به كما في قوله : { ولا يؤخذ منها عدل } وقيل فاعله منها لأن العدل هنا مصدر لا يسند إليه الفعل وكل عدل منصوب على المصدر : أي عدلا كل عدل والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المتخذين دينهم لعبا ولهوا وخبره { الذين أبسلوا بما كسبوا } أي هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا هم الذين سلموا للهلاك بما كسبوا و { لهم شراب من حميم } جواب سؤال مقدر كأنه قيل كيف حال هؤلاء ؟ فقيل لهم شراب من حميم وهو الماء الحار ومثله قوله تعالى : { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } وهو هنا شراب يشربونه فيقطع أمعاءهم (2/187)
قوله : 71 - { قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا } أمره الله سبحانه بأن يقول لهم هذه المقالة والاستفهام للتوبيخ : أي كيف ندعوا من دون الله أصناما لا تنفعنا بوجه من وجوه النفع إن أردنا منها نفعا ولا نخشى ضرها بوجه من الوجوه ومن كان هكذا فلا يستحق العبادة { ونرد على أعقابنا } عطف على ندعو والأعقاب جمع عقب : أي كيف ندعو من كان كذلك ونرجع إلى الضلالة التي أخرجنا الله منها قال أبو عبيدة : يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها قد رد على عقبيه وقال المبرد :
( تعقب بالشر بعد الخير )
وأصله من المعاقبة والعقبى وهما ما كان تاليا للشيء واجبا أن يتبعه ومنه { والعاقبة للمتقين } ومنه عقب الرجل ومنه العقوبة لأنها تالية للذنب قوله : { كالذي استهوته الشياطين في الأرض } هوى يهوي إلى الشيء أسرع إليه وقال الزجاج : هو من هوي النفس أي زين له الشيطان هواه و { استهوته الشياطين } هوت به والكاف في { كالذي } إما نعت مصدر محذوف : أي نرد على أعقابنا ردا كالذي أو في محل نصب على الحال من فاعل نرد : أي نرد حال كوننا مشبهين للذي استهوته الشياطين : أي ذهبت به مردة الجن بعد أن كان بين الإنس قرأ الجمهور { استهوته } وقرأ حمزة { استهوته } على تذكير الجمع وقرأ ابن مسعود والحسن { استهوته الشياطين } وهو كذلك في قراءة أبي و { حيران } حال : أي حال كونه متحيرا تائها لا يدري كيف يصنع ؟ والحيران هو الذي لا يهتدي لجهة وقد حار حيرة وحيرورة : إذا تردد وبه سمي الماء المستنقع الذي لا منفذ له حائرا قوله : { له أصحاب يدعونه إلى الهدى } صفة لحيران أو حالية : أي له رفقة يدعونه إلى الهدى يقولون له ائتنا فلا يجيبهم ولا يهتدي بهديهم قوله : { قل إن هدى الله هو الهدى } أمره الله سبحانه بأن يقول لهم : { إن هدى الله } أي دينه الذي ارتضاه لعباده { هو الهدى } وما عداه باطل { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } { وأمرنا } معطوف على الجملة الإسمية : أي من جملة ما أمهر الله بأن يقوله واللام في { لنسلم } هي لام العلة والمعلل هو الأمر : أي أمرنا لأجل نسلم لرب العالمين وقال الفراء : المعنى أمرنا بأن نسلم لأن العرب تقول أمرتك لتذهب وبأن تذهب بمعنى وقال النحاس : سمعت ابن كيسان يقول : هي لام الخفض (2/188)
قوله : 72 - { وأن أقيموا الصلاة واتقوه } معطوف على { لنسلم } على معنى وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا ويجوز أن يكون عطفا على يدعونه على المعنى : أي يدعونه إلى الهدى ويدعونه أن أقيموا { وهو الذي إليه تحشرون } (2/189)
فكيف تخالفون أمره 73 - { وهو الذي خلق السموات والأرض } خلقا { بالحق } أو حال كون الخلق بالحق فكيف تعبدون الأصنام المخلوقة قوله : { ويوم يقول كن فيكون قوله الحق } أي واذكر يوم يقول كن فيكون أو واتقوا يوم يقول كن فيكون وقيل هو عطف على الهاء في { واتقوه } وقيل إن يوم ظرف لمضمون جملة { قوله الحق } والمعنى وأمره المتعلق بالأشياء الحق : أي المشهود له بأنه حق وقيل قوله مبتدأ والحق صفة له { ويوم يقول كن فيكون } خبره مقدما عليه والمعنى : قوله المتصف بالحق كائن يوم يقول كن فيكون وقيل إن قوله مرتفع بيكون والحق صفته : أي يوم يقول كن يكون قوله الحق وقرأ ابن عامر { فنكون } بالنون وهو إشارة إلى سرعة الحساب وقرأ الباقون بالياء التحتية وهو الصواب قوله : { وله الملك يوم ينفخ في الصور } الظرف منصوب بما قبله : أي له الملك في هذا اليوم وقيل هو بدل من اليوم الأول والصور قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء والثانية للإنشاء وكذا قال الجوهري : إن الصور القرن قال الراجز :
( لقد نطحناهم غداة الجمعين ... نطحا شديدا لا كنطح الصورين )
والصور بضم الصاد وبكسرها لغة وحكي عن عمرو بن عبيد أنه قرأ { يوم ينفخ في الصور } بتحريك الواو جمع صورة والمراد : الخلق قال أبو عبيدة : وهذا وإن كان محتملا يرد بما في الكتاب والسنة وقال الفراء : كن فيكون يقال إنه للصور خاصة : أي ويوم يقول للصور كن فيكون قوله : { عالم الغيب والشهادة } رفع عالم على أنه صفة للذي خلق السموات والأرض ويجوز أن يرتفع على إضمار مبتدأ : أي هو عالم الغيب والشهادة وروي عن بعضهم أنه قرأ ينفخ بالبناء للفاعل فيجوز على هذه القراءة أن يكون الفاعل { عالم الغيب } ويجوز أن يرتفع بفعل مقدر كما أنشد سيبويه :
( ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح )
أي يبكيه مختبط وقرأ الحسن والأعمش { عالم } بالخفض على البدل من الهاء في { له الملك } { وهو الحكيم } في جميع ما يصدر عنه { الخبير } بكل شيء
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { وكذب به قومك } يقول : كذبت قريش بالقرآن { وهو الحق } وأما الوكيل فالحفيظ وأما { لكل نبإ مستقر } فكان نبأ القوم استقر يوم بدر بما كان يعدهم من العذاب وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس في قوله : { لست عليكم بوكيل } قال : نسخ هذه الآية آية السيف { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { لكل نبإ مستقر } يقول : حقيقة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال في قوله : { لكل نبإ مستقر } قال : حبست عقوبتها حتى عمل ذنبها أرسلت عقوبتها وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : { لكل نبإ مستقر } قال : فعل وحقيقة ما كان منه في الدنيا وما كان منه في الآخرة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } ونحو هذا في القرآن قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } قال : يستهزئون بها نهى محمدا صلى الله عليه و سلم أن يقعد معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر فليقم وذلك قول الله : { فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن سيرين أنه كان يرى أن هذه الآية نزلت في أهل الأهواء وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر قال : لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن علي قال : إن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله وأخرج أبو الشيخ عن مقاتل قال : كان المشركون بمكة إذا سمعوا القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم خاضوا واستهزأوا فقال المسلمون : لا تصلح لنا مجالستهم نخاف أن نخرج حين نسمع قولهم ونجالسهم فلا نعيب عليهم فأنزل الله هذه الآية وأخرج أبو الشيخ أيضا عن السدي أنه قال : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف وأخرج النحاس عن ابن عباس في قوله : { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } قال : نسخت هذه الآية المكية بالآية المدنية وهي قوله : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها } الآية وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن مجاهد { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } إن قعدوا ولكن لا يقعدوا وأخرج ابن أبي شيبة عن هشام بن عروة عن عمر بن عبد العزيز أنه أتى بقوم قعدوا على شراب معهم رجل صائم فضربه وقال : لا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا } قال : هو مثل قوله : { ذرني ومن خلقت وحيدا } يعني أنه للتهديد وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه عن قتادة في هذه الآية قال : نسختها آية السيف وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله : { لعبا ولهوا } قال : أكلا وشربا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أن تبسل } قال : أن تفضح وفي قوله : { أبسلوا } قال : فضحوا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله : { أبسلوا بما كسبوا } قال : أسلموا بجرائرهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { قل أندعوا من دون الله } قال : هذا مثل ضربه الله للآلهة وللدعاة الذين يدعون إلى الله وقوله : { كالذي استهوته الشياطين في الأرض } يقول : أضلته وهم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه وجده فيتبعها ويرى أنه في شيء فيصبح وقد ألقته في هلكة وربما أكلته أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشا فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : { كالذي استهوته الشياطين } قال : هو الرجل لا يستجيب لهدي الله وهو الرجل أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية وحاد عن الحق وضل عنه و { له أصحاب يدعونه إلى الهدى } ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس يقول : { إن الهدى هدى الله } والضلالة ما تدعو إليه الجن وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عبد الله بن عمرو قال : [ سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن الصور : فقال : قرن ينفخ فيه ] والأحاديث الواردة في كيفية النفخ ثابتة في كتب الحديث لا حاجة لنا إلى إيرادها ها هنا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { عالم الغيب والشهادة } يعني أن عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور (2/189)
قوله : 74 - { لأبيه آزر } قال الجوهري : آزر اسم أعجمي وهو مشتق من آزر فلان فلانا إذا عاونه فهو مؤازر قومه على عبادة الأصنام وقال ابن عباس : إنه مشتق من القوة قال الجويني في النكت من التفسير له : ليس بين الناس اختلاف في أن اسم والد إبراهيم تارخ والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر وقد تعقب في دعوى الاتفاق بما روي عن ابن إسحاق والضحاك والكلبي أنه كان له اسمان : آزر وتارخ وقال مقاتل : آزر لقب وتارخ اسم وقال سليمان التيمي : إن آزر سب وعتب ومعناه في كلامهم المعوج وقال الضحاك : معنى آزر الشيخ الهم بالفارسية وقال الفراء : هي صفة ذم بلغتهم كأنه قال : يا مخطئ وروي مثله عن الزجاج وقال مجاهد : هو اسم صنم وعلى هذا إطلاق اسم الصنم على أبيه إما للتعبير له لكونه معبوده أو على حذف مضاف : أي قال لأبيه عابد آزر أو أتعبد آزر على حذف الفعل وقرأ ابن عباس أإزر بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وروي عنه أنه قرأ بهمزتين مفتوحتين ومحل { إذ قال } النصب على تقدير واذكر إذ قال إبراهيم ويكون هذا المقدر معطوفا على { قل أندعوا من دون الله } وقيل هو معطوف على { وذكر به أن تبسل } وآزر عطف بيان قوله : { أتتخذ أصناما آلهة } الاستفهام للإنكار : أي أتجعلها آلهة لك تبعدها { إني أراك وقومك } المتبعين لك في عبادة الأصنام { في ضلال } عن طريق الحق { مبين } واضح (2/192)
قوله : 75 - { وكذلك نري إبراهيم } أي ومثل تلك الإراءة نري إبراهيم والجملة معترضة و { ملكوت السموات والأرض } ملكهما وزيدت التاء والواو للمبالغة في صفة ومثله الرغبوت والرهبوت مبالغة في الرغبة والرهبة قيل : أراد بملكوت السموات والأرض ما فيهما من الخلق وقيل : كشف الله له عن ذلك حتى رأى إلى العرش وإلى أسفل الأرضين وقيل : رأى من ملكوت السموات والأرض ما قصه الله في هذه الآية وقيل : المراد بملكوتهما الربوبية والإلهية : أي نريه ذلك ونوفقه لمعرفته بطريق الاستدلال التي سلكها ومعنى { نري } أريناه حكاية حال ماضية قوله : { وليكون من الموقنين } متعلق بمقدر : أي أريناه ذلك { ليكون من الموقنين } وقد كان آزر وقومه يعبدون الأصنام والكواكب والشمس والقمر فأراد أن ينبههم على الخطأ وقيل : إن ولد في سرب وجعل رزقه في أطراف أصابعه فكان يمصها وسبب جعله في السرب أن النمروذ رأى رؤيا أن ملكه يذهب على يد مولود فأمر بقتل كل مولود والله أعلم (2/193)
قوله : 76 - { فلما جن عليه الليل } أي ستره بظلمته ومنه الجنة والمجن والجن كله من الستر قال الشاعر :
( ولولا جنان الليل أدرك ركضنا ... بذي الرمث والأرطي عياض بن ثابت )
والفاء للعطف على قال إبراهيم : أي واذكر إذ قال وإذ جن عليه الليل فهو قصة أخرى غير قصة عرض الملكوت عليه وجواب لما { رأى كوكبا } قيل : رآه من شق الصخرة الموضوعة على رأس السرب الذي كان فيه وقيل : رآه لما أخرجه أبوه من السرب وكان وقت غيبوبة الشمس قيل رأى المشتري وقيل الزهرة قوله : { هذا ربي } جملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قال عند رؤية الكوكب ؟ قيل : وكان هذا منه عند قصور النظر لأنه في زمن الطفولية وقيل : أراد قيام الحجة على قومه كالحاكي لما هو عندهم وما يعتقدون لأجل إلزامهم وبالثاني قال الزجاج وقيل هو على حذف حرف الاستفهام : أي أهذا ربي ومعناه إنكار أن يكون مثل هذا ربا ومثله قوله تعالى : { أفإن مت فهم الخالدون } أي أفهم الخالدون ومثله قول الهذلي :
( رقوني وقالوا يا خويلد لم ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم )
أي أهم هم وقول الآخر :
( لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... بسبع رمين الجمر أم بثمانيا )
أي أبسبع وقيل المعنى : وأنتم تقولون هذا ربي فأضمر القول وقيل المعنى على حذف مضاف : أي هذا دليل ربي { فلما أفل } أي غرب { قال } إبراهيم { لا أحب الأفلين } أي الآلهة التي تغرب فإن الغروب تغير من حال إلى حال وهو دليل الحدوث (2/193)
77 - { فلما رأى القمر بازغا } أي طالعا يقال : بزغ القمر إذا ابتدأ في الطلوع والبزغ : الشق كان يشق بنوره الظلمة { فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي } أي لئن لم يثبتني على الهداية ويوفقني للحجة { لأكونن من القوم الضالين } الذين لا يهتدون للحق فيظلمون أنفسهم ويحرمونها حظها من الخير (2/194)
78 - { فلما رأى الشمس بازغة } بازغا وبازغة منصوبان على الحال لأن الرؤية بصرية وإنما { قال هذا ربي } مع كون الشمس مؤنثة لأن مراده هذا الطالع قاله الكسائي والأخفش وقيل هذا الضوء وقيل الشخص { هذا أكبر } أي بما تقدمه من الكوكب والقمر { قال يا قوم إني بريء مما تشركون } أي من الأشياء التي تجعلونها شركاء لله وتعبدونها وما موصولة أو مصدرية قال : بهذا لما ظهر أن هذه الأشياء مخلوقة لا تنفع ولا تضر مستدلا على ذلك بأفولها الذي هو دليل حدوثها (2/194)
79 - { إني وجهت وجهي } أي قصدت بعبادتي وتوحيدي الله عز و جل وذكر الوجه لأنه العضو الذي يعرف به الشخص أو لأنه يطلق على الشخص كله كما تقدم وقد تقدم معنى { فطر السموات والأرض حنيفا } مائلا إلى الدين الحق (2/194)
قوله : 80 - { وحاجه قومه } أي وقعت منهم المحاججة له في التوحيد بما يدل على ما يدعونه من أن ما يشركون به ويعبدونه من الأصنام آلهة فأجاب إبراهيم عليه السلام بما حكاه الله عنه أنه قال : { أتحاجوني في الله } أي في كونه لا شريك له ولا ند ولا ضد وقرأ نافع بتخفيف نون { أتحاجوني } وقرأ الباقون بتشديدها بإدغام نون الجمع في نون الوقاية ونافع خفف فحذف إحدى النونين وقد أجاز ذلك سيبويه وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أن قراءة نافع لحن وجملة { وقد هدان } في محل نصب على الحال أي هداني إلى توحيده وأنتم تريدون أن أكون مثلكم في الضلالة والجهالة وعدم الهداية قوله : { ولا أخاف ما تشركون به } قال : هذا لما خوفوه من آلهتهم بأنها ستغضب عليه وتصيبه بمكروه : أي إني لا أخاف ما هو مخلوق من مخلوقات الله لا يضر ولا ينفع والضمير في به يجوز رجوعه إلى الله وإلى معبوداتهم المدلول عليها بما في { ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا } أي إلا وقت مشيئة ربي بأن يلحقني شيئا من الضرر بذنب عملته فالأمر إليه وذلك منه لا من معبوداتكم الباطلة التي لا تضر ولا تنفع والمعنى : على نفي حصول ضرر من معبوداتهم على كل حال وإثبات الضرر والنفع لله سبحانه وصدورهما حسب مشيئته ثم علل ذلك بقوله : { وسع ربي كل شيء علما } أي إن علمه محيط بكل شيء فإذا شاء الخير كان حسب مشيئته وإذا شاء إنزال شر بي كان ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ثم قال لهم مكملا للحجة عليهم ودافعا لما خوفوه به (2/194)
81 - { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا } أي كيف أخاف ما لا يضر ولا ينفع ولا يخلق ولا يزرق والحال أنكم لا تخافون ما صدر منكم من الشرك بالله وهو الضار النافع الخالق الرازق وأورد عليهم هذا الكلام الإلزامي الذي لا يجدون عنه مخلصا ولا متحولا والاستفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم { ما } في { ما لم ينزل به عليكم سلطانا } مفعول أشركتم : أي ولا تخافون أنكم جعلتم الأشياء التي لم ينزل بها عليكم سلطانا شركاء لله أو لمعنى أن الله سبحانه لم يأذن بجعلها شركاء له ولا نزل عليهم بإشراكها حجة يحتجون بها فيكف عبدوها واتخذوها آلهة وجعلوها شركاء لله سبحانه قوله : { فأي الفريقين أحق بالأمن } المراد بالفريقين فريق المؤمنين وفريق المشركين : أي إذا كان الأمر على ما تقدم من أن معبودي هو الله المتصف بتلك الصفات ومعبودكم هي تلك المخلوقات كيف تخوفوني بها وكيف أخافها ؟ وهي بهذه المنزلة ولا تخافون من إشراككم بالله سبحانه وبعد هذا فأخبروني : أي الفريقين أحق بالأمن وعدم الخوف { إن كنتم تعلمون } بحقيقة الحال وتعرفون البراهين الصحيحة وتميزونها عن الشبه الباطلة ثم قال الله سبحانه قاضيا بينهم ومبينا لهم (2/195)
82 - { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } أي هم الأحق بالأمن من الذين أشركوا وقيل هو من تمام قول إبراهيم وقيل هو من قول قوم إبراهيم ومعنى { لم يلبسوا إيمانهم بظلم } لم يخلطوه بظلم والمراد بالظلم الشرك لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال : [ لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان : { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } ] والعجب من صاحب الكشاف حيث يقول في تفسير هذه الآية : وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس وهو لا يدري أن الصادق المصدوق قد فسرها بهذا وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل والإشارة بقوله { أولئك } إلى الموصول المتصف بما سبق و { لهم الأمن } جملة وقعت خبرا عن اسم الإشارة هذا أوضح ما قيل مع احتمال غيره من الوجوه { وهم مهتدون } إلى الحق ثابتون عليه وغيرهم على ضلال وجهل (2/195)
والإشارة بقوله : 83 - { تلك حجتنا } إلى ما تقدم من الحجج التي أوردها إبراهيم عليهم : أي تلك البراهين التي أوردها إبراهيم عليهم من قوله : { فلما جن عليه الليل } إلى قوله : { وهم مهتدون } { حجتنا آتيناها إبراهيم } أي أعطيناه إياها وأرشدناه إليها وجملة { آتيناها إبراهيم } في محل نصب على الحال أو في محل رفع على أنها خبر ثان لاسم الإشارة { على قومه } أي حجة على قومه { نرفع درجات من نشاء } بالهداية والإرشاد إلى الحق وتلقين الحجة أو بما هو أعم من ذلك { إن ربك حكيم عليم } أي حكيم في كل ما يصدر عنه عليم بحال عباده وأن منهم من يستحق الرفع ومنهم من لا يستحقه
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال في قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } قال : الآزر الصنم وأبو إبراهيم اسمه يأزر وأمه اسمها مثلي وامرأته اسمها سارة وسريته أم إسماعيل اسمها هاجر وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : آزر لم يكن بأبيه ولكنه اسم صنم وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : اسم أبيه تارخ واسم الصنم آزر وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سليمان التيمي أنه قرأ { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } قال : بلغني أنها أعوج وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم لأبيه وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قالك إن والد إبراهيم لم يكن اسمه آزر وإنما اسمه تارخ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله تعالى : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض } قال : الشمس والقمر والنجوم وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال : في الآية كشف ما بين السموات حتى نظر إليهن على صخرة والصخرة على حوت وهو الحوت الذي منه طعام الناس والحوت في سلسلة والسلسلة في خاتم العزة وأخرج ابن أبي شيبة عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في الآية : قال سلطانهما وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله : { وحاجه قومه } يقول : خاصموه وأخرج ابن أبي حاتم عن عباس في قوله : { أتحاجوني } قال : أتخاصموني وأخرج ابن أبي شيبة والحكيم الترمذي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي بكر الصديق أنه فسر { ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } بالشرك وكذلك أخرج أبو الشيخ عن عمر بن الخطاب وكذلك أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن حذيفة بن اليمان وكذلك أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سلمان الفارسي وكذلك أخرجا أيضا عن أبي بن كعب وكذلك أخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس وأخرج عنه من طريق أخرى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ مثله وقد روي عن جماعة من التابعين مثل ذلك ويغني عن الجميع ما قدمنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في تفسير الآية كما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } قال : خصمهم وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم في قوله : { نرفع درجات من نشاء } قال : بالعلم وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال : إن للعلماء درجات كدرجات الشهداء (2/196)
قوله : 84 - { ووهبنا له } معطوف على جملة { وتلك حجتنا } عطف جملة فعلية على جملة إسمية وقيل معطوف على آتيناها والأول أولى والمعنى : ووهبنا له ذلك جزاء له على الاحتجاج في الدين وبذل النفس فيه و { كلا هدينا } انتصاب كلا على أنه مفعول لما بعده مقدم عليه للقصر : أي كل واحد منهما هديناه وكذلك نوحا منصوب بهدينا الثاني أو بفعل مضمر يفسره ما بعده { ومن ذريته } أي من ذرية إبراهيم وقال الفراء : من ذرية نوح واختاره ابن جرير الطبري والقشيري وابن عطية واختار الأول الزجاج واعترض عليه بأنه عد من هذه الذرية يونس ولوطا وما كانا من ذرية إبراهيم فإن لوطا هو ابن أخي إبراهيم وانتصب { داود وسليمان } بفعل مضمر أي وهدينا من ذريته داود وسليمان وكذلك ما بعدهما وإنما عد الله سبحانه هداية هؤلاء الأنبياء من النعم التي عددها على إبراهيم لأن شرف الأبناء متصل بالآباء ومعنى من قبل في قوله : { ونوحا هدينا من قبل } أي من قبل إبراهيم والإشارة بقوله : { وكذلك } إلى مصدر الفعل المتأخر : أي ومثل ذلك الجزاء { نجزي المحسنين } (2/198)
85 - { وإلياس } قال الضحاك : هو من ولد إسماعيل وقال القتيبي : هو من سبق يوشع بن نون وقرأ الأعرج والحسن وقتادة { وإلياس } بوصل الهمزة (2/198)
وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم واليسع مخففا وقرأ الكوفيون إلا عاصما بلامين وكذا قرأ الكسائي ورد القراءة الأولى ولا وجه للرد فهو اسم أعجمي والعجمة لا تؤخذ بالقياس بل تؤدي على حسب السماع ولا يمتنع أن يكون في الاسم لغتان للعجم أو تغيره العرب تغييرين قال المهدوي : من قرأ بلام واحدة فالاسم يسع والألف واللام مزيدتان كما في قول الشاعر :
( رأيت الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله )
ومن قرأ بلامين فالاسم ليسع وقد توهم قوم أن اليسع هو إلياس وهو وهم فإن الله أفرد كل واحد منهما وقال وهب : اليسع صاحب إلياس وكانوا قبل يحيى وعيسى وزكريا وقيل إلياس هو إدريس وهذا غير صحيح لأن إدريس جد نوح وإلياس من ذريته وقيل إلياس هو الخضر وقيل لا بل اليسع هو الخضر { وكلا فضلنا على العالمين } أي كل واحد فضلناه بالنبوة على عالمي زمانه والجملة معترضة (2/198)
قوله : 87 - { ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم } أي هدينا ومن للتبعيض : أي هدينا بعض آبائهم وذرياتهم وأزواجهم { واجتبيناهم } معطوف على فضلنا والاجتباء الاصطفاء أو التخليص أو الاختيار مشتق من جبيت الماء في الحوض جمعته فالاجتباء ضم الذي تجتبيه إلى خاصيتك قال الكسائي : جبيت الماء في الحوض جبي مقصور والجابية الحوض قال الشاعر :
( كجابية الشيخ العراقي تفهق ) (2/199)
والإشارة بقوله : 88 - { ذلك هدى الله } إلى الهداية والتفضيل والاجتباء المفهومة من الأفعال السابقة { يهدي به } الله { من يشاء من عباده } وهم الذين وفقهم للخير واتباع الحق { ولو أشركوا } أي هؤلاء المذكورون بعبادة غير الله { لحبط عنهم } من حسناتهم { ما كانوا يعملون } والحبوط البطلان وقد تقدم تحقيقه في البقرة (2/199)
والإشارة بقوله : 89 - { أولئك الذين آتيناهم الكتاب } إلى الأنبياء المذكورين سابقا : أي جنس الكتاب ليصدق على كل ما أنزل على هؤلاء المذكورين { والحكم } العلم { والنبوة } الرسالة أو ما هو أعم من ذلك { فإن يكفر بها هؤلاء } الضمير في بها للحكم والنبوة والكتاب أو للنبوة فقط والإشارة بهؤلاء إلى كفار قريش المعاندين لرسول الله صلى الله عليه و سلم : { فقد وكلنا بها قوما } هذا جواب الشرط : أي ألزمنا بالإيمان بها قوما { ليسوا بها بكافرين } وهم المهاجرون والأنصار أو الأنبياء المذكورون سابقا (2/199)
وهذا أولى لقوله فيما بعد { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } فإن الإشارة إلى الأنبياء المذكورين لا إلى المهاجرين والأنصار إذ لا يصح أن يؤمر النبي صلى الله عليه و سلم بالاقتداء بهداهم وتقديم بهداهم على الفعل يفيد تخصيص هداهم بالاقتداء والاقتداء طلب موافقة الغير في فعله وقيل المعنى : اصبر كما صبروا وقيل : اقتد بهم في التوحيد وإن كانت جزئيات الشرائع مختلفة وفيها دلالة على أنه صلى الله عليه و سلم مأمور بالاقتداء بمن قبله من الأنبياء فيما لم يرد عليه فيه نص قوله : { قل لا أسألكم عليه أجرا } أمره الله بأن يخبرهم بأنه لا يسألهم أجرا على القرآن وأن يقول لهم ما { هو إلا ذكرى } يعني القرآن { للعالمين } أي موعظة وتذكير للخلق كافة الموجودين عند نزوله ومن سيوجد من بعد
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب قال : الخال والد والعم والد نسب الله عيسى إلى أخواله فقال : { ومن ذريته } حتى بلغ إلى قوله : { وزكريا ويحيى وعيسى } وأخرج أبو الشيخ والحاكم والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال : دخل يحيى بن يعمر على الحجاج فذكر الحسين فقال الحجاج : لم يكن من ذرية النبي فقال يحيى : كذب فقال : صدقت وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حرب بن أبي الأسود قال : أرسل الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال : بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي تجده في كتاب الله وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده فذكر يحيى بن يعمر نحو ما تقدم وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { واجتبيناهم } قال : أخلصناهم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } قال : يريد هؤلاء الذين هديناهم وفعلنا بهم وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال : الحكم اللب وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فإن يكفر بها هؤلاء } يعني أهل مكة يقول : إن يكفروا بالقرآن { فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين } يعني أهل المدينة والأنصار وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { فقد وكلنا بها قوما } قال : هم الأنبياء الثمانية عشر الذين قال الله فيهم : { فبهداهم اقتده } قال : أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقتدي بهداهم وكان يسجد في ص ولفظ ابن أبي حاتم عن مجاهد : سألت ابن عباس في السجدة التي في ص فقال هذه الآية وقال : أمر نبيكم أن يقتدي بداود عليه السلام وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { قل لا أسألكم عليه أجرا } قال : قل لهم يا محمد لا أسألكم على ما أدعوكم إليه عرضا من عروض الدنيا (2/199)
