" صفحة رقم 56 "
فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤوس قنوط ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط " ( بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الخامس والعشرون من أجزاء القرآن الكريم القراآت : ( ربنا أرنا ( بسكون الراء : ابن كثير وابن عامر وأبو بكر ورويس أبو عمرو بالاختلاس .
الآخرون : بكسر الراء .
) اللذين ( بتشديد النون : ابن كثير .
) يلحدون ( بفتح الياء والحاء : حمزة .
الباقون : بضم الياء وكسر الحاء ) أعجمي ( بهمزة واحدة : هشام .
وقرأ بتحقيق الهمزتين : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص إلا الخزاز .
الباقون : بالمد ) ثمرات ( على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص والمفضل .
) شركاي ( مثل ) من وراي ( على وزن ) عصاي ( قد مر في سورة مريم ) إلى ربي ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) ونأتى بجانب ( وقد مر في السورة ) سبحان الذي أسرى ( .
الوقوف : ( والإنس ( ج للابتداء بأن مع احتمال كونه جواب القسم في حق ) خاسرين ( 5 ) تغلبون ( 5 ) يعملون ( 5 ) النار ( ج لأن ما بعده يصلح مستأنفاً وحالاً أي كائناً لهم فيها ) دار الخلد ( ج ) يجحدون ( 5 ) الأسفلين ( 5 ) توعدون ( 5 ) وفي الآخرة ( ج لانقطاع النظم بتقدير الجار مع اتحاد المقول ) تدعون ( 5 ط لحق المحذوف أي أصبتم أو وجدتم نزلاً ) رحيم ( 5 ) المسلمين ( 5 ) السيئة ( ط ) حميم ( 5 ) صبروا ( ج لاتفاق الجملتين مع تكرارها للتوكيد ) عظيم ( 5 ) بالله ( ط ) العليم ( 5 ) والقمر ( ط(6/56)
" صفحة رقم 57 "
) تعبدون ( 5 ) يسأمون ( 5 سجدة ) اهتزت وربت ( ط ) الموتى ( ط ) قدير ( 5 ) علينا ( ط ) القيامة ( ط ) شئتم ( 5 لا ليكون ما بعده دالاً على أنه أمر تهديد ) بصير ( 5 ) لما جاءهم ( ج لأن خبر أن محذوف فيتقدر ههنا أو بعد قوله ) من خلفه ( كما يجيء ) عزيز ( 5 لا لاتصال الصفة ) من خلفه ( ط ) حميد ( 5 ) من قبلك ( ط ) أليم ( 5 ) وآياته ( ط ) وعربي ( ط ) وشفاء ( ط ) عمى ( ط ) بعيد ( 5 ) فيه ( ط ) بينهم ( ط ) مريب ( 5 ) فعليها ( ط ) للعبيد ( 5 ) الساعة ( ط ) بعلمه ( ط ج ) شركائي ( لا لأن ) قالوا ( عامل ) يوم ( ) آنذاك ( لا لأنه في معنى القول وقع على الجملة بعده ) من شهيد ( 5 ج للآية مع العطف ) محيص ( 5 ) الخير ( ز لاختلاف الجملتين إلا أن مقصود الكلام يتم بهما ) قنوط ( 5 ) هذا لي ( لا تحرز إعمالاً يقوله مسلم قائمة كذلك ) للحسنى ( 5 ج لابتداء الأمر بالتوكيد مع فاء التعقيب ) عملوا ( إمهالاً للتذكر في الحالتين مع اتفاق الجملتين ) غليظ ( 5 ) بجانبه ( ج فصلاً بين تناقض الحالين مع اتفاق الجملتين ) عريض ( 5 ) بعيد ( 5 ) الحق ( ط ) شهيد ( 5 ) ربهم ( ج ) محيط ( 5 .
التفسير : لما ذكر وعيد الكفار أردفه بذكر السبب الذي لأجله وقعوا في ذلك الكفر .
ومعنى ) قيضنا ( سببنا لهم من حيث لا يحتسبون أو قدرنا أو سلطنا وأصله من القيض وهو البدل ، والمقايضة المعاوضة كأن القرينين يصلح كل منهما أن يقوم مقام الآخر .
والقرناء إخوانهم من الشياطين جمع قرين ) فزينوا لهم ما بين أيديهم ( وهو الدنيا وما فيها من الشهوات ) وما خلفهم ( وهو الآخرة بأن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب وقيل : ما بين أيديهم أعمالهم التي عملوها ، وما خلفهم ما عزموا على فعله وزينوا لهم فعل مفسدي زمانهم والذين تقدم عصرهم .
والآية على مذهب الأشاعرة واضحة .
وقالت المعتزلة : معناها أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين .
ومعنى ) في أمم ( كائنين في جملة أمم وقد مر في أوائل الأعراف كانوا يقولون إذا سمعتم القرآن من محمد فارفعوا أصواتكم باللغو وهو الساقط من الكلام فنزلت ) وقال الذين كفروا ( الآية .
يقال : لغى بكسر الغين يلغى بالفتح ، ولغا يلغو فلهذا قرىء بالضم أيضاً ، والمقصود أنهم علموا أن القرآن كلام كامل لفظاً ومعنى ، وكل من سمعه ووقف على معانيه وأنصف حكم بأنه واجب القبول فدبروا هذا التدبير الفاسد وهو قول بعضهم لبعض ) لا تسمعوا لهذا القرآن ( إذا قرىء وتشاغلوا عن قراءته برفع الصوت بالمكاء والهذيان والرجز ) لعلكم تغلبون ( القارىء على قراءته فلا يحصل غرضه من التفهيم والإرشاد .
وحين حكى حيلتهم ذكر وعيدهم بقوله ) فلنذيقن ( الآية .
والمضاف في قوله(6/57)
" صفحة رقم 58 "
) أسوأ ( محذوف أي جزاء أسوأ الذي ولذلك أشار اليه بقوله ) ذلك جزاء أعداء الله ( وقوله ( النار ( بدل من الجزاء أو خبر مبتدأ مضمر .
و ) دار الخلد ( موضع المقام .
قال الزجاج : هو كما يقول لك في هذه الدار دار السرور وأنت تعني الدار بعينها وقد وضع قوله ) بما كانوا بآياتنا يجحدون ( موضع أن لو قال بما كانوا يلغون إقامة للسبب مقام المسبب ثم حكى عنهم ما سيقولون في النار وهو قولهم ) ربنا أرنا ( أي أبصرنا ) اللذين أضلانا من الجن والإنس ( وذلك أن الشياطين ضربان : جني وإنسي ، وقد ورد في القرآن كثيراً ، وقيل : هما إبليس الذي سن الكفر ، وقابيل الذي سن القتل .
ومن قرأ بسكون الراء فلثقل الكسرة .
وقد يقال : معناه إذ ذاك أعطناه .
وحكوا عن الخليل أنك إذا قلت أرني ثوبك بالكسر فمعناه بصرنيه ، وإذا قلت بالسكون فهو بمعنى الإعطاء ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء وأصله الإحضار .
) نجعلهما تحت أقدامنا ( أي نطأهما إذلالاً وإهانة ) ليكونا من الأسفلين ( الأذلين وقيل : في الدرك الأسفل .
وتأوله بعض حكماء الإسلام بأنهما الشهوة والغضب المشار إليهما في قوله ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) [ البقرة : 30 ] كأنهم سألوا توفيق أن يجعلوا القرينين تحت قدم النفس الناطقة .
وحين أطنب في الوعيد أردفه بالوعد على العادة المستمرة فقوله ) ربنا الله ( إشارة إلى العلوم النظرية التي هذه المسألة رأسها وأصلها .
وقوله ( ثم استقاموا ( إشارة إلى الحكمة العملية وجملتها الاستقامة على الوسط دون الميل إلى أحد شقي الإفراط والتفريط كما سبق تقرير ذلك في تفسير قوله ) اهدنا الصراط المستقيم ) [ الفاتحة : 5 ] ومعنى ( ثم ) تراخي الاستقامة في الرتبة عن الإقرار ، وفيه أن حصول العلوم النظرية بدون القسم العملي كشجرة بلا ثمرة .
وقال أهل العرفان : قالوا ربنا الله يوم الميثاق في عالم الأرواح ، ثم استقاموا على ذلك في عالم الأشباح .
وعن أبي بكر الصديق : معناه لم يلتفتوا إلى إله غيره .
) تتنزل عليهم الملائكة ( عند الموت أو عنده وفي القبر وفي القيامة .
و ( أن ) مفسرة أو مخففة .
ولقد فسرنا الخوف والحزن مراراً والإبشار لازم .
قال الجوهري : يقال بشرته بمولود فأبشر إبشاراً .
وقوله ( ألا تخافوا ولا تحزنوا ( إشارة إلى رفع المضار في المآل وفي الحال .
وقوله ( وأبشروا ( إخبار عن حصول المنافع .
وقوله ( نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا ( يقابل قوله ) وقضينا لهم قرناء ( فللملائكة تأثيرات في الأرواح بالإلهامات الحسنة والخواطر الشريفة كما للشياطين تأثيرات بإلقاء الوساوس والهواجس ، وقد تقدم في أول الكتاب في تفسير الاستعاذة .
وإذا كانت هذه الولاية ثابتة في الدنيا بحكم المناسبة النورية كانت بعد الموت أقوى وأظهر لزوال العلائق الجسمانية .
وقيل : في الحياة الدنيا(6/58)
" صفحة رقم 59 "
بالاستغفار .
) وفي الآخرة ( بالشفاعة .
وقيل : كما نحفظم في الدنيا ولا نفارقكم في الآخرة حتى تدخلوا الجنة ) ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ( يعني الحظوظ الجسمانية ) ولكم فيها ما تدعون ( أي تمنون من المواهب الروحانية ، وقد مر في ( يس ) سائر الوجوه .
والنزل ما يهيأ للضيف وقد مر .
وفي ذكر الغفور الرحيم ههنا مناسبة لا تخفى .
قال أهل النظم إن القوم لما أتوا بأنواع السفاهة والإيذاء كقولهم ) قلوبنا غلف ) [ البقرة : 88 ] ( لا تسمعوا لهذا القرآن ( حرض سبحانه نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) على مواظبة التبليغ والدعوة واحتمال أعباء الرسالة والتزام السيرة الفاضلة إظهار المزيتة على الجهال وتحصيلاً للغرض بالرفق واللطف ما أمكن فقال ) ومن أحسن قولاً ( ووجه آخر في النظم وهو أنه لما مدح الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وذكر جزاءهم وهم أهل الكمال ، أراد أن يبين حال المشتغلين بتكميل الناقصين .
زعم بعض المفسرين أن المراد بهذا الدعاء الأذان ، والعمل الصالح الصلاة بين الأذان والإقامة ، ورفعوه إلى عائشة .
والأصح أنه عام لجميع الأئمة والدعاة إلى طاعة الله وتوحيده ، ولا ريب أن مصطفاهم ومقتداهم هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وآله وبعده العلماء بالله وهم الحكماء المتألهون ، وبعدهم العلماء بصفات الله وهم الأصوليون ، ثم العلماء بأحكام الله وهم الفقهاء ، ثم الملوك العادلون الذين يدعون إلى الله بالسيف والسبب .
وفي الاستفهام الإنكاري دلالة على أنه لا قول أحسن من الدعاء إلى الله فمن زعم أنه الأذان ذهب إلى أنه واجب وإلا لكان الواجب أحسن منه .
ونوقض بأنا نعلم بالدلائل اليقينية أن الدعوة إلى الدين القويم بالحجة أو السيف أحسن من الأذان فلا يدخل الأذان تحت الآية .
قال جار الله : ليس معنى قوله ) وقال إنني من المسلمين ( أنه تكلم بهذا الكلام ، ولكن المراد أنه جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده كما تقول : هذا قول أبي حنيفة .
وقال آخرون : أراد به التلفظ به تفاخراً بالإسلام وتمدحاً .
وزعموا أن فيه إبطال قول من جوز : أنا مسلم إن شاء الله .
فإنه لو كان ذلك معتبراً لورد في الآية كذلك ولا يخفى ضعفه ، فإن التجويز غير الإيجاب .
ثم صبر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) على سفاهة الكفار وعلمه الأدب الجميل في باب الدعاء أي الدين بل في مطلق أمور التمدن فقال ) ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ( ( لا ) زائدة لتأكيد نفي الاستواء ، والمعنى لا تستوي الحسنة والسيئة قط ومثالهما الإيمان والشرك والحلم والغضب والطاعة والمعصية واللطف والعنف ثم إن سائلاً كأنه سأل : فكيف تصنع ؟ فأجيب ) ادفع بالتي هي أحسن ( فإن الحسنة أحسن من السيئة كما يقال : الصيف أحر من الشتاء وذهب صاحب الكشاف إلى أن ( لا ) غير مزيدة والمعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة .
مثاله : رجل أساء إليك فالحسنة أن تعفو عنه والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إسائته .
قال :(6/59)
" صفحة رقم 60 "
ومن جعل ( لا ) مزيدة فالقياس على تفسيره أن يقال : ادفع بالتي هي حسنة .
ولكنه وضع أحسن موضع الحسنة ليكون أبلغ لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما هو دونها .
قال العارفون : الحسنة التوجه إلى الله بصدق الطلب ، والسيئة الالتفات إلى غيره .
) فإذا الذي ( إذا فعلت ذلك انقلب عدوك ولياً مصافياً .
قال مقاتل : نزلت في أبي سفيان وكان مؤذياً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصار يتحاب بعد ذلك لما رأى من لطف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعطفه .
ثم مدح هذه السيرة وأهلها بقوله ) وما يلقاها إلا الذين صبروا ( أي لا يعمل بها إلا كل صبار على تجرع المكاره .
) وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ( من قوة جوهر النفس الناطقة بحيث لا يتأثر من الواردات الخارجية ، وقد يفسر الحظ العظيم بالثواب الجزيل .
وعن الحسن : ما عظم حفظ دون الجنة ثم ذكر طريقاً آخر في دفع الغضب والانتقام قائلاً ) وإما ينزغنك ( وقد مر في آخر الأعراف .
والمعنى إن صرفك الشيطان عما أمرت به فاستعذ بالله من شره وإنما قال ههنا ) إنه هو السميع العليم ( بالفصل وتعريف الخبر ليكون مناسباً لما تقدّمه من قوله ) وما يلقاها ( مؤكداص بالتكرار وبالنفي والإثبات ولم يكن هذا المقتضى في الأعراف فجاء على أصل الاسم معرفة والخبر نكرة .
وحين ذكر أن أحسن الأقوال هو الدعوة إلى الله بين الدلائل على وجوده فقال ) ومن آياته ( الخ .
والضمير في ) خلقهن ( للآيات أو الليل وما عطف عليه .
ولم يغلب المذكر لأن ذلك قياس مع العقلاء .
وفي قوله ) إن كنتم إياه تعبدون ( تزييف لطريقة الصابئين وسائر عبدة الكواكب جهلاً منهم وزعماً أنها الواسطة بين الخلق والإله ، فنهوا عن هذا التوسيط لأن ذلك مظنة العبادة المستقلة لرفعة شأنها وارتفاع مكانها ، وهذا بخلاف التوجه في الصلاة إلى القبلة فإن الحجر قلما يظن به أنه معبود بالحق والجزم حاصل بأنه لتوحيد متوجهات المصلين عند صلاتهم مع أن للبيت شرفاً ظاهراً في نفسه ) فإن استكبروا ( عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر ) فالذين عند ربك ( عندية بالشرف والرتبة وهم الملائكة المقربون ) يسبحون له بالليل والنهار ( أي على الدوام والاستمرار ) وهم لا يسأمون ( من السآمة والملالة .
والحاصل أنهم إن يمتثلوا ما أمروا به ونهوا عنه وأبوا إلا الواسطة فدعهم وشأنهم فإن ربك لا يعدم عابداً مخلصاً .
ولما فرغ من تقرير الآيات السماوية شرع في الدلائل الأرضية فقال ) ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ( وأصل الخشوع التذلل فاستعير للأرض التي لا خضرة بها ولا نفع كما وصفها بالهمود وقد مرّ في سورة الحج ، وذلك أنها إذا اهتزت وربت أي انتفخت حين يهم النبت بالخروج منها كانت بمنزلة المختال في زيه وهي قبل ذلك كالفير الكاسف البال(6/60)
" صفحة رقم 61 "
المتلبس بثوب أطمار .
وبعد تقرير الدلائل الباهرة ذكر وعيد الملحدين في آياته المنحرفين عن الجادة والوعيد قوله ) لا يخفون علينا ( وكفى به وعيداً .
ثم أكده بالاستفهام على سبيل التقرير وهو قوله ) أفمن يلقى ( الخ .
وقوله ( يوم القيامة ( ظرف لآمنا أو ليأتي .
ثم هددهم بقوله ) اعملوا ما شئتم ( الخ .
ثم أبدل من قوله ) إن الذين كفروا بالذكر ( أي القرآن لأنهم بكفرهم به طعنوا فيه وحرفوا معانيه ، وعلى هذا فالخبر هو ما تقدم من قوله ) لا يخفون ( وإنه كلام مستأنف .
وعلى هذا فاختلفوا في خبر ( إن ) .
فالأكثرون على أنه ) أولئك ينادون ( وما بينهما اعتراض من تتمة الذكر .
وقيل : خبره ما يقال إذ التقدير ما يقولون لك .
وقيل : هو محذوف .
ثم اختلفوا فقال قوم : إن الذين كفروا بالذكر كفروا لما جاءهم .
وقال آخرون : هلكوا أو يجازون بكفرهم ونحو ذلك ، وهذا يمكن تقديره بعد قوله ) لما جاءهم ( وبعد قوله ) من خلفه ( وبعد قوله ) حميد ( والعزيز معناه الغالب القاهر بقوة حجته على ما سواه من الكتب ، والمراد أنه عديم النظير لأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته .
ثم أكد هذا الوصف بقوله ) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ( قال جار الله : وهو تمثيل أي لا يتطرق البطلان إليه بجهة من الجهات فلا ينقص منه شيء ولا يزاد عليه شيء .
وقيل : أراد أنه لا تكذبه الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل ولن يجيء بعده ما يخالفه .
وقد يحتج أبو مسلم بالآية على عدم وقوع النسخ في القرآن زعماً منه أن النسخ نوع من البطلان ، ولا يخفى ضعفه فإن بيان انتهاء حكم لا يقتضي إبطاله فإنه حق في نفسه ومأمور به في وقته .
) تنزيل ( أي هو منزل ) من ( إله ) حكيم ( في جميع أفعاله ) حميد ( إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه .
ثم سلى نبيه عليه السلام بقوله ) ما يقال لك ( وفيه وجهان : أحدهما ما يقول لك كفار قريش إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من المطاعن فيهم وفي كتبهم .
) إن ربك لذو مغفرة ( للمحقين ) وذو عقاب أليم ( للمبطلين ، ففوض الأمر إلى الله واشتغل بما أمرت به من الدعاء إلى دينه .
وثانيهما ما يقول لك الله إلا مثل ما قال لغيرك من الرسل من الصبر على سفاهة الأقوام وإيذائهم .
ويجوز أن يكون المقول هو قوله ) إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب ( فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخشاه أهل عصيانه .
كانوا يقولون : لولا أنزل القرآن بلغة العجم تعنتاً منهم فأجابهم الله بقوله ) ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا ( معترضين منكرين ) لولا فصلت آياته ( أي بينت بلسان نفهمه .
أقرآن أعجمي ورسول عربي أو مرسل إليه عربي ؟ وإنما جاز هذا التقدير الثاني مع أن المرسل إليهم كثيرون وهم غير أمة العرب ، لأن الغرض بيان تنافر حالتي القرآن ، والذين أنزل القرآن إليهم من العجمية والعربية لا بيان أنهم جمع أو واحد كما تقول : وقد(6/61)
" صفحة رقم 62 "
رأيت لباساً طويلاً على امرأة قصيرة اللباس طويل واللابس قصير .
ولو قلت : واللابسة قصيرة جئت بما هو أفضل .
ومن قرأ بغير همزة الاستفهام فعلى حذفها أو على الإخبار بأن القران أعجمي والرسول أو المرسل إليه عربي ، والغرض أنهم لعنادهم لا ينفكون عن المراء والاعتراض سواء كان القرآن عربياً أو أعجمياً .
وفيه إفحام لهم وجواب عن قولهم ) قلوبنا في أكنة ( فإن القرآن إذا كن بلغتهم وهم فصحاء وبلغاء فكيف لا يفهمونه إلا إذا كان هناك مانع إلهي ولذلك قال ) قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ( لداء الجهل ) والذين ( أي وللذين ) لا يؤمنون في آذانهم وقر ( وهذا التقدير عند من يجوز العطف على عاملين ، ومن لم يجوز زعم أن الرابط محذوف تقديره : والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر أو في آذانهم منه .
وقرأ والذين لا يؤمنون به الخ .
والحاصل أنهم لعدم انتفاعهم بالقرآن كأنهم صم عمي .
ثم أكد هذا المعنى بقوله ) أولئك ينادون من مكان بعيد ( فلهذا لا يسمعون النداء أي مثلهم كمثل الشخص الذي ينادي من بعد فلا يسمع ، وإن سمع لم يفهم .
ثم شبه حال القرآن بحال الكتب المتقدمة في أنها اختلف فيها كما اختلف فيه إلا أنه خص كتاب موسى بالذكر لكثرة أحكامه وعجيب قصته .
والكلمة السابقة هي العدة بالقيامة وتأخر العذاب والقضاء بين المصدقين والمكذبين إلى وقتئذ .
ثم ذكر أن جزاء كل أحد يختص به سواء كان له أو عليه وأن الله لا يظلم أحداً ثم كان لسائل أن يسأل : متى القيامة التي يتعلق بها الجزاء فقال ) إليه ( لا إلى غيره ) يرد علم الساعة ( أي إذا سأل عنها .
قيل : لا يعلمها إلا هو .
ثم عمم بعد هذا التخصيص وذكر مثالين يعرف منهما أن علم جميع الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا له سبحانه .
والكم بكسر الكاف وعاء الثمرة .
ثم ذكر من أحوال القيامة طرفاً آخر فقال ) ويوم يناديهم أين شركائي ( وهو نداء تهكم أو توبيخ كما مر مراراً ) قالوا آذناك ( قال ابن عباس : أي أسمعناك من أذن بالكسر أذناً بالفتح إذا استمع .
وقال الكلبي : أعملناك قال الإمام فخر الدين الرازي : هو بعيد لأن أهل القيامة يعلمون أنه تعالى يعلم الأشياء علماً واجباً ، فالإعلام في حقه محال .
قلت : لو أريد أظهرنا معلومك أين الاستبعاد ؟ والمعنى ظهر وحصل في الواقع من جهة قولنا ما كان ثابتاً في علمك القديم أنا سنقوله كقوله ) ولما يعلم الله الذين جاهدوا ) [ آل عمران : 142 ] أي لم يحصل بعد معلومه في الواقع وقد مر .
وقولهم ) آنذاك ( ماض في معنى المستقبل على عادة القرآن أو إنشاء للإيذان أو إخبار عما قيل لهم قبل ذلك فإنه يمكن أن يعاد عليهم هذا الاستفهام مرات لمزيد التوبيخ .
ومعنى ) ما منا من شهيد ( ليس منا من يشهد اليوم بأنهم شركاؤك لأنا عرفنا عياناً أنه لا شريك لك .
أو هو كلام الشركاء أحياها الله وأنطقها فتبرأ مما(6/62)
" صفحة رقم 63 "
أضيف إليها من الشركة .
ومعنى الضلال على هذا التفسير عدم النفع ، ويجوز أن يراد ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم غابوا عنا .
ومعنى ) يدعون ( يعبدون .
والظن بمعنى اليقين ، والمحيص المهرب .
وحين بين أن الكفار تبرؤا في الآخرة من شركائهم بعد أن كانوا مصرين في الدنيا على عبادتهم ، بين أن الكافر تبدله في حالاته كلي أو أكثري .
ففي حالة الإقبال لا يسأم من طلب الجاه والمال ، في حالة الإدبار يصير في غاية اليأس والانكسار ، وإن عاودته النعمة بعد يأسه فلا بد أن يقول هذا إنما وجدته باستحقاق لي وهذا لا يزول عني ويبقى علي وعلى عقبي وأنكر البعث ، وعلى فرض وجوده زعم بل جزم أن له عند الله الحالة الحسنى قائساً أمر الآخرة على أمر الدنيا ، ونظير الآية ما سبق في سورة الكهف ) ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً ) [ الآية : 36 ] فلا جرم خيب الله أمله وعكس ما تصوره بقوله ) فلننبئن ( وحين حكى قول الكافر أخبر عن أفعاله بقوله ) وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه ( أي تعظم وتجبر .
وقد سلف في ( سبحان ) .
واستعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه ، وقد يستعار الطول لكثرة الدعاء ودوامه أيضاً وإن لم يكن الشيء ذا جزم كما استعير الغلظ لشدة العذاب .
فإن قيل : كيف قال أولاً ) فيؤس قنوط ( ثم قال ) فذو دعاء عريض ( ؟ قلنا : أراد أنه يؤس بالقلب دعاء باللسان ، أو قنوط من الصنم دعاء الله ، أو الأول في قوم والثاني في آخرين .
ولما ذكر مرات في السورة مبالغة الكفار في العداوة والنفرة من اتباع الرسول والقرآن أرشدهم إلى طريق أحوط مما فيه فقال ) قل أرأيتم ( الآية .
وتقريره أنكم كما سمعتم القرآن أعرضتم عنه ثم كفرتم به حتى قلتم ) قلوبنا في أكنة ) [ فصلت : 5 ] ( لا تسمعوا لهذا القرآن ( ومن المعلوم أن هذا ليس ببديهي فقبل الدليل يحتمل أن يكون صحيحاً وحينئذ يلزم أن يكون بعدم قبوله العقاب الأبدي .
وقوله ( ممن هو في شقاق بعيد ( من وضع الظاهر مقام المضمر وهو منكم بياناً لبعد شوطهم في الشقاق والخلاف قاله في الكشاف .
وأقول : جواب الشرط بالحقيقة محذوف وهو قوله مثلاً فمن أضل منكم .
وإنما قال في الأحقاف ) وكفرتم ) [ الآية : 10 ] بالواو لأن معناه في السورة كان عاقبة أمركم بعد الإمهال للنظر الكفر فحسن دخول ( ثم ) مع أنها تفيد التراخي في الرتبة ، وهناك عطف عليه قوله ) وشهد شاهد ( فلم يحسن إلا الواو .
ثم بين أن الإسلام يعلو ولا يعلى وأن الغلبة والنصرة تكون لذويه فقال ) سنريهم أياتنا في الآفاق ( وهي الفتوح الواقعة على أيدي الخلفاء الراشدين والتي ستقع على أيدي أنصار دينه إلى يوم القيامة .
) وفي أنفسهم ( وهي فتح مكة وسائر الفتوح التي وجدت في عصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) حتى يتبين لهم أنه ( أي محمداً أو(6/63)
" صفحة رقم 64 "
القرآن أو الدين ) الحق ( ووجه التبين أن هذا إخبار عن الغيب فإذا وقع مطابقاً دل على صدق المخبر بل إعجازه .
وواحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض والسماء .
وعند المحققين الآيات الآفاقية هي الخارجة عن حقيقة الإنسان وبدنه كالأفلاك والكواكب والظلم والأنوار والعناصر والمواليد سواه .
ولا ريب أن العجائب المودعة في هذه الأشياء مما لا نهاية لها ، وإنما يوقف عليها حيناً بعد حين .
وقد أكثر الله تعالى من تقدير تلك الدلائل في القرآن ، بعضها في السور المكيات وكثير منها في المدنيات ، والآيات النفسية هي التي أودعها في تركيب الإنسان وفي ربط روحه العلوي ببدنه السفلي كقوله ) وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) [ الذاريات : 21 ] وفي قوله ) سنريهم ( دلالة على أن رؤية الأدلة إنما تكون بإراءة الله .
قال جار الله : معنى قوله ) أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ( هو أن هذه الآيات الموعودة تكفيهم دلالة على أن القرآن منزل من عالم الغيب المطلع على كل شيء .
وقال حكماء الإسلام : أراد بقوله ) أو لم يكف ( توبيخ من ليس له رتبة الاستدلال بنفس الوجود على واجب الوجود ، فإن هذا هو طريقة الصديقين ، وأما غيرهم فإنهم يستدلون بالممكن على الواجب فيفتقرون إلى النظر في الآفاق .
قال أهل المعرفة : النظر في الآفاق لأجل العوام والأنفس للخواص وقوله ( أو لم يكف ( لخواص الخواص .
وقيل : أولم يكف الإنسان من الزاجر والرادع عن المعاصي كون الله شهيداً عليهم .
وقيل : أراد أنه لا يخلف ما وعد لاطلاعه على الأشياء كلها .
ثم ختم السورة بتوبيخ الشاكين في أمر البعث وبالنعي عليهم وأوعدهم بأنه عالم بكل شيء فيجازي كلاً على حسب ما يستحقه والله أعلم .(6/64)
" صفحة رقم 65 "
سورة الشورى
( سورة حم عسق وهي مكية إلا أربع آيات ) قل لا أسألكم عليه أجراً ) إلى آخرهن حروفها ثلاثة آلاف وثمانية وثمانون كلمها ثمانمائة وست وستون آياتها ثلاث وخمسون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الشورى : ( 1 - 23 ) حم
" حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد الله الذي أنزل الكتاب بالحق(6/65)
" صفحة رقم 66 "
والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور "
( القراآت )
بوحي ( على البناء للمفعول : ابن كثير وعباس ) يكاد ( بالياء التحتانية : نافع وعلي ) تنفطرن ( بالنون : أبو عمرو وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد والمفضل ) إبراهام ( كنظائره .
) يبشر الله ( مخففاً من البشارة : ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعلي .
الوقوف : ( حم عسق ( كوفي ) من قبلك ( ط لمن قرأ ) يوحى ( مجهولاً كأنه قيل : من الموحي فقال الله أي هو الله ) الحكيم ( 5 ) في الأرض ( ط ) العظيم ( 5 ) لمن في الأرض ( ط ) الرحيم ( 5 ) عليهم ( ز والوصل أوجه لأن نفي ما بعده تقرير لإثبات ما قبله ) بوكيل ( 5 ) لا ريب فيه ( ط ) السعير ( 5 ) رحمته ( ط ) نصير ( 5 ) أولياء ( ج للفصل بين الاستخبار والأخبار مع دخول الفاء ) الموتى ( ط فصلاً بين المقدور المخصوص وبين القدرة على العموم مع اتفاق الجملتين ) قدير ( 5 ) إلى الله ( ط ) أنيب ( 5 ) والأرض ( ط ) أزواجاً ( الثاني ط لأن ضمير ) فيه ( يحتمل أن يعود إلى الازدواج الذي في مدلول الأزواج أو إلى التدبير وإن لم يسبق ذكره ) فيه ( ط ) شيء ( ج لعطف الجملتين المختلفتين ) البصير ( 5 ) والأرض ( ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال والعامل معنى الفعل في له أو في الملك .
) ويقدر ( ط ) عليم ( 5 ) فيه ( ط ) إليه ( ط ) ينيب ( 5 ) بينهم ( ط كذلك ما بعده ط ) مريب ( 5 ) فادع ( ج ) كما أمرت ( ج ) أهواءهم ( ج ) كتاب ( ج كل ذلك للترتيل في القراءة وإن اتفقت الجملتان ) بينكم ( ط ) وربكم ( ط ) أعمالكم ( ط ) وبينكم ( ط ) بيننا ( ج ) المصير ( 5 ) شديد ( 5 ) والميزان ( ط ) قريب ( 5 ) بها ( ج لعطف الجملتين المختلفتين ) منها ( ج للعطف أو الحال ) الحق ((6/66)
" صفحة رقم 67 "
ط ) بعيد ( 5 ) من يشاء ( ج لاحتمال عطف وهو على جملة قوله ) الله لطيف ( وهما متفقتان ) العزيز ( 5 ) في حرثه ( ج لعطف جملتي الشرط ) نصيب ( 5 ) به الله ( ط ) بينهم ( ط ) أليم ( 5 ) بهم ( ط ) الجنات ( ط لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال ) ربهم ( ط ) الكبير ( ) الصالحات ( ط ) في القربى ( ط ) حسناً ( ط ) شكور ( 5 .
التفسير : الكلام في ) حم ( كما سبق وأما ) عسق ( فقد قيل : إنه مع ) حم ( اسم للسورة .
وقيل : رموز إلى فتن كان عليّ يعرفها .
وقيل : الحاء حكم الله ، والميم ملكه ، والعين علمه ، والسين سناؤه ، والقاف قدرته .
وقيل : الحاء حرب علي ومعاوية ، والميم ولاية المروانية ، والعين ولاية العباسية ، والسين ولاية السفيانية ، والقاف قدرة المهدي .
وهذه الأقاويل مما لا معول عليها .
وقال أهل التصوف : حاء حبه ، وميم محبوبية محمد ، وعين عشقه ، وقاف قربه إلى سيده .
أقسم أنه يوحي إليه وإلى سائر الأنبياء من قبله أنه محبوبه في الأزل وبتبعيته خلق الكائنات .
والأولى تفويض علمها إلى الله كسائر الفواتح .
وإنما فصل ) حم ( من ) عسق ( حتى عدا آيتين خلاف ) كهيعص ) [ مريم : 1 ] لتقدم ) حم ( قبله واستقلالها بنفسها ، ولأن جميعها ذكر الكتاب بعدها صريحاً إلا هذه فإنها دلت عليه دلالة التضمن بذكر الوحي الذي يرجع إلى الكتاب .
روي عن ابن عباس أنه لا نبي صاحب كتاب إلا أوحى الله إليه ) حم عسق ( والله أعلم بصحة هذه الرواية .
والأظهر أن يقال : مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى الأنبياء قبلك .
والمراد المماثلة في أصول الدين كالتوحيد والعدل والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في الآخرة كقوله ) إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ) [ الأعلى : 18 ، 19 ] وفي ورود لفظ ) يوحى ( مستقبلاً لا ماضياً إشارة إلى أن إيحاء مثله عادته .
ثم بين سعة ملكه وأخبر عن غاية جلاله بقوله ) له ما في السموات ( الخ .
ثم أخبر عن فظاعة ما ارتكبه أهل الشرك فقال ) تكاد السموات يتفطرن ( وقد سبق في آخر سورة مريم .
ومعنى ) من فوقهن ( أن الانفطار يبتدىء من أعلى السموات أو ما فوقها من العرش والكرسي إلى أن ينتهي إلى السفلي ، وفي الابتداء من جهة الفوق زيادة تفظيع وتهويل .
قال جار الله : كأنه قيل يتفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهن .
وقيل : معناه من الجهة التي حصلت هذه السموات فيها وفيه ضعف لأنه كقول القائل : السماء فوقنا .
وقيل : الضمير للأرض وقد تقدم ذكرها أي من فوق الأرضين وروى عكرمة عن ابن عباس : يتفطرن من ثقل الرحمن .
فإن صحت الرواية كان في الظاهر دليل المجسمة .
ولأهل السنة أن يتأولوا الثقل بالهيبة والجلال أو يقدروا مضافاً محذوفاً أي من ثقل ملائكة الرحمن(6/67)
" صفحة رقم 68 "
كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أطت السماء أطأ وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد ) ثم انتقل من وصف الجسمانيات إلى ذكر الروحانيات ، وأنهم بالوجه الذي لهم إلى عالم الأرواح يسبحون بالوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام يستغفرون فقال ) والملائكة ( قيل : هو عام .
وقيل : حملة العرش كما مر في أول سورة المؤمن إلا أنه عمم ههنا فقال ) لمن في الأرض ( أي يطلبون أن لا يعاجل الله أهل الأرض بالعذاب طمعاً في توبة الكفار والفساق منهم .
وقيل : هو مخصوص بما مر أي يستغفرون للمؤمنين منهم .
ثم سلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بأن المشركين إنما يحاسبهم الله وما عليك إلا البلاغ .
قوله ) وكذلك أوحينا ( قال ابن بحر : هو الكلام الأول أعيد لما اعترض بين الكلامين ما اعترض .
وقال جار الله : الكاف مفعول به لأوحينا ، ) وذلك ( إشارة إلى المذكور قبله من أن الله هو عليهم الرقيب وما أنت عليهم برقيب .
وقد كرر الله هذا المعنى في كتابه في مواضع .
) وقرآناً عربياً ( حال .
والمعنى مثل ذلك المذكور أوحينا إليك وهو قرآن عربي بين لا لبس فيه ليفهم معناه ولا يتجاوز حد الإنذار .
ويجوز أن يكون ) ذلك ( إشارة إلى الإيحاء أي كما أوحينا إلى الرسل قبلك وأوحينا إليك ، فيجوز أن تكون المماثلة بالحروف المفردة وأن تكون بأصول الدين كما مر .
قال أهل اللغة : يقال أنذرته كذا وبكذا .
فمن الاستعمال الثاني قوله ) لتنذر أم القرى ( أي أهل مكة على حذف المضاف ، والمفعول الثاني وهو القرآ ، محذوف .
ومن الاستعمال الأول قوله ) وتنذر يوم الجمع ( والمفعول الأول محذوف وتنذر الناس يوماً تجمع فيه الخلائق أو يجمع فيه بين الأرواح والأجساد أو بين كل عامل وعمله .
قلت : ومن الجائز أن يكون الكل من الاستعمال الأول ولا حذف إلا ان قوله ) وتنذر ( يكون مكرراً للمبالغة والتقدير الأصلي : لتنذر أم القرى يوم الجمع .
وقد مر في القصص في قوله ) حتى يبعث في أمها ) [ الآية : 59 ] أن مكة لم سميت أم القرى .
وقوله ( ومن حولها ( يحتمل عموم أطراف الأرض لأن مكة في وسطها ، ويحتمل أن يكون المراد به سائر جزيرة العرب ويدخل باقي الأمم بالتبعية أو بنص آخر كقوله ) وما أرسلناك إلا كافة للناس ) [ سبأ : 28 ] وقوله ( لا ريب فيه ( اعتراض لا محل له أو صفة للجمع بناء على أن التعريف الجنسي قريب من النكرة .
وقوله ( فريق ( مبتدأ محذوف الخبر أي منهم فريق كذا ومنهم فريق كذا ، أي هذا مآل حالهم بعد الحشر والاجتماع .
ثم بين بقوله ) ولو شاء الله ( الخ .
أن السعادة والشقاوة والهداية والضلالة متعلق(6/68)
" صفحة رقم 69 "
بمشيئته وإرادته .
وهذا على مذهب أهل السنة ظاهر ، وتأوله المعتزلة بمشيئة القسر والإلجاء ، وقد مر نظائره مراراً .
والظاهر أن المراد بكونهم أمة واحدة أن يكونوا مسلمين كلهم .
وقيل : أن يكونوا أهل ضلالة قياساً على قوله ) ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ) [ الزخرف : 33 ] ثم أنكر على أهل الشرك بأم المنقطعة قائلاً ) أم اتخذوا من دونه أولياء ( إن أرادوا أولياء بحق ) فالله هو الولي ( الذي يجب أن يعتقد أنه المولى والسيد لا ولي سواه ومن شأنه أنه ) يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ( وهو الحقيق بأن يتخذ ولياً .
وحين منع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من التحزن على من كفر أراد أن يمنع المؤمنين من الاختلاف والتنازع فقال ) وما اختلفتم ( والتقدير : قل يا محمد كذا بدليل قوله ) ذلكم الله ربي ( الآية .
والمراد أن الذي اختلفتم أنتم والكفرة فيه من أمور الدين فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله وهو إثابة المحقين ومعاقبة المبطلين .
وقيل : وما اختلفتم فيه فتحاكموا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كقوله ) فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) [ النساء : 59 ] وقيل : وما اختلفتم فيه من الآيات المتشابهات فارجعوا في بيانه إلى المحكمات أو إلى الظاهر من السنة .
وقيل : ما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بالتكاليف فقولوا : الله أعلم كمعرفة الروح وغيره .
قال في الكشاف : ولا يندرج فيه اختلاف المجتهدين لأن الاجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
قلت : إن لم يجز بحضرته فإنه جائز بعده .
وقوله ( وما اختلفتم ( شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة مثل ) يا أيها الناس ( ومثل ) أقيموا الصلاة ( والأظهر أن اختلافهم يدخل فيه ، وأن المراد بحكمه تعريفه من بيان الله سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس أو بالاجتهاد .
قلنا : المقصود من التحاكم قطع الاختلاف ولا قطع مع القياس ولا مع الاجتهاد .
قلنا : إذا كان القياس مأموراً به وكذا الاجتهاد بل يكون كل مجتهد مصيباً ، كانت المخالفة في حكم الموافقة ولهذا قال ( اختلاف أمتي رحمة ) ثم وصف نفسه بأوصاف الكمال ونعوت الجلال تأكيداً لصحة أحكامه فقال ) فاطر السموات والأرض ( وهو أحد أخبار ذلكم أو خبر مبتدأ محذوف .
ومعنى ) ومن الأنعام أزواجاً ( أنه خلق للأنعام أيضاً من أنفسها أزواجاً ) يذرؤكم فيه ( يكثركم في هذا التدبير وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً حتى حصل بين الذكور والإناث التوالد والتناسل .
والضمير في ) يذرؤكم ( راجع إلى المخاطبين وإلى الأنعام وهو من الأحكام ذوات العلتين ، وذلك أن فيه تغليبين تغليب المخاطبين على الغائبين وهم من سيوجد إلى يوم القيامة ، وتغليب العقلاء على غيرهم .
وعلة الأول الخطاب ، وعلة الثاني العقل .
وإنما قال ) يذرؤكم فيه ( ولم يقل به لأنه جعل التدبير منبعاً ومعدناً للتكثير كقوله ) ولكم في القصاص حياة ) [ البقرة : 179 ] ولأن حروف الجر يقام بعضها مقام البعض ومعنى(6/69)
" صفحة رقم 70 "
) ليس كمثله شيء ( نفي المثلة عنه بطريق الالتزام وذلك أنه لو كان له مثل والله تعالى شيء لكان مثل مثله شيء وهو خلاف نص المخبر الصادق وهذا المحال إنما لزم من فرض وجود المثل له فوجود المثل محال وهو المطلوب ، ولعل هذا التقرير مختص بنا .
قال في الكشاف : إنه من باب الكناية كقولهم : مثلك لا يبخل .
يعنون أنت لا تبخل .
وكذا ههنا يريد ليس كالله شيء .
وجوز أن يكون تكرير حرف التشبيه للتأكيد .
وقد يستدل بالآية على نفي الجسمية ولوازمها عنه تعالى لأن الأجسام متماثلة في حقيقة الجسمانية .
قوله ) له مقاليد السموات والأرض ( أي له مفاتيخ خزائنها وقد مر في الزمر والباقي واضح وقد سبق أيضاً .
وحين عظم وحيه إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ) كذلك يوحى إليك ( إلى آخره ذكر تفصيل ذلك فقال ) شرع لكم ( أي أوجب وبين لأجلكم ) من الدين ما وصى به نوحاً ( وهو أقدم الأديان بعد الطوفان ) والذي أوحينا إليك ( وهو ختمها ) وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ( وهي الملل المعتبرة المتوسطة .
ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأكابر من رسله فيه بقوله ) أن أقيموا الدين ( الحنيفي ومحله نصب بدلاً من مفعول ) شرع ( أو رفع على الاستئناف كأنه قيل : وما ذلك المشروع ؟ فقيل : هو إقامة الدين .
يعني إقامة أصوله من التوحيد والنبوة والمعاد ونحو ذلك دون الفروع التي تختلف بحسب الأوقات لقوله ) لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ) [ المائدة : 48 ] وفي بناء الكلام على الغيبة ثم الالتفات إلى التكلم في ) أوحينا ( والخطاب في ) إليك ( تفخيم شأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
ثم حكى حسد أهل الشرك بقوله ) كبر على المشركين ( أي شق وعظم عليهم ما تدعوهم إليه من الدين المبرأ من عبادة غير الله .
ثم أجاب عن شبهتهم بأن الاجتباء والاصطفاء يتعلق بمشيئة الله لا بتمني كل واحد ولا بكثرة المال والجاه .
يقال : اجتباه إليه أي اصطفاه لنفسه ، والتركيب يدل على الجمع والضم ، ويحتمل أن يراد يجتبي إلى الدين .
ثم أخبر عن وقت تفرق كلمة أهل الكتاب وعن سبب ذلك فقال ) وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ( ببعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصحة نبوته كقوله في آل عمران ) وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءهم العلم بغياً بينهم ) [ الآية : 19 ] وقيل : وما تفرق الأمم الذين تقدم ذكرهم إلا بعد العلم بصحة ما أمروا به .
قال أهل البرهان : لما ذكر مبدأ كفرهم وهو قوله ) إلا من بعدما جاءهم العلم ( حسن ذكر نهاية إمهالهم وهو قوله ) إلى أجل مسمى ( ليكون محدداً من الطرفين .
وإنما ترك ذكر النهاية في السورة المتقدمة لعدم ذكر البداية ) وإن الذين أورثوا الكتاب ( هم العرب ورثوا القرآن من بعدما أورث أهل الكتابين كتابهم أو هم أهل الكتاب المعاصرون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : جاءهم أسباب العلم فلم ينظروا فيها(6/70)
" صفحة رقم 71 "
لأنه حكم عليهم في آخر الآية بأنهم في شك من كتابهم وهو مع العلم غير مجتمعين ) فلذلك ( أي فلأجل تشعب الملل وتفرق الكلم ) فادع ( إلى الملة الحنيفية .
وقيل : اللام بمعنى ( إلى ) والإشارة إلى القرآن ) وأستقم ( عليها كما أمرت ) ولا تتبع أهواءهم ( المختلفة ) وقل آمنت بما أنزل الله من ( أي ) كتاب ( كان ) وأمرت لأعدل بينكم ( أي في التبليغ أو إذا تحاكمتم إليّ حتى لا أفرق بين نفسي ونفس غيري .
ثم أشار إلى ما هو أصل في الدين فقال ) الله ربنا وربكم لنا ( جزاء ) أعمالنا ولكم ( جزاء ) أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم ( وليس المراد منه تحريم المحاجة فإنه لولا الأدلة لما توجه التكليف بل المراد أنهم بعد أن وقفوا على الحجج الباهرة والدلائل الظاهرة على حقية دين الإسلام لم يبق معهم حجة لسانية وإنما بقي السيف .
وقيل : إنه منسوخ بآية القتال وقوله ( الله يجمع بيننا ( إشارة إلى المهاجرة التي اقتضاها إصرارهم على الباطل وتفويض للأمر إلى المجازي المنتقم .
ثم أخبر عن وعيد المخاصمين في أمر دين الله ) من بعدما استجيب له ( أي من بعدما استجاب له الناس وقبلوا دينه ، أو بعدما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر ) حجتهم داحضة ( أي باطلة زائلة ) عند ربهم ( وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون : كتابنا قبل كتابتكم ونبينا قبل نبيكم فأنتم أولى باتباعنا .
وأيضاً أنتم تقولون الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، ونبوة موسى وحقية التوراة متفق عليها ونبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مختلف فيها .
والجواب أن نبوّة موسى إنما صحت بالمعجزة فإن كانت المعجزة في حقه مصححة للنبوة ففي حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كذلك وإلا فأنتم القادحون في نبوة نبيكم أيضاً .
ثم حث على سلوك طريقة العدل حذراً من عقاب يوم القيامة فقال ) الله الذي أنزل الكتاب ( أي جنسه متلبساً بالغرض الصحيح ) والميزان ( أي أنزل العدل والسوية في كتبه أو ألهم اتخاذ الميزان .
وقيل : هو العقل .
وقيل : الميزان نفسه وذلك في زمن نوح .
وقيل : هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يقضي بينهم بالكتاب ) وما يدريك ( يا محمد أو أيها المكلف ) لعل الساعة ( أي مجيئها ) قريب ( أو ذكر بتأويل البعث أو الحشر ونحوه ، أو أراد شيء قريب .
ومتى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يجتهد في أداء ما عليه من التكاليف .
ولا يتأنى في سلوك سبيل الإنصاف مع الخالق والخلق فإنه لا يعلم أن القيامة متى تفاجئه .
ثم قبح طريقة منكري الساعة فقال ) يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ( يقولون على سبيل السخرية : متى تقوم الساعة ؟ وليتها قامت حتى تظهر لنا جلية الحال .
ثم مدح المقربين بأنهم يخافون القيامة هيبة من الله وإحلالاً له أو حذراً من تقصير وخلل وقع في العمل إلا أن خوفهم يجب أن يكون ممتزجاً بالرجاء ، وقد مر تحقيقه مراراً .
ثم هدد الشاكين المجادلين في أمر(6/71)
" صفحة رقم 72 "
البعث بقوله ) ألا إن الذين يمارون ( وأصله من المرية الشك ) لفي ضلال بعيد ( عن الصواب لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب على فضله أو في حكمه ، ولأن في إنكاره نسبة الله سبحانه إلى ضد العلم والقدرة .
ثم إنه لا ريب في أن إنزال الكتاب والميزان لطف من الله على خلقه فلذلك قال ) الله لطيف بعباده ( عمم البر ثم خصص بقوله ) يرزق من يشاء ( يعني الزائد على مقدار الضرورة ، فلكم من إنسان فاق أقرانه في المال أو الجاه أو الأولاد أو في العلم أو في سائر أسباب المزية إلا أن أحداً منهم لا يخلو من بره الذي يتعيش به كقوله ) أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) [ طه : 50 ] وقيل : معنى لطيف يرزقهم من حيث لا يعلمون ، أو يلطف بهم فلا يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا .
وقد مر معناه في الأنعام بوجه آخر في قوله ) وهو اللطيف الخبير ) [ الآية : 103 ] وأما قوله ) القوي العزيز ( ففيه إشارة إلى أن لطفه مقرون بقهره .
وحين ذكر أنه يرزق من يشاء الزائد على مقدار كفايته وكان فيه كسر قلوب أرباب الضنك والضيق جبر كسرهم بقوله ) من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ( سماه حرثاً تشبيهاً للعامل الطالب لثواب الآخرة أضعافاً مضاعفة بالزارع الذي يلقى البذر في الأرض طلباً للزيادة والنماء ، ومن فضائل حرث الآخرة أن طالبها قد يحصل له الدنيا بالتبعية ويرى ثواب عمله أضعافاً مضاعفة ، وطالب الدنيا لا تحصل له المطالب بأسرها ولهذا قال ) نؤته منها ( أي بعض ذلك ) وما له في الآخرة من نصيب ( قط وفي زيادة لفظ الحرث فائدة أخرى وهي أن يعلم أن شيئاً من القسمين لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه همه وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن أصبح وهمه الآخره جمع الله همه وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ) هذا لفظه أو لفظ هذا معناه .
وعن قتادة إن الله يعطي الدنيا على نية الآخرة ولا يعطي الآخرة على نية الدنيا .
وفي ظاهر اللفظ دلالة على أن من صلى لطلب الثواب أو لدفع العقاب فإنه تصح صلاته لأنه صلى لأجل ما يتعلق بالآخرة .
قال بعض أصحاب الشافعي : إذا توضأ بغير نية لم يصح لأن هذا الإنسان غفل عن الآخرة وعن ذكر الله ، والخروج عن عهدة الصلاة من باب منافع الآخرة فلا يحصل بالوضوء العاري عن النية ، وحيث بين القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في أعمال الدارين نبه على أحوال الضلال بقوله ) أم لهم شركاء ( وهي المنقطعة عند بعضهم .
وقال آخرون : هي المعادلة لألف الاستفهام تقديره أفيقبلون ما شرع الله لهم(6/72)
" صفحة رقم 73 "
من الدين أم لهم آلهة .
) شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ( أي لم يأمرهم به أو لم يعلمه كقوله ) أتنبؤن الله بما لا يعلم ) [ يونس : 18 ] والأذن بالفتح العلم بالمسموعات وتحقيقه شرعوا ما ليس بشريعة إذ لو كان شريعة لعلمها الله ) ولولا كلمة الفصل ( أي القضاء السابق بتأخير الجزاء ) لقضي بينهم ( والضمير للمؤمنين والكافرين أو المشركين والشركاء ) ترى الظالمين ( في القيامة ) مشفقين ( خائفين ) مما كسبوا ( من الجرائم ) وهو ( أي وبال ذلك ) واقع بهم ( واصل إليهم لا محالة ) والذين آمنوا وعلموا الصالحات في روضات الجنات ( أي منتزهاتها .
قالت الأشاعرة : فيه دليل على أن غيرها من الأماكن في الجنة لغير المذكورين وغيرهم ليس إلا بالذي آمن ولم يعمل صالحاً وهو الفاسق .
ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون إضافة الروضات إلى الجنات من إضافة العام إلى الخاص فيكون الجنات كلها روضات .
ولكن الروضات قد لا تكون في الجنة لثبوتها في الدنيا .
والفضل الكبير قد تقدم في ( فاطر ) ) ذلك ( المذكور أو الثواب أو التبشير هو ) الذي يبشر الله ( به ) عباده ( ثم حذف الجار ، ثم الراجع إلى الموصول ، ثم أمر روسله بأن يقول ) لا أسلكم عليه ( على هذا التبليغ ) أجراً إلا المودة ( الكائنة ) في القربى ( جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها ولهذا لم يقل ( مودة القربى ) أو ( المودة للقربى ) وهي مصدر بمعنى القرابة أي في أهل القربى وفي حقهم .
فإن قيل : استثناء المودة من الأجر دليل على أنه طلب الأجر على تبليغ الوحي وذلك غير جائز كما جاء في قصص سائر الأنبياء ولا سيما في ( الشعراء ) .
وقد جاء في حق نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) أيضاً ) قل ما سألتكم من أجر فهو لكم ) [ سبأ : 47 ] ( وقل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) [ ص : 86 ] والمعقول منه أن التبليغ واجب عليه وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بالمروءة .
وأيضاً أنه يوجب التهمة ونقصان الحشمة .
قلنا : إن من جعل الآية منسوخة باللتين لا استثناء فيهما فلا إشكال عليه ، وأما الآخرون فمنهم من قال : الاستثناء متصل ولكنه من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
والمعنى لا أطلب منكم أجراً ، إلا هذا وهو في الحقيقة ليس أجراً لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب ولا سيما في حق الأقارب كما قال عز من قائل ) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ) [ الرعد : 21 ] ومنهم من قال : الاستثناء منقطع أي لا أسألكم عليه أجراً ألبتة ، ولكن أذكركم المودة في القربى ، وفي تفسير ) المودة في القربى ( أربعة أقوال : الأول قال الشعبي : أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن(6/73)
" صفحة رقم 74 "
ذلك فأجاب بأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان واسطة النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد كان بينهم وبينه قرابة فقال الله : قل لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجراً إلا أن تودوني لقرابتي منكم يعني أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذونني ولا تهيجوا عليّ .
القول الثاني : روى الكعبي عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانت تنويه نوائب وحقوق وليس في يده سعة فقال الأنصار : إن هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم ، فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا .
ثم أتوه فرده عليهم ونزلت الآية بحثهم على مودة أقاربهم وصلة أرحامهم .
القول الثالث : عن الحسن : إلا أن توددوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح .
الرابع : عن سعيد بن جبير : لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم لقرابتك ؟ فقال : علي وفاطمة وابناهما .
ولا ريب أن هذا فخر عظيم وشرف تام ، ويؤيده ما روي أن علياً رضي الله عنه شكا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حسد الناس فيه فيقال : أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرياتنا خلف أزواجنا وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غداً إذا لقيتني يوم القيامة ) وكان يقول ( فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ) وثبت بالنقل المتواتر أنه كان يحب علياً والحسن والحسين ، وإذا كان ذلك وجب علينا محبتهم لقوله ) فاتبعوه ) [ الأنعام : 153 ] وكفى شرفاً لآل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفخراً ختم التشهد بذكرهم والصلاة عليهم في كل صلاة .
قال بعض المذكرين : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها غرق ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( أصحابي بأيهم اقتديتم اهتديتم ) فنحن نركب سفينة حب آل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونضع أبصارنا على الكواكب النيرة أعني آثار الصحابة لنتخلص من بحر التكليف وظلمة الجهالة ومن أمواج الشبه والضلالة .
ثم أكد إيصال الثواب على المودة بقوله ) ومن يقترف حسنة ( أي يكتسب طاعة ، قال بعض أهل اللغة : الاقتراف مستعمل في الشر فاستعاره ههنا للخير .
عن السدي أنها المودة في آل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نزلت في أبي بكر الصديق ومودته فيهم ، والظاهر العموم في كل حسنة ولا شك أن هذه مرادة قصداً أولياً لذكرها عقيبها .
ومعنى زيادة حسنها تضعيف ثوابها ) إن الله غفور ( لمن أذنب ) شكور ( لمن أطاع الله والله أعلم .(6/74)
" صفحة رقم 75 "
الجائز أن يكون الكل من الاسعمال الأول ولا حذف إلا أن قوله ) وتنذر ( يكون مكرراً للمبالغة والتقدير الأصلي : لتنذر أم القرى يوم الجمع .
وقد مر في القصص في قوله ) حتى يبعث في أمها ) [ الآية : 59 ] أن مكة في وسطها , ويحتمل أن يكون المراد به سائر جزيرة العرب ويدخل باقي الأمم بالتبعية أو بنص آخر كقوله ) وما أرسلناك إلا كافة للناس ) [ سبأ : 28 ] وقوله ( لا ريب فيه ( اعتراض لا محل له أو صفة للجمع بناء على أن التعريف الجنسي قريب من النكرة .
وقوله ( فريق ( مبتدأ محوف الخبر أي منهم فريق كذا ومنهم فريق كذا , أي هذا مآل حالهم بعد الحشر والاجتماع .
ثم بين بقوله ) ولو شاء الله ( الخ .
أن السعادة والشقاوة والهداية والضلالة متعلق بمشيئته وإرادته .
وهذا على مذهب أهل السنة ظاهر , وتأوله المعتزلة بمشيئة القسر والإلجاء , وقد مر نظائره مراراً .
والظاهر أن المراد بكونهم أمة واحدة أن يكونوا مسلمين كلهم .
وقيل : أن يكونوا أهل ضلالة قياساً على قوله ) ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ( ) الزخرف : 33 ] ثم أنكر على أهل الشرك بأم المنقطعة قائلاً ) أم اتخذ من دونه أولياء ( إن أرادوا أولياء بحق ) فالله هو الولي ( الذي يجب أن يعتقد أنه المولى والسيد لا ولي سواه ومن شأنه أنه ) يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ( وهو الحقيق بأن يتخذ ولياً .
وحين منع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من التحزن على من كفر أراد أ , يمنع المؤمنين من الاختلاف والتنازع فقال ) وما اختلفتم ( والتقدير : قل يا محمد كذا بدليل قوله ) ذلك الله ربي ( الآية .
والمراد أن الذي اختلفتم أنتم والكفرة فيه من أمور الدين فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله وهو إثابة المحقين ومعاقبة المبطلين .
وقيل : وما اختلفتم فيه فتحاكموا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كقوله ) فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ولرسوله ( ) النساء : 59 ] وقيل : وما اختلفتم فيه من الآيات المتشابهات فارجعوا في بيانه إلى المحكمات أو إلى الظاهر من السنة .
وقيل : ما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بالتكاليف فقولوا : الله أعلم كمعرفة الروح وغيره .
قال في الكشاف : ولا يندرج فيه اختلاف المجتهدين لأن الاجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قلت : إن لم يجز بحضرته فإنه جائز بعده .
وقوله ( وما اختلفتم ( شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة مثل ) يا أيها الناس ( ومثل ) أقيموا الصلاة ( والأظهر أن اختلافهم يدخل فيه , وأن المراد بحكمه تعريفه من بيان الله سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس أو بالاجتهاد .
فإن قيل : المقصود من التحاكم قطع الاختلاف ولا قطع مع القياس ولا مع الاجتهاد .
قلنا : إذا كان القياس مأموراً به وكذا الاجتهاد بل يكون كل مجتهد مصيباً , كان المخالفة في حكم الموافقة ولهذا قال ( اختلاف أمتى رحمة ) ثم وصف نفسه بأوصاف الكمال ونعوت الجلال تأكيداً لصحة أحكامه فقال ) فاطر السموات والأرض ( وهو أحد أخبار ذلكم أو خبر مبتدأ محذوف .
ومعنى ) ومن الأنعام أزواجاً ( أنه خلق للأنعام أيضاً من أنفسها أزواجاً ) يذرؤكم فيه ( يكثركم في هذا التدبير وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً حتى حصل بين الذكور والإناث التوالد والتناسل .
والضمسر في ) يذرؤكم ( راجع إلى المخاطبين وإلى الأنعام وهو من الأحكام ذوات العلتين , وذلك أن فيه تغلبين تغليب المخاطبين على الغائبين وهم من سيوجد إلى يوم القيامة , وتغليب العقلاء على غيرهم .
وعلة الأول الخطاب , وعلة الثاني العقل .
وإنما قال ) يذرؤكم فيه ( ولم يقل به لأنه جعل التدبير منبعاً ومعدناً للتكثير كقوله ) ولكم في القصاص حياة ) [ البقرة : 179 ] ولأن حروف الجر يقام بعضها مقام البعض ومعنى ) ليس كمثله شيء ( نفي المثلية عنه بطريق الالتزام وذلك أنه لو كان له مثل والله تعالى شيء لكان مثل مثله شيء وهو خلاف نص المخبر الصادق وهذا المحال إنما لزم من فرض وجود المثل له فوجود المثل محال وهو المطلوب , ولعل هذا التقرير مختص بنا .
قال في الكشاف : إنه من باب الكناية كقولهم : مثل لا يبخل .
يعنون أنت لا تبخل .
وكذا ههنا يريد ليس كالله شيء .
وجوز أن يكون تكرير حرف التشبية للتأكيد .
وقد يستدل بالآية على نفي الجسمية ولوازمها عنه تعالى لأن الأجسام متماثلة في حقيقة الجمسانية .
قوله ) له مقاليد السموات والأرض ( أي له مفاتيحخزائنها وقد مر في الزمر والباقي واضح وقد سبق أيضاً .
وحين عظم وحيه إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ) كذلك يوحى إليك ( إلى آخره ذكر تفصيل ذلك فقال ) شرع لكم ( أي أوجب وبين لأجلكم ) كذلك يوحى إليك ( إلى آخره ذكر تفصيل الأديان بعد الطوفان ) والذي أوحينا إليك ( وهو ختمها ) وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ( وهي الملل المعتبرة المتوسطة .
ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأكابر من رسله فيه بقوله ) أن أقيموا الدين ( الحنيفي ومحله نصب بدلاً من مفعول ) شرع ( أو رفع على الاستئناف كأنه قيل : وما ذلك المشروع ؟ فقيل : هو إقامة الدين .
يعني إقامة أصوله من التوحيد والنبوة والمعاد ونحو ذلك دون الفروع التي تختلف بحسب الأوقات لقوله ) لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ) [ المائدة : 48 ] وفي بناء الكلام على الغيبة ثم الالتفات إلى التكليم في ) أوحينا ( والخطاب في ) إليك ( تفخيم شأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
ثم حكى حسد أهل الشرك بقوله ) كبر على المشركين ( أي شق وعظم عليهم ما تدعوهم إليه من الدين المبرأة من عبادة غير الله .
ثم أجاب عن شبهتهم بأن الاجتباء والاصطفاء يتعلق بمشيئة الله لا بتمني كل واحد ولا بكثرة المال والجاه .
يقال : اجتباه إليه أي اصطفاه لنفسه , والتركيب يدل على الجمع والضم ويحتمل أن يراد يجتبي إلى الدين .
ثم أخبر عن وقت تفرق كلمة أهل الكتاب وعن سبب ذلك فقال ) وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ( ببعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصحة نبوته كقوله في آل عمران ) وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءهم العلم بغياً بينهم ) [ الآية : 19 ] وقيل : وما تفرق الأمم الذين يجتبي إلى الدين .
ثم أخبر عن وقت تفرق كلمة أهل الكتاب وعن سبب ذلك فقال ) وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ( ببعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصحة نبوته كقوله في آل عمران ) وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءهم العلم بغياً بينهم ) [ الآية : 19 ] وقيل : وما تفرق الأمم الذين تقدم ذكرهم إلا بعد العلم بصحة ما أمروا به .
قال أهل البرهان : لما ذكر مبدأ كفرهم وهو قوله ) إلا من بعدما جاءهم العلم ( حسن ذكر نهاية إمهالهم وهو قوله ) إلى أجل مسمى ( ليكون محدوداً من الطرفين .
وإنما ترك ذكر النهاية في السورة المتقدمة لعدم ذكر البداية ) وإن الذين أورثوا الكتاب ( هم العرب ورثوا القرآن من بعدما أورث أهل الكتابين كتابهم أوهم أهل الكتاب المعاصرون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : جاءهم اسباب العلم فلم ينظروا فيها لأنه حكم عليهم في آخر الآية بأنهم في شك من كتابهم وهو مع العلم غير مجتمعين ) فلذلك ( أي فلأجل تشعب الملل وتفرق الكلم ) فادع ( إلى الملة الحنيفية .
وقيل : اللام بمعنى ( إلى ) والإشارة إلى القرآن ) وأستقم ( عليها كما أمرت ) ولا تتبع أهواءهم ( المختلفة ) وقل آمنت بما أنزل الله من ( أي ) كتاب ( كان ) وأمرت لأعدل بينكم ( أي في التبليغ أو إذا تحاكمتم إليّ حتى لا أفرق بين نفس ونفس غيري .
ثم أشار إلى ماهو أصل في الدين فقال ) الله ربنا وربكم لنا ( جزاء ) أعمالنا ولكم ( جزاء ) أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم ( وليس المراد منه تحريم المحاجة فإنه لولا الأدلة لما توجه التكليف بل المراد أنهم بعد أن وقفوا على الحجج الباهرة والدلائل الظاهرة على حقية دين الإسلام لم يبق معهم حجة لسانية وإنما بقي السيف .
وقيل : إنه منسوخ بآية القتال وقوله ( الله يجمع بيننا ( إشارة إلى المهاجرة التي اقتضاها إصرارهم على الباطل وتفويض للأمر إلى المجازي المنتقم .
ثم أخبر عن وعيد المخاصمين في أمر دين الله ) ومن بعدما استجيب له ( أي من بعدما استجاب له الناس وقبلوا دينه , أو بعدما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر ) حجتهم داحضة ( أي باطلة زائدة ) عند ربهم ( وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون : كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فأنتم أولى باتباعنا .
وأيضاً أنتم تقولون الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه , ونبوة موسى وحقية التوراة متفق عليها ونبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مختلف فهيا .
والجواب أن نبوّة موسى وحقية التوراة متفق عليها ونبوة في حقه مصححة للنبوة ففي حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كذلك وإلا فأنتم القادحون في نبوة نبيكم أيضاً .
ثم حث على سلوك طريقة العدل حذراً من عقاب يوم القيامة فقال ) الله الذي أنزل الكتاب ( أي جنسه متلبساَ بالغرض الصحيح ) والميزان ( أي أنزل العدل والسوية في كتبه أو ألهم اتخاذ الميزان .
وقيل : هو العقل .
وقيل : الميزان نفسه وذلك في زمن نوح .
وقيل : هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يقضي بينهم بالكتاب ) وما يدريك ( يا محمد أو أيها المكلف ) لعل الساعة ( في حقه مصححه للنبوة ففي حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكذلك وإلا فأنتم القادحون في نبوة نبيكم أيضاً .