قوله : 91 - { وما قدروا الله حق قدره } قدرت الشيء وقدرته عرفت مقداره وأصله : الستر ثم استعمل في معرفة الشيء : أي لم يعرفوه حق معرفته حيث أنكروا إرساله للرسل وإنزاله للكتب وقيل المعنى : وما قدروا نعم الله حق تقديرها وقرأ أبو حمزة { وما قدروا الله حق قدره } بفتح الدال : وهي لغة ولما وقع منهم هذا الإنكار وهم من اليهود أمر الله نبيه صلى الله عليه و سلم أن يورد عليهم حجة لا يطيقون دفعها فقال : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } وهم يعترفون بذلك ويذعنون له فكان في هذا من التبكيت لهم والتقريع ما لا يقادر قدره مع إلجائهم إلى الاعتراف بما أنكروه من وقوع إنزال الله على البشر وهم الأنبياء عليهم السلام فبطل جحدهم وتبين فساد إنكارهم وقيل : إن القائلين بهذه المقالة هم كفار قريش فيكون إلزامهم بإنزال الله الكتاب على موسى من جهة أنهم يعترفون بذلك ويعلمونه بالأخبار من اليهود وقد كانوا يصدقونهم و { نورا وهدى } منتصبان على الحال و { للناس } متعلق بمحذوف هو صفة لهدى : أي كائنا للناس قوله : { تجعلونه قراطيس } أي تجعلون الكتاب الذي جاء به موسى في قراطيس تضعونه فيها ليتم لكم ما تريدونه من التحريف والتبديل وكتم صفة النبي صلى الله عليه و سلم المذكورة فيه وهذا ذم لهم والضمير في { تبدونها } راجع إلى القراطيس وفي { تجعلونه } راجع إلى الكتاب وجملة تجعلونه في محل نصب على الحال وجملة تبدونها صفة لقراطيس { وتخفون كثيرا } معطوف على تبدونها : أي وتخفون كثيرا منها والخطاب في { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } لليهود : أي والحال أنكم قد علمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ويحتمل أن تكون هذه الجملة استئنافية مقررة لما قبلها والذي علموه هو الذي أخبرهم به نبينا محمد صلى الله عليه و سلم من الأمور التي أوحى الله إليه بها فإنها اشتملت على ما لم يعلموه من كتبهم ولا على لسان أنبيائهم ولا علمه آباؤهم ويجوز أن يكون ما في ما لم تعلموا عبارة عما علموه من التوراة فيكون ذلك على وجه المن عليهم بإنزال التوراة وقيل : الخطاب للمشركين من قريش وغيرهم فتكون ما عبارة عما علموه من رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أمره الله رسوله بأن يجيب عن ذلك الإلزام الذي ألزمهم به حيث قال : { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } فقال : { قل الله } أي أنزله الله { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } أي ذرهم في باطلهم حال كونهم يلعبون : أي يصنعون صنع الصبيان الذين يلعبون (2/201)
قوله : 92 - { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } هذا من جملة الرد عليهم في قولهم : { ما أنزل الله على بشر من شيء } أخبرهم بأن الله أنزل التوراة على موسى وعقبه بقوله : { وهذا كتاب أنزلناه } يعني على محمد صلى الله عليه و سلم فكيف تقولون : { ما أنزل الله على بشر من شيء } ومبارك ومصدق صفتان لكتاب والمبارك كثير البركة والمصدق كثير التصديق والذي بين يديه ما أنزله الله من الكتب على الأنبياء من قبله كالتوراة والإنجيل فإنه يوافقها في الدعوة إلى الله وإلى توحيده وإن خالفها في بعض الأحكام قوله : { ولتنذر } قيل : هو معطوف على ما دل عليه مبارك كأنه قيل أنزلناه للبركات ولتنذر وخص أم القرى وهي مكة لكونها أعظم القرى شأنا ولكونها أول بيت وضع للناس ولكونها قبلة هذه الأمة ومحل حجهم فالإنذار لأهلها مستتبع لإنذار سائر أهل الأرض والمراد بمن حولها جميع أهل الأرض والمراد بإنذار أم القرى : إنذار أهلها وأهل سائر الأرض فهو على تقدير مضاف محذوف كسؤال القرية { والذين يؤمنون بالآخرة } مبتدأ و { يؤمنون به } خبره والمعنى : أن من حق من صدق بالدار الآخرة أن يؤمن بهذا الكتاب ويصدقه ويعمل بما فيه لأن التصديق بالآخرة يوجب قبول من دعا الناس إلى ما ينال به خيرها ويندفع به ضرها وجملة { وهم على صلاتهم يحافظون } في محل نصب على الحال وخص المحافظة على الصلاة من بين سائر الواجبات لكونها عمادها وبمنزلة الرأس لها (2/201)
قوله : 93 - { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } هذه الجملة مقررة لمضمون ما تقدم من الاحتجاج عليهم بأن الله أنزل الكتب على رسله : أي كيف تقولون ما أنزل الله على بشر من شيء وذلك يستلزم تكذيب الأنبياء عليهم السلام ولا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا فزعم أنه نبي وليس بنبي أو كذب على الله في شيء من الأشياء { أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } أي والحال أنه لم يوح إليه شيء وقد صان الله أنبياءه عما تزعمون عليهم وإنما هذا شأن الكذابين رؤوس الإضلال كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي وسجاح قوله : { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } معطوف على من افترى أي ومن أظلم ممن افترى أو ممن قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء أو ممن قال سأنزل مثل ما أنزل الله وهم القائلون { لو نشاء لقلنا مثل هذا } وقيل : هو عبد الله بن أبي سرح فإنه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأملى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم { ثم أنشأناه خلقا آخر } فقال عبد الله : { فتبارك الله أحسن الخالقين } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هكذا أنزلت فشك عبد الله حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال ثم ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ثم أسلم يوم الفتح كما هو معروف قوله : { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لكل من يصلح له والمراد كل ظالم ويدخل فيه الجاحدون لما أنزل الله والمدعون للنبوات افتراء على الله دخولا أوليا وجواب لو محذوف : أي لرأيت أمرا عظيما والغمرات جمع غمرة : وهي الشدة وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ومنه غمرة الماء ثم استعملت في الشدائد ومنه غمرة الحرب قال الجوهري : والغمرة الشدة والجمع غمر : مثل نوبة ونوب وجملة { والملائكة باسطوا أيديهم } في محل نصب : أي والحال أن الملائكة باسطوا أيديهم لقبض أرواح الكفار وقيل للعذاب وفي أيديهم مطارق الحديد ومثله قوله تعالى : { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } قوله : { أخرجوا أنفسكم } أي قائلين لهم أخرجوا أنفسكم من هذه الغمرات التي وقعتم فيها أو أخرجوا أنفسكم من أيدينا وخلصوها من العذاب أو أخرجوا أنفسكم من أجسادكم وسلموها إلينا لنقبضها { اليوم تجزون عذاب الهون } أي اليوم الذي تقبض فيه أرواحكم أو أرادوا باليوم الوقت الذي يعذبون فيه الذي مبدؤه عذاب القبر والهون والهوان بمعنى : أي اليوم
تجزون عذاب الهوان الذي تصيرون به في إهانة وذلة بعدما كنتم فيه من الكبر والتعاظم والباء في { بما كنتم تقولون على الله غير الحق } للسببية : أي بسبب قولكم هذا من إنكار إنزال الله كتبه على رسله والإشراك به { وكنتم عن آياته تستكبرون } عن التصديق لها والعمل بها فكان ما جوزيتم به من عذاب الهون { جزاء وفاقا } (2/202)
قوله : 94 - { ولقد جئتمونا فرادى } قرأ أبو حيوة فرادى بالتنوين وهي لغة تميم وقرأ الباقون بألف التأنيث للجمع فلم ينصرف وحكى ثعلب فراد بلا تنوين مثل : ثلاث ورباع وفرادى جمع فرد كسكارى جمع سكران وكسالى جمع كسلان والمعنى : جئتمونا منفردين واحدا واحدا كل واحد منفرد عن أهله وماله وما كان يعبده من دون الله فلم ينتفع بشيء من ذلك { كما خلقناكم أول مرة } أي على الصفة التي كنتم عليها عند خروجكم من بطون أمهاتكم والكاف نعت مصدر محذوف : أي جئتمونا مجيئا مثل مجيئكم عند خلقنا لكم أو حال من ضمير فرادى : أي مشابهين ابتداء خلقنا لكم { وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } أي أعطيناكم والخول ما أعطاه الله للإنسان من متاع الدنيا : أي تركتم ذلك خلفكم لم تأتونا بشيء منه ولا انتفعتم به بوجه من الوجوه { وما نرى معكم شفعاءكم الذين } عبدتموهم وقلتم : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } و { زعمتم أنهم فيكم شركاء } لله يستحقون منكم العبادة كما يستحقها قوله : { لقد تقطع بينكم } قرأ نافع والكسائي وحفص بنصب بينكم على الظرفية وفاعل تقطع محذوف : أي تقطع الوصل بينكم أنتم وشركاؤكم كما يدل عليه { وما نرى معكم شفعاءكم } وقرأ الباقون بالرفع على إسناد القطع إلى البين : أي وقع التقطع بينكم ويجوز أن يكون معنى قراءة النصب معنى قراءة الرفع في إسناد الفعل إلى الظرف وإنما نصب لكثرة استعماله ظرفا وقرأ ابن مسعود : لقد تقطع ما بينكم على إسناد الفعل إلى ما : أي الذي بينكم { وضل عنكم ما كنتم تزعمون } من الشركاء والشرك وحيل بينكم وبينهم
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وما قدروا الله حق قدره } قال : هم الكفار لم يؤمنوا بقدرة الله فمن آمن أن الله على كل شيء قدير قد قدر الله حق قدره ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قالت اليهود : يا محمد أنزل الله عليك كتابا ؟ قال : نعم قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتابا فأنزل الله { قل } يا محمد { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } إلى آخر الآية وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } قالها مشركو قريش وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال : قال فنحاص اليهودي ما أنزل الله على محمد من شيء فنزلت وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال : نزلت في مالك بن الصيف وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي صلى الله عليه و سلم فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين ؟ وكان حبرا سمينا فغضب وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له أصحابه : ويحك ولا على موسى ؟ قال : ما أنزل الله على بشر من شيء فنزلت ] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { تجعلونه قراطيس } قال : اليهود وقوله : { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } قال : هذه للمسلمين وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وعلمتم ما لم تعلموا } قال : هم اليهود آتاهم الله علما فلم يقتدوا به ولم يأخذوا به ولم يعملوا به فذمهم الله في علمهم ذلك وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } قال : هو القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه و سلم وأخرج عبد بن حميد عنه قال : { مصدق الذي بين يديه } أي من الكتب التي قد خلت قبله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { ولتنذر أم القرى } قال : مكة ومن حولها قال : يعني ما حولها من القرى إلى المشرق والمغرب وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : إنما سميت أم القرى لأن أول بيت وضع بها وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله : { ولتنذر أم القرى } قال : هي مكة قال : وبلغني أن الأرض دحيت من مكة وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار نحوه وأخرج الحاكم في المستدرك عن شرحبيل بن سعد قال : نزلت في عبد الله بن أبي سرح { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } الآية فلما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة فر إلى عثمان أخيه من الرضاعة فغيبه عنده حتى اطمأن أهل مكة ثم استأمن له وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي خلف الأعمى : أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح وكذلك روى ابن أبي حاتم عن السدي وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } قال : نزلت في مسيلمة الكذاب ونحوه ممن دعا إلى مثل ما دعا إليه { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } قال : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة نحوه وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة لما نزلت { والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا } قال : النضر وهو من بني عبد الدار : والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا قولا كثيرا فأنزل الله { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { غمرات الموت } قال : سكرات الموت وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال في قوله : { والملائكة باسطوا أيديهم } هذا عند الموت والبسط : الضرب { يضربون وجوههم وأدبارهم } وأخرج أبو الشيخ عنه قال : في الآية هذا ملك الموت عليه السلام وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : { والملائكة باسطوا أيديهم } قال : بالعذاب وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { عذاب الهون } قال : الهوان وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال : قال النضر بن الحارث : سوف تشفع لي اللات والعزى فنزلت : { ولقد جئتمونا فرادى } الآية وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله : { ولقد جئتمونا فرادى } الآية قال : كيوم ولد يرد عليه كل شيء نقص منه يوم ولد وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { وتركتم ما خولناكم } قال : من المال والخدم { وراء ظهوركم } قال : في الدنيا وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { لقد تقطع بينكم } قال : ما كان بينهم من الوصل وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { لقد تقطع بينكم } قال : تواصلكم في الدنيا (2/203)
قوله : 95 - { إن الله فالق الحب والنوى } هذا شروع في تعداد عجائب صنعه تعالى وذكر ما يعجز آلهتهم عن أدنى شيء منه والفلق الشق : أي هو سبحانه فالق الحب فيخرج منه النبات وفالق النوى فيخرج منه الشجر وقيل معنى { فالق الحب والنوى } الشق الذي فيهما من أصل الخلقة وقيل معنى { فالق } خالق والنوى : جمع نواة يطلق على كل ما فيه عجم كالتمر والمشمش والخوخ قوله : { يخرج الحي من الميت } هذه الجملة خبر بعد خبر فهي في محل رفع وقيل هي جملة مفسرة لما قبلها لأن معناها معناه والأول أولى فإن معنى { يخرج الحي من الميت } يخرج الحيوان من مثل النطفة والبيضة وهي ميتة ومعنى { ومخرج الميت من الحي } مخرج النطفة والبيضة وهي ميتة من الحي وجملة { ومخرج الميت من الحي } معطوفة على { يخرج الحي من الميت } عطف جملة إسمية على جملة فعلية ولا ضير في ذلك وقيل معطوفة على { فالق } على تقدير أن جملة { يخرج الحي من الميت } مفسرة لما قبلها والأول أولى والإشارة { ذلكم } إلى صانع ذلك الصنع العجيب المذكور سابقا و { الله } خبره : والمعنى : أن صانع هذا الصنع العجيب هو المستجع لكل كمال والمفضل بكل إفضال والمستحق لكل حمد وإجلال { فأنى تؤفكون } فكيف تصرفون عن الحق مع ما ترون من بديع صنعه وكمال قدرته (2/206)
قوله : 96 - { فالق الإصباح } مرتفع على أنه من جلمة أخبار إن في { إن الله فالق الحب والنوى } وقيل هو نعت للاسم الشريف في { ذلكم الله } وقرأ الحسن وعيسى بن عمر { فالق الإصباح } بفتح الهمزة وقرأ الجمهور بكسرها وهو على قراءة الفتح جمع صبح وعلى قراءة الكسر مصدر أصبح والصبح والصباح : أول النهار وكذا الإصباح وقرأ النخعي { فالق الإصباح } بفعل وهمزة مكسورة والمعنى في { فالق الإصباح } أنه شاق الضياء عن الظلام وكاشفه أو يكون المعنى على حذف مضاف : أي فالق ظلمة الإصباح وهي الغبش أو فالق عمود الفجر عن بياض النهار لأنه يبدو مختلطا بالظلمة ثم يصير أبيض خالصا وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وعاصم وحمزة والكسائي { جعل الليل سكنا } حملا على معنى { فالق } عند حمزة والكسائي وأما عند الحسن وعيسى فعطفا على فلق وقرأ الجمهور { وجاعل } عطفا على { فالق } وقرئ فالق و جاعل بنصبهما على المدح وقرأ يعقوب وجاعل الليل ساكنا والسكن : محل السكون من سكن إليه : إذا اطمأن إليه لأنه يسكن فيه الناس عن الحركة في معاشهم ويستريحون من التعب والنصب قوله : { والشمس والقمر حسبانا } بالنصب على إضمار فعل : أي وجعل الشمس والقمر وبالرفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره والشمس والقمر مجعولان حسبانا وبالجر عطفا على الليل على قراءة من قرأ { وجعل الليل } قال الأخفش : والحسبان جمع حساب مثل شهبان وشهاب وقال يعقوب : حسبان مصدر حسبت الشيء أحسبه حسبا وحسبانا والحساب : الاسم وقيل الحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح والحسبان بالكسر مصدر حسب والمعنى : جعلهما محل حساب تتعلق به مصالح العباد وسيرهما على تقدير لا يزيد ولا ينقص ليدل عباده بذلك على عظيم قدرته وبديع صنعه وقيل الحسبان : الضياء وفي لغة أن الحسبان : النار ومنه قوله تعالى : { ويرسل عليها حسبانا من السماء } والإشارة بـ { ذلك تقدير العزيز العليم } إلى الجعل المدلول عليه بجاعل أو بجعل على القراءتين والعزيز : القاهر الغالب والعليم : كثير العلم ومن جملة معلوماته تسييرهما على هذا التدبير المحكم (2/207)
قوله : 97 - { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها } أي خلقها للاهتداء بها { في ظلمات } الليل عند المسير في { البر والبحر } وإضافة الظلمات إلى البر والبحر لكونها ملابسة لهما أو المراد بالظلمات : اشتباه طرقهما التي لا يهتدى فيها إلا بالنجوم وهذه إحدى منافع النجوم التي خلقها الله لها ومنها ما ذكره الله في قوله : { وحفظا من كل شيطان مارد } { وجعلناها رجوما للشياطين } ومنها : جعلها زينة للسماء ومن زعم غير هذه الفوائد فقد أعظم على الله الفرية { قد فصلنا الآيات } التي بيناها بيانا مفصلا لتكون أبلغ في الاعتبار { لقوم يعلمون } بما في هذه الآيات من الدلالة على قدرة الله وعظمته وبديع حكمته (2/208)
قوله : 98 - { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة } أي آدم عليه السلام كما تقدم وهذا نوع آخر من بديع خلقه الدال على كمال قدرته { فمستقر ومستودع } قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وأبو عمرو وعيسى والأعرج والنخعي بكسر القاف والباقون بفتحها وهما مرفوعان على أنهما مبتدآن وخبرهما محذوف والتقدير : فمنكم مستقر أو فلكم مستقر التقدير الأول على القراءة الأولى والثاني على الثانية : أي فمنكم مستقر على ظهر الأرض أو فلكم مستقر على ظهرها ومنكم مستودع في الرحم أو في باطن الأرض أو في الصلب وقيل المستقر في الرحم والمستودع في الأرض وقيل المستقر في القبر قال القرطبي : وأكثر أهل التفسير يقولون : المستقر ما كان في الرحم والمستودع ما كان في الصلب وقيل المستقر من خلق والمستودع من لم يخلق وقيل الاستيداع إشارة إلى كونهم في القبور إلى المبعث
ومما يدل على تفسير المستقر بالكون على الأرض قول الله تعالى : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } وذكر سبحانه هاهنا { يفقهون } وفيما قبله { يعلمون } لأن في إنشاء الأنفس من نفس واحدة وجعل بعضها مستقرا وبعضها مستودعا من الغموض والدقة ما ليس في خلق النجوم للاهتداء فناسبه ذكر الفقه لإشعاره بمزيد تدقيق وإمعان فكر (2/208)
قوله : 99 - { وهو الذي أنزل من السماء ماء } هذا نوع آخر من عجائب مخلوقاته والماء هو ماء المطر وفي { فأخرجنا به } التفات من الغيبة إلى التكلم إظهارا للعناية بشأن هذا المخلوق وما ترتب عليه والضمير في { به } عائد إلى الماء و { نبات كل شيء } يعني كل صنف من أصناف النبات المختلفة وقيل المعنى رزق كل شيء والتفسير الأول أولى ثم فصل هذا الإجمال فقال : { فأخرجنا منه خضرا } قال الأخفش : أي أخضر والخضر : رطب البقول وهو ما يتشعب من الأغصان الخارجة من الحبة وقيل يريد القمح والشعير والذرة والأرز وسائر الحبوب { نخرج منه حبا } هذه الجملة صفة لخضرا : أي نخرج من الأغصان الخضر حبا متراكبا : أي مركبا بعضه على بعضه كما في السنابل { ومن النخل } خبر مقدم و { من طلعها } بدل منه وعلى قراءة من قرأ يخرج منه حب يكون ارتفاع قنوان على أنه معطوف على حب وأجاز الفراء في غير القرآن قنوانا عطفا على حبا وتميم يقولون قنيان وقرئ بضم القاف وفتحها باعتبار اختلاف اللغتين لغة قيس ولغة أهل الحجاز والطلع : الكفري قبل أن ينشق عن الإغريض والإغريض يسمى طلعا أيضا والقنوان : جمع قنو والفرق بين جمعه وتثنيته أن المثنى مكسور النون والجمع على ما يقتضيه الإعراب ومثله صنوان والقنو : العذق والمعنى : أن القنوان أصله من الطلع والعذق هو عنقود النخل وقيل القنوان : الجمار والدانية : القريبة التي ينالها القائم والقاعد قال الزجاج : المعنى منها دانية ومنها بعيدة فحذف ومثله { سرابيل تقيكم الحر } وخص الدانية بالذكر لأن الغرض من الآية بيان القدر والامتنان وذلك فيما يقرب تناوله أكثر قوله : { وجنات من أعناب } قرأ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والأعمش وعاصم في قراءته الصحيحة عنه برفع جنات وقرأ الباقون بالنصب وأنكر القراءة الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم حتى قال أبو حاتم هي محال لأن الجنات لا تكون من النخل قال النحاس : ليس تأويل الرفع على هذا ولكنه رفع بالابتداء والخبر محذوف : أي ولهم جنات كما قرأ جماعة من الفراء { وحور عين } وقد أجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء وأما على النصب فقيل هو معطوف على { نبات كل شيء } أي وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب أو النصب بفعل يقدر متأخرا : أي وجنات من أعناب أخرجناها وهكذا القول في انتصاب الزيتون والرمان : وقيل هما منصوبان على الاختصاص لكونهما عزيزين و { مشتبها } منتصب على الحال : أي كل واحد منهما يشبه بعضه بعضا في بعض أوصافه ولا يشبه بعضه بعضا في البعض الآخر وقيل إن أحدهما يشبه الآخر في الورق باعتبار اشتماله على جميع الغصن وباعتبار حجمه ولا يشبه أحدهما الآخر في الطعم وقيل خص الزيتون والرمان لقرب منابتهما من العرب كما في قول الله سبحانه : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } ثم أمرهم سبحانه بأن ينظروا نظر اعتبار إلى ثمره إذا أثمر وإلى ينعه إذا أينع والثمر في اللغة : جنى الشجر واليانع : الناضج الذي قد أدرك وحان قطافه قال ابن الأنباري : الينع جمع يانع كركب وراكب وقال الفراء : أينع احمر قرأ حمزة والكسائي ثمره بضم الثاء والميم وقرأ الباقون بفتحها إلا الأعمش فإنه قرأ ثمره بضم الثاء وسكون الميم تخفيفا وقرأ محمد بن السميفع وابن محيصن وابن أبي إسحاق وينعه بضم الياء التحتية قال الفراء : هي لغة بعض أهل نجد وقرأ الباقون بفتحها والإشارة بقوله : { إن في ذلكم } إلى ما تقدم ذكره مجملا ومفصلا { لآيات لقوم يؤمنون } بالله استدلالا بما يشاهدونه من عجائب مخلوقاته التي قصها عليهم
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : { إن الله فالق الحب والنوى } يقول : خلق الحب والنوى وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : يفلق الحب والنوى عن النبات وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : الشقان اللذان فيهما وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن أبي مالك نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله : { يخرج الحي من الميت } قال : النخلة من النواة والسنبلة من الحبة { ومخرج الميت من الحي } قال : النواة من النخلة والحبة من السنبلة وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد { يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي } قال : الناس الأحياء من النطف والنطفة ميتة تخرج من الناس الأحياء ومن الأنعام والنبات كذلك أيضا وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { فأنى تؤفكون } أي فكيف تكذبون وأخرج أيضا عن الحسن قال : أنى تصرفون وأخرج أيضا عن ابن عباس في { فالق الإصباح } قال : خلق الليل والنهار وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : يعني بالإصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في { فالق الإصباح } قال : إضاءة الفجر وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله : { فالق الإصباح } قال : فالق الصبح وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وجعل الليل سكنا } قال : سكن فيه كل طير ودابة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { والشمس والقمر حسبانا } يعني عدد الأيام والشهور والسنين وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } قال : يضل الرجل وهو في الظلمة والجور عن الطريق وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر والخطيب في كتاب النجوم عن عمر بن الخطاب قال : تعلموا من النجوم ما تهتدون به في بركم وبحركم ثم أمسكوا فإنها والله ما خلقت إلا زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة نحوه وأخرج ابن مردويه والخطيب عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا ]
وقد ورد في استحباب مراعاة الشمس والقمر لذكر الله سبحانه لا لغير ذلك أحاديث : منها عند الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أحب عباد الله إلى الله الذين يراعون الشمس والقمر لذكر الله ] وأخرج ابن شاهين والطبراني والحاكم والخطيب عن عبد الله بن أبي أوفى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر نحوه وأخرج أحمد في الزهد والخطيب عن أبي الدرداء نحوه وأخرج الخطيب في كتاب النجوم عن أبي هريرة نحو حديثه الأول مرفوعا وأخرج الحاكم في تاريخه والديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاثة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : التاجر الأمين والإمام المقتصد وراعي الشمس بالنهار ] وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن سلمان الفارسي قال : [ سبعة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله فذكر منهم الرجل الذي يراعي الشمس لمواقيت الصلاة ] فهذه الأحاديث مقيدة بكون المراعاة لذكر الله والصلاة لا لغير ذلك وقد جعل الله انقضاء وقت صلاة الفجر طلوع الشمس وأول صلاة الظهر زوالها ووقت العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية ووقت المغرب غروب الشمس وورد في صلاة العشاء [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصليها لوقت مغيب القمر ليلة ثالث الشهر ] وبها يعرف أوائل الشهور وأوساطها وأواخرها فمن راعى الشمس والقمر بهذه الأمور فهو الذي أراده النبي صلى الله عليه و سلم ومن راعاها لغير ذلك فهو غير مراد بما ورد وهكذا النجوم ورد النهي عن النظر فيها كما أخرجه ابن مردويه والخطيب عن علي قال : نهاني رسول الله صلى الله عليه و سلم عن النظر في النجوم وأخرج ابن مردويه والمرهبي والخطيب عن أبي هريرة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن النظر في النجوم وأخرج الخطيب عن عائشة مرفوعا مثله وأخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية والخطيب عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا ] وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ] فهذه الأحاديث محمولة على النظر فيها لما عدا الاهتداء والتفكر والاعتبار وما ورد في جواز النظر في النجوم فهو مقيد بالاهتداء والتفكر والاعتبار وما ورد في جواز النظر في النجوم فهو مقيد بالاهتداء والتفكر والاعتبار كما يدل عليه حديث ابن عمر السابق وعليه يحمل ما روي عن عكرمة فيما أخرجه الخطيب عنه : أنه سأل رجلا عن حساب النجوم فجعل الرجل يتحرج أن يخبره فقال عكرمة : سمعت ابن عباس يقول : علم عجز الناس عنه ووددت أني علمته وقد أخرج أبو داود والخطيب عن سمرة بن جندب أنه خطب فذكر حديثا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أما بعد فإن ناسا يزعمون أن كسوف هذه الشمس وكسوف هذا القمر وزوال هذه النجوم عن مواضعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض وإنهم قد كذبوا ولكنها آيات من آيات الله يعبر بها عباده لينظر ما يحدث لهم من توبة ] وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما في كسوف الشمس والقمر عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن يخوف الله بهما عباده ] وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة مرفوعا : [ إن الله نصب آدم بين يديه ثم ضرب كتفه اليسرى فخرجت ذريته من صلبه حتى ملأوا الأرض ] فهذا الحديث هو معنى ما في الآية - { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة } - وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله : { فمستقر ومستودع } قال : المستقر ما كان في الرحم والمستودع ما استودع في أصلاب الرجال والدواب وفي لفظ : المستقر ما في الرحم وعلى ظهر الأرض وبطنها مما هو حي ومما قد مات وفي لفظ المستقر ما كان في الأرض والمستودع ما كان في الصلب وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود في الآية قال : مستقرها في الدنيا ومستودعها في الآخرة وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال : المستقر الرحم و المستودع المكان الذي يموت فيه وأخرج أبو الشيخ عن الحسن وقتادة في الآية قالا : مستقر في القبر ومستودع في الدنيا أوشك أن يلحق بصاحبه وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { نخرج منه حبا متراكبا } قال : هذا السنبل وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب { قنوان دانية } قال قريبة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { قنوان دانية } قال : قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قنوان الكبائس والدانية المنصوبة وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في { قنوان دانية } قال : تهدل العذوق من الطلع وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { مشتبها وغير متشابه } قال : متشابها ورقه مختلفا ثمره وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في قوله : { انظروا إلى ثمره إذا أثمر } قال : رطبه وعنبه وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن البراء { وينعه } قال : نضجه (2/208)
هذا الكلام يتضمن ذكر نوع آخر من جهالاتهم وضلالاتهم قال النحاس : الجن المفعول الأول وشركاء المفعول الثاني كقوله تعالى : { وجعلكم ملوكا } { وجعلت له مالا ممدودا } وأجاز الفراء : أن يكون الجن بدلا من شركاء ومفسرا له وأجاز الكسائي رفع الجن بمعنى هم الجن كأنه قيل : من هم ؟ فقيل : الجن وبالرفع قرأ يزيد بن أبي قطيب وأبو حيان وقرئ بالجر على إضافة شركاء إلى الجن للبيان والمعنى : أنهم جعلوا شركاء لله فعبدوهم كما عبدوه وعظموهم كما عظموه وقيل : المراد بالجن هاهنا الملائكة لاجتنانهم : أي استتارهم وهم الذين قالوا : الملائكة بنات الله وقيل : نزلت في الزنادقة الذين قالوا : إن الله تعالى وإبليس أخوان فالله خالق الناس والدواب وإبليس خالق الحيات والسباع والعقارب وروي ذلك عن الكلبي ويقرب من هذا قول المجوس فإنهم قالوا : للعالم صانعان هما الرب سبحانه والشيطان وهكذا القائلون : كل خير من النور وكل شر من الظلمة وهم المانوية قوله : { وخلقهم } جملة حالية بتقدير قد : أي وقد علموا أن الله خلقهم أو خلق ما جعلوه شريكا لله قوله : { وخرقوا له بنين وبنات } قرأ نافع بالتشديد على التكثير لأن المشركين ادعوا أن الملائكة بنات الله والنصارى ادعوا أن المسيح ابن الله واليهود ادعوا أن عزيرا ابن الله فكثر ذلك من كفرهم فشدد الفعل لمطابقة المعنى وقرأ الباقون بالتخفيف وقرئ حرفوا من التحريف : أي زوروا قال أهل اللغة : معنى خرقوا اختلقوا وافتعلوا وكذبوا يقال : اختلق الإفك واخترقه وخرقه أو أصله من خرق الثوب : إذا شقه : أي اشتقوا له بنين وبنات قوله : { بغير علم } متعلق بمحذوف هو حال : أي كائنين بغير علم بل قالوا ذلك عن جهل خالص ثم بعد حكاية هذا الضلال البين والبهت الفظيع من جعل الجن شركاء لله وإثبات بنين وبنات له نزه الله نفسه فقال : { سبحانه وتعالى عما يصفون } وقد تقدم الكلام في معنى سبحانه ومعنى تعالى : تباعد وارتفع عن قولهم الباطل الذي وصفوه به (2/213)
قوله : 101 - { بديع السموات والأرض } أي مبدعهما فكيف يجوز أن { يكون له ولد } وقد جاء البديع : بمعنى البدع كالسميع بمعنى المسمع كثيرا ومنه قول عمرو بن معدي كرب :
( أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع )
اه
أي المسمع وقيل : هو من إضافة الصفة المشبهة إلى الفاعل والأصل بديع سمواته وأرضه وأجاز الكسائي خفضه على النعت لله والظاهر أن رفعه على تقدير مبتدأ محذوف أو على أنه مبتدأ وخبره { أنى يكون له ولد } وقيل : هو مرفوع على أنه فاعل تعالى وقرئ بالنصب على المدح والاستفهام في { أنى يكون له ولد } للإنكار والاستبعاد : أي من كان هذا وصفه وهو أنه خالق السموات والأرض وما فيهما كيف يكون له ولد ؟ وهو من جملة مخلوقاته وكيف يتخذ ما يخلقه ولدا ثم بالغ في نفي الولد فقال : { ولم تكن له صاحبة } أي كيف يكون له ولد والحال أنه لم تكن له صاحبة والصاحبة إذا لم توجد استحال وجود الولد وجملة { وخلق كل شيء } لتقرير ما قبلها لأن من كان خالقا لكل شيء استحال منه أن يتخذ بعض مخلوقاته ولدا { وهو بكل شيء عليم } لا تخفى عليه من مخلوقاته خافية (2/214)
والإشارة بقوله : 102 - { ذلكم } إلى الأوصاف السابقة وهو في موضع رفع على الابتداء وما بعده خبره وهو الاسم الشريف و { الله ربكم } بدلا من اسم الإشارة وكذلك { لا إله إلا هو خالق كل شيء } خبر المبتدأ ويجوز ارتفاع خالق على إضمار مبتدأ وأجاز الكسائي والفراء النصب فيه { فاعبدوه } أي من كانت هذه صفاته فهو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا غيره ممن ليس له من هذه الصفات العظيمة شيء (2/214)
قوله : 103 - { لا تدركه الأبصار } الأبصار : جمع بصر وهو الحاسة وإدراك الشيء عبارة عن الإحاطة به قال الزجاج : أي لا تبلغ كنه حقيقته فالمنفي هو هذا الإدراك لا مجرد الرؤية فقد ثبتت بالأحاديث المتواترة تواترا لا شك فيه ولا شبهة ولا يجهله إلا من يجهل السنة المطهرة جهلا عظيما وأيضا قد تقرر في علم البيان والميزان أن رفع الإيجاب الكلي سلب جزئي فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار وهي أبصار الكفار هذا على تسليم أن نفي الإدراك يستلزم نفي الرؤية فالمراد به هذه الرؤية الخاصة والآية من سلب العموم لا من عموم السلب والأول تخلفه الجزئية والتقدير : لا تدركه كل الأبصار بل بعضها وهي أبصار المؤمنين والمصير إلى أحد الوجهين متعين لما عرفناك من تواتر الرؤية في الآخرة واعتضادها بقوله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة } الآية قوله : { وهو يدرك الأبصار } أي يحيط بها ويبلغ كنهها لا تخفى عليه منها خافية وخص الأبصار ليجانس ما قبله وقال الزجاج : في هذا دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار : أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه انتهى { وهو اللطيف } أي الرفيق بعباده : يقال لطف فلان بفلان : أي رفق به واللطف في العمل الرفق فيه واللطف من الله التوفيق والعصمة وألطفه بكذا : إذا أبره : والملاطفة : المبارة هكذا قال الجوهري وابن فارس و { الخبير } المختبر بكل شيء بحيث لا يخفى عليه شيء
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم } قال : والله خلقهم { وخرقوا له بنين وبنات بغير علم } قال : تخرصوا وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { وخرقوا } قال : جعلوا وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كذبوا وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه وأخرج ابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : { لا تدركه الأبصار } قال : لو أن الإنس والجن والملائكة والشياطين منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا قال الذهبي : هذا حديث منكر انتهى وفي إسناده عطية العوفي وهو ضعيف وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال : رأى محمد ربه قال عكرمة : فقلت له أليس الله يقول : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } قال : لا أم لك ذاك نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء وفي لفظ : إنما ذلك إذا تجلى بكيفيته لم يقم له بصر وأخرج ابن جرير عنه قال : لا يحيط بصر أحد بالله وأخرج أبو الشيخ والبيهقي في كتاب الرؤية عن الحسن في قوله : { لا تدركه الأبصار } قال : في الدنيا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إسماعيل بن علية مثله (2/215)
البصائر : جمع بصيرة وهي في الأصل : نور القلب والمراد بها هنا الحجة البينة والبرهان الواضح وهذا الكلام وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم ولهذا قال في آخره : 104 - { وما أنا عليكم بحفيظ } ووصف البصائر بالمجيء تفخيما لشأنها وجعلها بمنزلة الغائب المتوقع مجيئه كما يقال : جاءت العافية وانصرف المرض وأقبلت السعود وأدبرت النحوس { فمن أبصر فلنفسه } أي فمن تعقل الحجة وعرفها وأذعن لها فنفع ذلك لنفسه لأنه ينجو بهذا الإبصار من عذاب النار { ومن عمي } عن الحجة ولم يتعقلها ولا أذعن لها فضرر ذلك على نفسه لأنه يتعرض لغضب الله في الدنيا ويكون مصيره النار { وما أنا عليكم بحفيظ } برقيب أحصي عليكم أعمالكم وإنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم قال الزجاج : نزل هذا قبل فرض القتال ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان (2/216)
105 - { وكذلك نصرف الآيات } أي مثل ذلك التصريف البديع نصرفها في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه قوله : { وليقولوا درست } العطف على محذوف : أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست أو علة لفعل محذوف يقدر متأخرا : أي وليقولوا درست صرفناها وعلى هذا تكون اللام للعاقبة أو للصيرورة والمعنى : ومثل ذلك التصريف نصرف الآيات وليقولوا درست فإنه لا احتفال بقولهم : ولا اعتداد بهم فيكون معناه الوعيد والتهديد لهم وعدم الاكتراث بقولهم وقد أشار إلى مثل هذا الزجاج وقال النحاس : وفي المعنى قول آخر حسن وهو أن يكون معنى { نصرف الآيات } نأتي بها آية بعد آية { ليقولوا درست } علينا فيذكرون الأول بالأخر فهذا حقيقته والذي قاله أبو إسحاق : يعني الزجاج مجاز وفي { درست } قراءات قرأ أبو عمرو وابن كثير دارست بألف بين الدال والراء كفاعلت وهي قراءة علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأهل مكة وقرأ ابن عامر { درست } بفتح السين وإسكان التاء من غير ألف كخرجت ويه قراءة الحسن وقرأ الباقون { درست } كضربت فعلى القراءة الأولى المعنى : دارست أهل الكتاب ودارسوك : أي ذاكرتهم وذاكروك ويدل على هذا ما وقع في الكتاب العزيز من إخبار الله عنهم بقوله : { وأعانه عليه قوم آخرون } أي أعان اليهود النبي صلى الله عليه و سلم على القرآن ومثله قولهم : { أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } وقولهم : { إنما يعلمه بشر } والمعنى على القراءة الثانية قدمت هذه الآيات وعفت وانقطعت وهو كقولهم { أساطير الأولين } والمعنى على القراءة الثالثة مثل المعنى على القراءة الأولى قال الأخفش : هي بمعنى دارست إلا أنه أبلغ وحكي عن المبرد أنه قرأ { وليقولوا } بإسكان اللام فيكون فيه معنى التهديد : أي وليقولوا ما شاءوا فإن الحق بين وفي هذا اللفظ أصله درس يدرس دراسة فهو من الدرس وهو القراءة وقيل : من درسته : أي ذللته بكثرة القراءة وأصله درس الطعام : أي داسه والدياس : الدراس بلغة أهل الشام وقيل : أصله من درست الثوب أدرسه درسا : أي أخلقته ودرست المرأة درسا : أي حاضت ويقال : إن فرج المرأة يكنى أبا دراس وهو من الحيض والدرس أيضا : الطريق الخفي وحكى الأصمعي : بعير لم يدرس : أي لم يركب وروي عن ابن عباس وأصحابه وأبي وابن مسعود والأعمش أنهم قرأوا درس أي درس محمد الآيات وقرئ درست وبه قرأ زيد بن ثابت : أي الآيات على البناء للمفعول ودارست أي دارست اليهود محمدا واللام في { لنبينه } لام كي : أي نصرف الآيات لكي نبينه لقوم يعلمون والضمير راجع إلى الآيات لأنها في معنى القرآن أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه معلوم من السياق أو إلى التبيين المدلول عليه بالفعل (2/216)
قوله : 106 - { اتبع ما أوحي إليك من ربك } أمره الله باتباع ما أوحي إليه وأن لا يشغل خاطره بهم بل يشتغل باتباع ما أمره الله وجملة { لا إله إلا هو } معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لقصد تأكيد إيجاب الاتباع { وأعرض } معطوف على { اتبع } أمره الله بالإعراض عن المشركين بعدما أمره باتباع ما أوحي إليه وهذا قبل نزول آية السيف (2/218)
107 - { ولو شاء الله ما أشركوا } أي لو شاء الله عدم إشراكهم ما أشركوا وفيه أن الشرك بمشيئة الله سبحانه والكلام في تقرير هذا على الوجه الذي يتعارف به أهل علم الكلام والميزان معروف فلا نطيل بإيراده { وما جعلناك عليهم حفيظا } أي رقيبا { وما أنت عليهم بوكيل } أي قيم بما فيه نفعهم فتجلبه إليهم ليس عليك غلا إبلاغ الرسالة (2/218)
قوله : 108 - { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } الموصول عبارة عن الآلهة التي كانت تعبدها الكفار والمعنى : لا تسب يا محمد آلهة هؤلاء الكفار التي يدعونها من دون الله فيتسبب عن ذلك سبهم لله عدوانا وتجاوزا عن الحق وجهلا منهم
وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق والناهي عن الباطل إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم ومخالفة حق ووقوع في باطل أشد كان الترك أولى به بل كان واجبا عليه وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله المتصدين لبيانها للناس إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه وتركوا غيره من المعروف وإذا نهاهم عن منكر فعلوه وفعلوا غيره من المنكرات عنادا للحق وبغضا لاتباع المحقين وجراءة على الله سبحانه سبحانه فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة وجعل المخالفة لها والتجرؤ على أهلها ديدنه وهجيراه كما يشاهد ذلك في أهل البدع الذين إذا دعوا إلى حق وقعوا في كثير من الباطل وإذا أرشدوا إلى السنة قابلوها بما لديهم من البدعة فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين المتهاونون بالشرائع وهم شر من الزنادقة لأنهم يحتجون بالباطل وينتمون إلى البدع ويتظهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام وتحاماهم أهله وقد ينفق كيدهم ويتم باطلهم وكفرهم نادرا على ضعيف من ضعفاء المسلمين مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة وهي أصل أصيل في سد الذرائع وقطع التطرق إلى الشبه وقرأ أهل مكة عدوا بضم العين والدال وتشديد الواو وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة وقرأ من عداهم بفتح العين وإسكان الدال وتخفيف الواو ومعنى القراءتين واحدا : أي ظلما وعدوانا وهو منتصب على الحال أو على المصدر أو على أنه مفعول له { كذلك زينا لكل أمة عملهم } أي مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم من الخير والشر { يضل من يشاء ويهدي من يشاء } { ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } في الدنيا من المعاصي التي لم ينتهوا عنها ولا قبلوا من المرسلين ما أرسلهم الله به إليهم وما تضمنته كتبه المنزلة عليهم
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { قد جاءكم بصائر } أي بينة { فمن أبصر فلنفسه } أي فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه { ومن عمي } أي من ضل { فعليها } وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس أنه كان يقرأ درست وقال : قرأت وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه { درست } قال : قرأت وتعلمت وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عنه أيضا قال دارست خاصمت جادلت تلوت وأخرج أبو الشيخ عن السدي { وأعرض عن المشركين } قال : كف عنهم وهذا منسوخ نسخه القتال { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } قال : قالوا : يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم { فيسبوا الله عدوا بغير علم } وقد ثبت في الصحيح [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ملعون من سب والديه قالوا يا رسول الله : وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ] (2/218)
قوله : 109 - { وأقسموا بالله } أي الكفار مطلقا أو كفار قريش وجهد الأيمان أشدها : أي أقسموا بالله أشد أيمانهم التي بلغتها قدرتهم وقد كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم فلهذا أقسموا به وانتصاب جهد على المصدرية وهو بفتح الجيم المشقة وبضمها الطاقة ومن أهل اللغة من يجعلهما لمعنى واحد والمعنى : أنهم اقترحوا على النبي صلى الله عليه و سلم آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وأقسموا لئن جاءتهم هذه الآية التي اقترحوها { ليؤمنن بها } وليس غرضهم الإيمان بل معظم قصدهم التحكم على رسول الله صلى الله عليه و سلم والتلاعب بآيات الله فأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بقوله : { إنما الآيات عند الله } هذه الآية التي يقترحونها وغيرها وليس عندي من ذلك شيء فهو سبحانه إن أراد إنزالها أنزلها وإن أراد أن لا ينزلها لم ينزلها قوله : { وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون } قرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة من أنها وهي قراءة مجاهد ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود ( وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون ) قال مجاهد وابن زيد : المخاطب بهذا : المشركون : أي وما يدريكم ثم حكم عليهم بقوله : { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } وقال الفراء وغيره : الخطاب للمؤمنين لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم : يا رسول الله لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون فقال الله تعالى : { وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون } وقرأ أهل المدينة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم وابن عامر { أنها إذا جاءت } بفتح الهمزة قال الخليل : أنها بمعنى لعلها وفي التنزيل { وما يدريك لعله يزكى } أي أنه يزكى وحكي عن العرب ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا : أي لعلك ومنه قول عدي بن زيد :
( أعاذل ما يدريك أن منيتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد )
أي لعل منيتي ومنه قول دريد بن الصمة :
( أريني جوادا مات هزلا لأنني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا )
أي لعلني وقول أبي النجم :
( قلت لشيبان ادن من لقائه ... أني بعد اليوم من سوائه )
أي لعلي وقول جرير :
( هل أنتم عائجون بنا لأن ... نرى العرصات أو أثر الخيام )
أي لعلنا اهـ وقد وردت في كلام العرب كثيرا بمعنى لعله وحكى الكسائي أنها كذلك في مصحف أبي بن كعب وقال الكسائي أيضا والفراء : إن لا زائدة والمعنى : وما يشعركم أنها : أي الآيات إذا جاءت يؤمنون فزيدت كما زيدت في قوله تعالى : { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } في قوله : { ما منعك أن لا تسجد } وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة لا وقالوا : هو غلط وخطأ وذكر النحاس وغيره أن في الكلام حذفا والتقدير : أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون ثم حذف هذا المقدر لعلم السامع (2/220)
قوله : 110 - { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } معطوف على { لا يؤمنون } قيل والمعنى : تقليب أفئدتهم وأبصارهم يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر { كما لم يؤمنوا } في الدنيا { ونذرهم } في الدنيا : أي نمهلهم ولا نعاقبهم فعلى هذا بعض الآية في الآخرة وبعضها في الدنيا وقيل المعنى : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الدنيا : أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية كما حلنا بينهم وبين ما دعوتهم إليه أول مرة عند ظهور المعجزة وقيل : في الكلام تقدير وتأخير والتقدير : أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ونذرهم في طغيانهم يعمهون : أي يتحيرون والكاف في { كما لم يؤمنوا } نعت مصدر محذوف وما مصدرية و { يعمهون } في محل نصب على الحال (2/221)
قوله : 111 - { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } أي لا يؤمنون ولو نزلنا إليهم الملائكة كما اقترحوهم بقولهم : { لولا أنزل عليه ملك } { وكلمهم الموتى } الذين يعرفونهم بعد إحيائنا لهم فقالوا لهم : إن هذا النبي صادق مرسل من عند الله فآمنوا به لم يؤمنوا { وحشرنا عليهم كل شيء } مما سألوه من الآيات { قبلا } أي كفلا وضمنا بما جئناهم به من الآيات البينات هذا على قراءة من قرأ { قبلا } بضم القاف وهم الجمهور وقرأ نافع وابن عامر { قبلا } بكسرها : أي مقابلة وقال محمد بن يزيد المبرد : قبلا بمعنى ناحية كما تقول لي : قبل فلان مال فقبلا نصب على الظرف وعلى المعنى الأول ورد قوله تعالى : { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } أي يضمنون كذا قال الفراء وقال الأخفش : هو بمعنى قبيل قبيل : أي جماعة جماعة وحكى أبو زيد لقيت فلانا قبلا ومقابلة وقبلا كله واحد بمعنى المواجهة فيكون على هذا الضم كالكسر وتستوي القراءتان والحشر : الجمع { ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } إيمانهم فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن والاستثناء مفرغ { ولكن أكثرهم يجهلون } جهلا يحول بينهم وبين درك الحق والوصول إلى الصواب (2/222)
قوله : 112 - { وكذلك جعلنا لكل نبي } هذا الكلام لتسلية رسول الله صلى الله عليه و سلم ودفع ما حصل معه من الحزن بعدم إيمانهم : أي مثل هذا الجعل { جعلنا لكل نبي عدوا } والمعنى : كما ابتليناك بهؤلاء فقد ابتلينا الأنبياء من قبلك بقوم من الكفار فجعلنا لكل واحد منهم عدوا من كفار زمنهم و { شياطين الإنس والجن } بدل من عدوا وقيل : هو المفعول الثاني لجعلنا وقرأ الأعمش الجن والإنس بتقديم الجن والمراد بالشياطين المردة من الفريقين والإضافة بيانية أو من إضافة الصفة إلى الموصوف والأصل الإنس والجن الشياطين وجملة { يوحي بعضهم إلى بعض } في محل نصب على الحال : أي حال كونه يوسوس بعضهم لبعض وقيل : إن الجملة مستأنفة لبيان حال العدو وسمي وحيا لأنه إنما يكون خفية بينهم وجعل تمويههم زخرف القول لتزيينهم إياه والزخرف : المزين وزخارف الماء طرائقه و { غرورا } منتصب على المصدر لأن معنى يوحي بعضهم إلى بعض يغرونهم بذلك غرورا ويجوز أن يكون في موضع الحال ويجوز أن يكون مفعولا له والغرور : الباطل قوله : { ولو شاء ربك ما فعلوه } الضمير يرجع إلى ما ذكر سابقا من الأمور التي جرت من الكفار في زمنه وزمن الأنبياء قبله : أي لو شاء ربك عدم وقوع ما تقدم ذكره ما فعلوه وأوقعوه وقيل : ما فعلوا الإيحاء المدلول عليه بالفعل { فذرهم } أي اتركهم وهذا الأمر للتهديد للكفار كقوله : { ذرني ومن خلقت وحيدا } { وما يفترون } إن كانت ما مصدرية بالتقدير : اتركهم وافتراءهم وإن كانت موصولة فالتقدير : اتركهم والذي يفترونه (2/222)
قوله : 113 - { ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } اللام في لتصغي لام كي فتكون علة كقوله { يوحي } والتقدير : يوحي بعضهم إلى بعض ليغروهم ولتصغي وقيل : هو متعلق بمحذوف يقدر متأخرا : أي لتصغي { جعلنا لكل نبي عدوا } وقيل : إن اللام للأمر وهو غلط فإنها لو كانت لام الأمر جزم الفعل والإصغاء : الميل يقال : صغوت أصغو صغوا وصغيت أصغي : ويقال : صغيت بالكسر ويقال : أصغيت الإناء : إذا أملته ليجتمع ما فيه وأصله الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض ويقال : صغت النجوم : إذا مالت للغروب وأصغت الناقة : إذا أمالت رأسها ومنه قول ذي الرمة :
( تصغي إذا شدها بالكور جانحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها وثبت )
والضمير في إليه لزخرف القول أو لما ذكر سابقا من زخرف القول وغيره : أي أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروهم { ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } من الكفار { وليرضوه } لأنفسهم بعد الإصغاء إليه { وليقترفوا ما هم مقترفون } من الآثام والاقتراف : الاكتساب يقال : خرج ليقترف لأهله : أي ليكتسب لهم وقارف فلان هذا الأمر : إذا واقعه وقرفه : إذا رماه بالريبة واقترف : كذب وأصله اقتطاع قطعة من الشيء
وقد أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : نزلت { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } في قريش { وما يشعركم } يا أيها المسلمون { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : [ كلم رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصى يضرب بها الحجر وأن عيسى كان يحيي الموتى وأن ثمود لهم ناقة فأتنا من الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أي شيء تحبون أن آتيكم به ؟ قالوا : تجعل لنا الصفا ذهبا قال : فإن فعلت تصدقوني ؟ قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو فجاءه جبريل فقال له : إن شئت أصبح ذهبا فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال : بل يتوب تائبهم فأنزل الله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } إلى قوله : { يجهلون } ] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } قال : لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه { وحشرنا عليهم كل شيء قبلا } قال : معاينة { ما كانوا ليؤمنوا } أي أهل الشقاء { إلا أن يشاء الله } أي أهل السعادة والذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة { وحشرنا عليهم كل شيء قبلا } أي فعاينوا ذلك معاينة وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال : أفواجا قبيلا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن } قال : إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم فيلتقي شيطان الإنس وشيطان الجن فيقول هذا لهذا : أضلله بكذا وأضلله بكذا فهو { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } وقال ابن عباس : الجن هم الجان وليسوا شياطين والشياطين ولد إبليس وهم لا يموتون إلا مع إبليس والجن يموتون فمنهم المؤمن ومنهم الكافر وأخرج أبو الشيخ عن ابن مسعود قال : الكهنة هم شياطين الإنس وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يوحي بعضهم إلى بعض } قال : شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس فإن الله يقول : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة في الآية قال : من الإنس شياطين ومن الجن شياطين يوحي بعضهم إلى بعض وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس زخرف القول قال : يحسن بعضهم لبعض القول ليتبعوهم في فتنتهم وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس قال : يا نبي الله وهل للإنس شياطين ؟ قال : نعم شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ] وأخرج أحمد وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي ذر مرفوعا نحوه وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { ولتصغى } لتميل وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عنه { ولتصغى } تزيغ { وليقترفوا } يكتسبوا (2/223)
قوله : 114 - { أفغير الله } الاستفهام للإنكار والفاء للعطف على فعل مقدر والكلام هو على إرادة القول والتقدير : قل لهم يا محمد كيف أضل وأبتغي غير الله حكما ؟ و غير مفعول لأبتغي مقدم عليه و حكما المفعول الثاني أو العكس ويجوز أن ينتصب حكما على الحال والحكم أبلغ من الحاكم كما تقرر في مثل هذه الصفة المشتقة أمره الله سبحانه وتعالى أن ينكر عليهم ما طلبوه منه من أن يجعل بينه وبينهم حكما فيما اختلفوا فيه وإن الله هو الحكم العدل بينه وبينهم وجملة { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا } في محل نصب على الحال : أي كيف أطلب حكما غير الله وهو الذي أنزل عليكم القرآن مفصلا مبينا واضحا مستوفيا لكل قضية على التفصيل ثم أخبر نبيه صلى الله عليه و سلم بأن أهل الكتاب وإن أظهروا الجحود والمكابرة فإنهم يعلمون أن القرآن منزل من عند الله بما دلتهم عليه كتب الله المنزلة كالتوراة والإنجيل من أنه رسول الله وأنه خاتم الأنبياء و { بالحق } متعلق بمحذوف وقع حالا : أي متلبسا بالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة ثم نهاه عن أن يكون من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون بأن القرآن منزل من عند الله بالحق أو نهاه عن مطلق الامتراء ويكون ذلك تعريضا لأمته عن أن يمتري أحد منهم أو الخطاب لكل من يصلح له : أي فلا يكونن أحد من الناس من الممترين ولا يقدح في ذلك كون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فإن خطابه خطاب لأمته (2/225)
قوله : 115 - { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } قرأ أهل الكوفة كلمة بالتوحيد وقرأ الباقون بالجمع والمراد بالكلمات العبارات أو متعلقاتها من الوعد والوعيد والمعنى : أن الله قد أتم وعده ووعيده فظهر الحق وانطمس الباطل وقيل : المراد بالكلمة أو الكلمات القرآن و { صدقا وعدلا } منتصبان على التمييز أو الحال أو على أنهما نعت مصدر محذوف : أي تمام صدق وعدل { لا مبدل لكلماته } لا خلف فيها ولا مغير لما حكم به والجملة المنفية في محل نصب على الحال أو مستأنفة { وهو السميع } لكل مسموع { العليم } بكل معلوم (2/225)
قوله : 116 - { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } أخبره الله سبحانه بأنه إذا رام طاعة أكثر من في الأرض أضلوه لأن الحق لا يكون إلا بيد الأقلين ومنهم الطائفة التي تزال على الحق ولا يضرها خلاف من يخالفها كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقيل : المراد بالأكثر الكفار وقيل : المراد بالأرض مكة : أي أكثر أهل مكة ثم علل ذلك سبحانه بقوله : { إن يتبعون إلا الظن } أي ما يتبعون إلا الظن الذي لا أصل له وهو ظنهم أن معبوداتهم تستحق العبادة وأنها تقربهم إلى الله { وإن هم إلا يخرصون } أي وما هم إلا يخرصون : أي يحدسون ويقدرون وأصل الخرص القطع ومنه خرص النخل يخرص : إذا حزره ليأخذ منه الزكاة فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به إذ لا يقين منه وإذا كان هذا حال أكثر من في الأرض فالعلم الحقيقي هو عند الله فاتبع ما أمرك به ودع عنك طاعة غيره (2/225)