ثم حث عل سلوك طريقة العدل حذراً من عقاب يوم القيامة فقال ) الله الذي أنزل الكتاب ( أي جنسه متلبساَ بالغرض الصحيح ) والميزان ( أي أنزل العدل ولاسوية في كتبه أو ألهم اتخاذ الميزان .
وقيل : هو العقل .
وقيل : الميزان نفسه وذلك في زمن نوح .
وقيل : هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يقضي بينهم بالكتاب ) وما يدريك ( يا محمد أو أيها المكلف ) لعل الساعة ( أي مجيئها ) قريب ( أو ذكر بتأويل البعث أو الحشر ونحوه , أو أراد شيء قريب .
ومتى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يجتهد في أداء ما عليه من التكاليف .
ولا يتأنى في سلوك سبيل الإنصاف مع الخالق والخلق فإنه لا يعلم أن القيامة متى تفاجئه .
ثم قبح طريقة منكري الساعة فقال ) يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ( يقولون على سبيل السخرية : متى تقوم الساعة ؟ وليتها قامت حتى تظهر لنا جلية الحال .
ثم مدح المقربين بأنهم يخافون القيامة هيبة من الله وإجلالاً له أو حذراً من تقصير وخلل وقع في العمل إلا أن خوفهم يجب أن يكون ممتزجاً بالرجاء , وقد مر تحقيقه مراراً .
ثم هدد الشاكين المجادلين في أمر البعث بقوله ) ألا إن الذين يمارون ( وأصله من المرية الشك .
) لفي ضلال بعيد ( عن الصواب لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب على فضله أو في حكمه , ولأن في إنكاره نسبة الله سبحانه إلى ضد العلم والقدرة .
ثم إنه لا ريب في أن إنزال الكتاب والميزان لطف من الله على خلقه فلذلك قال ) الله لطيف بعباده ( عمم البر ثم خصص بقوله ) يرزق من يشاء ( يعني الزائد على مقدار الضرورة , فلكم من إنسان فاق أقرانه في المال أو الجاه أو الأولاد أو في العلم أو في سائر أسباب المزية إلا أن أحداً منهم لا يخلو من بره الذي يتعيش به كقوله ) أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) [ طه : 103 ] وأما قوله ) القوي العزيز ( ففيه إشارة إلى أن لطفه مقرون بقهره .
وحين ذكر أنه يرزق من يشاء الزائد على مقدار كفايته وكان فيه كسر قلوب أرباب الضنك والضيق جبر كسرهم بقوله ) من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ( سماه حرثاً تشبيهاً للعامل الطالب لثواب الآخرة أضعافاً مضاعفة بالزارع الذي يلقي البذر في الأرض طلباً للزيادة والنماء , ومن فضائل حرث الآخرة أن طالبها قد يحصل له الدنيا بالتبعية ويرى ثواب عمله أضعافاً مضاعفة , وطالب الدنيا لا تحصل له المطالب بأسرها ولهذا قال ) نؤته منها ( أي بعض ذلك ) وما له في الآخرة من نصيب ( قط وفي زيادةو لفظ الحرث فائدة أخرى وهي أن يعلم أن شيئاً من القسمين لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه همه وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له , ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله ههمه وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ) هذا لفظه أو لفظ هذا معناه .
وعن قتادة إن الله يعطي الدنيا على نية الآخرة ولا يعطي الآخرة على نية الدنيا .
وفي ظاهر اللفظ دلالة على أن من صلى لطلب الثواب أو لدفع العقاب فإنه تصح صلاته لأنه صلى لأجل ما يتعلق بالآخرة .
قال بعض أصحاب الشافعي : إذا توضأ بغير نية لم يصح لأن هذا الإنسان غفل عن الآخرة وعن ذكر الله , والخروج عن عهدة الصلاة من باب منافع الآخرة فلا يحصل بالوضوء العاري عن النية , وحيث بين القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في أعمال الدارين نبه على أحوال الضلال بقوله ) أم لهم شركاء ( وهي المنقطعة عند بعضهم .
وقال آخرون : هي المعادلة لألف الاستفهام تقديره أفيقبلون ما شرع الله لهم من الدين أم لهم آلهة ) شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ( أي لم يأمرهم به أو لم يعلمه كقوله ) أتنبؤن الله بما لا يعلم ) [ يونس : 18 ] والأذن بالفتح العلم بالمسموعات وتحقيقه شرعوا ما ليس بشريعة إذ لو كان شريعة لعلمها الله ) ولولا كلمة الفصل ( أي القضاء السابق بتأخير الجزاء ) لقضي بينهم ( والضمير للمؤمنين والكافرين أو المشركين والشركاء ) ترى الظالمين ( في القيامة ) مشفقين ( خائفين ) مما كسبوا ( من الجرائم ) وهو ( أي وبال ذلك ) واقع بهم ( واصل إليهم لا محالة ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات في ورضات الجنات ( أي منتزهاتها .
قالت الأشاعرة : فيه دليل على أن غيرها من الأماكن في الجنة لغير المذكورين وغيرهم ليس إلا الذي آمن ولم يعمل صالحاً وهو الفاسق .
ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون إضافة الروضات إلى الجنات من إضافة العام إلى الخاص فيكون الجنات كلها روضات , ولكن الروضات قد لا تكون في الجنة لثبوتها في الدنيا .
والفضل الكبير قد تقدم في ( فاطر ) ) ذلك ( المذكور أو الثواب أو التبشير هو ) الذي يبشر الله ( به ) عباده ( ثم حذف الجار , ثم الراجع إلى الموصول , ثم أمر رسوله بأن يقول ) لا أسألكم عليه ( على هذا التبليغ ) أجراً إلا المودة ( الكائنة ) في القربى ( جعلوا مكاناَ للمودة ومقراً لها ولهذا لم يقل ( مودة القربى ) أو ( المودة للقربى ) وهي مصدر بمعنى القرابة أي في أهل القربى وفي حقهم .
فإن قيل : استثناء المودة من الأجر دليل على أنه طلب الأجر على تبليغ الوحي وذلك غير جائز كما جاء في قصص سائر الأنبياء ولا سيما في ( الشعراء ) .
وقد جاء في حق نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) وأيضاً ) قل ما سألتكم من أجر فهو لكم ) [ سبأ : 47 ] ( وقل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) [ ص : 86 ] والمعقول منه أن التبليغ واجب عليه وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بالمروءة .
وأيضاً أنه يوجب التهمة ونقصان الحشمة .
قلنا : إن من جعل الآية منسوخة باللتين لا استثناء فيهما فلا إشكال عليه , وأما الآخرون فمنهم من قال : الاستثناء متصل ولكنه من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب والمعنى لا أطلب منكم أجراً , إلا هذا وهو في الحقيقة ليس أجراً لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب ولا سيما في حق الأقارب كما قال عز من قائل ) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ) [ الرعد : 21 ] ومنهم من قال : الاستثناء منقطع أي لا أسألكم عليه أجراً ألبتة , ولكن أذكركم المودة في القربى , وفي تفسير ) المودة في القربى ( أربعة أقوال : الأول قال الشعبي : أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فأجاب بأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان واسطة النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد كان بينهم وبينه قرابة فقال الله : قل لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجراً إلا أن تودوني لقرابتي منكم يعني أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذونني ولا تهيجوا عليّ .
القول الثاني : روى الكعبي عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانت تنوبه نوائب وحقوق وليس في يده سعة فقال الأنصار : إن هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم , فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا .
ثم أتوه فرده عليهم ونزلت الآية بحثهم على مودة أقاربهم وصلة أرحامهم .
القول الثالث : عن الحسن : إلا أن تودوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح .
الرابع : عن سعيد بن جبير : لما نزلت هذه الآية قال : يا رسول الله من هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم لقرابتك ؟ فقال : علي وفاطمة وابناهما .
ولا ريب أن هذا فخر عظيم وشرف تام ويؤيده ما روي أن علياً رضي الله عنه شكا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حسد الناس فيه فقال : أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرياتنا خلف أزواجنا وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( حرمت الجنة على ما ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غداً إذ لقيني يوم القيامة ) وكان يقول ( فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ) وثبت بالنقل المتواتر أنه كان يحب علياً والحسن والحسين , وإذا كان ذلك وجب علينا محبتهم لقوله ) فاتبعوه ) [ الأنعام : 153 ] وكفى شرفاً لآل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفخراً ختم التشهد بذكرهم والصلاة عليهم في كل صلاة .
قال بعض المذكرين : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) فنحن نركب سفينة حب آل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونضع ابصارنا على الكواكب النيرة أعنى آثار الصحابة لنتخلص من بحر التكليف وظلمة الجهالة ومن امواج الشبه والضلالة .
ثم أكد إيصال الثواب على المودة بقوله ) ومن يقترف حسنة ( أي يكتسب طاعة , قال بعض أهل اللغة : الاقتراف مستعمل في الشر فاستعارة ههنا للخير .
عن السدي أنها المودة في آل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نزلت في أبي بكر الصديق ومودته فيهم , والظاهر العموم في كل حسنة ولا شك أن هذه مراده قصداً أولياً لذكرها عقيبها .
ومعنى زيادة حسنها تضعيف ثوابها ) إن الله غفور ( لمن أذنب ) شكور ( لمن أطاع الله والله أعلم .
( الشورى : ( 24 - 53 ) أم يقولون افترى . . . .
" أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم(6/75)
" صفحة رقم 76 "
قدير وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور "
( القراآت )
ما تفعلون ( على الخطاب : حمزة وعلي وحفص ) ينزل الغيث ( بالتشديد : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم ) ينزل ( بالتخفيف : ابن كثير وأبو عمروا ويعقوب ) بما كسبت ( بدون فاء الجزاء : أبو جعفر ونافع وابن عامر .
الباقون ) فبما كسبت ( بالفاء ) الجواري ( بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو في الوصل .
وقرأ قتيبة ونصير وأبو عمروا بالإمالة ) الرياح ( نافع. على الجمع : أبو جعفر ونافع ) ويعلم الذين ( بالرفع : ابن عامر وأبو جعفر ونافع .
الباقون : بالنصب ) كبير الإثم ( على التوحيد : حمزة وعلي وخلف .
) أو يرسل ( بالرفع ) فيوحى ( بالإسكان : نافع وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان .
الآخرون : بالنصب فيهما .
الوقوف : ( كذباً ( ج للشرط مع فاء التعقيب ) قلبك ( ط لأن ما بعده مستأنف ) بكلماته ( ط ) الصدور ( ه ) تفعلون ( ه لا ) فضله ( ط ) شديد ( ه ) يشاء ( ط ) بصير ( ه ) رحمته ( ط ) الحميد ( ه ) دابة ( ط ) قدير ( ه ) كثير ( ه ) في الأرض ( ط ) ولا نصير ( ه ) كالأعلام ( ه ط ) على ظهره ( ط ) شكور ( ه لا ) كثير ( ه لا لمن رفع ) ويعلم ( ومن نصب فوقفه مجوز ) آياتنا ( ط ) محيص ( ه ) الدنيا ( ج لعطف جملتي الشرط ويحتمل أن يكون الوقف مطلقاً بناء على أن الثانية أخبار مستانف ) يتوكلون ( ه ط ) يغفرون ( ه ج ) الصلاة ( ص لانقطاع النظم واتصال المعنى واتحاد المقول ) بينهم ( ص لذلك ) ينفقون ( ه ج ) ينتصرون ( ه ) مثلها ( ج ) على الله ( ط ) الظالمين ( ه ) سبيل ( ه ط ) الحق ( ط ) أليم ( ه ) الأمور ( ه ) بعده ( ط ) من سبيل ( ه ج للآية مع العطف ) خفي ( ط ) القيامة ( ط ) مقيم ( ه ) من دون الله ( ط ) سبيل ( ط ) من الله ( ط ) نكير ( ه ) حفيظاً ( ط ) البلاغ ( ط ) بها ( ج ) كفور ( ه ) والأرض ( ط ) ما يشاء ( ط ) الذكور ( ه لا ) وإناثاً ( ج لاحتمال ما بعده العطف والاستئناف أي وهو يجعل ) عقيماً ( ه ) قدير ( ه ) ما يشاء ( ط ) حكيم ( ه ) أمرنا ( ط ) عبادنا ( ط ) مستقيم ( ه ) وما في الأرض ( ط ) الأمور ( ه .
التفسير : لما ذكر في أول السورة أن هذا القرآن إنما حصل بوحي الله وانجر الكلام(6/76)
" صفحة رقم 77 "
إلى ههنا حكى شبهة القوم وهي زعمهم أنه مفترى وليس بوحي فقال ) أم يقولون افترى ( قال جار الله : ( أم ) منقطعة ، ومعنى الهمزة فيه التوبيخ كأنه قيل : أيتمالكون أن ينسبوا مثله إلى أعظم أنواع الفرية وهو الافتراء على الله ، ثم أجابهم بقوله ) فإن يشاء الله يختم على قلبك ( أي يجعلك من المختوم على قلوبهم فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم .
والغرض المبالغة في استبعاد الافتراء من مثله والتعريض بأن من ينسبه إلى الافتراء فهو مختوم على قلبه .
وقيل : لأنساك ما أتاك من القرآن ولكنه لم يشأ فأثبته فيه ، وقيل : لأماتك فإن قلب الميت كالمختوم عليه ومثله ) لقطعنا منه الوتين ) [ الحاقة : 46 ] قاله قتادة .
وقال مجاهد ومقاتل : يربط على قلبك بالصبر على أذاهم فلا يدخل قلبك حزن مما قالوه .
ثم استأنف فقال ) ويمح الله الباطل ( أي من عادته ذلك فلو كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مبطلاً لفضحه وكشف عن باطله ، وحذف الواو من الخط لا للجزم كما في قوله ) ويدع الإنسان ) [ الإسراء : 11 ] ( سندع الزبانية ) [ العلق : 18 ] وفي تفسير الجبائي أن الواو حذف للجزم ، والمعنى إن افتريت ختم على قلبك ومحا الباطل المفترى ، فالاستئناف على هذا من قوله ) ويحق الحق بكلماته ) [ يونس : 82 ] أي يثبت ما هو الحق في نفسه بوحيه أو بقضائه .
ويجوز أن يكون وعداً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ويظهر الحق الذي أنت عليه وهو القرآن بحكمه السابق وبعلمه القديم ) إنه عليم بذات الصدور ( فيجازي المبطل والمحق على حسب حاليهما وحين وبخهم على البهت والتكذيب ندبهم إلى التوبة وعرفهم أنه يقبلها من كل مسيء والآية واضحة مما سلف تارات ولا سيما في أوائل البقرة في توبة آدم .
أما الضمير في قوله ) ويستجيب ( فعائد إلى الله سبحانه وأصله ويستجيب لهم فحذف الجار ، والمراد أنه إذا دعوه استجاب لهم وأعطاهم ما طلبوا وزادهم على مطلوبهم تفضلاً .
وقيل : لا ضمير فيه وإنما الظاهر بعده فاعله. قال سعيد بن جبير : أراد أن المؤمنين يجيبونه إذا دعاهم .
وعن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قيل : ما بالنا ندعو فلا نجاب ؟ قال : لأنه دعاكم فلو تجيبوه وقرأ ) والله يدعو إلى دار السلام ويستجيب الذين آمنوا ) [ يونس : 25 ] وحيث وعد الاستجابة للمؤمنين كان لسائل أن يقول : إنا نرى المؤمن في شدة وبلية وفقر ثم إنه يدعو الله فلا يشاهد أثر الإجابة فلا جرم قال ) ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ( أي ظلم بعضهم بعضاً وعصوا الله .
وهذه ليست بقضية كلية دائمة ولكنها أكثرية ، فإن المال معين قوي على تحصيل المطالب ودفع ما لا يلائم النفس ، وإذا كانت الآلة موجودة وداعية الشر في طبع الإنسان مجبولة فقلما لا يقع مقتضاه في الخارج وأيضاً إن أكثر الناس إنما يخدم مثله ويتسخره طمعاً في ماله أوجاهه التابع للمال غالباً ، فهو تساويا(6/77)
" صفحة رقم 78 "
في المال استنكف كل منهما من الانقياد لصاحبه فارتفعت رابطة التعاون وانقطعت سلسلة التمدن ، وقيل : إن الآية نزلت في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وأغار بعضهم على بعض ولبعضهم شعر
قوم إذا نبت الربيع بأرضهم
نبتت عداوتهم مع البقل
وقال محمد بن جرير : نزلت في أصحاب الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى .
وقوله ( بقدر ( أي على قدر المصلحة ووفق حال الشخص كقوله ) وما ننزله إلا بقدر معلوم ) [ الحجر : 21 ] وحي بين أن حكمته اقتضت عدم اوسيع الرزق على كل الخلق أراد أن يبين أنه لا يترك ما يحتاجون إليه وإن بلغ أمرهم إلى حد اليأس والقنوط فقال ) وهو الذي ينزل الغيث ( الآية .
ونشر الرحمة عموم المطر الأرض أو هي عامة في كل رحمة سوى المطر ) وهو الولي ( الذي يتولى أمور عباده ) الحميد ( على كل ما يفعله .
ولا ريب أن هذه من جملة دلائل القدرة فلذلك عطف عليها قوله ) ومن آياته خلق السموات والأرض ( ومحل قوله ) وما بث ( إما مجرور عطفاً على السموات أو مرفوع عطفاً على خلق .
وإنما قال ) فيهما من دابة ( مع أن الدواب في الأرض وحدها لأن الشيء قد ينسب إلى جميع المذكور وإن كان متلبساً ببعضه كما يقال : ( بنو فلان فعلوا كذا ) ولعله قد فعله واحد منهم فقط .
ويحوز أن يكون للملائكة مع الطيران مشى فيتصفوا بالدبيب كالإنسان ، أو يكون في السموات أنواع أخر من الخلائق يدبون كما يدب الحيوان في الأرض ) وهو على جمعهم ( أي إحيائهم بعد الموت ) إذا يشاء قدير ( وإذا يدخل على الماضي ومعنى الاستقبال في ) يشاء ( يعود إلى تعلق المشيئة لا إلى نفس المشيئة القديمة .
ثم بين حال المكلفين وأن ما يصيبهم من ألم ومكروه وبلاء فهو عقوبة للمعاصي التي اكتسبوها ، وأن الله يعفو عن كثير من الذنوب أو الناس فلا يعاجلهم بالعقوبة رحمة أو استدراجاً .
قال الحسن : أراد إقامة الحدود على المعاصي وأنه لم يجعل لبعض الذنوب حداً .
وقيل : إن هذه في يوم القيامة فإن الدنيا دار تكليف لا دار جزاء .
ولقائل أن يقول : كون الجزاء الأوفي على الإثم مخصوصاً بالقيامة لا ينافي وصول بعض الجزاء إلى المكلف في الدنيا ، ولهذا قال علي رضي الله عنه : هذه أرجى آية للمؤمنين في كتاب الله .
وذلك أنه تعالى قسم ذنوب المؤمنين صنفين : صنف يكفره عنهم بالمصائب ، وصنف يعفو وهو كريم لا يرجع في عفوه ، نعم لو عكست القضية وقيل ما كسبت أيديكمفإنه يصيبكم به ألم وعذاب في الدنيا لكان هذا منافياً لكون الجزاء في الآخرة ولحصول العفو أيضاً .
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ في هذه الآية فقال : ما عفا الله عنه .
فهو أعز وأكرم من(6/78)
" صفحة رقم 79 "
أن يعود إليه في الآخرة وما عاقب عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يعيد عليه العذاب في الآخرة .
قال أهل التناسخ : لولا أن الأطفال والبهائم لهم حالة كانوا عيلها قبل هذه الحالة ما كانوا ليتألموا فإنهم لا ذنوب لهم الآن .
وأجيب بالتزام أنهم لا يتألمون من المصائب والآلام وفيه بعد ، وبأن الخطاب في الآية لذوي العقول البالغين ، وبأنها في البالغين عقوبة أو زيادة درجة ، وفي الأطفال مثوبة لهم أو لوالديهم .
ثم خاطب المشركين بقوله ) وما أنتم بمعجزين ( الآية ثم ذكر دليلاً آخر قائلاً ) ومن آياته الجواري ( أي السفن الجواري ) في البحر كالأعلام ( أي كالجبال في العظم .
ولا شك أن جريانها بواسطة هبوب الرياح فلذلك قال ) إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ( أي فيصرن واقفة على ظهر ماء البحر ) إن في ذلك لآيات لكل صبار ( على البلاء ) شكور ( على الآلاء أو صبار في السفينة شكور إذا خرج منها ) أو ( أن يشأ ) يوبقهن ( أي يهلك السفينة بما فيها بالغرق أو الكسر لعصوف الريح ويغره ) بما كسبوا ( من كفران نعم الله وعصيانه ) ويعف عن كثير ( من الذنوب فلا يجازي عليها في الدنيا ولا في الآخرة .
والحاصل أنه إن يشأ يسكن الريح فتبقى الجواري واقفة على متن البحر ، أو أن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً على طريق العفو عنهم .
من رفع ) ويعلم ( فعلى الاستئناف ، ومن نصب فللعطف على تعليل محذوف أي لينتقم منهم ويعلم قاله في الكشاف .
وقال الكوفيون ومنهم الزجاج : النصب بإضمار ( أن ) لأن قبلها جزاء .
تقول : ما تصنع أصنع وأكرمك .
ووجهه أن هذا في تأويل المصدر المعطوف على مصدر أصنع مقدراً .
ثم استأنف قوله ) ما لهم من محيص ( أي لا مهرب للمجادلين عن عقابه .
ثم رغب المكلفين عن الدنيا وفي الدنيا وفي الآخرة وقد مر نظيره في القصص إلا أنه ذكر ههنا أن هذه الخيرية تحصل للموصوفين بصفات إحداها افيمان ، والثانية التوكل على الرب ، والثالثة الاجتناب عن الكبائر والفواحش كقوله ) إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) [ النساء : 31 ] ( إنما حرم ربي الفواحش ) [ الأعراف : 33 ] ومن قرأ ) كبير ( على التوحيد فللجنس ، وفسره ابن عباس بالشرك ، الرابعة الغفران عند الغضب ( وهم ) تأكيد للضمير أو مبتدأ ما بعده خبره .
قال بعض العلماء : يحتمل أن يراد بالكبائر ما يتعلق بالبدع والعقائد الفاسدة وهي من فساد القوة العقلية ، وبالفواحش فساد القوة الشهوية ، وبالأخيرة ما يتعلق بالقوة الغضبية .
قال المفسرون : نزل قوله ) والذين استجابوا لربهم ( في الأنصار دعاهم الله ورسوله إلى التوحيد فأطاعوا ورضوا بقضائه وواظبوا على الصلوات الخمس ، وكانوا قبل الإسلام متشاورين في كل أمر دهمهم غير منفردين برأي ، والشورى مصدر كالفتيا ، والمضاف محذوف أي ذو التشاور .
وليس بين(6/79)
" صفحة رقم 80 "
قوله ) هم ينتصرون ( أي ينتقمون وبين قوله ) يغفرون ( منافات ، فإن هذه أخص من الأولى إذ البغي هو الذي يؤدي إلى الفساد ولا يصير عفوه سبباً لتسكين ثائرة الفتنة ولرجوع الجاني عن جنايته ، ويجوز أن يتوجه المدح في الانتصار إلى كون المظلوم بحيث يراعي حد الشرع ولا يتجاوزه حتى لو زاد عليه لم يكن منتصراً ولا يستحق المدح ، فهذه خمس صفات أخرى للراغبين في الدار الآخرة .
ثم بين أن شرعه الانتصار مشروطة برعاية المماثلة فقال ) وجزاء سيئة سيئة مثلها ( حتى لو قال أخزاه الله لا يزيد في الجواب عليه شيئاً .
وسمى الثاني سيئة ازدواجاً للكلام أو لأن السيئة هي التي يكرهها الإنسان طبعأ كالقصاص والقطع وسائر الحدود .
وقد لا يمكن رعاية المماثلة كما في قتل الأنفس بنفس واحدة أو كقطع اليدي بواجدة إذا تعاونوا على قطعها ذلك في الفقه .
وإنما عرف ذلك بنص آخر أو بقياس جلي .
ثم حث مع ذلك على العفو والصبر قائلاً ) فمن عفى وأصلح ( ما بينه وبين خصمه بالإغضاء والعفو ) فأجره على الله ( فإن الانتصار حسن في نفسه ولا سيما إذا كان فيه مصلحة دينية كزجر وارتداع إلا أن العفو أحسن لأنه لا يكاد يؤمن في الانتصار والتجاوز عن حد الاعتدال ولهذا حذر منه بقوله ) إنه لا يحب الظالمين ( روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له أجر على الله فليقم فيقوم خلق فيقال لهم : ما أجركم على الله ؟ فيقولون : نحن الذين عفونا عمن ظلمنا. فيقال لهم : ادخلوا الجنة بإذن الله ) ثم كرر أن الانتصار لا يؤاخذ به ولا سبيل للوم إليه لئلا يظن أن وعد الأجر على العفو يقتضي قبح الانتصار في نفسه فقال ) ولمن انتصر ( الآية ، وقوله ( بعد ظلمه ( من إضافة المصدر إلى المفعول والباقي واضح إلى قوله ) الأمور ( وإنما أدخل اللام في الخبر خلاف ما في لقمان لأن الصبر على المكروه الذي هو ظلم أشد من الصبر على الذي ليس بظلم ، وتكرير الحث على الصبر لمزيد التأكيد أيضاً ، ثم ذكر أن الإضلال والهداية التي هي نقيضه إنما تتعلق بمشيئته .
والمعتزلة يتأولون الإضلال بالخذلان أو بالإضلال عن طريق الجنة .
ثم حكى أن الكفار عند معاينة عذاب النار يتمنون الرجعة إلى الدنيا ، ثم عقبه بذكر حالهم حين يعرضون على النار .
الخشوع بمعنى الهوان ولهذا علق بقوله ) من الذل ( وقد يعلق ) بينظرون ( أي لهذا السبب يبتدىء نظرهم من تحريك أجفانهم وهو ضعيف فإن الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه لعيها ، وقد يفسر الطرف الخفي بمعنى البصيرة بناء على أن الكفار يحشرون عمياً فلا ينظرون إلا بقلوبهم والأكثرون أجابوا عنه فقالوا : لعلهم يكونون في الابتداء هكذا ثم يجعلون عمياً ، أو لعل هذا في قوم وذاك في قوم .
ثم حكى قول المؤمنين فيهم ) ويوم القيامة ( ظرف ) لخسروا ( كما في ( الزمر ) فيحتمل أن(6/80)
" صفحة رقم 81 "
يكون قول المؤمنين فيه أو في الدنيا .
وجوز في الكشاف أن يكون ظرفاً لقال .
والنكير الإنكار أي ما لكم من مخلص ولا من قدرة أن تنكروا شيئاً مما دوّن في صحائف أعمالكم أو مالكم من ينكر علينا حتى يغير شيئاً من أحوالكم .
ثم سلى نبيه بقوله ) فإن أعرضوا ( ثم ذكر سبب إصرارهم على عقائدهم الفاسدة وهو الضعف الذي جبل عليه الإنسان من البطر عندالغنى ، والفراغ من زمن الصحة ، والأمن في زمن الكفران ، ونسيان نعم الله عند البلاء .
وإنما جمع قوله ) وإن تصبهم ( لأن الإنسان جنس يشمل أهل الغفلة كلهم .
وقوله ( فإن الإنسان ( من وضع الظاهر موضع الضمير وفائدته التسجيل على أن هذا الجنس من شأنه ذلك إلا إذا أدّب النفس وراضها .
ثم بين كمالقدرته بقوله ) لله ملك السموات والأرض ( الآية .
والمقصود أن الإنسان لا يغتر بما يملكه من الجاه والمال ولا يعتقد أنه حصل بجد أوجده فيعجب به ويعرض عن طاعة ربه .
ثم ذكر من أقسام تصرفه في مكله أنه يخص البعض من الحيوان بالأولاد الإناث ، والبعض بالذكور ، والبعض بالصنفين ، والبعض يجعله عديم الولد .
وقدم ذكر الإناث تطييباً لقلوب آبائهن أو لأنهن مكروهات عند العرب فناسب أن يقرن اللفظ الدال عليهن باللفظ الدال على البلاء ، أو لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء الإنسان فكان ذكر الإناث التي هي من جملة ما لا يشاء الإنسان أهم .
وفيه نقل الإنسان من الغم إلى الفرح .
ولا ريب أن هذا أولى من العكس .
وفيه أن الإنسان إذا رضي بالأنثى فإذا أعطاه الذكر علم أنه فضل من الله .
وفيه أن العجز كلما كان أتم كانت عناية الله بحاله أوفر .
ثم أراد أن يتدارك تأخيرهم وهم أحقاء بالتقديم فعرف الذكور لأنه مع رعاية الفاصلة تنويه وتشهير كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام .
ثم قال ) أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ( فأعطى كلا الجنسين حقه .
ونصبهما على الحال ، والضمير للأولاد أو على المفعولية ، والضمير لمن يشاء أي يجمع لهم كلا الصنفين سواء كانا متساويين في العدد أم لا .
وقيل : معناه أن تلدل أولاً غلاماً ثم جارية ثم غلاماً ثم جارية وهكذا قاله مجاهد .
وقيل أن تلد ذكراً وأنثى في طبن واحد قاله ابن الحنيفة : وعن ابن عباس أن الآية نزلت في الأنبياء ، وهب لشعيب ولوط أناثاً هن ولإبراهيم عليه السلام ذكوراً ، ولمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ذكوراً وهم القاسم والطاهر وعبد الله وإبراهيم ، وإناثاً هن فاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم ، وجعل يحيى وعيسى عقيماً .
والحق أن هذا التقسيم وإن كان مطابقاً لحال هؤلاء الأنبياء إلا أن في التخصيص ضيق عطن .
وإن صحت الرواية عن ابن عباس فالعبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب وحمل بعض أهل التأويل الإناث على أمور الدنيا والذكور على أمور الآخرة ، وتزويج الصنفين على الجامع بين الأمرين ، والعقيم على(6/81)
" صفحة رقم 82 "
من لا دين له ولا دنيا ثم أكد كمال القدرة بقوله ) وما كان لبشر ( أي وما صح لأحد ) أن يكلمه الله إلا ( على أحد ثلاثة أنحاء : الأول الوحي وهو الإلهام أو المنام كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده .
وعن مجاهد أن داود عليه السلام ألهمه الزبور فكتبه حفظاً .
الثاني التكليم بلا واسطة ولكن من وراء حجاب .
والمجسمة استدلوا به على أنه تعالى في جهة فإن الاحتجاب لا يصح إلا من ذي جهة ومكان ، وأجيب بأن هذا مثل لأنه إذا سمع الصوت ولا يرى الشخص كان بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب كما كلم موسى ويكلم الملائكة .
وقيل : حجاب عن إدراك ذلك الكلام لا المتكلم .
وقيل : حجاب لموضع الكلام .
الثالث أن يرسل رسولاً كجبرائيل فيوحي الملك بإذن الله إلى النبي ما يشاؤه الله .
والأقسلام الثلاثة كلها من قيل الوحي ولكنه سبحانه جعل الوحي في الآية خاصاً بالأول ، وتقدير الكلام : وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً أو إلا وحياً أو إسماعاً أو إرسالاً ، أو إلا أن يوحى أو يسمع أو يرسل .
ومن قرأ بالرفع فعلى الاستئناف بمعنى أو هو يرسل أو على الحال بمعنى مرسلاً عطفاً على ) وحياً ( بمعنى موحياً .
وقيل : الوحي هو الوحي إلى الرسل بواسطة الملائكة ، وإرسال الرسل إرسال الأنبياء إلى الأمم ، فإن الصحيح عند أهل الحق أن الشيطان لا يقدر على إلقاء الباطل في أثناء الوحي .
وقد يقال : إن توجيه التكليف إلى العبد لا يتم إلا بثلاث مراتب من المعجزات ، وذلك أن التسلسل محال فلا بد من سماع الملك كلام الله بلا واسطة .
فالملك يحتاج إلى معجزة تدل على أن ذلك الكلام كلام الله ، وإذا بلغ الملك ذلك الكلام إلى ابني فلا بد للنبي من مشاهدة معجزة تدل على صدقه ، وإذا بلغ لارسول لأمته فالأمر كذلك .
وهذا الثالث مشهور متفق لعيه ، وأما الأولان فعلهما يعرفان بنور الباطن ولا يفتقر إلى المعجزة لا في أول الأمر ولا كل مرة .
قال أهل التصديق : إن الأقسام الثلاثة اجتمعت لنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأنه في بدء الإسلام كان يرى الرؤيا لاصادقة كفلق الصبح ، وسمع الكلام من وراء الحجاب ليلة المعراج ، وكان يأتيه جبرائيل إلى آخر عمره فلهذا قال عز من قائل ) وكذلك أوحينا إليك ( ويحتمل أن يراد كما أوحينا إلى سائر الأنبياء أوحينا إليك يعني بالطريق الأكثري وهو القسم الثالث .
ومعنى ) وحاً من أمرنا ( قرآنا من عندنا أومن عالم أمرنا كقوله ) يلقى الروح من أمره ( ) غافر : 15 ] و ) ما كنت تدري ( في المهد أو قبل البلوغ أو قبل الوحي ) ما الكتاب ولا الإيمان ( يعني ما يتعلق بكمال الإيمان مما لا يكفي في معرفته مجردالعقل والنظر ويتوقف على النقل وإذن الشرع .
وقيل : أراد أهل افيمان يعني من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن والضمير في ) جعلناه ( للقرآن أو الإيمان أولهما جميعاً .
ووجد كقوله ) وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها ) [ الجمعة :(6/82)
" صفحة رقم 83 "
11 ] وهداية الله خاصة .
وهداية النبي عامة وهي الدعوة ، وصراط الله دنيه ، ومصير الكل إليه عبارة عن رجوعهم إلى حيث لا حكم لأحد سواه والله أعلم .(6/83)
" صفحة رقم 84 "
سورة الزخرف
( سورة الزخرف وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وأربعمائة كلمها ثمانمائة وثلاث وثلاثون آياتها تسع وثمانون آية ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الزخرف : ( 1 - 30 ) حم
" حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤون فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما(6/84)
" صفحة رقم 85 "
أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون "
( القراآت )
في إم الكتاب ( بكسر الهمزة : حمزة وعلي ) إن كنتم ( بالكسر : أبو جعفر ونافع وعلي وحمزة وخلف .
الآخرون : بالفتح أي لأن كنتم ) مهداً ( : عاصم وحمزة وعلي وخلف وروح .
الباقون ) مهاد ( ) ميتاً ( بالتشديد : يزيد .
) يخرجون ( من الخروج : حمزة وعلي وخلف وابن ذكوان .
الآخرون : من الإخراج ) ينشأ ( من باب التفعيل : حمزة وعلي وخلف وحفص .
الباقون : بالتخفيف والياء مفتوحة والنون ساكنة ) عباد الرحمن ( جمع عبد أو عابد : أبو عمرو وعاصم وحمزة وعلي وخلف. ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر ) عند الرحمن ( بالنون كقوله ) فالذين عند ربك ) [ فصلت : 38 ] الآخرون : ( عبيد الرحمن ( ) أو شهدوا ( بقلب همزة الإشهاد واواً مضمومة بتحقيق الهمزتين .
الباقون : بهمزة واحدة وقالون مثله ولكن بالمد .
وقرأ المفضل بتحقيق الهمزتين .
الباقون : بهمزة واحدة للاستفهام والشين مفتوحة ) قال أولو ( بالألف : ابن عامر وحفص والمفضل ) جئناكم ( يزيد .
الوقوف : ( حم ( ه كوفي ) المبين ( ه لا ومن لم يقف على ) حم ( وقف على ) المبين ( لأن القسم متعلق بما قبله وهو هذه ) حم ( ) تعقلون ( ه ج ) حكيم ( ه ط ) مسرفين ( ه ) الأولين ( ه ) يستهزؤن ( ه ) الأولين ( ه ) العليم ( ه لا بناء على أن ما بعده وصف ولو كان نصباً أو رفعاً على المدح فالوقف ) تهتدون ( ه ) بقدر ( ج للالتفات مع الفاء ) ميتاً ( ج لانقطاع النظم مع تعلق التشبيه ) تخرجون ( ه ) تركبون ( ه لا ) مقرنين ( ه لا لأن ما بعده من تمام المقول ) لمنقلبون ( ه ) جزءاً ( ط ) مبين ( ه ط ) بالبنين ( ه ) كظيم ( ه ) مبين ( ه ) إناثاً ( ط ) خلقهم ( ط ) ويسئلون ( ه ) ما عبدناهم ( ط ) يحرصون ( ه ط ) مستمسكون ( ه ) مهتدون ( ه ) مقتدون ( ه ) آباءكم ( ط ) كافرون ( ه ) المكذبين ( ه ) تعبدون ( ه لا ) سيهدين ( ه ) يرجعون ( ه ) مبين ( ه ) كافرون ( ه .
التفسير : أقسم بجنس الكتاب أو بالقرآن الظاهر الإعجاز أو المفصح عن كل حكم يحتاج المكلف إليه أنه جعل القرآن بلغة العرب ليعقلوه .
وفي نسبة الجعل إلى نفسه إشارة(6/85)
" صفحة رقم 86 "
إلى أنه ليس بمفترى كما زعمه الكفرة .
وقيل : أراد ورب الكتاب وقيل : الكتاب اللوح المحفوظ .
وقال ابن بحر : هو الخط أقسم به تعظيماً لنعمته فيه ، وقال ابن عيسى : البيان ما يظهر به المعنى للنفس عند الإدراك بالبصر والسمع وذلك على خمسة أوجه : لفظ وخط وإشارة وعقد وهيئة ، كالأعراض وتكليح الوجه .
وأم الكتاب بكسر الهمزة وبضمها اللوح المحفوظ لأنه أصل كل كتاب والتقدير : وإنه لعلي حكيم في أم الكتاب لدينا .
والعلو علو الشأن في البلاغة والإرشاد وغير ذلك والحكيم المشتمل على الحكمة .
ثم أنكر على مشركي قريش بقوله ) أفنضرب ( قال جار الله : أراد أنهملكم فنضرب ) عنكم الذكر ( يقال : ضرب عنه الذكر إذا أمسك عنه وأعرض عن ذكره من ضرب في الأرض .
إذا أبعد و ) صفحاً ( مصدر من غير لفظ الفعل والأصل فيه أن تولي الشيء صفحة عنقك ، وجوز جار الله أن يكون بمعنى جانباً من قولهم : ( نظر إلأيه بصفح وجهه ) فينتصب على الظرف ويكون الذكر بمعنى الوعظ والقرآن والفحوى أفننحيه عنكم .
وقيل : ضرب الذكر رفع القرآن عن الأرض أي أفنرفع القرآن عن الأرض أي أفنرفع القرآن من بين أظهركم إشراككم مع علمنا بأنه سيأتي من يقبله ويعمل به .
قال السدي : أفنترككم سدى لا نأمركم ولا ننهاكم وهو قريب من الأول .
وقيل : الذكر هو أن يذكروا بالعقاب ولا يخلوا من مناسبة لقوله ) فأهلكنا أشد منهم بطشاً ( ومن قرأ ) إن كنتم ( بالكسر فكقول اجير : إن كنت عملت لك فوفني حقي .
يخيل في كلامه أن تفريطه في الخروج عن عهدة الأجر فعل من يشذ في الاستحقاق مع تحققه في الخارج .
ثم سلى نبيه بقوله ) وكم أرسلنا ( الآيتين .
قوله ) أشد منهم ( قيل : ( من ) زائدة والمراد أشدهم ) بطشاً ( كعاد وثمود وقيل : الضمير لقوم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصله أشد منكم إلا أنه ورد على طريقة الالتفات كقوله ) حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) [ يونس : 22 ] قوله ) ومضى مثل الأولين ( أي سلف ذكرهم وقصتهم العجيبة في القرآن غير مرة ويحتمل أن يكون معناه كقوله ) وقد خلت سنة الأولين ) [ الحجر : 13 ] ثم بين بقوله ) ولئن سألتهم ( أن كفرهم كفر عناد ولجاج لأنهم يعرفون الله ثم ينكرون رسوله وكتابه وقدرته على البعث .
وهذه الأوصاف من كلام الله لا من قول الكفار بدليل قوله ) لكم ( ولم يقل ( لنا ) ولقوله ) فأنشرنا ( والمراد لينسبن خلقها إلى الذي هذه أوصافه وقد مر في ( طه ) مثله .
وقوله ( تهتدون ( أي في الأسفار أو إلى الإيمان بالنظر والاعتبار .
وقوله ( بقدر ( أي بمقدار الحاجة لا مخرباً مغرقاً كما في الطوفان .
وقوله ( ميتاً ( تذكيره بتأويل المكان .
والأزواج الأصناف وقد مر في قوله ) سبحان الذي خلق الأزواج ) [ يس : 36 ] والعائد إلى ما في قوله ) ما تركبون ( محذوف فلك أن تقدره مؤنثاً أو مذكراً باعتبارين .
قال في الكشاف : يقال : ركبت الأنعام وركبت في الفلك إلا أنه غلب المتعدي بغير(6/86)
" صفحة رقم 87 "
واسطة على المتعدي بواسطة .
قلت : يجوز أن يكون كقوله ( ويوم شهدناه ) والضمير في ظهوره عائد إلى ما .
والاستواء في الآية بمعنى التمكن والاستقرار وذكر النعمة بالقلب ويحتمل كونه باللسان وهو تقديم الحمد لله .
يروى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا وضع رجله في الركاب قال : الحمد لله على كل حال ) سباحن الذي سخر لنا هذا ( إلى قوله ) لمنقلبون ( وكبر ثلاثاً وهلل ثلاثاً .
وإذا ركب في السفينة قال ) بسم الله مجريها ومرساها أن ربي لغفور رحيم ) [ هود : 41 ] بعضها ببعض حتى يسيرها إلى حيث يريد ) وإنا إلى ربنا لمنقلبون ( أي في آخر عمرنا كأنه يتذكر ركوب الجنازة أو عثور الدابةأو انكسار السفينة فليستعد للقاء الله عز وجل بخلاف من يركب الخيول والزوارق لأجل التنزه والاشتغال بالملاهي والمناهي فيكون غافلاً عن المبدأ والمعاد .
عن بعضهم أنه أدخل في البحر ههنا خلاف ما في ( الشعراء ) لأن ركوب الدابة أو السفينة أو الجنازة عام لكل أحد .
وما في ( الشعراء ) خاص بالسحرة .
ثم عاد إلى ما انجر الكلام منه وهو قوله ) ولئن سألتهم ( والمقصود التنبيه على سخافة عقولهم وقلة محصولهم فإنهم مع الإقرار بأن خالق السموات والأرض هو الله جعلوا له من عباده جزءاً أي أثبتوا له ولداً ، وذلك أن ولد الرجل جزء منه .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ) وفي قوله ) من عباده ( إشارة إلى أن ما عداه ممكن الوجود فإن الولد متأخر في الوجود عن الأب المتأخر عن الواجب ممكن ، والممكن مفتقر إلى الواجب في الوجود والبقاء والذات والصفات .
وقيل : هو إنكار على مثبتي الشركاء لأنهم جعلوا بعض العبادة لغير الله ، وفيه نوع تكلف .
والكفور البليغ الكفران لأنه يجحد ربه وخالقه ولا يجتهد في تنزيهه وتقديسه .
وحين وبخهم على إثبات الولد زاد في توبيخهم وتجهيلهم والتعجيب من حالهم حيث جعلوا ذلك الولد نبتاً مع أنها مكروهة عندهم فقال ) أم اتخذ مما يخلق ( وفائدة تنكير ) بنات ( وتعريف البنين كما مر في آخر السورة المتقدمة في تنكير ) إناثاً ( وتعريف ) الذكور ) [ الشورى : 49 ] وقوله ( بما ضرب للرحمن مثلاً ( أي بالجنس الذي جعله شبهاً لله لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد ، والمراد أنه إذا بشر بالأنثى كما سبق في ( النحل ) اغتم ويسود وجهه وملىء غيظاً وكرباً .
ثم زاد في الإنكار بتعديد طرف من نقصان الإناث قائلاً ) أو من ينشأ ( والتقدير أهو كضده .
قال جار الله : تقديره أو يجعل للرحمن من الولد من له هذه الصفة الدنيئة الذميمة وهي أنه(6/87)
" صفحة رقم 88 "
يربى أو يتربى في الزينة والنعومة ، وهو إذا احتاج إلى المخاصمة لا يبين ولا يعرب عما في ضميره لعجزه عن البيان ولقلة عقله .
قالت العقلاء : قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تعرب عن حجتها إلا نطقت بما هو حجة عليها .
وفيه أن النشء في الزينة والإمعان في التنعم من خصائص ربات الحجال لا من خواص الرجال .
وإنما ينبغي أن يكون تلبسهم بلباس التقوى وتزينهم باستعداد الزاد للدار الأخرى .
ثم خصص أن البنات التي نسبن إليه تعالى من أي جنس من بعدما عمم في قوله ) مما يخلق ( فقال ) وجعلوا ( أي سموا ) الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ( وفي إثبات العبودية لهم نفي الجزئية عنهم كما مر آنفاً .
وقوله ( أشهدوا خلقهم ( كقوله ) ما أشهدتم خلق السموات والأرض ) [ الكهف : 51 ] وفيه تهكم بهم لأنه لم يدل على ذلك عقل ولا نقل صحيح فلم يبق إلا الإخبار عن المشاهدة يعني مشاهدتهم خلق الله إياهم أو مشاهدة صور الملائكة .
ثم أوعدهم بقوله ) ستكتب شهادتهم ( على أنوثية الملائكة ) ويسئلون ( ثم حكى نوعا آخر من كفرهم وشبهاتهم وهو أنهم ) قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ( أي الملائكة والأصنام نظير ما مر في آخر الأنعام ) سيقول الذين أشركوا ) [ الآية : 148 ] واستدلال المعتزلة به ظاهر لأنه ذمهم بقوله ) ما لهم ذلك من علم إن هم إلا يخرصون ( أجاب الزجاج عنه بأن قوله ) ما لهم بذلك من علم ( عائد إلى قولهم الملائكة بنات الله ، والمراد لو شاء الرحمن ما أمرنا بعبادتهم كقولهم ) والله أمرنا بهم ) [ الأعراف : 28 ] فلهذا أنكر الله عليهم قالهالواحدي في بسيطه .
وقيل : قالوها استهزاء ، وزيفه جار اله بأنه لا يتمشى في أقوالهم المتقدمة وإلا كانوا صادقين مؤمنين .
وجعل هذا الأخير وحده مقولاً على وجه الهزء دون ما قبله تعويج لكتاب الله .
وتمام البحث بين الفريقين مذكور في ( الأنعام ) وإنما قال في الجاثية ) إن هم إلا يظنون ( لأن هذا كذب محض وهناك خلطوا الصدق بالكذب ، صدقوا في قولهم ) نموت ونحيى ( وكذبوا في قولهم ) وما يهلكنا إلا الدهر ) [ الجاثية : 24 ] وكانوا شاكين في أمر البعث ، ثم زاد في الإنكار عليهم بقوله ) أم آتيناهم كتاباً من قبله ( أي من قبل القرآن أو الرسول ) فهم به مستمسكون ( ثم أضرب عن ذلك وأخبر أنه لا مستند لهم في عقائدهم وأقوالهم الفاسدة الا التقليد .
والأمة الدين والطريقة التي تؤم أي تقصد .
ثم سلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بأن هذا دأب أسلافهم وداء قديم في جهال بني آدم .
وإنما قال أولاً ) مهتدون ( وبعده ) مقتدون ( لأن العرب كانوا يخاصموا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويزعمون الاهتداء ، ولعل الأمم قبلهم لم يزعموا إلا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء .
ثم أخبر أن النذير ) قال ( أو أمر النذير أو محمداً أن يقول ) أو لو جئتكم ( أي أتتبعون آبائكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم فاصروا على التكذيب ولم يقبلوا فانتقم الله منهم .(6/88)
" صفحة رقم 89 "
ثم بين بقصة إبراهيم عليه السلام أن القول بالتقليد يوجب المنع من التقليد ، وذلك أن إبراهيم عليه السلام كان أشرف آباء العرب وأنه ترك دين الآباء لأجل الدليل ، فلو كانوا مقلدين لآبائهم وجب أن يتبعوه في الاعتماد على الدليل لا على مجرد التقليد .
والبراء بالفتح مصدر أي ذو براء .
وقوله ( إلا الذي فطرني ( قيل : متصل ، وكان فيهم من يعبد الله مع الأصام .
وقيل : منقطع بمعنى لكن ، ويحتمل أن يكون مجروراً بدلاً من ما أي إلا من الذي وجوز في الكشاف أن تكون ( إلا ) صفة بمعنى غير و ( ما ) موصوفة تقديره إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني ) فإنه سيهدين ( أي يثبتني على الهداية أو يرشدني إلى طريق الجنة ، ولا ريب أن قوله ) إنني براء مما تعبدون ( بمنزلة لا وقوله ( إلا الذي فطرني ( بمثابة ( إلا الله ) وهي كلمة التوحيد فلذلك أنّث الضمير في قوله ) وجعلها ( أي وجعل إبراهيم أو الله ) كلمة ( التوحيد ) باقية في عقبه ( فلا يزال في ذريته من يوحد الله عز وجل ويدعو إلى توحيده نظيره ) ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ) [ البقرة : 132 ] ( لعلهم ( أي لعل من أشرك منهم يرجع إلى التوحيد أو عن الشرك بدعاء الموحدين منهم .
ثم أضرب عن رجاء الرجوع منهم إلى أن تمتيعهم بالعمر وسعة الرزق صار سبباً لعظم كفرهم وشدة عناددهم .
قال جار الله : أراد بل اشتغلوا عن التوحيد ) حتى جاءهم الحق ( وهو القرآن ( ) ورسول مبين ( الرسالة واصحها فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها من غفلتهم لاقتضائها التنبيه .
ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق قائلاً ) ولما جاءهم الحق ( جاؤوا بما هو شر من غفلتهم وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق ومكابرة الرسول وإنكار القرآن والله أعلم .
( الزخرف : ( 31 - 56 ) وقالوا لولا نزل . . . .
" وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي(6/89)
" صفحة رقم 90 "
وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين "
( القراآت )
سقفاً ( بالفتح فالسكون : ابن كثير وأبو عمرو ويزيد .
الباقون : بضمتين على الجمع كرهن .
ورهن .
قال أبو عبيدة : لا ثالث لهما ( لما ) بالتشديد : عاصم وحمزة بمعنى إلا ف ) إن ( نافية .
الآخرون : بالتخفيف ف ( إن ) مخففة واللام فاقرة كما مر في آخر هود ) يقيض ( على الغيبة والضمير للرحمن : يعقوب وحماد .
الآخرون : بالنون ) جاءنا ( على الوحدة والضمير للعاشي : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد ويعقوب .
الباقون : بألف التثنية والضمير للعاشي والقرين ) أنكم في العذاب ( بالكسر : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ) أيه الساحر ( بضم الهاء مثل ) أيه المؤمنون ( وقد مر في ( النور ) ) تحتي ( بفتح الياء : أبو عمرو وابن كثير ونافع وأبو حعفر ) أسورة ( كأجربة : حفص وسهل ويعقوب .
الآخرون ) أساورة ( كأشاعرة وهو جمع أسوار بمعنى السوار .
وأصله أساوير .
إلا أنه عوض من الياء هاء في آخره ) سلفاً ( بضمتين : حمزة وعلي وهو جمع سليف .
الباقون : بفتحتين جمع سالف كخادم وخدم .
الوقوف : ( عظيم ( ه ) رحمت ربك ( ط ) سخرياً ( ط ) يجمعون ( ه ) يظهرون ( ه لا ) يتكئون ( ه لا ) وزخرفاً ( ط ) الدنيا ( للمتقين ه ) قرين ( ه ) مهتدون ( ه ) القرين ( ه ) مشتركون ( ه ) مبين ( ه ) منتقمون ( ه لا ) مقتدرون ( ه ) إليك ( ط لاحتمال التعليل ) مستقيم ( ه ) ولقومك ( ج للتعليق مع سين التهديد ) تسئلون ( ه(6/90)
" صفحة رقم 91 "
) يعبدون ( ه ) العالمين ( ه ) يضحكون ( ه ) من أختها ( ز لنوع عدول ) يرجعون ( ه ) لمهتدون ( ه ) ينكثون ( ه ) تحتي ( ج للاستفهام مع اتحاد الكلام ) تبصرون ( ه لأن ( أم ) منقطعة ) مقترنين ( ه ) فأطاعوه ( ط ) فاسقين ( ه ) أجميعن ( ه ) للآخرين ( ه .
التفسير : هذه حكاية شبهة لكفار قريش ، وذلك أنهم ظنوا أن الفضيلة في المال والجاه الدنيوي فقالوا ) لولا نزل هذا القرآن ( وفي الإشارة ههنا نوع استخفاف منهم لكتاب الله ) على رجل من القريتين ( أي من إحداهما يعنون مكة أو الطائف .
قال المفسرون : الذي بمكة هو الوليد بن المغيرة ، والذي بالطائف هو عروة بن مسعود الثقفي .
ومنه من قال غير ذلك .
وأرادوا بعظم الرجل رياسته وتقدمه في الدنيا فألزمهم الله تعالى بأجوبة أوّلها قوله على سبيل الإنكار ) أهم يقسمون رحمة ربك ( أي النبوّة فيضعوها حيث شاؤوا ) نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ( أي خدماً وتابعاً ومملوكاً .
واللام لام العاقبة فإن الإنسان خلق مدنياً بالطبع .
وقالت المعتزلة : للغرض وإذا كانت المعايش الدنيوية مع حقارتها وخساستها مفوّضة إلى تدبير الله وتسخيره وتقديره دون أحد من خلقه ، فالأمور الدينينة والمناصب الحقيقية الأخروية أولى بذلك .
وقيل : الرحمة الرزق .
ومعنى الآية إنكار أن الرزق منهم فيكف تكون النبوّة منهم ؟ واستدلال السني بالآية ظاهر في أن كل الأرزاق من الله حلالاَ كانت أو حراماً .
وقالت المعتزلة : الله تعالى قاسم ولكن العباد هم الذين يكسبونها صفة الحرمة بسوءتنا ولهم. والجواب أنه كما قسم الرزق عن الجهة التي يصل الرزق إليه فكل بقدره .
وثانيها قوله ) وحمة ربك خير مما يجمعون ( لأن الدنيا منقضية فانية ودين الله وما يتبعه من السعادات باقٍ لا يزول ، فكيف يجعل العاقل ما هو الأخس أفضل مما هو الأشرف ؟ وثالثها قوله ) ولولا ( كراهة ) أن يكون الناس أمة واحدة ( مجتمعين على الكفر ) لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم ( هو بدل اشتمال وقيل : هما كقولك : وهبت له ثوباً لقميصه في أن اللام للغرض .
والمعارج المصاعد أو المراقي جمع معرج كمخلب ) عليها ( أي على المعارد ) يظهرون ( يعلون السطوح .
والزخرف الزينة أي جعلنا لهم زينة عظيمة في كل باب .
وقيل : الذهب أي جعلنا لهم مع ذلك ذهباً كثيراً .
أو وجه آخر على هذا التفسير وهو أن يكون معطوفاً على قوله ) من فضة ( إلا أنه نصب بنزع الخافض أي بعضها من فضة وبعضها من ذهب .
والحاصل أنه سبحانه إن وسع على الكافرين كل التوسعة أطبق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها مع حقارة الدنيا عند الله تعالى ، وفي معناه قول نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لو كانت الدنيا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى(6/91)
" صفحة رقم 92 "
كافراً منها شربة ماء ) وإنما لم يوسع على المسلمين كلهم لتكون رغبة الناس في الإسلام لمحض الإخلاص لا لأجل الدنيا .
ثم بشر المؤمنين بقوله ) وإن كل ذلك ( إلى آخره .
قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن اللطف من الله تعالى واجب ، وفيه أنه تعالى لما لم يفعل بالناس التوسعة لئلا يجتمعوا على الكفر ، فلأن لا يخلق فيهم لاكفر أولى .
والجواب أن وقوع كل الناس في طريق القهر محذور ، وأما وقوع البعض فضروري كما مر في أول البقرة ، فشتان بين الممتنع الوجود والضروري الوجود فكيف يقاس أحدهما على الآخر ؟ ثم بين أن مادة كل الآفات وأصل جميع البليات هو السكون إلى الدنيا والركون إلى أهلها فإن ذلك بمنزلة الرمد للبصر ويصير بالتدريج كالعشى ثم كالعمى فقال ) ومن يعش عن ذكر الرحمن ( أي عن القرآن أي يعرف أنه الحق ولكنه يتجاهل .
قال جار الله : قرىء بفتح الشين أيضاً .
والفرق أنه إذا حصلت آفة به قيل عشا أي تعامى .
وفيه معنى الإعراض فلهذا عدي ب ( عن ) ومعنى ) نقيض ( نقدر كما مر في ( حم السجدة ) ) وإنهم ( أي الشياطين ) ليصدونهم ( أي العشي عن دين الله ) ويحسبون ( أي الكفار أن الشياطين والكافرين ) مهتدون ( وإنما جمع الضميرين لأن ) من ( عام و ) شيطاناً ( تابع له .
ولا شك أن هذا القرين ملازم له في لآخرة لقوله ) حتى إذا جاءنا ( الآية وأما في الدنيا فمحتمل بل لازم لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون ) ويروى أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطان بيده ولم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار فذلك حيث يقول ) يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ( أي بعد ما بين المشرق والمغرب فغلب كالقمرين .
وقيل : المغرب أيضاً مشرق بالنسبة إلى الحركة الثانية وهذا قول أهل السنة .
وقيل : مشرق الصيف ومشرق الشتاء وفيه ضعف لأنه لا يفيد مبالغة ، فبين الله تعالى أن ذلك التمني لا ينفعهم وعلله بقوله ) أنكم ( من قرأ بالكسر فظاهر ، ومن قرأ بالفتح فعلى حذف اللام أي لن ينفعكم تمنيكم لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه وهو الكفر ، ويحتمل أن يكون أن في قراءة الفتح فاعل ينفع أي لن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب .
وإن قيل : المصيبة إذا عمت طابت وذلك أن كل أحد مشغول في ذلك اليوم عن حال غيره بحال نفسه ) وإذ ( بدل من اليوم ومعناه إذ ظلمكم تبين ووضح لكل أحد .(6/92)
" صفحة رقم 93 "
ثم إنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يتحزن على فقد الإيمان منهم فسلاه بقوله ) أفأنت ( إلى آخره .
وقوله ( فأما نذهبن بك ( أراد به قبض روحه كقوله في ( يونس ) وفي ( المؤمن ) ) فأما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك ) [ الآية : 77 ] الانتقام إما في الآخرة وهو قول الجمهور أو في الدنيا .
عن جابر أنه قال : لما نزلت ) فإنا منهم منتقمون ( قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أورده في تفسير اللباب .
وقيل : فأما نذهبن بك من مكة فإنا منهم منتقمون يوم بدر .
والحاصل أنه تعالى توعد الكفار بعذاب الدنيا والآخرة جميعاً .
ثم قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) سواء عجلنا لك الظفر والغلبة أو أخرناه إلى الآخرة فكن متمسكاً بما أوحينا إليك فإنه الدين الذي لا عوج له ، وإنه لشرف لك ولقومك أي لجميع أمتك أو لقريش وسوف تسألون هل أديتم شكر هذه النعمة أم لا .
قال أهل التحقيق : في الآية دلالة على أن الذكر الجميل أمر مرغوب فيه لعموم أثره وشموله كل مكان وكل زمان خلاف الحياة المستعارة فإن أثرها لا يجاوز مسكن الحي .
قلت : الذكر الجميل جميل ولكن الذكر الحاصل من القرآن أجمل رزقنا الله طرفاً من ذلك بعميم فضله .
ثم إن السبب الأقوى في بغض الكفار وعداوتهم للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنكاره لأصنامهم ، فبين تعالى أنه غير مخصوص بهذه الدعوة وهذا الإنكار ولكنه دين أطبق كل الأنبياء على الدعاء إليه ، وفي الآية أقوال : أحدها أن المضاف محذوف تقديره واسأل يا محمد أمم من أرسلنا .
وقال القفال : المحذوف أصلة التقدير واسأل من أرسلنا إلأيهم من قبلك رسولاً من رسلنا .
والمراد أهل الكتابين لأنهم كانوا يرجعون إليهم في كثير من أمورهم نظيره ) فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك ) [ يونس : 94 ] ثانيها أن حقيقة السؤال ههنا ممتنعة ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم .
وثالثها أن التقدير : واسأل جبرائيل عمن أرسلنا .
ورابعها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جمع له الأنبياء ليلة المعراج في السماء أو في بيت المقدس فأمهم .
وقيل له ( صلى الله عليه وسلم ) : سلهم .
فلم يسأل .
وقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إني لا أشك في ذلك ) قاله ابن عباس .
وعن ابن مسعود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : أتاني ملك فقال : يا محمد سل من أرسلنا من قبلك من رسلنا علام بعثوا ؟ قال : قلت علام بعثوا ؟ قال : على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه رواه الثعلبي .
ولكنه لا يطابق قوله سبحانه ) أجعلنا ( الآية .
وجوز بعضهم أن يكون ) من ( مبتدأ والاستفهامية خبره والعائد محذوف أي على ألسنتهم ، ومعنى الجعل التسمية والحكم .
واعلم أن كفار قريش إنما طعنوا في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من جهة كونه فقيراً خاملاً وكان فرغون اللعين قد طعن في موسى بمثل ذلك حيث قال ) أليس لي ملك مصر ( إلى قوله ) مهين ) [ الزخرف : 52 ] فلا جرم أورد قصة موسى ههنا تسلية(6/93)
" صفحة رقم 94 "
للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قوله ) فلما جاءهم ( معطوف على محذوف تقديره فقال إني رسول رب العالمين .
فطالبوه إقامة البينة على دعواه فلما جاءهم إلى آخره .
قال جار الله : فعل المفاجأة مع إذا مقدر وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجأ وقت ضحكهم استهزاء أو سخرية قوله : ( وما نريهم ( حكاية حال ماضية .
وفي قوله ) هي أكبر من أختها ( وجهان : أحدهما أن كلاً منها مثل شبهتها التي تقدمت ، وكل من رأى واحدة منها حكم بأنها حكم كبراها لتكافؤ كل منها في الكبر وإذا كان هذا الحكم صادقاً على كل منها فكلها كبار كما قال الحماسي : من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم .
مثل النجوم التي يسري بها الساري وثانيها أن يقال : إن الآية الأولى كبيرة والتي تليها أكبر من الأولى ، والثالثة أكبر من الثانية ، وكذلك ما بعدها .
هذا القدر مستفاد من الآية ، وأما تفصيل هذا التفضيل فلعله لا يطلع عليه إلا خالقها ومظهرها ) وأخذناهم بالعذاب ( السنين ونقص من الثمرات إلى سائر ما ابتوا به .
قالت المعتزلة : ( لعلهم يرجعون ( أي إرادة أن يرجعوا فورد عليهم أنه لو أراد رجوعهم لكان .
وأجابوا بأنه لو أراد قسراً لكان ولكنه أراد مختاراً ، وزيف بأنه لو أراد أن يقع طريق الاختيار لزم أن يقع أيضاً مختاراً .
أما الفرق فالصواب أن يقال : ( لعل ) للترجي ولكن بالنسبة إلى المكلف كما مر مراراً ) وقالوا يا أيه الساحر ( أي العالم الماهر ولم يكن السحر عندهم ذماً بل كانوا يستعظمونه ولهذا قالوا ) إننا لمهتدون ( وقيل : كانوا بعد على كفرهم فلهذا سموه ساحراً .
وقولهم ) إننا لمهتدون ( وعد منوي إخلافه وقولهم ) ادع لنا ربك بما عهد عندك ( أي بعهده عندك من أن دعوتك مستججابة وقد مر في ( الأعراف ) ) ونادى فرعون ( أي أمر بالنداء ) في ( مجامع ) قومه ( أو رفع صوته بذلك فيما بين خواصه فانتشر في غيرهم .
والأنهار أنها رالنيل .
قال المفسرون : كانت ثلثمائة وستين نهراً ومعظمها أربعة : نهر الملك ونهر طالوت ونهر دمياط ونهر منفيس .
كانت تجري تحت قصره وقيل : تحت سريره لارتفاعه ، وقيل : بين يدي في جناتي وبساتيني .
وعن عبد الله ابن المبارك الدينوري في تفسيره : أنه أراد بالأنهار الجياد من الخيل وهو موافق لما جاء في الحديث في فرس أبي طلحة ( وإن وجدناه لبحراً ) وقال الضحاك : معناه وهذه القواد والجبابرة تحت لوائي .
قال النحويون : إما أن تكون الواو عاطفة للأنهار على ملك مصر و ) تجري ( نصب على الحال ، أو الواو للحال وما بعده جملة محلها نصب .
وفي ( أم ) أقوال منها قول سيبويه إنها متصلة تقديره أفلا بتصرون أم تبصرون إلا إنه وضع قوله ) أنا خير ( موضع ) تبصرون ( لأنهم إذا قالوا له أنت خير فهم عنده بصراء ، فهذا من إنزال السبب منزلة المسبب لأن الإبصار سبب لهذا القول بزعمه .
ومنها أنها منقطعة لأنه عدد عليهم أسباب الفضل ثم أضرب عن ذلك ثانياً .
أثبت عندكم أني خير .
ومنها أن التقدير(6/94)
" صفحة رقم 95 "
أفلا تيصرون أني خير أم أبصرتم ثم استأنف فقال أنا خير ، والمهين من المهانة أي الحقارة والضعف أراد أنه فقير ولا عدد معه ولا عدد ) ولا يكاد يبين ( الكلام لأن عقدته لم تزل بالكلية كما شرحنا في ( طه ) وإلقاء السورة عليه عبارة عن تفويض مقاليد الملك إليه ، كانوا إذا أرادوا تشريف الرجل سوروه بسورا وطوقوه بطوق من ذهب وغيره أي ليس معه آلات الملك والسياسة ، أو ليس معه حلية وزي حسن كما أن الملوك يشهرون رسلهم بالخلع والمكرمات وبأشخاص يتبعونهم فلذلك قالوا ) أو جاء معه الملائكة مقترنين ( به أو يقترن بعضهم ببعض ) فاستخف قومه ( أي حملهم على أن يخفوا له في الطاعة أو استخف عقولهمواستجهلهم ) فأطاعوه ( وهذه من عادة اللئام كما قيل : العبد لا يردعه إلا العصا :
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ومعنى ) آسفونا ( أغضبونا وأغضبوا رسلنا ) فجعلناهم سلفاً ( أي متقدمين وعبرة للمتأخرين ليعتبروا من حالهم فلا يقدموا على مثل أفعالهم وإليه المآب .
( الزخرف : ( 57 - 89 ) ولما ضرب ابن . . . .
" ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون أم أبرموا أمرا فإنا(6/95)
" صفحة رقم 96 "
مبرمون أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون "
( القراآت )
يا عبادي ( بالياء في الحالين : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو .
وقرأ حماد وأبو بكر بفتح الياء .
الباقون بغير ياء في الحالين ) تشتهيه ( بهاء الضمير : ونافع وأبو جعفر وابن عامر وحفص .
الآخرون : بحذفها ) وإليه يرجعون ( بياء الغيبة : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف .
الباقون : بتاء الخطاب .
) ، قيله ( بالكسرة : حمزة وعاصم غير المفضل .
الآخرون : بالنصب .
) تعلمون ( على الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن عامر .
الوقوف : ( يصدون ( ه ) أم هو ( ) جدلاً ( ط ) خصمون ( ه ) إسرائيل ( ه ط ) يخلقون ( ه ) واتبعون ( ط ) مستقيم ( ه ) الشيطان ( ج للابتداء بان مع اتصال المعنى ) مبين ( ه ) فيه ( ج لعطف الجملتين مع الفاء ) وأطيعون ( ه ) فاعبدوه ( ط ) مستقيم ( ه ) من بينهم ( ج للابتداء مع الفاء ) أليم ( ه ) لا يشعرون ( ه ) المتقين ( ه ) تحزنون ( ه ج لاحتمال كون ما بعده وصفاً ) مسلمين ( ه ج لاحتمال أن يكون ) الذين ( إلى آخر الآية مبتدأ وقوله ( ادخلوا ( إلى آخره خبراً ، والقول محذوف لا محالة ) تحبرون ( ه ) وأكواب ( ج ) الأعين ( ج للعدول مع العطف ) خالدون ( ه ) تعملون ( ه ) تأكلون ( ه ) خالدون ( ه ج لاحتمال ما بعده صفة أو حالاً له لا مستأنفاً ) مبلسون ( ه ج لاحتمال أن يكون ما بعده مستأنفاً أو حالاً ) الظالمين ( ه ) ربك ( ط ) ماكثون ( ه ج ) كارهون ( ه ) مبرمون ( ه ج لأن ( أم ) يصلح جواب الأولى ويصلح استفهاماً آخر ) ونجواهم ( ط ) يكتبون ( ه ) العابدين ( ه ) يصفون ( ه ) يوعدون ( ه ) وفي الأرض إله ( ط ) العليم ( ه ) بينهما ( ج ) الساعة ( ج ) ترجعون ( ه ) يعلمون ( ه ) يؤفكون ( ه ج فالوقف بناء على قراءة النصب ، والوصل بناء على قراءة الجر وسيأتي تمام البحث عن إعرابها ) لا يؤمنون ( ه لئلا يوهم أن ما بعده من قيل الرسول ) سلام ( ط للابتداء بالتهديد .
قال السجاوندي : من قرأ ) تعلمون ( على الخطاب فوقفه لازم لئلا يصير التهديد داخلاً في الأمر(6/96)
" صفحة رقم 97 "
بقوله ) قل ( قلت : لا محذور فيه لأن السلام سلام توديع لا تعظيم .
التفسير : هذا نوع من قبائح أقوال كفرة قريش .
وفي تفسير المثل وجوه للمفسرين : أحدها أن الكفار لما سمعوا أن النصارة يعبدون عيسى قالوا : إذا جاز أن يكون عيسى ابن الله جاز أن تكون الملائكة بنات الله .
وانتصب ) مثلاً ( على أنه مفعول ثانٍ لضرب أي جعل مثلا فالضارب للمثل كافرو ) إذا قومك ( أي المؤمنون ) منه ( أي من المثل أو ضريه ) يصدون ( أي يجزعون ويضجون ) وقالوا ( أي الكفار أهذا خير أم هو يعنون الملائكة خير من عيسى .
وثانيها ما مر في آخر الأنبياء أنه حين نزل ) أنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) [ الآية : 98 ] قال ابن الزبعري للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : قد علمت أن النصارى يعبدون عيسى وأمه وعزيراً ، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم .
فسكت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وخرج القوم وضحكوا وصيحوا فأنزل الله تعالى قوله ) إن الذي سبقت لهم منا الحسنى ) [ الأنبياء : 101 ] ونزلت هذه الآية أيضاً .
والمعنى ولما ضرب ابن الزبعري عيسى ابن مريم مثلاً إذا قومك قريش من هذا المثل يصدون بالكسر والضم أي يرتفع لهم جلبة وصياح فرحاً وسروراً بما رأوا من سكوت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإن العادة قد جرت بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الاخر الفرح .
) وقالوا آلهتنا ( وهي الصنام ) خير أم ( عيسى فإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا أهون .
وقيل : من قرأ بالضم فمن الصدود أي من أجل هذا المثل يمنعون عن الحق .
وثالثها أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما حكى أن النصارة عبدوا المسيح إلهاً وأن مثله عند الله كمثل آدم ، قال كفار مكة : إن محمداً يريد أن نتخذه إلهاً كما اتخذ النصارى المسيح إلهاً وضجروا وضجوا وقالوا : آلهتنا خير أم هو يعنون محمداً ، وغرضهم أن آلهتهم خير لأنها مما عبدها آباؤهم وأطبقوا عليها فأبطل الله تعالى كلامهم بقوله ) ما ضربوه لك إلا جدلاً ( أي لم يضربوا هذا المثل لأجلك إلا للجدال والغلبة دون البحث عن الحق ) بل هم قوم ( من عادتهم الخصومة واللدد .
ثم قرر أمر عيسى عليه السلام بقوله ) إن هو إلا عبد أنعمنا عليه ( بأن خلقناه من غير أب وصيرناه عبرة وحاله عجيبة ) ولو نشاء لجعلنا منكم ( أي بدلاً منكم ) ملائكة في الأرض يخلفون ( يقومون مقامكم .
وقيل : أراد لولدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم .
والغرض بينان كمال القدرة ، وأن كون الملائكة في السموات لا يوجب لهم اإلهية ولا نسباً من الله .
ثم بين مآل حال عيسى عليه السلام بقوله ) وأنه ( يعني عيسى ) لعلم للساعة ( لعلامة من علامات القيامة كما جاء في الحديث ( أنا أولى الناس بعيسى ليس بيني وبينه نبي وأنه أول نازل يكسر الصليب ويقتل الخنزير(6/97)
" صفحة رقم 98 "
ويقاتل الناس على الإسلام ) وقيل : إذا نزل عيسى رفع التكليف .
وقيل : أن عيسى كان يحيي الموتى فعلم بالساعة والبعث .
وقيل : الضمير في ) وإنه ( للقرآن أي القرآن يعلم منه وفيه ثبوت الساعة ) فلا تمترن بها ( فلا تشكن فيها ) واتبعوني ( هذه حكاية قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو المراد واتبعوا رسولي وشرعي والباقي واضح إلى قوله ) هل ينظرون ( وقد مر في آل عمران وفي ( مريم ) .
وقوله ( أن تأتبيهم ( بدل من الساعة و ) الأخلاء ( جمع خليل و ) يومئذ ( ظرف ) عدو ( وهو كقوله ) إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ) [ البقرة : 166 ] ولكن خلة المتقين ثابتة لأن المحبة في الله لا تزول .
ومعنى ) تحبرون ( تسرون والحبور السرور ، والصحاف جمع صحفة وهي القصعة فيها طعام ، والأكواب جمع كوب وهو الإبريق لا عروة له .
وقد يدور في الخلد أن العروة للكوز أمر زائد على مصلحة الشرب وإنما هو لدفع حاجة كتعليق وتعلق وأهل الجنة فيها براء من أمثال ذلك فلهذا كانت أكوازها أكواباً والله أعلم بأسراره .
) وفيها ( أي في الجنة .
قال القفال : جمع بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الخلق كلهم على تفصيله لم يخرجوا عنه .
ثم يقال لهم ) وأنتم فيها خالدون ( إلى آخره .
ثم وصف حال أهل الجرائم من الكفار أو منهم ومن الفساق على اختلاف بين السني والمتعزلي .
ومعنى ) لا يفتر ( لا يخفف من الفتور ومبلسون آيسون ساكتون تحيراً ودهشاً .
ولما أيسوا من فتور العذاب ) نادوا يا مالك ( وهو اسم خازن النار ) ليقض علينا ربك ( أي ليمتنا كقوله ) فقضى عليه ) [ القصص : 15 ] قال مالك : بعد أربعين عاماً أو بعد مائة أو ألف أو قال الله بدليل قوله ) ولقد جئناكم ( فإنه ظاهر من كلام الله وإن كان يحتمل أن يكون قول الملائكة .
قال أهل التحقيق : سمى هازن النار مالكاً لأن من حالهم فقال ) أم أبرموا أمراً ( والإبرام والإحكام والمعنى أنهم كلما أحكموا أمراً في المكر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنا نحكم أمراً في مجازاتهم .
وقال قتادة : أجمعوا على التكذيب وأجمعنا على التعذيب ، وذلك أنهم اجتمعوا في دار الندوة وأطبقوا على الاغتيال بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتناجوا في ذلك فكف عنه شرهم وأوعدهم عليه بأنه يعلم سرهم وهو ما حدّث(6/98)
" صفحة رقم 99 "
به الرجل نفسه أو غيره في مكان خالٍ .
ونجواهم وهي ما تكلموا به فيما بينهم على سبيل الخفية أيضاً .
ثم أكد علمه بأن حفظة الأعمال يكتبونه ، ثم برهن على نفي الولد عن نفسه فقال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ( وهذه قضية شرطية جزآها ممتنعان إلا أن الملازمة صادقة نظيره قولك : إن كانت الخمسة زوجاً فهي منقسمة بمتساويين .
وهذا على سبيل الفرض والتقدير ، وبيان الملائزمة أن الولد يجب محبته وخدمته لرضا الوالد وتعظيمه ، فلو كان المقدم حاصلاً في الواقع لزم وقوع التالي عادة وإنما ادعى أوليته في العبادة لأن النبي متقدم في كل حكم على أمته خصوصاً فيام يتعلق بالأصول كتعظيم المعبود وتنزيهه ، ولكن التالي غير واقع فكذا المقدم وهذا الكلام ظاهر الإلزام ، واضح الإفحام ، قريب من الأفهام ، لا حاجة فيه إلى تقريب المرام .
وأما المفسرون الظاهريون لا دراية لهم بالمعقول فقد ذكروا فيه وجوهاً متكلفة منها : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الموحدين لله .
ومناه إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد .
يقال : عبد بالكسر يعبد بالفتح إذا اشتد أنفه .
ومنها جعل ( إن ) نافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك ، ووحد ثم نزه نفسه عما لا يليق بذاته ، ثم أمر نبيه أن يتركهم في باطلهم واللعب بدنياهم حتى يلاقوا القيامة .
ثم مدح ذاته بقوله ) وهو الذي في السماء إله ( أي معبود كما مر في قوله ) وهو الله في السموات وفي الأرض ) [ الأنعام : 3 ] والتقدير وهو الذي هو في السماء إله إلا أنه حذف الراجع لطول الكلام .
ثم أبطل قول الكفرة إن الأصنام تنفعهم .
وقوله ( إلا من شهد ( استثناء منقطع أي لكن من شهد بالتوحيد عن علم وبصيرة هو الذي يملك الشفاعة ، ويجوز أن يكون متصلاً لأن من جملة من يدعونهم الملائكة وعيسى وعزيراً .
وجوز أن تكون اللام محذوفة لأن الشفاعة تقتضي مشفوعاً له أي لمن شهد بالحق وهم المؤمنون قال بعض العلماء ) وهم يعلمون ( دلالة على أن إيمان المقلد وشهادته غير معتبر .
ثم كرر ما ذكر في أول السورة قائلاً ) ولئن سألتهم ( والغرض التعجيب من حالهم أنهم يعترفون بالصانع ثم يجعلون له أنداداً .
وقيل : الضمير في ) سألتهم ( للمعبودين .
من قرأ ) وقيله ( بالنصب فعن الأخفش أنه معطوف على ) سرهم ونجواهم ( أو المراد وقال قيله أي قوله ، والضمير للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لتقدم ذكره بالكناية في قوله ) قل إن كان ( وعن أبي علي أنه يعود إلى عيسى ، وفيه تسلية لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويحتمل أن يكون النصب بالعطف على محل الساعة أي وعنده علم الساعة وعلم قيله كقراءة من قرأ بالجر .
ثم سلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بأعمال الخلق الحسن معهم إلى أوان النصر وهو ظاهر والله أعلم بالتوفيق .(6/99)
" صفحة رقم 100 "
سورة الدخان
( سورة الدخان مكية حروفها ألف وأربعمائة وأربعون كلماتها ثلثمائة وأربعون آياتها تسع وخمسون ) بسم الله الرحمن الرحيم ( الدخان : ( 1 - 59 ) حم
" حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك إنه هو السميع العليم رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين بل هم في شك يلعبون فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم(6/100)
" صفحة رقم 101 "
لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون فارتقب إنهم مرتقبون "
( القراآت )
رب السموات ( بالجر على البدل ) من ربك ( : عاصم وحمزة وعلي وخلف .
الباقون : بالرفع ) أني آتيكم ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ) ترجموني ( ) فاعتزلوني ( بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل ) لي ( بالفتح : ورش ) فكهين ( بغير الألف : يزيد ) يغلي ( على التذكير والضمير للطعام : ابن كثير وحفص والمفضل ورويس وابن مجاهد عن ابن ذكوان .
الباقون : بتاء التأنيث والضمير للشجرة ) فاعتلوه ( بضم التاء : ابن كثير ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب .
الآخرون : بالكسر ) ذوق أنك ( بفتح الهمزة وعلى حذف لام التعليل .
) في مقام ( بضم الميم من الإقامة : أبو جعفر ونافع وابن عامر .
الوقوف : ( حم ( كوفي ه ) المبين ( ه لا ومن لم يقف على ) حم ( وقف على ) الميبن ( ) منذرين ( ه ) حكيم ( ه ط بناء على أ ، التقدير أمرنا أمراً ) من عندنا ( ط ) مرسلين ( ه ج لاحتمال أن ) رحمة ( مفعول له أو به أو التقدير رحمنا رحمة ) من ربك ( ط ) العليم ( ه لا لمن خفض ) رب ( ) بينهما ( ط ) موقنين ( ه ) ويميت ( ط ) الأولين ( ه ) يلعبون ( ه ) مبين ( ه ط ) الناس ( ط ) أليم ( ه ) مؤمنون ( ه ) مبين ( ه لا للعطف ) مجنون ( ه لئلا يوهم أن ما بعده من قول الكفار ) عائدون ( ه لئلا يظن أن ما بعده ظرف للعود ) الكبرى ( ج لاحتمال التعليل ) منتقمون ( ه ) كريم ( ه لا ) عباد الله ( ط ) أمين ( ه ) على الله ( ج ) مبين ( ه ج ) ترجمون ( ه ) فاعتزلون ( ه ) مجرمون ( ه ) متبعون ( ه لا ) رهوا ( ط ) مغرقون ( ه ) وعيون ( ه لا ) كريم ( ه لا ) فاكهين ( ه لا لأن المعنى تركوها مهيأة كما كانت ) آخرين ( ه ) منظرين ( ه ) المهين ((6/101)
" صفحة رقم 102 "
ه لا ) من فرعون ( ط ) المفسرين ( ه ) العالمين ( ه ج ) مبين ( ه ) ليقولون ( ه لا ) بمنشرين ( ه ) صادقين ( ه ) تبع ( لا للعطف ) من قبلهم ( ط لتناهي الاستفهام إلى ابتداء الأخبار ) أهلكناهم ( ج لأن التعليل أوضح ) مجرمين ( ه ) لاعبين ( ه ) لا يعلمون ( ه ) أجمعين ( ه لا لأن ما بعده بدل ) ولا هم ينصرون ( ه لا ) رحم الله ( ط ) الرحيم ( ه ) الأثيم ( ه ج لاحتمال أن يكون ) كالمهل ( خبراً بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف ) في البطون ( لا ) الحميم ( ه ) الجحيم ( ه ) الحميم ( ه ط لأن التقدير قولوا أو يقال له ذق ) الكريم ( ه ) تمترون ( ه ) أمين ( ه لا ) وعيون ( ه ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال ) متقابلين ( ه ج لاحتمال أن يراد كما ذكرنا من حالهم قبل أو يكون التقدير الأمر كذلك ) عين ( ه ج لئلا يوهم أن ما بعده صفة للحور ) آمنين ( ه لا لأن ما بعده صفة فإن الأمن لا يتم إلا به ) الأولى ( ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً بإضمار قد ) الجحيم ( ه لا لأن ) فضلاً ( مفعول به ) من ربك ( ط ) العظيم ( ه ) يتذكرون ( ه ) مرتقبون ( ه .
التفسير : أقسم بالقرآن ) إنا أنزلناه في ليلة مباركة ( لأن من شأننا الإنذار والتخويف من العقاب وإنما أنزل في هذه الليلة خصوصاً لأن إنزال القرآن أشرف الأمور الحكمية ، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر ذي حكمة فالجملتان - أعني قوله ) إنا كنا منذرين فيها يفرق على أمر حكيم ( كالتفسير لجواب القسم قال صاحب النظم : ليس من عادتهم أن يقسموا بنفس الشيء إذا أخبروا عنه فجواب القسم ) إنا كنا منذرين ( وقوله ( إنا أنزلناه ( اعتراض .
والجمهور على الأول ولا بأس لأن المعنى إنا أنزلنا القرآن على محمد ولم يتقوله ، ويحتمل أن القسم وقع على إنزاله في ليلة مباركة .
وأكثر المفسرين على أنها ليلة القدر لقوله ) إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [ القدر : 1 ] وليلة القدر عند الأكثرين من رمضان .
ونقل محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن قتادة أه قال : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، والتوراة لست ليال نمه ، والزبور لاثنتي عشرة مضت ، والإنجيل لثمان عشرة منه ، والفرقان لأربع وعشرين مضت ، والليلة المباركة هي ليلة القدر .
وزعم بعضهم كعكرمة وغيره أنها ليلة النصف من شعبان .
وما رأيت لهم دليلاً يعوَّل عليه .
قالوا : وتسمى ليلة البراءة أيضاً وليلة الصك لأن الله تعالى يكتب لعباده المؤمنين البراءة من النار في هذه الليلة .
وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله تعالى إليه مائة ملك ثلاثون يبشرونه بالجنة وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا وعشراً يدفعون عنه مكايد الشيطان. ) وقال ( إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد(6/102)
" صفحة رقم 103 "
شعر إغنام بني كلب ) وقال : ( إن الله يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن أو ساحر أو ساخر أو مجمن خمر أو عاق للوالدين أو مصر على الزنا ) ومما أعطى فيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تمام الشفاعة وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان من أمته فأعطى الثلث منها ، ثم سأل ليلة الرابع عشر منها فأعطى الثلثين ، ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميعإلا من شرد على الله شراد البعير .
ومن عادة الله عز وجل في هذه الليلة أن يزيد فيها ماء زمزم زيادة ظاهرة .
وبعضهم أراد أن يجمع بين القولين فقال : ابتدىء بانتساخ القرآن من اللوح المحفوظ ليلة البراءة ووقع الفراغ في ليلة القدر .
والمباركة الكثيرة الخير ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة .
ومعنى ) يفرق ( يفصل ويكتب ) كل أمر ( هو ضد النهي أو كل أمر له شأن من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلى العام القابل ، فيدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحرون والزلازل والصواعق والخسوف إلى جبرائيل ، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت .
وقيل : يعطي كل عامل بركات أعماله فيلقى على ألسنة الخلق مدحه وعلى قلوبهم هيبته .
وفي انتصاب ) أمراً ( وجوه : إما أن يكون حالاً من ) أمر حكيم ( لأنه قريب من المعرفة أو من الهاء في ) أنزلناه ( أو من الفاعل أي آمرين ، أو على المصدر لأمر ، أو على الاختصاص لأن كونه من عند الله يوجبه مزيد شرف وفخامة ، أو يكون مصدراً من غير لفظ الفعل وهو ) يفرق ( لأنه غذا حكم بالشيء وفصله وكتبه فقد أوجبه وأمر به قوله ) إنا كنا مرسلين ( يجوز أن يكون بدلاً من قوله تعالى ) إنا كنا منذرين ( أي أنزلنا القرآن لأن من شأننا إرسال الرسل وإنزال الكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة ، ويحتمل كونه تعليلاً ليفرق ، أو لقوله ) أمراً من عندنا ( وقوله ( من ربك ( وضع للظاهر موضع الضمير إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة .
ثم حقق ربوبيته بقوله ) إنه هو السميع العليم ( إلى قوله الأولين .
ومعنى الشرط في قوله ) إن كنتم موقنين ( نظير ما هو في أول الشعراء وذلك أنهم كانوا مقرين بأنه رب السموات والأرض .
قيل لهم إن كنتم على بصيرة وإيقان من ذلك فلا تشكوا فيه ، أو إن كنتم موقنين بشيء فأيقنوا بما أخبرتكم ، أو إن كنتم تريدون اليقين فاعلموا ذلك .
وقيل : إن نافية ثم رد أن يكونوا موقنين بقوله ) بل هم في شك يلعبون ( في الدنيا أو يستهزئون بنا فلا جرم أوعدهم بقوله ) فارتقب ( و ) يوم ( مفعول به أي انتظره .
والأكثرون على أن هذا الدخان من أمارات القيامة فإن الدنيا ستصير كبيت لاخصاص له مملوء دخاناً يدخل في أنوف الكفار وآذانهم فيكونون كالسكارى ، ويصيب المؤمن فيه كالزكام فيبقى ذلك أربعين .
وعن حذيفة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال(6/103)
" صفحة رقم 104 "
( أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر ) أبين بكسر الهمزة وفتحها اسم رجل بني هذه البلدة ونزل بها .
وقيل : الدخان يكون في القيامة إذا خرجوا من قبورهم يحيط بالخلائق ويغشاهم .
وقيل : الدخان الشر والفتنة .
وعن ابن مسعود : خمس قد مضت الروم والدخان والقمر والبطشة واللزام .
وذلك أن قريشاً لما استصعبت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليهم فقال : اللهم اشدد واطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني ويوسف .
فأصابهم اللزام وهو القحط حتى أكلوا الجيف ، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان فيسمع كلام صاحبه ولا يراه من الدخان .
فمشى إليه ( صلى الله عليه وسلم ) أبو سفيان ونفر معه وناشدوه الله والرحم ، وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا .
فلما كشف عنهم من الخان رجعوا إلى شركهم وذلك قوله ) هذا عذاب ( أي قائلين هذا إلى آخره .
ثم استبعد منهم الاتعاظ بقوله ) أنى لهم الذكرى وقد جاءهم ( ما هو أعظم من كشف الدخان وهو القرآن المعجز وغيره فلم يتذكروا ) وتولوا عنه ( واتهموه ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه إنما يعلمهن بشر ونسبوه إلى الجنون .
ومعنى ( ثم ) تبعيد الحالتين .
ثم بين أنهم يعودون إلى الكفر عقيب كشف العذاب عنهم زماناً قليلاً .
واعلم أن ارتدادهم إلى الكفر أمر ممكن سواء يجعل الدخان من أمارات القيامة أو يقال إنه قد مضى .
والبطشة الكبرى القيامة أو يوم بدر على التفسيرين .
و ) يوم ( ظرف لما دل عليه منتقمون فإن ما بعد ( أن ) لا يعمل فيما قبله .
وقيل : بدل من ) يوم تأتي السماء ( ثم سلى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بقصة موسى .
ومعنى ) فتنا ( امتحنا وقد وصفه بالكرم لأنه كان حبيباً في قومه أو بكرمه خلقه ، أو المراد أنه لم يخاشنهم في التبليغ كما قال ) فقولا له قولاً ليناً ) [ طه : 44 ] ( وأن ) مفسرة لأن مجيء الرسول يتضمن القول ، أو مخففة من الثقيلة ، أو مصدرية والياء محذوف .
و ) عباد الله ( مفعول به لقوله ) أرسل معنا بني إسرائيل ) [ طه : 47 ] أو منادى والمعنى أدوا إليَّ يا عباد الله ما هو واجب عليكم من الإيمان والطاعة .
والقصة مذكورة في ( الشعراء ) وغيرها و ) وأن ترجمون ( أن تقتلون أو تشتمون بالنسبة إلى الكذب والسحر ) وإن لم تؤمنوا لي ( أي لم تصدقوني فقارقوني وكونوا بمعزل عني لا عليّ ولا لي ) فدعا ربه ( شاكياً ) أن هؤلاء قوم مجرمون ( مصرون على الكفر ) فأسر ( أي فأجبنا دعاءه وقلنا له أسر وكان من دعائه اللهم عجل لهم(6/104)
" صفحة رقم 105 "
ما يستحقونه بإجرامهم .
ويحتمل أن يكون الدعاء وهو ما في ( يونس ) ) ربنا اطمس على أموالهم ) [ الآية : 88 ] وفي ) رهواً ( وجهان : أحدهما ساكناً أي لا تضربه .
ثانياً واتركه على هيئته من انتصاب الماء وكون الطريق يبساً .
وذلك أن موسى أراد أن يضربه ثانياً حتى ينطبق ويزول الانفلاق خوفاً من أن يدركهم قوم فرعون ، والله تعالى أراد أن يدخل القبط البحر ثم يطبقه عليهم ، وثانيهما أن الرهو الفجوة الواسعة أي اتركه مفتوحاً منفرجاً على حاله .
والنعمة بفتح النون التنعيم والباقي مذكور في ( الشعراء ) .
وقوله ( فما بكت ( كان إذا مات الرجل الخطير قالوا في تعظيم مصيبته بكت عليه السماء والأرض وأظلمت الدنيا ، ومنه الحديث ( وما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء ) وفيه تمثيل وتخييل وتهكم بهم أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم ويعتقدون أنهم لو ماتوا لقال الناس فيهم ذلك ، فأخبر ماكانوا في هذا الحد بل كانوا أنهم دون ذلك .
وجوز كثير من المفسرين أن يكون البكاء حقيقة وجعلوا الخسوف والكسوف والحمرة التي تحدث في السماء وهبوب الرياح العاصفة من ذلك .
قال الواحدى في البسيط : روي أنس بن مالك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما من عبد إلا له في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل فيه عمله ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية ). ثم إن هؤلاء الكفار لم يكن لهم عمل صالح يصعد إلى السماء فلا جرم لم تبك عليهم .
وعن الحسن : أراد أهل السماء والأرض أي ما بكت عليهم الملائكة والمؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين ) وما كانوا إذا منظرين ( أي لما جاء وقت هلاكهم لم يمهلوا إلى الآخرة بل عجل لهم في الدنيا .
قوله ) من فرعون ( بدل من العذاب بل جعل في نفسه عذاباً مهيناً لشدة شكيمته وفرط عتوه .
وقيل : المضاف محذوف أي من عذابه .
وقيل : تقديره المهين الصادر من فرعون ، وفي قراءة ابن عباس ) من فرعون ( على الاستفهام أي ما ظنكم بعذاب من تعرفونه أنه عال قاهر عات مجاوز حد الاعتدال .
ثم ثنى على بني إسرائيل بقوله ) ولقد اخترناهم ( بإيتاء الملك والنبوة ) على علم ( منا باستحقاقهم ذلك وقيامهم بالشكر عليه على عالمي زمانهم .
ولا ريب أن هذا قبل التحريق .
وقيل : أي على علم منا بأنه يبدو منهم بوادر وتفريطات والبلاء النعمة أو المحنة ، والآيات هي التسع وغيرها .
ثم عاد إلى ما انجز الكلام فيه وهو قوله ) بل هم في شك يلعبون ( فقال ) غن هؤلاء ( يعني كفار قريش ) ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى ( قال المفسرون : يؤل إلى ما حكى عنهم في موضع آخر ) إن هي إلا حياتنا الدنيا ) [ المؤمنون : 37 ] وذلك أن النزاع إنما وقع في موته تعقبها حياة فأنكروا أن تكون موتة بهذا الوصف إلا الموتة الأولى وهو(6/105)
" صفحة رقم 106 "
حال كونهم نطفاً .
ويحتمل أن يراد إن هي أي الصفة أو النهاية أو الحالة أو العاقبة إلا الموتة الأولى ، وليست إثباتاً لموتة ثانية إنما هو كقولك : حج فلان الحجةالأولى ، ومات ) وما نحن بمنشرين ( أنشر الله الموتى أحياهم ) فأتوا ( أيها النبي والذين آمنوا معه ) بآبائنا إن كنتم صادقين ( يروى أنهم طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجعل الله لهم إحياء الموتى فنيشر كبيرهم قصي بن كلاب ليشاوروه في حصة نبوة محمد صلى الله عيله وسلم وصحة البعث ، فلم يجبهم الله تعالى إلى ذلك ولكنه أوعدهم بقوله ) أهم خير أم وقم تبع ( أي ليسوا بخير منهم في العدد والعز والمنعة .
ابن عباس : تبع نبي .
أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أدري تبع نبياً كان أم غير نبي ) رواه الثعلبي عن عائشة كان رجلاً صالحاً ذم الله قومه ولم يذمه .
وإنما خصهم بالذكر لقربهم من العرب زماناً ومكاناً .
وعن سعيد بن جبير كسا البيت .
وقال قتادة : كان من حمير سار فبنى الحيرة وسمرقند .
وقال أبو عبيدة : هم ملوك اليمن يسمى كل واحد منهم تبعاً لكثرة تبعه ، أو لأنه يتبع صاحبه وهو بمنزلة الخليفة للمسلمين ، وكسرى للفرس ، وقيصر للروم ، وجمعه تبابعة ، وكان يكتب إذا كتب بسم الذي ملك براً وبحراً .
ثم برهن على صحة البعث بقوله ) وما خلقنا ( إلى آخره ، وقد مر في ( الأنبياء ) و ( ص ) نظيره .
وإنما جمع السموات ههنا لموافقة قوله في أول السورة ) رب السموات ( وسمى يوم القيامة يوم الفصل لأنه يفصل بين عباده في الحكم والقضاء ، أو يفصل بين أهل الجنة وأهل النار ، أو يفصل بين المؤمنين وبين ما يكرهون وللكافرين بينهم وبين وما يشتهونه فيفصل بين الوالد وولده والرجل وزوجته والمرء وخليله .
والمولى في الآية يحتمل الولي والناصر والمعين وابن العم ، والمراد أن أحداً منهم بأي معنى فرض لا يتوقع منه النصرة .
والضمير في ) لا ينصرون ( للمولى الثاني لأنه جمع في المعنى لعمومه وشياعه .
وقوله ( إلا من رحم الله ( في محل الرفع على البدل أو في محل النصب على الاستثناء ) إنه هو العزيز ( الغالب على من عصى ) الرحيم ( لمن أطاع .
ثم أراد أن يختم السورة بوعيد الفجار ووعد الأبرار فقال ) إن شجرت الزقوم ( وقد مر تفسيرها في الصافات .
و ) الأثيم ( مبالغة الآثم ولهذا يمكن أن يقال : إنه مخصوص بالكافر .
والمهمل دردي الزيت وقد مر في ( الكهف ) ولعل وجه التشبيه هو بشاعة الطعم كما أن الوجه في قوله ) طلعها كأنه رؤوس الشياطين ) [ الصافات : 65 ] هو كراهة المنظر ثم وصفه بشدة الحرارة قائلاً ) يغلي ( إلى آخره .
ثم أخبر أنه سبحانه يقول للزبانية ) خذوه ( أي خذوا الأثيم ) فاعتلوه ( جروه بعنف وغلظة كأن يؤخذ بتلبيبه فيجر إلى وسط النار .
ومنه العتل للجافي الغليظ .
وقوله ( من عذاب الحميم ( دون أن يقول ( من الحميم ) تهويل سلوك لطريق الاستعارة لأنه إذا صب عليه الحميم فقد صل عليه عذابه وشدته .
يروي أن أبا جهل قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ما بين(6/106)
" صفحة رقم 107 "
جبليها أعز ولا أمنع مني فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي ( شيئاً ) فنزلت الآية .
أي يقال له ذق لأنك أنت العزيز الكريم عند نفسك وفيه من التهكم ما فيه ) إن هذا ( العذاب ) ما كنتم به تمترون ( تشكون .
ثم شرع في وعد الأبرار والمقام الأمين ذو الأمن ، أو أصله من الأمانة لأن المكان المخيف كأنما يخوف صاحبه بما يلقى فيه من المكاره .
وقوله ( وزوجناهم ( اختلفوا في أن هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزوج أم لا .
والأكثرون على نفيه ، وأن المراد قرناهم بهن .
وقيل : زوجته امرأة وزوجته بامرأة لغتان وهكذا اختلفوا في الحور .
فعن لاحسن : هن عجائزكم ينشئهن الله خلقاً آخر .
وقال أبو هريرة : لسن من نساء الدنيا .
) يدعون ( أي يحكمون ويأمرون في الجنة بإحضار ما يشتهون من الفواكه في أي وقت ومكان ) آمنين ( من التخم والتبعات ، ثم أخبر عن خلودهم بقوله ) لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ( قال جار الله : هو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل : إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها .
وقيل : الاستثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها .
وقال أهل التحقيق : إن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس وفرحها بمعرف الله وبمحبته .
فالإنسان الكامل هو في الدنيا في الجنة .
وفي الآخرة أيضاً في الدنة فقد صح أنه لم يذق في الجنة إلا الموتة الأولى .
ثم ختم الكلام بفذلكته والمعنى ذكرناهم بالكتاب المبين فأسهلناه حي أنزلناه بلغتك إراد تذكرهم فانتظر ما يحل فإنهم يتربصون بك الدوائر .(6/107)
" صفحة رقم 108 "
سورة الجاثية
( سورة الجاثية مكية حروفها ألفان ومائة وأحد وستون كلمها أربعمائة وثمان وثمانون آياتها سبع وثلاثون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الجاثية : ( 1 - 37 ) حم
" حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا(6/108)
" صفحة رقم 109 "
يظلمون أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم "
( القراآت )
وفي خلقكم ( مدغماً : عباس .
) آيات ( بالنصب في الموضعين : حمزة وعلي ويعقوب ) الريح ( على التوحيد : حمزة وعلي وخلف ) يؤمنون ( على الغيبة : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل وحفص ) أليم ( مذكور في ( سبأ ) ) لنجزي ( بالنون : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف ) ليجزي ( بالياء مبنياً للمفعول ) قوم ( بالرفع : يزيد .
بالباقون : مبنياً للفاعل ) قوماً ( سواء بالنصب : حمزة وعلي وخلف وحفص وروح وزيد ) غشوة ( بفتح الغين وسكون الين من غير ألف : حمزة وعلي وخلف 3 ) وكل أمة تدعي ( بالنصب على الإبدال من الأول : يعقوب ) الساعة ( بالنصب : حمزة ) لا يخرجون ( منالخروج حمزة وعلي وخلف .
الوقوف : ( حم ( كوفي ه ) الحكيم ( ه ) للمؤمنين ( ه ط ومن نصب ، ) آيات ( لم يقف لأنها عطف المفردين على المفردين وهما الخبر واسم أن المفردين ) يوقنون ( ه لا للعطف على ) عاملين ( كما يجيء ) يعقلون ( ه ) بالحق ( ج للاستفهام مع الفاء ) يؤمنون ( ه ) أثيم ( ه ) يسمعها ( ج لانطاع النظم مع فاء التعقيب ) أليم ( ه ) هزواً ( ط ) مهين ( ه ط لأنه لو وصل اشتبه بأنها وصف ) عذاب جهنم ( ج لعطف المختلفين ) أولياء ( ج لذلك ) عظيم ( ه ) هدى ( ط لأن ما بعده مبتدأ مع العاطف ) أليم ( ه(6/109)
" صفحة رقم 110 "
) تشكرون ( ه ج للآية مع العطف ) منه ( ط ) يتفكرون ( ج ) يكسبون ( ه ) فلنفسه ( ج ) فعليها ( ز لأن ( ثم ) لترتيب الأخبار مع اتحاد القصة ) ترجعون ( ه ) العالمين ( ه ج للآية والعطف ) من الأمر ( ج لعطف المختلفتين ) بينهم ( ط ) يختلفون ( ه ) لا يعلمون ( ه ) شيئاً ( ج ) بعض ( ج للتمييز بين الحالين المختلفين مع اتفاق الجملتين ) المتقين ( ه ) يوقنون ( ه ) الصالحات ( قف ومن نصب ) سواء ( لم يقف .
) ومماتهم ( ط ) يحكمون ( ه ) لا يظلموا ( ه ) غشاوة ( ط ) من بعد الله ( ط ) تذكرون ( ه ) الدهر ( ج لاحتمال الواو الحال ) من علم ( ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى ) يظنون ( ه ) صادقين ( ه ) لا يعلمون ( ه ) والأرض ( ط ) المبطون ( ه ) جاثية ( قف لمن قرأ ) كل ( بالرفع ) كتابها ( ط ) تعملون ( ه ) بالحق ( ه ط ) تعملون ( ه ) في رحمته ( ط ) المبين ( ه ) مجرمين ( ه ) ما الساعة ( لا تحرزاً عن الابتداء بقول الكفار ) بمستيقنين ( ه ) يستهزئون ( ه ) ناصرين ( ه ) الدنيا ( ج للعدول عن الخطاب إلى الغيبة ) يستعتبون ( ه ) العالمين ( ه ) والأرض ( ص لعطف الجملتين المتفقتين ) الحكيم ( ه .
التفسير : إعراب أول السورة وتفسيرها كإعراب أول ( المؤمن ) وتفسيره وقوله ( إن في السموات ( إما أن يكون على ظاهره وآياتها الشمي والقمر والنجوم وحركاتها وأوضاعها وكذا العناصر والمواليد التي في الأرض مما يعجز الحاصر عن إدراك أعدادها ، وإما أن يراد إن في خلق السموات والأرض فالآيات تشمل ما عددنا مع زيادة هيئتهما وما يتعلق بتشخيثهما .
استدل الأخفش بالآية الثالثة على جواز العطف على عاملين .
مختلفين وهما في قراءة النصب ( أن ) وفي أقيمت الواو مقامها فعملت الجر في اختلاف الليل ، والنصب في آيات وهما في قراءة الرفع الابتداء وفي .
وخرج لسيبويه في جوابه وجهان : احدهما أن قوله ) آيات ( تكرار محض للتأكيد فقط من غير حاجة إلى ذكرها كما تقول : إن في الدار زيداً وفي الحجرة زيداً والمسجد زيداً ، وأنت تريد أن في الدار زيداً والحجرة والمسجد .
والثاني إضمار في لدلالة الأول عليه ، ويحتمل أن ينتصب ) آيات ( على الاختصاص .
ويرتفع بإضمار هي .
وتفسير هذه الآيات قد مر في نظائرها مراراً ولا سيما في أواسط ( البقرة ) ومما يختص بالمقام أنه خص المؤمنين بالذكر أولاً ثم قال ) لقوم يوقنون ( ثم ) يعقلون ( ثما سبب هذا الترتيب ؟ قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : أراد إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإلا فإن كنتم طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل ، وإن كنتن لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين ، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل ، وقال جار الله : معناه إن المنصفين من العباد إذا نظروا في السموات(6/110)
" صفحة رقم 111 "
والأرض النظر الصحيح علموا أنها لا بد لها من صانع فآمنوا به وأقروا ، فإذا نظروا في خلق انفسهم وتنقلها من حال إلى حال .
وفي خلق ما بث من الدواب على ظهر الأرض ، ازدادوا إيماناً وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس ، وإذا نظروا في سائر الحوادث كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار التي هي سبب الأرزاق وحياة الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح جنوباً وشمالاً وقوبلاً ودبوراً ، عقلوا واستحكم عقلهم وخلص يقينهم .
وأقول : الدلائل المذكورة في هذه الآيات قسمان : نفسية وخارجية .
فالنفسية أولى بالإيقان لأنه لا شيء أقرب إلى الإنسان من نفسه ، والخارجية بعضها فلكية وبعضها آثار علوية .
فالفلكية لبعدها عن الإنسان اكتفى فيها بمجرد التصديق ، وأما لآثار العلوية فكانت أولى بالنظر والاستدلال لقربها وللإحساس بها فلا جرم خصت بالتعقل والتدبر ، وأما تقديم السموات على الأرض فلشمولها ولتقدمها في الوجود .
) تلك ( مبتدأ والتبعيد للتعظيم والمشار إليها الآيات المتقدمة و ) نتلوها ( في محل الحال .
وقوله ( بعد الله وآياته ( كقولهم : أعجبني زيد وكرمه .
وأصله بعد آيات الله .
والمعنى أن من لم يؤمن بكلام الله فلن يؤمن بحديث سواه .
وقيل : معناه القرآن آخر كتب الله ، ومحمد آخر رسله .
فإن لم يؤمنوا به فبأي كتاب بعده يؤمنون ولا كتاب عده ولا نبي .
ثم أوعد الناس المبالغين في الإثم وقد مر ما في الآية في سورة لقمان .
قوله ) وإذا علم ( أي شعر وأحسن بأنه من جملة القرآن المنزل خاض في الاستهزاء ، وإذا وقف على آية لها محل في باب الطعن والقدح افترضه وحمهل على الوجه الموجب للطعن كافتراض ابن الزبعري في قوله ) إنكم وما تعبدون من دون الله ) [ الأنبياء : 98 ] وإنما أنّث الضمير في قوله ) اتخذها ( لأن الشيء في معنى الآية أو لأنه أراد أن يتخذ جميع الآيات هزواً ولا يقتصر على الاستهزاء بما بلغه .
قوله ) من ورائهم جهنم ( كل ما توارى عنك فهو وراء تقدم أو تأخر ، وقد مر في سورة إبراهيم عليه السلام ) هذا هدى ( أي هذا القرآن كامل في باب الهداية والإرشاد .
ثم ذكر دليلاً آخر على الوحدانية وهو تسخير البحر لبني آدم وقد سبق وجه الدلالة مراراً .
وقوله ( ولتبتغوا ( أي بسبب التجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان أو باستخراج اللحم الطري .
ثم عمم بعد التخصيص وقوله ( منه ( في موضع الحال أي سخر جميع ما في السموات والأرض كائنة منه ، يريد أنه أوجدها بقدرته وحكمته ثم سخرها لخلقه ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه النعم كلها منه .
عن ابن عباس برواية عطاء أن الصحابة نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر - يقال لها المريسيع - فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه فملا أتاه قال له : ما حبسك ؟ قال : غلام عمر قعد على رأس البئر فام ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبي(6/111)
" صفحة رقم 112 "
وقرب أبي بكر وملأ لمولاه .
فقال عبد الله : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل : سمن كلبك يأكلك فبلغ قوله عمر فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى ) قل للذين آمنوا ( يعني عمر ) يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ( لا يتوقعون وقائعه بأعداء الله أو لا يأملون قوة المؤمنين في أيام الله الموعودة لهم ، والمرادالصفح والأعراض .
عن عبد الله بن أبي وفي رواية ميمون بن مهران عن ابن عباس : لما نزلت ) من ذا الذي يقرض الله ) [ البقرة : 245 ] قال اليهودي فنحاص بن عازوراء : احتاج رب محمد فبلغ ذلك عمر فأخذ سيفه فخرج في طلبه ، فجاء جبرائيل وأنزل الآية هذه .
وليس المقصود أن لا تقتلوا ولا تقاتلوا حتى يلزم نسخها بآية القتال كما ذهب إليه كثير من المفسرين ، ولكن الأولى أن يحمل على ترك المنازعة في المحقرات وفي أفعالهم الموحشة المؤذية ، وإنما أنكر ) قوماً ( مع أنه أراد بقوم الذين آمنوا وهم معارف ليدل على مدحهم والثناء عليهم كأنه قيل : لنجزي قوماً كاملين في الصبر والإغضاء على أذى الأعداء ) بما كانوا يكسبون ( من الثواب العظيم بكظم الغيظ واحتمال المكروه ، وقيل : القوم هم الكافرون الكاملون في النفاق .
ثم فصل الجزاء وعمم الحكم بقوله ) من عمل صالحاً ( الآية .
ثم بين أن للمتأخرين من الكفار أسوة بالمتقدمين منهم والكتاب التوراة والحكم بيان الشرائع والبينات من الأمر أدلة أمور الدين .
وقال ابن عباس : يريد أنه تبين لهم من أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه مهاجر من تهامة إلى يثرب .
وقيل : هي المعجزات القاهرة على صحة نبوة موسى ) فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ( فيه احتمالان : أحدهما علموا ثم عاندوا ، والثاني جاءهم اسباب المعرفة التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق ولكنهم أظهروا النزاع حسداً .
) ثم جعلناك على شريعة ( أي منهاج وطريقة ) من الأمر ( أمر الدين وقيل : من الأمر الذي أمرنا به نم قبلك من رسلنا .
قال الكلبي : إن رؤساء قريش قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو بمكة ارجع إلى ملة آبائك وهم كانوا أفضل منك وأسن فزجره الله تعالى عن ذلك بقوله ) ولا تتبع ( إلى آخره أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة لصرت مستحقاً للعذاب وهم لا يقدرون على دفعه عنك .
ثم أشار بعد النهي عناتباع أهوائهم بقوله ) ولا تتبع ( أتباعهم إلى الفرق بين ولاة الظالمين وهم أشكالهم من الظلمة ، وبين ولي المتقين وهو الله سبحانه .
ومن جملة آثار ولايته وبركة عنايته ) هذا ( القرآن .
وقيل : ما تقدم من اتباع الشريعة وترك طاعة الظالم وجعل القرآن مشاراً إليه أولى لقوله ) بصائر من ربكم ( إلى آخره .
وقد مر في آخر ( الأعراف ) مثله .
ثم يبن الفرق بين الظالمين والمتقين من وجه آخر قائلاً ) أم حسب ( قال جار الله : ( أم ) منقطعة والآية نظيرة ما سلف في ( ص ) ) أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين ) [ الآية : 28 ] والاجتراح الاكتساب .
من قرأ(6/112)
" صفحة رقم 113 "
) سواء ( بالنصب فمعناه مستوياً والظاهر بعده فاعله ويكون انتصابه على البدل منثاني مفعولي ) نجعل ( وهو الكاف .
من قرأ بالرفع بخبر ) ومحياهم ( مبتدأ والجملة بدل أيضاً لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً .
والمعنى إنكار أن يستوي الفريقان حياة وموتاً ، لأن المحسنين عاشوا على الطاعة وإنهم عاشوا على المعصية ومات أولئك على البشرى والرحمة ، ومات هؤلاء على الضد .
وقيل : معناه إنكار أن يستويا في الممات كا استووا في الحياة من حيث الصحة والرزق ، بل قد يكون الكافر أرجح حالاً منالمؤمن .
فالفرق المتقضي لسعادة المؤمن وشقاوة الكافر إنما يظهر بعد الوفات .
وقيل : إنه كلام مستأنف والمراد أن كلاَ من الفريقين يموت على حسب ما عاش عليه لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كما تعيشون تموتون ) وحين أفتى بأن المؤمن لا يساويه الكافر في درجات السعادات استدل على صحة هذه الدعوى بقوله ) وخلق الله ( الآية .
قال جار الله : ( ولتجزى ( معطوف على ) بالحق ( لأنه في معنى لتعليل أي للعدل ، أو ليدل بها على قدرته وللجزاء .
ويجوز أن يكون المعلل محذوفاً وهو فعلنا ونحوه .
والحاصل أن الغاية من خلق السماء والأرض كان هو الإنسان الكامل فيكف يترك الله جزاءه وجزاء من هو ضده والتميز بينهما بموجب العدالة .
ثم قرر أسباب ضلال المضلين قائلاً ) أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ( أي يتبع ما تدعو إليه نفسه الأمارة وقد مر في الفرقان ) وأضله الله على علم ( بحالة أنه من أهل الخذلان والقهر ، أو على علم الضلال في سابق القضاء ، أو على علم بوجوه الهداية وإحاطته بالألطاف المحصلة لها .
وقيل : أراد به المعاند لأن ضلاله عن علم ) فمن يهديه من بعد ( إضلال ) الله ( قال بعض العلماء : قدم السمع على القلب في هذه الآية وبالعكس في ( البقرة ) لأن كفار مكة كانوا يبغضونه بقلوبهم وما كانوا يستمعون إليه وكفار المدينة ، كانوا يلقون إلى الناس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة ، فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه .
ففي هذه الصورة على هذا التقدير كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس ، وفي الصورة الأولى كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن ، فورد ما في كل سورة على ترتيبه .
ثم ذكر من أسباب الضلال سبباً آخر وهو إنكارهم البعث معتقدين أن لا حياة لا هذه وليس قولهم الدنيا تسلماً لثانية وإنما هو قول منهم على لسان المقرين وبزعمهم ) نموت ونحيى ( فيه تقديم وتأخير على أن الواو لا توجب الترتيب .
وقيل : يموت الآباء وتحيا الأبناء وحياة الأبناء حياة الآباء ، أو يموت بعض ، ويحيا بعض ، أو أرادوا بكونهم أمواتاً حال كونهم نطفاً ، أو هو على مذهب أهل التناسخ أي يموت الرجل ثم تجعل روحه في بدن آخر .
ثم إنهم لم يقنعوا بإنكار المعاد حتى ضموا إليه إنكار المبدأ قائلين ) وما يهلكنا إلا الدهر ( اعتقدوا أن تولد الأشخاص وكون(6/113)
" صفحة رقم 114 "
الممتزجات وفسادها ليس إلا بسبب مزاوجات الكواكب .
ولاحاجة في هذا الباب إلى مبدىء المبادىء فأجاب الله عن شبهتهم بقوله ) وما لهم بذلك من علم ( أي ليس لهم على ما قالوه دليل وإنما ذكروا ذلك ظناً تخميناً واستعباداً فلا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى قولهم ، لأن الحجة قامت على نقيض ذلك وهي دليل المبدأ والمعاد المذكور مراراً وأطوراً .
وليس قولهم ) ائتوا بآبائنا ( من الحجة في شيء لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال فإنه يمتنع حصوله في الاستقبال بدليل الحادث اليومي الممتنع حصوله في الأمس ، فوجه الاستثناء أنه في أسلوب قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع
وحين بكتهم وسكتهم صرح بما هو الحق وقال ) قل الله يحييكم ( إلى آخره. ثم أراد أن يختم السورة بوصف يوم القيامة وما سيجزي على الكفار فيه فقال ) ويو تقوم الساعة ( العامل فيه يخسر وقوله ( يومئذ ( بدل من ) يوم ( وفيه تأكيد للحصر المستفاد من تقديم الظرف. قال ابن عباس : الجاثية المجتمعة للحساب المترقبة لما يعمل بها. وقيل : باركة جلسة المدعي عند الحاكم. وقيل : مستوفزاً لا يصيب الأرض إلا ركبتاه وأطراف أنامله. والجثوا للكفار خاصة. وقيل : عام بدليل قوله بعد ذلك ) فأما الذين آمنوا ( ) وأما الذين كفروا ( ) تدعى إلى كتابها ( يريد كتاب الحفظة ليقرؤه. وقال الجاحظ : إلى كتاب نبيها فينظر هل علموا به أم لا. ويقال : يا أهل التوراة يا أهل القرآن. ) اليوم تجزون ( بتقدير القول ومما يؤيد القول الأول قوله ) هذا كتابنا ( إلى قوله ) إنا كنا نستنسخ ( أي نأمر بالنسخ. وإضافة الكتاب تارة إليهم وأخرى إلى الله عز وجل صحيحة لأن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة ، فأضيف إليهم لأن أعمالهم مثبتة فيه ، وأضيف إلى الله سبحانه لأنه أمر ملائكته بكتبه. قوله ) أفلم تكن ( القول فيه مقدر أي فيقال لهم ذلك قوله ) إن نظن إلا ظناً ( قال أبو علي و الأخفش : هذا الكلام جار على غير الظاهر لأن كل من يظن فإنه لا يظن إلا الظن فتأويله أن ينوي به التقديم أي ما نحن إلا نظن ظناً وقال المازني تقديره أن نظن نحن إلا ظناً منكم أي أنتم شاكون فيما تزعمون وما نحن بمستيقنين أنكم لا تظنون. وقال جار الله : أصله نظن ظناً ومعناه إثبات الظن فحسب فأدخل أداة الحصر ليفيد إثبات الظن مع نفي ما سواه وأقول : الظن قد يطلق على ما يقرب من العلم ، ولا ريب أن لهذا الرجحان مراتب وكأنهم نفوا كل الظنون إلا الذي لا ثبوت علم فيه وأكدوا هذا المعنى بقوله ) وما نحن بمستيقنين ( وباقي السورة واضح مما سلف والله أعلم .
تم الجزء الخامس والعشرون ويليه الجزء السادس والعشرون أوله تفسير سورة الأحقاف .(6/114)
" صفحة رقم 115 "
سورة الأحقاف
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء السادس والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
( سورة الأحقاف مكية غير آية نزلت في عبدالله بن سلام ) قل أرأيتم ( الآية حروفها ألفان وثلثمائة كلماتها ثلثمائة وأربع وأربعون آياتها خمس وثلاثون ) بسم الله الرحمن الرحيم ( الأحقاف : ( 1 - 20 ) حم
" حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا(6/115)
" صفحة رقم 116 "
يوعدون والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون "
( القراآت )
لتنذر ( على الخطاب : أبو جعفرو نافع وابن كثير وابن عامر وسهل ويعقوب .
الباقون : على الغيبة .
والضمير للكتاب ) إحساناً ( : حمزة وعلي وخلف وعاصم .
الباقون : ( حسناً ( ) كرهاً ( في الموضعين بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وجبلة وهشام .
الباقون : بالضم وفصله يعقوب .
الآخرون ) وفصاله ( ) أوزعني أن ( بالفتح : إبن كثير غير القوّاس والنجاري عن ورش وقالون غير الحلواني ) نتقبل ( بالنون ) أحسن ( بالنصب ) ونتجاوز ( بالنون : حمزة وعلي وخلف وحفص .
الآخرون بياء الغيبة مبنياً للمفعول في الفعلين ) أحسن ( بالرفع ) أف ( بالكسر والتنوين : أبو جعفر ونافع وحفص والمفضل .
وقررأ ابن كثير بالفتح من غير تنوين .
الباقون : بالكسر ولا تنوين ) أتعدانني أن ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وقرأ هشام مدغمة النون ) وليوفيهم ( بالياء : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم .
الباقون : بالنون ) أءذهبتم ( بتحقيق الهمزتين : ابن ذكوان ) آذهبتم ( بالمدّ : ابن كثير ويزيد وسهل ويعقوب وهشام .
الباقون : بهمزة واحدة .
الوقوف : ( حم ( ه كوفي ) الحكيم ( ه ) مسمى ( ط ) معرضون ( ه ) السموات ( ه لانتهاء الاستفهام إلى الخطاب ) صادقين ( ه ) غافلون ( ه ) كافرين ( ه ) مبين ( ه لأن ( أم ) تتضمن استفهام إنكار ) افتراه ( ط ) شيئاً ( ط ) فيه ( ط ) وبينكم ( ط ) الرحيم ( ه ) ورحمة ( ط ) للمحسنين ( ه ) يحزنون ( ه ) فيها ( ج لأن ) جزاء ( يصلح مفعولاً له ومفعول فعل محذوف أي يجزون جزاء ) يعملون ( ه ) إحساناً ( ط ) ووضعته كرهاً ( ط ) شهراً ( ط ) سنة ( لا لأن ما بعده جواب ( إذا ) ) ذرّيتي ( ط للابتداء بإن مع اتحاد الكلام ) المسلمين ( ه ) الجنة ( ط لأن التقدير وعد لله وعداً صدقا ًوهو مصدر مؤكد لأن قوله ) نتقبل ( في معنى الوعد ) يوعدون ( ه ) الأوّلين ( ه ) والإنس ( ط ) خاسرين ( ه(6/116)
" صفحة رقم 117 "
) عملوا ( ج لأن الواو تكون مقحمة ويتصل اللام بما قبله وقد يكون المعلل محذوفاً كأنه قيل : وليوفيهم أعمالهم قدّلا جزاءهم على مقادير أعمالهم ) لاي ظلمون ( ه ط لتقدير القول وهو العامل في يوم ) بها ( ج لابتداء التهديد مع الفاء ) تفسقون ( ه .
التفسير : إنما كرر تنزيل الكتاب لأنه بمنزلة عنوان الكتب ثم ذكر ما أنزل فقال ) ما خلقنا ( إلى قوله ) وأجل مسمى ( وقد مر في أوّل ( الروم ) أنه الوقت الذي عينه لإفناء الدنيا .
وحين بين الدليل على وجود الإله ووقوع الحشر فرع عليه الردّ على عبدة الأوثان بقوله ) قل أرأيتم ( وقد مر في ( فاطر ) .
والمراد أنهم لا يتسحقون العبادة أصلاً لأنهم ما خلقوا شيئاً في هذا العالم لا في الأرض ولا في السماء ، ولم يدل وحي من الله على عبادتهم لأن هذا القرآن ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك وما من كتاب قبله إلا هو ناطق بمثل ذلك .
فقوله ) ائتوني ( من باب إرخاء العنان وتوسيع المجال على الخصم أي إن كنتم في شك مما قلت فقد أمهلتكم حتى تأتوني بعد الاستقراء ) بكتاب ( فيه شيء من ذلك ) أو أثارة من علم ( قال الواحدي : كلام أهل اللغة في تفسير هذا الحرف يدور على ثلاثة أوجه : أحدها البقية من قولهم ( سمنت الناقة على إثارة من شحم ) أي على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب .
والثاني أنه من الأثر بمعن الرواية .
والثالث من الأثر بمعنى العلامة والمراد ما بقي أو روي عن أسلافهم ويعدّونه علماً .
عن ابن عباس مرفوعاً أنه الخط .
قال : كان نبي من لأنبياء يخط فيمن صادف مثل خطه علم علمه .
ثم زاد في تبكيتهم وتوبيخهم بقوله ) ومن أضل ( الآية .
وبالجملة فالدليل الأوّل دل على نفي القدرة عنهم من كل الوجوه ، وهذا الدليل دل على نفي العلم عنهم من كل الوجوه ، فإذا انتفى العلم والقدرة عن الجسم لم يكن إلا جماداً وعبادة الجما محض الضلال .
وقوله ( إلى يوم القيامة ( تأبيد على عادة العرب ، ويحتمل أن يكون توقيتاً بدليل قوله ) وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء ( وهذا التبري والتخاطب نوع من الاستجابة .
ثم قرر غاية عنادهم بقوله ) وإذا تتلى ( ثم عجب من حالهم بقوله ) أم يقولون افتراه ( الآية أي إن كذبت على الله كما زعمتم عاجلني بالعقوبة فلا تقدرون على دفع عذابه عني فأي فائدة لي في الافتراء ثم فوّض أمرهم إلى الله قائلاً ) هو أعلم بما تفيضون ( أي تتدفعون فيه من القدح في الوحي ، وتسميته سحراً تارة وافتراء أخرى وفي قوله ) وهو الغفور الرحيم ( إشارة إلى أنهم لو رجعوا إلى الحق وتابوا عن الشرك قبل الله توبتهم ، فويه إشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوه ، ثم أراد أن يزيل شبهتهم بنوع آخر من البيان فقال ) قل ما كنت بدعاً ( هو بمعنى البديع كالخف بمعنى الخفيف أي لست بأوّل رسول أرسله الله ولا جئتكم بأمر بديع(6/117)
" صفحة رقم 118 "
لم يكن إلى مثله سابق .
وفيه إن اقتراح الآيات الغربية فيه غير موجه الآخرة وما هو إلا نذير وليس إليه أن يأتي بكل ما يقترح عليه ، وفيه أنه غير عالم بالمغيبات إلا بطريق الوحي فلا وجه لاستدعاء الغيوب عنه سواء تتعلق بأحوال الدنيا أو بأحوال الآخرة من الأحكام والتكاليف وما يؤل أمر المكلفين إليه ، وفيه أنه لا وجه لتعييره بالفقر وبأكل الطعام والمشي في الأسواق والرسل كلهم أو جلهم كانوا كذلك .
قال ابن عباس في رواية الكلبي : لما أشتدّ البلاء على أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر فقصها على اصحابه فاستبشروا بذلك ، ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك فقالوا : يا رسول الله ما رأينا الذي قلت ومتى تهاجر ؟ فسكت رسول الله صلى الله عيله وسلم وأنزل الله الآية .
وعنه في رواية أخرى أنه لما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا : كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بأمته ، فأنزل الله تعالى ) إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ( إلى قوله ) فوزاً عظيماً ) [ الفتح : 1 ] فبين الله تعالى ما يفعل به وبأمته ونسخت هذه الآية .
والأصح عند العلماء أنه لا حاجة إلى التزام النسخ ، فإن الدراية المفصلة غير حاصلة ، وعلى تقدير حصولها فإنه لم ينف إلا الدراية من قبل نفسه ، وما نفي الدراية من جهة الوحي .
وقوله ( ولا بكم ( في حيز النفي ولا أدري ما يفعل بكم .
و ( ما ) موصولة أو استفهامية ، ومحل الأولى نصب ، والثانية رفع .
ثم قرر أنه لا أظلم منهم فقال ) قل أرأيتم ( الآية .
وقد مر نظيره في آخر ( حم السجدة ) إلا أنه زاد ههنا حديث الشاهد وفيه أقوال : أحدها أنه عبد الله بن سلام لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة نظر إلى وجهه وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر فآمن به .
وعن سعد بن أبي وقاص : ما سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزل ) وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ( على مثل القرآن .
والمعنى وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة للقرآن من التوحيد والمعاد .
وعلى هذا فقوله ) على مثله ( يتعلق بشاهد أي ويشهد على صحة القرآن .
ويجوز أن يعود الضمير في ) مثله ( إلى المذكور وهو كونه من عند الله ، فيكون الجار متعلقاً ب ) شهد ( قال جار الله : الواو الأخيرة عاطفة ) لاستكبرتم ( على ) شهد ( وأما الواو في ) وشهد ( فقد عطفت جملة قوله ) وشهد ( إلى آخره على جملة قوله ) كان من عند الله وكفرتم به ( والمعنى أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به مع استكباركم عنه ، ألستم أضل الناس وأظلمهم ؟ يدل على هذا الجزاب المحذوف قوله ) إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( قلت : هذا كلام حسن : ويجوز(6/118)
" صفحة رقم 119 "
أن يكون قوله ) واستكبرتم ( معطوفاً على قوله ) فآمن ( ويجوز أن يكون الواو في ) وشهد ( للحال بإضمار ( قد ) .
قال : وقد جعل الإيمان في قوله ) فآمن ( مسبباً عن الشهادة لأنه لما علم أن مثله أنزل على موسى وأنصف من نفسه اعترف بصحته وآمن .
القول الثاني ما ذكر الشعبي في جماعة أن السورة مكية وقد أسلم ابن سلام بالمدينة ، فالشاهد هو موسى وشهادته هو ما في التوراة من بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإيمانه تصديقه ذلك .
القول الثالث أن الشاهد ليس شخصياً معيناً وتقدير الكلام لو أن رجلاً منصفاً عارفاً بالتوراة أقر بذلك واعترف به ثم آمن بمحمد واستكبرتم أنتم ، ألم تكونوا ظالمين ضالين ؟ والمقصود أنه ثبت بالمعجزات القاهرة أن هذا الكتاب هو من عند الله ، ومع ثبوت هذين الأمرين كيف الثقات ان التوراة مشتملة على البشارة بمقدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومع ثبوت هذين الأمرين كيف يليق بالعاقل إنكار نبوته ؟ ثم ذكر شبهة أخرى لهم وهي أنهم قالوا ) للذين آمنوا ( أي لأجلهم وفي حقهم ) لو كان ( ما أتى به محمد ) خيراً ما سبقونا إليه ( وقيل : اللام كما في قولك ( قلت له ) وضعف بأنه لو كان كذلك لقيل ما سبقتمونا إليه .
وأجيب بأنه وارد على طريقة الالتفات ، أو المراد أن الكفار لما سمعوا أن جماعة آمنوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاطبوا جماعة من المؤمنين الحاضرين بأنه لو كان هذا الدين خيراً لما سبقنا إليه أولئك الغائبون قال المفسرون : لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار قالت بنو عامر وغطفان وأسد واشجع : لو كان ما دخل فيه هؤلاء من الدين خيراً ما سبقون إليه ، ونحن أرفع منهم حالاً وابن مسعود .
وقيل : هم اليهود قالوه عند إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه .
والعامل في قوله ) وإذ لم يهتدوا به ( محذوف وهو ظهر عنادهم وذلك أن ( إذ ) للمضي ، والسين للاستقبال وبينهما تدافع .
والإفك القديم كقولهم أساطير الأوّلين .
وقيل : كذب ككذب عيسى عليه السلام قوله ) ومن قبله كتاب موسى ( خبر ومبتدأ وقوله ( إماماً ( أي قدوة يؤتم به في اصول شرائع الله ، نصب على الحال كقولك ( في الدار زيد قائماً ) وقوله ( لساناً عربياً ( حال من ضمير الكتاب في ) مصدّق ( أي لما بين يديه وهو العامل فيه ويجوز أن يكون حالاً من ) كتاب ( لأنه موصوف والعامل معنى الإشارة .
وجوز أن يكون مفعولاً ) لصدّق ( على حذف المضاف أي يصدّق ذا لسان عربي هو الرسول .
قوله ) وبشرى ( معطوف على محل ) لتنذر ( لأنه مفعول له .
وحين قرر دلائل التوحيد والنبوة وذكر شبه المنكرين مع أجوبتها ، أراد أن يذكر طريقة المحقين فقال ) إن الذين قالوا ( الآية .
وقد مر في ( حم السجدة ) إلا أنه رفع واسطة الملائكة ههنا من البين .
ثم إن أعظم(6/119)
" صفحة رقم 120 "
أنواع الاستقامة كان هو الشفقة على خلق الله ولا سيما على الوالدين فلذلك قال ) ووصينا ( الآية .
وقد مرّ في ( الروم ) و ( لقمان ) والكره بالضم ، والفتح المشقة أي ذات كره أو حملاً ذاكره .
والفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى ، والمقصود بيان مدّة الرضاع .
ولما كان منتهياً بالفصال صح التعبير عن آخر الرضاع بالفصلا ، والفائدة فيه الدلالة على الرضاع التام المنتهي بالفصال .
وقد يستدل من هذه الآية ومن قوله ) والوالدت يرضعن أولادهن حولين كاملين ) [ البقرة : 233 ] أن مدة الحمل ستة أشهر .
وعن عمر أن امرأة ولدت لستة أشهر فرفعت إليه فأمر برجمها ، فأخبر علياً رضى الله عنه بذلك فمنعه محتجاً بالآية فصدّقه عمر وقال : لولا لعيّ لهلك عمر .
قال جالينوس : إني كنت شديد الفحص عن مقادير أزمنة الحمل فرأيت امرأة ولدت في المائة والأربع والثمانين ليلة .
وزعم أبو علي بن سينا أنه شاهد ذلك .
وذكر أهل التجارب قاعدة كلية قالوا : إن لتكوّن الجنين زماناً مقدراً ، فإذا تضاعف ذلك الزمان تحرك الجنين ، ثم إذا انضاف إلى المجموع مثلاه انفصل الجنين ، وعلى هذا فلو تمت خلقه الجنين في ثلاثين يوماً فإذا أتى عليه مثل ذلك أي تصير مدة علوقه ستين تحرك ، فإذا انضاف إلى هذا المقدار مثلاه وهو تحرك في سبعين وانفصل في مائتين وعشرة وهو سبعة أشهر ، ولو تمت خلقته في أربعين تحرك في ثمانين وانفصل في مائتين وأربعين وهو ثمانية أشهر ، وقلما يعيش هذا المولود إلا في بلاد معينة مثل مصر ، وقد مرّ هذا المعنى في هذا الكتاب .
ولو تمت في خمسة وأربعين تحرك في تسعين وأنفصل في مائتين وسبعين وهي تسعة أشهر وهو الأكثر ، أما أكثر مدّة الحمل فليس يعرف له دليل من القرآن .