117 - { إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } وهو العالم بمن يضل عن سبيله ومن يهتدي إليه قال بعض أهل العلم : إن { أعلم } في الموضعين بمعنى يعلم قال ومنه قول حاتم الطائي :
( فحالفت طي من دوننا حلفا ... والله أعلم ما كنا لهم خولا )
والوجه في هذا التأويل أن أفعل التفضيل لا ينصب الاسم الظاهر فتكون من منصوبة بالفعل الذي جعل أفعل التفضيل نائبا عنه وقيل : إن أفعل التفضيل على بابه والنصب بفعل مقدر وقيل : إنها منصوبة بأفعل التفضيل أي إن ربك أعلم أي الناس يضل عن سبيله وقيل : في محل نصب بنزع الخافض : أي بمن يضل قاله بعض البصريين وقيل : في محل جر إضافة أفعل التفضيل إليها
وقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { مفصلا } قال : مبينا وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { صدقا وعدلا } قل : صدقا فيما وعد وعدلا فيما حكم وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو نصر السجزي في الإنابة عن محمد بن كعب القرظي في قوله : { لا مبدل لكلماته } قال : لا تبديل لشيء قاله في الدنيا والآخرة لقوله : { ما يبدل القول لدي } وأخرج ابن مردويه وابن النجار عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } قال : لا إله إلا الله وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي اليمان عامر بن عبد الله قال : [ دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة ولكل قوم صنم يعبدونه فجعل يأتيها صنما صنما ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره فكلما طعن صنما أتبعه ضربا بالقوس حتى يكسروه ويطرحوه خارجا من المسجد والنبي صلى الله عليه و سلم يقول : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } ] (2/226)
لما تقدم ذكر ما يصنعه الكفار في الأنعام من تلك السنن الجاهلية أمر الله المسلمين بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقيل : إنها نزلت في سبب خاص وسيأتي ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فكل ما ذكر الذابح عليه اسم الله حل إن كان مما أباح الله أكله وقال عطاء : في هذه الآية الأمر بذكر الله على الشراب والذبح وكل مطعوم والشرط في { إن كنتم بآياته مؤمنين } للتهييج والإلهاب : أي بأحكامه من الأوامر والنواهي التي من جملتها الأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه (2/227)
والاستفهام في 119 - { وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } للإنكار : أي ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه بعد أن أذن الله لكم بذلك { و } الحال أن { قد فصل لكم ما حرم عليكم } أي بين لكم بيانا مفصلا يدفع الشك ويزيل الشبهة بقوله : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } إلى آخر الآية ثم استثنى فقال : { إلا ما اضطررتم إليه } أي من جميع ما حرمه عليكم فإن الضرورة تحلل الحرام وقد تقدم تحقيقه في البقرة قرأ نافع ويعقوب { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } بفتح الفعلين على البناء للفاعل وهو الله سبحانه وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالضم فيهما على البناء للمفعول وقرأ عطية العوفي فصل بالتخفيف : أي أبان وأظهر قوله : { وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم } هم الكفار الذين كانوا يحرمون البحيرة والسائبة ونحوهما فإنهم بهذه الأفعال المبنية على الجهل كانوا يضلون الناس فيتبعونهم ولا يعلمون أن ذلك جهل وضلالة لا يرجع إلى شيء من العلم (2/227)
120 - { وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون } ثم أمرهم الله أن يتركوا ظاهر الإثم وباطنه والظاهر : ما كان يظهر كأفعال الجوارح والباطن : ما كان لا يظهر كأفعال القلب وقيل : ما أعلنتم وما أسررتم : وقيل : الزنا الظاهر والزنا المكتوم وأضاف الظاهر والباطن إلى الإثم لأنه يتسبب عنهما ثم توعد الكاسبين للإثم بالجزاء بسبب افترائهم على الله سبحانه
وقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه و سلم قالوا : إنا نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله فأنزل الله : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } إلى قوله : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } فإنه حلال { إن كنتم بآياته } يعني القرآن { مؤمنين } قال : مصدقين : { وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } يعني الذبائح { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } يعني ما حرم عليكم من الميتة { وإن كثيرا } يعني من مشركي العرب { ليضلون بأهوائهم بغير علم } يعني في أمر الذبائح وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { إلا ما اضطررتم إليه } أي من الميتة والدم ولحم الخنزير وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وذروا ظاهر الإثم } قال : هو نكاح الأمهات والبنات { وباطنه } قال : هو الزنا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : الظاهر منه { لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } و { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم } الآية والباطن : الزنا وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : علانيته وسره (2/227)
نهى الله سبحانه عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بعد أن أمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه وفيه دليل على تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه
وقد اختلف أهل العلم في ذلك فذهب ابن عمر ونافع مولاه والشعبي وابن سيرين وهو رواية عن مالك وأحمد بن حنبل وبه قال أبو ثور وداود الظاهري : أن ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح حرام من غير فرق بين العامد والناسي لهذه الآية ولقوله تعالى في آية الصيد : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } ويزيد هذا الاستدلال تأكيدا قوله سبحانه في هذه الآية 121 - { وإنه لفسق }
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الأمر بالتسمية في الصيد وغيره وذهب الشافعي وأصحابه وهو رواية عن مالك ورواية عن أحمد أن التسمية مستحبة لا واجبة وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء بن أبي رباح وحمل الشافعي الآية على من ذبح لغير الله وهو تخصيص للآية بغير مخصص وقد روى أبو داود في المرسل أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر ] وليس في هذا المرسل ما يصلح لتخصيص الآية نعم حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه و سلم : [ إن قوما يأتوننا بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقالوا : سموا أنتم وكلوا ] يفيد أن التسمية عند الأكل تجزئ مع التباس وقوعها عند الذبح وذهب مالك وأحمد في المشهور عنهما وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق بن راهويه أن التسمية إن تركت نسيانا لم تضر وإن تركت عمدا لم يحل أكل الذبيحة وهو مروي عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والحسن البصري وأبي مالك وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد وربيعة بن أبي عبد الرحمن واستدلوا بما أخرجه البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ المسلم إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله ] وهذا الحديث رفعه خطأ وإنما هو من قول ابن عباس وكذا أخرجه من قوله : عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر نعم يمكن الاستدلال لهذا المذهب بمثل قوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } كما سبق تقريره وبقوله صلى الله عليه و سلم : [ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ] وأما حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن عدي [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اسم الله على كل مسلم ] فهو حديث ضعيف قد ضعفه البيهقي وغيره قوله : { وإنه لفسق } الضمير يرجع إلى { ما } بتقدير مضاف : أي وإن أكل ما لم يذكر لفسق ويجوز أن يرجع إلى مصدر تأكلوا : أي فإن الأكل لفسق وقد تقدم تحقيق الفسق
وقد استدل من حمل هذه الآية على ما ذبح لغير الله بقوله : { وإنه لفسق } ووجه الاستدلال أن الترك لا يكون فسقا بل الفسق الذبح لغير الله ويجاب عنه بأن إطلاق اسم الفسق على تارك ما فرضه الله عليه غير ممتنع شرعا { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } أي يوسوسون لهم بالوساوس المخالفة للحق المباينة للصواب قاصدين بذلك أن يجادلكم هؤلاء الأولياء بما يوسوسون لهم { وإن أطعتموهم } فيما يأمرونكم به وينهونكم عنه { إنكم لمشركون } مثلهم
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : المشركون وفي لفظ : قال اليهود : لا تأكلوا مما قتل الله وتأكلوا مما قتلتم أنتم فأنزل الله : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } وأخرج ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال : لما نزلت : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمدا فقالوا له : ما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال وما ذبح الله بشمشار من ذهب يعني الميتة فهو حرام فنزلت : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } قال : الشياطين من فارس وأولياؤهم من قريش وقد روي نحو ما تقدم في حديث ابن عباس الأول من غير طريق وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عنه أيضا في قوله : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } قال : إبليس أوحى إلى مشركي قريش وأخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي في سننه عنه أيضا في قوله : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } فنسخ واستثني من ذلك فقال : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال : كلوا ذبائح المسلمين وأهل الكتاب مما ذكر اسم الله عليه وروى ابن أبي حاتم عن مكحول نحو قول ابن عباس في النسخ (2/228)
قوله : 122 - { أو من كان ميتا فأحييناه } قرأ الجمهور بفتح الواو بعد همزة الاستفهام وقرأ نافع وابن أبي نعيم بإسكانها قال النحاس : يجوز أن يكون محمولا على المعنى : أي انظروا وتدبروا { أفغير الله أبتغي حكما } { أو من كان ميتا فأحييناه } والمراد بالميت هنا الكافر أحياه الله بالإسلام وقيل معناه : كان ميتا حين كان نطفة فأحييناه بنفخ الروح فيه والأول أولى لأن السياق يشعر بذلك لكونه في تنفير المسلمين عن اتباع المشركين وكثيرا ما تستعار الحياة للهداية والعلم ومنه قول القائل :
( وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... فأجسامهم قبل القبور قبور )
( وإن امرأ لم يحي بالعلم ميت ... فليس له حتى النشور نشور )
والنور عبارة عن الهداية والإيمان وقيل : هو القرآن وقيل : الحكمة وقيل : هو النور المذكور في قوله تعالى : { يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } والضمير في به راجع إلى النور { كمن مثله في الظلمات } أي كمن صفته في الظلمات ومثله مبتدأ والظلمات خبره والجملة صفة لمن وقيل : مثل زائدة والمعنى : كمن في الظلمات كما تقول : أنا أكرم من مثلك : أي منك ومثله { فجزاء مثل ما قتل من النعم } { ليس كمثله شيء } وقيل المعنى : كمن مثله مثل من هو في الظلمات و { ليس بخارج منها } في محل نصب على الحال : أي حال كونه ليس بخارج منها بحال من الأحوال (2/230)
قوله : 123 - { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها } أي مثل ذلك الجعل جعلنا في كل قرية والأكابر جمع أكبر قيل : هم الرؤساء والعظماء وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد والمكر : الحيلة في مخالفة الاستقامة وأصله القتل فالماكر يفتل عن الاستقامة : أي يصرف عنها { وما يمكرون إلا بأنفسهم } أي وبال مكرهم عائد عليهم { وما يشعرون } بذلك لفرط جهلهم (2/231)
124 - { وإذا جاءتهم آية } من الآيات { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } يريدون أنهم لا يؤمنون حتى يكونوا أنبياء وهذا نوع عجيب من جهالاتهم الغريبة وعجرفتهم العجيبة ونظيره { يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة } والمعنى : إذا جاءت الأكابر آية قالوا هذه المقالة فأجاب الله عنهم بقوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } أي إن الله أعلم بمن يستحق أن يجعله رسولا ويكون موضعا لها وأمينا عليها وقد اختار أن يجعل الرسالة في محمد صفيه وحبيبه فدعوا طلب ما ليس من شأنكم توعدهم بقوله : { سيصيب الذين أجرموا صغار } أي ذل وهوان وأصله من الصغر كأن الذل يصغر إلى المرء نفسه وقيل : الصغار هو الرضا بالذل روي ذلك عن ابن السكيت
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس { أو من كان ميتا فأحييناه } قال : كان كافرا ضالا فهديناه { وجعلنا له نورا } هو القرآن { كمن مثله في الظلمات } الكفر والضلالة وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال : نزلت في عمار بن ياسر وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } يعني عمر بن الخطاب { كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } يعني أبا جهل بن هشام وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم في الآية قال : نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل بن هشام كانا ميتين في ضلالتهما فأحيا الله عمر بالإسلام وأعزه وأقر أبا جهل في ضلالته وموته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا فقال : [ اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب ] وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن كرمة في قوله : { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها } قال : نزلت في المستهزئين وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : سلطنا شرارها فعصوا فيها فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد قال : { أكابر مجرميها } عظماءها وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : { وإذا جاءتهم آية } الآية قال : قالوا لمحمد حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه من الحق : لو كان هذا حقا لكان فينا من هو أحق أن يؤتى به من محمد { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { سيصيب الذين أجرموا } قال : أشركوا { صغار } قال : هوان (2/231)
قوله : 125 - { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } الشرح : الشق وأصله التوسعة وشرحت الأمر بينته وأوضحته والمعنى : من يرد الله هدايته للحق يوسع صدره حتى يقبله بصدر منشرح { ومن يرد } إضلاله { يجعل صدره ضيقا حرجا } قرأ ابن كثير { ضيقا } بالتخفيف مثل هين ولين وقرأ الباقون بالتشديد وهما لغتان وقرأ نافع { حرجا } بالكسر ومعناه الضيق كرر المعنى تأكيدا وحسن ذلك اختلاف اللفظ وقرأ الباقون بالفتح جمع حرجة وهي شدة الضيق والحرجة الغيظة والجمع حرج وحرجات ومنه فلان يتحرج : أي يضيق على نفسه وقال الجوهري : مكان حرج وحرج : أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية والحرج الإثم وقال الزجاج : الحرج أضيق الضيق وقال النحاس : حرج اسم الفاعل وحرج مصدر وصف به كما يقال : رجل عدل قوله : { كأنما يصعد في السماء } قرأ ابن كثير بالتخفيف من الصعود شبه الكافر في ثقل الإيمان عليه بمن يتكلف ما لا يطيقه كصعود السماء وقرأ النخعي { يصعد } وأصله يتصاعد وقرأ الباقون { يصعد } بالتشديد وأصله يتصعد ومعناه : يتكلف ما لا يطيق مرة بعد مرة كما يتكلف من يريد الصعود إلى السماء وقيل : المعنى على جميع القراءات : كاد قلبه يصعد إلى السماء نبوا على الإسلام وما في كأنما هي المهيئة لدخول كأن على الجمل الفعلية قوله : { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } : أي مثل ذلك الجعل الذي هو جعل الصدر ضيقا حرجا يجعل الله الرجس والرجس في اللغة : النتن وقيل : هو العذاب وقيل : هو الشيطان يسلطه الله عليهم وقيل : هو ما لا خير فيه والمعنى الأول هو المشهور في لغة العرب وهو مستعار لما يحل بهم من العقوبة وهو يصدق على جميع المعاني المذكورة (2/233)
والإشارة بقوله : 126 - { وهذا صراط ربك } إلى ما عليه النبي صلى الله عليه و سلم ومن معه من المؤمنين : أي هذا طريق دين ربك لا اعوجاج فيه وقيل : الإشارة إلى ما تقدم مما يدل على التوفيق والخذلان : أي هذا هو عادة الله في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء وانتصاب { مستقيما } على الحال كقوله تعالى : { وهو الحق مصدقا } { وهذا بعلي شيخا } { قد فصلنا الآيات } أي بيناها وأوضحناها { لقوم يذكرون } ما فيها ويتفهمون معانيها (2/233)
127 - { لهم دار السلام عند ربهم } أي لهؤلاء المتذكرين الجنة لأنها دار السلامة من كل مكروه أو دار الرب السلام مدخرة لهم عند ربهم يوصلهم إليها { وهو وليهم } أي ناصرهم والباء في { بما كانوا يعملون } للسببية : أي بسبب أعمالهم (2/234)
قوله : 128 - { ويوم نحشرهم جميعا } الظرف منصوب بمضمر يقدر متقدما : أي واذكر يوم نحشرهم أو { ويوم نحشرهم } نقول : { يا معشر الجن } والمراد حشر جميع الخلق في القيامة والمعشر الجماعة : أي يوم الحشر نقول : يا جماعة الجن { قد استكثرتم من الإنس } أي من الاستمتاع بهم كقوله : { ربنا استمتع بعضنا ببعض } وقيل : استكثرتم من إغوائهم وإضلالهم حتى صاروا في حكم الأتباع لكم فعاشرناهم معكم ومثله قولهم : استكثر الأمير من الجنود والمراد التقريع والتوبيخ وعلى الأول فالمراد بالاستمتاع التلذذ من الجن بطاعة الإنس لهم ودخولهم فيما يريدون منهم { وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض } أما استمتاع الجن بالإنس فهو ما تقدم من تلذذهم باتباعهم لهم وأما استمتاع الإنس بالجن فحيث قبلوا منهم تحسين المعاصي فوقعوا فيها وتلذذوا بها فذلك هو استمتاعهم بالجن وقيل : استمتاع الإنس بالجن أنه كان إذا مر الرجل بواد في سفره وخاف على نفسه قال : أعوذ برب هذا الوادي من جميع ما أحذر يعني ربه من الجن ومنه قوله تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } وقيل : استمتاع الجن بالإنس أنهم كانوا يصدقونهم فيما يقولون من الأخبار الغيبية الباطلة واستمتاع الإنس بالجن أنهم كانوا يتلذذون بما يلقونه إليهم من الأكاذيب وينالون بذلك شيئا من حظوظ الدنيا كالكهان { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } أي يوم القيامة اعترافا منهم بالوصول إلى ما وعدهم الله به مما كانوا يكذبون به ولما قالوا هذه المقالة أجاب الله عليهم فـ { قال النار مثواكم } أي موضع مقامكم والمثوى : المقام والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر قوله : { خالدين فيها إلا ما شاء الله } المعنى الذي تقتضيه لغة العرب في هذا التركيب أنهم يخلدون في النار في كل الأوقات إلا في الوقت الذي يشاء الله عدم بقائهم فيها وقال الزجاج : إن الاستثناء يرجع إلى يوم القيامة أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في الحساب وهو تعسف لأن الاستثناء هو من الخلود الدائم ولا يصدق على من لم يدخل النار وقيل : الاستثناء راجع إلى النار : أي إلا ما شاء الله من تعذيبهم بغيرها في بعض الأوقات كالزمهرير وقيل : الاستثناء لأهل الإيمان و ما بمعنى من : أي إلا من شاء الله إيمانه فإنه لا يدخل النار وقيل المعنى : إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب وكل هذه التأويلات متكلفة والذي ألجأ إليها ما ورد في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من خلود الكفار في النار أبدا ولكن لا تعارض بين عام وخاص لا سيما بعد وروده في القرآن مكررا كما سيأتي في سورة هود : { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد } ولعله يأتي هنالك إن شاء الله زيادة تحقيق
وقد أخرج ابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي جعفر المدائني رجل من بني هاشم وليس هو محمد بن علي قال : [ سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن هذه الآية { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } قالوا : كيف يشرح صدره يا رسول الله ؟ قال : نور يقذف فيه فينشرح صدره له وينفسح له قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت ] وأخرج عبد بن حميد عن فضيل نحوه وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن نحوه أيضا وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن جرير وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين نزلت هذه الآية فذكر نحوه وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعا من طريق أخرى وأخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات وابن النجار في تاريخه عن عبد الله بن المستورد وكان من ولد جعفر بن أبي طالب قال : تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية فذكر نحوه وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا والمتصل يقوي المرسل فالمصير إلى هذا التفسير النبوي متعين وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : كما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء كذلك لا يقدر على أن يدخل الإيمان والتوحيد قلبه حتى يدخله الله في قلبه وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه في الآية يقول : من أراد أن يضله يضيق عليه حتى يجعل الإسلام عليه ضيقا والإسلام واسع وذلك حين يقول : { ما جعل عليكم في الدين من حرج } يقول : ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { دار السلام } قال : الجنة وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن زيد قال : السلام هو الله وأخرج أبو الشيخ عن السدي قال : الله هو السلام وداره الجنة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { قد استكثرتم من الإنس } يقول : من ضلالتكم إياهم يعني أضللتم منهم كثيرا وفي قوله : { خالدين فيها إلا ما شاء الله } قال : إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارا (2/234)
قوله : 129 - { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا } أي مثل ما جعلنا بين الجن والإنس ما سلف { كذلك نولي بعض الظالمين بعضا } والمعنى : نجعل بعضهم يتولى البعض فيكونون أولياء لبعضهم بعضا ثم يتبرأ بعضهم من البعض فمعنى نولي على هذا : نجعله وليا له وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : معناه نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس وروي عنه أيضا أنه فسر هذه الآية بأن المعنى : نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله فيكون في الآية على هذا تهديد للظلمة بأن من لم يمتنع من ظلمه منهم سلط الله عليه ظالما آخر وقال فضيل بن عياض : إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف وانظر متعجبا وقيل معنى نولي : نكل بعضهم إلى بعض فيما يختارونه من الكفر والباء في { بما كانوا يكسبون } للسببية : أي بسبب كسبهم للذنوب ولينا بعضهم بعضا (2/236)
قوله : 130 - { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } أي يوم نحشرهم نقول لهم : { ألم يأتكم } أو هو شروع في حكاية ما سيكون في الحشر وظاهره أن الله يبعث في الدنيا إلى الجن رسلا منهم كما يبعث إلى الإنس رسلا منهم وقيل معنى منكم : أي ممن هو مجانس لكم في الخلق والتكليف والقصد بالمخاطبة فإن الجن والإنس متحدون في ذلك وإن كان الرسل من الإنس خاصة فهم من جنس الجن من تلك الحيثية وقيل : إنه من باب تغليب الإنس على الجن كما يغلب الذكر على الأنثى وقيل : المراد بالرسل إلى الجن هاهنا هم النذر منهم كما في قوله : { ولوا إلى قومهم منذرين } قوله : { يقصون عليكم آياتي } صفة أخرى لرسل قد تقدم بيان معنى القص قوله : { قالوا شهدنا على أنفسنا } هذا إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم بإرسال رسله إليهم والجملة جواب سؤال مقدر فهي مستأنفة وجملة { وغرتهم الحياة الدنيا } في محل نصب على الحال أو هي جملة معترضة { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } هذه شهادة أخرى منهم على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين في الدنيا بالرسل المرسلين إليهم والآيات التي جاءوا بها وقد تقدم ما يفيد أن مثل هذه الآية المصرحة بإقرارهم بالكفر على أنفسهم ومثل قولهم : { والله ربنا ما كنا مشركين } محمول على أنهم يقرون في بعض مواطن يوم القيامة وينكرون في بعض آخر لطول ذلك اليوم واضطراب القلوب فيه وطيشان العقول وانغلاق الأفهام وتبلد الأذهان (2/236)
والإشارة بقوله : 131 - { ذلك } إلى شهادتهم على أنفسهم أو إلى إرسال الرسل إليهم وأن في { أن لم يكن ربك مهلك القرى } هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف والمعنى : ذلك أن الشأن { لم يكن ربك مهلك القرى } أو هي المصدرية والباء في { بظلم } سببية : أي لم أكن أهلك القرى بسبب ظلم من يظلم منهم والحال أن أهلها غافلون لم يرسل الله إليهم رسولا والمعنى : أن الله أرسل الرسل إلى عباده لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى والحال أنهم غافلون عن الإعذار والإنذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب بل إنما يهلكهم بعد إرسال الرسل إليهم وارتفاع الغفلة عنهم بإنذار الأنبياء لهم : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقيل المعنى : ما كان الله مهلك أهل القرى بظلم منه فهو سبحانه يتعالى عن الظلم بل إنما يهلكهم بعد أن يستحقوا ذلك وترتفع الغفلة عنهم بإرسال الأنبياء وقيل المعنى : أن الله لا يهلك أهل القرى بسبب ظلم من يظلم منهم مع كون الآخرين غافلين عن ذلك فهو مثل قوله : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } (2/237)
132 - { ولكل درجات مما عملوا } أي لكل من الجن والإنس درجات متفاوته مما عملوا فنجازيهم بأعمالهم كم قال في آية أخرى : { ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون } وفيه دليل على أن المطيع من الجن في الجنة والعاصي في النار { وما ربك بغافل عما يعملون } من أعمال الخير والشر والغفلة ذهاب الشيء عنك لاشتغالك بغيره قرأ ابن عامر { تعملون } بالفوقية وقرأ الباقون بالتحتية
وقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا } قال : يولي الله بعض الظالمين بعضا في الدنيا يتبع بعضهم بعضا في النار وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن زيد في الآية مثل ما حكينا عنه قريبا وأخرج أبو الشيخ عن الأعمش في تفسير الآية قال : سمعتهم يقولون : إذا فسد الزمان أمر عليهم شرارهم وأخرج الحاكم في التاريخ والبيهقي في الشعب من طريق يحيى بن هاشم حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كما تكونون كذلك يؤمر عليكم ] قال البيهقي : هذا منقطع ويحيى ضعيف وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { رسل منكم } قال : ليس في الجن رسل وإنما الرسل في الإنس والنذارة في الجن وقرأ : { فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين } وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة أيضا عن الضحاك قال : الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون وأخرج أبو الشيخ في العظمة أيضا عن ليث بن أبي سليم قال : مسلمو الجن لا يدخلون الجنة ولا النار وذلك أن الله أخرج أباهم من الجنة فلا يعيده ولا يعيد ولده وأخرج أبو الشيخ في العظمة أيضا عن ابن عباس قال : الخلق أربعة فخلق في الجنة كلهم وخلق في النار كلهم وخلقان في الجنة والنار فأما الذين في الجنة كلهم فالملائكة وأما الذين في النار كلهم فالشياطين وأما الذين في الجنة والنار فالإنس والجن لهم الثواب وعليهم العقاب (2/238)
قوله : 133 - { وربك الغني } أي عن خلقه لا يحتاج إليهم ولا إلى عبادتهم لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم ومع كونه غنيا عنهم فهو ذو رحمة بهم لا يكون غناه عنهم مانعا من رحمته لهم وما أحسن هذا الكلام الرباني وأبلغه وما أقوى الاقتران بين الغنى والرحمة في هذا المقام فإن الرحمة لهم مع الغنى عنهم هي غاية التفضل والتطول { إن يشأ يذهبكم } أيها العباد العصاة فيستأصلكم بالعذاب المفضي إلى الهلاك { ويستخلف من بعد } إهلاكـ { بعدكم ما يشاء } من خلقه ممن هو أطوع له وأسرع إلى امتثال أحكامه منكم { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } الكاف نعت مصدر محذوف وما مصدرية : أي ويستخلف استخلافا مثل إنشائكم من ذرية قوم آخرين قيل : هم أهل سفينة نوح ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فلم يهلكهم ولا استخلف غيرهم رحمة لهم ولطفا بهم (2/239)