وذكر أبو علي بن سينا في كتاب الحيوان من الشفاء في الفصل السادس من المقالة التاسعة ، أن امرأة ولدت بعد الرابع من سني الحمل ولداً قد نبتت أسنانه وعاش .
وعن أرسطا طاليس أن زمان الولادة لكل الحيوان مضبوط سوى الإنسان هذا وقد روى الواحدي في البسيط عن عكرمة أنه قال : إذاا حملت تسعة أشهر أرضعته أحداً وعشرين شهراً .
وعلى هذا قوله ) حتى إذا بلغ أشدّه ( أكثر المفسرين كما مر في آخر ( الأنعام ) وأوّل ( يوسف ) و ( القصص ) .
على أن وقت الأشد هو زمان الوصول إلى آخر سن النشوء والنماء وهو ثلاث وثلاثون سنة تقريباً ، وإن في الأربعين يتم الشباب وتأخذ القوى الطبيعية والحيوانية في الانتفاص ، والقوّة العقلية والنطقية في الاستكمال ، وهذا أحد ما يدل على أن النفس غير البدن ومن جملة الكمال أنه حينئذ يقول ) رب أوزعني ( أي ألهمني ووفقني كما مر في ( النمل ) .(6/120)
" صفحة رقم 121 "
قال علماء المعاني : قوله ) في ذرّيتي ( كقوله ( يجرح في عراقيبها نصلي ) فكأنه سأل أن يجعل ذرّيته موقعاً للصلاح ومظنة له .
وقوله ( أحسن ما عملوا ( إما بمعنى الحسن أو المراد الواجب والندب دون المباح .
وقوله ( في أصحاب الجنة ( في موضع الحال أي معدودين فيهم .
عن ابن عباس وجم غفير من المفسرين أن الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق ، وفيه أبيه أبي قحافة وأمه أم الخير ، وفي أولاده واستجابة دعائه فيهم ، ولم يكن أحد من الصحابة المهاجرين والأنصار أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته غير أبي بكر .
قالوا : ومما يؤيد هذا القول أنه سبحانه حكى عن ذلك الإنسان أنه قال بعد أربعين سنة رب أوزعني الخ .
ومعلوم أنه ليس كل إنسان قد يقول هذا القول. والأظهر أن هذا عام لهذا الجنس ، وأن الإنسان قد يقول هذا القول ولا أقل من أن يكون وارداً على طريقة الإرشاد والتعليم .
سلمنا ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب قوله ) والذي قال ( مبتدأ خبره ) أولئك ( والمراد بالذي جنس القائل فلذلك أورد الخبر مجموعاً .
ويجوز أن يكون الخبر عاماً في القائل وفي أمثاله فيندرج فيه القائل .
وقيل : تقديره واذكر الذي ومن القائل .
عن الحسن وقتادة : هو الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث .
وذهب السدّي إلى أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه وأنه كان يقول ) لوالديه أف لكما ( وهي كلمة تضجر وتبرم كما مر في ( سبحان ) و ( الأنبياء ) ) أتعدانني أن أخرج ( من القبر ) وقد خلت القرون من قبلي ( فلم يرجع أحدهم ) وهما ( يعني أبويه ) يستغيثان الله ( أي بالله فحذف الجار وأوصل الفعل والمراد يسألانه أن يوقفه للإيمان ويقولان له ) ويلك آمن ( بالله وبالبعث .
والمراد بالدعاء عليه الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك .
قال السدّي : فاستجاب الله دعوة أبي بكر فيه فأسلم وحسن إسلامه ولما أسلم نزل فيه ) ولكل درجات مما عملوا ( وأكثر المفسرين ينكرون هذا القول لأنه سبحانه قال فيه ) أولئك الذين حق عليهم القول ( كائنين ) في أمم ( إلى آخره .
وأن عبد الرحمن لم يبق كافراً بل كان من سادات المسلمين .
وروي عن عائشة إنكاره إيضاً .
وذلك أنه حين كتب معاوية إلى مروان بن الحكم ابن أبي العاص بأن يبايع الناس ليزيد ، ردّ عليه عبد الرحمن وقال مروان : يا أيها الناس هو الذيقال الله فيه ) والذي قال لوالديه ( فسمعت عائشة فغضبت وقالت : والله ما هو به ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه .
ثم ميز حال المؤمن من حال الكافر بقوله ) ولكل ( أي من الجنسين ) درجات ( من جزاء ما عملوا فغلب أهل الدرجات على أهل الدركات ، أو الدرجات هي المراتب متصاعدة أو متنازلة ، والباقي واضح مما مرّ ، والاستكبار عن قبول الحق ذنب القلب ، والفسق عمل الجوارح ، والأوّل أولى بالتقديم لعظم موقعه .
وقد يحتج بالآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع .
قال مؤلف(6/121)
" صفحة رقم 122 "
الكتاب : والأشياء الطيبة اللذيذة غير منهي عنها لقوله تعالى ) قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) [ الأعراف : 32 ] ولنك التقشف وترك التكلف دأب الصالحين لئلا يشتغل بغير المهم ، ولأن ما عدا الضروري لا حصر له وقد يجر بعضه بعضاً إلى أن يقع المرء في حدّ البعد عن الله .
وفي الحديث أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً فقال : ( أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ويستر البيت كما تستر الكعبة ؟ ) قالوا : نحن يومئذ خير .
قال : ( بل أنتم اليوم خير. ) وعن عمرو لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباساً ولكنني أستبقي طيباتي لأن الله وصف قوماً فقال ) أذهبتم طيباتكم ( وعنه أن رجلاً دعاه إلى طعام فأكل ثم قدّم شيئاً حلوا فامتنع وقال : رأيت الله نعى على قوم شهواتهم فقال ) أذهبتم ( الآية .
فقال الرجل : اقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها ) ويوم يعرض الذين كفروا ( ولست منهم فأكل وسرّه ما سمع .
والتحقيق أن المراد هو أنه ما كتب للكافر حظ من الطيبات إلا الذي أصابه في دنياه ، وليس في الآية إن كل من أصاب الطيبات في الدنيا فإنه لا يكون له منها حظ في الآخرة والله أعلم بالصواب .
( الأحقاف : ( 21 - 35 ) واذكر أخا عاد . . . .
" واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من(6/122)
" صفحة رقم 123 "
دونه أولياء أولئك في ضلال مبين أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون "
( القراآت )
إني أخاف ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وخلف .
) لا يرى ( بالياء التحتانية مبنياً للمفعول ) إلا مساكنهم ( بالرفع : عاصم وحمزة وخلف وسهل ويعقوب .
والباقون ) لا ترى ( على خطاب كل راء ) مساكنهم ( بالنصب ) بل ضلوا ( بإدغام اللام في الضاد : " ليّ .
) وإذا صرفنا ( بإدغام الذال في الصاد وكذا ما يشبهه : أبو عمرو وعليّ وهشام وحمزة في روياة خلاد وابن سعدان وأبي عمرو ) يقدر ( فعلاً مضارعاً من القدرة : سهل ويعقوب .
الوقوف : ( عاد ( ط لأن ( إذ ) يتعلق بأذكر محذوفاً وهو مفعول به .
هذا قول السجاوندي ، وعندي أن لا وقف .
وقوله ( إذ ) بدل الاشتمال من ) أخا عاد ( ) إلا الله ( ط ) عظيم ( ه ) آلهتنا ( ج لتناهي الاستفهام مع تقيب الفاء ) الصادقين ( ه ) عند الله ( ز لاختلاف الجملتين لفظاً ولكن التقدير هذه ريح ) أليم ( ه لا لأن ما بعده صفة ) مساكنهم ( ط ) المجرمين ( ه ) وأفئدة ( ز لعطف الجملتين المختلفتين والوصل أولى للفاء واتحاد الكلام ) يستهزئون ( ه ) يرجعزون ( ه ) آلهة ( ج لتمام الاستفهام ) عنهم ( ج لعطف الجملتين ) يفترون ( ه ) القرآن ( ج لكلمة المجازاة مع الفاء ) انصتوا ( ج لذلك ) منذرين ( ه ) مستقيم ( ه ) أليم ( ه ) أولياء ( ط ) مبين ( ه ) الموتى ( ط ) قدير ( ه ) النار ( ط لتقدير القول ) بالحق ( ط ) وربنا ( ط ) تكفرون ( ه ) لهم ( ط ) يوعدون ( ه لا لأن ما بعده خبر ( كأن ) ) نهار ( ط ) بلاغ ( ج للاستفهام مع الفاء ) الفاسقون ( ه .
التفسير : إنه سبحانه بعد حكاية شبه المكذبين والأجوبة عنها ، وبعد إتما ما أنجر الكلام إليه ، أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يذكر قومه بقصة هود أعنى أخا عاد لأنه واحد منهم والأحقاف جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج ، ويقال له الشحر من بلاد اليمن .
وقيل : بين عمان ومهرة .
والنذر جمع نذير مصدر أو(6/123)
" صفحة رقم 124 "
صفة .
الواو في قوله ) وقد خلت ( إما أن تكون للحال والمعنى أنذرهم وهم عالمون بإنذار الرسل من قبل ومن بعده ، وإما أن يكون اعتراضاً والمعنى واذكروا وقت إنذار هود قومه ) ألا تعبدوا إلا الله ( وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك فأذكرهم قوله ) لتأفكنا ( أي لتصرفنا عن عبادة آلهتنا .
قوله ) إنما العلم عند الله ( أي لا علم لي بالوقت الذي عينه الله لتعذيبكم فلا معنى لاستعجالكم ولهذا نسبهم إلى الجهالة ، وأيّ جهل أعظم من نسبة نبي الله إلى الكذب .
ومن تركطريقة الاحتياط ومن استعجال ما فيه هلاكهم ، والضمير في قوله ) فلما رأوه ( عائد إلى الموعود ، أو هو مبهم يوضحه قوله ) عارض ( أي سحاب عرض في نواحي السماء .
والإضافة في قوله ) مستقبل أوديتهم ( و ) ممطر ( لفظية ولهذا صح وقوعها صفة للنكرة. والتدمير الإهلاك والاستئصال .
وفي قوله ) بأمر ربها ( إشارة إلى إبطال قول من زعم أن مثل هذه الآثار مستند إلى تأثيرات الكواكب بالاستقلال ثم زاد في تخويف كفار مكة وذكر فضل عاد في القوة الجسمانية وفي الأسباب الخارجية عليهم فقال ) ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ( قال المبرد : ( ما ) موصولة و ( إن ) نافية أي في الذي لم نمكنكم فيه .
وقال ابن قتيبة : ( إن ) زائدة وهذا فيه ضعف لأن الأصل حمل الكلام على وجه لا يلزم منه زيادة في اللفظ ، ولأن المقصود فضل أولئك القوم على هؤلاء حتى يلزم المبالغة في التخويف ، وعند تساويهما يفوت هذا المقصود .
وقيل : ( إن ) للشرط والجزاء مضمر أي في الذي إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر .
وقوله ( من شيء ( أي شيئاً من الإغناء وهو القليل منه .
وقوله ( إذ كانوا ( ظرف لما أغنى وفيه معنىالعليل كقولك ( ضربته إذ أساء ) قوله ) من القرى ( يريد من قريات عاد وثمود ولوط وغيرهم بالشام والحجاز واليمن ، وتصريف الآيات أي تكريرها .
قيل : للعرب المخاطبين والأظهر أنه للماضين لقوله ) لعلهم يرجعون ( عن شركهم ، والأوّلون حملوه على الالتفات .
ثم وبخهم بأن أصنامهم لم يقدروا على نصرتهم وشفاعتهم .
فقوله ) آلهة ( مفعول ثانٍ ) لا تخذوا ( والمفعول الأول محذوف وهو الراجع إلى ) الذين ( و ) قرباناً ( حال أو مفعول له أي متقربين إلى الله ، أو لأجل القربة بزعمهم .
والقربان مصدر أو اسم لما يتقرب به إلى الله عز وجل .
ويجوز أن يكون ) قرباناً ( مفعولاً ثانياً و ) آلهة ( بدلاً أو بياناً .
قوله ) وذلك إفكهم ( أي عدم نصرة آلهتهم وضلالهم عنهم وقت الحاجة محصول إفكهم وافترائهم ، أو عاقبة شركهم وثمرة كذبهم على الله .
وحين بّين أن الإنس من آمن وفيهم من كفر ، أراد أن يبين أن نوع الجن أيضاً كذلك .
وفي كيفية الواقعة قولان : أحدهما عن سعيد بن جبير وعليه الجمهور : كانت الجن تسترق(6/124)
" صفحة رقم 125 "
فلما رجموا قالوا : هذا إنما حدث في السماء لشيء حدث في الأرض .
فذهبوا يطلبون السبب فوافوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة يصلي بأصحابه أو منفرداً .
فمنهم من قال صلاة العشاء الآخرة ومنهم من قال صلاة الصبح ، فقرأ فيها سورة ( اقرأ ) فسمعوا القرآن وعرفوا أن ذلك هو السبب .
وعلى هذا لم يكن ذلك بعلم منه ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أوحى الله إليه .
والقول الثاني أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بذلك فقال لأصحابه : إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجن فأيكم يتبعني ؟ فأتبعه ابن مسعود ، فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شعب الحجون وخط على ابن مسعود وقال : لا تبرح حتى آتيك .
قال : فسمعت لغظاً شديداً حتى خفت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم علا بالقرآن أصواتهم .
فلما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سألته عن اللغط فقال : اختصموا إليّ في قتيل كان بينهم فقضيت فيهم .
وفي رواية أخرى عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أمعك ماء ؟ قلت : يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر .
فاستدعاه فصببت على يده فتوضأ فقال : تمرة طيبة وماء طهور .
واختلفوا في عددهم : عن ابن عباس : كانوا تسعة من جن نصيبين أو نينوى .
وقال عكرمة : كانوا عشرة من جزيرة الموصل ، وزر بن حبيش : كانوا تسعة ومنهم زوبعة .
وقيل : اثني عشر ألفاً .
ولنرجع إلى التفسير .
قوله ) وإذ صرفنا ( معطوف على قوله ) أذكر أخا عاد إذ أنذر ( ومعنى صرفنا أملناهم إلأيك ، والنفر ما دون العشرة ويجمع على أنفار .
والضمير في ) حضروه ( للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو القرآن ) قالوا ( أي قال بعضهم لبعض ) أنصتوا ( والإنصات السكوت لاستماع الكلام ) فلما قضى ( أي فرغ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من القراءة .
وإنما قالوا ) أنزل من بعد موسى ( لأنهم كانوا يهوداً أو لأنهم لم يسمعوا أمر عيسى قاله ابن عباس ) أجيبوا داعي الله ( عنوا رسول الله أو أنسهم بناءعلى أنهم رسل رسلو الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلأى قومهم ، ومنه يعلم أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان مبعوثاً إلى الجن أيضاً وهذا من جملة خصائصه .
وحين عمموا الأمر بإجابة الداعي خصصوه بقولهم ) وآمنوا به ( لأن افيمان أشرف أقسام التكاليف .
و ( من ) في قوله ) من ذنوبكم ( للتبعيض فمن الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كالمظالم وقد مر في ( إبراهيم ) .
واختلفوا في أن لاجن هل لهم ثواب أم لا ؟ فقيل : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار بقوله ) ويجركم من عذاب أليم ( وهو قول أبي حنيفة .
والصحيح أنهم في حكم بني آدم يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون .
وقد جرت بين مالك وأبي حنيفة مناظرة في هذا الباب .
قوله ) فليس بمعجز ( أي لا يفوته هارب .
قوله ) ولم يعي ( يقال : عييت بالأمر إذا لم يعرف وجهه .
قوله ) بقادر ( في محل الرفع لأنه خبر ( أن ) وإنما دخلت الباء لاشتمال الآية على النفي كأنه قيل : اليس الله بقادر ؟ والمقصود تأكيد ما مر في أول السورة من(6/125)
" صفحة رقم 126 "
دلائل البعث والنبوّة .
ثم سلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ) فاصبر كما صبر أولوا العزم ( وقوله ( من الرسل ( بيان لأن جميع الرسل أرباب عزم وجد في تبليغ ما أمروا بأدائه ، أو هو للتبعيض فنوح صبر على اذى قومه ، وغبراهيم على النار وذبح الولد ، وإسحق على الذبح ، ويعقوب على فراق الولد ، ويوسف على السجن ، وأيوب على الضر ، وموسى على سفاهة قومه وجهالاتهم ، وأما يونس فلم يصبر على دعاء القوم فذهب مغاضباً ، وقال الله تعالى في حق آدم ) ولم نجد له عزماً ) [ طه : 115 ] ( ولا تستعجل لهم ( أي لا تدع لكفار قريش بتعجيل العذاب فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر ، وإنهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى ظنوا أنها ساعة من نهار ) هذا ( الذي وعظهم به كفاية في بابه وقد مر في آخر سورة ( إبراهيم ) عليه السلام .(6/126)
" صفحة رقم 127 "
سورة محمد
( سورة محمد صلى الله عليه وآله وهي مدنية حروفها ألفان وثلثمائة وتسعة وأربعون كلماتها خمسمائة وأربعون آياتها ثمان وثلاثون ) ( محمد : ( 1 - 18 ) الذين كفروا وصدوا . . . .
" الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم " ((6/127)
" صفحة رقم 128 "
القراآت : ( والذين قتلوا ( مبنياً للمفعول ثلاثاً : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص الباقون ) قائلون ( ) ويثبت ( من الإثبات : المفضل .
الباقون : بالتشديد ) أسن ( بغير الألف كحذر : إبن كثير ) أنفا ( بدون ألألف كما قلنا : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل .
الوقوف : ( أعمالهم ( ه ) بالهم ( ه ) من ربهم ( ط ) أمثالهم ( ه ) الرقاب ( ط ) الوثاق ( لا للفاء ولتعلق ) بعد ( بما قبلها أي بعد ما شددتم الوثاق ) أوزارها ( ج ) ذلك ( ط أي ذلك كذلك ، وقد يحسن اتصاله بماقبله لانقطاعه عن خبره أو عن المبتدأ أو الفعل أي الأمر ذلك ، أو فعلوا ذلك ) ببعض ( ط ) أعمالهم ( ه ج ) من قبلهم ( ه لتناهي الاستخبار ) عليهم ( ج للابتداء بالتهديد مع الواو ) أمثالها ( ه ) لهم ( ه ) الأنهار ( ط ) لهم ( ه ) أخرجتك ( ج لاحتمال أن ما بعده صفة ) قرية ( أو ابتداء إخبار ) لهم ( ه ) أهواءهم ( ه ) المتقون ( ط للحذف أي صفة الجنة فيما نقص عليكم ثم شرع في قصتها ) آسن ( ج ) طعمه ( ج ) للشاربين ( ه ج لتفصيل أنواع النعم مع العطف ) مصفى ( ج ) من ربهم ( ط لحذف المبتدأ ولاتقدير أفمن هذا حاله كمن هو خالد ) أمعاءهم ( ه ) إليك ( ج لاحتمال أن يكون حتى للانتهاء وللابتداء ) آنفاً ( ط ) أهواءهم ( ه ) تقواهم ( ه ) بغتة ( ه لتناهي الاستفهام مع مجيء الفاء بعده في الإخبار ) أشراطها ( ج لعكس ما مر ) ذكراهم ( ه .
التفسير : قال أهل النظلم : إن أول هذه السورة مناسب لآخر السورة كأنه قيل : كيف يهلك الفاسق إن كان له أعمال صالحة ؟ فأجاب ) الذين كفروا وصدوا ( منعوا الناس عن الإيمان صداً أو امتنعوا عنه صدوداً ) أضل ( الله ) أعمالهم ( أي أبطل ثوابها وكانوايصلون الأرحام ويطعمون الطعام ويعمرون المسجد الحرام .
وعن ابن عباس أنها نزلت في المطعمين يوم بدر .
وقيل : هم أهل الكتاب .
والأظهر العموم .
قال جار الله : حقيقة إضلال الأعمال جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يثيب عليها كالضالة من الإبل لا رب لها يحفظها ، أو أراد أنه يجعلها ضالة في كفرهم ومعاصيهم مغلوبة بها كما يضل الماء في اللبن .
وقيل : أراد إبطال ما عملوه من الكيد للإسلام وذويه بأن نصر المسلمين عليهم وأظهر دينه على الدين كله .
وحين بيّن حال الكفار بيّن حال المؤمنين قائلاً ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات ( بالهجرة والنصرة وغير ذلك ) وآمنوا بما نزل على محمد ( يعني القرآن وهو تخصيص بعد تعميم ، ولم يقتصر على هذا التخصيص الموجب للتفضيل ولكنه أكده بجملة اعتراضية هي قوله ) وهو الحق من ربهم ( ولأن الحق الثابت ففيه دليل على أن دين(6/128)
" صفحة رقم 129 "
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يرد عليه النسخ أبداَ .
وتكفير السيئات من الكريم سترها بما هي خير منها فهو في معنى قوم ) فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) [ الفرقان : 7 ] والبال الحال والشأن لا يثنى ولا يجمع .
وقيل : هو بمعنى القلب أي يصلح أمر دينهم .
والحاصل أن قوله ) وآمنوا بما نزل على محمد ( بإزاء قوله ) وصدّوا عن سبيل الله ( فأولئك امتنعوا عن اتباع سبيل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهؤلاء حثوا أنفسهم على إتباعه فلا جرم حصل لهؤلاء ضدّ ما حصل لأولئك فأضل الله حسنات أولئك وستر على سيئات هؤلاء ، وقد أشير إلى هذا الحاصل بقوله ) ذلك ( الإضلال والتكفير بسبب اتباع أولئك الباطل الشيطان وحربه وأولئك الحق محمداً والقرآن ) كذلك ( أي مثل ذلك الضرب ) يضرب الله للناس ( كلهم مثال أنفسهم أو أمثال المذكورين من الفريقين على معنى إنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم .
وضرب المثل في الآية هو أن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين ، ولا ريب أن إخباره عن الفريقين بغير تصريح مثل لحالهما وهذا حقيقة ضرب المثل .
وقيل : إن الإضلال مثل لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثل لفوز المؤمنين .
وقيل : إن قوله ) كذلك ( لا يستدعي أن يكون هناك مثل مضروب ، ولكنه لما بين حال الكافر وإضلال أعماله وحال المؤمن وتكفير سيئاته ، وبين السبب فيهما كان ذلك نهاية الإيضاح فقال ) كذلك ( أي مثل ذلك البيان يضرب الله للناس أمثالهم ويبين أحوالهم .
قال أصحاب النظم : لما بيّن أن عمل الكفار ضلال والإنسان حرمته باعتبار عمله نتج من ذلك قوله ) فإذا لقيتم الذين كفروا ( أي في دار الحرب أو في القتال ) فضرب الرقاب ( وأصله فأضربوا الرقاب ضرباً إلا أنه اختصر للتوكيد لأنه بذكر المصدر المنصوب دل على الفعل وكان كالحكم البرهاني .
وليس ضرب الرقبة مقصوداً بالذات ولكنه وقع التعبير عن القتل به لأنه أغلب أنواع القتل ، ولما في ذكره من التخويف والتغليظ .
وفيه ردّ على من زعم أن القتل بل إيلام الحيوان قبيح مطلقاً لأنه تخريب البنيان ، فبين الشرع أن أهل الكفر والطغيان يجب قتلهم لأن فيه صلاح نوع الإنسان كما أن الطبيب الحاذق يأمر بقطع العضو الفاسد إبقاء على سائر البدن ) حتى إذا أثخنتموهم ( أكثرتم قتلهم وأغلظتموه من الشيء الثخين ، أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى لا يمكنهم النهوض وقد مر في آخر ( الأنفال ) ) فشدّوا الوثاق ( وهو بالفتح والكسر اسم ما يوثق به والمراد فأسروهم وشدّوهم بالحبال والسيور .
فإما تمنون مناً وإما تفدون فداء ، وهذا ما يلزم فيه حذف فعل المفعول المطلق لأنه وقع المفعول تفصيلاَ لأثر مضمون جملة متقدمة .
وقال الشافعي : للإمام أن يختار أحد أربعة أمور هي : القتل والاسترقاق والمنّ وهو الإطلاق من غير عوض والفداء بأسارى المسلمين أو بمال .
لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منّ على أبي عروة اتلجهني وعلى ابن أثال الحنفي ، وفادى(6/129)
" صفحة رقم 130 "
رجلاً برجلين من المشركين .
وذهب عض أحصاب الرأي أن الآية منسوخة .
وأن المنّ والفداء إنما كان يوم بدر فقط وناسخها ) اقتلوا المشركين ) [ التوبة : 5 ] وليس للإمام إلا القتل أو الاسترقاق .
وعن مجاهد : ليس اليوم منّ ولا فداء إنما هو الإسلام أو ضرب العنق .
وقوله ( حتى تضع ( يتعلق بالضرب والشدّ أو بالمنّ والفداء .
والمراد عند الشافعي أنهم لا يزالون على ذلك أبداً إلى أن لا يكون حرب مع الشمركين وذلك إذا لم يبق لهم شوكة .
وأوزار الحرب آلاتها وأثقالها التي لا تقوم الحرب إلا بها .
قال الأعشى :
وأعددت للحرب أوزارها
رماحاً طوالاً وخيلاً ذكوراً
فإذا أنقضت الحرب فكأنها وضعت أسبابها .
وقيل : أوزارها آثامها والمضاف محذوف أي حتى يترك أهل الحرب .
وهم المشركون شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا وعلى هذا جاز أن يكون الحرب جمع حراب كالصحب جمع صاحب فلا يحتاج إلى تقدير المضاف .
وفسر بعضهم وضع الحرب أوزارها بنزول عيسى عليه السلام .
عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى عليه السلام إماماً هادياً وحكماً عدلاً يكسر الصليب ويقتل الخنزير وتضع الحرب أوزارها حتى تدخل كلمة الإخلاص كل بيت من وبر ومدر ) وعند أبي حنيفة : إذا علق بالضرب والشدّ فالمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار ، وذلك إذا لم تبق شوكة للمشركين .
وإذا علق بالمنّ والفداء فالحرب معهودة وهي حرب بدر .
ثم بين أنه منزه في الانتقام من الكفار عن الاستعانة بأحد فقال ) ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ( بغير قتال أو بتسليط الملائكة أو أضعف خلقه عليهم ) ولكن ( أمركم بقتالهم ) ليبلو بعضكم ببعض ( فيمتحن المؤمنين بالكافرين هل يجاهدون في سبيله حق الجهاد أم لا ، ويبتلي الكافرين بالمؤمنين هل يذعنون للحق أم لا إلزاماً للحجة وقطعاً للمعاذير .
ومعنى الابتلاء من الله سبحانه قد مر مراراً أنه مجاز أي يعاملهم معاملة المختبر ، أو ليظهر الأمر لغيره من الملائكة أو الثقلين .
ثم وعد الشهداء والمجاهدين بقوله ) والذين قتلوا ( أو قاتلوا على القراءتين ) فلن يضل اعمالكم ( خلاف الكفرة ) سيهديهم ( إلى الثواب ويثبتهم على الهداية ) ويصلح بالهم ( أمر معاشهم في المعاد أو في الدنيا ، وكرر لأن الأوّل سبب النعيم ، والثاني نفس(6/130)
" صفحة رقم 131 "
النعيم ) ويدخلهم الجنة عرّفها لهم ( جعل كل واحد بحيث يعرف ماله في الجنة كأنهم كانوا سكانها منذ خلفقوا .
وعن مقاتل : يعرفها لهم الحفظة وعسى أنه عرفها بوصفها في القرآن .
وقيل : طيبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة .
ثم حث على نصرة دين الله بقوله ) يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ( أي دينه أو رسوله ) ينصركم ( على عدوّكم ويفتح لكم ) ويثبت أقدامكم ( في مواقف الحرب أو على جادّة الشريعة ) والذين كفروا ( حالهم بالضد .
يقال : تعساً له في الدعاء عليه بالعثار والتردّي .
عن ابن عباس : هو في الدنيا القتل ، وفي الآخرة الهويّ في جهنم .
وهو من المصادر التي يجب حذفها فعلها سماعاً والتقدير : أتعسهم الله فتعسوا تعساً ولهذا عطف عليه قوله ) وأضل أعمالهم ( ثم بين سبب بقائهم على الكفر ولاضلال بقوله ) ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله ( من القرآن والتكاليف لألفهم بالإهمال وإطلاق العنان ) فأحبط أعمالهم ( التي لا استناد لها إلى القرآن أو السنة .
ثم هدّدهم بحال الأقدمين وهو ظاهر .
ودمر عليه ويقال دمره فالثاني الإهلاك مطلقاً ، والأوّل إهلاك ما يختص به من نفسه وماله وولده وغيره ) وللكافرين أمثالها ( الضمير للعاقبة أو العقوبة .
والأوّل مذكور ، والثاني مفهوم بدلالة التدمير بدلالة التدمير فإن كان المراد الدعاء عليهم فاللام للعهد وهم كفار قريش ومن ينخرط في سلكهم ، وإن كان المراد الإخبار جاز أن يراد هؤلاء. والقتل والأسر نوع من التدمير وجاز أن يراد الكفار الأقدمون ) ذلك ( النصر والتعس ) بأن الله مولى الذين آمنوا ( أي وليهم وناصرهم ) وأن الكافرين لا مولى لهم ( بمعنى النصرة والعناية ، وأما بمعن الربوبية والمالكية فهو مولى الكل لقوله ) وردّوا إلى الله مولاهم الحق ) [ يونس : 30 ] ثم برهن على الحكم المذكور وهو أن ولايته مختصة بالمؤمنين فقال ) إن الله يدخل ( الآية .
فشبه الكافرين بالأنعام من جهة أن الكافر غرضه من الحياة التنعم والأكل وسائر الملاذ لا التقوى والتوسل بالغذاء إلى الطاعة وعمل الآخرة ، ومن جهة أنه لا يستدل بالنعم على خالقها ، ومن جهة غفلتهم عن مآل حالهم وأن النار مثوى لهم .
ثم زاد في تهديد قريش بقوله ) وكأين من قرية ( أي أهل قرية هم ) أشدّ قوّة من ( أهل ) قريتك التي أخرجتك ( تسببوا لخروجك .
وقوله ( فلا ناصر لهم ( حكاية تلك الحال كقوله ) وكلبهم باسط ) [ الكهف : 18 ] ثم بين الفرق بين أهل الحق وحزب الشيطان بقوله على طريق الإنكار ) وأتبعوا ( محمول على معنى ( من ) وهو تأكيد للتزيين كما أن كون البينة من الرب تأكيد لها .
وحين أثبت الفرق بين الفريقين أراد أن يبين الفرق بين جزائهما فقال ) مثل الجنة ( أي صفتها العجيبة الشأن .
وفي إعرابه وجهان : أحدهما ما مر في الوقوف ، والثاني قول الزمخشري في الكشاف أنه على حذف حرف الاستفهام ، والتقدير :(6/131)
" صفحة رقم 132 "
أمثل الجنة وأصحابها كمثل جزاء من هو خالد في النار ، أو كمثل من هو خالد ؟ وفائدة التعرية عن حروف الاستفهام زيادة تصوير مكابرة من يسوّي بين الفريقين .
وقوله ( فيها أنهار ( كالبدل من الصلة أو حال .
والآسن المتغير اللون أو الريح أو الطعم ومصدره الأسون والنعت آسن مقصوراً ، واللذة صفة أو مصدر وصف به كما مر في ( الصافات ) ، والباقي ظاهر .
قال بعض علماء التأويل : لا شك أن الماء أعم نفعاً للخلائق من اللبن والخمر والعسل فهو بمنزلة العلوم الشرعية لعموم نفعها للمكلفين كلهم ، وأما اللبن فهو ضروري للناس كلهم ولكن في أوّل التربية والنماء فهو بمنزل العلوم الغريزية الفطرية ، وأما الخمر والعسل فليسا من ضرورات التعيش فهما بمنزلة العلوم الحقيقة السببية إلا أن الخمر يمكن أن تخص بالعلوم الذوقية .
والعسل بسائرها وقد يدور في الخلد أن هذه الأنهار الأربعة يمكن أن تحمل على المراتب الإنسانية الأربع .
فالعقل الهيولاني بمنزلة الماء لشموله وقبوله الآثار ، والعقل بالملكة بمنزلة اللبن لكونه ضرورياً في أوّل النشوء والتربية ، والعقل بالفعل بمنزلة الخمر فإن حصوله ليس بضروري لجميع الإنسان إلا أنه إذا حصل وكان الشخص ذاهلاً عنه غير ملتفت إليه كان كالخمر الموجب للغفلة وعدم الحضور ، والعقل المستفاد بمنزلة العسل من جهة لذته ومن جهة شفائه لمرض الجهل ومن قبل ثباته في المذاق للزوجته ودسومته والتصاقه والله تعالى أعلم بمراده .
وقوله ( ومغفرة من ربهم ( إن قدر ولهم مغفرة من الله قبل ذلك فلا إشكال ، وإن قدر لهم فيها مغفرة أمكن أن يقال : إنهم مغفورون قبل دخول الجنة فما معنى الغفران بعد ذلك ؟ والجواب أن المراد رفع التكليف يأكلون من غير حساب ولا تبعة وآفة بخلاف الدنيا فإن حلالها حساب وحرامها عذاب .
ثم ذكر نوعاً آخر من قبيح خصال الكافرين وقيل أراد المنافقين فقال ) ومنهم من يستمع إليك ( كانوا يحضرون مجلس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والجمعات ويسمعون كلامه ولا يعونه كما يعيه المسلم ) حتى إذا خرجوا ( انصرفوا وخرج المسلمون ) من عندك ( يا محمد قال المنافقون للعلماء وهم بعض الصحابة كابن عباس وابن مسعود وأبي الدرداء : أيّ شيء قال محمد ) آنفاً ( أي في ساعتنا هذه .
وأنف كل شيء ما تقدمه ومنه فولهم ( استأنفت الأمر ) ابتدأته .
ولا يستعمل منه فعل ثلاثي بهذا المعنى .
وإنما توجه الذم عليهم لأن سؤالهم سؤال استهزاء وإعلام أنهم لم يلتفتوا إلى قوله ، ولو كان سؤال بحث عما لم يفهموه لم يكن كذلك ، على أن عدم الفعهم دليل قلة الاكتراث بقوله .
ثم مدح أهل الحق بقوله ) والذين اهتدوا ( بالإيمان ) زادهم ( الله ) هدى ( بالتوفيق والتثبيت وشرح الصدر ونور اليقين ) وآتاهم تقواهم ( أعانهم عليها أو أعطاهم جزاء تقواهم .
وعن السدي : بين لهم ما يتقون .
وقيل : الضمير في ) زادهم ( للاستهزاء أو لقول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم خوف أهل الكفر(6/132)
" صفحة رقم 133 "
والنفاق باقتراب القيامة .
وقوله ( أن تأتيهم ( بدل اشتمال من ) الساعة ( وأشراط الساعة إماراتها من انشقاق القمر وغيره .
ومنه مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه نبي آخر الزمان ولهذا قال ( بعثت أناوالساعة كهاتين ) وأشار بالسبابة والوسطى ) فأنى لهم ( من أين لهم ) إذا جاءتهم ( الساعة ) ذكراهم ( أي لا ينفعهم تذكرهم وإيمانهم حينئذ فالذكرى مبتدأ و ) أنى لهم ( الخبر .
وقيل : فاعل ) جاءتهم ( ضمير يعود إلى ( الذكرى ) وجوّز أن يرتفع ( الذكرى ) بالفعل والمبتدأ مقدر أي من أين لهم التذكر إذا جاءتهم الذكرى ؟ والقول هو الأول ولله المرجع والمآب وإليه المصير .
( محمد : ( 19 - 38 ) فاعلم أنه لا . . . .
" فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم(6/133)
" صفحة رقم 134 "
الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم "
( القراآت )
وتقطعوا ( بالتخفيف من القطع : سهل ويعقوب .
والآخرون : بالتشديد من التقطيع ) وأملى لهم ( مبنياً للمفعول ماضياً : أبو عمرو ويعقوب ) وأملى ( مضارعاً مبنياً للفالع : سهل ورويس .
الباقون : ماضياً مبنياً للفاعل ) إسرارهم ( بكسر الهمز على المصدر : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد ) وليبلونكم حتى يعلم ( ) ويبلوا ( بالياءات : أبو بكر وحماد .
الآخرون : بالنون في الكل .
وقرأ يعقوب ) ونبلو ( بالنون مرفوعاً ) السلم ( بكسر السين : حمزة وخلف وأبو بكر وحماد .
الوقوف : ( والمؤمنات ( ط ) ومثواكم ( ه ) نزلت سورة ( ج للشرط مع الفاء ) القتال ( لا ) الموت ( ط للابتداء بالدعاء عليهم ) لهم ( ه ج لاحتمال أن يكون الأولى بمعنى الأقرب كما يجيء ) معروف ( قف ) الأمر ( ز لاحتمال أن التقدير فإذا عزم الأمر كذبوا وخالفوا ) خيراً لهم ( ه ج لابتداء الاستفهام مع الفاء ) أرحامكم ( ه ) أبصارهم ( ه ) أقفالها ( ه ) الهدى ( لا لأن الجملة بعده خبر ( إن ) ) سوّل لهم ( ط لأن فاعل ) وأملى ( ضمير اسم الله ويجوز الوصل على جعله حالاً وقد أملى ، أو على أن فاعله ضمير الشيطان من حيث أنه يمنيهم ويعدهم ، والوقف أجوز واعزم .
والحال على قراءة ) وأملى ( بفتح الياء أجوز والوقف به جائز ، ومن سكن الياء فالوقف به أليق لأن المستقبل لا ينعطف على الماضي .
ومع ذلك لو جعل حالاً على تقدير وأنا أملي جاز ) لهم ( ه ) الأمر ( ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً والوقف أجوز لأن الله يعلم الأسرار في الأحوال كلها ) إسرارهم ( ه ) وأدبارهم ( ه ) أعمالهم ( ه ) أضغانهم ( ه ) بسيماهم ( ط للابتداء بما هو جواب القسم ) القول ( ط ) أعمالكم ( ه ) ، الصابرين ( ط لمن قرأ ) ونبلو ( بسكون الواو أي ونحن نبلو ) أخباركم ( ه ) الهدى ( لا لأن ما بعده خبر ( إن ) ) شيئاً ( ط ) أعمالهم ( ه ) أعمالكم ( ه ) لهم ( ه ) إلى السلم ( قف قد قيل : على أن قوله ) وأنتم ) مبتدأ ، وجعله حالاً أولى ) ألأعلون ( قف كذلك ) أعمالكم ( ه قف ) ولهو ( ط ) اموالكم ( ه ) أضغانكم ( ه ) سبيل الله ( ج لانقطاع النظم مع الفاء ) من يبخل ( ج لابتداء الشرط مع العطف ) عن نفسه ( ط ) الفقراء ( ه للشرط مع العطف ) غيركم ( لا للعطف ) أمثالكم ( ه .
التفسير : لما ذكر حال الفريقين المؤمن والكافر من السعادة والشقاوة قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد ومن هضم النفس باستغفار ذنبك أو ذنبو أمتك .
أو(6/134)
" صفحة رقم 135 "
المراد فاعلم خبراً يقيناً على ما علمته نظراً واستدلالاً .
أو أراد فاذكر لا إله إلا الله .
والهاء في ) أنه ( لله أو للأمر والشأن ، أو الأول إشارة إلى أصول الحكمة النظرية ، والثاني إلى أصول الحكمة العملية ، أمره بالحكمة العملية بعد الحكمة النظرية .
عن سفيان بن عيين أنه سئل عن فضل العلم فتلا هذه الآية .
وذلك أنه أمر بالعمل بعد العلم .
والفاءات في هذه الآية وما تقدّمها لعطف جملة على جملة بينهما اتصال .
وفي الآية نكتة وهي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) له أحوال ثلاث : حال مع الله وهي توحيده ، وحال مع نفسه وهي طلب العصمة من الذنوب وأن يستر الله عليه جنس الآثام حتى لا يقع فيها ، وحال مع غيره وهي طلب ستر الذنوب عليهم بعد وقوعهم فيها أو أعم ويندرج فيها الشفاعة .
ثم قال ) والله يعلم متقلبكم ومثواكم ( فقيل : التقلب في الأسفار والمثوى في الحضر .
وقيل : أراد منتشركم في النهار ومستقركم بالليل .
وقيل : الأوّل في الدنيا والثاني في الآخرة .
وقيل : لكل متقلب مثوى فيتقلب من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ثم إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم إلى الجنة أو النار .
والمقصود بيان كمال علمه بحال الخلائق فعليهم أن لا يهملوا دقائق الطاعة والخشية ويواظبوا على طلب المغفرة خوفاً من التقصير في العبودية .
ثم ذكر طرفاً آخر من نصائح أهل النفاق ومن ينخرط في سلكهم من ضعفة الإسلام ، وذلك أنهم كانوا يدّعون الحرص على الجهاد ويقولون بألسنتهم ) لولا نزلت ( سورة في باب القتال ) فإذا أنزلت سورة محكمة ( مبينة غير متشابهة لا تحتمل النسخ ) وذكر فيها القتال ( عن قتادة : كل سورة ذكر فيها القتال فهي محكمة وهي أشدّها على المنافقين .
قال أهل البرهان : نزل بالتشديد أبلغ من أنزل فخص بهم ليكون أدل على حرصهم فيكون أبلغ في أبلغ في باب التوبيخ .
قوله ) فأولى لهم ( كلمة تحذير أي وليك شر فاحذره .
هذه عبارة كثير من المفسرين .
وقال المبرد : يقال للإنسان إذا كاتن يعطب ثم يفلت : أولى لك .
أي قاربت العطب ثم نجوت .
وهو في الفرقان على معنى التحذير وقال جار الله : هو وعيد معناه فويل لهم والمراد الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه .
وقيل : أراد طاعة وقول معروف أولى من الجزع عند الجهاد فلا يكون للوعيد ، وعلى هذا فلا وقف على ) لهم ( كما أشير إليه في الوقف .
واعترض عليه بأن الأفصح أن يستعمل وقتئذ بالباء لا مع اللام كما قال ) وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ) [ الأنفال : 75 ] والأصح أنه فعل متعدٍ من الولي وهو القرب أي أولاه الله المكروه فاقتصر لكثرة الاستعمال .
ويحتمل أن يكون ( فعلى ) من آل يؤل أي يؤل أمرك إلى شر فاحذره .
ثم حثهم على الامتثال بقوله ) طاعة وقول معروف ( أي طاعة الله وقول حسن أو ما عرف صحته خير من الجزع عند فرض الجهاد فهو مبتدأ محذوف الخبر ، أو أمرنا طاعة فيكون خبر مبتدأ محذوف كما مر في سورة النور في قوله ) طاعة معروفة ((6/135)
" صفحة رقم 136 "
[ الآية : 53 ] ويجوز أن يكون أمراً للمنافقين أي قولوا طاعة وقول معروف .
) فإذا عزم الأمر ( أي جدّ وصار معزوماً عليه وهو إسناد مجازي لأن العزم لأصحاب أمر القتال .
ثم التفت وخاطب كفار قريش بقوله ) فهل عسيتم ( هو من أفعال المقاربة وقد مر وجوه استعمالاته في ( البقرة ) في قوله ) عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ) [ الآية : 216 ] فنقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب ليكون أبلغ في التوبيخ ومعناه هل يتوقع منكم ) إن توليتم ( وأعرضتم عن الدين أو توليتم أمور الناس ) أن تفسدوا في الأرض ( بالمعاصي والافتراق بعد الاجتماع على الإسلام ) وتقطعوا أرحامكم ( بالقتل والعقوق ووأد البنات وسائر ما كنتم عليه في الجاهلية من أنواع الإفساد ، وفي سلوك طريقة الاستخبار المسمى في غير القرآن بتجاهل العارف ، إمالة لهم إلى طريق الإنصاف وحث لهم على التدبر وترك العصبية والجدال ، فقد كانوا يقولون كيف يأمرنا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالقتال والقتال إفناء لذوي أرحامنا وأقاربنا ، فعرض الله سبحانه بأنهم إن ولوا أمور الناس أو أعرضوا عن هذا الدين لم يصدر عنهم إلا القتل والنهب وسائر أبواب المفاسد كعادة أهل الجاهلية .
ثم صرح بما فعل الله بهم واستقر عليه حالهم فقال ) أولئك الذين لعنهم الله ( بعدهم عن رحمته .
ثم بين نتيجة اللعن قائلاً ) فأصمهم ( أي عن قبول الحق بعد استماعه وهذا في الدنيا ) وأعمى أبصارهم ( أي في الآخرة أو عن رؤية الحق والنظر إلى المصنوعات .
قال بعض العلماء : إنما لم يقل فأصم آذانهم لأن الأذن عبارة عن الشحمة المعلقة ، والسمع لا يتفاوت بوجود وعدمها ، ولذلك يسمع مقطوع الأذن .
وأما الرؤية فتتعلق بالبصر نفسه ، فالتأكيد هناك إنام يحصل بترك ذكر الأذن وههنا بذكر الأبصار والله أعلم .
ثقال جار الله : يجوز أن يريد بالذين آمنوا المؤمنين الخلص الثابتين وذلك أنهم كانوا يأنسون بالوحي .
فإذا أبطأ عليهم التمسوه ، فإذا نزلت سورة في معنى الجهاد رأيت المنافقين يضجرون منها .
سؤال : لما اثبت لهم الصمم والعمى فكيف وبخهم بقوله ) أفلا يتدبرون القرآن ( ؟ وأجيب على مذهب أهل السنة بأن تكليف ما لا يطاق جائز. ويمكن أن يقال : لما أخبر عنهم بما أخبر حكى أنهم بين أمرين : إما أن لا يتدبروا القرآن لأن الله أبعدهم عن الخير ، وإما أن يدبروا لكن لا يدخل معاينة في قلوبهم لكونها مقفلة .
قال جار الله : إنام نكرت القلوب لأنه أريد البعض وهو قلوب المنافقين أو أريد على قلوب قاسية مبهم أمرها .
وإنما أضيفت الأقفال إلأى ضمير القلوب لأنه أريد الأقفال المختصة بها وهي أقفال الكفر والعناد التي استغلقت فلا تنفخ .
ثم أخبر عن حال المنافقين أو اليهود الذين غيروا حالهم من بعد ما تبين لهم حقيقة الإسلام أو نعت محمد في التوراة فقال ) إن الذين ارتدوا ( الآية .(6/136)
" صفحة رقم 137 "
) ذلك ( الإملاء أو الإضلال أو الارتداد بسبب أنهم قالوا للذين كرهوا أي قال اليهود للمنافقين ، أو قال المنافقون ليهود قريضة والنضير ، أو قاله اليهود أو المنافقون للمشركين ) سنطيعكم في بعض الأمر ( الذي يهمكم كالتظافر على عداوة محمد والقعود عن الجهاد معه أو في بعض أم تأمرون به ، وهو ما يتعلق بتكذيب محمد لا في إظهار الشرك واتخاذ الأصنام وإنكار المعاد ) والله يعلم أسرارهم ( فلذلك أفشى الذي قالواه سراً فيما بينهم وسيجازيهم على حسب ذلك يدل عليه قوله ) فكيف ( يعملون وما حيلتهم حين توفتهم ملائكة الموت ) يضربون وجوههم وأدبارهم ( التي كانوا يتقون أن يصيبها آفة في القتال ، أو يضربون وجوههم عند الموت وأدبارهم عند السوق إلى النار .
وقيل : يضربون وجوههم عند الطلب وأدبارهم حين الهرب ) ذلك ( الإذلال والإهانة ) بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه ( كأنهم ضربوا وجوههم لأنهم أقبلوا على مواجب السخط ، وضربوا أدبارهم لأنهم أعرضوا عما فيه رضا الله .
وقد يخص السخط بكتمان نعت الرسول ومعاونة أهل الشرك والرضا بالإيمان به والنصرة للمؤمنين .
وإنما قال ) ما أسخط الله ( ولم يقل ( ما أرضى الله ) لأن رحمته سبقت غضبه ، فالرضا كالأمر الحاصل والإسخاط كالأمر المترتب على شيء .
ثم زاد في تعيير المنافقين بقوله ) أم حسب ( وهي منقطعة .
والضغن إضمار سوء يتربص به إمكان الفرصة .
وإخراج الإضغان إبرازها للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وللمؤمنين كما قال ) ولو نشاء لأريناكهم ( أي لو شئنا أرينا أماراتهم ) فلعرفتهم ( كررت لام جواب ( لو ) في المعطوف لأجل المبالغة ) بسيماهم ( بعلامتهم .
عن أنس أنه ما خفي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد هذه الآية شيء من المنافقين ، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة منهم يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة واصحبوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب ( هذا منافق ) ومعنى لحن القول نحوه وأسلوبه وفحواه أي يقولون ما معناه النفاق كقولهم ) لئن رجعنا إلى المدينة ) [ المدينة : 8 ] ( إن بيوتنا عورة ) [ الأحزاب : 13 ] أو لتعرفنهم في فحوى كلام الله حيث قال ما يعلم منه حال المنافقين كقوله ) ومن الناس من يقول ) [ البقرة : 8 ] ( ومنهم من عاهد الله ) [ التوبة : 75 ] وحقيقة اللحن ذهاب الكلام إلى خلاف جهته وقيل : اللحن أن تميل كلامك إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية قال :
ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا
واللحن يعرفه ذوو الألباب
ويقال للمخطىء لاحن لأنه يعدل بالكلام عن الصواب .
وقال الكلبي : لحن القول كذبه .
ولم يتكلم بعد نزولها نمافق عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا عرفه .
وعن ابن عباس هو قولهم(6/137)
" صفحة رقم 138 "
ما لنا إن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا إن عصينا من العقاب ) والله يعلم أعمالكم ( فيميز خيرها من شرها وإخلاصها من نفاقها ) ولنبلونكم ( أي لنأمرنكم بما لا يكون متعيناً للوقوع بل يحتمل الوقوع واللاوقوع كما يفعل المختبر حتى يظهر المجاهد الصابر من المنافق والمضطرب .
) ونبلو أخباركم ( التي تحكي عنكم كقولكم ) آمنا بالله وباليوم الآخر ) [ البقرة : 8 ] أو عهودكم كقوله ) ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار ) [ الأحزاب : 15 ] أو أسراركم أو ما ستفعلونه أو أخباركم الأراجيف كقوله ) والمرجفون في المدينة ) [ الأحزاب : 60 ] عن الفضل أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا .
ثم أنزل في اليهود من قريضظة والنضير أو في رؤساء قريش المطعمين يوم بدر ) إن الذين كفروا ( الآية .
وأعمالهم طاعاتهم في زمن اليهودية ، ومكايدهم التي نصبوها في عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو إطعامهم .
ثم أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله بالتوحيد والتصديق مع الإخلاص وأن لا يبطلوا إحسانهم بالمعاصي والرياء وبالمن والأذى .
عن أبي العالية قال : كان أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يرون إنه لا يضر مع ( لا إله إلا الله ) ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت الآية ، فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم .
وعن قتادة : رضي الله عن عبد لم يحبط عمله الصالح بعمله السيء .
ثم أراد أن يبين أن أعمال المكلف إذا بطلت فإن فضل الله بأقٍ يغفر له إن شاء ما لم يمت على الكفر فقال ) إن الذين كفروا ( الآية .
قال مقاتل : نزلت في رجل سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن والده وقال : إنه كان محسناً في كفره .
وعن الكلبي : نزلت في رؤساء أهل بدر .
) فلا تهنوا ( لا تضعفوا ولا تجبنوا ) وتدعوا إلى السلم ( أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح .
ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار ( أن ) بعد الواو في جواب النهي ) وأنتم الأعلون ( الغالبون المستولون عليهم ) والله معكم ( بالنصرة والكلاءة رولن يتركم أعمالكم ( أي لن ينقصكم جزءاً أعمالكم من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلاً من ولد أو أخ أو قريب أو سلبت ماله وأصله من الوتر وهو الفرد ، كأنك أفردته من قريبه أو ماله .
وفي الحديث ( من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ) وهو من فصيح الكلام .
ثم زادهم حثاً على الجهاد بتحقير الدنيا في أعينهم وبأنه سبحانه إنما يحثهم على الإيمان والجهاد وسائر أبواب التقوى لتعود(6/138)
" صفحة رقم 139 "
فائدتها عليهم كما قال ( خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم ) قوله ) ولا يسألكم أموالكم ( أي كل أموالكم ولكنه يقتصر منها على ربعالعشر ، أو لا يسألكم أموالكم لنفسه ولكن لتكون زاداً لكم في المعاد .
وقيل : لا يسألكم أموالكم رسولي لنفسه .
وقيل : إنهم لا يملكون شيئاً وإن المال مال الله وهو المنعم بإعطائه .
والقول هو الأوّل لقوله ) إن يسألكموها فيحفكم ( أي يجهد كم يبلغ الغاية فيها من أحفى شاربه استأصله كأنه جعله حافياً مما في ملكه أي عارياً ) تبخلوا ويخرج ( الإحفاء أو الله تعالى على طريق التسبب ) أضغانكم ( أي تضطغنون على الرسل وتظهرون كراهة هذا الدين .
ثم بين أنه كيف يأمركم بإخراج كل المال وقد دعاكم إلى إنفاق البعض ) فمنكم من يبخل ( و ( ها ) للتنبيه وكرر مع أولاء للتوكيد وأنتم أولاء جملة مستقلة أي أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون ثم استأنف وصفهم كأنهم قالوا وما وصفنا فقيل ) تدعون لتنفقوا في سبيل الله ( وهو الزكاة أو الغزو ، فمنكم ناس يبخلون به .
وقيل : ( هؤلاء ( موصول صلته ) تدعون ( وهو مذهب الكوفيين وقد سلف في ( البقرة ) و ( آل عمران ) .
ثم قبح أمر البخل بقوله ) ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ( أي وباله على نفسه أو عن داعي ربه .
قال في الكشاف : يقال بخلت عليه وعنه .
وفيه نظر لأن البخل عن النفس لا يصح بهذا التفسير .
نعم لو قال عن ماله كان تفسيره مطابقاً .
ثم مدح نفسه بالغنى المطلبق وبين بقوله ) وأنتم تتولوا ( أنه لا يأمر بالإنفاق لحاجته ولكن لفقركم إلى الثواب .
ثم هددهم بقوله ) وإن تتولوا ( وهو معطوف على ) وإن تؤمنوا ( ومعنى ) يستبدل قوماً غيركم ( يخلق قوماً سواكم راغبين فيما ترغبون عنه من الإيمان والتقوى كقوله ) إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ) [ فاطر : 61 ] ومعنى ( ثم ) التراخي في الرتبة أي لا يكونون أشباهكم في حال توليكم .
وقيل : في جميع الأحوال .
وعن الكلبي : شرط في الاسبتدال توليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل قوماً وهم العرب أهل اليمن أو العجم .
قاله الحسن وعكرمة لما روي أو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن ذلك وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال : هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس والله تعالى أعلم .(6/139)
" صفحة رقم 140 "
سورة الفتح
( سورة الفتح مدنية حروفها ألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون كلماتها خمسمائة وستون آياتها تسع وعشرون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الفتح : ( 1 - 29 ) إنا فتحنا لك . . . .
" إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى(6/140)
" صفحة رقم 141 "
قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما "
( القراآت )
ليؤمنوا ( ) ويعزروه ويوقروه ويسبحوه ( بياءات الغيبة : ابن كثير وأبو عمرو .
و ) عليه الله ( بضم الهاء .
حفص ) فسنؤتيه ( بالنون : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر .
الآخرون : [ الياء التحتانية والضمير لله سبحانه ) شغلتنا ( بالتشديد : قتيبة(6/141)
" صفحة رقم 142 "
) ضراً ( بالضم ) كلم الله ( على الجمع : حمزة وعلي وخلف ) بل ظننتم ( بالإدغام : علي وهشام ) بل تحسدوننا ( مدغماً : حمزة وعلي وهشام .
) ندخله ( ) ونعذبه ( بالنون فيهما : أبو جعفر ونافع وإبن عامر ) بما يعملون بصيراً ( بياء الغيبة : أبو عمرو ) الرؤيا ( بالإمالة : ابن عامر وعلي وهشام ) شطأه ( بفتح الطاء من غير مد : ابن ذكوان والبزي والقواس .
الباقون : ساكنة الطاء .
الوقوف : ( مبيناً ( ه لا ) مستقيماً ( ه لا على احتمال الجواز ههنا لتكرار إسم الله بالتصريح ) عزيزاً ( ه ) إيمانهم ( ط ) والأرض ( ط ) حكيماً ( ه لا لتعلق اللام ) سيئاتهم ( ط ) عظيماً ( ه لا للعطف ) ظن السوء ( ط ) دائرة السوء ( ج لعطف الجملتين المختلفين ) جهنم ( ط ) مصيراً ( ه ) والأرض ( ط ) حكيماً ( ه ) ونذيراً ( ه لا ) وتوقروه ( ط للفصل بين ضمير اسم الله وضمير الرسول في المعطوفين فيمن لم يجعل الضمائر كلها لله ) وأصيلاً ( ه ) يبايعون الله ( ط ) أيديهم ( ج ط للشرط مع الفاء ) على نفسه ( ج للعطف مع الشرط ) عظيماً ( ه ) فاستغفر لنا ( ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال ) قلوبهم ( ط ) نفعاً ( ط ) خبيراً ( ه ) بوراً ( ه ) سعيراً ( ه ) الأرض ( ط ) من يشاء ( ط ) رحيماً ( ه ) نتبعكم ( ج لأن ما بعده حال عامله ) سيقول ( أو مستأنف ) كلام الله ( ط ) من قبل ( ج للسين مع الفاء ) تحسدوننا ( ط ) قليلاً ( ه ) يسلمون ( ه ) حسناً ( ج ) أليماً ( ه ) المريض حرج ( ط لأن الواو للاستئناف ) الأنهار ( ج ) اليماً ( ه ) قريباً ( ه لا ) يأخذونها ( ط ) حكيماً ( ه ) عنكم ( ج لأن الواو مقحمة أو المعلل محذوف والواو داخلة في الكلام المعترض ، أو عطافة على تقدير ليستيقنوا ولتكون ) مستقيماً ( ه لا للعطف ) بها ( ج ) قديراً ( ه ) نصيراً ( ه ) تبديلاً ( ه ) عليهم ( ط ) بصيراً ( ه ) محله ( ط ) بغير علم ( ج لحق المحذوف أي قدر ذلك ليدخل ) من يشاء ( ج لاحتمال أن جواب ( لولا ) محذوف وأن يكون هذه مع جوابها جواباً للأولى ) أليماً ( ه ) وأهلها ( ط ) عليماً ( ه ) بالحق ( ج لحق حذف القسم ) آمنين ( لا ) مقصرين ( لا لأنها أحوال متابعة ) لا تخافون ( ط لأن قوله ) فعلم ( بيان حكم الصدق كالأعذار فلا ينعطف على قوله ) صدق الله ( ) قريباً ( ه ) كله ( ط ) شهيداً ( ه ) رسول الله ( ج لأن ما بعده مستأنف ) ورضواناً ( ز لأن ) سيماهم ( مبتدأ غير أن الجمة من حد الأولى في كون الكل خبر والذين ) السجود ( ط ) الإنجيل ( ج لاحتمال أن التقدير هم كزرع ) الكفار ( ط ) عظيماً ( ه .
التفسير : الفتح في باب الجهاد هو الظفر بالبلد بصلح أو حرب لأنه منغلق ما لم يظفر به .
والجمهور على أن المراد به ما جرى يوم الحديبية .
عن أنس قال : لما رجعنا عن(6/142)
" صفحة رقم 143 "
الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنح بين الحزن والكآبة ، انزل الله ) إنا فتحنا ( فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لقد أنزل عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا كلها. ) والحديبية بئر سمي المكان بها وكان قد غاض ماؤها فتمضمض فيها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجاء بالماء حتى عمهم .
وعن ابن شهاب : لم يكن في الإسلام فتح أعظم من فتح الحديبية وضعت الحرب وأمن الناس .
وقال الشعبي : أصاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في تلك الغزوة ما لم يصب في غيرها ، بويع فيها بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وظهرت الروم على فارس ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعد به فصح صدقه وأطعم نخل خيبر .
وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد هجرته إلى المدينة أحب أن يزور بيت الله الحرام بمكة فخرج قاصداً نحوه في سنة ست من الهجرة ، وخرج معه أولو البصيرة وتخلف من كان في قلبه مرض ظناً منه أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً .
واستصحب سبعين بدنة لينحرها بمكة ، ولما كان بذي لاحليفة قلد الهدي وأحرم بالعمرة لتعلم قريش أنه لم يأت لقتال وكانوا ألفاً وثلثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة فبايعوه إلا جد بن قيس فإنه اختبأ تحت إبطي ناقته ، فجاءه عروة بن مسعود لإيقاع صلح .
فلما رأية أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله على أني أرى وجوهاً وأسراباً خليقاً أن يفروا ويدعوك ؟ فشتمه أبو بكر فلما عاد إلى قريش قال : لقد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم من الملوك وما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً .
والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم ، وما يحدّون النظر إليه تفخيماً ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها منه .
فلما اتفقوا على الصلح جاء سهيل بن عمرو والمخزومي وتصالحوا على أن لا يدخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مكة سنته بل يعود في القابل ويقيم ثلاثة أيام ثم ينصرف ، فلما كتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .
قال سهيل : ما نعرف ( الرحمن الرحيم ) اكتب في قضيتنا ما نعرف ( باسمك اللهم ) .
ولما كتب ( هذا ما صالح محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
قال : لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك ، اكتب محمد بن عبد الله .
فتنازع المسلمون وقريش في ذلك وكادوا يتواثبون ، فمنعهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأمرهم بالإجابة فكتب ( هذا ما صالح محمد بن عبد الله قريشاً على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجاً أو معتمراً أو يبتغي من فضل الله فهو على دمه وأهله آمن ، وعلى أنه من جاء محمداً من قريش فهو إليهم ردّ ، ومن جاءهم من(6/143)
" صفحة رقم 144 "
أصحاب محمد فهو لهم ) فاشتدّ ذلك على المسلمين فقال النبي صلى الله عيله وسلم : من جاءهم منا فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم ، فإن علم الله منه الإسلام جعل له مخرجاً .
فلما فرغوا من الهدنة نحر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحلق وفعل أصحابه ذلك فنزل عليه في طريقه في هذا الشأن ) إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ( يريد ما كان من أمر الحديبية والفتح قد يكون بالصلح .
وقيل : كان ذلك بلفظ الماضي على عادة إخبار الله .
وقال ابن عيسى : الفتح الفرج المزيل للهم ومنه فتح المسألة إذا انفرجت عن بيان يؤدّي إلى الثقة .
وقيل وهو قول قتادة : الفتح القضاء والحكم ، والفتاح القاضي ، والفتاحة الحكومة أي حكما لك بهذه المهادنة وأرشدناك إلى الإسلام ليغفر لك الله .
قال أهل النظم : لأوّل هذه السورة مناسبة تامة مع آخر السورة المتقدّمة وذلك أنه قال ) ما أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا ) [ محمد : 38 ] إلى آخره فبين بعد ذلك أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاعت عنهم هذه الفوائد .
وأيضاً لما قال ) وأنتم الأعلون ) [ محمد : 35 ] بين برهانه بصلح الحديبية أو بفتح مكة وكان في قوله ) وتدعوا إلى السلم ) [ محمد : 35 ] إشارة إلى ما جرى يوم الحديبية من أن المسلمين صبروا إلى أن طلب المشركون الصلح .
سؤال : ما المناسبة بين الفتح والمغفرة حتى جعلت غاية له ؟ الجواب الغاية هي مجموع المغفرة وما ينعطف عليها كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة وغيره من الفتوح ليجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل .
ويجوز أن تكون لافتوح من حيث إنها جهاد للعدّو سبباً للغفران والثواب .
قال جار الله : وقيل : تقدير الكلام إنا فتحنا لك فاستغفره ليغفر لك كقوله ) إذا جاء نصر الله والفتح ( إلى قوله ) واستغفروه ) [ النصر : 1 - 3 ] وقيل : إن فتح مكة كان سبباً لتطهير البيت من رجس الأوثان ، وتطهير بيته سبب لتطهير عبده .
وأيضاً بالفتح يحصل الحج وبالحج تحصل المغفرة كما ورد في الأخبار ( خرج كيوم ولدته أمه ) .
وأيضاً إن الناس قد علموا عام الفيل أن مكة لا يتسلط عليها عدواً لله ، فلما فتحت للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عرف أنه حبيب الله المغفور له .
أما الذنب فقيل : أراد به ذنب المؤمنين من أمته ، أو أريد به ترك الأفضل والصغائر سهواً أو عمداً. ومعنى ) ما تأخر ( أي عن الفتح أو ما تقدم عن النبوّة وتأخر عنها .
وقيل ) ما تقدم ( ذنب أبويه آدم وحواء ) وما تأخر ( ذنب(6/144)
" صفحة رقم 145 "
أمته .
وقيل : أراد جميع الذنوب فحدّ أوّلها وآخرها ، أو هو على وجه المبالغة كما تقول : أعطى من رأى ومن لم يره .
وقيل : ما تقدم من أمر مارية وما تأخر من أمر زينب وهو قول سخيف لعدم التئام الكلام ظاهراً .
والأولى أن يقال : ما تقدم النبوّة بالعفو وما تأخر عنها بالعصمة ) ويتم نعمته عليك ( بإعلاء دينك وفتح البلاد على يدك لقوله ) اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) [ المائدة : 3 ] ومن إتمام النعمة تكليف الحج وقد تم يومئذ ولم يبق للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) عدوّ من قريش ، فإن كثيراً منهم وقد أهلكوا يوم بدر ، والباقين آمنوا واستأمنوا يوم الفتح .
وقيل : إمام النعمة في الدنيا باستجابة الدعاء في طلب الفتح وفي الآخرة بقبول الشفاعة ) ويهديك صراطاً مستقيماً ( أي يثبتك ويهديك عليه فإن الفتح لا يكون إلا لمن هو على صراط الله ، ولعل المراد بهذا الخطاب هو أمته .
والنصر العزيز ذو العزة وهو الذي لا ذل بعده ، أو هو بمعنى المعز أو الممتنع على الغير وهو النفيس الذي لا يناله كل أحد .
وفي الآية تفخيم شأن الفتح والنصر من وجوه : أحدها لفظ ( إنا ) الدال على التعظيم .
وثانيها لفظ ( لك ) الدال على الاختصاص .
ثالثها إعادة اسم الله في الموضعين أوّلاً وآخراً .
ثم بين سبب النصر بقوله ) هو الذي أنزل السكينة ( وهي السكون والوقار والطمأنينة والثقة بوعد الله كما مر في ( البقرة ) وفي ( التوبة ) ) ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ( أي يقيناً مع يقينهم أو إيماناً بالشرائع مع إيمانهم بالله .
وعن ابن عباس أو أول ما أتاهم به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التوحيد ، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة ثم الزكاة ثم الجاد ثم الحج ، أو ازدادوا إيماناًَ استدلالياً معإيمانهم الفطري .
وعلى هذا ففائدة قوله ) مع إيمانهم ( أن الفطرة تشهد بالإيمان ، فلما عرفوا صحة الإيمان بالنظر والاستدلال انضم هذا الثاني إلى الأول .
وجنود السموات والأرض ملائكتهما ، ويمكن أن يراد بمن في الأرض الثقلان والحيوان غير الإنسان .
ويحتمل أن يراد بالجنود معنى أعم وهو الأسباب الأرضية والسماوية فيدخل فيهما الصحية والرجفة .
وظن السوء هو ظنهم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهيلهم ، أو أن الله تعالى لا ينصرهم على أعدائهم ، أو أن الله شريكاً ، أو أنه لا يقدر على إحياء الموتى .
ومعنى دائرة السوء أن ضرر ظنهم يعود إليهم ويدور عليهم وقد مر في سورة التوبة .
قال بعض العلماء : ضم المؤمنات ههنا إلى المؤمنين بخلاف قوله ) قد أفلح المؤمنون ) [ المؤمنون : 1 ] ( وبشر المؤمنين ) [ الأحزاب : 47 ] ونحو ذلك .
والسر فيه أن كل موضع يوهم اختصاص الرجال به مع كون النساء مشاركات لهم ذكرهن صريحاً نفياً لهذا التوهم ، وكل موضع لا يوهم ذلك اكتفى فيه بذكر الرجال لأنهم الأصل في أكثر الأحكام والتكاليف .
مثلاً من المعلوم أن البشارة والنذارة عامة للناس(6/145)
" صفحة رقم 146 "
قاطبة فلم يحتج فيهما إلى ذكر النساء بخلاف هذه الآية فإن إدخال الجنة يوهم أنه لأجل الجهاد مع العدوّ والفتح على أيديهم والمرأة لا جهاد عليها ، فكان يظن أنهن لا يدخلن الجنات فنفى الله تعالى هذا الوهم ، وكذا الكلام في تعذيب المنافقات والمشركات .
نكتة الجنود المذكورة أوّلاً هي جنود الرحمة فكانوا سبباً لإدخال المؤمنين الجنة بالإكرام والتعظيم ثم إلباسهم خلع الكرامة لقوله ) ويكفر عنهم سيئآتهم ( ثم تشريفهم بالفوز العظيم من الله كما قال ) وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً ( وأما الكافر فعكس منه الترتيب : أخبر بتعذيبهم أوّلاً على الإطلاق ، ثم فصل بأنه يغضب عليهم أوّلاً ثم يوبقهم في خبر اللعن والبعد عن الرحمة ، ثم يسلط عليهم ملائكة العذاب الذين هم جنوده كما قال ) عليها ملائكة غلاظ شداد ) [ التحريم : 6 ] ولا ريب أن كل ذلك على قانون الحكمة إلا أنه قرن العلم في الأول إلى الحكمة تنبيهاً على أن إنزال السكينة وازدياد إيمان المؤمنين وترتيب الفتح على ذلك كانت كلها ثابتة في علم الله ، جارية على وفق الحكمة .
وقرن العز بالحكمة ثانياً لأن العذاب والغضب وسلب الأموال والغنائم يناسب ذكر العزة والغلبة والقهر زادنا الله إطلاعاً على أسرار قرآنه الكريم وفرقانه العظيم .
ثم مدح رسول صلى الله عيله وسلم وذكر فائدة بعثته ليرتب عليه ذكر البيعة فقال ) إنا أرسلناك شاهداً ( على أمتك ) ومبشراً ونذيراً ( وقد مر في سورة الأحزاب مثله إلا أن قوله ) لتؤمنوا بالله ورسوله ( قائم مقام قوله هناك ) وداعياً إلى الله بإذنه ) [ الآية : 46 ] من قرأ على الغيبة فظاهر ، وأما من قرأ على الخطاب فلتنزيل خطاب النبي منزلة خطاب المؤمنين .
وقوله ( وتعزروه وتوقروه ( كلاهما بمعن التعظيم من العز والوقار ينوب منابه .
قوله هناك ) وسراجاً منيراً ( وذلك أن النور متبع والتبجيل والتعظيم دليل المتبوعية .
وقال جار الله : الضمائر كلها لله عز وجل وتعظيم الله تعظيم دينه روسوله .
وقوله ( وتسبحوه ( من التسبيح أو من السبحة وهي صلاة التطوع .
و ) بكرة وأصيلاً ( للدوام أو المراد صلاة الفجر والعصر وحدها أو مع الظهر قاله ابن عباس : ( إن الذين يبايعونك ( هي بيعة ارضوان تحت الشجرة كام يجيء في السورة .
وقيل : ليلة العقبة وفيه بعد .
وسماها مبايعة تشبيهاً بعقد البيع نظيره ) إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ) [ التوبة : 111 ] ( إنما يبايعون الله ( لأن طاعة الرسول هي طاعة الله في الحقيقة .
ثم أكد هذا المعنى بقوله ) يد الله فوق أيديهم ( قال أهل المعاني : هذا تمثيل وتخييل ولا جارحة هناك .
وقيل : البد النغمة أي نعمة الله عليهم بالهداية فوق إحسانهم إلى الله بإجابة البيعة كما قال ) يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم ) [ الحجرات : 17 ] قال القفال : هو من(6/146)
" صفحة رقم 147 "
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) يريد بالعليا المعطية أي الله يعطيهم ما يكون له به الفضل عليهم .
وقيل : اليد القوة أي نصرته إياهم فوق نصرتهم لرسوله .
وقيل : يد الله بمعنى الحفظ فإن المتوسط بين المتبايعين يضع يده فوق يدهما فلا يترك أن تتفارق أيديهما حتى يتم لابيع ، والمراد أن الله تعالى يحفظهم على بيعتهم .
ثم زجرهم من نقض العهد وحثهم على الوفاء بقوله ) فمن نكث ( إلى آخره .
والنكث والنقض أخوان .
وقوله ( فإنما ينكث على نفسه ( أي لا يعود ضرر نكثه إلا عليه .
قال جابر بن عبد الله : بايعنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا نفر ، فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس ، وكان منافقاً اختبأ تحت إبط ناقته ولم يثر مع القوم .
ثم بين ما يعلم منه إعجاز القرآن لأنه أخبر عن الغيب وقد وقع مطابقاً وله في السورة نظائر فقال ) سيقول لك المخلفون ( هم أسلم ومزينة وجهينة وغفار .
وقيل : سموا مخلفين لأن التوفيق خلفهم ولم يعتدّ بهم .
والظاهر أنهم سموا بذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً استنفر الأعراب وأهل البوادي حذراً من قريش أن يصدّوه عن البيت ، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا : يذهب إلى قوم قصدوه في داره بالمدينة وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة فاعتلوا .
فلما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اعتذروا وقالوا ) شغلتنا أموالنا وأهلونا بألسنتهم ( وقوله شيئاً من الضر كقتل وهزيمة ولا يوصل إليهم نفعاً إلا ما شاء الله .
وإنما قال ههنا بزيادة لفظة ) لكم ( لأنه في قوم بأعيانهم بخلاف ( المائدة ) فإنه عام لقوله ) أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ) [ المائدة : 17 ] ثم ردّ قولهم اللساني فقال ) بل كان الله بما تعملون خبيراً ( ثم ردّ اعتذراهم الواهي بقوله ) بل ظننتم ( الآية .
والبور جمع بائر أي هالك والباقي واضح إلى قوله ) رحيماً ( وفيه بيان كمال قدرته على تعذيب الكافرين مع أن مغفرته ذاتيه ورحمته سابقة .
وقوله ( سيقول المخلفون ( إنما لم يق لهنا لك لأن المخاطبين هم المؤمنون كلهم لا النبي وحده .
وجمهور المفسرين على أن هؤلاء هم المخلفون المذكورون فيما تقدم .
وقوله ( إلى مغانم ( هي مغانم خيبر ، وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعد أهل الحديبية أن غنائم أهل خيبر لهم خصوصاً من غاب منهم زمن حضر بدل تعب السفر في العمرة التي(6/147)
" صفحة رقم 148 "
صدّهم المشركون عناه .
وزاد الزهري فقال : وإن حضرها من غيرهم من الناس .
قالوا : ولم يغب منهم عنها أحد إلا جابر ابن عبد الله ، فقسم له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كسهم من حضر .
وكان انصراف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ذي الحجة فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم ، ثم خرج إلى خيبر وخرج معه من شهد الحديبية ففتحها وغنم أموالاً كثيرة وجعلها لهم خاصة ، وكان قبل ذلك وعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه غنائم خيبر فسمع المنافقون ذلك فقالوا للمؤمنين ) ذرونا نتبعكم ( فمنعهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن أمره أن لا يخرج إلى خيبر إلا أهل الحديبية وذلك قوله ) يريدون أن يبدّلوا كلام الله ( فقال الله لنبيه ) قل لنا تتبعونا ( أي في خيبر .
وقيل : عامّ في غزواته ) كذلكم قال الله منقبل ( أي قبل انصرافهم إلى المدينة ) فسيقولون ( ردّاً على النبي والمؤمنين إن الله لم يأمركم به ) بل تحسدوننا ( أن نشارككم في الغنيمة فرد الله عليهم ردّهم بقوله ) بل كانوا لا يفقهون إلا ( فهمأً ) قليلاً ( وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون أمور الدين ، أو هو فهمهم من قوله ) قل لن تتبعونا ( مجرد النهي فحملوه على الحسد ولم يعلموا أن المراد هو أن هذا الابتاع لا يقع أصلاً لأن الصادق قد أخبر بنفيه .
وذهب جماعة من المفسرين منهم الزجاج إلى أن كلام الله هههنا هو قوله في سورة براءة ) لن تخرجوا معي أبداً ) [ الآية : 83 ] واعترض بأن هذا في قصة تبوك التي كانت بعد الحديبية بسنتين بإجماع من أهل المغازي .
وأجاب بعضهم بأن هذ الآية أعني ) سيقول المخلفون ( نزلت في غزوة تبوك أيضاً .
وعندي أن الاعتراض غير وارد ولا حاجة إلى الجواب المذكور .
ثم إن الله سبحانه أخبر عن مخلفي الحديبية بأنهم سيدعون إلى قوم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في تبوك .
وعندي أن الاعتراض غير وارد ولاحاجة إلى مسيلمة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر الصدّيق لأنه تعالى قال ) تقاتلونهم أو يسلمون ( ومشركو العرب والمرتدون هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، ومن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس تقبل منهم الجزية .
هذا عند أبي حنيف ، وأما الشافعي فعنده لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب ، والمجوس دون مشركي العجم والعرب .
وقد يستدل بهذا على إمامة أبي بكر فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولكن بعد وفاته ولا سيما فيمن يزعم أنه نزل فيهم ) لن تخرجوا معي أبداً ) [ التوبة : 83 ] اللهم إلا أن يقال : المراد لن تخرجوا معي ما دمتم على حالكم من مرض القلوب والاضطراب في الدين ، أو أنهم لا يتبعون الرسول إلا متطوّعين لا نصيب لهم في المغنم قاله مجاهد .
وقوله ( أو يسلمون ( رفع على الاستئناف يعني أو هم يسلمون ويجوز أن يراد إلى أن يسلموا ، فحين حذف ( أن ) رفع الفعل ، وقيل : الإسلام ههنا الانقياد(6/148)
" صفحة رقم 149 "
فيشمل إعطاء الجزية أيضاً .
والأجر الحسن في الدنيا الغنيمة ، وفي الآخرة الجنة .
وقيل : الغنيمة فقط بناء على أن الآية في المنافقين ، وعلى هذا لا يتم الاستدلال على إمامة الخلفاء .
وقوله ( من قبل ( أي في الحدييبية .
قال ابن عباس : إن أهل الزمانة قالوا : يا رسول الله كيف بنا ؟ فأنزل الله تعالى ) ليس على الأعمى حرج ( أي إثم في التخلف لأنه كالطائر الذي قص جناحه لا يمتنع على من قصده .
وقدم الأعمى لأن عذهر مستمر ولو حضر القتال ، والأعرج قد يمكنه الركوب والرمي وغير ذلك .
نعم يتعسر عليه الحرب ماشياً وكذا جودة الكر والفر راكباً .
وقد يقاس الأقطع على الأعرج ، ويمكن أن لا يكون الأقطع معذوراً لأنه نادر الوجود .
والأعذار المانعة من الجهاد أكثر من هذا وقد ضبطها الفقهاء بأن المانع إما عجز حسي أو عجز حكمي ، فمن الأول الصغر والجنون والأنوثة والمرض المانع من الركوب للقتال لا كالصداع ووجع السن ، ومنه العرج البين وإن قدر على الركوب لأن الدابة قد تهلك .
وعند أبي حنيفة لا أثر للعرج في رجل واحدة ، ومنه فقد البصر ولا يلحق به العور والعشي ، ومنه عدم وجدان السلاح وآلات القتال .
ومن الثاني الرق والدين الحالّ بلا إذن رب الدين ومن أحد أبويه في الحياة ليس له الجهاد لا بإذنه إلا إذا كان كافراً .
والباقي واضح إلى قوله ) لقد رضى الله ( وبه سميت بيعة الرضوان ويبايعونك حكاية الحال الماضية والشجرة كانت سمرة .
وقيل : سدرة روي أنها عميت عليهم من قابل فلم يدروا أين ذهبت .
وعن جابر بن عبد الله : لو كنت أبصر أريتكم مكانها ) فعلم ما في قلوبهم ( من خلوص النية ) فأنزل السكينة ( الطمأنينة والأمن عليهم ) وأثابهم ( جازاهم عن الإخلاص في البيعة ) فتحاً قريباً ( هو فتح خيبر غب انصرافه من الحديبية كما ذكرناه .
وقيل : هو فتح مكة ) ومغانم كثيرة يأخذونها ( هي مغانم خيبر وكانت أرضاً ذات عقار وأموال فقسمها عليهم ) وعدكم الله مغانم كثيرة ( هي التي أصابوها مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو بعده إلى يوم ) فعجل لكم هذه ( يعني غنيمة خيبر ) وكف أيدي الناس عنكم ( يعني أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان جاؤوا لنصرتهم فقذف الله الرعب في قلوبهم وقيل : أيدي أهل مكة بالصلح ، وقيل : أيدي اليهود حين خرجتم الغنيمة المعجلة دلالة على ما وعدهم الله من الغنائم ، أو دلالة على صحة النبوة من حيث إنه أخبر بالفتح القريب وقد وقع مطابقاً .
وقيل : الضمير للكف والتأنيث لأجل التأنيث الخبر ، أو بتقدير الكفة ويهديكم ويثبتكم ويزيدكم بصيرة .
قوله ) وأخرى ( أي وعدكم الله مغانم أخرى .
عن ابن عباس : هي فتوح فارس(6/149)
" صفحة رقم 150 "
والروم .
أو يقال : مغانم هوازن في غزوة حنين لم يظنوا أن يقدروا عليها لما فيها من الهزيمة ، ثم الرجوع مرة بعد أخرى قد أحاط الله بها علماً أنها ستصير لكم .
قال جار الله : يجوز في ) أخرى ( النصب بفعل مضمر يفسره ) قد أحاط ( أي وقضى الله أخرى قد أحاط بها .
ويجوز فيها الرفع على الابتداء لكونها موصوفة بالجملة و ) قد أحاط ( خبره .
وجوز الجر بإضمار ( رب ) .
ثم بين أن نصر الله إياهم في صلح الحديبية أو يف فتح خيبر لم يكن اتفاقياً بل كان إلهياً سماوياً فقال ) ولو قاتلكم ( إلى آخره .
والسر فيه أن اله كتب وأوجب غلبة حزبه ونصر رسله كما قال ) سنة الله ( إلى آخره .
عن أنس أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من جبل التنعم متسلحين يريدون غرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ، فأخذهم واستحياهم فأنزل الله تعالى ) وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة ( وهو الحديبية لأنها من أرض الحرم .
وقيل : هو التنعيم .
وقيل : إظفاره دخوله بلادهم بغير إذنهم .
وعن عبد الله بن مغفل المزني قال : كنا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحديبيبة في أصل الشجرة التي ذكرها الله في القرآن ، فبينا نحن كذلكإذ خرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخذ الله تعالى بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم ( صلى الله عليه وسلم ) : هل كنتم في عهد أحد وهل جعل لكم أحد أماناً فقالوا : اللهم لا ، فخلى سبيلهم فأنزل الله الآية .
وإنما قدم كف أيدي الكفار عن المؤمنين لأنهم أهم .
وقيل : كف أيديكم بأن أمركم أن لا تحاربوا ، وكف أيديهم بإلقاء الرعب أو بالصلح وقيل : إن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة رجل فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لخالد بن الوليد : هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل .
فقال خالد : أنا سيف الله وسيف رسوله ارم بي حيث شئت .
فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد فهزمه حتى أدخله جوف مكة .
فأنزلت الآية .
وسمي خالد يومئذ سيف بالحجارة حتى أدخولهم بيوت مكة .
ثم ذم قريشاً بقوله ) هم الذين كفروا وصدّوكم ( يعني يوم الحديبية ) عن المسجد الحرام ( أن تطوفوا به للعمرة ) و ( صدّوا ) الهدى ( أو صدّوكم مع الهدى حال كونه ) معكوفاً ( أي محبوساً ممنوعاً موقوفاً عن ) أن يبلغ محله ( المعهود وهو مني وقد مر تفسير الهدي ومحله والبحث عنه في ( البقرة ) ثم بين حكمة المصالحة بقوله ) ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ( وقوله ( لم تلعموهم ( سفة الرجال والنساء جميعاً على جهة التغليب .
و ) أن تطؤهم ( بدل الاشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في ) تعلموهم ( والوطء كالدّوس عبارة عن الإيقاع والإهلاك .
وقوله ( فتصيبكم ( جواب النفي أو عطف على ) أن(6/150)
" صفحة رقم 151 "
تطؤهم ( والمعرة ( مفعلة ) ممن العرالعيب كالجرب ونحوه .
وقوله ( بغير علم ( متقدم في النية متعلق ب ) أن تطؤهم ( والفحوى أنه كان بمكة ناس من المسلمين فقال سبحانه : ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً من المؤمنين فيما بين المشركين وأنتم غير عالمين بحالهم فتصيبكم بإهلاكهم تبعة في الدين لوجوب الدية والكفارة أو عيب بسوء قاله أهل الشرك ، إنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا ، أو أثم غذا جرى دينهم منكم بعض التقصير لما كف أيديكم عنهم ، والكلام يدل على هذا الجواب وفي حذفه فخامة وذهاب للوهم كل مذهب ، ويعلم منه أنه يفعل بهم إذ ذاك ما لا يدخل تحت الوصف .
وجوّزوا أن يكون ) لو تزيلوا ( كالتكرير لقوله ) ولولا رجال ( لرجعهما إلى معنى واحد .
والتنزيل التميز والتفرق ويكون ) لعذبنا ( هو الجواب .
وقوله ( ليدخل ( تعليل لما دلت عليه الآية من كف الأيدي عن قريش صوناً لأهل الإيمان المختلطين بهم كأنه قيل : كان الكف ومنع التعذيب ليدخل الله مؤمنيهم في حيز توفيق الخير والطاعة ، أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من المشركين .
وحكى القفال أن اللام متصل بالمؤمنين والمؤمنات أي آمنوا لكذا .
وقوله ( إذ جعل ( يجوز أن ينتصب بإضمار ( اذكر ) أو يكون ظرفاً ) لعبنا ( أو ل ) صدّوكم ( وفاعل ) جعل ( يجوز أن يكون ) الله ( وقوله ( في قلوبهم ( بيان لمكان الجعل كما مر في قوله ) وأشربوا في قلوبهم العجل ) [ البقرة : 93 ] ويجوز أن يكون ) الذين كفروا ( ومفعولاه الحمية والظرف فيكون جعلهم في قلبهم بإزاء أنزل الله .
والحمية في مقابلة السكينة ، والحمية الأنفة والاستكبار الذي كان عليها أهل الجاهلية ، ومن ذلك عدم إقرارهم بمعنى ( مفعول ) من الحماية اسم أقيم مقام المصدر كالسكينة بمعنى السكون فأنزل الله على رسوله السكينة والوقار حتى أعطاهم ما أرادوا .
وكلمة التقوى التسمية والتوحيد والاعتراف برسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، اختارها الله للمؤمنين .
ومعنى الإضافة إنها سبب التقوى وأساسها ، أو المراد كلمة أهل التقوى الذين يتقون بها غضب الله .
) وكانوا أحق بها وأهلها ( لأنهم خيار الأمم .
وقيل : أراد وكانوا يعني أهل مكة أحق بهذه الكلمة لتقدّم إنذارهم إلا أن بعضهم سلبوا التوفيق .
وحكى المبرد أن الذين كانوا قبلنا لم يكن لأحد أن يقول ( لا إله إلا الله ) في اليوم والليلة إلا مرة واحدة لا يستطيع أن يقول أكثر من ذلك .
وكان قائلها يمدّ بها صوته إلى أن ينقطع نفسه تبركاً بذكر الله ، وقد جعل الله لهذه الأمة أن يقولوها متى شاؤا وهو قوله ) وألزمهم كلمة التقوى ( أي ندبهم إلى ذكرها ما استطاعوا .
ثم قص رؤيا نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بياناً لإعجازه فإن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة .(6/151)
" صفحة رقم 152 "
وقصته أنه رأى في المانم إن ملكاً قال له ) لتدخلن ( إلى قوله ) لا تخافون ( فأخبر أصحابه بها ففرحونا وجزموا بأنهم داخلوها في عامهم ، فلما صدّوا عن البيت واستقر الأمر على الصلح قال بعض الضعفة : أليس كان يعدنا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن نأتي البيت فنطوف به ؟ فقال لهم أهل البصيرة : هل أخبركم أنكم تأتونه العام ؟ فقالوا : لا .
قال : فإنكم تأتونه وتطوفون بالبيت فأنزل الله تصديقه .
ومعنى ) صدق الله رسوله الرؤيا ( صدقه في رؤياه ولم يكذبه .
وقوله ( بالحق ( إما أن يكون متعلقاً ب ) صدق ( أي صدقه فيما رأى صدقاً متلبساً بالحق وهو أن يكون ما أراه كما أراه ، وإما أن يكون حالاً من الرؤيا أي متلبسة بالحق يعني بالغرض الصحيح وهو الإبتلاء ، وتميز المؤمن المخلص من المنافق المرائي .
وجوّز أن يكون ) بالحق ( قسماً لأنه إسم من أسماء الله الحسنى ، أو لأن المراد الحق الذي هو نقيض الباطل فتكون اللام في ) لتدخلنّ ( جواب القسم لا للابتداء فيحسن الوقف على ) الرؤيا ( والبحث علن الحلق والتقصير وسائر أركان الحج والعمرة وشرائطهما استوفيناها في سورة البقرة فليتذكر .
وفي ورود ) إن شاء الله ( في خبر الله عز وجل أقوال أحدها : أنه حكاية قول الملك كما روينا والثاني أن ذلك خارج على عادة القرآن من ذكر المشيئة كقوله ) يغفر لمن يشاء ( ) ويعذب المافقين إن شاء ( والمعنى إن الله يفعل بالعباد ما هو الصلاة حفيكون استثناء تحقيق لا تعليق .
والثالث أنه أراد لتدخلن جميعاً إن شاء ولم يمت أحد أو لم يغب .
والرابع أنه تأديب وإرشاد إلى استعمال الاستثناء في كل موضع لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد دخل البقيع ( وأنا إن شاء الله بكم لاحقون ) وليس في فروع الموت استثناء .
الخامس أنه راجع إلى حالة الأمن وعدم الخوف .
ثم رتب على الصدق وعلى سوء ظن القوم قوله ) فعلم ما لم تعلموا ( من الحكمة في تأخير الفتح إلى العام القابل ) فجعل من دون ذلك ( الفتح ) فتحاً قريباً وهو فتح خير .
ثم أكد صدق الرؤيا بل صدق الرسول في كل شيء بقوله ) هو الذي ارسل ( الآية .
وذلك أنه كذب رسوله كان مضلاً ولم يكن إرساله سبباً لظهور دينه وقوة ملته .
وقد مر نظير الآية في سورة التوبة .
ومن استعلاء هذا الدين أنه لا ترى أهل ملة إلا والمسلم غالب عليه إلا أن يشاء الله .
وقد يقال : إن كمال العز والغلبة عند نزول عيسى عليه السلام فلا يبقى على الأرض كافر ) وكفى بالله شهيداً ( على أن هذا الدين يعلو ولا يعلى .(6/152)
" صفحة رقم 153 "
ثم أكد الشهادة وأرغم أنف قريش الذين لمن يرضوا بهذا التعريف في كتاب العهد فقال ) محمد رسول الله ( فهو مبتدأ وخبر .
وجوز أهل الإعراب أن يكون المبتدأ محذوفاً لتقدم ذكره في قوله ) أرسل رسوله ( أي هو محمد فيكون ) رسول الله ( صفة أو عطف بيان ، وجوزوا أن يكون ) محمد ( مبتدأ و ) رسول الله ( صفته أو بيناناً وقوله ( والذين معه ( وهم الصحابة عطفاً على ) محمد ( وخبر الجميع ) اشداء على الكفار ( جمع شديد كما قال ) وأغلظ عليهم ) [ التحريم : 9 ] ( أعزة على الكافرين ) [ المائدة : 54 ] عن الحسن : بلغ من شتدّدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم فكيف بأبدانهم ، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صحافة وعانقه .
والمصافحة جائزة بالاتفاق ، وأما المعانقة والتقبيل فقد كرههما أبو حنيفة رضي الله عنه وإن كان التقبيل على اليد .
ومن حق المؤمنين أن يراعوا هذه السنة أبداً فيتشدّدوا على مخالفيهم ويرحموا أهل دينهم ) تراهم ( يا محمد أو يا له أهلية الخطاب ) ركعاً سجداً ( راكعين ساجدين ) يبتغون فضلاً من الله ( بالعفو عن تقصيرهم ) ورضواناً ( منه عن أعمالهم الصالحة بأن يتقبلها الله منهم ) سيماهم ( علامتهم ) في وجوههم من أثر السجود ( فيجوز أن تكون العلامة أمراً مسحوساً وأن السجود بمعنى حقيقة وضع الجبهة على ألأرض ، وكان كل من عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام وعليّ بن عبد الله بن عبا أبي الأملاك يقال له ذو الثفنات ، لأ ، كثرة سجودهما أحدثت في مواضع السجود منهما أشباه ثفنات البعير .
والذي جاء في الحديث ( لا تعلبوا صوركم ) أل لا تخدشوها .
وعن ابن عمر أنه رأى رجلاً أثر في وجهه السجود فقال : إن صورة وجهك أنفك فلا تعلب وجهك ولا تشن صورتك محمول على التعمد رياء وسمعة .
وعن سعيد بن المسيب هي ندى الطهور وتراب الأرض .
ويجوز أن يكون أرماً معنوياً من البهاء والنور .
وعن عطاء : استنارت وجوههم من التهجد كما قيل ( من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ) وإن الذي يبيت شارباً يتميزً عند أراب البصيرة من الذي يبيت مصلياً وفيه قال بعضهم :
عيناك قد حكتا مبي
تك كيف كنت وكيف كانا
ولرب عين قد أرت
ك مبيت صاحبها عياناً
قال المحققون : إن من توجه إلى شمس الدنيا لا بد من أن يقع شعاعها على وجهه ، فالذي أقبل على شمس عالم الوجود وهو الله سبحانه كيف لا يستنير ظاهره وباطنه ولا سيما يوم تبلى السرائر ويكشف الغطاء ) ذلك مثلهم ( أي ذلك الوصف وصفهم العجيب الشأن في الكتابين : ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله ) كزرع ( إلى(6/153)
" صفحة رقم 154 "
آخره .
كقوله ) وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع ) [ الحجر : 66 ] وقد يقال : تم الكلام عند قوله ) ذلك مثلهم في التوراة ( ثم ابتدأ ) مثلهم في الإنجيل كزرع ( لما روى أنه مكتوب في الإنجيل : سيرخج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وعرفوا إلى بني إسرائيل بهذا الوصف ليعرفوهم إذا أبصروهم ، والشطء بالتسكين والتحريك فراخ الزرع التي تنبت إلى جانب الأصل ، ومنه شاطىء النهر ) فآزره ( من المؤازره المعاونة .
ويجوز أن يكون أفعل من الأزر القوة أي أعان الزرع الشطء أو بالعكس ) فاستغلظ ( الزرع أو الشطء أي صار من الرقة إلى الغلظ ) فاستوى على سوقه ( فاستقام على قصبته أي تناهي وصار كالأصل بحيث يعجب الزارعين .
والسوق جمع ساق وقد يخص الساق بالشجر فيكون ساق الزرع مجازاً مستعاراً .
ووجه التشبيه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرج وحده ثم أتبعه من ههنا قليل ومن ههنا حتى كثروا وقوي أمرهم .
وقوله ( ليغبظ بهم الكفار ( تعليل لوجه التشبيه أو للتشبيه أي ضرب الله ذلك المثل وقضى وحكم بذلك ليغيظ بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه كفار مكة والعجم .
وقيل : هذاالزرع بغيظ بكثرته الكفار أي سائر الزرّاع الذين ليس لهم مثل زرعهم وفيه بعد ، ولكن الكلام لا يخلو عن فصاحة لفيظة من قبل المناسبة بين الزراع والكفار لاشتراكهما بالجملة في معنى من المعاني وإن لم يكن مقصوداً ههنا .
وذهب بعض المفسرين إلأى أن قوله ) والذين معه ( أبو بكر ) أشداء على الكفار ( عمر ) رحماء بينهم ( عثمان ) نراهم ركعاً سجداً ( علي عليه السلام ) يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ( طلحة والزبير ) سيماهم في وجوههم ( سعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة ابن الجراح .
وعن عكرمة : أخرج شطأة بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعليّ .
وقوله ( منهم ( لبيان الجنس .
ويجوز أن يكون قوله ) ليغيظ ( تعليلاً للوعد لان الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما حصل لهم في الدنيا من الغلبة والاستعلاء غاظهم ذلك والله أعلم .(6/154)
" صفحة رقم 155 "
سورة الحجرات
( سورة الحجرات مدنية حروفها ألف وأربعمائة وستة وسبعون كلماتها ثلثمائة وأربعون آياتها ثمان عشرة ). بسم الله الرحمن الرحيم
( الحجرات : ( 1 - 18 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم إنما(6/155)
" صفحة رقم 156 "
المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون " (
( القراآت )
لا تقدّموا ( بالفتحات من التقدّم : يعقوب ) الحجرات ( بفتح الجيم : يزيد .
) إخوتكم ( على الجمع : يعقوب وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ) ولا تحبسوا ( ) ولا تنابزوا ( و ) لتعارفوا ( بالتشديدات للإدغام : البزي وابن فليح ) ميتاً ( مشدّداً : أبو جعفر ونافع ) يألتكم ( بالهمز : أبو عمرو وسهل ويعقوب وقد لا يهمز في رواية .
الآخرون : بالحذف ) بما يعملون ( على الغيبة : ابن كثير .
الوقوف : ( واتقوا الله ( ط ) عليم ( ه ج ) لا تشعرون ( ه ) للتوقى ( ط ) عظيم ( ه ) لا يعقلون ( ه ) خيراً لهم ( ط ) رحيم ( ه ) نادمين ( ه ) رسول الله ( ط ) والعصيان ( ط ) الراشدون ( ه لأن ) فضلاً ( مفعول له ) ونعمة ( ط ) حكيم ( ه ) بينهما ( ج للشرط مع الفاء ) أمر الله ( ج لذلك ) وأقسطوا ( ط ) المقسطين ( ه ) ترحمون ( ه ) منهن ( ج للعدول عن الغيبة إلى الخطاب ) بالألقاب ( ط ) بعد الإيمان ( ه ج لابتداء الرط مع احتمال ) ومن لم يتب ( عما ذكر من اللمز والنبز ) الظالمون ( ه ) من الظن ( ز للابتداء بأن إلا إنه للتعليل أي لأن ) بعضاً ( ج ) فكرهتموه ( ط ) واتقوا الله ( ط ) رحيم ( ه ) لتعارفوا ( ط ) أتقاكم ( ط ) خبير ( ه ) آمناً ( ط ) قلوبكم ( ط ) شيئاً ( ط ) رحيم ( ه ) في سبيل الله ( ط ) الصادقون ( ه ) في الأرض ( ط ) عليم ( ه ) أسلموا ( ط ) إسلامكم ( ج لأن ) بل ( للإضراب عن الأول ) صادقين ( ه ) والأرض ( ط ) تعلمون ( ه .
التفسير : لما بين محل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلو منصبه بقوله ) هو الذي أرسل رسوله ( إلى آخر السورة افتتح الآن بقوله ) لا تقدموا ( الآية .
ففيه تأكيد لما ذكر هناك من وجوب إتباعه والإذعان له .
والأظهر أن هذا إرشاد عام .
وذكر المفسرون في أسباب النزول وجوهاً منها ماروي عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبر أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه فقال أبو بكر لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أمّر القعقاع بن معبد وقال عمر : بل أمر الأقرع بن جابس .
فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي .
فقال عمر : ما أردت خلافك .
فتماريا حتى(6/156)
" صفحة رقم 157 "
ارتفعت أصواتهما فأنزل الله الآية .
وقال الحسن والزجاج : نزلت في رجل ذبح الأضحية قبل الصلاة وقبل ذبح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأمره بإعادتها وهو مذهب أبي حنيفة إلى أن تزول الشمس .
وعند الشافعي يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة .
وعن عائشة أنها نزلت في صوم يوم الشك .
وروي أنها في القتال أي لا تحمولا على الكفار في الحرب قبل أن يأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقدّم إما متعد وحذف المفعول للعموم حتى يتناول كل فعل وقول ، أو ترك مفعوله كما في قوله ( فلان يعطي ويمنع ) لأن النظر إلى الفعل لا إلى المفعول كأنه قيل : يجب أن لا يصدر منكم تقدم أصلاً في أيّ فعل كان .
وإما لازم نحو بين وتبين بمعنى يؤيده قراءة يعقوب .
قال جار الله : حقيقة قولهم ( جلست بين يدي فلان ) أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله حتى ينظر إليك من غير تقليب حدقة وذكر الله للتعظيم .
وفيه أن التقديم بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كالتقديم بين يدي الله .
قال ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه بل عليهم أن يصغوا ولا يتكلموا .
وقيل : معناه لا تخالفو كتاب الله وسنة رسوله .
وعن الحسن في رواية أخرى : لما استقر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل فنهوا أن يبتدؤه بالمسألة حتى يكون هو المبتدىء ) واتقوا الله ( في التقديم أو أمرهم بالتقوى ليحملهم على ترك التقدمة فغن المتقي حذر عن كل ما فيه تبعة وريب ) إن الله سميع ( لأقوالكم ) عليم ( بنياتكم وأفعالكم .
ثم أعاد النداء عليهم مزيداً للتنبيه ، وفيه نوع تفصيل بعد إجمال وتتخصيص بعد تعميم .
وعن ابن عباس أن ثابت ابن قيس بن شماس كان في أذنه وقر وكان جهوريّ الصوت وكان يتأذى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بصوته إذا كلمه ، فحين نزلت الآية فقد ثابت فتفقده رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاعتذر بأنه رجل جهير الصوت يخاف أن تكون الآية نزلت فيه .
فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة .
وعن الحسن : نزلت في المنافقين كانوا يرفعون بأصواتهم فوق صوت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) استخفافاً واستهانة وليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهى المؤمنون عن ذلك .
وعلى هذا فإما أن يكون الإيمان أعم من أن يكون باللسان أو به وبالقلب ، وإما أن يكون الإيمان حقيقة فيكون تأديباً للمؤمنين الخلص حتى يكون حالهم بخلاف حال أهل النفاق ، ويكون كلامهم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخفض من كلامه لهم رعاية لحشمته وصيانة على مهابته .
قوله ) ولا تجهروا له بالقول كجهر ( أي جهراً مثل جهر ) بعضكم لبعض ( قيل : تكرار للمعنى الأوّل لأجل التأكيد فإن الجهر هو رفع الصوت والجمهور على أن بين النهيين فرقاً .
ثم اختلفوا فقيل : الأول فيما غذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا في أثناء كلامه فنهوا أن يكون جهرهم باهر الجهر .
والثاني فيما إذا سكت(6/157)
" صفحة رقم 158 "
ونطقوا فنهوا عن جهر مقيد بما اعتادوه فيما بينهم وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوّة .
وقيل : النهي الأول أعم مما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا والمراد بالنهي الثاني أن لا ينادي وقت الخطاب باسمه أو كنيته كنداء بعضهم لبعض فلا يقال : يا أحمد يا محمد يا أبا القاسم ولكن يا نبي الله يا رسول الله .
ثم علل كلاَ من النهيين بقوله ) أن تحبط ( أي كراهة حبوط أعمالكم وذلك أن الفع والجهر إذا كان عن استخفاف وإهانة كان كفراً محبطاً للأعمال السابقة .
والمفعول له يتعلق بالفعل الأول في الظاهر عند الكوفيين وبالعكس عند البصريين .
وجوز في الكشاف أن يقدر الفعل في الثاني مضموماً إليه المفعول له كأنهما شيء واحد ثم يصب عليهما الفعل جميعاً صباً واحداً ، والمعنى أنهم نهوا عن الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط لأنه كان بصدد الأداء إليه فجعل كأنه سبب في إيجاده كقوله ) ليكون لهم عدواً وحزناً ) [ القصص : 8 ] وفي قوله ) وأنتم لا تشعرون ( إشارة إلى أن ارتكاب المآثم يجر الأعمال إلى الحبوط من حيث لا يشعر المرء به .
ومثله قول الحكيم : إن كلاً نم الأخلاق الفاضلة والرذيلة تكون أوّلاً حالاً ثم تصير ملكة راسخة وعادة مستمرة .
ومنه قول أفلاطون : لا تصحب الشرير فإن طبعك يسرق وأنت لا تدري .
فالعاقل من يجتهد في الفضائل أن تصير ملكات ، وفي الرذائل أن تزول عنه وهي أحوال .
قال ابن عباس : لما نزلت الآية قال أبو بكر : يا رسول الله والله ولا أكلمك إلا السرار أو كأخي السرار حتى ألقى الله فأنزل الله فيه وفي أمثاله ) إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله ( هو افتعل من المحنة وهو اختبار بليغ يقال : امتحن فلان لأمر كذا أي جرب له فوجد قوياً عليه ، أو ويضع الامتحان موضع المعرفة لأن تحقق الشيء باختباره فكأنه قيل : عرف الله قلوبهم كائنة للتقوى فاللام متعلقة بالمحذوف كقولك : أنت لهذا الأمر. أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف لأجل التقوى وحصولها فيها سابقة ولا حقة ) لهم مغفرة ( لذنوبهم ) وأجر عظيم ( لطاعتهم .
وفي تنكير الوعد وغير ذلك من مؤكدات الجملة تعريض بعظم ما ارتكب غيرهم واستحقاقهم أضداد ما استحق هؤلاء .
يروى أنه كان إذا قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفد أرسل إليهم أبو بكر من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار .
قال العلماء : إن النهي لا يتناول رفع الصوت الذي ليس باختيار المكلف كما مر في حديث ثابت بن قيس ، ولا الذي نيط به صلاح في حرب أو جدال معاند أو إرهاب عدوّ .
ففي الحديث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال للعباس ابن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين : أصرخ بالناس وكان العباس أجهر الناس صوتاً .
وفيه قال نابغة بني جعدة :(6/158)
" صفحة رقم 159 "
زجر أبي عروة السباع إذا
أشفق أن يختلطن بالغنم
وأبو عروة كنية العباس : زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيشق مرارة السبع في جوفه .
ويروى أن غارة أتتهم يوماً فصاح العباس يا صباحاه فأسقطت الحوامل لشدّة صوته .
ثم علمهم أدباً أخص فقال : ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ( أي من جانب البر والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض .
والحجرة البقعة التي يحجرها المرء لنفسه كيلا يشاركه فيها غيره من الحجر وهو المنع ( فعلة ) بمعنى مفعولة ، وجمعت لأن كلاً من أمهات المؤمنين لها حجرة .
روي أن وفداً من بني تميم قدم على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو سبعون رجلاً منهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن .
فدخلوا المسجد ونادوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من خارج حجراته كأنهم تفرقوا على الحجرات أو أتوها حجرة فنادوه من ورائها أو نادروه من وراء الحجرة التي كان فيها ، ولكنها جمعت إجلالاً له ( صلى الله عليه وسلم ) ، والفعل وإن كان مستنداً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم لأن رضا الباقين به كالتولي له .
وحكى الأصم أن الذي ناداه عيينة والأقرع قالا : أخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين منا شين فتأذى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من ذلك فخرج إليهم وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين .
فقال لهم : فيم جئتم ؟ فقالوا : جئنا بخطيبنا وشاعرنا نفاخرك ونشاعرك .
فقال : ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا .
فقام خطيبهم فخطب وقام شاعرهم وأنشد فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثابت بن قيس فقام وخطب وأمر حساناً فقام وأنشد .
فلما فرغوا قام الأقرع وقال : والله ما أدري ما هذا ، تكلم خطيبنا وكان خطيبهم أحسن قولاً ، وأنشد شاعرنا وكان شاعرهم أشعر .
ثم دنا من سول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله .
وعن زيد بن أرقم أنهم قالوا : نمتحنه فإن يكن ملكاً عشنا في جنابه ، وإن يكن نبياً كان أولى بأن نكون أسعد الناس به .
وقيل : إنهم وفدوا شافعين في أسرى بني العنبر ، أما إخبار الله تعالى عنهم بأن أكثرهم لا يعقلون فإما لأن الأكثر أقيم مقام الكل على عادة الفصحاء كيلا يكون الكلام بصدد المنع ، وإما لأن الحكم بقلة العقلاء فيهم عبارة عن العدم فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم ، وإما لأن فيهم من رجع وندم على صنيعه فاستثناه الله تعالى .
وإنما حكم عليهم بعدم العقل لأنهم يعقلوا أن هذا النحو من النداء خارج عن قانون الأدب ومنبىء عن عدم الوقار والأناة لا سيما في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه لم يكن يحتجب عن الناس إلا عند الخلوة والاشتغال بمهامّ أهل البيت فلذلك قال ) ولو أنهم صبروا حتى تخرج ( وفائدة قوله ) إليهم ( أنه لو خرج لا لأجلهم لزمهم الصبر إلى أن يكون خروجه إليهم لأجلهم ) لكان ((6/159)
" صفحة رقم 160 "
الصبر ) خيراً لهم ( في دينهم وهو ظاهر وفي دنياهم بأن ينسبوا إلى وفور العقل وكمال الأدب .
وقيل : بإطلاق أسرائهم جميعاً فقد روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أطلق النصف وفادى النصف ) والله غفور ( مع ذلك لمن تاب ) رحيم ( في قبول التوبة .
سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن وفد بني تميم فقال : إنهم جفاة بني تميم ولولا أنهم نم أشد الناس قتلالاً للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم .
ويحكى عن أبي عبيدة وهو المشهور بالعلم والزهادة وثقة الروياة أنه قال : ما وقفت بباب عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه .
ثم أرشدهم إلى أدب آخر فقال ) يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ ( وقد أجمع المفسرون على أنها نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بني المصلطق مصدقاً وكان بينهما إحنة ، فلما سمعوا به ركبوا إليه فلما سمع بهم خافهم فرجع فقال : إن القوم هموا بقتلي ومنعوا صدقاتهم .
فهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بغزوهم ، فبيناهم في ذلك إذ قدم وفدهم وقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فاتهمهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلاً هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم ويسبي ذراريكم ، ثم ضرب بيده على كتف علي رضي الله عنه فقالوا : نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله .
وقيل : بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع .
قال جار الله : في تنكير الفاسق والنبأ عمومم كأنه قيل : أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبأ فتوقفوا فيه واطلبوا البيان لأن من لا يتجافى جنس الفسوق ولا يتجافى بعض أنواعه الذي هو الكذب .
والفسوق الخروج عن الشيء والانسلاخ منه فسقت الرطبة عن قشرها ، ومن مقلوبه ( فقست البيضة ) إذا كسرتها وأخرجت ما فيها .
ومن تقاليبه أيضاً ( قفست الشيء ) بتقديم القاف إذا أخرجته من يد مالكه غصباً .
والنبأ الخبر الذي يعظم وقعه .
واختبر لفظة ( إن ) التي هي للشك دون ( إذا ) تنبيهاً على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ومن يعمه بمنزلة لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب إلا على سبيل الفرض والندرة ، فعلى المؤمنين أن يكونوا بحيث لا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور .
ثم علل التبين بقوله ) أن تصيبوا ( أي كراهة إصابتكم ) قوماً ( حال كونكم جاهلين بحقيقة الأمر .
والندم ضرب من الغم وهو أن تغتم على ما وقع منك متمنياً أنه لم يقع ولا يخلو من دوام وإلزام .
ومن مقلوباته ( أدمن الأمر ) إذا دام عليه .
ومدن بالمكان أقام به .
قال الأصوليون من الأشاعرة : إن خبر الواحد العدل يجب العمل به لأن الله تعالى أمر بالتبيين في خبر الفاسق ، لوو تبينا في خبر العدل لسوّينا بينهما .
وضعف بأنه من باب التمسك بالمفهوم .
واتفقوا على أن شهادة الفاسق لا تقبل لأن باب الشهادة أضيق من باب التمسك بمفهوم الخبر .
وأكثر المفسرين على أن الوليد كان ثقة عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصار(6/160)
" صفحة رقم 161 "
فاسقاً بكذبه .
وقيل : إن الوليد لم يقصد الكذب ولكنه ظن حين اجتمعوا لإكرامه أن يكونوا هموا بقتله .
ولقائل أن يقول : لفظ القرآن وسبب النزول يدل على خلافه .
وعم لو قيل : إنه تاب بعد ذلك لكان له وجه ثم أرشدهم إلى أمر ىخر قائلاً ) واعلموا أن فيكم رسول الله ( وليس هذا الأمر مقصوداً بظاهره لأنه معلوم مشاهد فلا حاجة إلى التنبيه عليه ، وإنما المراد ما يستلزم كونه فيهم كما يقال من يغلط في مسألة أو يقول فيها برأيه : أعلم أن الشيخ حاضر .
ثم قيل : المراد لا تقولوا الباطل والكذب فإن الله يخبره ويوحي إليه .
وقيل : أراد أن الرأي رأيه فلا تعدوا رأيه وقد صرح بهذا المعنى في قوله ) لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ( لوقعتم في العسر والمشقة والحرج لأنه أعلم منكم بالحنيفية السهلة السمحاء ، ومن جملة ذلك قصة الوليد فإنه لو أطاعة وقبل قوله لقتل وقتلتم وأخذ المال وأخذتم فاتهمتهم .
قال جار الله : الجملة المصدّره بلو ليس كلاماً مستأنفاً لاختلال النظم حينئذ ولكنها حال من أحد الضميرين في ) فيكم ( وهو المستتر المرفوع أو البارز المجرور .
والمعنى أن فيكم رسول الله على حالة يجب تغييرها وهي أنكم تطلبون منه اتباع آرائكم .
قلت : قد ذكرنا في وجه النظم بياناً آخر .
ثم قال : فائدة تقدير خبر ( أن ) هو أن يعلم أن التوبيخ ينصب إلى هذا الغرض .
وفائدة قوله ) يطيعكم ( بلفظ الاستقبال الدلالة على ما أرداوه من استمرار طاعته لهم وأنه لا يخالفهم في كثير مما عنّ لهم من الآراء والأهواء .
وفي قوله ) في كثير من الأمر ( مراعاة لجانب المؤمنين حيث لم ينسب جميع آرائهم إلى الخطأ ، وفيه أيضاً تعليم حسن وتأديب جميل في باب التخاطب .
ويمكن أن يكون إشارة إلى تصويب رأي بعضهم لا إلى تصويب بعض رأيهم فقد قيل : إن بعضهم زينوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد ، وبعضهم كانوا يرون التحلم عنهم إلأى أن يتبين أمرهم ، وقد أشار إلى هذا البعض بقوله ) ولكن الله حبب إليكم الإيمان ( أي إلى بعضكم وإلا لم يحسن الاستدراك يعني ب ) لكن ( فإن من شرطه مخالفة ما بعده لماقله .
فلو كان المخاطبون في الطرفين واحداً لم يكن للاستدراك معنى بل يؤدّي إلى التناقض لأنه يكون قد أثبت لهم في ثاني الحال محبة الإيمان وكراهة العصيان ، وذكر أوّلاً أنه توجب إجابتهم الوقوع في العنت .
قال أهل اللغة : الطاعة موافقة الداعي غير أن المستعمل في حق الأكابر الإجابة ، وفي حق الأصغر الطاعة ، وقد ورد القرآن على أصل اللغة .
استدلت الأشاعرة بقوله ) حبب ( و ) كره ( على مسألة خلق الأفعال .
وحملها المعتزلة على نصب الأدلة أو اللطف والتوفيق أو الوعد والوعيد .
والمعنى ولكن الله حبب إليكم الإيمان فأطعتموه فوقاكم العنت والكفر واضح وأما الفسوق والعصيان فقيل : الأوّل الكبائر والثاني(6/161)
" صفحة رقم 162 "
الصغائر .
ويحتمل أن يكون الكفر مقابل التصديق بالجنان ، والفسوق مقابل الإقرار باللسان لأن الفسق ههنا أمر قولي بدليل قوله ) إن جاءكم فسق بنبإ ( سماه فاسقاً لكذبه والعصيان مقابل العمل بالأركان ) أولئك ( البعض المتبينون ) هم الراشدون ( وهذه جملة معترضة .
وقوله ( فضلاً من الله ونعمة ( كل منهما مفعول له والعامل فيهما ) حبب ( و ) كره ( ويجوز أن يكونا منصوبين عن الراشدين لأن الرشد عبارة عن التحبيب والتكريه المستندين إلى الله ، فكأن الرشد أيضاً فعله فاتحد الفاعل في الفعل والمفعول له بهذا الاعتبار .
ويجوم أن يكونا مصدرين من غير لفظ الفعل وهو الرشد فكأنه قيل : فأولئك هم الراشدون رشداً لأن رشدهم إفضال وإنعام منه .
قال بعض العلماء : الفضل بالنظر إلى جانب الله الغنيّ ، والنعمة بالنظر إلى جانب العبد الفقير ) والله عليم ( بأحوال الخلق وما بينهم من التمايز والتفاضل ) حكيم ( في تدابيره وأفضاله وأنعامه .
ثم علمهم حكماً آخر .
في الصحيحين عن أنس أنه قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : يا نبي الله لو أتيت عبد الله بن أبيّ .
فانطلق إلأيه على حمار وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فبال الحمار فقال : غليك عني فوالله لقد آذاني نتن حمارك .
فقال عبد الله بن رواحة : والله إن بول حماره أطيب ريحاً منك فغضب لعبد الله رجل من قومه وغضب لكل واحد منهما أصحابه فوقع بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال فأنزل الله فيهم ) وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ( جمع لأن الطائفتين في معنى القوم ، أو الناس ، أو لأن اقل الجمع اثنان فرجع إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأصلح بينهم .
وعن مقاتل : قرأها عليهم فاصطلحوا .
وقال ابن بحر : القتال لا يكون بالنعام لوالأيدي وإنما هذا في المنتظر من الزمان .
والطائفة الجماعة وهي أقل من الفرقة لقوله ) فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) [ التوبة : 122 ] وارتفاعها بمضمر دل عليه ما بعده أي إن اقتتلت طائفتان واختير ( أن ) دون ( إذا ) مع كثرة وقوع القتال بين المؤمنين ليدل على أنه مما ينبغي أن لا يقع إلا نادراً وعلى سبيل الفرض والتقدير ، ولهذه النكتة بعينها قال ) طائفتان ( ولم يقل ( فريقان ) تحقيقاً للتقليل كما قلنا .
وفي تقديم الفاعل على الفعل إشارة أيضاً إلى هذا المعنى لأن كونهما طائفتين مؤمنين يقتضي أن لا يقع القتال بينهما ولهذا اختير المضيّ في الفعل ولم يقل يقتتلون لئلا ينبىء عن الاستمرار وفيه أيضاً من التقابل ما فيه .
وإنما قدم الفعل في قوله ) إن جاءكم فاسق بنبإ ( ليعلم أن المجيء بالنبأ الكاذب يورث كون الجائي به فاسقاً سواء كان قبل ذلك فاسقاً أم لا ، ولو أخر الفعل لم تتناول الآية إلا مشهور الفسق قبل المجيء بالنبأ .
قال بعض العلماء : إنما(6/162)
" صفحة رقم 163 "
قال ) اقتتلوا ( على الجمع ولم يقل ( فأصلحوا بينهم ) لأن عند القتال يكون لكل منهم فعل برأسه ، أما عند العود إلى الصلح فإنه تتفق كل طائفة وإلا لم يتحقق الصلح فكان كل من الطائفتين كنفس واحدة فكانت التثنية أقعد .
والبغي الاستطالة وإباء الصلح ، والفيء الرجوع وبه سمي الظل لأنه يرجع بعد نسخ الشمس ، أو لأن الناس يرجعون إليه ، والغنيمة لأنها ترجع من الكفار إلى المسلمين .
ومعنى قوله ) إلى أمر الله ( قيل : إلى طاعة الرسول أو من قام مقامه من ولاة الأمر بقوله ) أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) [ النساء : 59 ] وقيل : إلى لاصلح لقوله ) وأصلحوا ذات بينكم ) [ الأنفال : 1 ] وقيل : إلى أمر الله بالتقوى فإن من خاف الله حق خشيته لا تبقى له عداوة إلا مع الشيطان .
وإنما قال ) فإن بغت ( ولم يقل ( فإذا ) بناء على أن بغي إجداهما مع صلاح الأخرى كالنادر ، وكذا قوله ) فإن فاءت ( لأن الفئة الباغية مع جهلها وعنادها وإصرارها على حقدها كالأمر النادر نظيره قول القائل لعبده : ( إن مت فأنت حر ) .
مع أن الموت لا بد منه وذلك لأن موته بحيث يكون العبد حياً باقياً في ملكه غير معلوم .
واعلم أن الباغية في اصطلاح الفقهاء فرقة خالفت الإمام بتأويل باطل بطلاناً بحسب الظن لا القطع ، فيخرج المرتد لأن تأويله باطل قطعاً ، وكذا الخوارج وهم صنف من المتبدعة يكفرون من أتى بكبيرة ويسبون بعض الأئمة .
وهكذا يخرج مانع حق الشرع لله أو للعباد عناداً لأنه لا تأويل له .
ولا بد أن يكون له شوكة وعدد ويحتاج الإمام في دفعهم إلى كلفه ببذل مال أو إعداد رجال ، فإن كانواأفراداً يسهل ضبطهم فليسوا بأهل بغي .
والأكثرون على أن البغاة ليسوا بفسقه ولا كفرة لقوله تعالى ) وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ( وعن عليّ رضي الله عنه : إخواننا بغوا علينا ولكنهم يخطؤن فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل كما وقع للخارجة عن عليّ رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص لمواطأته إياهم .
وكما قال مانعو الزكاة لأبي بكر : أمرنا بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن لنا وصلاة غير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليست بسكن لنا .
وقد يقال : إن الباغية في حال بغيها ليست بمؤمنة وإنما سماهم المؤمنين باعتبار ما قبل البغي كقوله ) يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه ) [ المائدة : 54 ] والمرتد ليس بمؤمن(6/163)
" صفحة رقم 164 "
بالاتفاق .
أما الذي يتلفه العادل على الباغي وبالعكس في غير القتال فمضمون على القاعدة الممهدة في قصاص النفوس وغرامة الأموال ، وأما في القتال فلا يضمن العادل لأنه مأمور بالقتال ولا الباغي على الأصحن لأن ي الوقائع التي جرت في عصر الصحابة والتابعين لم يطلب بعضهم بعضاً بضمان نفس ومال ، ولأنه لو وجبت الغرامة لنفرهم ذلك عن العود إلى الطاعة .
والأموال المأخوذة في القتال تردّ بعد انقضاء الحرب إلى أربابها من الجانبين .
والمراد من متلف القتال ما يتلف بسبب القتال ويتولد منه هلاكه حتى لو فرض إتلاف في القتال من غير ضرورة القتال كان كالإتلاف في غير القتال ، والذين لهم تأويل بلا شوكة لزمهم ضمان ما أتلفوا من نفس ومال وإن كان على صورة القتال ، وحكمنهم حكم قطاع الطريق إذا قاتلوا ، ولو أسقطنا الضمان لأبدن كل شر ذمة من أهل الساد تأويلاً وفعلت ما شاءت وفي ذلك إبطال السياسات ، ولهذه النكتة قرن بالإصلاح والثاني قوله ) بالعدل ( لأن تضمين الأنفس والأموال يحتاج فيه إلى سلوك سبيل العدل والنصفة لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة مرة أخرى .
واحتج الشافعي لوجوب الضمان إذا لم يكن قتال بأن ابن ملجم قتل علياًَ رضي الله عنه زاعماً أن له شبهة وتأويلاً فأمر بحبسه وقال لهم : إن قتلتم فلا تمثلوا به فقتله الحسن بن علي رضي الله عنه وما أنكر عليه أحد .
وأما الذين لهم شوكة ولا تأويل فالظاهر عند بعضهم نفي الضمان وعند آخرين الوجوب .
وأما كيفية قتال الباغين فإن أمكن الأسر لم يقتلوا ، وإن أمكن الإثخان فلا يذفف عليه كدفع الصائل إلا إذا التحم القتال وتعسر الضبط .
قوله ) وأقسطوا ( أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعدما أمر به في إصلاح ذات البين ، قال أهل اللغة : القسط بالفتح والسكون الجور من القسط بفتحتين وهو اعوجاج في الرجلين ، وعود قاسط يابس ، والقسط بالكسر العدل والهمزة في أقسط للسلب أي أزال القسط وهو الجورز وحين بين إصلاح الخلل الواقع بين الطائفتين أراد أن يبين الخلل الواقع بين اثنين بالتشاتم ولاسباب ونحو ذلك فقال ) إنما المؤمنون إخوة ( أي حالهم لا يعدوا الأخوة الدينية إلى ما يضادّها ) فأصحلوا بين أخويكم ( بإيصال الملظلوم إلى حقه وبدفع إثم الظلم عن الظالم .
والتثنية بحسب الأغلب ، وحيتمل أن يقال : إنه شامل لما دون الطائفتين .
روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره ثم قال احفظوا ولا يحفظ منكم إلى قليل ) ) واتقوا اله ( في سائر الأبواب راجين أن يرحمكم ربكم .
ثم شرع في تأديبات آخر .
والقوم الرجال خاصة لقيامهم على الأمور .
قال جمهور المفسرين : إن ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنيه وقر وكان إذا أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (6/164)
" صفحة رقم 165 "
أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول فجاء يوماً وقد أخذ الناس مجالسهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول : تفسحوا تفسحوا .
فقال له رجل : أصبت مجلساً فاجلس .
فجلس ثابت مغضباً ثم قال للرجل : يا فلان ابن فلانه يريد أمّاً كان يعير بها في الجاهلية فسكت الرجل استحياء فنزلت .
وقيل : نزلت في الذين نادوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من وراء الحجرات واستهزؤا بالفقراء .
وقيل : في كعب بن مالك قال لعبد الله : يا أعرابي .
فقال له عبد الله : يا يهودي .
وقيل : نزلت ) ولا نساء من نساء ( في عائشة وقد عابت أم سلمة بالقصر ويروى أنها ربطت حقويها بثوب أبيض وأسدلت طرفها خلفها وكانت تجره فقالتد عائشة لحفصة : انظري ماذات تجر خلفها كأنه لسان كلب .
وعن عكرمة عن ابن عباس : أن صفية بنت حييّ أتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : إن النساء يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين .
فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد .
وتنكير القوم والنساء للعضية أو لإفادة الشياع .
وإنما لم يقل ( رجل من رجل ولا امرأة من امرأة ) زيادة للتوبيخ وتنبيهاً على أن السخرية قلما تصدر عن واحد ولكن ليشاركه في ذلك جمع من الحاضرين لأن ميل الطباع لى التلهي والدعابة والازدراء بالضعفاء وأهل السآمة أكثريّ .
وإنما لم يقل ( رجل من امرأة ) وبالعكس لأن سخرية الجنس من الجنس أكثر فاقتصر على ذلك والباقي فيه بالأولى .
وقوله ( عسى أن يكونوا ( كلام مستأنف ينبىء عن سبب النهي .
عن عبد الله بن مسعود : البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلباً ز قوله سبحانه ) ولا تلمزوا ( تأديب آخر واللمز الطعن باللسان .
والمعنى حضوا أنفسكم بالانتهاء عن الطعن في أمثالكم من أهل هذا الدين ولا عيسكم أن تعيبوا غير أهل دينكم .
قيل : اللمز والسب خلف افنسان ، والهز العيب في وجهه الإنسان .
وقيل : بل الأمر بالعكس لأن من تقاليب همز هزم ، وهو يدل على البعد ، ومن مقلوب اللمز اللزم وهو يدل على لاقرب فيشمل العيب بالإشارة أيضاً .
قوله ) ولا تنابزوا ( تأديب آخر والنبز بالسكون القذف بالمكروه من الألقاب ، واللقب من الأعلام ما دل على مدح أو ذم ، والنبز بالفتح اللقب القبيح فهو أخص من اللقب كما أن اللقب أخص من العلم .
وإنما قال ) ولا تنابزوا ( ولم يقل ولا تنبزوا على منوال ) ولا تلمزوا ( لأن النبز لا يعجز الإنسان عن جوابه غالباً فمن ينبز غيره بالحمار كان لذلك الغير أن ينبزه بالثور مثلاً ولا كذلك اللمز فإن الملموز كثيراً ما يغفل عن عيب اللامز فلا يحضره في الجواب شيء فيقع اللمز من جانب واحد فقط .
ثم أكد النهي عن التنابز بقوله ) بئس الاسم ( أي الذكر ) الفسوق ( وفي قوله ) بعد الإيمان ( وجوه أحدها : استقباح الجمع بين الأمرين كما تقول ( بئس الشأن الصبوة(6/165)
" صفحة رقم 166 "
بعد الشيخوخة ) أي معها .
وثانيها بئس الذكر أن يذكروا الرجل بالفسق أو باليهودية بعد إيمانه ، وكانوا يقولون لمن أسلم من اليهود يا يهودي يا فاسق فنهوا عنه .
وثالثها أن يجعل الفاسق غير مؤمن كما يقال للمتحوّل عن التجارة إلى الفلاحة ( بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة ) فمعنى بعد الإيمان بدلاً عن الإيمان ) ومن لم يتب ( عما نهي عنه ) فأولئك هم الظالمون ( لأن الإسرار على المنهي كفر إذ جعل المنهي كفر إذ جعل المنهي .
كالمأمور فوضع الشيء في غير موضعه قوله ) يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ( فيه تأديب آخر .
ومعنى اجتنبوا كونوا منه في جانب .
وإنما قال ) كثيراً ( ولم يقل الظن مطلقاً لأن منه ما هو واجب كحسن الظن بالله وبالمؤمنين كما جاء في الحديث القدسي ( أنا عند ظن عبدي بي ) قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ) وقال ( إن حسن الظن من الإيمان ) ومنه ما هو محظور وهو سوء الطن بالله وبأهل الصلاح. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء ) وهو الذي أمر في الآية باجتنابه .
ومنه ما هو مندوب إليه وهو إذا كان المظنون به ظاهر الفسق وإليه الإشارة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من الحزم سوء الظن ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( احترسوا من الناس بسوء الظن ) ومنه المباح كالظن في المسائل الاجتهادية .
قال أهل المعاني : إنما نكر ) كثيراً ( ليفيد معنى البعضية المصرح بها في قوله ) إن بعض الظن إثم ( ولو عرّف لأوهم أن المنهي عنه هو الظن الموصوف بالكثرة والذي يتصف بالقلة مرخص فيه .
والهمزة في الإثم عوض عن الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه تأديب آخر ) ولا تحبسوا ( وقد يخص الذي بالحاء المهملة بتطلب الخبر والبحث عنه كقوله ) فتحسسوا من يوسف وأخيه ) [ يوسف : 87 ] فبالجيم تفعل من الجس ، وبالحاء من الحس .
قال مجاهد : معناه خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال في خطبته ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لاتتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع عورته حتى يفضحه ولو كان في جوف بيته ) وهذا الأدب كالسبب لما قبله .
فلما نهى عن ذلك نهى عن سببه أيضاً .
تأديب آخر ) ولا يغتب ( يقال غابه واغتابه بمعنى ، والاسم الغيبة بالكسر وهي ذكر العيب بظهر الغيب ، وسئل(6/166)
" صفحة رقم 167 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنها فقال ( أن تذكر أخاك بما يكره فإن كنت صادقاً اغتبته وإن كانت كاذباً فقد بهته ) ثم مثل ما يناله المغتاب من عرض صاحبه على افظع وجه فقال ) أيحب ( إلى آخره .
وفيه أنواع من المبالغة منها الاسفتهام للتقرير ومحبة المكروه ، ومنها إسناد الفل إلى ) أحدكم ( ففيه إشعار بأنه لا أحد يحب ذلك ، ومنها تقييد المكروه بأكل لحم الإنسان ، ومنها تقييد الإنسان بالأخ ، ومنها جعل الأخ أو اللحم ميتاً ففيه مزيد تنفير للطبع .
وإنما مثل بالأكل لأن العرب تقول لمن ذكر بالسوء إن الناس يأكلون فلاناً ويمضغونه ، وفلان مضغة للماضغ .
شبهوا إدارة ذكره في الفم بالأكل .
والميت لمزيد التنفير كما قلنا ، أو لأن الغائب كالميت من حيث لا يشعر بما يقال فيه .
أما الفاء في قوله ) فكرهتموه ( ففصيحة أو نتيجة لأنها للإلزام أي بل عافته نفوسكم فكرهتموه .
أو فتحققت بوجوب الإقرار وبحكم العقل وداعي الطبع كراهكم للأكل أو اللحم أو الميت فليتحق أيضاً أن تكرهوا لما هو نظيره وهي الغيبة .
وقال ابن عباس : هي إدام كلاب الناس .
وعنه أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوماً فبعثاه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فعند ذلك قالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة ( لبئر من آبار مكة ) لغار ماؤها .
فلما راحا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ؟ فقالا : ما تناولنا لحماً .
فقال : إنكما قد اغتبتما فنزلت .
قلت : قد تبين في الحديث أن في الآية مبالغة أخرى وهي أنه أراد باللحم الميت المدوّد المنتن المخضر. ، وقد عبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالأمر الحسي عن الأمر المعنوي الذي أدركه بنور النبوّة منهما .
واعلم أن الغيبة وإن كانت منهية إلا أنها مباحة في حق الفاسق .
ففي الحديث ( اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس ) وروي ( من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له واتقوا الله فيما نهاكم وتوبوا فيما وجد منكم ) وحين علم المؤمنين تلك الآداب الجميلة عمم الخطاب منعاً من السخرية واللمز وغير ذلك على الإطلاق فقال ) يا أيها الناس ( الآية .
قال بعض الرواة : إن ثابت بن قيس حين قال ( فلان لا تفضلهم إلا بالتقوى والدين ، فأنزل اله هذه الآية .
وعن مقاتل : لما كان يوم فتح مكة أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بلالاً حتى أذن على ظهر الكعبة فقال عتاب بن أسيد :(6/167)
" صفحة رقم 168 "
الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم .
وقال الحرث بن هشام : أما وجه محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناَ .
وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئاً يغيره .
وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به رب السماء .
فأتى جبريل عليه السلام فأخبره .