134 - { إنما توعدون } من البعث والمجازاة { لآت } لا محالة فإن الله لا يخلف الميعاد { وما أنتم بمعجزين } أي بفائتين عن ما هو نازل بكم وواقع عليكم : يقال أعجزني فلان : أي فاتني وغلبني (2/239)
قوله : 135 - { قل يا قوم اعملوا على مكانتكم } المكانة : الطريقة أي اثبتوا على ما أنتم عليه فإني غير مبال بكم ولا مكترث بكفركم إني ثابت على ما أنا عليه { فسوف تعلمون } من هو على الحق ومن هو على الباطل وهذا وعيد شديد فلا يرد ما يقال كيف يأمرهم بالثبات على الكفر ؟ و { عاقبة الدار } هي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها : أي من له النصر في دار الدنيا ومن له وراثة الأرض ومن له الدار الآخرة وقال الزجاج : معنى مكانتكم : تمكنكم في الدنيا أي اعملوا على تمكنكم من أمركم وقيل : على ناحيتكم وقيل : على موضعكم قرأ حمزة والكسائي { من يكون } بالتحتية وقرأ الباقون بالفوقية والضمير في { إنه لا يفلح الظالمون } للشأ : أي لا يفلح من اتصف بصفة الظلم وهو تعريض لهم بعدم فلاحهم لكونهم المتصفين بالظلم (2/239)
قوله : 136 - { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } هذا بيان نوع آخر من أنواع كفرهم وجهلهم وتأثيرهم لآلهتهم على الله سبحانه : أي جعلوا لله سبحانه مما خلق من حرثهم ونتاج دوابهم نصيبا ولآلهتهم نصيبا من ذلك يصرفونه في سدنتها والقائمين بخدمتها فإذا ذهب ما لآلهتهم بانفاقه في ذلك عوضوا عنه ما جعلوه لله وقالوا : الله غني عن ذلك والزعم الكذب قرأ يحيى بن وثاب والسلمي والأعمش والكسائي : { بزعمهم } بضم الزاي وقرأ الباقون بفتحها وهما لغتان { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله } أي إلى المصارف التي شرع الله الصرف فيها كالصدقة وصلة الرحم وقري الضيف { وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم } أي يجعلونه لآلهتهم وينفقونه في مصالحها { ساء ما يحكمون } أي ساء الحكم حكمهم في إيثار آلهتهم على الله سبحانه وقيل معنى الآية : أنهم كانوا إذا ذبحوا ما جعلوه لله ذكروا عليه اسم أصنامهم وإذا ذبحوا ما لأصنامهم لم يذكروا عليه اسم الله فهذا معنى الوصول إلى الله والوصول إلى شركائهم وقد قدمنا الكلام في ذرأ (2/240)
قوله : 137 - { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } أي ومثل ذلك التزيين الذي زينه الشيطان لهم في قسمة أموالهم بين الله وبين شركائهم زين لهم قتل أولادهم قال الفراء والزجاج : شركاؤهم هاهنا هم الذين كانوا يخدمون الأوثان وقيل : كان الرجل يحلف بالله لئن ولد له كذا من الذكور لينحرن أحدهم كما فعله عبد المطلب قرأ الجمهور { زين } بالبناء للفاعل ونصب { قتل } على أنه مفعول زين وجر أولاد بإضافة قتل إليه ورفع شركاؤهم على أنه فاعل زين وقرأ الحسن بضم الزاي ورفع قتل وخفض أولاد ورفع شركاؤهم على أن قتل هو نائب الفاعل ورفع شركاؤهم بتقدير يجعل يرجعه : أي زينه شركاؤهم ومثله قول الشاعر :
( لبيك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط ما تطيح الطوائح )
أي يبكيه ضارع وقرأ ابن عامر وأهل الشام بضم الزاي ورفع قتل ونصب أولاد وخفض شركائهم على أن قتل مضاف إلى شركائهم ومعموله أولادهم ففيه الفصل بين المصدر وما هو مضاف إليه بالمفعول ومثله في الفصل بين المصدر وما أضيف إليه قول الشاعر :
( تمر على ما تستمر وقد شفت ... علائل عبد القيس منها صدورها )
بجر صدورها والتقدير : شفت عبد القيس علائل صدورها قال النحاس : إن هذه القراءة لا تجوز في كلام ولا في شعر وإنما أجاز النحويون التفريق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الشعر لاتساعهم في الظروف وهو أي الفصل بالمفعول به في الشعر بعيد فإجازته في القرآن أبعد وقال أبو غانم أحمد بن حمدان النحوي : إن قراءة ابن عامر هذه لا تجوز في العربية وهي زلة عالم وإذا زل العالم لم يجز اتباعه ورد قوله إلى الإجماع وإنما أجازوا في الضرورة للشاعر أن يفرق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف كقول الشاعر :
( كما خط الكتاب بكف يوما ... يهودي يقارب أو يزيل )
وقول الآخر :
( لله در اليوم من لامها )
وقال قوم ممن انتصر لهذه القراءة : إنها إذا ثبتت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم فهي فصيحة لا قبيحة قالوا : وقد ورد ذلك في كلام العرب وفي مصحف عثمان رضي الله عنه شركائهم بالياء
وأقول : دعوى التواتر باطلة بإجماع القراء المعتبرين كما بينا ذلك في رسالة مستقلة فمن قرأ بما يخالف الوجه النحوي فقراءته رد عليه ولا يصح الاستدلال لصحة هذه القراءة بما ورد من الفصل في النظم كما قدمنا وكقول الشاعر :
( فزججتها بمزجة ... زج القلوص أبى مزاده )
فإن ضرورة الشعر لا يقاس عليها وفي الآية قراءة رابعة وهي جر الأولاد والشركاء ووجه ذلك أن الشركاء بدل من الأولاد لكونهم شركاؤهم في النسب والميراث قوله : { ليردوهم } اللام لام كي : أي لكي يردوهم من الإرداء وهو الإهلال { وليلبسوا عليهم دينهم } معطوف على ما قبله : أي فعلوا ذلك التزيين لإهلاكهم ولخلط دينهم عليهم { ولو شاء الله ما فعلوه } أي لو شاء الله عدم فعلهم ما فعلوه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وإذا كان ذلك بمشيئة الله { فذرهم وما يفترون } فدعهم وافتراءهم فذلك لا يضرك
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبان بن عثمان قال : الذرية الأصل والذرية النسل وأخرجا أيضا عن ابن عباس { وما أنتم بمعجزين } قال : بسابقين وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { على مكانتكم } قال : على ناحيتكم وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عنه أيضا في قوله : { وجعلوا لله } الآية قال : جعلوا لله من ثمارهم ومائهم نصيبا وللشيطان والأوثان نصيبا فإن سقط من ثمره ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه وإن سقط مما جعلوه للشياطين في نصيب الله ردوه إلى نصيب الشيطان وإن انفجر من سقي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه وإن انفجر من سقي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله نزحوه فهذا ما جعلوا لله من الحرث وسقي الماء وأما وأما ما جعلوه للشيطان من الأنعام فهو قول الله : { ما جعل الله من بحيرة } الآية وأخرج ابن أبي حاتم عنه نحوه من طريق أخرى وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : جعلوا لله مما ذرأ من الحرث جزءا ولشركائهم جزءا فما ذهب به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه وقالوا الله عن هذا غني وما ذهب به الريح من جزء أوثانهم إلى جزء الله أخذوه والأنعام التي سموا لله : البحيرة والسائبة وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } قال : شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خوف العيلة (2/240)
هذا بيان نوع آخر من جهالاتهم وضلالاتهم والحجر بكسر أوله وسكون ثانيه في قراءة الجمهور وقرأ أبان بن عثمان حجر بضم الحاء والجيم وقرأ الحسن وقتادة بفتح الحاء وإسكان الجيم وقرأ ابن عباس وابن الزبير حرج بتقديم الراء على الجيم وكذا هو في مصحف أبي وهو من الحرج يقال : فلان يتحرج : أي يضيق على نفسه الدخول فيما يشتبه عليه والحجر على اختلاف القراءات فيه هو مصدر بمعنى اسم المفعول : أي محجور وأصله المنع فمعنى الآية : هذه أنعام وحرث ممنوعة يعنون أنها لأصنامهم لا يطعمها إلا من يشاءون بزعمهم وهم خدام الأصنام والقسم الثاني قولهم : 138 - { وأنعام حرمت ظهورها } وهي البحيرة والسائبة والحام وقيل : إن هذا القسم الثاني مما جعلوه لآلهتهم أيضا والقسم الثاني { أنعام لا يذكرون اسم الله عليها } وهي ما ذبحوا لآلهتهم فإنهم يذبحونها باسم أصنامهم لا باسم الله وقيل : إن المراد لا يحجون عليها افتراء على الله : أي للافتراء عليه { سيجزيهم بما كانوا يفترون } أي بافترائهم أو بالذي يفترونه ويجوز أن يكون افتراء منتصبا على أنه مصدر : أي افتروا افتراء أو حال : أي مفترين وانتصابه على العلة أظهر (2/243)
ثم بين الله سبحانه نوعا آخر من جهالاتهم فقال : 139 - { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام } يعنون البحائر والسوائب من الأجنة { خالصة لذكورنا } أي حلال لهم { ومحرم على أزواجنا } أي على جنس الأزواج وهن النساء فيدخل في ذلك البنات والأخوات ونحوهن وقيل : هو اللبن جعلوه حلالا للذكور ومحرما على الإناث والهاء في خالصة للمبالغة في الخلوص كعلامة ونسابة قاله الكسائي والأخفش وقال الفراء : تأنيثها لتأنيث الأنعام ورد بأن ما في بطون الأنعام غير الأنعام وتعقب هذا الرد بأن ما في بطون الأنعام أنعام وهي الأجنة و ما عبارة عنها فيكون تأنيث خالصة باعتبار معنى ما وتذكير محرم باعتبار لفظها وقرأ الأعمش خالص قال الكسائي : معنى خالص وخالصة واحد إلا أن الهاء للمبالغة كما تقدم عنه وقرأ قتادة خالصة بالنصب على الحال من الضمير في متعلق الظرف الذي هو صلة لما وخبر المبتدأ محذوف كقولك : الذي في الدار قائما زيد هذا قول البصريين وقال الفراء : إنه انتصب على القطع وقرأ ابن عباس خالصة بإضافة خالص إلى الضمير على أنه بدل من ما وقرأ سعيد بن جبير خالصا { وإن يكن ميتة } قرئ بالتحتية والفوقية : أي وإن يكن الذي في بطون الأنعام { ميتة فهم فيه } أي في الذي في البطون { شركاء } يأكل منه الذكور والإناث { سيجزيهم وصفهم } أي بوصفهم على أنه منتصب بنزع الخافض والمعنى : سيجزيهم بوصفهم الكذب على الله وقيل المعنى : سيجزيهم جزاء وصفهم (2/243)
ثم بين الله سبحانه نوعا آخر من جهالاتهم فقال : 140 - { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها } أي بناتهم بالوأد الذي كانوا يفعلونه سفها : أي لأجل السفه : وهو الطيش والخفة لا لحجة عقلية ولا شرعية كائنا ذلك منهم { بغير علم } يهتدون به قوله : { وحرموا ما رزقهم الله } من الأنعام التي سموها بحائر وسوائب { افتراء على الله } أي للافتراء عليه أو افتروا افتراء عليه { قد ضلوا } عن طريق الصواب بهذه الأفعال { وما كانوا مهتدين } إلى الحق ولا هم من أهل الاستعداد لذلك
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } قال : الحجر ما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } قال : ما جعلوا لله ولشركائهم وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة { وحرث حجر } قال : حرام وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال : يقولون حرام أن يطعم الابن شيئا { وأنعام حرمت ظهورها } قال : البحيرة والسائبة والحامي { وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } إذا نحروها وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي وائل في قوله : { وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } قال : لم تكن يحج عليها وهي البحيرة وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام } الآية قال : اللبن وأخرج هؤلاء إلا ابن جرير عن مجاهد في الآية قال : السائبة والبحيرة محرم على أزواجنا قال : النساء { سيجزيهم وصفهم } قال : قولهم الكذب في ذلك وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : كانت الشاة إذا ولدت ذكرا ذبحوه فكان للرجال دون النساء وإن كانت أنثى تركوها فلم تذبح وإن كانت ميتة كانوا فيها شركاء وأخرج عبد بن حميد والبخاري وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام { قد خسر الذين قتلوا أولادهم } إلى قوله : { وما كانوا مهتدين } وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال : نزلت فيمن كان يئد البنات من مضر وربيعة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : هذا صنع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السبي والفاقة ويغذو كلبه { وحرموا ما رزقهم الله } قال : جعلوه بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميا تحكما من الشيطان في أموالهم (2/244)
هذا فيه تذكير لهم ببديع قدرة الله وعظيم صنعه 141 - { أنشأ } أي خلق والجنات : البساتين { معروشات } مرفوعات على الأعمدة { وغير معروشات } غير مرفوعات عليها وقيل : المعروشات ما انبسط على وجه الأرض مما يعرش مثل الكرم والزرع والبطيخ وغير المعروشات : ما قام على ساق مثل النخل وسائر الأشجار وقيل : المعروشات : ما أنبته الناس وعرشوه وغير المعروشات : ما نبت في البراري والجبال قوله : { والنخل والزرع } معطوف على جنات وخصهما بالذكر مع دخولهما في الجنات لما فيها من الفضيلة { مختلفا أكله } أي حال كونه مختلفا أكله في الطعم والجودة والرداءة قال الزجاج : وهذه مسألة مشكلة في النحو يعني انتصاب مختلفا على الحال لأنه يقال : قد أنشأها ولم يختلف أكلها فالجواب أن الله سبحانه أنشأها مقدرا فيها الاختلاف وقد بين هذا سيبويه بقوله : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا : أي مقدرا للصيد به غدا كما تقول : لتدخلن الدار آكلين شاربين : أي مقدرين ذلك وهذه هي الحال المقدرة المشهورة عند النحاة المدونة في كتب النحو وقال : { مختلفا أكله } ولم يقل أكلهما اكتفاء بإعادة الذكر على أحدهما كقوله : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } أو الضمير بمنزلة اسم الإشارة : أي أكل ذلك قوله : { والزيتون والرمان } معطوف على جنات : أي وأنشأ الزيتون والرمان حال كونه متشابها وغير متشابه وقد تقدم الكلام على تفسير هذا { كلوا من ثمره } أي من ثمر كل واحد منهما أو من ثمر ذلك { إذا أثمر } أي إذا حصل فيه الثمر وإن لم يدرك ويبلغ حد الحصاد قوله : { وآتوا حقه يوم حصاده }
وقد اختلف أهل العلم هل هذه محكمة أو منسوخة أو محمولة على الندب فذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير إلى أن الآية محكمة وأنه يجب على المالك يوم الحصاد أن يعطي من حضر من المساكين القبضة والضغث ونحوهما وذهب ابن عباس ومحمد ابن الحنفية والحسن والنخعي وطاوس وأبو الشعثاء وقتادة والضحاك وابن جريج أن هذه الآية منسوخة بالزكاة واختاره ابن جرير ويؤتيه أن هذه الآية مكية وآية الزكاة مدنية في السنة الثانية بعد الهجرة وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف وقالت طائفة من العلماء : إن الآية محمولة على الندب لا على الوجوب قوله : { ولا تسرفوا } أي في التصدق وأصل الإسراف في اللغة : الخطأ والإسراف في النفقة : التبذير وقيل : هو خطاب للولاة يقول لهم : لا تأخذوا فوق حقكم وقيل المعنى : لا تأخذوا الشيء بغير حقه وتضعونه في غير مستحقه (2/245)
قوله : 142 - { ومن الأنعام حمولة وفرشا } معطوف على جنات : أي وأنشأ لكم من الأنعام حمولة وفرشا والحمولة ما يحمل عليها وهو يختص بالإبل فهي فعولة بمعنى فاعلة والفرش : ما يتخذ من الوبر والصوف والشعر فراشا يفترشه الناس وقيل : الحمولة الإبل والفرش : الغنم : وقيل : الحمولة : كل ما حمل عليه من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير والفرش : الغنم وهذا لا يتم إلا على فرض صحة إطلاق اسم الأنعام على جميع هذه المذكورات وقيل : الحمولة : ما تركب والفرش : ما يؤكل لحمه { كلوا مما رزقكم } من هذه الأشياء { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } كما فعل المشركون من تحريم ما لم يحرمه الله وتحليل ما لم يحلله { إنه } أي الشيطان { لكم عدو مبين } مظهر للعداوة ومكاشف بها
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات } قال : المعروشات ما عرش الناس { وغير معروشات } ما خرج في الجبال والبرية من الثمار وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : معروشات بالعيدان والقصب وغير معروشات قال : الضاحي وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس { معروشات } قال : الكرم خاصة وأخرج ابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } قال : ما سقط من السنبل وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة وابن المنذر والنحاس والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر في قوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } قال : كانوا يعطون من اعتز بهم شيئا سوى الصدقة وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن مجاهد في الآية قال : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ميمون بن مهران ويزيد الأصم قال : كان أهل المدينة إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد فيجيء السائل فيضربه بالعصا فيسقط منه فهو قوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } وأخرج أحمد وأبو داود في سننه من حديث جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر من كل حادي عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين وإسناده جيد وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : { وآتوا حقه يوم حصاده } نسخها العشر ونصف العشر وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن المنذر عن السدي نحوه وأخرج النحاس وأبو الشيخ والبيهقي عن سعيد بن جبير نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة نحوه وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن الضحاك نحوه وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي قال : إن في المال حقا سوى الزكاة وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي العالية قال : ما كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة ثم إنهم تباذروا وأسرفوا فأنزل الله : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جد نخلا فقال : لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليس له تمرة فأنزل الله : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله لم يكن إسرافا ولو أنفقت صاعا في معصية الله كان إسرافا وللسلف في هذا مقالات طويلة وأخرج الفريابي وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : الحمولة ما حمل عليه من الإبل والفرش صغار الإبل التي لا تحمل وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : الحمولة الكبار من الإبل والفرش الصغار من الإبل وأخرج أبو الشيخ عنه قال : الحمولة ما حمل عليه والفرش ما أكل منه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الحمولة الإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه والفرش الغنم وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال : الحمولة الإبل والبقر والفرش الضأن والمعز (2/246)
اختلف في انتصاب 143 - { ثمانية } على ماذا ؟ فقال الكسائي : بفعل مضمر أي وأنشأ ثمانية أزواج وقال الأخفش سعيد : هو منصوب على البدل من حمولة وفرشا وقال الأخفش علي بن سليمان : هو منصوب بكلوا أي كلوا لحم ثمانية أزواج وقيل : منصوب على أنه بدل من ما في مما رزقكم الله والزوج خلاف الفرد يقال : زوج أو فرد كما يقال : شفع أو وتر فقوله : { ثمانية أزواج } يعني ثمانية أفراد وإنما سمي الفرد زوجا في هذه الآية لأن كل واحد من الذكر والأنثى زوج بالنسبة إلى الآخر ويقع لفظ الزوج على الواحد فيقال : هما زوج وهو زوج ويقول : اشتريت زوجي حمام : أي ذكرا وأنثى والحاصل أن الواحد إذا كان منفردا سواء كان ذكرا أو أنثى قيل له : فرد وإن كان الذكر مع أنثى من جنسه قيل لهما زوج ولكل واحد على انفراده منهما زوج ويقال لهما أيضا : زوجان ومنه قوله تعالى : { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } قوله : { من الضأن اثنين } بدل من ثمانية منتصب بناصبه على حسب الخلاف السابق والضأن ذوات الصوف من الغنم وهو جمع ضائن ويقال للأنثى : ضائنة والجمع ضوائن وقيل : هو جمع لا واحد له وقيل في جمعه : ضئين كعبد وعبيد وقرأ طلحة بن مصرف الضأن بفتح الهمزة وقرأ الباقون بسكونها وقرأ أبان بن عثمان : { من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } رفعا بالابتداء { ومن المعز اثنين } معطوف على ما قبله مشارك له في حكمه وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وابن كثير وأهل البصرة بفتح العين من المعز وقرأ الباقون بسكونها قال النحاس : الأكثر في كلام العرب المعز والضأن بالإسكان والمعز من الغنم خلاف الضأن وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار وهو اسم جنس وواحد المعز ماعز مثل صحب وصاحب وركب وراكب وتجر وتاجر والأنثى ماعزة والمراد من هذه الآية : أن الله سبحانه بين حال الأنعام وتفاصيلها إلى الأقسام المذكورة توضيحا للامتنان بها على عباده ودفعا لما كانت الجاهلية تزعمه من تحليل بعضها وتحريم بعضها تقولا على الله سبحانه وافتراء عليه والهمزة في { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين } للإنكار والمراد بالذكرين : الكبش والتيس وبالأنثيين : النعجة والمعز وانتصاب الذكرين بحرم والأنثيين معطوف عليه منصوب بناصبه والمعنى : الإنكار على المشركين في أمر البحيرة وما ذكر معها وقولهم : { ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } أي قل لهم إن كان حرم الذكور فكل ذكر حرام وإن كان حرم الإناث فكل أنثى حرام وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين يعني من الضأن والمعز فكل مولود حرام ذكرا كان أو أنثى وكلها مولود فيستلزم أن كلها حرام قوله : { نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } أي أخبروني بعلم لا بجهل إن كنتم صادقين والمراد من هذا التبكيت وإلزام الحجة لأنه يعلم أنه لا علم عندهم (2/248)
وهكذا الكلام في قوله : 144 - { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين } إلى آخره قوله : { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا } أم هي المنقطعة والاستفهام للإنكار وهي بمعنى بل والهمزة : أي بل أكنتم شهداء حاضرين مشاهدين إذ وصاكم الله بهذا التحريم والمراد التبكيت وإلزام الحجة كما سلف قبله قوله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا فحرم شيئا لم يحرمه الله ونسب ذلك إليه افتراء عليه كما فعله كبراء المشركين واللام في { ليضل الناس بغير علم } للعلة : أي لأجل أن يضل الناس بجهل وهو متعلق بافترى { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } على العموم وهؤلاء المذكورون في السياق داخلون في ذلك دخولا أوليا وينبغي أن ينظر في وجه تقديم المعز والضأن على الإبل والبقر مع كون الإبل والبقر أكثر نفعا وأكبر أجساما وأعود فائدة لا سيما في الحمولة والفرش اللذين وقع الإبدال منهما على ما هو الوجه الأوضح في إعراب ثمانية
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طرق عن ابن عباس قال : الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعز وليت شعري ما فائدة نقل هذا الكلام عن ابن عباس من مثل هؤلاء الأئمة فإنها لا تتعلق به فائدة وكون الأزواج الثمانية هي المذكورة هو هكذا في الآية مصرحا به تصريحا لا لبس فيه وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : الذكر والأنثى زوجان وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ثمانية أزواج } قال : في شأن ما نهى الله عنه من البحيرة والسائبة وأخرج ابن أبي حاتم عن ليث بن أبي سليم قال : الجاموس والبختي من الأزواج الثمانية وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } قال : فهذه أربعة { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين } يقول : لم أحرم شيئا من ذلك { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } يعني هل تشتمل الرحم إلى على ذكر أو أنثى فلم يحرمون بعضا ويحلون بعضا ؟ { نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } يقول : كلها حلال : يعني ما تقدم ذكره مما حرمه أهل الجاهلية (2/249)
أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحي إليه محرما غير هذه المذكورات فدل ذلك على انحصار المحرمات فيها لولا أنها مكية وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة وزيد فيها على هذه المحرمات المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وتحريم الحمر الأهلية والكلاب ونحو ذلك وبالجملة فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من الحيوانات كما يدل عليه السياق ويفيد الاستثناء فيضم إليه كل ما ورد بعده في الكتاب أو السنة مما يدل على تحريم شيء من الحيوانات وإن كان هذا العموم هو بالنسبة إلى كل شيء حرمه الله من حيوان وغيره فإنه يضم إليه كل ما ورد بعده مما فيه تحريم شيء من الأشياء وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة أنه لا حرام إلا ما ذكره الله في هذه الآية وروي ذلك عن مالك وهو قول ساقط ومذهب في غاية الضعف لاستلزامه لإهمال غيرهما مما نزل بعدها من القرآن وإهمال ما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قاله بعد نزول هذه الآية بلا سبب يقتضي ذلك ولا موجب يوجبه قوله : { محرما } صفة لموصوف محذوف : أي طعاما محرما { على } أي { طاعم يطعمه } من المطاعم وفي { يطعمه } زيادة تأكيد وتقرير لما قبله { إلا أن يكون ميتة } أي ذلك الشيء أو ذلك الطعام أو العين أو الجثة أو النفس وقرئ يكون بالتحتية والفوقية وقرئ ميتة بالرفع على أن يكون تامة والدم المسفوح : الجاري وغير المسفوح معفو عنه كالدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح ومنه الكبد والطحال وهكذا ما يتلطخ به اللحم من الدم وقد حكى القرطبي الإجماع على هذا قوله : { أو لحم خنزير } ظاهر تخصيص اللحم أنه لا يحرم الانتفاع منه بما عدا اللحم والضمير في { فإنه } راجع إلى اللحم أو إلى الخنزير والرجس : النجس وقد تقدم تحقيقه قوله : { أو فسقا } عطف على لحم خنزير و { أهل به لغير الله } صفة فسق : أي ذبح على الأصنام وسمي فسقا لتوغله في باب الفسق قيل : ويجوز أن يكون { فسقا } مفعولا له لأهل : أي أهل به لغير الله فسقا على عطف أهل على يكون وهو تكلف لا حاجة إليه { فمن اضطر غير باغ ولا عاد } قد تقدم تفسيره في سورة البقرة فلا نعيده { فإن ربك غفور رحيم } أي كثير المغفرة والرحمة فلا يؤاخذ المضطر بما دعت إليه ضرورته
وقد أخرج عبد بن حميد عن طاوس قال : إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء ويحلون أشياء فنزلت : { قل لا أجد } الآية وأخرج عبد بن حميد أبو داود وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تعذرا فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه ما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو ثم تلا هذه الآية : { قل لا أجد } إلى آخرها وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عنه أنه تلا هذه الآية فقال : ما خلا هذا فهو حلال وأخرج البخاري وأبو داود وابن المنذر وأبو الشيخ عن عمرو بن دينار قال : قلت لجابر بن زيد : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر فقال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس وقرأ : { قل لا أجد } الآية وأقول : وإن أبى ذلك البحر فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والتمسك بقول صحابي في مقابلة قول النبي صلى الله عليه و سلم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ليس شيء من الدواب حرام إلا ما حرم الله في كتابه : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية وأخرج سعيد بن منصور وأبو داود وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر : أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول : [ ذكر عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال : خبيثة من الخبائث فقال ابن عمر : إن كان النبي صلى الله عليه و سلم قاله فهو كما قال ] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة : أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير تلت : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس : أن شاة لسودة بنت زمعة ماتت فقالت : يا رسول الله ماتت فلانة : تعني الشاة قال : فلولا أخذتم مسكها ؟ قالت : يا رسول الله أنأخذ مسك شاة قد ماتت ؟ فقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة } وأنتم لا تطعمونه وإنما تدبغونه حتى تستنفعوا به فأرسلت إليها فسلختها ثم دبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها ومثل هذا حديث شاة ميمونة وهو في الصحيح ومثله حديث : [ إنما حرم من الميتة أكلها ] وهو أيضا في الصحيح وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { أو دما مسفوحا } قال : مهراقا وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا أودجوا الدابة وأخذوا الدم فأكلوه قال : هو دم مسفوح وأخرج أبو الشيخ عن الشعبي : أنه سئل عن لحم الفيل والأسد فتلا { قل لا أجد في ما أوحي إلي } الآية والأحاديث الواردة بتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير والحمر الأهلية ونحوها مستوفاة في كتب الحديث (2/250)
قدم 146 - { على الذين هادوا } على الفعل للدلالة على أن هذا التحريم مختص بهم لا يجاوزهم إلى غيرهم والذين هادوا : اليهود ذكر الله ما حرمه عليهم عقب ذكر ما حرمه على المسلمين والظفر : واحد الأظفار ويجمع أيضا على أظافير وزاد الفراء في جموع ظفر أظافر وأظافرة وذو الظفر ما له أصبع من دابة أو طائر ويدخل فيه الحافر والخف والمخلب فيتناول الإبل والبقر والغنم والأوز والبط وكل ما له مخلب من الطير وتسمية الحافر ظفرا مجاز والأولى حمل الظفر على ما يصدق عليه اسم الظفر في لغة العرب لأن هذا التعميم يأباه ما سيأتي من قوله : { ومن البقر والغنم } فإن كان في لغة العرب بحيث يقال على البقر والغنم كان ذكرهما من بعد تخصيصا حرم الله ذلك عليهم عقوبة لهم على ما وقعوا فيه من الظلم كما قال تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } قوله : { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } لا غير هذه المذكورات كلحمهما والشحوم يدخل فيها الثروب وشحم الكلية وقيل : الثروب جمع ثرب وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش ثم استثنى الله سبحانه من الشحوم ما حمتل ظهورهما من الشحم فإنه لم يحرمه الله عليهم و { ما } في موضع نصب على الاستثناء
{ أو الحوايا } معطوف على ظهورهما أي إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا وهي المباعر التي يجتمع البعر فيها فما حملته من الشحم غير حرام عليهم وواحدها حاوية مثل ضاربة وضوارب وقيل : الحوايا : الأمعاء التي عليها الشحوم قوله : { أو ما اختلط بعظم } معطوف على ما في { ما حملت } كذا قال الكسائي والفراء وثعلب وقيل : إن الحوايا وما اختلط بعظم معطوفة على الشحوم والمعنى : حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما فإنه غير محرم ولا وجه لهذا التكلف ولا موجب له لأنه يكون المعنى إن الله حرم عليهم إحدى هذه المذكورات والمراد بما اختلط بعظم : ما لصق بالعظام من الشحوم في جميع مواضع الحيوان ومنه الإلية فإنها لاصقة بعجب الذنب والإشارة بقوله : { ذلك } إلى التحريم المدلول عليه بحرمنا أي ذلك التحريم جزيناهم به بسبب بغيهم وقيل : إن الإشارة إلى الجزاء المدلول عليه بقوله : { جزيناهم } أي ذلك الجزاء جزيناهم وهو تحريم ما حرمه الله عليهم { وإنا لصادقون } في كل ما نخبر به ومن جملة ذلك هذا الخبر وهو موجود عندهم في التوراة ونصها : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وكل دابة ليست مشقوقة الحافر وكل حوت ليس فيه سفاسق أي بياض انتهى (2/253)
والضمير في 147 - { كذبوك } لليهود : أي فإن كذبك اليهود فيما وصفت من تحريم الله عليهم تلك الأشياء { فقل ربكم ذو رحمة واسعة } ومن رحمته حلمه عنكم وعدم معاجلته لكم بالعقوبة في الدنيا وهو وإن أمهلكم ورحمكم فـ { لا يرد بأسه عن القوم المجرمين } إذا أنزله بهم واستحقوا المعاجلة بالعقوبة وقيل المراد : لا يرد بأسه في الآخرة عن القوم المجرمين والأول أولى فإنه سبحانه قد عاجلهم بعقوبات منها تحريم الطيبات عليهم في الدنيا وقيل : الضمير يعود إلى المشركين الذين قسموا الأنعام إلى تلك الأقسام وحللوا بعضها وحرموا بعضها وقيل المراد : أنه ذو رحمة للمطيعين { ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين } ولا ملجئ لهذا
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { كل ذي ظفر } قال : هو الذي ليس بمنفرج الأصابع يعني ليس بمشقوق الأصابع وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عنه { كل ذي ظفر } قال : البعير والنعامة وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال : هو كل شيء لم تنفرج قوائمه من البهائم وما انفرج أكلته اليهود قال : انفرجت قوائم الدجاج والعصافير فيهود تأكله ولم ينفرج خف البعير ولا النعامة ولا قائمة الوزينة فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعام ولا الوزينة ولا كل شيء لم تنفرج قائمته كذلك ولا تأكل حمار الوحش وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما } يعني ما علق بالظهر من الشحم { أو الحوايا } هي المبعر وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي صالح في قوله : { إلا ما حملت ظهورهما } قال : الألية { أو الحوايا } قال : المبعر { أو ما اختلط بعظم } قال : الشحم وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { أو الحوايا } قال : المباعر وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن الضحاك { أو الحوايا } قال : المرائض والمباعر وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس { أو ما اختلط بعظم } قال : الألية اختلط شحم الألية بالعصعص فهو حلال وكل شحم القوائم والجنب والرأس والعين والأذن يقولون قد اختلط ذلك بعظم فهو حلال لهم إنما حرم عليهم الثرب وشحم الكلية وكل شيء كان كذلك ليس في عظم وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { فإن كذبوك } قال : اليهود وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : كانت اليهود يقولون : إن ما حرمه إسرائيل فنحن نحرمه فذلك قوله : { فإن كذبوك } الآية (2/254)
أخبر الله عن المشركين أنهم سيقولون هذه المقالة وهم كفار قريش أو جميع المشركين يريدون أنه لو شاء الله عدم شركهم ما أشركوا هم ولا آباؤهم ولا حرموا شيئا من الأنعام كالبحيرة ونحوها وظنوا أن هذا القول يخلصهم عن الحجة التي ألزمهم بها رسول الله صلى الله عليه و سلم وأن ما فعلوه حق ولو لم يكن حقا لأرسل الله إلى آبائهم الذين ماتوا على الشرك وعلى تحريم ما لم يحرمه الله رسلا يأمرونهم بترك الشرك وبترك التحريم لما لم يحرمه الله والتحليل لما لم يحلله 148 - { كذلك كذب الذين من قبلهم } أي مثل ما كذب هؤلاء كذب من قبلهم من المشركين أنبياء الله { حتى ذاقوا بأسنا } أي استمروا على التكذيب حتى ذاقوا بأسنا الذي أنزلناه بهم ثم أمره الله أن يقول لهم : { هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } أي هل عندكم دليل صحيح بعد من العلم النافع فتخرجوه إلينا لننظر فيه ونتدبره والمقصود من هذا التبكيت لهم لأنه قد علم أنه لا علم عندهم يصلح للحجة ويقوم به البرهان ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم وأنهم إنما يتبعون الظنون : أي ما يتبعون إلا الظن الذي هو محل الخطأ ومكان الجهل { وإن أنتم إلا تخرصون } أي تتوهمون مجرد توهم فقط كما يتوهم الخارص وقد سبق تحقيقه (2/255)
ثم أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أن لله الحجة البالغة على الناس : أي التي تنقطع عندها معاذيرهم وتبطل شبههم وظنونهم وتوهماتهم والمراد بها الكتب المنزلة والرسل المرسلة وما جاءوا به من المعجزات 149 - { فلو شاء } هدايتكم جميعا { لهداكم أجمعين } ولكنه لم يشأ ذلك ومثله قوله تعالى : { ولو شاء الله ما أشركوا } وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ومثله كثير (2/256)
ثم أمره الله أن يقول لهؤلاء المشركين : { هلم شهداءكم } أي هاتوهم وأحضروهم وهو اسم فعل يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع عند أهل الحجاز وأهل نجد يقولون : هلما هلمي هلموا فينطقون به كما ينطقون بسائر الأفعال وبلغة أهل الحجاز نزل القرآن ومنه قوله تعالى : { والقائلين لإخوانهم هلم إلينا } والأصل عند الخليل ها ضمت إليها لم وقال غيره : أصلها هل زيدت عليهم الميم وفي كتاب العين للخليل : أن أصلها هل أؤم : أي هل أقصدك ثم كثر استعمالهم لها وهذا أيضا من باب التبكيت لهم حيث يأمرهم بإحضار الشهود على أن الله حرم تلك الأشياء مع علمه أن لا شهود لهم { فإن شهدوا } لهم بغير علم بل مجازفة وتعصب { فلا تشهد معهم } أي فلا تصدقهم ولا تسلم لهم فإنهم كاذبون جاهلون وشهادتهم باطلة { ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا } أي ولا تتبع أهواءهم فإنهم رأس المكذبين بآياتنا قوله : { والذين لا يؤمنون بالآخرة } معطوف على الموصول : أي لا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا وأهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة { وهم بربهم يعدلون } أي يجعلون له عدلا من مخلوقاته كالأوثان والجملة إما في محل نصب على الحال أو معطوفة على لا يؤمنون
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد في قوله : { سيقول الذين أشركوا } قال : هذا قول قريش إن الله حرم هذا : أي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة { قل فلله الحجة البالغة } قال : السلطان وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قيل له : إن ناسا يقولون ليس الشر بقدر فقال ابن عباس : بيننا وبين أهل القدر هذه الآية : { سيقول الذين أشركوا } إلى قوله : { فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } قال ابن عباس : والعجز والكيس من القدر وأخرج أبو الشيخ عن علي بن زيد قال : انقطعت حجة القدرية عند هذه الآية { قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { قل هلم شهداءكم } قال : أروني شهداءكم (2/256)
قوله : 151 - { قل تعالوا } أي تقدموا قال ابن الشجري : إن المأمور بالتقدم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعدا فقيل له تعال : أي ارفع شخصك بالقيام وتقدم واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي وهكذا قال الزمخشري في الكشاف : إنه من الخاص الذي صار عاما وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عم قوله : { أتل ما حرم ربكم } أتل جواب الأمر وما موصولة في محل نصب به : أي أتل الذي حرمه ربكم عليكم والمراد من تلاوة ما حرم الله تلاوة الآيات المشتملة عليه ويجوز أن تكون ما مصدرية : أي أتل تحريم ربكم والمعنى : ما اشتمل على التحريم قيل : ويجوز أن تكون ما استفهامية أي أتل أي شيء حرم ربكم على جعل التلاوة بمعنى القول وهو ضعيف جدا وعليكم أن تعلق بأتل فالمعنى : أتل عليكم الذي حرم ربكم وإن تعلق بحرم فالمعنى أتل الذي حرم ربكم عليكم وهذا أولى لأن المقام مقام بيان ما هو محرم عليكم لا مقام بيان ما هو محرم مطلقا وقيل : إن عليكم للإغراء ولا تعلق لها بما قبلها والمعنى عليكم أن لا تشركوا إلى آخره : أي الزموا ذلك كقوله تعالى : { عليكم أنفسكم } وهو أضعف مما قبله وأن في { أن لا تشركوا } مفسرة لفعل التلاوة وقال النحاس : يجوز أن تكون في موضع نصب بدلا من ما : أي أتل عليكم تحريم الإشراك وقيل : يجوز أن يكون في محل رفع بتقدير مبتدأ : أي المتلو أن لا تشركوا وشيئا مفعول أو مصدر أي لا تشركوا به شيئا من الأشياء أو شيئا من الإشراك قوله : { وبالوالدين إحسانا } أي أحسنوا بهما إحسانا والإحسان إليهما البر بهما وامتثال أمرهما ونهيهما وقد تقدم الكلام على هذا قوله : { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } لما ذكر حق الوالدين على الأولاد ذكر حق الأولاد على الوالدين وهو أن لا يقتلوهم من أجل إملاق والإملاق الفقر فقد كانت الجاهلية تفعل ذلك بالذكر والإناث خشية الإملاق وتفعله بالإناث خاصة خشية العار وحكى النقاش عن مؤرج أن الإملاق الجوع بلغة الخم وذكر منذر بن سعيد البلوطي أن الإملاق الإنفاق يقال : أملق ماله : بمعنى أنفقه والمعنى الأول هو الذي أطبق عليه أئمة اللغة وأئمة التفسير هاهنا { ولا تقربوا الفواحش } أي المعاصي ومنه { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة } وما في { ما ظهر } بدل من الفواحش وكذا ما بطن والمراد بما ظهر ما أعلن به منها وما بطن : ما أسر وقد تقدم { ولا تقتلوا النفس } اللام في النفس للجنس و { التي حرم الله } صفة للنفس : أي لا تقتلوا شيئا من الأنفس التي حرمها الله { إلا بالحق } أي إلا بما يوجبه الحق والاستثناء مفرغ : أي لا تقتلوه في حال من الأحوال إلا في حال الحق أو لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق ومن الحق قتلها قصاصا وقتلها بسبب زنا المحصن وقتلها بسبب الردة ونحو ذلك من الأسباب التي ورد الشرع بها والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى ما تقدم مما تلاه عليهم وهو مبتدأ { وصاكم به } خبره : أي أمركم به وأوجبه عليكم (2/257)
152 - { ولا تقربوا مال اليتيم } أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه إلا بـ الخصلة { التي هي أحسن } من غيرها وهي ما فيه صلاحه وحفظه وتنميته فيشمل كل وجه من الوجوه التي فيها نفع لليتيم وزيادة في ماله وقيل : المراد بالتي هي أحسن التجارة { حتى يبلغ أشده } أي إلى غاية هي أن يبلغ اليتيم أشده فإن بلغ ذلك فادفعوا إليه ماله كما قال تعالى : { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم }
واختلف أهل العلم في الأشد فقال أهل المدينة : بلوغه وإيناس رشده وقال أبو حنيفة : خمس وعشرون سنة وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو البلوغ وقيل : إنه انتهاء الكهولة ومنه قول سحيم الرباحي :
( أخو الخمسين مجتمع أشدى ... وبحديثي مداورة الشؤون )
والأولى في تحقيق بلوغ الأشد أنه البلوغ إلى سن التكليف مع إيناس الرشد وهو أن يكون في تصرفاته بماله سالكا مسلك العقلاء لا مسلك أهل السفه والتبذير ويدل على هذا قوله تعالى في سورة النساء : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } فجعل بلوغ النكاح وهو بلوغ سن التكليف مقيدا بإيناس الرشد ولعله قد سبق هنالك كلام في هذا والأشد واحد لا جمع له وقيل : واحده شد كفلس وأفلس وأصله من شد النهار : أي ارتفع وقال سيبويه : واحده شدة قال الجوهري : وهو حسن في المعنى لأنه يقال : بلغ الكلام شدته ولكن لا تجمع فعلة على أفعل قوله : { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } أي بالعدل في الأخذ والإعطاء عند البيع والشراء { لا نكلف نفسا إلا وسعها } أي إلا طاقتها في كل تكليف من التكاليف ومنه التكليف بإيفاء الكيل والوزن فلا يخاطب المتولي بهما بما لا يمكن الاحتراز عنه في الزيادة والنقصان { وإذا قلتم فاعدلوا } أي إذا قلتم بقول في خبر أو شهادة أو جرح أو تعديل فاعدلوا فيه وتحروا الصواب ولا تتعصبوا في ذلك لقريب ولا على بعيد ولا تميلوا إلى صديق ولا على عدو بل سووا بين الناس فإن ذلك من العدل الذي أمر الله به والضمير في { ولو كان } راجع إلى ما يفيده { وإذا قلتم } فإنه لا بد للقول من مقول فيه أو مقول له : أي ولو كان المقول فيه أو المقول له { ذا قربى } أي صاحب قرابة لكم وقيل إن المعنى : ولو كان الحق على مثل قراباتكم والأول أولى ومثل هذه الآية قوله : { ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } قوله : { وبعهد الله أوفوا } أي أوفوا بكل عهد عهده الله إليكم ومن جملة ما عهده إليكم ما تلاه عليكم رسوله بأمره في هذا المقام ويجوز أن يراد به كل عهد ولو كان بين المخلوقين لأن الله سبحانه لما أمر بالوفاء به في كثير من الآيات القرآنية كان ذلك مسوغا لإضافته إليه والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى ما تقدم ذكره { وصاكم به } أمركم به أمرا مؤكدا { لعلكم تذكرون } فتتعظون بذلك (2/258)
قوله : 153 - { وأن هذا صراطي مستقيما } أن في موضع نصب : أي واتل أن هذا صراطي قاله الفراء والكسائي قال الفراء : ويجوز أن يكون خفضا : أي وصاكم به وبأن هذا وقال الخليل وسيبويه : إن التقدير ولأن هذا صراطي مستقيما كما في قوله سبحانه : { وأن المساجد لله } وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي : { وأن هذا } بكسر الهمزة على الاستئناف والتقدير : الذي ذكر في هذه الآيات صراطي وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب { وأن هذا صراطي } بالتخفيف على تقدير ضمير الشأن وقرأ الأعمش { هذا صراطي } وفي مصحف عبد الله بن مسعود ( وهذا صراط ربكم ) وفي مصحف أبي ( وهذا صراط ربك ) والصراط : الطريق وهو طريق دين الإسلام ونصب مستقيما على الحال والمستقيم المستوى الذي لا اعوجاج فيه ثم أمرهم باتباعه ونهاهم عن اتباع سائر السبل : الأديان المتباينة طرقها { فتفرق بكم } أي تميل بكم { عن سبيله } أي عن سبيل الله المستقيم الذي هو دين الإسلام قال ابن عطية : وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد والإشارة بـ { ذلكم } إلى ما تقدم وهو مبتدأ وخبره { وصاكم به } أي أكد عليكم الوصية به { لعلكم تتقون } ما نهاكم عنه
وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم تلا { قل تعالوا } إلى ثلاث آيات ثم قال : فمن وفى بهن فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه ] وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن المنذر عن كعب الأحبار قال : أول ما أنزل في التوراة عشر آيات وهي العشر التي أنزلت من آخر الأنعام { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى آخرها وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي بن الخيار قال : سمع كعب رجلا يقرأ { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا } فقال كعب : والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة : بسم الله الرحمن الرحيم { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى آخر الآيات انتهى قلت : هي الوصايا العشر التي في التوراة وأولها أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك إله آخر غيري ومنها : أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تقتل لا تزن لا تسرق لا تشهد على قريبك شهادة زور لا تشته بيت قريبك ولا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا مما لقريبك فلعل مراد كعب الأحبار هذا ولليهود بهذه الوصايا عناية عظيمة وقد كتبها أهل الزبور في آخر زبورهم وأهل الإنجيل في أول إنجيلهم وهي مكتوبة في لوحين وقد تركنا منها ما يتعلق بالسبت وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } قال : من خشية الفاقة قال : وكان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته مخافة الفاقة عليها والسبي { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } قال : سرها وعلانيتها وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } قال : خشية الفقر { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } قال : كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأسا في السر ويستقبحونه في العلانية فحرم الله الزنا في السر والعلانية وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { وأن هذا صراطي مستقيما } قال : اعلموا أن السبيل سبيل واحد جماعة الهدى ومصيره الجنة وأن إبليس اشترع سبلا متفرقة جماعة الضلالة ومصيرها النار وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبزار والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود قال : خط رسول الله صلى الله عليه و سلم خطا بيده ثم قال : هذا سبيل الله مستقيما ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وأخرج أحمد وابن ماجه وابن مردويه من حديث جابر نحوه وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن مردويه عن ابن مسعود أن رجلا سأله : ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا محمدا صلى الله عليه و سلم في أدناه وطرفه الجنة وعن يمينه جواد وعن شماله جواد وثم رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة ثم قرأ ابن مسعود : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } الآية وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { ولا تتبعوا السبل } قال : الضلالات (2/260)
هذا الكلام مسوق لتقرير التوصية التي وصى الله عباده بها وقد استشكل العطف بثم مع كون قصة موسى وإيتائه الكتاب قبل المعطوف عليه وهو ما تقدم من قوله : { ذلكم وصاكم به } فقيل : إن ثم هاهنا بمعنى الواو وقيل تقدير الكلام : ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى الله عليه و سلم وقيل المعنى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ثم أتل إيتاء موسى الكتاب وقيل : إن التوصية المعطوف عليها قديمة لم يزل كل نبي يوصي بها أمته وقيل : إن ثم للتراخي في الإخبار كما تقول : بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت بالأمس أعجب قوله : 154 - { تماما } مفعول لأجله أو مصدر و { على الذي أحسن } قرئ بالرفع وهي قراءة يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق فيكون رفع أحسن على تقدير مبتدأ : أي على الذي هو أحسن ومنه ما حكى سيبويه عن الخليل أنه سمع : ما أنا بالذي قائل لك شيئا وقرأ الباقون بالنصب على أنه فعل ماض عند البصريين وأجاز الفراء والكسائي أن يكون اسما نعتا للذي وهذا محال عند البصريين لأنه نعت للاسم قبل أن يتم والمعنى عندهم تماما على من أحسن قبوله والقيام به كائنا من كان ويؤيد هذا أن ابن مسعود قرأ : ( تماما على الذين أحسنوا ) وقال الحسن : كان فيهم محسن وغير محسن فأنزل الله الكتاب تماما على المحسنين وقيل المعنى : أعطينا موسى التوراة زيادة على ما كان يحسنه موسى مما علمه الله قبل نزول التوراة عليه وقيل المعنى : تماما على الذي أحسن به الله عز و جل إلى موسى من الرسالة وغيرها وقيل : تماما على إحسان موسى بطاعة الله عز و جل قاله الفراء قوله : { وتفصيلا لكل شيء } معطوف على تماما : أي ولأجل تفصيل كل شيء وكذا { هدى ورحمة } معطوفتان عليه : أي وللهدى والرحمة والضمير في لعلهم راجع إلى بني إسرائيل المدلول عليه بذكر موسى والباء في { بلقاء } متعلقة بيؤمنون (2/262)
قوله : 155 - { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } الإشارة إلى القرآن واسم الإشارة مبتدأ وخبره كتاب وأنزلناه صفة لكتاب ومبارك صفة أخرى له وتقديم صفة الإنزال لكون الإنكار متعلقا بها والمبارك كثير البركة لما هو مشتمل عليه من المنافع الدنيوية والدينية { فاتبعوه } فإنه لما كان من عند الله وكان مشتملا على البركة كان اتباعه متحتما عليكم { واتقوا } مخالفته والتكذيب بما فيه { لعلكم } إن قبلتموه ولم تخالفوه { ترحمون } برحمة الله سبحانه (2/263)
وأن في 156 - { أن تقولوا } في موضع نصب قال الكوفيون : لئلا تقولوا وقال البصريون : كراهة أن تقولوا وقال الفراء والكسائي : المعنى فاتقوا أن تقولوا يا أهل مكة { إنما أنزل الكتاب } : أي التوراة والإنجيل { على طائفتين من قبلنا } وهم اليهود والنصارى ولم ينزل علينا كتاب { وإن كنا عن دراستهم } أي عن تلاوة كتبهم بلغاتهم { لغافلين } أي لا ندري ما فيها ومرادهم إثبات نزول الكتابين مع الاعتذار عن اتباع ما فيهما بعدم الدراية منهم والغفلة عن معناهما (2/263)
قوله : 157 - { أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب } معطوف على { تقولوا } أي أو أن تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على الطائفتين من قبلنا { لكنا أهدى منهم } إلى الحق الذي طلبه الله فإن هذه المقالة والمعذرة منهم مندفعة بإرسال محمد صلى الله عليه و سلم إليهم وإنزال القرآن عليه ولهذا قال : { فقد جاءكم بينة من ربكم } أي كتاب أنزله الله على نبيكم وهو منكم يا معشر العرب فلا تعتذروا بالأعذار الباطلة وتعللوا أنفسكم بالعلل الساقطة فقد أسفر الصبح لذي عينين { وهدى ورحمة } معطوف على { بينة } أي جاءكم البينة الواضحة والهدى الذي يهتدي به كل من له رغبة في الاهتداء ورحمة من الله يدخل فيها كل من يطلبها ويريد حصولها ولكنكم ظلمتم أنفسكم بالتكذيب بآيات الله والصدوف عنها : أي الانصراف عنها وصرف من أراد الإقبال إليها { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله } التي هي رحمة وهدى للناس { وصدف عنها } فضل بانصرافه عنها وأضل بصرف غيره عن الإقبال إليها { سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب } أي العذاب السيء بـ سبب { ما كانوا يصدفون } وقيل معنى صدف : أعرض ويصدفون يعرضون وهو مقارب لمعنى الصرف وقد تقدم تحقيق معنى هذا اللفظ والاستفهام في فمن أظلم للإنكار : أي إنكار أن يكون أحد أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها مع ما يفيده ذلك من التبكيت لهم
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد { تماما على الذي أحسن } قال : على المؤمنين المحسنين وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صخر { تماما على الذي أحسن } قال : تماما لما كان قد أحسن الله وأخرج أيضا عن ابن زيد قال : تماما لنعمته عليهم وإحسانه إليهم وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله { وهذا كتاب } قال : هو القرآن الذي أنزله الله على محمد { فاتبعوه واتقوا } يقول : فاتبعوا ما أحل الله فيه واتقوا ما حرم وأخرج هؤلاء عن مجاهد في قوله : { على طائفتين من قبلنا } قال : اليهود والنصارى خاف أن تقوله قريش وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هم اليهود والنصارى { وإن كنا عن دراستهم } قال : تلاوتهم وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { لكنا أهدى منهم } قال : هذا قول كفار العرب وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { فقد جاءكم بينة من ربكم } يقول : قد جاءتكم بينة لسان عربي مبين حين لم يعرفوا دراسة الطائفتين وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { صدف عنها } قال : أعرض عنها وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك في قوله : { يصدفون } قال : يعرضون (2/263)
أي لما أقمنا عليهم الحجة وأنزلنا الكتاب على رسولنا المرسل إليهم فلم ينفعهم ذلك ولم يرجعوا به عن غوايتهم فما بقي بعد هذا إلا أنهم 158 - { ينظرون } أي ينتظرون { أن تأتيهم الملائكة } أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم وعند ذلك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل { أو يأتي ربك } يا محمد كما اقترحوه بقولهم : { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } وقيل معناه : أو يأتي أمر ربك بإهلاكهم وقيل المعنى : أو يأتي كل آيات ربك بدليل قوله : { أو يأتي بعض آيات ربك } وقيل : هو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله وقد جاء في القرآن حذف المضاف كثيرا كقوله { واسأل القرية } وقوله : { وأشربوا في قلوبهم العجل } أي حب العجل وقيل : إتيان الله مجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه كقوله : { وجاء ربك والملك صفا صفا } قوله : { يوم يأتي بعض آيات ربك } قرأ ابن عمر وابن الزبير { يوم تأتي } بالفوقية وقرأ الباقون بالتحتية قال المبرد : التأنيث على المجاورة لمؤنث لا على الأصل ومنه قول جرير :
( لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع )
وقرأ ابن سيرين : لا تنفع بالفوقية قال أبو حاتم : إن هذا غلط عن ابن سيرين وقد قال الناس في هذا شيء دقيق من النحو ذكره نفطويه وذلك أن الإيمان والنفس كل واحد منهما مشتمل على الآخر فأنث الإيمان إذ هو من النفس قال النحاس : وفيه وجه آخر وهو أن يؤنث الإيمان لأنه مصدر كما يذكر المصدر المؤنث مثل { فمن جاءه موعظة من ربه } معنى { يوم يأتي بعض آيات ربك } يوم يأتي الآيات التي اقترحوها وهي التي تضطرهم إلى الإيمان { لا ينفع نفسا إيمانها } أو ما هو أعم من ذلك فيدخل فيه ما ينتظرونه وقيل : هي الآيات التي هي علامات القيامة المذكورة في الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فهي التي إذا جاءت لا ينفع نفسا إيمانها قوله : { لم تكن آمنت من قبل } أي من قبل إتيان بعض الآيات فأما التي قد كانت آمنت من قبل مجيء بعض الآيات فإيمانها ينفعها وجملة { لم تكن آمنت من قبل } في محل نصب على أنها صفة نفسا قوله : { أو كسبت في إيمانها خيرا } معطوف على { آمنت } والمعنى : أنه لا ينفع نفسا إيمانها عند حضور الآيات متصفة بأ ها لم تكن آمنت من قبل أو آمنت من قبل ولكن لم تكسب في إيمانها خيرا فحصل من هذا أنه لا ينفع إلا الجمع بين الإيمان من قبل مجيء بعض الآيات مع كسب الخير في الإيمان فمن آمن من قبل فقط ولم يكسب خيرا في إيمانه أو كسب خيرا ولم يؤمن فإن ذلك غير نافعه وهذا التركيب هو كقولك : لا أعطي رجلا اليوم أتاني لم يأتني بالأمس أو لم يمدحني في إتيانه إلي بالأمس فإن المستفاد من هذا أنه لا يستحق العطاء إلا رجل أتاه بالأمس ومدحه في إتيانه إليه بالأمس ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم : انتظروا ما تريدون إتيانه إنا منتظرون له وهذا تهديد شديد ووعيد عظيم وهو يقوي ما قيل في تفسير { يوم يأتي بعض آيات ربك } أنها الآيات التي اقترحوها من إتيان الملائكة وإتيان العذاب لهم من قبل الله كما تقدم بيانه