وأقول : الآية تزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء .
ويروى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأي في سوق المدينة غلاماً أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : فاشتراه رجل وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يراه عند كل صلاة ففقده يوماً فسأل عنه صاحبه فقال : محموم .
فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقيل : هو في ذمائه .
فجاءه وتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت .
وقوله ( من ذكر وأنثى ( فيه وجهان : أحدهما من آدم وحوّاء فيدل على أنه لا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أولاد رجل واحد وامرأة واحدة ، والثاني كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقانه من أب وأم ، والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين كالذباب والذئاب مثلاً ، لكن التفاوت بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين ، لأن الكافر كالأنعام بل أضل ، والمؤمن هو الناس وغيره كالنسناس .
والحاصل أن الشيء إما أن يترجح على غيره بأمر يلحقه ويترتب عليه بعد وجوده ، وإما أن يترجح عليه بأمر هو قبله .
وهذا القسم إما أني رجع إلى القابل أو إلى الفاعل كما يقال ( كان هذا من النحاس وهذا من الفضة وهذا عمل فلان ) فذكر الله سبحانه أنه لا ترجح بحسب الأصل القابل لأنكم كلكم من ذكر وأنثى ، ولا بحسب الفاعل فإن الله هو خالقكم .
فإن كان تفاوت فبأمور لاحقة وأحقها بالتمييز هو التقوى لما قلنا ، ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان ديناً عالماً ، ولا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان ديناً عالماً ، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإن كان قرشي النسب قارونيّ النشب .
ثم بين الحكمة التي من أجلها رتبهم على شعوب وقبائل وهي أن يعرف بعضهم نسب بعض فلا يعتزى إلى غير آبائه فقال ) وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ( أي ليقع بينكم التعارف بسبب ذلك لا أن تتفاخروا بالأنساب .
وقيل : الشعوب بطون العجم .
والقبائل بطون العرب .
وقال جار الله : الشعب بالفتح الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب .
أوّلها شعب وهي أعم سمي بذلك لأن القبيلة تنشعب منها ، ثم قبيلة ، ثم عمارة ، ثم بطن ، ثم فخذ ، ثم فصيلة وهي الأخص مثال ذلك خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة .
فائدة : لا ريب أن الخلق يستعمل في الأصول أكثر ، والجعل يستعمل فيما يتفرع(6/168)
" صفحة رقم 169 "
عليه ، ولهذا قال ) خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ) [ الأنعام : 1 ] وقال في الآية ) خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل ( ولكنه قال في موضع آخر ) وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] فبين أن الأصل في الخلق والغرض الأقدم هو العبادة ليعلم منه أن اعتبار النسب وغيره مؤخر عن اعتبار العبادة فلهذا قال ) إن أكرمكم عند الله أتقاكم ( وفيه معنيان : أحدهما أن التقوى تفيد الإكرام عند الله .
والثاني أن الإكرام في حكم الله يورث التقوى والأول أشهر كما يقال ( ألذ الأطعمة أحلاها ) أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة .
عن النبي صلى الله عيله وسلم أنه طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ( الحمد لله الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها .
يا أيها الناس إنما الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم قرأ الآية ) وعند ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله ) قال ابن عباس : كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى ) إن الله عليم ( بظواهركم ) خبير ( ببواطنكم وحق مثله أن يخشى ويتقى .
وحين حث عموم الناس على تقواه وبخ من في إيمانه ضعف .
قال ابن عباس : إننفراً من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر ، وأفسدوا طريق المدينة بالقذاة ، وأغلوا أسعارها وكانوا يقولون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة ، وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله هذه الآيات .
أي قالوا آمنا بشرائطه فأطلع الله نبيه على مكنون ضمائرهم وقال : لن تؤمنوا إيماناً حقيقياً وهو الذي وافق القلب فيه اللسان .
) ولكن قولوا أسلمنا ( يعني إسلاماً لغوياً وهو الخضوع والانقياد خوفاً من القتل ودخولاً في زمرة أهل الإيمان والسلم .
ثم أكد النفي المذكور بقوله ) ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ( وفيه فائدة زائدة هي أن يعلم أن الإيمان متوقع منهم لأن ( لما ) حرف فيه توقع وانتظار .
ثم حثهم على الطاعة بقوله ) وإن تطيعوا الله ورسوله لايلتكم ( اي لا ينقصكم ) من ( ثواب ) أعمالكم شيئاً ( يعني الثواب المضاعف الموعود في نحو قوله ) من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) [ الأنعام : 160 ] ألت يألت بالهمزة إذا نقص وهي لغة غطفان .
يقال ألته السلطان حقه أشدّ اللت .
ولغة أسد وأهل الحجاز لأته ليتاً .
وقال قطرب : ولته يلته بمعنى صرفه عن وجهه .
فيكون ) يلتكم ( على وزن ( يعدكم ) ، وعلى الوجه المتقدم على وزن ( يبعكم ) ) إن الله غفور رحيم ( لنم تاب وأخلص نيته .
ثم وصف المؤمنين المحقين بقوله ) إنما المؤمنون ( ومعنى ( ثم ) في قوله ) ثم لم يرتابوا ( كما في قوله ) ربنا الله ثم استقاموا ) [ فصلت : 30 ] وارتاب مطاوع رابه(6/169)
" صفحة رقم 170 "
إذا أوقعه في الشك مع التهمة أي ثم لم يقع في قلوبهم شك فيما آمنوا به ولا إتهام لمن صدّقوه وذلك بتشكيك بعض شياطين الجن والإنس .
وقال جار الله : وجه آخر لما كان زوال الريب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهاً على مزيته وإشعاراً بأنهم مستقرون على ذلك في الأزمنة المتطاولة غضاً جديداً .
وفي قوله ) أولئك هم الصادقون ( تعريض بأن المذكورين أولاً كاذبون ولهذا قال ) قل لم تؤمنوا ( إشارة إلى كذبهم في دعواهم ورب تعريض لا يقاومه التصريح .
ثم أراد تجهيلهم بقوله ) قل أتعلمون الله بدينكم ( والباء قيل للسببية والأظهر أنه الذي في قولهم ما علمت بقدومك أي ما شعرت ولا أحطت به .
وذكر في أسباب النزول أنه لما نزلت الآية الأولى جاءت هؤلاء الأعراب وحلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية .
والاستفهام للتوبيخ أي كيف تعلمونه بعقيدتكم وهو عالم بكل خافية والتعليم إفادة العلم على التدريج والمعالجة ؟ وقيل : تعريض من لا يعلم بإفهام المعنى لأن يعلم قوله ) يمنون عليك ( نزلت في المذكورين وفي أمثالهم .
يقال : منّ عليه صنعه إذا اعتدّه عليه منة وإنعاماً .
قال أهل العربية : اشتقاق المنة من المن الذي هو القطع لأنه إنما يسدي النعمة إليه ليقطع بها حاجته لا غير من غير أن يعمل لطلب مثوبة وعوض .
ثم قال ) بل الله يمن عليكم ( حيث هداكم للإيمان الذي ادّعيتموه .
وفي إضافة الإسلام إليهم ازدراء بإسلامهم ، وفي إيراد الإيمان مطلقاً غير مضاف إشارة إلى الإيمان المعهود الذي يجب أن يكون المكلف عليه .
وجواب الشرط محذوف أي ) إن كنتم صادقين ( في ادعاء الإيمان الحقيقي فلله المنة عليكم .
ثم عرض بأنهم غير صادقين فقال ) إن الله يعلم ( الآية والمراد أنهلا يخفي عليه ضمائرهم والله أعلم بالصواب .(6/170)
" صفحة رقم 171 "
سورة ق
( سورة ق مكية حروفها ألف وأربعمائة وسبعة وسبعون كلماتها ثلثمائة وخمس وسبعون آياتها خمس وأربعون ). بسم الله الرحمن الرحيم
( ق : ( 1 - 45 ) ق والقرآن المجيد
" ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد وكم أهلكنا قبلهم من قرن(6/171)
" صفحة رقم 172 "
هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد "
( القراآت )
ميتاً ( بالتشديد : يزيد ) وعيدي ( وما بعده مثل التي في ( إبراهيم ) ) يوم يقول ( بالياء : نافع وأبو بكر وحماد ) امتلات ( بإبدال الهمزة ألفاً : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف ) يوعدون ( على الغيبة : ابن كثير ) وإدبار ( بكسر الهمزة : أبو جعفر ونافع وابن كثير وحمزة وخلف وجبلة ) المنادي ( بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وفي الوصل .
الوقوف : ( ق ( ط كوفي ولو جعل قسماً فلا يوقف للعطف ) المجيد ( ه ج لأن ( بل ) قد يجعل جواب القسم تشبيهاً بأن في التحقيق وفي توكيد مابعده ، وقد يجعل جوابه محذوفاً أي لتبعثن ) تراباً ( ج لأن ذلك مبتدأ إلا أن المقوم واحد ) بعيد ( ه ) منهم ( ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف ) حفيظ ( ه ) مريح ( ه ) فروج ( ه ) بهيج ( ه لا لأن ) تبصرة ( مفعول لأجله ) منيب ( ه ) الحصيد ( ه لا لأن النخل معطوف على الجنات والحب ) نضيد ( ه لا لأن المراد أنتبتناها لأجل الرزق ) للعباد ( ط للعطف ) ميتاً ( ط ) لخروج ( ه ) وثمود ( ه ) لوط ( ه لا ) تبع ( ط ) وعيد ( ه ) الأول ( ط ) جديد ( ه ) نفسه ( ج وجعل ما بعدها حالاً أولى من الاستئناف فيوقف على الوريد و ( إذا ) يتعلق بمحذوف وهو ( أذكر ) أبو بقوله ) ما يلفظ ( فلا يوقف على ) قعيد ( ) عتيد ( ه ) بالحق ( ط ) تحيد ( ه ) الصور ( ط ) الوعيد ( ه ) وشهيد ( ه ) حديد ( ه ) عتيد ( ه لتقدير القول ) عنيد ( ه لا ) مريب ( ه لا بناء على أن ما بعده صفة أخرى ولو جعل مبتدأ لتضمنها معنى الشرط أو نصباً على المدح فالوقف ) الشديد ( ه ) بعيد ( ه ) بالوعيد ( ه ) للعبيد ( ه ) مزيد ( ه ) بعيد ( ه ) حفيظ ( ه ج لاحتمال أن تكون ( من ) شرطية جوابها القول المقدر قبل أدخلوها أو موصولة بدلاً من لكل ) منيب ( ه ) بسلام ( ط ) الخلود ( ه(6/172)
" صفحة رقم 173 "
ط ) مزيد ( ه ) البلاد ( ط للاستفهام .
قال السجاوندي : وعندي أن عدم الوقف أولى لأن النقب وهو البحث والتفتيش وأقع على جملة الاستفهام .
) محيص ( ه ) شهيد ( ه ) لغوب ( ه ) الغروب ( ج لاحتمال تعلق الجار بما قبله وبما بعده ) السجود ( ه ) قريب ( ه لا لأن ما بعده بدل ) بالحق ( ط ) الخروج ( ه ) المصير ( ه لا لتعلق الظرف ) سراعاً ( ط ) يسير ( ه ) وعيد ( ه .
التفسير : قيل : إن قاف اسم جبل من زبرجد أخضر محيط بالأرض وخضرة السماء منه .
وقيل : قادر أو قاهر ونحو ذلك من أسماء الهل مما أوله قاف .
وقيل : قضي الأمر .
وقيل : قف يا محمد على أداء الرسالة .
والأقوال المشتركة بين الفواتح مذكورة ، وإعراب فاتحة هذه السورة كإعراب أول ( ص ) ، وبينهما مناسبة أخرة من قبل وقوع الإضراب بعد القسم ووجهه ما مر .
ومن قبل أن أكث مباحث تلك السورة في المبدأ والتوحيد .
وفي أوّل خلق البشر ، وأكثر أبحاث هذه السورة في الحشر والخروج ولهذا سنت قراءتها في صلاة العيد لأنه يوم الاجتماع وخروج الناس إلى الفضاء .
والمجيد ذو المجد حقيقة في القرآن لأنه أشرف من سائر الكتب أو مجاز باعتبار قارئه وعالمه والعامل به .
ومعنى ) منذر منهم ( أي من جنسهم أو من بينهم فتوجه العجب إلى الإنذار بالبعث أوّلاً ثم إلى كون المنذر منهم ، ولعل الأول أدخل عندهم في استحقاق التعجب منه فلهذا أشاروا إليه بقوله ) هذا ( الرجع أو البعث ) شيء عجيب ( أبهم الضمير أوّلاً في ) عجبوا ( ثم فسره ثانياً في قوله ) فقال الكافرون ( أو اقتصر على الضمير أوّلاً للتعليم بهم ثم وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً علهيم بالكفر .
ثم زادوا في التعجب والتعجيب بقولهم ) أئذا متنا ( والتقدير انبعث وقت الموت والصيرورة تراباً ) ذلك ( الرجع أي البعث ) رجع بعيد ( أي يستبعد في العقول .
وقيل : إنه من كلام الله عز وجل .
والرجع بمعنى الجواب أي جواب هؤلاء الكفار في دعوى المنذر جواب بعيد عن حيز العقل لدلالة البراهين الساطعة على وجود الحشر والنشر منها شمول علم الله تعالى بأجزاء الميت على التفصيل ، وإلى هذا أشير بقوله ) قد علمنا ما تنقص الأرض ( من أجساد الموتى وتأكل من لحومهم وعظامهم .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب ) وعن السدي : منا تنقص الأرض منهم(6/173)
" صفحة رقم 174 "
بالموت ويدفن في الأرض منهم ) وعندنا كتاب ( هو اللوح المحفوظ من التغيير ومن الشياطين .
ثم أتبعالإضراب الأول إضراباً آخر فقال ) بل كذبوا ( والمقصود أن تكذيبهم ) بالحق ( الذي هو محمد أو القرآن أو الأخبار بالبعث في أوّل وهلة من غير تدبر أفظع من تعجبهم .
والمريج أمر دينهم المضطرب المخلوط بالشبهات والشكوك ولهذا نسبوا القرآن تارة إلى السحر وأخرى إلى الشعر أو الكهانة وقالوا في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مثل ذلك .
ثم استدل على حقية المبدأ والمعاد بوجوه أخر : منها بناء السماء ورفعها بلا عمد ولا فروج أي شقوق وفتوق ولكنها صحيحة الاستدارة من جميع الجوانب .
وليس في الآية دلالة على امتناع الخرق على السماء لأن الإخبار عن عدم الوقوع لا ينافي إمكانه .
نعم إنه مناف لوجود نحو الأبواب فيها ظاهراً اللهم إلا أن تدعي المغايرة بين الفروج والأبواب .
وفي قوله ) فوقهم ( مزيد توبيخ لهم ونداء عليهم بغاية الغباوة .
ومنه مدّ الأرض أي دحوها .
ومنها خلق الجبال الرواسخ .
ومنها خلق أصناف النبات مما يبتهج به ويروق الناظر لخضرته ونضرته كل ذلك ليتبصر به ويتذكر من يرجع إلى ربه ويفكر في بدائع المخلوقات ويرتقي إلى الصانع من المصنوعات .
ومنها إنزال ماء المطر الكثير المنافع المنبت للجنات والحبات .
والحصيد صفة موصوفة محذوفة أي وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالحنطة وغيرها من الأقوات ونحوها .
والباسقات التي طالت في السماء ، والطلع أوّل ما يبدو من من ثمر النخيل ، والنضيد الذي نضد بعضه فوق بعض ، والمراد كثرة الطلع وتراكمه المستتبع لكثرة الثمر .
ثم شبه بإحياء الأرض خروج الموتى كما قال في الروم ) وكذلك تخرجون ) [ الآية : 19 ] ثم هدّدهم بأحوال الأمم السالفة وقد مر قصصهم مراراً .
وأما حديث أصحاب الرس فلم يذكر إلا في ( الفرقان ) وحديث تبع في ( الدخان ) وأراد بفرعون قومه لأن المعطوف عليه أقوام ) فحق وعيد ( مثل ) فحق عقاب ) [ ص : 14 ] وفيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم دل على الحشر بضرب آخر من البيان وهو أن الذي لم يعي أي لم يعجز عن الخلق الأول بالنسبة إلى أيّ مخلوق فرض كيف يعجز عن الإعادة ؟ واللبس الخلط والشبهة ، وتنكير اللبس والخلق الجديد للتعظيم أي لبس عظيم ، وخلق له شأن وحق عليه أن يهتم به ولا يغفل عنه .
ثم شرع في تقرير خلق الإنسان الدال على شمول علم الله سبحانه وعظيم قدرته على بدئه وإعادته .
والوسوسة الصوت الخفي .
والباء في ) به ( للتعدية و ( ما ) مصدرية أي نعلم جعل نفسه إياه موسوساً .
والقرب مجاز عن العلم التام كقولهم ( هو منى مقعد القابلة ومعقد الإزار ) وما في الآية دل على الإفراط في القرب لأن الوريد جزء من بدن الإنسان(6/174)
" صفحة رقم 175 "
يريد أن علمه ينفذ في بواطن الأشياء نفود الدم في العروف .
والوريد العرق الحامل للدم سوى الشرايين ، سمي وريداً لأن الروح أو الدم يرده .
والوريدان عرقان يكتنفان لصصفحتي العنق في مقدمها يتشعبان من الرأس يتصلان بالوتين .
والحبل العرق ايضاً شبه بواحد الحبال والإضافة للبيان كإضافة العام إلى الخاص .
قال جار الله : ( إذ ) منصوب ب ) أقرب ( والمراد أنه أقرب نم الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به .
وفيه أن كتابة الملكين لا حاجة إليها لعلام الغيوب وإنما هي لأغراض أخر كإلزام العبد واستحيائه مدادهما وأنت تجري فيما لا يعنيك لا تستحي من الله ولا منها ( ويجوز أن يكون تلقى الملكين بياناً للقرب فكأنه قيل : لا يخفى عليه شيء لأنه حفظته موكلون به .
والتلقي التلقن بالحفظ والكتبة ، والقعيد المقاعد كالجليس بمعنى المجالس ، والتقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فاختصر المفاعلة .
وإما بالنسبة إلى الملك الآخر وإما بالإضافة إلى الإنسان ، والعتيد الحاضر .
قال أكثر المفسيرين : إنهما يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه .
وقيل : لا يكتبان إلا الحسنات والسيئات .
وقيل : إن الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعه .
وحين حكى إنكارهم البعث واحتج عليهم بالدلائل الباهرة أخبر عن قرب القيامتين الصغرة والكبرى بأن عبر عنهما بلفظ الماضي وهو قوله ) وجاءت سكرة الموت ( ونفخ في الصور وسكرات الموت حالاته الذاهبه بالعقل .
والباء في ) بالحق ( للتعدية أي أحضرت السكرة حقيقة الأمر وجلبة الحال من تحقق وقوع الموت أو من شعادة الميت أو ضدّها كما نطق بها الكتاب والسنة ، أو المراد وجاءت ملتبسة بالغرض الصحيح الذي هو ترتب الجزاء على الأعمال ) ذلك ( المجي ) ما كنت منه تحيد ( أي تميل نفرة الطبع إلا أنه إذا فكر في أمر نفسه وما خلق هو لأجله علم أن الموت راحة وخلاص عن عالم الآفات والبليات .
قوله ) ذلك يوم الوعيد ( إشارة إلى النفخ والمضاف محذوف أي وقت النفخ الثاني آن زمان الوعيد .
والسائق والشاهد ملكان ، أحدهما يسوقه إلى المحشر أو إلى الجنة أو النار كما قال ) وسيق ( والآخر يشهد عله بأعماله ونيجوز أن يكون ملكاً واحداً جامعاً بين الأمرين .
ويجوز أن يكون الرقيب المذكور والجملة حال من كل لأنه لعمومه كالمعرفة .
ثم يقال للإنسان .
) لقد كنت ( في الدنيا ) في غفلة من هذا ( الأمر ) فكشفنا عنك ( بقطع العلائق الحسية ومفارقة النفس الناطقة ) غطاءك ( وهو الاشتغال بعالم المحسوسات ) فبصرك اليوم حديد ( غير كليل متيقظ غير نائم .
وقال ابن زيد : الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كقوله ) ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) [ الشورى : 52 ] أي كنت(6/175)
" صفحة رقم 176 "
قبل الوحي في غفلة من هذا العلم .
ثم بين أن الشيطان الذي هو قرين كل فاجر لقوله ) ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطان ) [ الزخرف : 36 ] يقول لأهل المحشر أو لسائر القرناء قد أعتدت قريني لجهنم وهيأته لها .
إن جعلت ( ما ) موصوفة ف ) عتيد ( صفة لها وإن جعلتها موصولة ف ) عتيد ( بدل أو خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف .
ويحتمل أن يقول الشيطان لقرينه هذا البلاء النازل بك مما أعددته لك ) ألقيا ( خطاب من الله للملكين السائق والشهيد أو للواحد على عادة قول العرب ( خليلي ) و ( قفا ) وذلك أن أكثر الرفقاء يكون ثلاثة .
وقال المبرد : التثنية للتأكيد كأنه قيل : ألق ألق .
نزلت تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل لاتحادهما. وجوز أن يكون الألف بدلاً من نون التأكيد الخفيفة إجراء للوصل مجرى الوقف يؤيده قراءة الحسن ) ألقين ( ) عنيد ( ذي عناد أو معاند ) مناع للخير ( كثير المنع للمال عن حقوقه أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله .
وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة كان يمنع بني أخيه من افسلام وكان يقول : من دخل منكم في الإسلام لم أنفعه بخير ما عشت ) معتد ( ظالم ) مريب ( مشكك أو شاك في دين الله .
قوله ) قال قرينه ( جاء على طريقة الاستئناف بخلاف ما تقدّم فإنه جاء على طريق العطف كأن قرينه - وهو الفاجر - قال : يا رب إنه أطغاني فأجاب القرين وهو الشيطان ) ربنا ما أطغيته ( ما أوقعته في الطغيان ) ولكن كان ( في الأزل ) في ضلال بعيد ( وقالت المعتزلة : ولكنه اختار الضلالة على الهدى .
ثم ذكر كلاماً آخر مستأنفاً كأن سائلاً سأل فماذا قال الله ؟ فقيل : ( قال لا تختضموا ( وهذا هو الذي دل على أن ثمة مقاولة من الكافر لكنها طويت لدلالة الاختصام عليها والمعنى لا تختصموا في موقف الحساب ) و ( الحال أني ) قد قدمت إليكم ( وفيه أن اختصامهم كان يجب أن يكون قبل ذلك في الدنيا كما قال ) إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدوّاً ) [ فاطر : 6 ] والباء في ) بالوعيد ( إما مزيدة أو للعتدية على أن قدّم بمعنى تقدّم أو هو حال والمفعول جملة .
قوله ) ما يبدّل ( إلى آخره .
أي قدّمت إلأيكم هذا الكلام مقروناً بالوعيد .
قال في الكشاف : فإن قلت : إن قوله ) وقد قدّمت ( حال من ضمير ) لا تختصموا ( فاجتماعهما في زمان واحد واجب وليس كذلك لأن التقديم في الدنيا والاختصام في الآخرة .
قلت : معناه لا تختصموا وقد صح عندكم أني قدّمت إليكم بالوعيد وصحة ذلك عندهم في الآخرة .
وأقول : لا حاجة إلى هذا التكلف والسؤال ساقط بدونه لأن مضيّ الماضي ثابت في أيّ حال فرض بعده .
وقوله ( لدي ( إما أن يتعلق بالقول أي ما يبدّل القول الذي هو لديّ يعني ألقيا في جهنم ، أو لأملأن جهنم ، أو الحكم الأزلي(6/176)
" صفحة رقم 177 "
بالسعادة والشقاوة .
وإما أنيتعلق بقوله ) ما يبدّل ( أي لا يقع التبديل عندي .
والمعاني كما مرت .
ويجوز أن يراد لا يكذب لديّ ولا يفتري بين يديّ فإني عالم بمن طغى وبمن أطغى .
ويحتمل أن يراد لا تبديل للكفر بالإيمان فإن إيمان اليأس غير مقبول .
فقولكم ( ربنا وإلهنا ) لا يفيدكم ) يوم نقول ( منصوب ب ) ظلام ( أو ب ( أذكر ) قال أهل المعاني : سؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تقرير المعنى في النفس .
وقوله ( هل من مزيد ( أي من زيادة ، أو هو اسم مفعول كالمبيع ليبان استكثار الداخلين كما أن من يضرب غيره ضرباً مبرحاً أو شتمه شتماً فاحشاً يقول له المضروب : هل بقي شيء آخر يدل عليه قوله سبحانه ) لأملأن جهنم ( فلا بدّ أن يحصل الامتلاء فكيف يبقى في جهنم موضع خال حتى تطلب المزيد ؟ ويحتمل أنها تطلب الزيادة بعد امتلائها غيظاً على العصاة وتضيقاً للمكان عليهم ، أو لعل هذا الكلام يقع قبل إدخال الكل .
وفيه لطيفة وهي أن جهنم تغيظ على الكفار فتطلبهم ، ثم يبقى فيها موضع لعصاة المسلمين فتطلب الامتلاء من الكفار كيلا ينقص إيمان العاصي حرها ، فإذا أدخل العصاة النار سكن غيظها وسكن غضبها وعند هذا يصح ما ورد في الأخبار ، وإن جهنم تطلب الزيادة حتى يضع الجبار فيها قدمه والمؤمن جبار يتكبر على ما سوى الله تعالى ذليل متواضع لله .
وروي أنه لا يلقى فيها فوج إلا ذهب ولا يملؤها شيء فتقول : قد أقسمت لتملأني فيضع تعالى فيها قدمه أي ما قدّمه في قوله ( سبقت رحمتي غضبي ) أي يضع رحمته فتقول : قط قط ويزوي بعضها إلى بعض ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله خلقاً فيسكنون فضول الجنة .
قلت : لا ريب أن جهنم الحرص والشهوة والغضب لا تقر ولا تسكن ولا تنتهي إلى حدّ معلوم ، بل تقول دائماً بلسان الحال هل من مزيد إلا أن يفيض الله سبحانه عليها من سجال هدايته ورحمته فيتنبه صاحبها وينتهي عن طلب الفضول ويقف في حدّ معين وينقنع بما تيسر ، وكذا الترقي في مدارج الكمالات ليس ينتهي إلى حدّ معلوم إلا إذا استغرق في بحر العرفان وكان هنالك ما كان كما قال ) وأزلفت الجنة للمتقين ( أي قربت للمتقين يحتمل أن تكون الواو للاسئناف وأن تكون للعطف على ) نقول ( والمضي لتحقيق الوقوع المستدعي لمزيد البشارة ولم يكن المنذرون مذكورين في الآية المتقدّمة فلم يحتج إلى تحقيق الإنذار .
وقوله ( غير بعيد ( نصب على الظرف أي مكاناً غير بعيد عنهم ، أو على الحال .
ووجه تذكيره مع(6/177)
" صفحة رقم 178 "
تأنيث ذي الحال كما تقرر في قوله ) إن رحمة الله قريب ) [ الأعراف : 56 ] أنه على زنة المصدر كالزفير والصهيل ، أو هو على حذف الموصوف أي شيئاً غير بعيد .
قال جار الله : معناه التوكيد كما تقول هو قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل ، وذلك أنه يجوز أن يتناول العزيز ذلّ ما من بعض الوجوه إلا أن الغالب عليه العز فإذا قيل عزيز غير ذليل أزيل ذلك الوهم ، وهكذا في كل تأكيد .
فمعنى الآية أن الجنة قريب منهم بكل الوجوه وجميع المقايسات .
وقال آخرون : إنه صفة مصدر محذوف أي إزلافاً غير بعيد عن قدرتنا ، وذلك إن المكان لا يقرب وإنما يقرب منه فذكر الله سبحانه إن إزلاف المكان ليس ببعيد عن قدرتنا بطيّ المسافة وغير ذلك ، ويحتمل أن يقال : الإزلاف بمعنى قرب الحصول كمن يطلب من الملك أمراً خطيراً فيقول الملك بعيد عن ذلك أو قريب منه ، ولا ريب أن الجنة بعيدة الحصول للمكلف لولا فضل الله ورحمته ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما من عبد يدخل الجنة إلا بفضل الله .
فقيل : ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ) وقوله ( غير بعيد ( يراد به القرب المكاني كأنه تعالى ينقل الجنة من السماء إلى الأرض فيحصل فيها المؤمن .
ومما سنح لهذا الضعيف وقت كتبه تفسير هذه الآية أن الشيء ربما يقرب من شخص ولكن لا يوهب منه ، وقد يملكه ولكن لا يكون قريباً منه فذكر الله سبحانه في الآية إن الجنة تقرب لأجل المتقين غير بعيد الحصول لهم بل كما قربت دخلوها وحصلوا فيها لا كما قيل :
على أن قرب الدار ليس بنافع
إذا كان من تهواه ليس بذي ود
وفي المثل البعيد القريب خير من القريب البعيد وذلك لأنهم حصلوا استعداد دخول الجنة وهو التقوى بخلاف الفاجر فإنه لا ينفعه القرب من الجنة لأن ملكاته الذميمة تحول بينه وبينها ، ولك أن تبشه حالهما بحال الكبريت الجيد والحطب الرطب إذا قربا من الجمر ، وذلك أن تعتبر هذه الحالة في الدنيا فإن أهل الصلاح وأرباب النفوس المطمئنة يقبلون بل يستقبلون كل خير يعرض عليهم ، وأهل الشقاوة وأصحاب النفوس الأمارة يكون حالهم بالعكس يفرون من الخيرات والكمالات ويألفون الشرور واللذات الزائلات .
ووجه آخر وهو أن الجنة قربت لهم حال كون كل واحد منهم غير بعيد عن لقاء الله ورضاه ، وفيه أن المتقين هم أهل الله وخاصته ليسوا بمن شغلوا بالجنة عن الاستغراق في لجة العرفان بل(6/178)
" صفحة رقم 179 "
لهم مع النعيم المقيم لقاء الرب الكريم. قوله عز من قائل ) هذا ما توعدون ( قا لجار الله : إنه جملة معترضة .
وقوله ( لكل أوّاب حفيظ ( بدل من قوله ) للمتقين ( قلت : ولو جعل خبراً ثانياً لهذا لم يبعد .
والمشار إليه الثواب أو الإزلاف .
والأوّاب الرجاع إلى الله بالإعراض عما سواه ، والحفيظ الحافظ لحدود اللهأو لأوقات عمره أو لما يجده من المقامات والأحوال فلا ينكص على عقبيه فيصير حينئذ مريداً لطريقه .
قوله ) من خشي ( قد مر وجوه إعرابه في الوقوف .
وجوز أن يكون منادي كقولهم ( من لا يزال محسناً أحسن إليّ ) وحذف حرف النداء للتقريب والترحيب ، وقرن بالخشية اسمه الدال على وفور الرحمة للثناء على الخاشي من جهة الخشية أوّلاً ومن جهة خشيته مع علمه بسعة جوده ورحمته ومن جهة الخشية مع الغيب وقد مر مراراً ، وقد يقال : إنها الخشية في الخلوة حيث لا يراه أحد .
قال أهل الاشتقاق : إن تركيب خ ش ى يلزمها الهيبة ومنه للسيد ولكبير السن وتركيب الخوف يدل على الضعف ومنه الخفاء ، وكل موضع ذكر فيه الخشية أريد بها معنى عظمة المخشي عنه ، وكل موضع ذكر فيه الخوف فإنه أريد ضعف الخائف كقوله ) يخافون ربهم من فوقهم ) [ النحل : 50 ] أو ضعف المخوف منه كقوله ) لا تخف ولا تحزن ) [ العنكبوت : 33 ] يريد أنه لا عظمة لهم وقال ) إنا نخاف من ربنا يوماً ) [ الإنسان : 10 ] لأن عظمة اليوم بالنسبة إلى عظمة الله هينة .
ووصف القلب بالمنيب باعتبار صاحبه أو لأن الإنابة المعتبرة هي الرجوع إلى الله بالقلب لا اللسان والجوارح ) ادخلوها بسلام ( أي سالمين من الآفات أو مع سلام من الله وملائكته ) ذلك ( إشارة إلى قوله ) يوم نقول ( أي ذلك اليوم ) يوم ( تقدير ) الخلود ( في النار أو في الجنة ويجوز أن يكون إشارة إلى وقت القول أي حين يقال لهم ادخلوها هو وقت تقدير الخلود في الجنة يؤيده قوله بعده ) لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد ( مما لم يخطر بالقلوب .
ويجوز أن يراد به الذي ذكر في قوله ) للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ يونس : 26 ] ويروى أن السحاب تمر بأهل الجنة فتمطر عليهم الحور فتقول الحور : نحن المزيد الذي قال الله تعالى ) ولدينا مزيد ( ثم عاد إلى التهديد بوجه أجمل وأشمل قائلاً ) وكم أهلكنا ( الآية .
ومعنى الفاء في قوله ) فنقبوا ( للتسبيب عما قبله من الموت كقوله ( هو أقوى من زيد فغلبه ) أي شدّة بطشم أقدرتهم على التنقيب وأورثتهم ذلك وساروا في أقطار الأرض وسألوا ) هل من محيص ( أي مهرب من عذاب الله فعلموا أن لا مفر ) إن في ذلك ( الذي ذكر من أوّل السورة إلى ههنا أو من حديث النار والجنة أو من إهلاك الأمم الخالية ) لذكرى لم كان له قلب ( واع فإن الغافل في حكم عديم القلب وإلقاء السمع الإصغاء إلى الكلام وفي قوله ) وهو شهيد ((6/179)
" صفحة رقم 180 "
إشارة إلى أن مجرد الإصغاء لا يفيد ما لم يكن المصغي حاضراً بفطنته وذهنه .
وفي الآية ترتيب حسن لأنه إن كان ذا قلب ذكيّ يستخرج المعاني بتدبره وفكره فذاك وإلا فلا بد أن يكون مستمعاً مصغياً إلى كلام المنذر ليحصل له التذكير .
قال المفسرون : زعمت اليهود إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ، أوّلها الأحد وآخرها الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش فردّ الله عيلهم بقوله ) ولقد خلقنا ( إلى قوله ) وما مسنا من لغوب ( أي إعياء .
ثم سلى رسوله فأمره بالصبر على أذى الكفار .
وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى مع كمال قدرته واستغنائه صبر على أذى الجهلة الذين نسبوه إلى اللغوب والاحتياج إلى الاستراحة ، فكيف لا يصبر رسوله على إيذاء أمته ؟ بل كيف لا يصبر أحدنا على أذى أمثالنا وخاصة إن كانوا مسلطين علينا ؟ اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا وادفع عنا بقدرتك شر كل ذي شر واغوثاه واغوثاه واغوثاه .
وقد سبق نظير الآية في آخر ( طه ) ودلالتها على الصلوات الخمس ظاهرة ) وأدبار السجود ( أعقاب الصلوات فإن السجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة ، والأظهر أنه الأدعية والأذكار المشتملة على تنزيه الله تعالى وتقديسه .
قيل : النوافل بعد المكتوبات .
وعن ابن عباس : هو الوتر بعد العشاء ومن قرأ بكسر الهمزة أراد انقضاء الصلاة وإتمامها وهو مصدر وقع موقع الظرف أي وقت انقضاء السجود كقولك ( آتيك خفوق النجم ) قال أهل النظم : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) له شغلان : أحدهما عبادة الله ، والثاني هداية الخلق .
فإذا هداهم ولم يهتدوا قيل له : اصبر واقبل على شغلك الآخر وهو العبادة. ثم بين غاية التسبيح بقوله ) واستمع ( يعني اشتغل بتنزيه الله وانتظر المنادي كقوله ) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [ الحجر : 99 ] ومفعول ) استمع ( متروك أي كن مستمعاً لما أخبرك به من أهوال القيامة ولا تكن مثل هؤلاء المعرضين .
قال جار الله : وفي ترك المفعول وتقديم الأمر بالاستماع تعظيم لشأن المخبر به والمحدّث عنه كما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل : يا معاذ اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك. وانتصب ) يوم ينادي ( بما دل عليه ذلك يوم الخروج أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور .
والمنادي قيل الله كقوله ) ويوم يناديهم فيقول أين شركائي ) [ القصص : 32 ] ( أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم ) [ الصافات : 22 ] والأظهر أنه إسرافيل صاحب الصيحة ينفخ في الصور فينادي أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء .
وقيل : إسرافيل ينفخ وجبرائيل ينادي بالحشر .
والمكان القريب صخرة بيت المقدس .
يقال إنها أقرب إلى السماء باثني عشر ميلاً .
وقيل : من تحت أقدامهم وقيل : من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة أيتها العظام البالية وهذا يؤيد القول بأن(6/180)
" صفحة رقم 181 "
المنادي هو الله لقوله ) ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ( والصيحة النفخة الثانية كما قال ) إن كانت إلأا صحية واحدة فإذا هم جميع ) [ يس : 53 ] وقوله ( بالحق ( متعلق بالصيحة والمراد به البعث للجزاء أي بسبب الحق الذي هو البعث .
ويجوز أن يتعلق بالسماع أي أي يسمعونها باليقين .
وقيل : الباء للقسم أي بالله الحق .
قوله ) سراعاً ( حال من المجرور أي ينكشف عنهم مسرعين ) ذلك ( الشق أو الحشر ) حشر علينا يسير ( لا على غيرنا وهو ردّ على قولهم ) ذلك رجع بعيد ( ) نحن أعلم بما يقولون ( أي من المطاعن والإنكار وفيه تهديد لهم وتسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وما أنت عليهم بجبار ( أي بمسلط حتى تقسرهم على الإيمان وإنما أنت داع .
ولعل في تقديم الظرف إشارة إلى أنه كالمسلط على المؤمنين ولهذا وقع إيمانهم وهذا مما يقوّي طرف المجبرة .
وقيل : أراد إنك رؤوف رحيم بهم لست فظاً غيظاً .
والأول أولى بدليل قوله ) فذكر ( إلى آخر أي اترك هؤلاء وأقبل على دعوة من ينتفع بتذكيرك والله أعلم .
تم الجزء السادس والعشرون ويليه الجزء السابع والعشرون أوله تفسير سورة الذاريات .(6/181)
" صفحة رقم 182 "
سورة الذاريات
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء السابع والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
( سورة الذاريات وهي مكية وحروفها ألف ومائتان وستة وثمانون كلمها ثلثمائة وسبعون آياتها ستون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الذاريات : ( 1 - 60 ) والذاريات ذروا
" والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسألون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلاها(6/182)
" صفحة رقم 183 "
آخر إني لكم منه نذير مبين كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فتول عنهم فما أنت بملوم وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون "
( القراآت )
والذاريات ذرواً ( بإدغام التاء في الذال : حمزة وأبو عمرو ) ومثل ما ( بالضم : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص .
الباقون : ( مثل ( بالفتح على البناء لإضافته إلى غير متمكن ، أو على أنه لحق حقاً مثل نطقكم ) سلم ( بكسر السين وسكون اللام : حمزة علي وخلف والمفضل ) والصعقة ( بسكون العين للمرة : علي ) ، قوم نوح ( بالجر : أبو عمرو وعلي وخلف .
الوقوف : ( ذرواً ( ط ) وقراً ( ه لا ) يسراً ( ه لا ) أمراً ( ه ط ) لصادق ( ه لا ) لواقع ( ه ) الحبك ( ه لا ) مختلف ( ه لا ) أفك ( ه ط ) الخراصون ( ه لا ) ساهون ( ه لا لأن ) يسألون ( صلة بعد صلة ، ) الدين ( ه ط بناء على أن عامل يوم منتظر أي يقال لهم ذوقوا ) يفتنون ( ه ) فتنتكم ( ط ) تستعجلون ( ه ) وعيون ( ه لا ) ربهم ( ط ) محسنين ( ه ط ) يهجعون ( ه ) يستغفرون ( ه ) والمحروم ( ه ) للموقنين ( ه ط للعطف ) أنفسكم ( ط ) تبصرون ( ه ) توعدون ( ه ) تنطقون ( ه ) المكرمين ( ه لأن عامل ( إذ ) محذوف وهو ( اذكر ) ولو وصل لأوهم أنه ظرف للإتيان ) سلاماً ( ط ) سلام ( ج ) لحق ( المحذوف مع اتحاد القائل أي أنتم قوم ) منكرون ( ه ) سمين ( ه لا للعطف ) تأكلون ( ه للآية مع العطف ) خيفة ( ط ) لا تخف ( ه ) عليم ( ه ) عقيم ( ه ) كذلك ( لا للتعلق بما بعده ) ربك ( ط ) العليم ( ه ) المرسلون ( ه ) مجرمين ( ه ) طين ( ه ) للمفسرين ( ه ) المؤمنين ( ه ج للآية مع العطف بالفاء واتصال المعنى ) المسلمين ( ه ط كذلك ) الأليم ( ه لتناهي القصة وحكم العربية ولوصل للعطف على قوله ) وفي الأرض آيات ( ) مبين ( ه ) مجنون ( ه ) مليم ( ه كما مر ) العقيم ( ه ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال أي غير تاركته ) كالرميم ( ه ) ين ( ه ) ينظرون ( ه ) منتصرين ( ه لا على القراءتين فيما بعده للعطف أي وفي قوم نوح أو وأخذنا قوم نوح ولو قدر واذكر قوم نوح فالوقف ) قبل ( ج ) فاسقين ( ه ) لموسعون ( ه ) الماهدون ( ه ) تذكرون ( ه ) إلى الله ( ط ) مبين ( ه للآية مع العطف ) آخر ( ط ) مبين ( ه ) أو(6/183)
" صفحة رقم 184 "
مجنون ( أتواصوا به ( ج لأن ( بل ) للإضراب معنى مع العطف لفظاً ) طاغون ( ه ) بملوم ( ه لا للآية مع اتفاق الجملتين ) المؤمنين ( ه ) ليعبدون ( ه ) يطعمون ( ه ) المتين ( ه ) يستعجلون ( ه ) يوعدون ( ه التفسير : لما بين في آخر السورة أنهم بعد إيراد البراهين الساطعة عليهم مصرون على إنكار الحشر ، ولهذا سلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار ) [ ق : 45 ] لم يبق إلا توكيد الدعوى بالإيمان فلذلك افتتح بذلك .
عن علي كرم الله وجهه أنه قال علىالمنبر : سلوني قبل أن تفقدوني وإن لا تسألوني لا تسألوا بعدي مثلي .
فقال ابن الكواء فقال : ما الذاريات ؟ قال : الرياح .
وقد مر في الكهف في قوله ) تذروه الرياح ) [ الآية : 45 ] قال : فالحاملات وقراً ؟ قال رضي الله عنه : السحاب لأنها تحمل المطر .
واإنما لم يقل أوقاراً باعتبار جنس المطر وهو واحد .
قال : فالجاريات يسراً ؟ قال رضي الله عنه : الفلك والمراد جريان اليسر .
قال : فالمقسمات أمراً ؟ قال رضي الله عنه : الملائكة لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها ، أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك فيكون مصدراً في موضع الحال .
ومعنى الفاء فيها ظاهر لأنه تعالى أقسم بالرياح فبالسحاب الذي تسوقه فبالفلك التي تجريها بهبوباتها كأن ماء البحر أو مدده من السحاب فلذلك أخر .
ثم أقسم بالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر .
وقيل : إن الأوصاف الأربعة كلها للرياح لأنها تذروا التراب وغيره أولاً ، ثم تنشىء السحاب وتحمله ولا ريب أن السحاب حمل ثقيل ولا سيما إذا كان فيه مطر ثم تجري - أعني الرياح - في الجو جرياً سهلاً في نفسها أي لا يصعب عليها الجري أو بالنسبة إلينا بخلاف الصرصر والعاصف ونحوها فتبسط السحاب في السماء ثم تقسم الأمطار في الأقطار بتصريف السحاب ، وقد روعي في ذكر وهذه الأوصاف لطيفة فإن الحشر يتم إمكانه بها لأن أجزاء بدن المكلف إن كانت ي الأرض فتميز الريح بينهما بالذرو ، وإن كانت في الهواء فتحملها بالنقل ، وإن كانت في البحر فتخرجها بإنشاء السحاب منها إذ الذي قدر على إجراء السفن في البحار يقدر على إخراج تلك الأجزاء منها إلى البر .
وبعد ذلك تقسم الملائكة أرواح الخلائق على أجسادها بإذن الله تعالى .
وقيل : المقسمات الكواكب السبعة .
وجواب القسم ) إن ما توعدون ( و ( ما ) مصدرية أو موصولة ) لصادق ( في نفسه كما يقال ( خبر صادق ) أو ( ذو صدق ) كعيشة راضية .
ثم صرح بالموعود قائلاً ) وإن الدين ( أي الجزاء ) لواقع ( أي حاصل وحين أقسم على صدق موعوده أقسم على جهلهم وعنادهم ، والحبك الطرائق كطرائق الرمل ، والماء إذا ضربته الريح ويقال : إن(6/184)
" صفحة رقم 185 "
خلفة السماء كذلك واحداه حباك ، وقال الحسن : حبكها نجومها لأنها تزيناه كما تزين الموشيّ يكون بطرائق الوشي .
وقيل : حبكها صفاقتها وإحكامها يقال للثوب الصفيق ( ما أحسن حبكه ) .
وعلى القول الأول يكون بين القسم والمقسم عليه مناسبة لأن القول المخلتف له أيضاً طرائق ، قال الضحاك : قول الكفرة لا يكون مستوياً وإنما هو متناقض مختلف ولهذا قالوا للرسول شاعر مجنون ، وللقرآن مثل ذلك ، وعن قتادة : أراد منكم مصدّق ومكذب ومقر ومنكر .
والضمير في ) يؤفك عنه ( للقرآن أو النبي أي يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا صرف بعده لأنه غاية ونهاية .
ويمكن أن يقال : يصرف عنه من صرف في سابق علم الله ، ويجوز أن يكون الضمير للموعود أقسم بالذاريات وغيرها أن وقوعه حق ، ثم أقسم بالسماء أنهم مختلفون في وقوعه يؤفك عن الإقرار به من هو عديم الاستعداد ، مغمور في الجهل والعناد .
وجوّز جار الله أن يرجع الضمير إلى ) قول مختلف ( ويكون ( عن ) كما قوله
ينهون عن أكل وعن شرب
أي يتناهون في السمن من كثرة الأكل والشرب وحقيقته يصدر تناهيهم في السمن من الأكل والشرب وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف .
ثم دعا عليهم بقوله ) قتل الخرّاصون ( أي الكذابون المقدرون ما لا يصح وهم المعهودون وأعم فيشملهم شمولاً أولياً .
ولا يراد بهذا الدعاء وقوع القتل بعينه بل اللعن وما يوجب الهلاك بأي وجه كان .
وقد لا يراد إلا تقبيح حال المدعو كقوله ) قتل الإنسان ما أكفره ( والغمة كل ما يغمر الإنسان أي إنهم في جهل يغمرهم غافلون عما أمروا به ) أيان يوم الدين ( أي متى وقوعه ؟ ثم أجاب بقوله ) يوم هم ( أي يقع في ذلك اليوم .
ومعنى ) يفتنون ( يحرقون ويعذبون ثم وبخهم وتهكم بهم قائلاً ) ذوقوا ( إلى آخره .
وحين حكى حال الفاجر الشقي أراد أن يبين حال المؤمن التقي فقال ) إن المتقين في جنات وعيون ( أي في جنات فيه عيون حال كونهم ) آخذين ما آتاهم ربهم ( قال جار الله : قابلين لكل ما أعطاهم راضين به لا كمن يأخذ شيئاً على سخط وكراهية .
وقال غيره : أراد أنهم يأخذونه شيئاً فشيئاً ولا يستوفون ذلك بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له .
وقيل : الأخذ بمعنى التملك يقال : بكم أخذت هذا كأنهم اشتروها بأنفسهم وأموالهم .
قال : إن فيض الله تعالى لا ينقطع أصلاً وإنما يصل إلى كل مكلف بقدر ما استعد له ، فكلما ازداد قبولاً ازداد تأثراً من الفيض والأخذ في هذا المقام لعله إشارة إلى كمال قبولهم للفيوض الألهية ، وذلك لما أسلفوا من حسن العبادة ووفور الطاعة ولهذا علله بقوله ) إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ( أي في الدنيا وظهر عليهم(6/185)
" صفحة رقم 186 "
بعد قطع التعلق آثار الإحسان ونتيجة .
وقوله ( ما آتاهم ( على المضي لتحقق الإيتاء مثل ) ونادى ) [ الأعراف : 38 ] ( وسيق ) [ الزمر : 72 ] وقال أهل العرفان : ما آتاهم في الأزل يأخذون نتائجه في الأبد .
ثم فسر إحسانهم بقوله ) كانوا قليلاً من الليل يهجعون ( ( ما ) صل أي كانوا ينامون في طائفة قليلة من الليل أو يهجعون هجوعاً قليلاً .
وجوز أن تكون ما مصدرية أو موصولة وارتفع ( ما ) مع الفعل على أنه فاعل قليلاً من الليل هجوعهم أو الذي يهجعون فيه .
وفيه أصناف ن المبالغة من جهة لفظ الهجوع وهو النوم اليسير ، ومن جهة لفظ القلة ، ومن جهة التقييد بالليل لأنه وقت الاستراحة فقلة النوم فيه أغرب منها في النهار ، ومن جهة ما المزيدة على قول .
ولا يجوز أن تكون ( ما ) نافية لان ما بعدها لا يعمل فيما قبلها .
وصفهم بأنهم يحيون أكثر الليل متهجدين فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار وكأنهم باتوا في معصية الملك الجبار وهذا سيرة الكريم يأتي بأبلغ ووه الكرم .
ثم يستقله ويعتذر ، واللئيم بالعكس يأتي بأقل شيء ثم يمن به ويستكثر ومثله المطيع يأتي بغاية مجهده من الخدمة ثم ينسب نفسه إلى التقصير فيستغفر .
ويمكن أن يقال : إنهم يستغفرون وكأنهم باتوا في معصية الملك الجبار .
وهذا سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم .
ثم يستقله ويعتذر ، واللئيم بالعكس يأتي بأقل شيء ثم يمن به ويستكثر .
ومثله المطيع يأتي بغاية مجهوده من الخدمة ثم ينسب نفسه إلى التقصير فيستغفر .
ويمكن أن يقال : إنهم يستغفرون من الهجوع كأنهم أرادوا أن يقوموا على إحياء الليل كله .
ويجوز أن يكون الاستغفار بمعنى الصلاة لقوله بعده ) في أموالهم حق ( فيكون كقوله ) يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ) [ البقرة : 3 ] ووجه أغرب وهو أن يكون السين في استغفر مثله في استحصد الزرع أي حان ان يحصد فكأن وقت السحر وهو الأولى بحصول المغفرة .
قال جار الله : في قوله ) هم يستغفرون ( إشارة إلى أنهم هو المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرين .
وقيل : إبراز الضمير لدفع وهم من يظن أن التقدير وبالأسحار قليلاً يستغفرون على قياس الفعل السابق .
وحيث ذكر جدهم في التعظيم لأمر الله أردفه بذكر شفقتهم على خلق الله .
والمشهور في الحق أنه القدر الذي علم إخراجه من المال شرعاً وهو الزكاة قيل : إنه على هذا لم يكن صفة مدح لأن كل مسلم كذلك بل كل كافر وذلك إذا قلنا إنه مخاطب بالفروع إلا أنه إذا علم سقط عنه .
وأجيب بأن السائل من له الطلب شرعاً .
والمحروم من الحرمة وهو الذي منع الطلب فكأنه قيل : في أموالهم حق للطالب - وهو الزكاة - ولغير الطالب وهو الصدقة المتطوع بها التي تتعلق بفرض صاحب المال وإقراره وليس عليه فيها مطالبة .
ويمكن أن المال حقاً معلوماً وإن لم يوجبه الشرع .
وفي السائل والمحروم وجوه أحدها ما مر .
الثاني السائل هو الناطق والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوان كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لكل كبد حرى(6/186)
" صفحة رقم 187 "
أجر ) الثالث وهو الأظهر أن السائل هو الذي يستجدي والمرحوم الذي يحسب غنياً فيحرم الصدقة لتعففه قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان والتمرة والتمرتان قالوا : فام هو قال : الذي لا يجد ولا يتصدق عليه ) وتقديم السائل على ترتيب الواقع لأنه يعرف حاله بمقاله فيسد خلته ، وأما المحروم فلا تندفع حاجته إلا بعد الاستكشاف والبحث .
وقيل : المحروم الذي لا يمنى له مال .
وقيل : هو المنقوص الحظ الذي لا يكاد يكسب .
ثم أكد وقوع الحشر والدلالة على قدرته بقوله ) وفي الأرض آيات ( كقوله ) ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ( إلى قوله ) إن الذي أحياها لمحي الموتى [ فصلت : 39 ] ومن عجائب الأرض ما هي في جرمها من الاستدارة والألوان المختلفة وطبقاتها المتباينة ، ومنها ما عليها وفيها من الجبال والمواليد الثلاثة ، ومنها ما هي واردة عليها من فوقها كالمطر وغيره .
وخص الآيات الأرضية بالذكر لقربها من الحواس ، وخص كونها آيات بالمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بذلك ، ومن لم يتأمل في المصنوعات لم يزد يقينه بالصانع .
ثم استدل بالأنفس فقال ) وفي أنفسكم ( آيات .
وذلك أن الإنسان عالم صغير فيه تشابه من العالم الكبير وقد مر تقرير ذلك مراراً .
وقيل : هي الأرواح أي وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات .
قال أهل النظم : هذه الآية مؤكدة لما قبلها فإن من وقف على هذه الآيات الباهرة تبين له جلال الله وعظمته فيتقيه ويعبده ويستغفره من تقصيره ولا يهجع إلا قليلاً ، وهكذا من عرف أن رزقه في السماء لم يبخل بماله ويعطيه السائل والمحروم .
وعن الحسن أنه كان إذا رأة السحاب قال لأصحابه : فيه رزقكم يعني المطر ولكنكم تحرمونه ) وما توعدون ( هي الجنة فوق السماء السابعة وتحت العرش .
وقيل : إن أرزاقكم في الدنيا وما توعدون في العقبة كلها مقدرة مكتوبة في السماء .
ثم أنتج من الأخبار السالفة من أول السورة إلى ههنا حقيقة القرآن أو النبي أو الموعود ، وأقسم عليه برب السماء الأرض ترقياً من الأدنى وهي المربوبات كالذرايات وغيرها إلى الرب تعالى .
و ( ما ) مزيدة بنص الخليل حكاه جار الله يقال في الأمر الظاهر غاية الظهور أن هذا الحق أنك ترى(6/187)
" صفحة رقم 188 "
وتسمع مثل ما أنك ههنا .
قال الأصمعي : أقبلت خارجاً من البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال : من الرجل ؟ قلت : منت بني أصمع .
قال : من أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن .
فقال : اتل علي فتلوت ) والذاريات ( فلما بلغت قوله ) وفي السماء رزقكم ( فقال : حسبك .
فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على الناس وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى .
فلام حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ لاسورة ، فلما بلغت الآية صاح وقال : وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ثم قال : فهل غير هذا ؟ فقرأت ) فورب السماء والأرض إنه لحق ( فصاح فقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله تى ألجؤه إلى اليمين قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه .
ثم سلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بقصة إبراهيم وغيرها قد مرت في ( هود ) و ( الحجر ) وفي قوله ) هل أتاك ( تفخيم لشأن الحديث .
والضيف واحد .
وجمع المكرمون إما باعتبار إكرامه إياهم حتى خدمهم بنفسه وبامرأته ، أو لأنهم أهل الإكرام عند الله كقوله ) بل عباد مكرمون ) [ الأنبياء : 26 ] وجوز أن يكون نصب ) إذا جخلوا ( بالمكرمين إذا فسر بإكرام إبراهيم أو بما في ضيف من معنى الفعل .
قال المفسرون : أنكرهم للسلام الذي هو علم افسلام أو أراد تعرف حالهم لأنهم لم يكونوا من معارفه ) فراغ إلى أهله ( فذهب إليهم في خفية من ضيوفه وهو نوع أدب للمضيف كيلا يستحيوا منه ولا يبادروا بالاعتذار والمنع من الضيافة .
وفي قوله ) فقربه إليهم ( دلالة على أن نقل الطعام إلى الضيف أولى من العكس لئلا يتشوش المكان عليهم .
) قال ألا تأكلون ( سلوك لطريقة الاستئناف ولهذا حذف الفاء خلاف ما في ( الصافات ) وقد مر .
والاستفهام لإنكار ترك الأكل أو للحث عليه ) فأوجس ( فأضمر وقد تقدم سائر الأبحاث في ( هود ) وفي ( الصافات ) واعلم أنه سبحانه ذكر في ( هود ) أنه لما رأيى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وقال ههنا ) سلام قوم منكرون ( ولا تنافي بين الحديثين لأنه أنكرهم أولاً بالسلام الذي لم يكن من عادة تلك الشريعة ، ثم زاد إنكاره حين رآهم لا يأكلون الطعام فذكر أحد اإنكارين في تلك السورة والآخر في هذه .
قوله ) فأقبلت امرأته في صرة ( أي في صيحة ومنه صرير القلم .
قال الحسن : كانت في زاوية تنظر إليهم فوجدت حرارة الدم فأقبلت إلى بيتها صارة فلطمت وجهها من الحياء والتعجب كعادة النسوان ) وقالت ( أنا ) عجوز ( فأجابت الملائكة ) كذلك ( أي مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به ) قال ربك ( فلا تستبعدي .
وروي أن جبرائيل قال لها : انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة فحينئذ أحس إبراهيم صلوات الرحمن عليه بأنهم ملائكة ) قال فما خطبكم ((6/188)
" صفحة رقم 189 "
شأنكم وطلبكم ؟ فأجابوا بأنهم أ رسلوا إلى قوم لوط ليرسلوا عليهم السجيل كما قصصنا في ( هود ) والضمير في قوله ) فيها ( للقرية وإن لم يجر لها ذكر لأنه معلوم ، قالت المعتزلة : في ألاية دلالة على أن الإيمان والإسلام واحد .
وقال غيرهم : المسلم أعم من المؤمن وإطلاق العام على الخاص مما لا منع فيه ولا يدل على اتحادهما وهذا كقوله القائل من في البيت من الناس ؟ فيقول له : ما في البيت من الحيوانأحد غير زيد .
فيكون مخبراً له بخلو البيت عن كل إنسان غير زيد .
وقوله ( وتركنا فيها آية ( كقوله في ( العنكبوت ) ) ولقد تركنا منها آية بينة ) [ الآية : 35 ] أي علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم وهي الحجارة المسومة أو ماء اسود .
قوله ) وفي موسى ( قيل : الأقرب أن يكون معطوفاً على قوله ) وتركنا فيها ( أي وجعلنا في موسى آية .
قال جار الله : هو كقوله من قال :
علفتها تبنا وماء بارداً
ويمكن أن يقال : إن قصة موسى أيضاً آية متروكة باققية على وجه الدهر فلا حاجة إلى هذا التكلف .
قوله ) فتولى بركنه ( كقوله ) ونأى بجانبه ) [ الإسراء : 83 ] وقيل : الباء للمصاحبة .
والركن القوم أي فازور وأعرض مع ما كان يتقوى به من جنوده وملكه .
وقيل : ركنه هامان وزيره قال العلماء : وصفه فرعون بالمليم مع أنه وصف يونس النبي به ( صلى الله عليه وسلم ) كما مر في ( الصافات ) لا يوجب اشتراكهما في استحقاق الملامة ، لأن موجبات اللوم تختلف .
فراكب الكبيرة ملوم على قدرها ، ومقترف الصغيرة ملوم بحسبها ، وبينهما بون ، العقيم ريح لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر .
والرميم ما رم وتفتت .
قال في الكشاف : ( تمتعوا حتى حين ( تفسيره في قوله ) تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ) [ هود : 65 ] قلت : هذا سهو منه فإن قوله ) فعتوا عن أمر ربهم ( لا يطابقه إذ العتو لم يترتب على هذا الأمر لحصوله قبله .
وإنما الصواب أن يكون التمتع المأمور به في هذه الآية هو الذي في قصة قوم يونس ) فآمنوا فمتعناهم إلى حين ) [ الصافات : 148 ] فكأن قوم ثمود أمروا أن يؤمنوا كي يمهلوا إلى انقضاء آجالهم الطبيعية والأمر أمر تكليف لا تكوين ) فعتوا عن أمر ربهم ( بالإصرار على كفرهم .
فقيل : على سبيل التكوين تمتعوا في داركم ثلاثة أيام وكان ذلك علامة العذاب والصاعقة النازلة نفسها ) وهم ينظرون ( أي كانت نهاراً يعاينونها أو كانوا منتظرين لها إذ قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ) فما استطاعوا من قيام ( عبارة عن جثومهم كما مر مراراً ) وما كانوا متنصرين ( ممتنعين من العذاب وقصة نوح واضحة وقد مر إعرابه في الوقوف .
ثم عاد إلى دلائل القدرة فقال ) والسماء بنيناها بأيد ( وفي لفظ البناء إشارة إلى(6/189)
" صفحة رقم 190 "
كونها محكمة البنيان .
وفي قوله ) بأيد ( أي بقوة تأكيد لذلك وفي قوله ) وأنا لموسعون ( مزيد تأكيد والمعنى لقادرون من الوسع الطاقة والموسع القوي على الإنفاق ومنه قال الحسن : أراد إنا لموسعون الرزق بالمطر .
وقيل : جعلنا بين السماء وبين الأرض سعة .
وإنما أطلق الفرش على الأرض ولم يطلق البناء لأنها محل التغييرات كالبساط يفرش ويطوى ) ومن كل شيء ( من الحيوان ) خلقنا زوجين ( ذكراً وأنثى .
وعدد الحسن أشياء كالسماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والبر والبحر والموت والحياة .
وقال : كل اثنين منها زوج والله تعالى فرد لا مثل له .
وقد يدور في الخلد أن الآية إشارة إلى أن كل ما سوى الله تعالى فإنه مركب نوع تركيب لا أقل من الوجود والإمكان أوالجنس والفصل أو المادة والصورة ولذلك قال ) لعلكم تذكرون ( له إرادة ترقيكم من المركب إلى البسيط ومن الممكن إلى الواجب ومن المصنوع .
وإذا عرفتم الله ) ففروا إلى الله ( أي التجؤا إليه ولا تعبدوا غيره أمر بالإقبال عليه وبالإعراض عما سواه .
وكرر قوله ) إني لكم منه نذير مبين ( للتأكيد .
وبعد توضيح البيانات وذكر القصص وتقرير الدلائل سلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ) كذلك ( أي الأمر مثل الذي تقرر من تكذيب الرسل وإصرارا الكفرة على الإنكار والسب .
ثم فسر ما أجمله بقوله ) ما أتى ( إلى آخره وقوله ( أتواصوا به ( استفهام على سبيل التعجب من تطابق آرائهم على تكذيب أنبيائهم .
ثم أضرب عن ذلك لأن تطابق المتقدم والمتأخر على أمر واحد غير ممكن فنبه على جلية الحال قائلاً ) بل هم قوم طاغون ( يعني أن اشتراك علة التكذيب وهو الطغيان أشركهم في المعلول ) فتول عنهم ( فإن تكذيبهم لا يوجب ترك الدعوة العامة ) فما أنت بملوم ( على إعراضك عنهم بعد التبليغ لأنك قد بذلت مجهودك واستفرغت وسعك ) وذكر مع ذلك ) فإن الذكرى تنفع المؤمنين ( أراد أن الإعراض عن طائفة معلومة لعدم قابليتهم لا يوجب ترك البعض الآخر .
ثم بين الغاية من خلق الثقلين وهي العبادة .
وللمعتزلة فيه دليل ظاهر على أن أفعاله الله معللة بغرض .
وقال أهل السنة : إن العبادة المعرفة وافخلاص له في ذلك فإن المعرفة أيضاً غاية صحيحة ، وإنما الخلاص عن افشكال بما سلف مراراً أن استتباع الغاية لا يوجب كون الفعل معللاً بها ، وذا لم يكن الفعل معللاً بذلك فقد يكون الفعل ، وتتخلف الغاية لمانع كعدم قابلية ونحوه .
ثم ذكر أنه خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح هو عليهم .
والمتين الشديد القوة .
ثم هدد مشركي مكة وأضرابهم بقوله ) فإن للذين ظلموا ذنوباً ( أي نصيباً من العذاب ) مثل ذنوب أصحابهم ( المهلكين ، والذنوب في الأصل الدلو العظيمة قال أهل البيان : وهذا تمثيل وأصله من تقسيم الماء يكون لهذا دلو ولهذا دلو .
واليوم الموعود القيامة أو يوم بدر .(6/190)
" صفحة رقم 191 "
سورة الطور
( سورة الطور مكية حروفها ألف وخمسمائة كلمها ثلثمائة واثنتا عشرة آياتها تسع وأربعون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الطور : ( 1 - 49 ) والطور
" والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين أم له البنات ولكم البنون أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أم عندهم الغيب فهم يكتبون أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون وإن يروا كسفا من السماء(6/191)
" صفحة رقم 192 "
ساقطا يقولوا سحاب مركوم فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم "
( القراآت )
فكهين ( مقصوراً : يزيد ) وأتبعناهم ( من باب الأفعال : أبو عمرو ) وذريتهم ( على التوحيد مرفوعأً ) ذرياتهم ( على الجمع : أبو جعفر ونافع .
وقرأ أبو عمرو على الجمع فيهما منصوباً .
وقرأ ) ذريتهم ( ابن عامر وسهل ويعقوب على الجمع أيضاً ولكن برفع الأول .
الباقون : على التوجيد فيهما الأول مرفوعاً والثاني منصوباً ) ألتناهم ( بكسر اللام ثلاثياً .
ابن كثير ) لؤلؤ ( بتليين الهمة الأولى : شجاع ويزيد وأبو بكر وحماد وحمزة في الوقف كما مر في الحج ) أنه هو البر ( بفتح الهمزة : أبو جعفر ونافع وعلي ) أنا كنا ندعوه ( ) لأنه ( ) المسيطرون ( بالسين : ابن كثير في رواية .
وابن عامر والآخرون : بالصاد .
وقرأ حمزة في رواية بإشمام الراء ) يصعقون ( مبنياً للمفعول : ابن عامر وعاصم ) وإدبار النجوم ( بالفتح : زيد عن يعقوب .
الوقوف : ( والطور ( ه لا ) مسطور ( ه لا ) منشور ( ه لا ) المعمور ( ه لا ) المرفوع ( ه لا ) المسجور ( ه لا ) لواقع ( ه لا ) من دافع ( ه لا ) موراً ( ه لا ) سيراً ( ط ) للمكذبين ( ه لا ) يلعبون ( ه ) دعا ( ط لأن التقدير يقال لهم هذه النار ) تكذبون ( ه ) لا تبصرون ( ه ) تصبروا ( ه لاختلاف الجملتين مع اتفاق المعنى ) عليكم ( ط ) تعملون ( ه ) ونعيم ( ه لا ) آتاهم ربهم ( ج لاحتمال العطف واتضاح وجه الحال أي وقد وقاهم ) الجحيم ( ه ) تعملون ( ه لا ) مصفوفة ( ج ) عين ( ه ) شيء ( ه ) رهين ( ه ) يشتهون ( ه ) ولا تأثيم ( ه ) مكنون ( ه ) يتساءلون ( ه ) مشفقين ( ه ) السموم ( ه ط لمن قرأ ) إنه ( بالكسر ) الرحيم ( ه ) مجنون ( ه لأن ( أم ) ابتداء استفهام وتوبيخ ) المنون ( ه ) المتربصين ( ه ط لما قلنا ) طاغون ( ه ج لاحتمال ابتداء الاستفهام والجواب بقوله بل ) لا يؤمنون ( ه ج للآية مع الفاء ) صادقين ( ه ط ) الخالقون ( ه ط ) فيه ( ج لتناهي الاستفهام مع فاء التعقيب ) مبين ( ه ط ) البنون ( ه ط ) مثقلون ( ه ) يكتبون ( ط ) كيداً ( ط ) المكيدون ( ه ط والضابط فيما تقدم أن كلما وصل ( أم ) فهو للجواب وما قطع فهو بمعنى ألف الاستفهام ) غير الله ( ط ) يشركون ( ه ) مركوم ( ه ) يصعقون ( ه لا لأن ) يوم ( بدل ما تقدمه ) ينصرون ( ه ط ) لا يعلمون ( ه ) تقوم ( ه لا ) النجوم ( ه .(6/192)
" صفحة رقم 193 "
التفسير : لما ختم السورة المتقدمة بوقوع اليوم الموعود أقسم على ذلك بالطور وهو الجبل الذي مر ذكره مراراً في قصة موسى .
والكتاب المسطور التوراة ظاهراً لأنه هو المناسب للطور .
وقيل : اللوح المحفوظ .
وقيل : صحيفة الأعمال .
والرق الصحيفة أو الجلد الذي يكتب عليه .
والمنشور خلاف المطوي كقوله ) ونخرج له يوم القيامة كتاباً بلقاه منشوراً ) [ الإسراء : 13 ] وقيل : هو القرآن ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب ) والبيت المعمور ( الكعبة أو الضراح في السماء السابعة سمي معموراً لكثرة زواره من الحجاج أو الملائكة ) والسقف المرفوع ( السماء ) والبحر المسجور ( المملوء أو الموقد من قوله ) وإذا البحار سجرت ) [ الأنفطار : 3 ] وقد سبق في ( المؤمن ) في قوله ) ثم في النار يسجرون ) [ الآية : 72 ] عن جبير بن مطعم أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أكلمه في الأساري فألفيته في صلاة الفجر يقرأ سورة ) والطور ( فلما بلغ ) إن عذاب ربك لواقع ( أسلمت خوفاً من أن ينزل العذاب ) يوم تمور ( تضطرب وتجيء وتذهب وقد يقال : المور تحرك في تموج كحركة الزئبق ونحوه .
قلت : لأهل التأويل أن يقولوا : الطور القوة العقلية ، وكتاب مسطور هي الجلايا القدسية والمعارف الإلهية الثابتة فيها كالحرف في الرق ، والبيت المعمور بيت القلب ، والسقف المرفوع الرأس ، والبحر المسجور الدماغ المملوء من الخيالات والأوهام .
) إن عذاب ربك ( بالحرمان عن الإكرام لازدحام ظلم الآثام لواقع يوم القيامة الصغرى إذ تمور سماء الأرواح حين قطع العلائق وحيلولة العوائق موراً ، وتسير جبال النفوس الحيوانية الأمارة التي أثقلت ظهر صاحبها لانتهاء سيرانها وانقضاء سلطانها سيراً .
والدع الدفع العنيف .
قال المفسرون : إن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم زوجاً في أقفيتهم .
والاستفهام في قوله ) أفسحر ( للتقريع والتهكم ، والفاء مؤكد له أي كنتم تقولون للوحي إنه سحر فهذا أيضاً سحر ) أم أنتم لا تبصرون ( كقوله ) سواء علينا لا تصدقون الخبر عنه في الدنيا .
وقوله ( فاصبروا أو لا تبصروا ( كقوله ) سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ) [ إبراهيم : 21 ] ثم علل الاستواء بقوله ) إنما تجزون ( يعني أن الجزاء لا بد من حصوله فلا مزية للصبر على عدمه .
قوله ) ووقاهم ( معطوف على متعلق قوله ) في جنات ( أي استقروا في جنات ونعيم ووقاهم العذاب ، وجوز أن يعطف على ) آتاهم ( على أن ( ما ) مصدرية أي فاكهين بالإيتاء والوقاية ) كلوا ( على إرادة القول أي يقال لهم كلوا ) واشربوا ( أكلاً وشرباً ) هنيئاً ( أو طعاماً وشراباً هنيئاً لا تنغيص فيه .
وقد مر في أول ( النساء ) .
وجوز جار الله أن يكون صفة في معنى المصدر القائم مقام الفعل أي هنأكم لاأكل والشرب بسبب ما عملتم ، أو الباء مزيدة أي أهنأكم جماء ما عملتم قوله ) والذين آمنوا ((6/193)
" صفحة رقم 194 "
ظاهره أنه مبتدأ خبره ) ألحقنا ( قال جار الله : هو معطوف على ) حور عين ( أي قرناهم بحور عين والذين آمنوا من رفقائهم وجلسائهم وأتبعناهم ذرياتهم كي يجتمع لهم أنواع السرور بملاعبة الحور وبمؤانسة الإخوان المؤمنين وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم .
وقوله ( بإيمان ( أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء ) ألحقنا ( بدرجاتهم ) ذريتهم ( ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل كما جاء في الحديث ( إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه ثم تلا هذه الآية ) ) وما ألتناهم ( أي وما نقصنا من ثوابهم شيئاً بعطية الأبناء ولا بسبب غيرها ولكن وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا تفضلاً وإحساناً .
ثم بين أن الجزاء بمقدار العمل فقال ) كل امرىء بما كسب رهين ( أي مرهون .
قال جار الله : كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به كما يرهن الرجل عبده بدين عليه .
فإن عمل صالحاً فكها وخلصها وإلا أوبقها .
وقيل : هذا يعود إلى الكفار .
والرهين المرهون المأخوذ المحبس على أمر يؤدي عنه .
وقيل : بمعنى راهن وهو المقيم أي كل إنسان مقيم ي جزاء ما يقدم ) وأمددناهم ( وزدناهم وقتاً بعد وقت ) يتنازعون ( يتعاطون هم وقرناؤهم ) لا لغو فيها ( أي لا حديث باطل في أثناء شربها .
ونفى اللغو لانتفاء الغول الذي هو من تعاكسيه ) ولا تأثيم ( أي لا يفعلون ما ينسب صاحبه إلى الإثم لو فعله في دار التكليف ، وإنما يتكلمون بالكلام الحسن المفيد وذلك أنهم حكماء علماء .
والغلمان الخدام المختصمون بهم ، واللؤلؤ المكنون المستور في الصدف أو في الدرج وذلك أنه أصفى وأرطب وأثمن .
وقيل لقتادة : هذا هو الخادم فكيف المخدوم ؟ فقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفس بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيب ألف ببابه لبيك لبيك ) ) يتساءلون ( يتحادثون ) مشفقين ( أرقاء القلوب من خشية الله وعذاب السموم عذاب النار لأنها تدخل المسام ومنه الريح السموم ) من قبل ( أي في الدنيا ) فذكر ( فأثبت على ما أنت عليه من التذكير والدعوة العامة ) فما أنت بنعمة ربك ( أي بسبب حمد الله وإنعامه عليك ) بكاهن ( كما يزعمون ) ولا مجنون ( فلعله كان لهم في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أقوال ، فبعضهم ينسبونه إلى الكهانة نظراً إلى إخباره عن المغيبات ، وبعضهم يرمونه بالجنون حيث لا يسمعون منه ما يوافق هواهم ويطابق مغزاهم ، وبعضهم يرون أن تأثير كلامه فيهم من باب التخيل لا الإعجاز كما قال ) أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ( وهو ما يقلق النفوس ويزعجها من حوادث الدهر ، وقيل : المنون الموت ( فعول ) من منه إذا قطعه لأن الموت قطوع ولذلك سمي شعوب .
وقد قالوا : ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك الشعراء قبله .
والأحلام العقول وكانت قريش يدعون(6/194)
" صفحة رقم 195 "
أنهم أهل النهي والأحلام .
وكون الأحلام أمرتهم مجاز لأدائها إلى تلك الأقوال الفاسدة ، وفيه تقريع وتوبيخ إذ لو كان لهم عقل لميزوا بين الحق والباطل والمعجز وغيره ) تقوّله ( اختلقه من تلقاء نفسه ) بل لا يؤمنون ( جحدواً وعناداً وقد صح عندهم إعجاز القرآن وإلا ) فليأتوا بحديث مثله ( ثم وبخهم على إنكار الصانع بقوله ) أم خلقوا من غير شيء ( من غير خالق ) أم هم الخالقون ( أنفسهم .
وقيل : أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء وحساب. والأول أقوى لقوله ) أم خلقوا السموات والأرض ( ثم احتج عليهم بالأنفس ثم بالآفاق ثم قال ) بل لا يوقنون ( وذلك أنه حكى عنهم ) ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ) [ لقمان : 25 ] فتبين أنهم في هذا الاعتراف شاكون إذ لو عرفوه حق معرفته لم يثبتوا له نداً ولم يحسدوا من اختاره للرسالة كما وبخهم عليه بقوله ) أم عندهم خزائن ربك ( حتى يختاروا للنبوة من أرادوه ) أم هم المسيطرون ( المسلطون الغالبون حتى يدبروا أمر العالم على حسب مشيئتهم ) أم لهم سلم يستمعون ( الوحي صاعدين ) فيه ( إلى السماء عالمين بالمحق والمبطل ومن له العاقبة .
والمغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه ) أم عندهم الغيب ( المحفوظ في اللوح ) فهم يكتبون ( ما فيه من أحوال المبدأ والنبوة والمعاد فيحكمون بحسبها ) أم يريدون كيداً ( وهو كيدهم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في دار الندوة وفي غيرها ) فالذين كفروا ( اللام لهؤلاء أو للجنس فيشملهم ) هم المكيدون ( المغلوبون الذين يعود وبال الكيد عليهم فقتلوا ببدر وأظهر الله دين الإسلام .
ثم صرح بالمقصود الكلي فوبخهم على إشراكهم ونزه نفسه عن ذلك بقوله ) سبحان الله ( ثم أجاب عن بعض مقترحهم وهو قولهم ) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ( والمراد أنهم لفرط عنادهم لا يفيد معهم شيء من الدلائل فلو أسقطنا عليهم قطعة من السماء لقالوا هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض .
ومعنى يصعقون يموتون وذلك عند النفخة الأولى .
قوله ) عذاباً دون ذلك ( أي قبل يوم القيامة وهو القتل ببدر القحط سبع سنين وعذاب القبر ) فأصبر لحكم ربك ( بإمهالهم وتبليغ الرسالة ) فإنك ( محفوظ ) بأعيننا ( وهو مجاز عن الكلاءة التامة والجمع للتعظيم والمبالغة و ) حين تقوم ( أي من أي مكان قمت أو من منامك .
وإدبار النجوم بالكسر غروبها آخر الليل وهو بالحقيقة تلاشي نورها في ضوء الصبح ، وبالفتح أعقابها والمعنى مثل ما قلنا .
وقيل : التسبيح التنجد .
ومن الليل صلاة العشاءين ، وإدبار النجوم صلاة الفجر .
أمره بالإقبال على طاعته بعد الفراغ عن دعوة الأمة فليس له شأن إلا هذين .(6/195)
" صفحة رقم 196 "
سورة النَجم
( سورة النجم مكية حروفها ألف وأربعمائة وخمسة كلماتها ثلثمائة وستون آياتها اثنتان وستون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( النجم : ( 1 - 62 ) والنجم إذا هوى
" والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى فلله الآخرة والأولى وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أعنده علم الغيب فهو يرى أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى(6/196)
" صفحة رقم 197 "
وأنه هو أغنى وأقنى وأنه هو رب الشعرى وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى فبأي آلاء ربك تتمارى هذا نذير من النذر الأولى أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون فاسجدوا لله واعبدوا "
( القراآت )
وهوى ( وسائر آياته بالإمالة اللطيفة : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو .
وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة المفرطة كما سبق في ( طه ) ) ما كذب ( بالتشديد : يزيد وهشام ) ما زاغ البصر ( بالإمالة : حمزة ونصير ) ومناة ( بالمد : ابن كثير والشموني ) أفتمرونه ( ثلاثياً : يعقوب وحمزة وعلي وخلف ) ضيزى ( بالهمزة : ابن كثير في رواية ) كبير الأثم ( على التوحيد : حمزة وعلي وخلف والمفضل ) إبراهام ( هشام ) عاداً لولي ( مدغماً غير مهموز : أبو عمرو ويزيد ويعقوب ولانجاري عن ورش .
وقرأ إسماعيل والأصبهاني عن ورش وأبو نشيط عن قالوا بإظهار الغنة غير مهموز .
وكذلك روي عن أبي عمرو فعلى مذهبهم إذا وقف القارىء على ) عاد ( ابتدأ ) بلولي ( ولو شاء الولي بتخفيف الهمزة والأول أحسن .
وقرأ قالون غير أبي نشيط بالهمزة وإظهار الغنة .
وإذا وقف على ) عاد ( ابتدأ ) لولي ( ولو شاء ) الولي ( ولاباقون ) عاد الأولى ( بالألف قبل اللام وبعد اللام في الحالين ) وثمود ( في الحالين بغير تنوين : حمزة وعاصم غير ابن غالب والبرجمي والمفضل وسهل ويعقوب ) ربك تمارى ( بتشديد التاء : رويس عن يعقوب .
الوقوف : ( هوى ( ه لا ) غوى ( ه ج للآية مع العطف على جواب القسم ) الهوى ( ه ط ) يوحى ( ه لا ) القوى ( ه لا لذلك ) ذو مرة ( ط لتمام الصفة ) فاستوى ( ه لا لأن الواو للحال ) الأعلى ( ه ط ) فتدلى ( ه لا لأن ما بعده من تمام المقصود ) أو أدنيى ( ه ج وإن اتفقت الجملتان لأن ضمير ) فأوحى ( لله لا للنبي ) ما أوحى ( ه ج ) ما رأى ( ه ) أخرى ( ه لا ) المنتهى ( ه ) المأوى ( ه لأن عامل ) إذ زاغ البصر ( فلا وقف على ) ما يغشى ( ) طغى ( ه ) الكبرى ( ه ) والعزى ( ه لا ) الأخرى ( ه ) الأنثى ( ه ) ضيزى ( ه ) سلطان ( ط ) لأنفس ( ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف ) الهدى ( ه ط لأن أم ابتداء استفهام إنكار ) ما تمنى ( ه ز لتناهى الاستفهام والوصل ألوى للفاء واتصال المعنى ) والأولى ( ه ) ويرضى ( ه ) الأنثى ( ه ) علم ( ط ) إلا الظن ( ه ج الجملتين ) شيئاً ( ط لذلك ) الدنيا ( ه ط ) من العلم ( ط ) اهتدى ((6/197)
" صفحة رقم 198 "
ه ) وما في الأرض ( ط ) بالحسنى ( ه ج لأن ) الذين ( يصلح خبر مبتدأ محذوف وبدلاً من ) الذين أحسنوا ( ) أللمم ( ط ) المغفرة ( ط ) أمهاتكم ( ج ) أنفسكم ( ه ط ) اتقى ( ه ) تولى ( ج ) وأكدى ( ه ) يرى ( ه ) موسى ( ه ) وفى ( ه لا ) أخرى ( ه لا ) سعى ( ه لا ) يرى ( ه ص لوقوع العارض بين المطوف على أن ) الأوفى ( ه لا ) المنتهى ( ه لا ) وأبكى ( ه لا ) وأحيا ( ه لا ) والأنثى ( ه ) تمنى ( ه ص لما مر ) الأخرى ( ه لا ) المؤتفكة ( منصوب بما بعده ) هوى ( ه لا ) ما غشى ( ه ج لابتداء الاستفهام مع الفاء ) تتمارى ( ه ) الأولى ( ه لا ) الآزفة ( ه للاستئناف والحال ) كاشفة ( ه ) تعجبون ( ه لا ) ولا تبكون ( ه لا ) سامدون ( ه لا ) واعبدوا ( ه سجدة .
التفسير : لما ختم السورة المتقدمة بالنجوم خص الأقسام في أول هذه السورة بالنجم ، واللام فيه للعهد أو للجنس .
والأول قول من قال : إنه الثريا وهو اسم غالب لها وصورتها في السماء كعنقود عنب .
وأظهر كواكبها سبعة وهي المنزل الثالث من منازل القمر .
قال : إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء .
وذلك أن الشمس تكون في أول العقرب حينئذ في مقابلتها فتطلع بغروبها وعلى الثاني فيه وجوه أحدها .
نجوم السماء وهويها غروبها .
وفائدة هذا القيد أن لانجم إذا كان في وسط السماء لم يهتد به الساري لأنه لا يعلم المغرب من المشرق والجنوب من الشمال ، فإذا مال إلى الأفق عرف به هذه الجهات والميل إلى أفق المغرب أولى بالذكر من الناظر إليه حينئذ يستدل بغروبها على أفوله في حيز الإمكان فيتم له اهتداء الدين مع اهتداء الدنيا .
وقيل : هويها انتثارها يوم القيامة وثانيها النجم هو الذي يرجم به الشياطين وهويها نقضاضها .
وثالثها النجم النبات إذا هوى إذا سقط على الأرض وهو غاية نشوة .
ورابعها النجم عند الناظرين وأشهر المنازل عشرين سنة فيكون كقوله ) والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم ) [ يس : 2 ، 3 ] وعلى القول الآخر فالثريا أظهر النجوم عند الناظرين وأشهر المنازل للسائرين وأنها تطلع عشاء في وقت إدراك الثماء .
والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) تميز من سائر الأنبياء بالمعجزات الباهرات ولا سيما فإنه حين ظهر زال يبس الكوك وحرارة الحمية الجاهلية وأدرك الحكمة ورجم به شياطين الإنس المضلين لعباد الله في أرضه ، ونبت بوجوده أصناف الأغذية الروحانية تامة كاملة .
قال جار الله : الضلال نقيض الهدى ، والغي نقيض الرشد ، والخطاب لقريش .
قلت : هذا صادق من حيث الاستعمال لقوله ) قد تبين الرشد(6/198)
" صفحة رقم 199 "
من الغي ) [ البقرة : 256 ] ( من يضلل الله فلا هادي له ) [ الأعراف : 186 ] إلا أنه ينبغي أن يتبين لافرق بين الضلال والغواية .
والظاهر أن الضلال أعم وهو أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلاً ، والغواية أن لا يكون له إلى المقصد طريق مستقيم ولهذا لا يقالللمؤمن من إنه ضال أو غير مهتد ويقال له إنه غوي غير رشيد .
قال عز من قائل ) فإن آنستم منهم رشداً ) [ النساء : 6 ] فكأنه سبحانه نفى الأعم أولاً ثم نفى الأخص ليفيد أنه على الجادة غير منحرف عنها أصلاً .
ويحتمل أن يكون قوله ) ما ضل ( نفياً لقولهم هو كاهن أو مجنون لأن الكهانة أيضاً من مسيس الجن .
وقوله ( وما غوى ( نفي لقولهم هو شاعر والشعراء يتبعهم الغاوون .
ويحتمل أن يكون ألأول عبارة عند صلاحه في أمور المعاد ، والثاني إشارة إلى رشده في أمور المعاش ومنه يعلم أن أقواله كلها على سنن الصواب إلا أنه كان يمكن أن تكون مستنبطة من العقل أو العرف أو العادة ، فأسندها الله سبحانه إلى طريق أخص وأشرف وهو أن تكون مستندة إلى الوحي فقال بصيغة تفيد الاستمرار ) وما ينطق عن الهوى ( أي ليس كل ما ينطق به ولا بعضه بصادر عن الرأي والتشهي إنما وحي يوحى إليه من الله ، واستدل به بعض من لا يرى الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام ، وأجيب بأن الله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد كان لك من قبيل الوحي أيضاً .
وأما من يخص النطق بالقرآن فلا اعتراض عليه .
قال أهل اللغة : الهوى المحبة النفسانية ، والتركيب يدل على النزول والسقوط ومنه الهاوية .
ومبة النفس الأمارة لا أصل لها ولا تصدر إلا عن خسة ودناءة ، وقوله ( إن هو إلا وحي ( أبلغ مما لو قيل ه و ( وحي ) وهو ظاهر .
وقوله ( يوحى ( لتحقيق الحقيقة كقوله ) ولا طائر يطير بجناحيه ) [ الأنعام : 38 ] فإن الفرس الشديد العدو بما يقال إنه طائر ، فإذا قيل يطير بجناحيه زال جواز ذلك المجاز فكذلك ههنا ربما يقال للكلام الصادق الفصيح هو وحي أو سحر حلال .
فلما قيل ) يوحى ( اندفع التجوز ثم بين طريق الوحي بقوله ) علمه ( أي الموحي أو محمداً ) شديد القوى ( وهو جبرائيل عليه السلام أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة مدح المعلم ليلزم منه فضيلة المتعلم .
ولو قال ( علمه جبرائيل عليه السلام ط لم يفهم منه فضل المتعلم ظاهراً .
وفيه رد على من زعم أنه يعلمه بشر لأن الإنسان خلق ضعيفاً وما أوتي من العلم إلا قليلاً .
وفيه أن جبرائيل عليه السلام أمين موثوق به من حيث قوته المدركة والحافظة ولو كان مختل الذهن أو الحفظ لم يوثق بروايته ، وفيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كيلا يضيق صدره حين علم بواسطة الملك فكأنه قيل له : ليس لك في ذلك نقص لأنه شديد القوى على أنه قال في موضع آخر ) وعلمك ما لم تكن تعلم ) [ النساء : 113 ] وأخبر ( صلى الله عليه وسلم ) عن حاله فقال ( أدبني ربي فأحسن تأديبي )(6/199)
" صفحة رقم 200 "
والمرة القوة .
والظاهر أنها القوة الجسمانية كقوله ) وزاده بسطة في العلم والجسم ) [ البقرة : 247 ] فمن قوته أنه قلع قريات قوم لوط وقلبها بجناحه ، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين ، وكان ينزل إلى الأنبياء ويصعد في لمحة .
ويجوز أن يراد بقوله ) شديد القوى ( قواه الجسمانية وبقوله ) ذو مرة ( القوى العقلية ، والتنكير للتعظيم .
قوله ) فاستولى ( المشهور أن فاعله جبرائيل عليه السلام أي فاستقام على صورته الحقيقية دون صورة دحية ، وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها فاستولى له في الأفق الأعلى أي الأشرف وهو الشرقي ) ثم دنا ( جبرائيل من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على الصورة المعتادة ) فتدلى ( قيل : فيه تقديم وتأخير أي فتعلق عليه في الهواء ثم دنا منه .
وقيل : دنا أي قصد القرب من محمد أو تحرك من المكان الذي كان فيه ، فنزل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
يقال : تدلت اثمرة ودلى رجليه من السرير وقد يقال : الدنو والتدلي بمعنى واحد فلا يفيد إلا التأكيد .
ثم زاد تأكيداً بقوله ) فكان قاب قوسين ( قال أهل العربية .
هو من باب حذف المضافات أي فكان مقدار مسافة قرب جبرائيل عليه السلام مثل ( قاب قوسين ) والقاب والقيب والقاد والقيد والقيس كلها المقدار .
والعرب تقدر الأشياء بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع وغيرها .
وفي الحديث ( لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها ) والقد السوط .
وقوله ( أو أدنى ( أي في تقديركم كقوله ) مائة ألف أو يزيدون ) [ الصافات ؛ 147 ] وقال بعضهم : الضمير في ) فاستولى ( لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك أن تعليم جبرائيل إياه كان قبل كماله واستوائه ، فحين تكاملت قواه النظرية والعلمية وصار بالأفق الأعلى أي بالرتبة العليا من المراتب الإنسانية دنا من الأمة فتدلى أي لان لهم ورفق بهم حتى قال ) إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ ) [ الكهف : 110 ] فكان الفرق بينه وبين جبرائيل قليلاً جداً .
وعلى هذا يمكن أن يكون الرجحان في الكمال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما يقول أكثر أهل السنة ، أو بالعكس كما تزعم طائفة منهم ومن غيرهم ، ويحتمل على هذا القول أن يكون الضمير في ) دنا ( لجبريل والمراد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإن زال عن الصفات البشرية من الشهوة والغضب والجهل وبلغ الأفق الأعلى الإنساني ، ولكن نوعيته لم تزل عنه وكذلك جبرائيل .(6/200)
" صفحة رقم 201 "
وإن ترك اللطافة المانعة من الرؤية ونزل إلى الأفق الأدنى من الآفاق الملكية ولكن لم يخرج عن كونه ملكاً فلم يبقى بينهما إلا اختلاف حقيقتهما نظيره ) ولقد رآه بالأفق المبين ) [ التكوير : 23 ] أي رأى جبرائيل وهو أي محمد بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ومنزلة الملك كقول القائل : ( رأيت الهلال على السطح ) أي وأنا على السطح. وقد يجعل ذكر القوس عبارة عن معنى آخر هو أن العرب اكنوا إذا عاهدوا فيما بينهم طرحوا قوساً أو قوسين لتأكيد العهد بين الاثنين ، فأخبر الله سبحانه أنه كان بين جبرائيل ومحمد عليه الصلاة والسلام من المحبة وقرب المنزلة مثل ما تعرفونه فميا بينكم عند المعاقدة .
وقيل : الضمير لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو لله والمراد قرب المكان بينهما .
وهذا يشبه مذهب المجسمة إلا أن يقال : دنا دنو ألفة ولا دنو زلفة .
دنا دنو إكرام لا دنوا أجسام ، دنا دنو أنس لا دنو نفس والقوسان أحدهما صفة الحدوث والأخرى صفة القدم .
أخبر بالقصة إكراماً وكتم الإسرار عظاماً .
قوله ) فأوحى إلى عبده ما أوحى ( الضمير في الفعلين إما لله أو لجبرائيل ، والمراد بالعبد إما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو جبريل عليه السلام فيحصل تقديرات أحدها : فأوحى الله إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما أوحى وفيه تفخيم لشأن الوحي .
وقيل : أوحى إليه الصلاة .
وقيل : أوحى الله إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها .
وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك .
والظاهر أنها أسرار وحقائق ومعارف لا يعلمها إلا الله ورسوله .
ثانيها فأوحى الله إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما أوحى أولاً جبرائيل يعني أن الوحي كان ينزل عليه أولاً بواسطة جبرائيل وقد ارتفعت الآن تلك الواسطة .
وعلى هذا يحتمل أن يقال ( ما ) مصدرية أي أوحى إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الإيحاء أي العلم بالإيحاء كي يفرق بين الملك والجن .
أو كلمة أنه وحي أو خلق فيه علماً ضرورياً .
ثالثها فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى .
رابعها فأوحى الله إلى جبرائيل ما أوحى جبريل إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وغيره من الأنبياء قبله .
وفيه إشارة إلىأن جبريل عليه السلام أمين لم يجن قط في شيء مما أوحى إلى الأنبياء .
خامسها فأوحى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما أوحى الله إليه .
سادسها فأوحى جبرائيل إلى عبد الله ما أوحى هو .
وفي هذين الوجهين لا يمكن أن يراد بالعبد إلا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
قوله ) ما كذب الفؤاد ما رأى ( الأشهر أن اللام للعهد وهو فؤاد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك .
ولو قال ذلك لكان كاذباً لأنه عرفه .
ومن قرأ بالتشديد فظاهر أي صدق فؤاده ما عاينه ولم يشك في ذلك .
وقيل : اللام للجنس والمراد أن جنس الفؤاد لا ينكر ذلك وإن كان الوهم والخيال ينكره .
والمقصود نفي الجواز لا نفي الوقوع كقوله ) لا تدركه الأبصار ) [ الأنعام : 103 ](6/201)
" صفحة رقم 202 "
) وما ربك بغافل ) [ الأنعام : 132 ] بخلاف قوله ) إن الله لا يضيع أجر المحسنين ) [ التوبة : 12 ] ( لا يغفر أن يشرك به ) [ النساء : 48 ] فإنه لنفس الوقوع .
والظاهر أن فاعل رأى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : الفؤاد أو البصر أي ما رآه الفؤاد ولم يقل له إنه جن أو شيطان أو لم يكذب الفؤاد ما رآه بصر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وما المرئي فيه أقوال : أحدها ما مر وهو أنه رأى جبريل في صورته بالأفق الشرقي .
والثاني الآيات العجيبة الإلهية .
والثالث الرب تعالى والمسألة مبنية على جواز الرؤية وقد تقدم البحث عن ذلك في قوله ) لا تدركه الأبصار ) [ الأنعام : 103 ] ثم على وقوع الرؤية وقد تقدم خلاف الصحابة فيه في حديث معراج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك في أول ( سبحان الذي ) وعل القول الأول أصح .
يروي أنه ما رأى جبريل أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء ، وإليه إشارة بقوله ) أفتمارونه ( من المراء أي أتجادلونه ) على ما يرى ( ومن قرأ ) أفتمرونه ( فمعناه أتغلبونه في المراء يقال : ماريته فمريته .
ولما فيه من معنى الغلبة عدي ب ( على ) وقيل : معناه افتجحدونه .
، لا بد من تضمين معنى الغلبة .
) ولقد رآه نزلة أخرى ( أي مرة أخرى فانتصبت على الظرف صيغة المرة فكانت النزلة في حكم المرة أي نزل عليه جبريل في صورته تارة أخرى في ليلة المعراج ووجه الاستفهام الإنكاري أنه لما رآه وهو على بسيط الأرض احتمل أن يقال : إنه كان من الجن احتمالاً بعيداً فلما رآه ) عند سدرة المنتهى ( لم يحتمل أن يكون هناك جن ولا إنس فلم يبق للجدال مجال .
أما القائل بالقول الثالث فزعم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى ربه بقلبه مرتين .
والنزلة إما لله بمعنى الحركة والانتقال عند من يجوز ذلك ، أبو بمعنى قرب الرحمة والإفضال ، وإما للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه نزل عن متن الهوى ومركب النفس .
وقيل : أراد بالنزلة ضدها وهي العرجة ، واختير هذه العبارة ليعلم أن هذه عرجة تتبعها النزلة ليست عرجة لا نزلة لها وهي عرجة الآخرة ، وعلى القول الأول أيضاً يحتمل أن تكون النزلة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك أن جبرائيل تخلف عنه في مقام ( لو دنوت أنملة لاحترقت ) ثم عاد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليه .
ومعنى أخرى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) تردد في أمر الصلاة مراراً فلعله كان ينزل إلى جبرائيل كل مرة لا أقل من نزلتين .
أما السدرة فالأكثرون على أنها شجرة في السماء السابعة : وقيل : في السادسة. ( نبقها كقلال هجروورقها كآذان الفيلة ، يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها ) وقد ورد الحديث بذلك فعلى هذا ) عند ( ظرف مكان ثم إن كان المرئي جبريل فلاإشكال ، إن كان هو الله تعالى فكقول القائل(6/202)
" صفحة رقم 203 "
( رأيت الهلال على السطح ) وقد مر .
وقال بعضهم ) عند ( ظرف زمان كما يقال : صليت عند طلوع الفجر .
والمعنى رآه عند الحيرة القصوى أي في وقت تحارعقول العقلاء فيه ولكنه ما حار ولم يعرض له سدر .
وإضافة سدرة إلى المنتهى إما من إضافة الشيء إلى مكانه كما يقال ( أشجار البلدة الفلانية كذا ) وأشجار الجنة لا تيبس ولا تخلو من الثمار فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك ولا يعلم ما وراءه أحد وإليه ينتهي أرواح الشهداء .
وإما من إضافة المحل إلى الحال كما يقال ( ظرف المداد ) أي سدرة هي محل انهاء الجنة .
وإما من إضافة الملك إلى مالكه كما يقال ( دار زيد وأشجار عمرو ) فيكون التقدير سدرة المنتهى إليه وهو الله سبحانه قال ) وأن إلى ربك المنتهى ( فالإضافة للتشريف ( نحو بيت الله وناقة الله ) .
وقال الحسن : ( جنة المأوى ( هي التي يصير إليها المتقون .
وفيل : يأوي إليها أرواح الشهداء والظاهر أن الضمير في ) عندها ( للسدرة .
وقيل : لنزلة من ذهب إلى أن سدرة المنتهى معناها الحيرة القصوى .
قال ) إذ يغشى السدرة ما يغشى ( معناه ورود حالة على حالة أي طرأ على محمد حين ما يحار العق لما طرأ من فضل الله ومن رحمته .
والأكثرون قالوا فيه تعظيم وتكثير لما يغشى الشجرة من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله مما لا يحيط باه الوصف .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله ) وعنه عليه السلام ( يغشاها رفرف من طير خضر ) والرفرف كل ما يبسط من أعلى إلى أسفل .
وعن ابن مسعود وغيره : يغشاها فراش أو جراد من ذهب .
والمحققون على أنها أنوار الله تعالى تجلى للسدرة كما تجلى للجبل لكن السدرة كانت أقوى من الجبل ، ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان أثبت من موسى فلم تضطرب الشجرة ولم يصعق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . قوله ) ما زاغ البصر ( فيه وجهان : أشهرهما أنه بصر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي لم يلتفت إلى ما يغشاها .
فإن كان الغاشي هو الفراش أو الجراد من ذهب فمعناه ظاهر ويكون ذلك ابتلاء وامتحاناً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالأمور الدنيوية ، وإن كان الغاشي أنوار الله فالمراد أنه لم يلتفت إلى غير المقصود ولم يشتغل بالنور عن ذي النور .
أو المراد ما زاغ البصر بالصعقة بخلاف موسى عليه السلام .
وفي الأول بيان أدب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفي الثاني بيان مزيته .
وذهب بعضهم إلى أن اللام للجنس أي ما زاغ بصره أصلاً في ذلك الموضع هيبة وإجلالاً .
والظاهر أن الضمير في قوله ) وما طغى ( للبصر أي ما جاوز حده المعين المأمور برؤيته .
ويحتمل أن يكون لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي ما زاغ بصره بالميل إلى غير المقصود ، وما طغى محمد بسبب الالتفات قال بعض العلماء : فيه بيان لوصول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى صدرة اليقين الذي لا يقين فوقه إذ لم ير الشيء على خلاف ما هو عليه بخلاف الناظر إلى عين الشمس فإنه إذا نظر إلى شيء آخر(6/203)
" صفحة رقم 204 "
رآه أيض أو أصفر أو أخضر .
قوله ) لقد رأى من آيات ربه الكبرى ( الظاهر أن الكبرى صفة الآيات أي لقد رأى بعض آيات ربه الكبرى ، وذلك البعض إما جبرائيل على صورته ، وإما سائر عجائب الملكوت .
ويحتمل أن يكون صفة لمحذوف أي لقد رأى من آيات ربه آية هي الكبرى .
وعلى هذا لا تكون تلك الآية رؤية جبريل لما ورد في الاخبار أن الله ملائكمة أعظم منه كالملك الذي يسمى روحاً .
نعم لو قيل : إناه رؤية الله الأعظم كان له وجه عند من يقول بأنه ( صلى الله عليه وسلم ) رأي الله ليلة المعراج .
وفيه خلاف تقديم قوله ) أفرأيتم اللات والعزى ( الخ .
أي عقيب ما سمعتم من عظمة الله تعالى ونفاذ أمره في الملأ الأعلى ، وأن الذي سد الأفق ببعض أجنحته تخلف عند سدره المنهتى ، هل تنظرون إلى هذه الأصنام مع قلتها وفقرها حتى تعلموا فساد ما ذهتبم إليه وعولتم عليه ؟ قال في الكشاف : اللات اسم صنم كان لثقيف بالطائف وأصله ( فعلة ) من لوى يلوي لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة ، أو يتلوون عليها أي يطوفون فكأنه حذفت الياء تخفيفاً وحركت الواو فانقلبت ألفاً .
والوقفغ عليه بالتاء كيلا يشبه اسم الله : وقيل : أصله اللات بالتشديد وقد قرىء به .
زعموا أنه سمي برجل كان يلت عنده السمن بالزيت ويطعمه الحاج .
وعن مجاهد : كان رجل يلت السويق بالطائف وكانوا يعكفون على قبره فجعلوه وثناً .
والعزى تأنيث الأعز وكان لغطفان وهي شجرة سمرة بعث إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خالد ابن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة مكشوفة الرأس ناشرة الشعر تضرب رأسها وتدعو بالويل والثبور فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول :
يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
فرجع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبره بما فعل .
فقال : تلك العزى ولن تعبد أبدأ .
وأما مناة فهي صخرة كانت لهذيل وخزاعة كأنها سميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق .
ومن قرأ بالمد فلعلها ( مفعلة ) من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عنداه الأنواء تبركاً بها .
و ) الأخرى ( لا يطلق إلأا إذا كان الأول مشاركاً كالثاني فلا يقال : رأيت رجلاً وامرأة أخرى .
وإنما يقال رأيت رجلاً ورجلاً آخر .
وههنا ليست عزى ثالثة فكيف قال ) ومناة الثالثة الأخرى ( ؟ وأجيب بأن الأخرى صفة ذم لها أي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله ) وقالت أخراهم لأولاهم ) [ الأعراف : 38 ] أي وضعاؤهم لرؤسائهم .
ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى وذلك أن الأول كان على صورة آدمي ، والعزى كانت من النبات ومناة من الجماد .
وقيل : في الكلام تقديم وتأخير أي ومناة الأخرة .
الثالثة .(6/204)
" صفحة رقم 205 "
وقيل : إن الأصنام فهيا كثرة فإذا أخذنا اللات والعزى مقدمين كانت لهما ثوالت كثيرة هذه ثالثة أخر .
وقيل : فيه حذف والتقدير أفرأيتم اللات والعزى المعبودتين .
بالباطل ومناة الثالثة المعبودة الأخرة .
ثم إنه تعالى حين وبخهم على الشرك فكأنهم قالوا نحن لا نشك في أن شيئاً منها ليس مثلاً لله تعالى ولكنا صورنا هذه الأشياء على صور الملائكة المعظمين الذين اعترف بهم الأنبياء وقالوا : إنهم يرتقون ويقفون عند سدرة المنتهى ، ويرد عليهم الأمر والنهي ويصدر عنهم إلينا فوبخهم على قولهم إن هؤلاء الأصنام التي هي إناث أنداد الله تعالى ، أو على قولهم الملائكة بنات الله فاستفهم منكراً ) ألكم الذكر ( الذي ترغبون فيه ) وله الأنثى ( التي تستنكفون عنها ) تلك ( القسمة ) إذا ( أي إذا صح ما ذكرتم ) قسمة ضيزى ( أي جائزة غير عادة من ضازه يضيزه إذا ضامه ، وهي ( فعلى ) بالضم ، وكان يمكن أن تقلب الياء واواً لتسلم الضمة إلا أنه فعل بالعكس أي قبلت الضمة كسرة لتسليم الياء فإن إبقاء الحرف أولى من إبقاء الحركة .
ومن قرأ بالهمزة فمن ضأزه بالهمزة والمعنى واحد ولكنها ( فعلى ) بالكسر .
قال بعضهم : إنهم ما قسموا ولم يقولوا لنا البنون وله البنات ولكنهم نسبوا إلأى الله البنات وكانوا يكرهونهن ، فلزم من هذه النسبة قسمة جائرة ، فتقدير الكلام تلك النسبة قسمة غير عادلة إذ العدالة تقتضي أن يكون الشريف للشريف والوضيع للوضيع ) إن هي ( يعني ليس الأصنام أو أسماؤها المذكورات ) إلا أسما سميتموها ( وقد مر في ( الأعراف ) وفي ( يوسف ) قال الإما فخر الالدين الرازي رحمه الله : الم يتم بقوله ) ما أنزل الله بها من سلطان ( فإن إطلاق اللاسم على المسمى إنما يجوز إذا لم يتبعه مفسدة دينية .
وههنا يمكن أن يكون مرادهم من قولهم ( الملائكة بنات الله ) أنهم أولاد الله من حيث إنه لا واسطة بينهم وبينه في الإيجاد كما تقوله الفلاسفة .
والعرب قد تستعمل البنت مكان الولد كما يقال ( بنت الجبل وبنت الشفة ) لما يظهر منهما بغير واسطة خصوصاً إذا كان في اللفظ تاء التأنيث كالملائكة إلا أنه لم يجز في الشرع إطلاق هذا اللفظ على الملائكة لأنه يوهم النقص في حقه تعالى ثم قال : وهذا بحث يدق عن إدراك اللغوي إن لم يكن عنده من العلوم حظ عظيم .
قلت : هذا البحث الدقيق يوجب أن يكون الذم راجعاً إلى ترك الأدب فقط .
وليس الأمر كذلك فإن الذم إنما توجه إلى المشرك لأنه ادعى الإلهية لما هو أبعد شيء منها .
وما أمكن له على تصحيح دعواه حجة عقلية ولا سمعية .
ومعنى ) ما أنزل الله بها ( أي بسببها وصحتها .
وقال الرازي : الباء للمصاحبه كقول القائل ( ارتحل فلان بأهله ومتاعه ) أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع .
ومن قرأ ) إن تبعون ( على الخطاب فظاهر ، ومن قرأ على الغيبة فإما للالتفات ، وأما لأن الضمر للآباء وصيغة الاستقبال(6/205)
" صفحة رقم 206 "
حكاية الحال الماضية ويحتمل أن يكون المراد عامة الكفار .
قوله ) وما تهوى الأنفس ( يجوز أن تكون ( ما ) مصدرية ، وفائدة العدول عن صريح المصدر إلى العبارة الموجودة أن القاتل إذا قال : أعجبني صنعك .
لم يعلم أن الإعجاب من أمر قد تتحقق أو من أمر هو فيه .
وإذا قال : أعجبني ما تصنع .
شمل الحال والاستقبال .
ويجوز أن تكون ( ما ) موصولة والرق أن المتبع في الأول الهوى وفي الثاني مقتضى الهوى .
وقوله ( الأنفس ( من باب مقابلة الجمع بالجمع والمعنى اتبع كل واحد منهم ما تهواه نفسه كقولك : خرج الناس بأهلهم أي كل واحد بأهله ولعل الظن يختص بالاعتقاد وهوى النفس بالعمل .
ويجوز أن يكون الظن مقصوداً به كل ماله محمل مرجوح والهوى يراد به ما لا وجه له أصلاً .
ويحتمل أن يراد بالظن ماله محمل راجح أيضاً وهو إن كان واجب العمل به في المسائل الاجتهادية إلا أنه مذموم عند القدرة على اليقين وإلى هذا أشار بقوله ) ولقد جاءهم من ربهم الهدى ( وهو القرآن أو الرسول أو المعجزة ، وفي هذه الحالة لا يجوز البناء على الظن بل يجب التعويل على اليقين .
قوله ) أم للإنسان ( أم منقطعة والهمزة فيها للإنكار والمراد تمنيهم شفاعة الآلهة وأن لهم عند الله الحسنى على تقدير البعث إذ تمنى أشرافهم أن يكونوا أنبياء دون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قوله ) فالله الآخرة والأولى ( رد عليهم أي هو مالكها فهو المعطي والمانع ولا حكم لأحد عليه .
ومعنى الفاء أنه إذا تقرر أن شيئاً من الأشياء ليس بتمني الإنسان فلا حكم إلا لله .
ثم بين أن الشفاعة عند الله لا تكون إلا برضاه .
وفيه أصناف من المبالغة من جهة أن ( كم ) للتكثير والعرب تستعمل الكثير وتريد الكل كما قد تستعمل الكل وتريد به الكثير كقوله ) تدمر كل شيء ) [ الأحقاف : 25 ] ومن جهة لفظ الملك فإنهم أشرف المخلوقات سوى الأنبياء عند بعض ، ومن قبل أنهم في السموات فإن ذلك يدل على علو مرتبتهم ودنوا منزلتهم ، ومن قبل اجتماعهم المدلول عليه بضمير الجمع في شفاعتهم وإذا كان حالهم هكذا فكيف يكون حال الجمادات ؟ وقوله ( لمن يشاء ( أي لمن يريد الشفاعة له ) ويرضى ( أي ويراه أهلاً أن يشفع له فههنا أيضاً أنواع أخر من المبالغة .
الأول توقيف الشفاعة على الإذن .
والثاني تعليقها بالمشيئة فيهم منه أنه بعد أن يؤذن في مطلق الشفاعة يحتاج إلى الأذن في كل مرة معينة .
والثالث رضا الله الشفاعة فقد يشاء ولكن لا يرضاه كقوله ) ولا يرضى لعباده الكفر ) [ الزمر : 7 ] وهذا عند أهل السنة واضح .
ثم صرح بالتوبيخ على قولهم الملائكة بنات الله فقال ) إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة ( أي كل واحد منهم ) تسمية الأنثى ( لأنهم إذا جعلوا الكل بنات فقد جعلوا كل واحدة بنتاً وبالعكس .
وههنا سؤالان : أحدهما : إن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعم من هؤلاء المسلمين فكان الأولى إن(6/206)
" صفحة رقم 207 "
يقال : إن الذين يسمون لا يؤمنون .
وثانيهما أنه كيف يلزم من عدم الإيمان بالآخرة هذه التسمية ؟ والجواب عن الأول أن اللام للعهد وبه خرج الجواب عن الثاني أيضاً لأنه بخير عن جميع معهود أنهم يسمون .
ولا يلزم من حمل شيء على شيء أن يكون بينهما ملازمة .
ولو سلم أن اللام للعموم فالمراد بمثل هذا التركيب المبالغة والتوكيد كما تقول : الإنسان زيد .
وعلى هذا فإن أريد بالحمل مجرد الإخبار فلا إشكال وإن أريد الملازمة فمعناه المبالغة أيضاً لأن غاية جهلهم بالآخرة وبالجزاء حملهم على ارتكاب مثل هذا الافتراء على الله ، وإلى هذا أشار بقوله ) ما لهم به من علم أن يتبعون إلا الظن ( واعلم أن الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه بحث مع هؤلاء المشركين الذين سموا الملائكة إناثاً بحثاً طويلاً بناء على ظنه بهم أنهم رأوا في لفظ الملائكة تاء فلذلك جعوله مؤنثاً .
وحاصل ذلك البحث يرجع إلى أن التاء لا يلزم أن تكون للتأنيث فقد تكون لتأكيد الجمع كحجارة وصقورة ، أو لغير ذلك من المعاني ، ونحن قد أسقطنا تلك البحون لعدم فائدتها كما نبهناك عليه .
ثم بين الله سبحانه قاعدة كلية فقال : ( وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ( أي كل ما يجب أن يحصل منه المكلف على العلم واليقين فلا ينفع فيه الظن والتخمين ، ومن جملته مسائل المبدأ والمعاد التي ينبني البحث فيها على البراهين العقلية والدلائل السمعية ، ومن قنع في امثالها بالوهم والظن لعدم الاستعداد أو لحفظ بعض المنافع الدنيوية وجب الإعراض عنه كما قال ) فأعرض ( أي إذا وقفت على قلة استعدادهم وعدم طلبهم للحق فأعرض يا محمد يا طالب الحق ) عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ( ويجوز أن يكون هذا الإعراض متضمناً للأمر .
بالقتال أي أعرض عن المقال واقبل على القتال .
وقوله ( ذلك ( أي الذي ذكر من التسمية أو من اعتقاد كون الأصنام شفعاء ) مبلغهم من العلم ( جملة معترضة .
ثم بين علة الإعراض قائلاً ) إن ربك هو أعلم ( إلى آخرة ، وفيه بيان أنه تعالى يجازي كل فريق بحسب ما يستحقه ، وفيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كيلا يتعب نفسه في تحصيل ما ليس يرجى حصوله وهو إيمان أهل العناد الذين قنعوا بالظن بدل العلم ووقفوا لدى الباطل دون الحق .
ثم قرر أنه سوى الملك والملكوت لغرض الجزاء والإثابة .
والحسنى صفة المثوبة والأعمال ، وإضافة الكبائر إلى الإثم إضافة النوع إلى الجنس لأن الإثم يشمل الكبائر والصغائر .
واختلف في الكبائر وقد أشبعنا القول القول فيها في سورة النساء في قوله ) إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) [ الآية : 31 ] والفواحش أم تزايد قبحه من الكبائر كأنها مع كبر مقدار عقابها قبيحة في الصورة كالشرك بالله .
والمراد باللمم الصغائر ، والتركيب يدل على لاقلة ومنه اللمم المس من الجنون وألم بالمكان إذا قل لبثه فيه قال :(6/207)
" صفحة رقم 208 "
ألمت فحيث ثم قامت فودعت
وإلا صفة كأنه قيل : كبائر الإثم وفواحشة غير اللمم ، أو استثناء منقطع لأن اللمم ليس من الفواحش .
عن أبي سعيد الخدري : اللمم هي النظرة والغمزة والقبلة. عن السدي : الخطرة من الذنب .
وعن الكلبي : كل ذنب لم يذكر الله عز وجل عليه حداً ولا عذاباً .
وعن عطاء : هي ما تعتاده النفس حيناً بعد حين .
قال جار الله : معنى قوله ) إن ربك واسع المغفرة ( أنه يكفر الصغائر باجتناب لاكبائر ويكفر الكبائر بالتوبة .
وأقول : فيه إشارة إلى أن اللمم ما لا يمكن فيه الاجتناب عنه لكل الناس أو لأكثرهم فالعفو عن ذلك يحتاج إلى سعة وكثرة ، بل فيه بشارة أنه سبحانه يغفر الذنوب جميعاً سوى الشرك لأن غفران اللمم لا يوجب الوصف بسعة المغفرة وإنما يوجب ذلك أن لو غفر معها الكبائر .
وقوله ( هو أعلم بكم ( إلى آخره .
دليل على وجوب وقوع الغفران لأنه إذا كان عالماً بأصلهم وفرعهم كان عالماً بضعفهم ونقصهم فلا يؤاخذهم بما يصدر عنهم على مقتضى جبلتهم وطبعهم .
فكل شيء يرجع إلى الأصل والأرض بطبعها تميل إلى الأسفل .
والجنين أوله نطفة مذرة وآخره الاغتذاء بدماء قذرة ، وإذا كان مبدأ حاله هكذا وهو في أوسط أمره متصف بالظلم والجهل والعاقبة غير معلومه وجب عليه أن لا يزكي نفسه فإن الله تعالى أعلم بالزكي والتقي أولاً وآخراً باطناً وظاهراً ، وما أحسن نسق هذه الجمل .
وقد أبعد بعض أهل النظم فقال لما ذكر أنه أعلم بمن ضل كان للكافر أن يقول : كيف يعلم الله أموراً نعلمها في البيت الخالي وفي جوف الليل المظلم ؟ فأجاب الله تعالى بأنا نعلم ما هو أخفى من ذلك وهو أحوالكم وقت كونكم أجنة .
وقوله ( في بطون أمهاتكم ( للتأكيد فإنه ذا خرج من بطن الأم يدعى سقطاً أو ولداً .
وقيل : أراد أن الضال والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله وبأنه كتب عليهما في رحم أمهما أنه ضال أو مهتد .
وقيل : فيه تقرير الجزاء وتحقيق الجزاء وتحقيق الحشر فإن العالم بأحوال المكلف وهو جنين القادر على إنشائه من الأرض أول مرة .
عالم بأجزائه بعد التفرق ، قادر على جمعه بعد التمزق .
والعامل في ( إذ ) هو ( اذكر ) أو ما يدل عليه ) أعلم ( أي يعلمكم وقت الإنشاء والخطاب للموجودين وقت نزول الآية ولللآخرين بالتبعية .
ويجوز أن يكون الإنشاء من الأرض إشارة إلى خلق أبينا آدم .
وقوله ( وإذ أنتم ( يكون خطاباً لنا .
قوله ) أفرأيت الذي تولى ( قال بعض المفسرين : نزل في الوليد بن المغيرة جلس عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسمع وعظه وأثرت الحكمة فيه تأثيراً قوياً فقال له رجل : لم تترك دين آبائك ؟ قال : أخاف .
ثم قال له : لا تخف وأعطني كذا وأنا أتحمل عنك أوزارك فأعطاه ما ألزمه وتولى عن الوعظ واستماع(6/208)
" صفحة رقم 209 "
كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال بعضهم : نزل في عثمان بن عفان كان يعطي ماله عطاء فقال له أخوه من أمه عبد الله بن سعد بن أبي سرح .
ويوشك أن يفنى مالك فأمسك فقال له عثمان : إن لي ذنوباً وخطايا وإني أرجو أن يغفر الله لي بسبب العطاء .
فقال عبد الله : أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن الإعطاء ومعنى تولي ترك المركز يوم أحد فعاد عثمان إلى خير من ذلك .
يقال : أكدى الحافر إذا لقيته كدية وهي أرض صلبة كالصخرة ونحوه ( أجبل الحافر وأجبل الشاعر ) إذا أفحم .
ثم وبخه بأنه لا يعلم الغيب فيكف يعلم أن أوزاره محمولة عنه ؟ وقيل : نزلت في أهل الكتاب وذلك أنه لما بين حال المشركين المعاندين شرع في قصة هؤلاء والمعنى : أفأيت الذي تولى أي صار متولياً لكتاب الله وأعطى قليلاً من الزمان حق الله فيه ، ولما بلغ عصر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أمسك عن العمل به .
قالوا : يؤيد هذا التفسير قوله ) أم لم ينبأ بما في صحف موسى ( عينها أو جنسها وهو ما نبأهم به نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) .
وجمع الصحف إما لأن موسى له صحيفة وإبراهيم له صحيفة فذكر لاتثنية بصيغة الجمع ، وإما لأن كل واحد منهما له صحف لقوله تعالى ) وألقى الألواح ) [ الأعراف : 15 ] وكل لوح صحيفة .
وتقديم صحف موسى إما لأنها أقرب وأشهر وأكثر وإما لأنه رتب وصف إبراهيم عليه ، وإما لحسن رعاية الفاصلة وقد راعى في آخر ( سبح اسم ربك ) هذا المعنى مع ترتيب الوجود .
والتشديد في قوله ) وفي ( للمبالغة في الوفاء ، أو لأنه بمعنى وفر وأتم كقوله ) فأتمهن ) [ البقرة : 124 ] وأطلق الفعل ليتناول كل وفاء وتوفية من ذلك تبليغه الرسالة واستقلاله بأعباء النبوة والصبر على ذبح الولد وعلى نار نمرود وقيامه بأضيافه بنفسه .
يروى أنه كان يخرج كل يوم فيمشي فرسخاً يطلب ضيفاً فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم .
وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقاً فلما رمي في النار قال له جبريل وميكائيل : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليكم فلا .
قالا : فسل الله .
قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي .
وروي في الكشاف عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار وهي صلاة الفجر والضحى .
وروي ( ألا تمسون وحين تصبحون إلى حين تظهرون ) وعن الهزيل بن شرحبيل كان بين نوح وإبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) يؤخذ الرجل بجريرة غيره ويقتل الزوج بامرأته والعبد بسيده ، وأول من خالفهم إبراهيم فلهذا قال سبحانه ) ألا تزر وازرة ( وهي مخففة من الثقيلة ولهذا لم ينصب الفعل وضمير الشأن محذوف ومحله الجر بدلاً مما في صحف موسى ، أو الرفع كأن قائلاً قال : وما في صحف موسى وإبراهيم ؟ فقيل : هو أنه لا تزر نفس من شأنها أن تزر وزر نفس أخرى إذا لم تحمل التي يتوقع منها ذلك فغيرها أولى بأن لا تحمل .(6/209)
" صفحة رقم 210 "
ثم عطف على قوله ) ألا تزر ( قوله ) وأن ليس ( وحمه حكم ما يتلوه من المعطوفات فيام مر .
وفيه مباحث : الأول والإنسان عام وقيل : هو الكافر .
وأورد عليه أن الله سبحانه قال ) ليس للإنسان ( ولو أراد الكافر لقال ( ليس على الإنسان ) وهذا بالحقيقة غير وارد فإن اللام قد تستعمل في مثل هذا المعنى قال تعالى ) وإن أسأتم فلها ) [ الإسراء : 7 ] وورد على الول أن الدعاء والصدقة والحج ينفع الميت كما ور في الأخبار ، وأيضاً قال تعالى ) من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) [ الأنعام : 160 ] والأضعاف فوق ما سعى .
وأجاب بعضهم بأن قوله ) ليس للإنسان إلا ما سعى ( كان في شرع من تقدم ثم إنه تعالى نسخه في شريعتنا وجعل للإنسان ما سعى وما لم يسع .
وقال المحققون : إن سعي غيره وكذا الأضعاف لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمناً صالحاً كان سعي غيره كأنه سعي نفسه .
والثاني ( ما ) مصدرية والمضاف محذوف أي الأثواب أو جزاء سعيه .
ويجوز أن تكون موصولة أي إلا الجزاء الذي سعى فيه .
الثالث في صيغة المضي إشارة إلى أنه لا يفيد الإنسان إلا الذي قد حصل فيه ووجد ، وأما مجرد النية مع التواني والتراخي فذلك مما لا اعتماد عليه ولعل ذلك من مكايد الشيطان يمنيه يعده إلى أن يحل اوجل بغتة .
قوله ) وأن سعيه سوف يرى ( إن كان من الرؤية فكقوله ) اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله ) [ التوبة : 105 ] وإن كان من الإراءة فالفائدة في إراءته وعرضه عليه أن يفرح به هو ويحزن الكافر والله قادر على إعادة كل معدوم عرضاً كان أو جوهرا ، والمراد أن يريه الله إياه على صورة جميلة إن كان عملاً صالحاً وبالضد إن كان بالضد .
ويجوز أن يكون مجازاً عن الثواب كما يقال ( سترى إحسانك عند الملك ) أي جزاءه إلا أن القول الأول أقوى لقوله ) ثم يجزاه الجزاء الأوفى ( اللهم إلا أن يراد تراخي الرتبة والفائدة تعود إلى الوصف بالأوفى وهو الرؤية التي هي أوفى من كل وافٍ أي يجزى العبد بسعيه الجزاء الأتم .
وجوز أن يكون الضمير للجزاء ثم فسره بقوله ) الجزاء الأوفى ( وأبدل عنه كقوله ) وأسروا النجوى الذين ظلموا ) [ الأنبياء : 3 ] ومن لطائف الآية أنه قال في حق المسيء ) لا تزر وارزة وزر أخرى ( ولا يلزم منه أن يبقى الوزر على المذنب بل يجوز أن يسقط عنه بالمحو والعفو ، ولو قال ( كل وازرة تزر وزر نفسها ) لم يكن بد من بقاء وزرها عليها .
وقال في حق المحسن ( ليس له ما سعى ) ولم يقل ( ليس له ما لم يسع ) إذا العبارة الثانية لا يلزمها أن له ما سعى ، والعبارة الأولى يلزمها ذلك لأنها في قولة كلامين إثبات ونفي والحاصل أنه قال هي حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءه ، وفي حق المحسن بعبارة توجب رجاءه كل ذلك لأن رحمته سبقت غضبه .
قوله ) وأن إلى ربك المنتهى ( المشهور أن فيه بيان المعاد كقوله(6/210)
" صفحة رقم 211 "
عز من قائل ) وإلى الله المصير ) [ آل عمران : 28 ] أي للناس بين يدي الله وقوف وفيه بيان وقت الجزاء .
وقد يقال : المراد به التوحيد وهو تأويل أهل العرفان .
والحكماء يستدلون به على وجود الصانع فإن الممكن لا بد أن ينتهي إلى الواجب .
وقيل : أراد أن البحث والإدراك ينتهي عنده كما قيل : إذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا .
وعن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا ذكر الرب فانتهوا ) والخطاب عام لكل سامع مكلف وفيه تهديد للمسيء ووعد للمحسن : وقيل : الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه تسلية له .
ثم بين غاية قدرته وهي إيجاده الضدين الضحك والبكاء والإماتة والإحياء في شخص واحد ، وكذا الذكورة والأنوثة في مادة واحدة هي النطفة نطفت إذا تمنى تدفق في الرحم .
يقال : منى وأمنى .
وقال الأخفش : تخلق والمنى والتقدير وفيه إبطال قول الطبيعيين أن مبدأ الضحك قوة التعجب ، ومبدأ الكباء رقة القلب ، وإن الحياة مستندة إلى الطبيعة كالنبات ، والموت أمر ضروري وهو تداعي الأجزاء العنصرية إلى الانفكاك بعد اجتماعها على سبيل الاتفاق أو لاقتضاء سبب سماوي من اتصال أو انفصال وذلك أن انتهاء كل ممكن إلى الواجب واجب .
قوله ) أمات وأحيي ( إما لأجل الفاصلة أو لأنه اعتبر حالة كون الإنسان نطفة ميتة .
قال الأطباء : الذكر أسخن وأجف والأنثى أبرد وأرطب .
وقالوا في نبات شعر الرجل : إن الشعور تتكون من بخار دخاني منجذب إلى المسام فإذا كانت المسام ي غاية الرطوبة والتحلل كما في مزاج الصبي والمرا " ، لا ينبت الشعر لخروج تلك الأدخنة من المسام الرطبة بسهولة قبل أن يتكون شعراً .
وإذا كانت في غاية اليبوسة والتكاثف لم ينبت لعسر خروجه من المخرج الضيق وإنما يندفع كثرة تلك الأبخرة إلى الرأس حتى رأس المرأة والصبي لأنه مخلوق كقبة فوق الأبخرة والأدخنة فيتصاعد إليها .
وأما في الرجل فيندفع إلى صدره كثيراُ لحرارة القلب .
وإلى الآت التناسل لحرارة الشهوة ، وإلى اللحيين لكثرة الحرارة بسبب الأكل والكلام ومع حرارة الأبخرة ، ومن شأن الحرارة جذب الرطوبة كجذب السراج الزيت .
هذا أقوى ما قالوا في هذا الباب .
ويرد عليه أنه ما السبب لتلازم شعر اللحية وآلة التناسل فإنها لو قطعت لم تنبت اللحية ، ولو سلم التلازم من حيث إن حرارة الخصيان تقل بسبب قطع آلة الشهوة فلا بد أن يعترفوا بانتهاء جميع الممكنات إلى الواجب بالذات .
واعلم أنه سبحانه في هذه الآية وسط الفصل بين الاسم والخبر حيث كان توهم الحملية فيه أكثر وترك الفصل حيث لم يكن كذلك .
ففي آبات الضحك والبكاء والإماتة والإحياء وسط الفصل للتوهمات المذكورة حتى قال نمرود ) أنا أحي وأميت ) [ البقرة :(6/211)
" صفحة رقم 212 "
58 ] وأما خلق الذكر والأنثى فلم يتوهم أحد أنه بفعل المخلوقين فلم يؤكد بالفصل وعلى هذا القياس قوله ) وأن عليه النشأة الأخرى ( ظاهرة وجوب وقوع الحشر في الحكمة الإلهية للمجازاة على الإحسان والإساءة وقال في التفسير الكبير : هو كقوله ) ثم أنشأناه خلقاًً آخر ) [ المؤمنون : 14 ] أي بعد خلقته ذكراً وأنثى نفخ فيه الروح الإنساني ثم أغناه بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره ، ثم أقناه بالكسب بعد كبره أي أعطاه القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك ، وبالجملة فالإغناء بكل ما تدفع به الحاجة والإقناء بما زاد عليه .
وإنما وسط الفصل لأن كثيراً من الناس يزعم أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده ، فمن كسب استغنى ومن كسل افتقر .
وذهب بعضهم إلى أنه بالبخت أو النجوم فقال رداً عليهم ) وأنه هو رب الشعرى ( وهما شعريان شامية ويمانية وهذه أنورهما .
وخصت بالذكر لأن أبا كبشة أحد أجداد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من قبل أمه قال : لا أرى شمساً ولا قمراً ولا نجماً تقطع السماء عرضاً غيرها فليس شيء مثلها فعبدها وعبدتها خزاعة فخالفوا قريشاً في عبادة الأوثان .
وكانت قريش يقولون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أبو كبشة ) تشبيهاً له لمخالفته إياهم في دينهم .
وحين ذكر أنه أغنى وأقنى وذلك كان بفضل المولى لا بعطاء الشعرى ، ذكرهم حال الأقدمين الهلكى وعاد الأولى قوم هود والأخرى ، إرم ميزوا عن قوم كانوا بمكة .
وقيل : أراد التقدم في الدنيا وأنهم كانوا اشرافاً قوله ) وثمود ( عطف على ) عاد ( أي ما رحم عليهم .
ومن المفسرين من قال فما أبقى أي ما ترك أحداً منهم كقول ) فهل ترى لهم من باقية ) [ الحاقة : 8 ] وبه تمسك الحجاج على من زعم أن ثقيفاً من ثمود .
وإنما وصف قوم نوح بأنهم كانوا هم أظلم وأطغى فبالغ بتوسيط الفصل وبناء التفضيل لأن نوحاً عليه السلام كان أول الرسل إلى أهل الأرض ، وكان قومه أول من سن التكذيب وإيذاء النبي والبادي أظلم .
ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها .
ولأنهم كانوا مجاوزين حد الاعتدال يضربون نبيهم حتى لم يربه حراك وينفرون عنه الناس ويخوفون صبيانهم وما نجع فيهم وعظه ألف سنة إلا خمسين عاماً .
وليس قوله ) أنهم كانوا ( تعليلاً للإهلاك حتى يرد عليه أن غيرهم من الظالمين والطاغين لا يلزم أن يهلكوا وإنم هي جملة معترضة بياناً لشدة طغيانهم وفرط ظلمهم ) والمؤتفكة ( يعني قريات قوم لوط لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت وقد مر في هود ) أهوى ( أ ) ي رفعها إلى السماء على جناح جبريل فأسقطها إلى الأرض ) فغشاها ما غشي ( من الحجار المسومة وفيه تهويل وتفخيم لما صب عليهم من العذاب ، وجوز أن يكون ( ما ) فاعلاً كقوله ) والسماء وما بناها ) [ الشمس : 5 ] هذا كله حكاية ما في الصحف إلا فيمن قرأ ) وإن إلى ربك المنتهى ( بالكسر على الابتداء وكذا ما بعده أما قوله ) فبأي آلاء ربك تتمارى ( فقد قيل : هو أيضاً مما في(6/212)
" صفحة رقم 213 "
الصحف وقيل : هو ابتداء كلام ، والخطاب لكل سامع ولرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كقوله ) لئن أشركت ليحبطن عملك ) [ الزمر : 65 ] والمراد أنه لم يبق فيها إمكان الشك ، وقد عد نعماً ونقماً وجعل كلها آلاء لأن النقم أيضاً نعم إن أراد أن يعتبر .
ويحتمل أن يقال لما عد نعمه على الإنسان من خلقه وإغنائه وإقنائه .
ثم ذكر أنه أهلك من كفر بها ، وبخ الإنسان على جحد شيء من نعمة فيصيبه مثل ما أصاب المتمارين : أو يقال : لما حكى الإهلاك قال للشاك : أنت ما أصابك الذي أصابهم وذلك بحفظ الله إياك فبأي آلاء ربك تتمارى وسيجيء له مزيد بيان في سورة الرحمن ) هذا ( القرآن أو الرسول ) نذير ( أي إنذار أو منذر من جنس الإنذارات أو المنذرين .