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة } قال : عند الموت { أو يأتي ربك } قال : يوم القيامة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في تفسير الآية مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل { أو يأتي ربك } قال : يوم القيامة في ظلل من الغمام وأخرج أحمد وعبد بن حميد في مسنده والترمذي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { يوم يأتي بعض آيات ربك } قال : طلوع الشمس من مغربها قال الترمذي : غريب ورواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي سعيد موقوفا وأخرجه الطبراني وابن عدي وابن مردويه من حديث أبي هريرة مرفوعا وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ونعيم بن حماد والطبراني عن ابن مسعود موقوفا فإذا ثبت رفع هذا التفسير النبوي من وجه صحيح لا قادح فيه فهو واجب التقديم له متحتم الأخذ به ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها ثم قرأ الآية ] وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي ذر مرفوعا نحوه وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا نحوه أيضا وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { أو كسبت في إيمانها خيرا } يقول : كسبت في تصديقها عملا صالحا هؤلاء أهل القبلة وإن كانت مصدقة لم تعمل قبل ذلك خيرا فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها وإن عملت قبل الآية خيرا ثم عملت بعد الآية خيرا قبل منها وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل في قوله : { أو كسبت في إيمانها خيرا } قال : يعني المسلم الذي لم يعمل في إيمانه خيرا وكان قبل الآية مقيما على الكبائر والآيات التي هي علامات القيامة قد وردت الأحاديث المتكاثرة في بيانها وتعدادها وهي مذكورة في كتب السنة (2/264)
قرأ حمزة والكسائي 159 - { فرقوا دينهم } وهي قراءة علي بن أبي طالب : أي تركوا دينهم وخرجوا عنه وقرأ الباقون { فرقوا } بالتشديد إلا النخعي فإنه قرأ بالتخفيف والمعنى : أنهم جعلوا دينهم متفرقا فأخذوا ببعضه وتركوا بعضه قيل : المراد بهم اليهود والنصارى وقد ورد في معنى هذا في اليهود قوله تعالى : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } وقيل : المراد بهم المشركون عبد بعضهم الصنم وبعضهم الملائكة وقيل : الآية عامة في جميع الكفار وكل من ابتدع وجاء بما لم يأمر به الله وهذا هو الصواب لأن اللفظ يفيد العموم فيدخل فيه طوائف أهل الكتاب وطوائف المشركين وغيرهم ممن ابتدع من أهل الإسلام ومعنى شيعا فرقا وأحزابا فتصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحدا مجتمعا ثم اتبع كل جماعة منهم رأي كبير من كبرائهم يخالف الصواب ويباين الحق { لست منهم في شيء } أي لست من تفرقهم أو من السؤال عن سبب تفرقهم والبحث عن موجب تحزبهم في شيء من الأشياء فلا يلزمك من ذلك شيء ولا تخاطب به إنما عليك البلاغ وهو مثل قوله صلى الله عليه و سلم : [ من غشنا فليس منا ] أي نحن برآء منه وموضع { في شيء } نصب على الحال قال الفراء : هو على حذف مضاف : أي لست من عقابهم في شيء وإنما عليك الإنذار ثم سلاه الله تعالى بقوله : { إنما أمرهم إلى الله } فهو مجاز لهم بما يقتضيه مشيئته والحصر بإنما هو في حكم التعليل لما قبله والتأكيد له { ثم } هو يوم القيامة { ينبئهم } أي يخبرهم بما ينزله بهم من المجازاة { بما كانوا يعملون } ه من الأعمال التي تخالف ما شرعه الله لهم وأوجبه عليهم وهذه الآية من جملة ما هو منسوخ بآية السيف (2/266)
قوله : 160 - { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } لما توعد سبحانه المخالفين له بما توعد بين عقب ذلك مقدار جزاء العاملين بما أمرهم به الممتثلين لما شرعه لهم بأن من جاء بحسنة واحدة من الحسنات فله من الجزاء عشر حسنات والتقدير : فله عشر حسنات أمثالها فأقيمت الصفة مقام الموصوف قال أبو علي الفارسي : حسن التأنيث في عشر أمثالها لما كان الأمثال مضافا إلى مؤنث نحو ذهبت بعض أصابعه وقرأ الحسن وسعيد بن جبير والأعمش { فله عشر أمثالها } برفعهما
وقد ثبت هذا التضعيف في السنة بأحاديث كثيرة وهذا التضعيف هو أقل ما يستحقه عامل الحسنة وقد وردت الزيادة على هذا عموما وخصوصا ففي القرآن كقوله : { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } وورد في بعض الحسنات أن فاعلها يجازى عليها بغير حساب وورد في السنة المطهرة تضعيف الجزاء إلى ألوف مؤلفة وقد قدمنا تحقيق هذا في موضعين من هذا التفسير فليرجع إليهما { ومن جاء بالسيئة } من الأعمال السيئة { فلا يجزى إلا مثلها } من دون زيادة عليها على قدرها في الخفة والعظم فالمشرك يجازى على سيئة الشرك بخلوده في النار وفاعل المعصية من المسلمين يجازى عليها بمثلها مما ورد تقديره من العقوبات كما ورد بذلك كثير من الأحاديث المصرحة بأن من عمل كذا فعليه كذا وما لم يرد لعقوبته تقدير من الذنوب فعلينا أن نقول : يجازيه الله بمثله وإن لم نقف على حقيقة ما يجازى به وهذا إن لم يتب أما إذا تاب أو غلبت حسناته سيئاته أو تغمده الله برحمته وتفضل عليه بمغفرته فلا مجازاة وأدلة الكتاب والسنة مصرحة بهذا تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب { وهم } أي من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة { لا يظلمون } بنقص ثواب حسنات المحسنين ولا بزيادة عقوبات المسيئين
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : اختلفت اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه و سلم فتفرقوا فلما بعث محمد أنزل عليه { إن الذين فرقوا دينهم } الآية وأخرج النحاس عنه في ناسخه { إن الذين فرقوا دينهم } قال : اليهود والنصارى تركوا الإسلام والدين الذي أمروا به { وكانوا شيعا } فرقا أحزابا مختلفة { لست منهم في شيء } نزلت بمكة ثم نسخها { قاتلوا المشركين } - وأخرج أبو الشيخ عنه { وكانوا شيعا } قال : مللا شتى وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة في قوله : { إن الذين فرقوا دينهم } الآية قال : هم في هذه الأمة وأخرج الحكيم الترمذي وابن جرير والطبراني والشيرازي في الألقاب وابن مردويه عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في الآية قال : هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة وفي إسناده عبد بن كثير وهو متروك الحديث ولم يرفعه غيره ومن عداه وقفوه على أبي هريرة وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي أمامة في الآية قال : هم الحرورية وقد رواه ابن أبي حاتم والنحاس وابن مردويه عن أبي غالب عن أبي أمامة مرفوعا ولا يصح رفعه وأخرج الحكيم الترمذي وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن شاهين وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وأبو نصر السجزي في الإبانة والبيهقي في شعب الإيمان عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعائشة : [ يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذا الأمة ليست لهم توبة يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة وهم مني برآء ] قال ابن كثير : هو غريب ولا يصح رفعه وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } قال رجل من المسلمين : يا رسول الله لا إله إلا لله حسنة ؟ قال : نعم أفضل الحسنات وهذا مرسل ولا ندري كيف إسناده إلى سعيد ؟ وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود { من جاء بالحسنة } قال : لا إله إلا الله وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس مثله وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة مثله أيضا وقد قدمنا الإشارة إلى أنها قد ثبتت الأحاديث الصحيحة بمضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها فلا نطيل بذكرها ووردت أحاديث كثيرة في الزيادة على هذا المقدار وفضل الله واسع وعطاؤه جم (2/267)
لما بين سبحانه أن الكفار تفرقوا فرقا وتحزبوا أحزابا أمر رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقول لهم : 161 - { إنني هداني ربي } أي أرشدني بما أوحاه إلي { إلى صراط مستقيم } وهو ملة إبراهيم عليه السلام و { دينا } منتصب على الحال كما قال قطرب أو على أنه مفعول هداني كما قال الأخفش وقيل : منتصف بفعل يدل عليه هداني لأن معناه عرفني : أي عرفني دينا وقيل : إنه بدل من محل إلى صراط لأن معناه هداني صراطا مستقيما كقوله تعالى : { ويهديكم صراطا مستقيما } وقيل : منصوب بإضمار فعل كأنه قيل : اتبعوا دينا قوله : { قيما } قرأه الكوفيون وابن عامر بكسر القاف والتخفيف وفتح الياء وقرأه الباقون بفتح القاف وكسر الياء المشددة وهما لغتان : ومعناه الدين المستقيم الذي لا عوج فيه وهو صفة لدينا وصف به مع كونه مصدرا مبالغة وانتصاب { ملة إبراهيم } على أنها عطف بيان لدينا ويجوز نصبها بتقدير أعني و { حنيفا } منتصب على أنه حال من إبراهيم قاله الزجاج وقال علي بن سليمان : هو منصوب بإضمار أعني والحنيف المائل إلى الحق وقد تقدم تحقيقه { وما كان من المشركين } في محل نصب معطوف على حنيفا أو جملة معترضة مقررة لما قبلها (2/269)
قوله : 162 - { قل إن صلاتي } أمره الله سبحانه أن يقول لهم بهذه المقالة عقب أمره بأن يقول لهم بالمقالة السابقة قيل : ووجه ذلك أن ما تضمنه القول الأول إشارة إلى أصول الدين وهذا إلى فروعها والمراد بالصلاة جنسها فيدخل فيه جميع أنواعها وقيل : المراد بها هنا صلاة الليل وقيل : صلاة العيد والنسك : جمع نسيكة وهي الذبيحة كذا قال مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وغيرهم : أي ذبيحتي في الحج والعمرة وقال الحسن : ديني وقال الزجاج : عبادتي من قولهم : نسك فلان هو ناسك : إذا تعبد وبه قال جماعة من أهل العلم { ومحياي ومماتي } أي ما أعمله في حياتي ومماتي من أعمال الخير ومن أعمال الخير في الممات الوصية بالصدقات وأنواع القربات وقيل : نفس الحياة ونفس الموت { لله } قرأ الحسن نسكي بسكون السين وقرأ الباقون بضمها وقرأ أهل المدينة { محياي } بسكون الياء وقرأ الباقون بفتحها لئلا يجتمع ساكنان قال النحاس : لم يجزه أي السكون أحد من النحويين إلا يونس وإنما أجازه لأن المدة التي في الألف تقوم مقام الحركة وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري محيى من غير ألف وهي لغة عليا مضر ومنه قول الشاعر :
( سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا ولكل جنب مصرع )
{ لله رب العالمين } أي خالصا له لا شريك له فيه (2/269)
والإشارة 163 - { بذلك } إلى ما أفاده { لله رب العالمين * لا شريك له } من الإخلاص في الطاعة وجعلها لله وحده قوله : { وأنا أول المسلمين } أي أول مسلمي أمته وقيل : أول المسلمين أجمعين لأنه وإن كان متأخرا في الرسالة فهو أولهم في الخلق ومنه قوله تعالى : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح } الآية والأول أولى قال ابن جرير الطبري : استدل بهذه الآية الشافعي على مشروعية افتتاح الصلاة بهذا الذكر فإن الله أمر به نبيه وأنزله في كتابه ثم ذكر حديث علي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا قام إلى الصلاة قال : [ وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ] إلى قوله : { وأنا أول المسلمين } قلت : هذا هو في صحيح مسلم مطولا وهو أحد التوجهات الواردة ولكنه مقيد بصلاة الليل كما في الروايات الصحيحة وأصح التوجهات الذي كان يلازمه النبي صلى الله عليه و سلم ويرشد إليه هو : [ اللهم باعد بيني وبين خطاياي ] إلى آخره وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى بما لا يحتاج إلى زيادة عليه هنا
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله : { إن صلاتي } قال : يعني المفروضة { ونسكي } يعني الحج وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير { ونسكي } قال : ذبيحتي وأخرجا أيضا عن قتادة { إن صلاتي ونسكي } قال : حجي وذبيحتي وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ونسكي } قال : ذبيحتي في الحج والعمرة وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { ونسكي } قال : ضحيتي وفي قوله : { وأنا أول المسلمين } قال : من هذه الأمة وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملته وقولي إن صلاتي إلى وأنا أول المسلمين قلت يا رسول الله : هذا لك ولأهل بيتك خاصة فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة ؟ قال : لا بل للمسلمين عامة ] (2/270)
الاستفهام في { أغير الله أبغي ربا } للإنكار وهو جواب على المشركين لما دعوه إلى عبادة غير الله : أي كيف أبغي غير الله ربا مستقلا وأترك عبادة الله أو شريكا لله فأعبدهما معا والحال أنه رب كل شيء والذي تدعونني إلى عبادته هو من جملة من هو مربوب له مخلوق مثلي لا يقدر على نفع ولا ضر وفي هذا الكلام من التقريع والتوبيخ لهم ما لا يقادر قدره وغير منصوب بالفعل الذي بعده وربا تمييز أو مفعول ثان على جعل الفعل ناصبا لمفعولين قوله : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } أي لا يؤاخذ مما أتت من الذنب وارتكبت من المعصية سواها فكل كسبها للشر عليها لا يتعداها إلى غيرها وهو مثل قوله تعالى : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } وقوله : { لتجزى كل نفس بما تسعى } قوله : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } أصل الوزر الثقل ومنه قوله تعالى : { ووضعنا عنك وزرك } وهو هنا الذنب { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } قال الأخفش : يقال : وزر يوزر ووزر يزر وزرا ويجوز إزرا وفيه رد لما كانت عليه الجاهلية من مؤاخذة القريب بذنب قريبه والواحد من القبيلة بذنب الآخر وقد قيل : إن المراد بهذه الآية في الآخرة وكذلك التي قبلها لقوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } ومثله قول زينب بنت جحش : [ يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ] والأولى حمل الآية على ظاهرها : أعني العموم وما ورد من المؤاخذة بذنب الغير كالدية التي تحملها العاقلة ونحو ذلك فيكون في حكم المخصص بهذا العموم ويقر في موضعه ولا يعارض هذه الآية قوله تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } فإن المراد بالأثقال التي مع أثقالهم هي أثقال الذين يضلونهم كما في الآية الأخرى : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } { ثم إلى ربكم مرجعكم } يوم القيامة { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } في الدنيا وعند ذلك يظهر حق المحقين وباطل المبطلين (2/271)
قوله : 165 - { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } خلائف جمع خليفة : أي جعلكم خلفاء الأمم الماضية والقرون السالفة قال الشماخ :
( أصيبهم وتخطئني المنايا ... وأخلف في ربوع عن ربوع )
أو المراد أنه يخلف بعضهم بعضا أو أن هذا النوع الإنساني خلفاء الله في أرضه { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } في الخلق والرزق والقوة والفضل والعلم ودرجات منصوب بنزع الخافض : أي إلى درجات { ليبلوكم في ما آتاكم } أي ليختبركم فيما آتاكم من تلك الأمور أو ليبتلي بعضكم ببعض كقوله تعالى : { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } ثم خوفهم فقال : { إن ربك سريع العقاب } فإنه وإن كان في الآخرة فكل آت قريب كما قال : { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب } ثم رغب من يستحق الترغيب من المسلمين فقال : { وإنه لغفور رحيم } أي كثير الغفران والرحمة
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولا تزر وازرة } قال : لا يؤاخذ أحد بذنب غيره وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } قال : أهلك القرون الأولى فاستخلفنا فيها بعدهم { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } قال : في الرزق (2/272)
سورة الأعراف
هي مكية إلا ثمان آيات وهي قوله : { واسألهم عن القرية } إلى قوله : { وإذ نتقنا الجبل فوقهم } وقد أخرج ابن الضريس والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال : سورة الأعراف نزلت بمكة وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة : قال : آية من الأعراف مدنية وهي { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } إلى آخر الآية وسائرها مكية وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ بها في المغرب يفرقها في الركعتين وآياتها مائتان وست آيات
قوله : 1 - { المص } قد تقدم في فاتحة سورة البقرة ما يغني عن الإعادة وهو إما مبتدأ وخبره كتاب : أي المص حروف (2/273)
2 - { كتاب أنزل إليك } أو هو خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا المص أي المسمى به وأما إذا كانت هذه الفواتح مسرودة على نمط التعديد فلا محل له وكتاب خبر المبتدأ على الوجه الأول أو خبر مبتدأ محذوف على الثاني أي هو كتاب قال الكسائي : أي هذا كتاب و { أنزل إليك } صفة له { فلا يكن في صدرك حرج منه } الحرج : الضيق : أي لا يكن في صدرك ضيق منه من إبلاغه إلى الناس مخافة أن يكذبوك ويؤذوك فإن الله حافظك وناصرك وقيل : المراد لا يضق صدرك حيث لم يؤمنوا به ولم يستجيبوا لك { فإنما عليك البلاغ } وقال مجاهد وقتادة : الحرج هنا الشك لأن الشاك ضيق الصدر : أي لا تشك في أنه منزل من عند الله وعلى هذا يكون النهي له صلى الله عليه و سلم من باب التعريض والمراد أمته : أي لا يشك أحد منهم في ذلك والضمير في منه راجع إلى الكتاب فعلى الوجه الأول يكون على تقدير مضاف محذوف : أي من إبلاغه وعلى الثاني يكون التقدير من إنزاله والضمير في { لتنذر به } راجع إلى الكتاب : أي لتنذر الناس بالكتاب الذي أنزلناه إليك وهو متعلق بأنزل : أي أنزل إليك لإنذارك للناس به أو متعلق بالنهي لأن انتفاء الشك في كونه منزلا من عند الله أو انتفاء الخوف من قومه يقويه على الإنذار ويشجعه لأن المتيقن يقدم على بصيرة ويباشر بقوة نفس قوله : { وذكرى للمؤمنين } الذكرى التذكير قال البصريون : الذكرى في محل رفع على إضمار مبتدأ وقال الكسائي : هي في محل رفع عطفا على كتاب ويجوز النصب على المصدر : أي وذكر به ذكرى قاله البصريون ويجوز الجر حملا على موضع لتنذر أي للإنذار والذكرى وتخصيص الذكرى بالمؤمنين لأنهم الذين ينجع فيهم ذلك وفيه إشارة إلى تخصيص الإنذار بالكافرين (2/273)
قوله : 3 - { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } يعني الكتاب ومثله السنة لقوله : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ونحوها من الآيات وهو أمر للنبي صلى الله عليه و سلم ولأمته وقيل : هو أمر للأمة بعد أمره صلى الله عليه و سلم بالتبليغ وهو منزل إليهم بواسطة إنزاله إلى النبي صلى الله عليه و سلم : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } نهي للأمة عن أن يتبعوا أولياء من دون الله يعبدونهم ويجعلونهم شركاء لله فالضمير على هذا في { من دونه } يرجع إلى رب ويجوز أن يرجع إلى ما في ما أنزل إليكم : أي لا تتبعوا من دون كتاب الله أولياء تقلدونهم في دينكم كما كان يفعله أهل الجاهلية من طاعة الرؤساء فيما يحللونه لهم ويحرمونه عليهم قوله : { قليلا ما تذكرون } انتصاب قليلا على أنه صفة لمصدر محذوف للفعل المتأخر : أي تذكرا قليلا وما مزيدة للتوكيد أو هو منتصب على الحال من فاعل لا تتبعوا وما مصدرية : أي لا تتبعوا من دونه أولياء قليلا تذكرهم قرئ { تذكرون } بالتخفيف بحذف إحدى التاءين وقرئ بالتشديد على الإدغام (2/274)
قوله : 4 - { وكم من قرية أهلكناها } كم هي الخبرية المفيدة للتكثير وهي في موضع رفع على الابتداء و { أهلكناها } الخبر و من قرية تمييز ويجوز أن تكون في محل نصب بإضمار فعل بعدها لا قبلها لأن لها صدر الكلام ولولا اشتغال أهلكناها بالضمير لجاز انتصاب كم به والقرية موضع اجتماع الناس : أي كم من قرية من القرى الكبيرة أهلكناها نفسها بإهلاك أهلها أو أهلكنا أهلها والمراد أردنا إهلاكها قوله : { فجاءها بأسنا } معطوف على أهلكنا بتقدير الإرادة كما مر لأن ترتيب مجيء البأس على الإهلاك لا يصح إلا بهذا التقدير إذ الإهلاك هو نفس مجيء البأس وقال الفراء : إن الفاء بمعنى الواو فلا يلزم التقدير والمعنى : أهلكناها وجاءها بأسنا والواو لمطلق الجمع لا ترتيب فيها وقيل : إن الإهلاك واقع لبعض أهل القرية فيكون المعنى : وكم من قرية أهلكنا بعض أهلها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع وقيل المعنى : وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا وقيل : أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها فجاءها بأسنا والبأس : هو العذاب وحكي عن الفراء أنه إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت فيكون المعنى : وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها مثل دنا فقرب وقرب فدنا { بياتا } أي ليلا لأنه يبات فيه يقال : بات يبيت بيتا وبياتا وهو مصدر واقع موقع الحال : أي بائتين قوله : { أو هم قائلون } معطوف على بياتا : أي بائتين أو قائلين وجاءت الجملة الحالية بدون واو استثقالا لاجتماع الواوين واو العطف وواو الحال هكذا قال الفراء واعترضه الزجاج فقال : هذا خطأ بل لا يحتاج إلى الواو تقول : جاءني زيد راكبا أو هو ماش لأن في الجملة ضميرا قد عاد إلى الأول وأو في هذا الموضع للتفصيل لا للشك والقيلولة هي نوم نصف النهار وقيل : هي مجرد الاستراحة في ذلك الوقت لشدة الحر من دون نوم وخص الوقتين لأنهما وقت السكون والدعة فمجيء العذاب فيهما أشد وأفظع (2/274)
قوله : 5 - { فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين } الدعوى : الدعاء : أي فما كان دعاؤهم ربهم عند نزول العذاب إلا اعترافهم بالظلم على أنفسهم ومثله : { وآخر دعواهم } أي آخر دعائهم وقيل : الدعوى هنا بمعنى الادعاء والمعنى : ما كان ما يدعونه لدينهم وينتحلونه إلا اعترافهم ببطلانه وفساده واسم كان { إلا أن قالوا } وخبرها { دعواهم } ويجوز العكس والمعنى : ما كان دعواهم إلا قولهم : إنا كنا ظالمين (2/275)
قوله : 6 - { فلنسألن الذين أرسل إليهم } هذا وعيد شديد والسؤال للقوم الذين أرسل الله إليهم الرسل من الأمم السالفة للتقريع والتوبيخ واللام لام القسم : أي لنسألنهم عما أجابوا به رسلهم عند دعوتهم والفاء لترتيب الأحوال الأخروية على الأحوال الدنيوية { ولنسألن المرسلين } أي الأنبياء الذين بعثهم الله : أي نسألهم عنما أجاب به أممهم عليهم ومن أطاع منهم ومن عصى وقيل المعنى : فلنسألن الذين أرسل إليهم : يعني الأنبياء ولنسألن المرسلين : يعني الملائكة ولا يعارض هذا قول الله سبحانه : { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } لما قدمنا غير مرة أن الآخرة مواطن ففي موطن يسألون وفي موطن لا يسألون وهكذا سائر ما ورد مما ظاهره التعارض بأن أثبت تارة ونفى أخرى بالنسبة إلى يوم القيامة فإنه محمول على تعدد المواقف مع طول ذلك اليوم طولا عظيما (2/275)
7 - { فلنقصن عليهم بعلم } أي على الرسل والمرسل إليهم ما وقع بينهم عند الدعوة منهم لهم بعلم لا بجهل : أي عالمين بما يسرون وما يعلنون { وما كنا غائبين } عنهم في حال من الأحوال حتى يخفى علينا شيء مما وقع بينهم
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات وابن النجار في تاريخه عن ابن عباس في قوله : { المص } قال : أنا والله أفضل وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن هذا ونحوه من فواتح السور قسم أقسم الله به وهي من أسماء الله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { المص } قال : هو المصور وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي في قوله : { المص } قال : الألف من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال : معناه أنا الله الصادق ولا يخفى عليك أن هذا كله قول بالظن وتفسير بالحدس ولا حجة في شيء من ذلك والحق ما قدمنا في فاتحة سورة البقرة وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس { فلا يكن في صدرك حرج منه } قال : الشك وقال لأعرابي : ما الحرج فيكم ؟ قال : اللبس وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال : ضيق وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود : ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم ثم قرأ : { فما كان دعواهم } الآية وأخرجه ابن جرير عنه مرفوعا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } قال : نسأل الناس عما أجابوا المرسلين ونسأل المرسلين عما بلغوا فلنقصن عليهم بعلم قال : بوضع الكتاب يوم القيامة فنتكلم بما كانوا يعملون وأخرج عبد بن حميد عن فرقد في الآية قال : أحدهما الأنبياء وأحدهما الملائكة وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : نسأل الناس عن قول لا إله إلا الله ونسأل جبريل (2/276)
قوله : 8 - { والوزن يومئذ الحق } الوزن مبتدأ وخبره الحق : أي الوزن في هذا اليوم العدل الذي لا جور فيه أو الخبر يومئذ والحق وصف للمبتدأ أي الوزن العدل كائن في هذا اليوم وقيل : إن الحق خبر مبتدأ محذوف
واختلف أهل العلم في كيفية هذا الوزن الكائن في هذا اليوم فقيل : المراد به وزن صحائف أعمال العباد بالميزان وزنا حقيقيا وهذا هو الصحيح وهو الذي قامت عليه الأدلة وقيل : توزن نفس الأعمال وإن كانت أعراضا فإن الله يقلبها يوم القيامة أجساما كما جاء في الخبر الصحيح : [ إن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف ] وكذلك ثبت في الصحيح أنه يأتي القرآن في صورة شاب شاحب اللون ونحو ذلك وقيل : الميزان الكتاب الذي فيه أعمال الخلق وقيل : الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء وذكرهما من باب ضرب المثل كما تقول هذا الكلام في وزن هذا قال الزجاج : هذا سائغ من جهة اللسان والأولى أن نتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان قال القشيري : وقد أحسن الزجاج فيما قال إذ لو حمل الصراط على الدين الحق والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة والملائكة على القوى المحمودة ثم قال : وقد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر صارت هذه الظواهر نصوصا انتهى والحق هو القول الأول وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فما يأتون في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه بل غاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية وليس في ذلك حجة على أحد فهذا إذا لم تقبله عقولهم فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى جاءت البدع كالليل المظلم وقال : كل ما شاء وتركوا الشرع خلف ظهورهم وليتهم جاءوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها ويتحد قبولهم لها بل كل فريق يدعى على العقل ما يطابق هواه ويوافق ما يذهب إليه هو أو من هو تابع له فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم يعرف هذا كل منصف ومن أنكره فليصف فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه
وقد ورد ذكر الوزن والموازين في مواضع من القرآن كقوله : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } وقوله : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } وقوله : { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون } وقوله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } وقوله : { فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية } والفاء في { فمن ثقلت موازينه } للتفصيل والموازين : جمع ميزان وأصله موزان قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها وثقل الموازين هذا يكون بثقل ما وضع فيها من صحائف الأعمال وقيل : إن الموازين جمع موزون : أي فمن رجحت أعماله الموزونة والأول أولى وظاهر جمع الموازين المضافة إلى العامل أن لكل واحد من العاملين موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله وقيل : هو ميزان واحد عبر عنه بلفظ الجمع كما يقال : خرج فلان إلى مكة على البغال والإشارة بقوله : { فأولئك } إلى من والجمع باعتبار معناه كما رجع إليه ضمير { موازينه } باعتبار لفظه وهو مبتدأ خبره { هم المفلحون } (2/277)
والكلام في قوله : 9 - { ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } مثله والباء في { بما كانوا بآياتنا يظلمون } سببية وما مصدرية ومعنى { يظلمون } يكذبون (2/278)
قوله : 10 - { ولقد مكناكم في الأرض } أي جعلنا لكم فيها مكانا وهيأنا لكم فيها أسباب المعايش والمعايش جمع معيشة : أي ما يتعايش به من المطعوم والمشروب وما تكون به الحياة يقال عاش يعيش عيشا ومعاشا ومعيشا قال الزجاج : المعيشة ما يتوصلون به إلى العيش والمعيشة عند الأخفش وكثير من النحويين مفعلة وقرأ الأعرج معائش بالهمزة وكذا روى خارجة بن مصعب عن نافع قال النحاس : والهمز لحن لا يجوز لأن الواحدة معيشة والياء أصيلة كمدينة ومداين وصحيفة وصحايف قوله : { قليلا ما تشكرون } الكلام فيه كالكلام فيما تقدم قريبا من قوله تعالى : { قليلا ما تذكرون } (2/278)
قوله : 11 - { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } هذا ذكر نعمة أخرى من نعم الله على عبيده والمعنى : خلقناكم نطفا ثم صورناكم بعد ذلك وقيل المعنى : خلقنا آدم من تراب ثم صورناكم في ظهره وقيل : { ولقد خلقناكم } يعني آدم ذكر بلفظ الجمع لأنه أبو البشر { ثم صورناكم } راجع إليه ويدل عليه { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } فإن ترتيب هذا القول على الخلق والتصوير يفيد أن المخلوق المصور آدم عليه السلام وقال الأخفش : إن ثم في { ثم صورناكم } بمعنى الواو وقيل المعنى : خلقناكم من ظهر آدم ثم صورناكم حين أخذنا عليكم الميثاق قال النحاس : وهذا أحسن الأقوال وقيل المعنى : ولقد خلقنا الأرواح أولا ثم صورنا الأشباح ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم : أي أمرناهم بذلك فامتثلوا الأمر وفعلوا السجود بعد الأمر { إلا إبليس } قيل : الاستثناء متصل بتغليب الملائكة على إبليس لأنه كان منفردا بينهم أو كما قيل : لأن من الملائكة جنسا يقال لهم : الجن وقيل غير ذلك وقد تقدم تحقيقه في البقرة قوله : { لم يكن من الساجدين } (2/279)
وجملة 12 - { قال ما منعك أن لا تسجد } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قال له الله ؟ و لا في { أن لا تسجد } زائدة للتوكيد بدليل قوله تعالى في سورة ص : { ما منعك أن تسجد } وقيل : إن منع بمعنى قال والتقدير : من قال لك أن لا تسجد وقيل منع بمعنى دعا : أي ما دعاك إلى أن لا تسجد وقيل في الكلام حذف والتقدير : ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى أن لا تسجد { إذ أمرتك } : أي وقت أمرتك وقد استدل به على أن الأمر للفور والبحث مقرر في علم الأصول والاستفهام في { ما منعك } للتقريع والتوبيخ وإلا فهو سبحانه عالم بذلك وجملة { قال أنا خير منه } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فما قال إبليس ؟ وإنما قال في الجواب أنا خير منه ولم يقل منعني كذا لأن في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة ما يدل على المانع وهو اعتقاده أنه أفضل منه والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول مع ما تفيده هذه الجملة من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله ثم علل ما ادعاه من الخيرية بقوله : { خلقتني من نار وخلقته من طين } اعتقادا منه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين وقد أخطأ عدو الله فإن عنصر الطين أفضل من عنصر النار من جهة رزانته وسكونه وطول بقائه وهي حقيقة مضطربة سريعة النفاد ومع هذا فهو موجود في الجنة دونها وهي عذاب دونه وهي محتاجة إليه لتتحيز فيه وهو مسجد وطهور ولولا سبق شقاوته وصدق كلمة الله عليه لكان له بالملائكة المطيعين لهذا الأمر أسوة وقدوة فعنصرهم النوري أشرف من عنصره الناري (2/279)
وجملة 13 - { قال فاهبط } استئنافية كالتي قبلها والفاء لترتيب الأمر بالهبوط على مخالفته للأمر : أي اهبط من السماء التي هي محل المطيعين من الملائكة الذين لا يعصون الله فيما أمرهم إلى الأرض التي هي مقر من يعصي ويطيع فإن السماء لا تصلح لمن يتكبر ويعصي أمر ربه مثلك ولهذا قال : { فما يكون لك أن تتكبر فيها } ومن التفاسير الباطلة ما قيل إن معنى { اهبط منها } أي اخرج من صورتك النارية التي افتخرت بها صورة مظلمة مشوهة وقيل : المراد هبوطه من الجنة وقيل : من زمرة الملائكة وجملة { فاخرج } لتأكيد الأمر بالهبوط وجملة { إنك من الصاغرين } تعليل للأمر : أي إنك من أهل الصغار والهوان على الله وعلى صالحي عباده وهكذا كل من تردى برداء الاستكبار عوقب بلبس رداء الهوان والصغار ومن لبس رداء التواضع ألبسه الله رداء الترفع (2/280)
وجملة 14 - { قال أنظرني إلى يوم يبعثون } استئنافية كما تقدم في الجمل السابقة : أي أمهلني إلى يوم البعث وكأنه طلب أن لا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده والضمير في { يبعثون } لآدم وذريته (2/280)
فأجابه الله بقوله : 15 - { إنك من المنظرين } أي الممهلين إلى ذلك اليوم ثم تعاقب بما قضاه الله لك وأنزله بك في دركات النار قيل : الحكمة في إنظاره ابتلاء العباد ليعرف من يطيعه ممن يعصيه (2/280)
وجملة 16 - { قال فبما أغويتني } مستأنفة كالجمل السابقة واردة جوابا لسؤال مقدر والباء في { فبما } للسببية والفاء لترتيب الجملة على ما قبلها وقيل : الباء للقسم كقوله : { فبعزتك لأغوينهم أجمعين } أي فبإغوائك إياي { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } والإغواء : الإيقاع في الغي وقيل : الباء بمعنى اللام وقيل بمعنى مع والمعنى : فمع إغوائك إياي وقيل : { ما } في { فبما أغويتني } للاستفهام والمعنى : فبأي شيء أغويتني والأول أولى ومراده بهذا الإغواء الذي جعله سببا لما سيفعله مع العباد هو ترك السجود منه وأن ذلك كان بإغواء الله له حتى اختار الضلالة على الهدى وقيل : أراد به اللعنة التي لعنه الله : أي فبما لعنتني فأهلكتني لأقعدن لهم ومنه { فسوف يلقون غيا } أي هلاكا وقال ابن الأعرابي : يقال : غوى الرجل يغوي غيا : إذا فسد عليه أمره أو فسد هو نفسه ومنه { وعصى آدم ربه فغوى } أي فسد عيشه في الجنة { لأقعدن لهم } أي لأجدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسبب تركي السجود لأبيهم والصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الجنة وانتصابه على الظرفية : أي في صراطك المستقيم كما حكى سيبويه ضرب زيد الظهر والبطن واللام في { لأقعدن } لام القسم والباء في { بما أغويتني } متعلقة بفعل القسم المحذوف : أي فبما أغويتني أقسم لأقعدن (2/280)
قوله : 17 - { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } ذكر الجهات الأربع لأنها هي التي يأتي منها العدو عدوه ولهذا ترك ذكر جهة الفوق والتحت وعدي الفعل إلى الجهتين الأوليين بمن وإلى الآخريين بعن لأن الغالب فيمن يأتي من قدام وخلف أن يكون متوجها إلى ما يأتيه بكلية بدنه والغالب فيمن يأتي من جهة اليمين والشمال أن يكون منحرفا فناسب في الأوليين التعدية بحرف الابتداء وفي الأخريين التعدية بحرف المجاوزة وهو تمثيل لوسوسته وتسويله بمن يأتي حقيقة وقيل : المراد { من بين أيديهم } من دنياهم { ومن خلفهم } من آخرتهم { وعن أيمانهم } من جهة حسناتهم { وعن شمائلهم } من جهة سيئاتهم واستحسنه النحاس قوله : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } أي وعند أن أفعل ذلك لا تجد أكثرهم شاكرين لتأثير وسوستي فيهم وإغوائي لهم وهذا قاله على الظن ومنه قوله تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } وقيل : إنه سمع ذلك من الملائكة فقاله وعبر بالشكر عن الطاعة أو هو على حقيقته وأنهم لم يشكروا الله بسبب الإغواء (2/281)
وجملة 18 - { قال اخرج منها } استئناف كالجمل التي قبلها : أي من السماء أو الجنة أو من بين الملائكة كما تقدم { مذؤوما } أي مذموما من ذأمه إذا زمه يقال : ذأمته وذممته بمعنى وقرأ الأعمش مذموما وقرأ الزهري مذوما بغير همزة وقيل المذءوم : المنفي والمدحور : المطرود قوله : { لمن تبعك منهم } قرأ الجمهور بفتح اللام على أنها لام القسم وجوابه { لأملأن جهنم منكم أجمعين } وقيل : اللام في { لمن تبعك } للتوكيد وفي { لأملأن } لام القسم والأول أولى وجواب القسم سد سد جواب الشرط لأن من شرطية وفي هذا الجواب من التهديد ما لا يقادر قدره وقرأ عاصم في رواية عنه : { لمن تبعك } بكسر اللام وأنكره بعض النحويين قال النحاس : وتقديره والله أعلم من أجل من اتبعك كما يقال : أكرمت فلانا لك وقيل : هو علة لأخرج وضمير { منكم } له ولمن اتبعه وغلب ضمير الخطاب على ضمير الغيبة والأصل منك ومنهم
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { والوزن يومئذ الحق } قال : العدل { فمن ثقلت موازينه } قال : حسناته { ومن خفت موازينه } قال : حسناته وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي توزن الأعمال وقد ورد في كيفية الميزان والوزن والموزون أحاديث كثيرة وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يصاح برجل من أمتى على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فيقول : أتنكر من هذا شيئا ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يا رب فيقول : أفلك عذر أو حسنة ؟ فيهاب الرجل فيقول : لا يا رب فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ] وقد صححه أيضا الترمذي وإسناده أحمد حسن وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } قال : خلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في أرحام النساء وأخرج الفريابي عنه أنه قال : خلقوا في ظهر آدم ثم صوروا في الأرحام وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : أما خلقناكم فآدم وأما ثم صورناكم فذريته وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال : خلق إبليس من نار العزة وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من نار وخلق آدم مما وصفه لكم ] وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : أول من قاس إبليس في قوله : { خلقتني من نار وخلقته من طين } وإسناده صحيح إلى الحسن وأخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله له اسجد لآدم فقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ] قال جعفر : فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس وينبغي أن ينظر في إسناد هذا الحديث فما أظنه يصح رفعه وهو لا يشبه كلام النبوة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { فبما أغويتني } أضللتني وأخرج عبد بن حميد عنه في قوله : { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } قال : طريق مكة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن مسعود مثله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس { وعن أيمانهم } أشبه عليهم أمر دينهم { وعن شمائلهم } قال : أسن لهم المعاصي وأحق عليهم الباطل { ولا تجد أكثرهم شاكرين } قال : موحدين وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه { ثم لآتينهم من بين أيديهم } يقول من حيث يبصرون { ومن خلفهم } من حيث لا يبصرون { وعن أيمانهم } من حيث يبصرون { وعن شمائلهم } من حيث لا يبصرون وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عنه أيضا في الآية قال : لم يستطع أن يقول من فوقهم وفي لفظ علم أن الرحمة تنزل من فوقهم وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { مذؤوما } قال : ملوما مدحورا : قال مقيتا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد { مذؤوما } قال : منفيا { مدحورا } قال : مطرودا (2/281)
قوله : 19 - { ويا آدم } هو على تقدير القول : أي وقلنا يا آدم قال له هذا القول بعد إخراج إبليس من الجنة أو من السماء أو من بين الملائكة كما تقدم وقد تقدم معنى الإسكان ومعنى { لا تقربا هذه الشجرة } في البقرة ومعنى { من حيث شئتما } من أي نوع من أنواع الجنة شئتما أكله ومثله ما تقدم من قوله تعالى : { وكلا منها رغدا حيث شئتما } وحذف النون من { فتكونا } لكونه معطوفا على المجزوم أو منصوبا على أنه جواب النهي (2/283)
قوله : 20 - { فوسوس لهما الشيطان } الوسوسة : الصوت الخفي والوسوسة : حديث النفس يقال : وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواسا بكسر الواو والوسوسة بالفتح الاسم : مثل الزلزلة والزلزال ويقال : لهمس الصائد والكلاب وأصواب الحلى وسواس قال الأعشى :
( تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت )
والوسواس : اسم الشيطان ومعنى وسوس له وسوس إليه أو فعل الوسوسة لأجله قوله : { ليبدي لهما } أي ليظهر لهما واللام للعاقبة كما في قوله : { ليكون لهم عدوا وحزنا } وقيل هي لام كي : أي فعل ذلك ليتعقبه الإيذاء أو لكي يقع الإيذاء قوله : { ما وري } أي ما ستر وغطى { عنهما من سوآتهما } سمى الفرج سوءة لأن ظهوره يسوء صاحبه أراد الشيطان أن يسوءهما بظهور ما كان مستورا عنهما من عوراتهما فإنهما كانا لا يريان عورة أنفسهما ولا يراها أحدهما من الآخر وإنما لم تقلب الواو في { وري } همزة لأن الثانية مدة قيل : إنما بدت عورتهما لهما لا لغيرهما وكان عليهما نور يمنع من رؤيتها { وقال } أي الشيطان لهما { ما نهاكما ربكما عن } أكل هذه الشجرة { إلا أن تكونا ملكين } أن في موضع نصب وفي الكلام مضاف محذوف تقديره : ولا كراهة أن تكونا ملكين هكذا قال البصريون وقال الكوفيون : التقدير لئلا تكونا ملكين { أو تكونا من الخالدين } في الجنة أو من الذين لا يموتون قال النحاس : فضل الله الملائكة على جميع الخلق في غير موضع في القرآن فمنها هذا ومنها { ولا أقول إني ملك } ومنها { ولا الملائكة المقربون } قال ابن فورك : لا حجة في هذه الآية لأنه يحتمل أن يريد ملكين في أن لا يكون لهما شهوة في الطعام
وقد اختلف الناس في هذه المسألة اختلافا كثيرا وأطالوا الكلام في غير طائل وليست هذه المسألة مما كلفنا الله بعلمه فالكلام فيها لا يعنينا وقرأ ابن عباس ويحيى بن أبي كثير والضحاك ملكين بكسر اللام وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه القراءة وقال : لم يكن قبل آدم ملك فيصيرا ملكين وقد احتج من قرأ بالكسر بقوله تعالى : { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } قال أبو عبيد : هذه حجة بينة لقراءة الكسر ولكن الناس على تركها فلهذا تركناها قال النحاس : هي قراءة شاذة وأنكر على أبي عبيد هذا الكلام وجعله من الخطأ الفاحش قال : وهل يجوز أن يتوهم على آدم عليه السلام أن يصل إلى أكثر من ملك الجنة وهي غاية الطالبين وإنما معنى { وملك لا يبلى } المقام في ملك الجنة والخلود فيه (2/284)
قوله : 21 - { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } أي حلف لهما فقال : أقسم قساما أي حلف ومنه قول الشاعر :
( وقاسمهما بالله جهدا لأنتما ... ألذ من السلوى ما إذا نشورها )
وصيغة المفاعلة وإن كانت في الأصل تدل على المشاركة فقد جاءت كثيرا لغير ذلك وقد قدمنا تحقيق هذا في المائدة والمراد بها هنا المبالغة في صدور الأقسام لهما من إبليس وقيل : إنهما أقسما له بالقبول كما أقسم لهما على المناصحة (2/285)
قوله : 22 - { فدلاهما بغرور } التدلية والإدلاء : إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل يقال أدلى دلوه : أرسلها والمعنى : أنه أهبطهما بذلك من الرتبة العليا إلى الأكل من الشجرة وقيل معناه : أوقعهما في الهلاك وقيل : خدعهما وأنشد نفطويه :
( إن الكريم إذا تشاء خدعته ... وترى اللئيم مجربا لا يخدع )
وقيل : معنى { دلاهما } دللهما من الدالة وهي الجرأة : أي جرأهما على المعصية فخرجا من الجنة قوله : { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } أي لما طعماها ظهرت لهما عوراتهما بسبب زوال ما كان ساترا لها وهو تقلص النور الذي كان عليها وقد تقدم في البقرة قوله : { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } طفق يفعل كذا : بمعنى شرع يفعل كذا وحكى الأخفش : طفق يطفق مثل ضرب يضرب : أي شرعا أو جعلا يخصفان عليهما قرأ الحسن يخصفان بكسر الخاء وتشديد الصاد والأصل يختصفان فأدغم وكسرت الخاء لالتقاء الساكنين وقرأ ابن بريدة ويعقوب بفتح الخاء وقرأ الزهري يخصفان من أخصف وقرأ الجمهور يخصفان من خصف والمعنى : أنهما أخذا يقطعان الورق ويلزقانه بعورتهما ليستراها من خصف النعل : إذا جعله طبقة فوق طبقة { وناداهما ربهما } قائلا لهما : { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } التي نهيتكما عن أكلها وهذا عتاب من الله لهما وتوبيخ حيث لم يحذرا ما حذرهما منه { وأقل لكما } معطوف على أنهكما { إن الشيطان لكما عدو مبين } أي مظهر للعداوة (2/285)
قوله : 23 - { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } جملة استئنافية مبنية على تقدير سؤال كأنه قيل فماذا قالا ؟ وهذا منهما اعتراف بالذنب وأنهما ظلما أنفسهما مما وقع منهما من المخالفة ثم قالا : { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } (2/285)
وجملة 24 - { قال اهبطوا } استئناف كالتي قبلها والخطاب لآدم وحواء وذريتهما أو لهما ولإبليس وجملة { بعضكم لبعض عدو } في محل نصب على الحال { ولكم في الأرض مستقر } أي موضع استقرار { و } لكم { متاع } تتمتعون به في الدنيا وتنتفعون به من المطعم والمشرب ونحوهما { إلى حين } أي إلى وقت وهو وقت موتكم (2/285)
وجملة 25 - { قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون } استئنافية كالتي قبلها : أي في الأرض تحيون وفيها يأتيكم الموت ومنها تخرجون إلى دار الآخرة ومثله قوله تعالى : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } واعلم أنه قد سبق شرح هذه القصة مستوفى في البقرة فارجع إليه
وقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن وهب بن منبه في قوله : { ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما } قال : كان على كل واحد منهما نور لا يبصر كل واحد منهما سوءة صاحبه فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أتاهما إبليس فقال : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين مثله يعني مثل الله عز و جل فلم يصدقاه حتى دخل في جوف الحية فكلمهما وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في الآية { إلا أن تكونا ملكين } فإن أخطأكما أن تكونا ملكين لم يخطئكما أن تكونا خالدين فلا تموتان فيها أبدا { وقاسمهما } قال : حلف لهما { إني لكما لمن الناصحين } وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب في قوله : { فدلاهما بغرور } قال : مناهما بغرور وأخرج ابن المنذر وابن أبي شيبة عن عكرمة قال : لباس كل دابة منها ولباس الإنسان الظفر فأدركت آدم التوبة عند ظفره وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس قال : كان لباس آدم وحواء كالظفر فلما أكلا من الشجرة لم يبق عليهما إلا مثل الظفر { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } قال : ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : لما أسكن الله آدم الجنة كساه سربالا من الظفر فلما أصاب الخطيئة سلبه السربال فبقي في أطراف أصابعه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه نحوه من طريق أخرى وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك قال : كان لباس آدم في الجنة الياقوت فلما عصى قلص فصار الظفر وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وطفقا يخصفان } قال : يرقعان كهيئة الثوب وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي { وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } قال آدم : رب إنه حلف لي بك ولم أكن أعلم أن أحدا من خلقك يحلف بك إلا صادقا وأخرج عبد بن حميد عن الحسن : { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } الآية قال : هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك مثله (2/285)
عبر سبحانه بالإنزال عن الخلق : أي خلقنا لكم لباسا يواري سوآتكم التي أظهرها إبليس من أبويكم والسوءة العورة كما سلف والكلام في قدرها وما يجب ستره منها مبين في كتب الفروع قوله : { وريشا } قرأ الحسن وعاصم من رواية المفضل الضبي وأبو عمرو من رواية الحسن بن علي الجعفي ورياشا وقرأ الباقون وريشا والرياش جمع ريش : وهو اللباس قال الفراء : ريش ورياش كما يقال : لبس ولباس وريش الطائر ما ستره الله به وقيل المراد بالريش هنا : الخصب ورفاهية العيش قال القرطبي : والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة وحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة : وهبت له دابة وريشها : أي وما عليها من اللباس وقيل : المراد بالريش هنا لباس الزينة لذكره بعد قوله : { قد أنزلنا عليكم لباسا } وعطفه عليه قوله : { ولباس التقوى } قرأ أهل المدينة وابن عامر والكسائي بنصب لباس وقرأ الباقون بالرفع فالنصب على أنه معطوف على لباس الأول والرفع على أنه مبتدأ وجملة { ذلك خير } خبره والمراد بلباس التقوى : لباس الورع واتقاء معاصي الله وهو الورع نفسه والخشية من الله فذلك خير لباس وأجمل زينة وقيل : لباس التقوى الحياء وقيل : العمل الصالح وقيل : هو لباس الصوف والخشن من الثياب لما فيه من التواضع لله وقيل : هو الدرع والمغفر الذي يلبسه من يجاهد في سبيل الله والأول أولى وهو يصدق على كل ما فيه تقوى لله فيندرج تحته جميع ما ذكر من الأقوال ومثل هذه الاستعارة كثيرة الوقوع في كلام العرب ومنه :
( إذ المرء لم يلبس ثيابا من التقى ... تقلب عريانا وإن كان كاسيا )
ومثله :
( تغط بأثواب السخاء فإنني ... أرى كل عيب والسخاء غطاؤه )
والإشارة بقوله : { ذلك } إلى لباس التقوى : أي هو خير لباس وقرأ الأعمش { ولباس التقوى ذلك خير } والإشارة بقوله : { ذلك من آيات الله } إلى الإنزال المدلول عليه بأنزلنا : أي ذلك الإنزال من آيات الله الدالة على أنه له خالقا ثم كرر الله سبحانه النداء لبني آدم تحذيرا لهم من الشيطان (2/287)
فقال : 27 - { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان } أي لا يوقعنكم في الفتنة فالنهي وإن كان للشيطان فهو في الحقيقة لبني آدم بأن لا يفتتنوا بفتنته ويتأثروا لذلك والكاف في { كما أخرج } نعت مصدر محذوف : أي لا يفتننكم فتنة مثل إخراج أبويكم من الجنة وجملة { ينزع عنهما لباسهما } في محل نصب على الحال وقد تقدم تفسيره واللام في { ليريهما سوآتهما } لام كي : أي لكي يريهما وقد تقدم تفسيره أيضا قوله : { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } هذه الجملة تعليل لما قبلها مع ما تتضمنه من المبالغة في تحذيرهم منه لأن من كان بهذه المثابة يرى بني آدم من حيث لا يرونه كان عظيم الكيد وكان حقيقا بأن يحترس منه أبلغ احتراس { وقبيله } أعوانه من الشياطين وجنوده
وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أن رؤية الشياطين غير ممكنة وليس في الآية ما يدل على ذلك وغاية ما فيها أنه يرانا من حيث لا نراه وليس فيها أنا لا نراه أبدا فإن انتفاء الرؤية منا له في وقت رؤيته لنا لا يستلزم انتفاءها مطلقا ثم أخبر الله سبحانه بأنه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون من عباده وهم الكفار
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم } قال : كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة وفي قوله : { وريشا } قال : المال وأخرج ابن جرير عن عروة بن الزبير في قوله : { لباسا يواري سوآتكم } قال : الثياب { وريشا } قال : المال { ولباس التقوى } قال : خشية الله وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن علي في قوله : { لباسا يواري سوآتكم } قال : لباس العامة { وريشا } قال : لباس الزينة { ولباس التقوى } قال : الإسلام وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله : { وريشا } قال : المال واللباس والعيش والنعيم وفي قوله : { ولباس التقوى } قال : الإيمان والعمل الصالح { ذلك خير } قال : الإيمان والعمل خير من الريش واللباس وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وريشا } يقول : المال وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { ينزع عنهما لباسهما } قال : التقوى وفي قوله : { إنه يراكم هو وقبيله } قال : الجن والشياطين (2/288)
الفاحشة : ما تبالغ في فحشه وقبحه من الذنوب قال أكثر المفسرين : هي طواف المشركين بالبيت عراة وقيل : هي الشرك والظاهر أنها تصدق على ما هو أعم من الأمرين جميعا والمعنى : أنهم إذا فعلوا ذنبا قبيحا متبالغا في القبح اعتذروا عن ذلك بعذرين : الأول : أنهم فعلوا ذلك اقتداء بآبائهم لما وجدوهم مستمرين على فعل تلك الفاحشة والثاني : أنهم مأمورون بذلك من جهة الله سبحانه وكلا العذرين في غاية البطلان والفساد لأن وجود آبائهم على القبح لا يسوغ لهم فعله والأمر من الله سبحانه لهم لم يكن بالفحشاء بل أمرهم باتباع الأنبياء والعمل بالكتب المنزلة ونهاهم عن مخالفتهما ومما نهاهم عنه فعل الفواحش ولهذا رد الله سبحانه عليهم بأن أمر نبيه صلى الله عليه و سلم أن يقول لهم : 28 - { إن الله لا يأمر بالفحشاء } فكيف تدعون ذلك عليه سبحانه ثم أنكر عليهم ما أضافوه إليه فقال : { أتقولون على الله ما لا تعلمون } وهو من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بأن يقوله لهم وفيه من التقريع والتوبيخ أمر عظيم فإن القول بالجهل إذا كان قبيحا في كل شيء فكيف إذا كان في التقول على الله ؟ وإن في هذه الآية الشريفة لأعظم زاجر وأبلغ واعظ للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق فإنهم القائلون : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } والقائلون : { وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } والمقلد لولا اغتراره بكونه وجد أباه على ذلك المذهب مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به وأنه الحق لم يبق عليه وهذ الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على اليهودية والنصراني على النصرانية والمبتدع على بدعته فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية والنصرانية أو البدعية وأحسنوا الظن بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به ولم ينظروا لأنفسهم ولا طلبوا الحق كما يجب وبحثوا عن دين الله كما ينبغي وهذا هو التقليد البحت والقصور الخالص فيا من نشأ على مذهب من هذه المذاهب الإسلامية أنا لك النذير المبالغ في التحذير من أن تقول هذه المقالة وتستمر على الضلالة فقد اختلط الشر بالخير والصحيح بالسقيم وفاسد الرأي بصحيح الرواية ولم يبعث الله إلى هذه الأمة إلا نبيا واحدا أمرهم باتباعه ونهى عن مخالفته فقال : { ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ولو كان محض رأي أئمة المذاهب وأتباعهم حجة على العباد لكان لهذه الأمة رسل كثيرون متعددون بعدد أهل الرأي المكلفين للناس بما لم يكلفهم الله به وإن من أعجب الغفلة وأعظم الذهول عن الحق اختيار المقلدة لآراء الرجال مع وجود كتاب الله ووجود سنة رسوله ووجود من يأخذونهما عنه ووجود آلة الفهم لديهم وملكة العقل عندهم (2/289)
قوله : 29 - { قل أمر ربي بالقسط } القسط : العدل وفيه أن الله سبحانه يأمر بالعدل لا كما زعموه من أن الله أمرهم بالفحشاء وقيل : القسط هنا هو لا إله إلا الله وفي الكلام حذف : أي قل أمر ربي بالقسط فأطيعوه قوله : { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } معطوف على المحذوف المقدر : أي توجهوا إليه في صلاتكم إلى القبلة في أي مسجد كنتم أو في كل وقت سجود أو في كل مكان سجود على أن المراد بالسجود الصلاة { وادعوه مخلصين له الدين } أي ادعوه أو اعبدوه حال كونكم مخلصين الدعاء أو العبادة له وقيل : وحدوه ولا تشركوا به قوله : { كما بدأكم تعودون } الكاف نعت مصدر محذوف وقال الزجاج : هو متعلق بما قبله والمعنى : كما أنشأكم في ابتداء الخلق يعيدكم فيكون المقصود الاحتجاج على منكري البعث فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وقيل : كما أخرجكم من بطون أمهاتكم تعودون إليه كذلك ليس معكم شيء فيكون مثل قوله تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } وقيل : كما بدأكم من تراب تعودون إلى التراب (2/290)
30 - { فريقا هدى } منتصب بفعل يفسره ما بعده وقيل : منتصب على الحال من المضمر في تعودون : أي تعودون فريقين : سعداء وأشقياء ويقويه قراءة أبي فريقين فريقا هدى والفريق الذي هداه الله هم المؤمنون بالله المتبعون لأنبيائه والفريق الذي حقت عليه الضلالة هم الكفار قوله : { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله } تعليل لقوله : { وفريقا حق عليهم الضلالة } أي ذلك بسبب أنهم أطاعوا الشياطين في معصية الله ومع هذا فإنهم { يحسبون أنهم مهتدون } ولم يعترفوا على أنفسهم بالضلالة وهذا أشد في تمردهم وعنادهم
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { والذين إذا فعلوا فاحشة } قال : كانوا يطوفون بالبيت عراة فنهوا عن ذلك وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب نحوه وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال : والله ما أكرم الله عبدا قط على معصيته ولا رضيها له ولا أمر بها ولكن رضي لكم بطاعته ونهاكم عن معصيته وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { أمر ربي بالقسط } قال : بالعدل { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } قال : إلى الكعبة حيث صليتم في كنيسة أو غيرها { كما بدأكم تعودون } قال : شقي وسعيد وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { كما بدأكم تعودون } الآية قال : إن الله بدأ خلق بني آدم مؤمنا وكافرا كما قال { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا وأخرج ابن جرير عن جابر في الآية قال : يبعثون على ما كانوا عليه : المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عنه أنه ذكر القدرية فقال : قاتلهم الله أليس قد قال الله تعالى : { كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية : يقول كما خلقناكم أول مرة كذلك تعودون (2/290)