وقال ) الأولى ( على تأويل الجماعة وحين فرغ من بيان التوحيد والرسالة ختم السورة بذكر اقتراب الحشر فقال ) أزفت الآزفة ( أي قربت الموصوفة بالقرب في قوله ) اقترب للناس حسابهم ) [ الأنبياء : 1 ] ( وما يدريك لعل الساعة قريب ) [ الشورى : 17 ] وفيه تنبيه على أن قرب الساعة يزداد كل يوم وأنها تكاد تقوم ) ليس لها من دون الله ( نفس ) كاشفة ( تكشف عن وقت مجيئها أو تقدر على كشفها ودفعها إذا وقعت ، ولا يلزم من قدرة الله على دفعها وجوب وقوع الدفع فإن كل مقدور لا يلزم أن يكون واقعاً .
والتاء في ) كاشفة ( للتأنيث كما مر ، أو للمبالغة أي لا أحد يكشف حقيقتها ، أو هي مصدر كالعافية ، و ( من ) زائدة والتقدير ليس لها كاشفة من عند الله ومن قبل علمه وإخباره .
ثم وبخهم على التعجب من القرآن ومن حديث القيامة وضحكهم من استهزاء وإنكاراً .
وفي قوله ) ولا تبكون ( إلى آخره تنبيه على أن البكاء والخشوع وحضور القلب حق عليهم عند سماع القرآن كما قال ) إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً ) [ مريم : 57 ] والسمود الغفلة وقد يكون مع اللهو .
وعن مجاهد : كانوا يمرون بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) غضاباً مبرطمين .
وقال : البرطمة الإعراض ثم إنهم كانوا أنصفوا من أنفسهم وقالوا : لا نعجب ولا نضحك ولا نسمد بل نبكي ونخضع فلا جرم قال ) فاسجدوا ( أي إذا اعترفتم لله بالعبودية فاخضعوا له وأقيموا وظائف العبادة .
وقد مر في سورة الحج في قوله ) ألقى الشيطان في أمنيته ( ) الآية : 52 ] أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه السورة في الصلاة ثم سجد فسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس وذكرنا سببه .(6/213)
" صفحة رقم 214 "
سورة القمر
( سورة القمر وهي مكية حروفها ألف وسبعمائة وأربعمائة وثلاثة وعشرون كلماتها ثلثمائة واثنتان وأربعون آياتها خمس وخمسون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( القمر : ( 1 - 55 ) اقتربت الساعة وانشق . . . .
" اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر سيعلمون غدا من الكذاب الأشر إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها(6/214)
" صفحة رقم 215 "
فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر "
( القراآت )
مستقر ( بالجر : يزيد ) الداعي ( ) إلى الداعي ( بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن كثير غير ابن فليح وزمعة وافق أبو عمرو وأبو جعفر ونافع غير قالون في الوصل فيهما بالياء ) يدع الداع ( بغير ياء في الحالين ) إلى الداع ( في الوصل : قالون : الباقون : بغير ياء فيء الحالين ) شيء نكر ( بسكون الكاف : ابن كثير ) خاشعاً ( بالألف : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف .
الآخرون ) خشعاً ( كركع .
) ففتحنا ( بالتشديد : ابن عامر ويزيد وسهل ويعقوب ) وفجرنا ( بالتخفيف : أبو زيد عن المفضل و ) وندري ( وما بعده بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل .
) أو لقي ( مثل أو ( نبئكم ) ) ستعلمون ( على الخطاب : ابن عامر وحمزة ) سنهزم ( بالنون الجمع بالنصب : روح وزيد عن يعقوب .
الوقوف ) القمر ( ه ) مستمر ( ه ) مزدجر ( ه لا بناء على أن قوله ) حكمه ( بدل من ( ما ) أو من ) مزدجر ( ) النذر ( ه لا للعطف مع اتصاله المعنى ) عنهم ( لأنه لو وصل لأوهم أن الظرف متصل به وليس كذلك بل هو ظرف ) يخرجون ( ) نكر ( ه لا لاتصال الحال بالظرف من قبل اتحاج عاملها ) منتشر ( ه لا لأن ) مهطعين ( حال بعد حال ) الداع ( ط ) عسر ( ه ) وازدجر ( ه ) فانتصر ( ه ) منهمر ( ه ز للعطف مع اتحاد مقصود الكلام ) قدر ( ه ج للعارض من الجملتين المتفقتين وللآية مع احتمال الحال أي وقد حملناه ) ودسر ( ه لا لأن ) تجري ( صفة لها ) بأعيننا ( ج لأن جزاء مفعول له أو مصدر لفعل محذوف ) كفر ( ه ) مدكر ( ه ) ونذر ( ه ) مدكر ( ه ) ونذر ( ه ) مستمر ( ه لا لأن ما بعده صفة الناس لا لأن ) كأنهم ( حال ) منقعر ( ه ) ونذر ( ه ) مدكر ( ه ) بالنذر ( ه ) نتبعه ( لا لتعلق ( إذا ) بها ) وسعر ( ه ) أشر ( ه ) الأشر ( ه ) واصطبر ( ه لا للعطف ) بينهم ( ج لأن كل مبتدأ مع أن الجملة من بيان ما تقدم ) محتضر ( ه ) فعقر ( ه ) ونذر ( ه ) المحتظر ( ه ) مدكر ( ه ) بالنذر ( ه ) لوط ( ط(6/215)
" صفحة رقم 216 "
لأن الجملة لا تصلح صفة للمعرفة ) بسحر ( ه لا ) عندنا ( ط ) شكر ( ه ) بالنذر ( ه ) ونذر ( ه ) مستقر ( ه ج للفاء أي فقيل لهم ذقوا ) ونذر ( ه ) مدكر ( ه ) النذر ( ه ج لاتصال المعنى بلا عطف ) مقتدر ( ه ) في الدبر ( ه ) وأمر ( ه ) وسعر ( ط بناء على أن ) يوم ( ليس ظرفاً لضلال وإنما هو ظرف لمحذوف أي يقال لهم ذقوا ) وجوهم ( ط ) سقر ( ه ) بقدر ( ه ) بالبصر ( ج ) مدكر ( ه ) مستطر ( ه ) ونهر ( ه لا لأن ما بعده بدل ) مقتدر ( ه .
التفسير : أول هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة ) أزفت الآزفة ) [ النجم : 57 ] إلا أنه ذكر ههنا دليلاً على الاقتراب وهو قوله ) وانشق القمر ( في الصحيحين عن أنس أن الكفار سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) آية فانشق القمر مرتين .
وعن ابن عباس : انفاق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت .
وقال ابن مسعود : رأيت حراء بين فلقتي القمر .
وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال : الا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) هذا قول أكثر الفسرين .
وعن بعضهم أن المراد سينشق القمر وصيغة الماضي على عادة إخبار الله ، وذلك أن انشقاق القمر أمر عظيم الوقع في النفوس فكان ينبغي أن يبلغ وقوعه حد التواتر وليس كذلك .
وأجيب بأن الناقلين لعلهم اكتفوا بإعجاز القرآن عن تشهير سائر المعجزات بحيث يبلغ التواتر .
وأيضاً إنه سبحانه جعل انشاق القمر آية من الآيات لرسوله ولو كانت مجرد علامة القيامة لم يكن معجزة له كما لم يكن خروج دابة الأرض وطلوع الشمس من المغرب وغيرهما معجزات له ، نعم كلها مشتركة في نوع آخر من الإعجاز وهو الإخبار عن الغيوب .
وزعم بعض أهل التنجيم أن ذلك كان حالة شبه الخسوف ذهب بعض جرم القمر عن البصر وظهر في الجو شيء مثل نصف جرم القمر نحن نقول : إخبار الصادق بأن يتمسك به أولى من قول الفلسفي .
هذا مع أن استدلالهم على امتناع الخرق في السماويات لا يتم كما بينا في الحكمة .
، كيف يدل انشقاق القمر على اقتراب الساعة نقول : من جهة إن ذلك يدل على جواز انخراق السماويات وخرابها خلاف ما زعمه منكرو الحشر من الفلاسفة وغيرهم .
ومن ههنا ظن بعضهم وإليه ميل الإدمام فخر الدين الرازي أن المراد باقتراب الساعة ليس هو القرب الزماني وإنما المراد قربها في العقول في الأذهان كأنه لم يبق بعد ظهور هذه الآية للمكر مجال .
واستعمال لفظ الاقتراب ههنا مع أنه 9 مقطوع به كاستعمال ( لعل ) في قوله ) لعل الساعة تكون قريباً ) [ الأحزاب : 63 ] والأمر عند الله معلوم .
قال : وإنما ذهبنا إلى هذا التأويل لئلا يبقى للكافر مجال الجدال فإنه قد مضى(6/216)
" صفحة رقم 217 "
قرب سبعمائة سنة ولم تقم الساعة ولا يصح إطلاق لفظ القرب على مثل هذا الزمان والجواب أن كل ما هو آتٍ قريب وزمان العالم زمان مديد والباقي بالنسبة على الماضي شيء يسير قال أهل اللغة : في ( افتعل ) مزيد تشجم ومبالغة فمعنى اقترب دنا دنواً قريباً ، وكذلك اقتدر ابلغ من قدر .
ثم يبن أن ظهور آيات الله لا يؤثر فيهم بل يزيد في عنادهم وتمردهم حتى سموها سحراً مستمراً أي دائماً مطرداً كأنهم قابلوا ترادف الآيات وتتابع المعجزات باستمرار السحر ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يأتي كل أوان بمعجزة قولية أو فعلية سماوية أو أرضية .
وقيل : هو من قولهم ( حبل مرير الفتل ) من المرة وهي الشدة أي سحر قوي محكم .
وقيل : من المرارة يقال : استمر الشيء إذا اشتد مراراته أي سحر مستبشع مر في مذاقنا .
وقيل : مستمر أي مار ذاهب زائل عما قريب .
عللوا أنفسهم بالأماني الفارغة فخيب الله آمالهم بإعلاء الدين وتكامل قوته كل يوم .
والظاهر أن قوله ) وأن يروا ( إلى آخر الآية .
جملة معترضة بياناً لما اعتادوه عند رؤية الآيات .
وقوله ( وكذبوا ( عطف على قوله ) اقترب ( كأنهم قابلوا الاقتراب والانشقاق بالتكذيب واتباع الأهواء والمعنى وكذبوا بالأخبار عن اقتراب الساعة ) واتبعوا أهواءهم ( في أن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ساحر أو كاهن أو كذبوا بانشقاق القمر واتبعوا آراءهم الفاسدة في أنه خسوف عرض للقمر وكذلك كل آية ) وكل أمر مستقر ( صائر إلى غاية وأن أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) سيصير إلى حد يعرف منه حقيقته وكذلك أمرهم مستقر على حالة البطلان والخذلان .
ومن قرأ بالجر فلعطف ) كل ( على الساعة أي اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر وبين حاله .
ثم أشار بقوله ) ولقد جاءهم ( إلى أن كل ما هو لطف بالعباد قد وجد فأخبرهم الرسول باقتراب القيامة وأقام الدليل على صدقه ووعظهم بأحوال القرون الخالية وأهوال الدار الآخرة .
وفي كل ذلك ) مزدجر ( لهم أي ازدجار أو موضع ازدجار ومظنة ادكار وهو افتعال من الزجر قلبت التاء دالاً .
وقوله ( حكمة ( يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذا الترتيب في إرسال الرسول وإيضاح الدليل والإنذار بمن مضى من القرون حكمة بالغة كاملة قد بلغت منتهى البيان ) فما تغنى ( نفي أو استفهام إنكار معناه أنك أتيت بما عليك من دعوى النبوة مقرونة بالآية الباهرة وأنذرتهم بأحوال الأقدمين فلم يفدهم فأي غناء تغنى النذر أي الإنذارات بعد هذا ) فتول عنهم ( لعلمك أن الإنذار لا يفيد فيهم ولا يظهر الحق لهم إلى يوم البعص والنشوز .
والداعي إسرافيل أو جبريل ينادي إلى شيء منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة .
وتخصيص المدعوين بالكافرين من حيث إنهم هم الذين يكرهون ذلك اليوم من ضيق العطن قوله ) خاشعاً ( حال من الخارجين والفعل للأبصار .
وليس قراءة من قرأ ) خشعاً ( على الجمع من باب ( أكلوني(6/217)
" صفحة رقم 218 "
البراغيث ) كما ظن في الكشاف ، ولكنه أحسن من ذلك ، ولهذا تواترت قراءته لعدم مشابهة الفعل صورة .
تقول في السعة ( قام رجل قعود غلمانه ) وضعف ( قاعدون ) وضعف نمه ( يقعدون ) لأن زيادة الحرف ليست في قوة زيادةالاسم .
وجوز أن يكون في ) خشعاً ( كقوله ) لا يرتد إليهم طرفهم ) [ إبراهيم : 43 ] والأجداث القوبر شبههم بالجراد المنتشر للكثرة والتموج والذهاب في كل مكان .
وقيل : المنتشر مطاوع أنشره إذا أحياه فكأنهم جراد يتحرك من الأرض وبدب فيكون إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعف حالهم .
ومعنى مهطعين مسرعين وقد مر في إبراهيم عليه السلام .
ثم إنه سبحانه أعاد بعض الأنباء وقدم قصة نوح على عاد وفائدة ، قوله ) فكذبوا عبدنا ( بعد قوله ) كذبت قبلهم قوم نوح ( هي فائدة التخصيص بعد التعميم أي كذبت الرسل أجمعين فلذلك كذبوا نوحاً .
ويجوز أن يكون المراد التكرير أي تكذيباً عقيب تكذيب ، كلما مضى منهم قرن تبعه قرن آخر مكذب .
وقوله ( عبدنا ( تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق المقصود من الخلق وقتئذ ولم يكن على وجه الأرض حينئذ عابد لله سواه فكذبوه ) وقالوا ( هو ) مجنون ( وازدجروه أي استقبلوه بالضرب والشتم وغير ذلك من الزواجر عن تبليغ أم أمر به .
وجوز أن يكون من جملة قولهم أي قالوا ازدجرته الجن ومسته وذهبت بلبه ) فدعى ربه أني مغلوب ( غلبني قومي بالإيذاء والتكذيب .
وقيل : غلبتني نفسي بالدعاء عليهم حين أيست من إجابتهم لي ) فانتصر ( منهم فانتقم منهم لي أو لدينك روي أن الواحد من قومه كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشياً عليه فيفيق وهو يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون .
وأبواب السماء وفتحها حقيقة عند من يجوز لها أبواباً وفيها مياهاً .
وعند أهل البحث والتدقيق هو مجاز عن كثرة أنصباب الماء من ذلك الصوب كما يقال في المطر الوابل ( جرت ميازيب السماء وفتحت أفواه القرب ) والباء للآية نحو : فتحت الباب بالمفتاح .
ونظيره قول القائل ( يفتح الله لك بخير ) وفيه لطيفة هي جعل المقصود مقدماً في الوجود والتقدير يفيض الله لك خيراً يأتي ويفتح لك الباب .
ويجوز أن يراد فتحنا أبواب السماء مقرونة ) بماء منهمر ( منصب في كثرة وتتابع أربعين يوماً .
قال علماء البيان : قوله ) فجرنا الأرض عيوناً ( أبلغ من أن لو قال ( وفجرنا عيون الأرض ) أي جعلنا الأرض كلها كأنها عيون منفجرة نظيره ) واشتعل الرأس شيباً ) [ مريم : 4 ] وقد مر ) فالتقى الماء ( أي جنسه يعني مساه السماء والأرض يؤيده قراءة من قرأ ) فالتقى الماآن ( ) على أمر قدر ( أي على حال قدرها الله عز وجل كيف شاء ، أو على حال جاءت(6/218)
" صفحة رقم 219 "
مقدرة متساوية أي قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض ، ولعله إشارة إلى أن ماء الأرض ينبع من العيون حتى إذا ارتفع وعلا لقيه ماء السماء .
ويحتمل أن يقال : اجتمع الماء على أمر هلاكهم وهو مقدر في اللوح ) وذات ألواح ودسر ( هي السفينة وهي من الصفات التي تؤدي مؤدى الموصوف فتنوب منابه .
وهذا الإيجاز من فصيح الكلام وبديعه .
والدسر المسامير جمع دسار من دسره إذا دفعه لأنه يدسر به منفذه .
فعلنا كل ما ذكرنا من فتح أبواب السماء وغيره ) جزاء ( أو جزيناهم جزاء ) لمن كان كفر ( وهو نوح عليه السلام لأن وجود النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نعمة من الله وتكذيبه كفرانها .
يحكى أن رجلاً قال للرشيد : الحمد لله عليك .
فسئل عن معناه قال : أنت نعمة حمدت الله عيلها .
والضمير في ) تركناها ( للسفينة أو للفعلة كما مر في ( العنكبوت ) ) فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين ) [ الآية : 15 ] والمدكر المعتبر وأصله ( مذتكر ) افتعال من الذكر والاستفهام فيه وفي قوله ) كيف كان عذابي ونذر ( أي إنذاراتي للتوبيخ والتخويف ) ولقد يسرنا القرآن ( سهلناه للادّكار والاعتاظ بسبب المواعظ الشافية والبيانات الوافية .
وقيل : للحفظ والأول أنسب بالمقام .
وإن روي أنه لم يكن شيء من كتب الله محفوظاً على ظهر القلب سوى القرآن .
سؤال : ما الحكمة في تكرير ما كرر في هذه السورة من الآي ؟ والجواب أن فائدته تجديد التنبيه على الادكار والاتعاظ والتوقيف على تعذيب الأمم السالفة ليعتبروا بحالهم ، وطالما قرعت لاعصا لذوي الحلوم وأصحاب النهي وهكذا حكم التكرير في سورة الرحمن عند عد كل نعمة ، وفي سورة المرسلات عند عد كل آية لتكون مصورة للأذهان محفوظة في كل أوان .
ونفس هذه القصص كم كررت في القرآن بعبارات مختلفة أوجز وأطنب لأن التكرير يوجب التقرير والتذكير ينبه الغافل على أن كل موضع مختص بمزيد فائدة لمن يعرف من غيره ، وإنما كرر قوله ) فكيف كان عذابي ونذر ( مرتين في قصة عاد لأن الاستفهام الأول أورده للبيان كما يقول المعلم لمن لا يعرف كيف المسألة الفلانية ليصير المسؤول سائلاً فيقول : كيف هي ؟ فيقول المعلم : إنها كذا وكذا .
والاستفهام الثاني للتوبيخ والتخويف .
فأما في قصة ثمود فاقتصر على الأول للاختصار وفي قصة نوح اقتصر على الثاني لذلك .
ولعله ذكر الاستفهامين معاً في قصة عاد لفرط عتوهم وقولهم ) من أشد منا قوة ) [ فصلت : 15 ] وقد مر في حم السجدة تفسير الصرصر والأيام النحسات .
وإنما وحد ههنا لأنه أراد مبدأ الأيام ووصفه بالمستمر أغنى عن جمعه أي استمر عليهم ودام حتى أهلكهم .
قيل : استمر عليهم جميعاً على كبيرهم وصغيرهم حتى لم يبق منهم نسمة .
وقيل : المستمر الشديد المرارة .
) تنزع الناس ( تقلعهم عن أماكنهم فتكبهم وتدق رقابهم(6/219)
" صفحة رقم 220 "
) كأنهم أعجاز نخل منقعر ( منقلع عن مغارسه .
وفي هذا التشبيه إشارة إلى جثثهم الطوال العظام ، ويجوز أن الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقى أجساداً بلا رؤس كأعجاز النخل أصولاً بلا فروع .
قال النحويون : اسم الجنس الذي تميز واحده بالتاء جاز في وصفه التذكير كما في الآية ، والتأنيث كما في قوله ) أعجاز نخل خاوية ) [ الحاقة : 7 ] هذا مع أن كلاً من السورتين وردت على مقتضى الفواصل. قوله ) أبشراً ( من باب ما اضمر عامله على شريطة التفسير وإنما أولى حرف الاستفهام ليعلم أن الإنكار لم يقع على مجرد الاتباع ولكنه وقع على اتباع البشر الموصوف وأنه منجهات إحداها كونه بشراً وذلك لزعمهم أن الرسول لا يكون بشراً .
الثاني كونه منهم وفيه بيان قوة المماثلة ، وفيه بيان مزيد استكبار أن يكون الواحد منهم مختصاً بالنبوة مع أنهم أعرف بحاله .
الثالثة كونه واحداً ، أي كيف تتبع الأمة رجلاً أو أرادوا أنه واحد من الآحاد دون الأشراف. والسعر النيران جميع سعير للمبالغة ، أو لأن جهنم دركات ، أو لدوام العذاب كأن يقول : إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وفي سعر فعكسوا عليه قائلين : إن اتبعانك كنا إذاً كما تقول .
وقيل : الضلال البعد عن الصواب ، والسعر الجنون ومنه ( ناقة مسعورة ) وفي قوله ) أءلقي الذكر عليه من بيننا ( تصريح بما ذكرنا من أن واحداً منهم كيف اختص بالنبوة. وفي الإلقاء أيضاً تعجب آخر منهم وذلك أن الإلقاء إنزال بسرعة كأنهم قالوا : الملك جسم والسماء بعيدة فكيف نزل في لحظة واحدة ؟ أنكروا أصل الإلقاء ثم الإلقاء عليه من بينهم .
والأشر البطر المتكبر أي حمله بطره وشطارته على ادعاء ما ليس له .
ثم قال سبحانه تهديداً لهم ولأمثالهم ) سيعلمون غداً ( أي فيما يستقبل من الزمان هو وقت نزول العذاب أو يوم القيامة ) من الكذاب الشر ( بالتشديد أي الأبلغ في الشرارة .
وحكى ابن الأنباري أن العرب تقول : هو أخير وأشر .
وذلك أصل مرفوض .
ومن قرأ ) ستعلمون ( على الخطاب فإما حكاية جواب صالح أو هو على طريقة الالتفات .
ثم إنه تعالى خاطب صالحاً بقوله ) إنا مرسلو الناقة ( أي مخرجوها من اصخرة كما سألوا فتنة وامتحاناً لهم ) فارتقبهم ( وتبصر ما هم فاعلون بها ) واصطبر ( على إيذائهم ) ونبئهم أن الماء قسمة ( أي مقسوم ) بينهم ( خص العقلاء بالذكر تغليباً ) كل شرب محتضر ( فيه يوم لها ويوم لهم كما قال عز من قائل ) لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ) [ الشعراء : 155 ] وقد مر في ( الشعراء ) وقال في الكشاف : محضور لهم وللناقة وفيه إبهام .
وقيل : يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في شربها ) فنادوا صاحبهم ( وهو قدار نداء المستغيث وكان أشجع وأهجم على الأمور أو كان رئيسهم .
) فتعاطى ( فاجترأ على الأمر العظيم فتناول العقر وأحدثه بها أو تعاطى الناقة أو السيف أو(6/220)
" صفحة رقم 221 "
الأجر .
والهشيم الشجر اليابس المتهشم أي المتكسر والمحتظر الذي يعمل الحظيرة ، ووجه التشبيه أن ما يحتظر به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتكسر وأنهم صاروا موتى جاثمين ملقى بعضهم فوق بعض كالحطب الذي يكسر في الطرق والشوارع .
ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم وقوداً للجحيم كقوله ) فكانوا لجهنم حطباً ( والحاصب الريح التي ترميهم بالحجارة وقد مرّ في ( العنكبوت ) ولعل التذكير تباويل العذاب .
والسحر القطعة من الليل وهو السدس اخر كما مر في ( هود ) و ( والحجر ) وصرف لأنه نكرة وإذا أردت سحر يومك لم تصرفه .
والظاهر أن الاستثناء من الضمير في ) عليهم ( لأنه أقرب ولأنه المقصود .
وجوز أن يكون استثناء من فاعل كذبت وهو بعيد ) نعمة ( مفعول له أي إنعاماً وقوله ( كذلك نجزي من شكر ( أكثر المفرين على أنه إشارة إلى أنه تعالى يصون من عذاب الدنيا كل من شكر نعمة الله بالطاعة والإيمان .
وقيل : إنه وعد بثواب الآخرة أي كما نجيناهم من عذاب الدنيا ننعم عليهم يوم الحساب بالثواب .
وحين أجمل قصتهم فصلها بعض التفصيل قائلاً ) ولقد أنذرهم ( أي لوط ) بطشتنا ( شدة أخذنا بالعذاب ) فتماروا بالنذر ( فتشاكوا بالإنذارات ) ولقد راودوه عن ضيفه ( معناها قريب من المطالبة كما مر في ( يوسف ) والضمير للقوم باعتبار البعض لأن بعضهم راودوه وكان غيرهم راضين بذلك فكانوا جميعاً على مذهب واحد .
) فطمسنا أعينهم ( مسخناها وجعلناها مع الوجه صفحة ملساء لا يرى لها شق .
وإنما قال في ( يس ) ) ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ) [ الآية : 66 ] بزيادة حرف الجر لأنه أراد به إطباق الجفنين على العين وهو أمر كثير الوقوع قريب الإمكان بخلاف ما وقع للمراودين من قوم لوط فإنه أنذر وأبعد والكل بالإضافة إلى قدرة الله تعالى واحد ، إلا ، ه حين علق الطمس بالمشيئة ذكر ما هو أقرب إلى الوقوع كيلا يكون للمنكر مجال كثير .
ونقل عن ابن عباس أن المراد بالطمس المنع عن الإدراك فما جعل على بصرهم شيئاً غير أنهم دخلوا ولم يروا هناك شيئاً .
ولعل في هذا النقل خللاً لأنه لا يناسب قوله عقيب ذكر الطمس ) فذوقوا عذابي ونذر ( أي فقلت لهم على ألسنة الملائكة ذوقوا ألم عذابي وتبعة إنذاراتي .
ثم حكى العذاب الذي عم الكل بقوله ) ولقد صبحهم ( ولقائل أن يسأل : مع الفائدة في قوله ) بكرة ( مع قوله ) صبحهم ( والجواب أن ) صبحهم ( يشمل من أول الصبح إلى آخر الإسفار وأنه تعالى وعدهم أول الصبح كما قال ) إن موعدهم الصبح ) [ هود : 81 ] فأراد بقوله ) بكرة ( تحقيق ذلك الوعد .
ويمكن أن يقال : قد يذكر الوقت المبهم لبيان أن تعيين الوقت غير مقصود كما تقول : خرجنا في بعض الأوقات ولافائدة فيه إلا قطع المسافة .
فإنه ربما يقول السامع .
فإنه ربما يقول السامع متى(6/221)
" صفحة رقم 222 "
خرجتم فيحتاج إلى أن تقول في وقت كذا أو في وقت من الأوقات .
فإذا قال من أول الأمر في وقت من الأوقات أشار إلى أن غرضه بيان الخروج لا تعيين وقته وبمثله أجيب عن قوله ) سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً ) [ الإسراء : 1 ] ويحتمل أن يقال : ( صبحهم ( معناه قال لهم بكرة عموا صباحاً وهو بطريق التهكم كقوله ) فبشرهم بعذاب ) [ آل عمران : 21 ] ويجوز أن يكون التصبيح بمعنى الإغاثة من قولهم ( يا صباحاه ) والعذاب المستقر الثابت الذي لا مدفع له أو الذي استقر عليهم ودام إلى الاستئصال الكلي أو إلى القيامة وما بعدها .
قوله ) ولقد جاء آل فرعون النذر ( يعني موسى وهارون وغيرهما وأنهما عرضا عليه ما أنذر به المرسلون وهو بمعنى الإنذارات ) بآياتنا كلها ( هي الآيات التسع أو جميع معجزات الأنبياء عليهم السلام لأن تكذيب البعض تكذيب الكل العزيز المقتدر الغالب الذي لا يعجزه شيء .
ثم خاطب كفار أهل مكة بقوله ) أكفاركم خير من أولئكم ( المكذبين وهو استفهام إنكار لأن الأقدمين كانوا أكثر عدداً وقوة وبطشاً ) أم لكم براءة في الزبر ( الكتب المتقدمة أن من كفر منكم كان آمناً من سخط الله فأمنتم بتلك البراة كما أن البيداء وهومن في يده قانون أصل الخراج إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة ) أم يقولون نحن جميع ( جمع مجتمع أمرنا ) منتصر ( منتقم عن أبي جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر فتقدم في الصف فقال : نحن ننصر اليوم من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه فنزلت ) سيهزم الجمع ويولون الدبر ( أي الأدبار .
عن عكرمة : لما نزلت هذه الآية قال عمر : أي جمع يهزم ؟ فلما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يثبت في الدرع ويقول ) سيهزم الجمع ( عرف تأويلها ) بل الساعة موعدهم والساعة أدهى ( من أنواع عذاب الدنيا أو أدهى الدواهي .
والداهية اسم فاعل من دهاه أمر المرور أي أدوم وأكثر مروراً .
وقيل : من المرة الشدة .
قوله ) إن المجرمين ( الآية .
روى الواحدي في تفسيره بإسناده عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في القدر فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله ) خلقناه بقدر ( وعن عائشة أن النبي صلى الله عيله وسلم قال ( مجوس هذه الأمة القدرية ) وهو المجرمون الذين سماهم الله في قوله ) إن المجرمين في ضلال ( عن الحق في الدنيا ) وسعر ( وهو نيران في الآخرة أو في ضلال وجنون في الدنيا لا يهتدون ولا يعقلون .
أو في ضلال وسعر في الآخرة ، لأنهم لا يجدون إلى مقصودهم وإلى الجنة سبيلاً .
والنيران ظاهر أنها في الآخرة ، وسقر علم لجهنم من سقرته النار وصقرته إذا لوحته ، والمشهور بناء على الحديث المذكور أن قوله ) إنا كل شيء ( متعلق بما قبله كأنه قال : إن مس النار جزاء من أنكر هذا المعنى وهو منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر .
قال النحويون : النصب في مثل هذا الصور لازم لئلا يلتبس(6/222)
" صفحة رقم 223 "
المفسر بالصفة ، وذلك أن النصب نص في المعنى المقصود وأما الرفع فيحتمل معنيين : أحدهما كل شيء فإنه مخلوق بقدر هو يؤدي مؤدى النصب ، والآخر كل شيء مخلوق لله ليس بقدر والقدر التقدير أي كل شيء خلقناه مرتباً على وفق الحكمة أو مقدراً مكتوباً في اللوح ثابتاً في سابق العلم الأزلي .
واعلم أنه قد مر في هذا الكتاب أن الجبري يقول القدرية التي ذمها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو المعتزلي الذي ينفي كون الطاعة والمعصية بتقدير الله .
والمعتزلة تقول : الجبري الذي يدعي أن الزنا والسرقة وغيرهما من القبائح كلها بتقدير الله تعالى .
وكذا حال السني لأنه وإن كان يثبت للعبد كسباً إلا أنه يسند الخير والشر إلى القضاء والقدر وقال بعض العلماء : يقول : هو قادر على أن يجلىء العبد إلى الطاعة ولكن حكمته اقتضت بناء التكليف على الاختيار وإلا كان المثبت منكراً للتكليف وهم أهل الإباحة القائلين بأن الكل إذا كان بتقدير الله فلا فائدة في التكليف .
ولعل وجه تشبيههم بالمجوس أنهم في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كالمجوس يام بين الكفار المتقدمين فكما أن المجوس نوع من الكفرة أضعف شبهة وأشد مخالفة للعقل فكذلك القدرية في هذه الأمة وبهذا التأويل لا يلزم الجزم بأنهم من أهل النار ، وأيضاً لعل اسم القدرية لأهل النفي كما تقول : دهري لأنه يقول بالدهر والثنوية لإثباتهم إليهن اثنين أو نوراً وظلمة .
وقال بعضهم : هذا الاسم بأهل النفي أولى لأن الآية نزلت في مكري القدرة وهم المشركون القائلون بأن الحوادث كلها مستندة إلى اتصالات الكواكب وانصرافاتها فلا قدرة لله على شيء من ذلك .
قوله ) وما أمرنا إلا واحدة ( أي إلا كلمة واحدة وهي ( كن ) تأكيد إثبات الدقرة له وقد مر مثله في ( النحل ) وقوله ( كلمح بالبصر ( تأكيد على تأكيد وهذا تمثيل وإلا فتكوينه وإيجاده عين مشيئته وأرادته .
ومعنى الخلق والأمر أيضاً تقدم مشتبعاً في ( الأعراف ) ثم هددهم مرة أخرى بقوله ) ولقد أهلكنا أشياعكم ( أي أشباهكم في الكفر من الأمم .
ثم ذكر نوعاً آخر من التهديد مع بيان كمال القدرة والعلم فقال ) وكل شيء فعلوه في الزبر ( أي في صحف الحفظة .
قال النحويون : هذا مما التزم فيه الرفع لأن النصب يكون نصاً في معنى غير مقصود بل فاسد إذ يلزم منه أن يكون ) كل شيء ( مفعولاً ) في الزبر ( وهذا معنى غير مستقيم كما ترى .
وأما الرفع فيحتمل معنيين .
أحدهما صحيح مقصود وهو أن يقدر قوله ) فعلوهن ( صفة ل ) شيء ( والظرف خبر اي كل شيء مفعول للناس فإنه في الزبر .
والآخر أن(6/223)
" صفحة رقم 224 "
تقدر الجملة خبر أو يبقى الظرف لغواً فيؤدي الكلام حينئذ مؤدي النصب ولا ريب أن الوجه الذي يصح المعنى فيه على أحد الاحتمالين أولى من الذي يكون نصاً في المعنى الفاسد .
ثم أكدالمعنى المذكور بقوله ) وكل صغير وكبير ( من الأعمال بل مما وجد ويوجد ) مستطر ( أي مسطور في اللوح .
ثم ختم السورة بوعد المتقين .
والنهر جنس أريد به الأنهار اكتفى به للفاصلة .
ولما سلف مثله مراراً كقوله ) إن المتقين في جنات وعيون ) [ الذاريات : 15 ] وقيل : معناه السعة والضياء من النهار ) في مقعد صدق ( وفي مكان مرضيّ من الجنة مقربين ) عند مليك مقتدر ( لا يكتنه كنه عظمته واقتداره نظيره قول القائل ( فلان في بلدة كذا في دار كذا مقرب عند الملك ) .
ويحتمل أن يكون الظرف صفة ) مقعد صدق ( كما يقال ( قليل عند أمين خير من كثير عند خائن ) قال أهل اللغة : القعود يدل على المكث بخلاف الجلوس ولهذا يقال للمؤمن ( مقعد دون مجلس ) ومنه قواعد البيت ، وكذا في سائر تقاليبه من نحو وقع أي لزق بالأرض وعقد .
والإضافة في ) مقعد صدق ( كهي في قولك ( رجل صدق ) أي رجل صادق في الرجولية كامل فيها .
ويجوز أن يكون سبب الإضافة أن الصادق قد أخبرعنه وهو الله ورسوله ، أو الصادق اعتقد فه وهو المكلف ، أو يراد مقعد لا يوجد فيه كذب فإن من وصل إلى الله استحال عليه إلا الصدق وهو تبارك وتعالى أعلم وأجل وأكرم .(6/224)
" صفحة رقم 225 "
سورة الرحمن
( سورة الرحمن مكية إلا قوله ) يسأل من في السماوات والأرض ( الآية. حروفها ألف وثلثمائة وستة وثلاثون كلماتها ثلثمائة وإحدى وخمسون آياتها ثمان وسبعون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الرحمن : ( 1 - 78 ) الرحمن
" الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار فبأي آلاء ربكما تكذبان رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام فبأي آلاء ربكما تكذبان يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن فبأي آلاء ربكما تكذبان سنفرغ لكم أيها الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام فبأي آلاء ربكما تكذبان هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن فبأي آلاء(6/225)
" صفحة رقم 226 "
ربكما تكذبان ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فبأي آلاء ربكما تكذبان ومن دونهما جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهامتان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن خيرات حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان حور مقصورات في الخيام فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام "
( القراآت )
والحب ذا العصف والريحان ( بالنصب فيهما : ابن عامر ) والحب ذو العصف ( بالرفع فيهما ) والريحان ( بالجر : حمزة وعلي وخلف .
الباقون : برفع الريحان ) يخرج ( مجهولاً من الإخراج : أبو جعفر وناعف وأبو عمرو وسهل ويعقوب ) اللؤلؤ ( كنظائره ) والجوار ( ممالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو وخلف طريق ابن عبدوس .
) المنشآت ( بكسر الشين .
حمزة ويحيى طريق الصريعيني ) سيفرغ ( بالياء : حمزة وعلي وخلف .
الباقون : بالنون على طريق الالتفات ) أيه الثقلان ( بضم الهاء مثل ) أيه المؤمنون ) [ النور : 31 ] ( أيه الساحر ) [ الزخرف : 49 ] ( شواظ ( بكسر الشين : ابن كثير ونحاس : بالجر : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ) لم يطمثهن ( بضم الميم في إحداهما تخيراً : علي .
وروى أبو الحرث عنه في الأولى بالضم ) من استبرق ( بنقل حركة الهمزة إلى النون : رويس وورش والشموني وحمزة في الوقف ) ذو الجلال ( بالرفع : ابن عامر .
الوقوف : ( الرحمن ( ه لا ) القرآن ( ه ط ) الإنسان ( ه ) البيان ( ه ) بحسبان ( ه ص لعطف الجملتين المتفقتين ) يسجدان ( ه ) الميزان ( ه لا لتعلق أن ) الميزان ( ه ) للأنام ( ه لا لأن الجملة بعدها حال ) فاكهة ( ص ) الأكمام ( ه ص ) والريحان ( ه ج لابتداء الاستفهام مع دخول فاء التعقيب ، والوقف أجوز لأن الابتداء بالاستفهام مبالغة في التنبيه وكذلك في جميع السورة ) تكذبان ( ه ) كالفخار ( ه لا ) نار ( ه ج ) تكذبان ( ه(6/226)
" صفحة رقم 227 "
) المغربين ( ه ج ) تكذبان ( ه ) يلتقيان ( ه لا لأن ما بعده حال من الضمير في ) يلتقيان ( ) ولا يبغيان ( ه حال بعد حال ) تكذبان ( ه ) والمرجان ( ه ج ) تكذبان ( ه ) كالأعلام ( ه ج ) تكذبان ( ه ) فإن ( ه ج لعطف الجملتين المختلفتين والأولى الوصل لأن الكلام الأول يتم بالثاني .
) والإكرام ( ه ج ) تكذبان ( ه ) والأرض ( ط ) شأن ( ه ج ) تكذبان ( ه ) الثقلان ( ه ) تكذبان ( ه ) فانفذوا ( ه ط ) بسلطان ( ه ج ) تكذبان ( ه ) فلا تنتصران ( ه ج ) تكذبان ( ه ) كالدهان ( ه ج ) تكذبان ( ه ) ولاجان ( ه ج ) تكذبان ( ه ) والأقدام ( ه ج ) تكذبان ( ه ) المجرمون ( ه لأنه لو وصل صار ما بعده حالاً من المجرمين وليس كذلك ) آن ( ج ) تكذبان ( ه ) جنتان ( ه ج ) تكذبان ( ه لا لأن قوله ) ذواتا ( صفة ) أفنان ( ه ج ) تكذبان ( ه ) تجريان ( ه ) تكذبان ( ه ) زوجان ( ه ) تكذبان ( ه ج لأن ) متكئين ( حال إلا أن الكلام قد تطاول ) من إستبرق ( ط ) دان ( ه ج ) تكذبان ( ه ) الطرف ( لا لأن ) لم يطمثهن ( حال عنهن ) جان ( ه ج ) تكذبان ( ه ) والمرجان ( ه ج ) تكذبان ( ه ) إلا الإحسان ( ج ) تكذبان ( ه ) جنتان ( ه ) تكذبان ( ه ) مدهامتان ( ه ) تكذبان ( ه ) نضاختان ( ه ) تكذبان ( ه ) ورمان ( ه ج ) تكذبان ( ه ج ) حسان ( ه ) تكذبان ( ه ) في الخيام ( ه ج ) تكذبان ( ه ) جان ( ه ج ) تكذبان ( ه ج ) حسان ( ه ج ) تكذبان ( ه ) والإكرام ( ه .
( التفسير : افتتح السورة المتقدمة بذكر معجزة تدل على الهيبة والعظمة وهي انشقاق القمر .
وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدل على الرحمة والعناية وهي القرآن الكريم الذي فيه شفاء القلوب والطهارة عن الذنوب ، وهو أسبق الآلاء قدماً وأجل النعماء منصباً .
وبين السورتين مناسبة أخرى من جهة أنه ذكر هناك ما يدل على الانتقام والغضب كقوله ) فذوقوا عذابي ونذر ) [ القمر : 39 ] وقوله ( فكيف كان عذابي ونذر ) [ القمر : 21 ] وذكر في هذه السورة بعد تعداد كل نعمة ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( مرة بعد مرة وتذكير النعمة على نعمة لأنها مما توقظ الوسنان وتنبه أهل الغفلة والنسيان .
قال جار الله ) الرحمن ( مبتدأ والأفعال بعده مع ضمائرها أخبار مترادفة ، وإخلاؤها عن العاطف إما لأن العائد قام مقام الصدر وإما لمجيئها على نمط التعديد كما تقول : زيد أغناك بعد فقر أعزك بعد ذل كثيرك بعد بعد قلة فعل بك ما لم يفعله أحد بأحد فما تنكر من إحسانه .
قلت : فعلى هذا لو لم يوقف على ) القرآن ( جاز .
وقيل : الرحمن خبر مبتدأ أي هو الرحمن .
ثم استأنف قائلاً ) علم القرآن ( وما مفعوله الأول ؟ قيل : هو متعدٍ إلى واحد والمعنى جعل القرآن علامة وآية للنبوة .
وقيل : هو جبرائيل أي علم جبرائيل القرآن حتى نزل به على محمد .
وقيل : علم(6/227)
" صفحة رقم 228 "
محمداً أو الإنسان القرآن كما يليق بفهمهم على حسب استعدادهم ولعله يلزم من الوجه الأخير شبه تكرار من قوله ) خلق الإنسان علمه البيان ( فالأول إشارة إلى قواه البدنية والثاني إشارة إلى قواه النطقية ، ويلزم منه أيضاً أن يكون التعليم قبل الخلق ظاهراً إلا أن يكون تفصيلاً لما أجمله .
وقد نقل عن ابن عباس أن الإنسان آدم علمه الأسماء كلها ، أو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
والبيان القرآن فيه بيان ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة .
قوله ) الشمس والقمر بحسبان ( أي بحسبانه استغنى عن الوصل اللفظي بالربط المغنوي لرعاية الفاصلة يعني أنهما يجريان في بروجهما ومنازلهما بحساب معلوم ) والنجم ( وهو النبات بغير ساق ) والشجر يسجدان ( بالانقياد له .
وإنما وسط العاطف بين هاتين الجملتين لما بين العلوي والسفلي من تناسب التقابل ، ولما بين الحسبان والسجود من تناسب التجانس ، وذلك لأن سيرهما بحساب مقدّر مقرر وهو من جنس الانقياد لأمر الله ) والسماء رفعها ( قال في الكشاف : أي خلقها مرفوعة مسموكة حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه .
قلت : إنه حمل الرفع على ارتفاع المنزلة ولعل المراد به الرفع الحسي ليطابق قوله ) والأرض وضعها ( أي خفضلها في مركز العالم مدحوة محاطة بالماء .
نعم لو جعل وضع الأرض عبارة عن ذلها وتسخيرها كقوله ) هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً ) [ الملك : 15 ] صح تفسيره وإنما وسط قوله ) ووضع الميزان ( بين رفع السماء ووضع الأرض لأنه لا ينتفع بالميزان إلا إذا كان معلقاً في الهواء بين الأرض والسماء وهذا أمر حسي ، وأما العقلي فهو أنه بدأ أولاً من النعم بذكر القرآن الذي هو بيان الشرائع والتكاليف ، ثم أتبعه ذكر كيفية خلق الإنسان وقواه النفسانية وما يتم به معاشه من السماويات والأرضيات ، ثم ذكر أنه خلق لأجلهم آلة الوزن بهما يقيمون العدالة في ومعاملاتهم وأمور تمدنهم فصار كما مر في ) حم عسق الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ) [ الشورى : 1 ] وكما يجيء في الحديد ) وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ) [ الآية : 25 ] وأن في قوله ) ألا تطغوا ( مفسرة أو ناصبة أي لأن لا تتجاوز حد الاعتدال في شأن هذه الآية أي في شأن الوزن .
ثم أكد بقوله إثباتاً ونفياً ) وأقيموا الوزن بالقسط ( قوِّمواه أو قوموا لسان الميزان بالعدل ) ولا تخسروا الميزان ( أي لا تجعلوها سبباً للخسران والتطفيف .
وفي تكرير لفظ الميزان بل في ورود هذه الجمل المتقاربة الدلالة مكررة إشارة إلى الاهتمام بأمر العدل وندب إليه وتحريض عليه .
وقيل : الأول ميزان الدنيا والثاني ميزان الآخرة والثالث ميزان العقل .
وقيل : نزلت متفرقة فاقتضى الإظهار .
قوله ) للأنام ( أي لكل ما على ظهر الأرض من دابة .
وقيل : للإنسان .
وخص بالذكر لشرفه ولأن الباقي خلق لأجله ) فيها فاكهة ( التنوين للتعظيم وهي كل ما يتفكه به .
وقد أفرد النخل بالذكر للتفضيل ولأنه فاكهة(6/228)
" صفحة رقم 229 "
غذائية .
والأكمام جمع كم وهو وعاء الثمر .
ثم ذكر أقوات البهائم والإنسان قائلاً ) والحب ذو العصف ( وهو ورق الزرع أو التبن .
وقال الفراء والسدي : وهو أول ما ينبت من الزرع ) والريحان ( الورق .
ومن رفع فعلى حذف المضاف وإقامة لامضاف إليه مقامه أي وذو الريحان .
وقال الحسن وابن زيد .
على هذه القراءة وهو ريحانكم الذي يشم .
ثم خاطب الجن والإنس بقوله ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( عن جابر بن عبد الله قال : قرأ علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال : مالي أراكم سكوتاً ؟ للجن كانوا أحسن منكم رداً ما قرأت لعيهم هذه الآية مرة إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد .
قال جار الله : الخطاب في ) ربكم ( للثقلين بدلالة الأنام عيلهما قلت : ربما يصرح به قوله ) أيها الثقلان ( سميا بذلك لأنهم ثقلا الأرض أو بما سيذكر عقيبه من قوله ) خلق الإنسان ( والجان خلقناه .
وقيل : التكذيب إما باللسان والقلب معاً وإما بالقلب دون اللسان كالمنافقين فكأنه قال : فيا أيها المكذبان بأي آلاء ربكما تكذبان .
وقيل : أراد فيا أيها المكذبان بالدلائل المعية ولاعقلية أو بدلائل الآفاق ودلائل الأنفس ، والاستفهام للتوبيخ والزجر .
قوله ) خلق الإنسان من صلصال ( قد مر في سورة ( الحجر ) إلا أنه شبهه ههنا بالفخار وهو الخزف بيانأً لغاية يبس طينته وكزازته ، والتركيب يدل عليه ومنه الفخور ولولا يبس دماغه لم يفخر ومنه الفرخ لأنه تنشق البيضة عنه .
وكل يابس عرضة للتشقق ومنه الخزف لغاية يبوسة مزاجه .
والجان أبو الجن .
وقيل : هو إبليس .
والمارج اللهب الصافي الذي لا دخان فيه من مرج إذا اضطرب ولعلها المخلوطة بسواد النار من مرج الشيء اختلط .
وقوله ( من نار ( بيان لمارج كأنه قيل : من صاف من نار .
ويجوز أن يكون ناراً مخصوصة فيكون صفة ) رب المشرقين ( يعني مشرق الصيف ومشرق الشتاء ، والأول مطلع أول السرطان ، والثاني مطلع أول الجدي .
هذا في بلادنا الشمالية والحال في الجنوبية بالعكس .
قوله ) مرج البحرين ( وقد مر في ( الفرقان ) معناه أرسلهما ملحاً وعذباً متلاقيين ) بينهما برزخ لا يبغيان ( أي لا يبغى أحدهما على الآخر بالممازجة ) يخرج منهما ( أي من كل منهما .
وقال في الكشاف : أعاد الضمير إلى البحرين لاتحادهما فالخارج من العذب كأنه خارج من الملح تقول : خرجت من البلد ولم تخرج إلا من محلة بل من دار .
وقال أبو علي الفارسي : أراد من أحدهما فحذف المضاف .
قلت : ونحن قد سمعنا أن الأصداف تخرج من البحر المالح ومن الأمكنة التي فيها عيون عذبة في مواضع من البحر الملح ويؤيده قوله سبحانه في ( فاطر ) ) ومن كل تأكلون لحماً طريقاً وتستخرجون حلية تلبسونها ) [ الآية : 12 ] فلا حاجة إلى هذه التكلفات .
قال الفراء وغيره من أهل(6/229)
" صفحة رقم 230 "
اللغة : اللؤلؤ الدر ، والمرجان ما صغر منه .
وعن مقاتل : بالضد .
ويشبه أن يكون اللؤلؤ هذا الجنس المعروف والمرجان البسذ .
يقال : إنه ينبت في بحر الروم والإفرنج كالشجر وهو الفصل المشترك بين المعدن والنبات ، والجواري السفن الجارية حذف الموصول للعلم به .
ومن قرأ ) المنشآت ( بفتح الشين فمعناها المرفوع الشرع والتي رفع خشبها بعضها على بعض وركب حتى ارتفعت .
والقارىء بالكسر أراد الرافعات الشرع أو اللائي يبتدئن في السير أو ينشئن الأمواج بجريهن ، الأعلام الجبال الطوال شبههن في البحر بالجبال في البر .
والضمير في ) عليها ( للأرض بدلالة المقال أو الحال .
والوجه عبارة عن الذات كما مر في تفسر البسملة وفي قوله ) كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] وقوله ( ذو ( صفة للوجه وهو على القياس .
وفيه دلالة على أن الوجه والرب ذات واحد بخلاف قوله في آخر السورة ) تبارك اسم ربك ( فإن الاسم غير المسمى في الأصح فلهذا قال ) ذي الجلال والإكرام ( ومعناه ذو النعمة والتعظيم كما سبق في البسملة .
والنعمة في فناء ما على الأرض وهو مجيء وقت الجزاء ) يسأله من في السموات ( من الملائكة ) و ( من في ) الأرض ( من الثقلين الملائكة لمصالح الدارين والثقلان لمصالح الدارين .
وعن مقاتل : يسأل أهل الأرض الرزق والمغفر وتسأل الملائكة أيضاً الرزق والمغفرة للناس ) كل يوم هو في شأن ( سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك الشأن فقال : من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين .
قلت : هذا التفسير يطابق ما مر في الحكمة .
وما ذكرنا في الكتاب مراراً من أن القضاء هو الحكم الكلي الواقع في الأزل ، والقدر هو صدور تلك الأحكام في أزمنتها المقدرة .
فبالاعتبار الأول قال ( جف القلم بما هو كائن ) وبالاعتبار الثاني قال : ( كل يوم هو في شأن ( وهذا بالنسبة إلى المقضيات ولا تغير في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .
وبالجملة إنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها .
وروى الواحدي في البسيط عن ابن عباس : إن مما خلق الله عز ول لوحاً من درة بيضاء ، دفتاه ياقوتة حمراء ، قلمه نور وكتابه نور ، ينظر الله فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء ، وحين بين أن كل زمان مقدر لأجل شأن قال ) سنفرغ لكم ( قال أهل البيان : هو مستعار من قول الرجل لمن يتهدده ( سأفرع لك ) .
والمراد تجري داعيته للإيقاع به من النكاية فيه .
والمراد شؤونه ستنتهي إلى شأن الجزاء(6/230)
" صفحة رقم 231 "
وقصد المحاسبة .
ثم هدد الثقلين بأنهم لا يستطعيون الهرب من أحكامه وأقضيته فيهما .
نفذ من الشيء إذا خلص منه كالسهم ينفذ من الرمية. وأقطار السموات والأرض وواحيهما .
واحدها قطر .
وهو في الهندسة عبارة عن الهطب المنصف للدائرة .
والسلطان القوة والغلبة .
أراد أنه لا مفر من حكمه إلا بتسلط تام ولا سلطان فلا مفر .
قال الواحدي : أراد أنه لاخلاص من الموت .
ويحتمل أن يخص هذا بيوم الجزاء المشار إليه بقوله ) سنفرغ لكم ( ويؤيده ما روي أن الملائكة تنزل فتحيط بجميع الخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة أحاطت به ، ويعضده قوله عقيبه ) يرسل عليكما ( الآية .
جاء في الخبر : يحاط على الخلق بلسان من نار ثم ينادون يا مشعر الجن والإنس الآية .
وذلك قوله ريرسل عليكما شواظ ( وهو اللهب الذي لا جخان له معه .
وقرأ ابن كثير بكسر الشين لغة أهل مكة يقولون صوار بالضم والكسر. والنحاس والدخان .
ومن قرأ بالرفع فمعناه يرسل عليكما هذا مرة وهذا مرة وهذا مرة .
ويجوز أن يرسلا معاً من غير أن يمزج أحدهما بالآخر .
ومن قرأ بالجر فبتقدير وشيء من نحاس .
وعن أبي عمرو أن الشواظ يكون من الدخان أيضاً .
وقيل : هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم .
وعن ابن عباس : إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر ) فلا تنتصران ( فلا تمتنعان ) فإذا انشقت السماء ( لنزول الملائكة ) فكانت وردة ( أي حمراء ) كالدهان ( وهو جمع الدهن أو اسم ما يتدهن به كالحزام والإدام شبهها بدهن الزيت كقوله ) كالمهل ) [ المعارج : 8 ] وهو دردي الزيت .
وقيل : الدهان الأديم الأحمر .
عن ابن عباس : نصير كلون الفرس الورد .
وقيل : تحمر احمرار الورد ثم تذوب ذوبان الدهن .
وقال قتادة : هي اليوم خضراء ولها يوم القيامة لون آخر يضرب إلى الحمرة .
والفاء في قوله ) فإذا ( للتعقيب وفي ) فكانت ( للعطف ، والجواب محذوف كما سيجيء في قوله ) إذا السماء انشقت ) [ الأنشقاق : 1 ] والمراد أنهما لا ينتصران حين إرسال الشواظ عليهما فحين تنشق السماء وصارت الأرض والجو والهواء كلها ناراً وتذوب السماء كما يذوب النحاس الأحمر كيف تنتصران ؟ ويمكن أن يكون وجه تشبيه السماء يومئذ بالدهن هو الميعان والذوبان بسرعة وعدم رسوب الخبث كخبث الحديد ونحوه ، والغرض بيان بساطة السماء وأنه لا اختلاف للأجزاء فيها ) فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان ( وضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن كما يقال هاشم ويراد ولده .
والضمير في ) ذنبه ( عائد إلى الإنس لأن الفاعل رتبته التقديم وكأنه قيل : لا يسأل بعض افنس عن ذنبه ولا بعض الجن .
والجمع بين هذه الآية وبين قوله ) فوربك لنسألنهم ) [ الحجر : 92 ] هو ما مرّ من أن المواطن مختلفة ، أو لا يسأل سؤال(6/231)
" صفحة رقم 232 "
استعلام وإنما يسأل سؤال توبيخ وتقريع .
وعندي أن بيان عدم احتياج المذنب إلى السؤال عن حاله لأن كل ما هو اليوم فيه كامن فذلك في يوم القيامة يظهر ويبرز من ظلمة الطبيعة والعصيان ، أو من نور الطاعة والإيمان وإليه الإشارة بقوله ) يعرف المجرمون بسيماهم ( من سواد الوجه وزرقة العين ) فيؤخذ ( كل منهم أو جنس المجرم ) بالنواصي ( أي بسببها .
ولعل المراد أن تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلفها أو من قدام ويلقون في النار .
روى الحسن عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا من قبضوا عليه بالنواصي والأقدام ) ويجوز أن يكون الفعل مسنداً إلى قوله ) بالنواصي ( نحو ذهب بزيد .
ثم ذكر أنهم يوبخون بقول الملائكة لهم ) هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون ( والأصل الخطاب والالتفات للتبعيد والتسجيل عليهم بالإجرام .
والآني الذي بلغ منتهى حره .
قال الزجاج : أني يأني أنا إذا انتهى في النضج والحرارة .
والمعنى أنهم لا يزالون طائفين بين عذاب الجحيم وبين الحميم وذلك حين ما يستغيثون كقوله ) وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل ) [ الكهف : 29 ] قال جار الله : نعمته فيما ذكره من الأهوال وأنواع المخاوف هي نجاة الناجي منه وما في الإنذار به من اللطف ، ويمكن أن يراد بأي الآلاء المعدودة في أول السورة تكذبان فتستحقان هذه الأشياء المذكورة من العذاب .
ثم شرع في ثواب أهل الخشية والطاعة قائلاً ) ولمن خاف مقام ربه ( وقد مر نظيره في ( إبراهيم ) قوله ) ذلك لمن خاف مقامي ) [ الآية : 14 ] قال المفسرون : الجنتان إحداهما للخائف الإنسي والثانية للخائف الجني ، أو إحداهما لفعل الطاعات والثانية لترك المنكرات ، أو إحداهما للجزاء والأخرى للزائد عليه تفضلاً ، أو هما جنة عدن وجنة النعيم .
أو إحداهما جسمانية والأخرى روحانية .
وقيل : التثنية للتأكيد كقوله ) ألقيا ( ) ق : 24 ] وهو ضعيف .
والأفنان جمع الفنن وهو الغصن المستقيم طولاً قاله مجاهد وعكرمة والكلبي وغيرهم ، وإنما خصها بالكر لأنها هي التي تورق وتثمر وتظل والساق لأجل ضرورة القيام ولا ضرورة في الجنة ولا كلفة .
وعن سعيد بن جبير : هي جمع فن والمعنى أنهما صاحبتا فنون النعم وعلى هذا يكون قوله ) فيهما من كل فاكهة زوجان ( أي صنفان كتفصيل بعد إجمال والصنفان رطب ويابس أو معروف وغريب ) فيهما ( أي في كل منهما ) عينان تجريان ( من جبل من مسك إحداهما في الأعالي والأخرى في الأسافل .
وقال الحسن : تجريان بالماء الزلازل إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل ) متكئين ( حال من الخائفين المذكورين في قوله ) لمن خاف ( وجوز أن يكون نصباً على المدح .
قال المفسرون : إذا كان بطائن الفرش وهي التي تحت الظهارة مما يلي(6/232)
" صفحة رقم 233 "
الأرض من استبرق فما ظنك بظائرها ؟ ويجوز أن يكون ظائرها السندس .
والتحقيق أنه لا يعلمها إلا الله كقوله ) فلا تعلم نفس ما أخفى لهم ) [ السجدة : 17 ] ( وجنى الجنتين ( أي ثمرها ) دان ( قريب يناله القائم والقاعد والنائم .
قال جار الله : ( فيهن ( أي في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى .
وقيل : في الفرش أي عليها .
وقيل : في الجنان لأن ذكر الجنتين يدل عليه ولأنهما يشتملان على أماكن ومجالس ومنتزهات ، وهذا الوجه عندي أظهر وسيجيء بيانه بنوع آخر عن قريب .
قال الفراء : الطمث الاقتضاض وهو النكاح بالتدمية و ) قبلهم ( أي قبل أصحاب الجنتين واللفظ يدل عليه .
قال مقاتل : هن من حور الجنة .
وقال الكلبي والشعبي : هن من نساء الدنيا أنشئن خلقاً آخر لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنس ولا جني .
قال في الكشاف : لم يطمث افنسيات منهمن أحد من الإنس والجنيات أحد من الجن قلت : هذا التفصيل لعله لا حاجة إليه يعرف بأدنى تأمل .
قال الزجاج : فيه دليل على أن الجن تطمث كما تطمث الإنس .
ثم ذكر أنهن في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ الصغار ) هل جزاء الإحسان ( في العمل ) إلا الإحسان ( في الجزاء .
وخص ابن عباس فقال : هل جزاء من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله إلا الجنة .
وحين فرغ من نتعت جنتي المقربين شرع في وصف جنتين لأصحاب اليمين فقال ) ومن دونهما ( أي ومن أسفل منهما في المكان أو يف الفضل أو فيهما وهو الأظهر .
روى أبو موسى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( جنتان من فضة أبنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب أبنيتهما وما فيهما ) ) مدهامتان ( هو من الأدهيمام إدهام يدهام فيهو مدهام نظير إسواد يسواد فهو مسواد في اللفظ وفي المعنى ، وذلك أن كل نبت أخضر فتمام خضرته من الري أن يضرب إلى السواد ) نضاختان ( فوارتان ، والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضخ وهو الرش .
قال ابن عباس : تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور ، وإنما خص النخيل والرمان بالذكر بعد اندارجهما في الفاكهة لفضلهما وشرفهما ، فالنخل فاكهة وطعام والرمان فاكهة ودواء كامل ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله : إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رماناً أو رطباًَ لم يحنث .
وخالفه صاحباه ووافقهما الشافعي .
والخيرات مخفف خيرات لأن الخير الذي هو بمعنى التفضيل لا يجمع جمع السلامة والمعنى أنهم فاضلات الأخلاق حسان الصور .
واعلم أنه سبحانه قال في الموضعين عند ذكر الحور ) فيهن ( وفي سائر المواضع(6/233)
" صفحة رقم 234 "
) فيهما ( والسر فيه أن تمام اللذة عند اجتماع النسوان للرجل الواحد هو أن يكون لكل منهن مسكن على حدة فتباعد من مسكن الأخرى ، واسع بحيث يسع ما يليق بحاله أو بحالها من الجواري والغلمان وسائر الأسباب ، فيحصل هناك منتزهات كثيرة كل منها جنة ، وكأن في ضمير الجمع إشارة إلى ذلك .
وأما العيون والفواكه فلم يكن شيء منها بهذه المثابة من كمال اللذة فأكتفي فهيا بعود الضمير إلى الجنتين فقط .
والمقصورات اللواتي قصرن أي حبسن في خدورهن .
امرأة مقصورة أي مخدرة .
روى قتادة عن ابن عباس : الخيمة درة مجوفة فرسخ في فرسخ فيها أربعة آلاف مصراع من ذهب .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون ) وقال أهل المعاني : كنى عن الجماع في الدنيا بنحو قوله ) من قبل أن تمسوهن ) [ البقرة : 237 ] وذكر الجماع في الآخرة بلفظ يقرب من الصريح وهو الطمث فما الحكمة من ذلك ؟ والجواب أن المباشرة في الدنيا قبيحة لما فيها من قضاء الشهوة وإسقاط القوى وهي في الآخرة بخلاف ذلك فإنها داعية روحانية ولذة حقيقية فلم يحتج إلى الكناية لأن الكنايات إنما تجري في الهنيئات .
قال جار الله : ( متكئين ( نصب على الاختصاص .
قلت : ويجوز أن يكون حالاً والعامل مضمير يدل عليه قوله ) لم يطمثهن إنس قبلهم ( أي يطمثونهم في حال الإتكاء .
قال أبو عبيدة والضحاك ومقاتل والحسن : الرفرف ضرب من البسط .
وقيل : كل ثوب عريض فهو رفرف .
ويقال لأطراف البسط وفضول الفسطاط رفارف .
وقال الزجاج : الرفرف ههنا رياض الجنة .
وقيل : الوسائد .
قال جار الله ) العبقري ( منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه بلد الجن فينسبون إليه كل شيء غريب عجيب .
وعن أبي عبيدة : كل شيء من البسط عبقري وهو جمع واحدة عبقرية .
ومما يدل على أن صفات هاتين الجنتين تقاصرت عن الأوليين قوله ) مدهامتان ( فإنه دون قوله ) ذواتا أفنان ( وذلك أن كمال الخضرة لا يوجب كون البستان ذا فنن ونضاختان دون تجريان وفاكهة دون كل فاكهة وكذلك صفة الحور والمتكأ .
قال أهل العلم : كرر قوله ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( إحدى وثلاثين مرة : ثمانية منهما ذكرها عقيب تعداد عجائب خلقه وذكر المبدأ والمعاد ، ثم سبعة منها عقيب ذكر النار وأهوالها على عدد أبواب جهنم ، وبعد هذه السبعة أورد ثمانية في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة ، وثمانية بعدها عقيب(6/234)
" صفحة رقم 235 "
وصف الجنات التي هي دونهما .
فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الثمانيتين من الله ووقاه السبعة السابقة .
ثم نزه نفسه عما لا يليق بجلاله وختم السورة عليه .
والاسم مقحم كما بينا وفائدة هذا التوسيط سلوك سبيل الكناية كما يقال ( ساحة فلان بريئة عن المثالب ) والله أعلم بحقائق كلامه .(6/235)
" صفحة رقم 236 "
سورة الواقعة
( سورة الواقعة مكية غير آية ) وتجعلون رزقكم ( حروفها ألف وسبعمائة وثلاثة كلمها ثلثمائة وثمان وتسعون آياتها ست وتسعون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الواقعة : ( 1 - 96 ) إذا وقعت الواقعة
" إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم هذا نزلهم يوم الدين نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما(6/236)
" صفحة رقم 237 "
فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم "
( القراآت )
ينزفون ( من باب الأفعال : عاصم وحمزة وخلف .
الباقون : بفتح الزاء ) حور عين ( بجرهما : يزيد وعلي وحمزة ) عرباً ( بالسكون : حمزة وخلف ويحيى وحماد وإسماعيل ) أئذا أئنا ( كما في ( الرعد ) إلا ابن عامر فإنه تابع عاصماً ، وإلا يزيد فإنه تابع قالون ) شرب ( بضم الشين : أبو جعفر نافع وعاصم وحمزة وسهل .
الباقون : بالفتح وكلاهما مصدر ) قدرنا ( بالتخفيف : ابن كثير ) أئنا لمغرمون ( بهمزتين : أبو بكر وحماد .
الآخرون : بهمزة واحدة مكسورة على الخبر .
) بموقع ( على الوحدة : حمزة وعلي وخلف .
) تكذبون ( بالتخفيف : المفضل ) فروح ( بضم الراء : قتيبة ويعقوب .
الوقوف : ( الواقعة ( ه لا بناء على أن العامل في الظرف هو ليس ولو كان منصوباً بإضمار ( أذكر ) أو كان الجواب محذوفاً أي إذا وقعت الواقعة كان كيت وكيت صح الوقف ) كاذبة ( ه لئلا يصير ما بعدها صفة ) رافعة ( ه لا لتعلق الظرف بخافضة أو لكونه بدلاً من الأول ) رجاً ( ه لا ) بساً ( ه ) منبثاً ( ه ) ثلاثة ( ه ط ) ما أصحاب الميمنة ( ه ط لتناهي استفهام التعجب ) ما أصحاب الشمأمة ( ه ط ) السابقون ( ه لا بناء على أن ) السابقون ( تأكيد والجملة بعده خبر ) المقربون ( ه ج لاحتمال أن ما بعده خبر مبتدأ محذوف أي هم ) جنات النعيم ( ه ) الأولين ( ه لا ) الآخرين ( ه لا ) موضونة ( ه(6/237)
" صفحة رقم 238 "
لا ) متقابلين ( ه ) مخلدون ( ه لا ) معين ( ه لا ) ولا ينزفون ( ه لا ) يتخيرون ( ه لا ) يشتهون ( ه ط لمن قرأ ) وحور عين ( بالرفع ) المكنون ( ه ج ) يعملون ( ه ) تأثيماًْ ( ه لا ) سلاماً ( ه ط ) وما أصحاب اليمن ( ه ط ) مخضود ( ه لا ) منضود ( ه لا ) ممدود ( ه لا ) مسكوب ( ه لا ) كثيرة ( ه لا ) ممنوعة ( ه لا ) مرفوعة ( ه ط ) إنشاء ( ه لا ) أ [ كاراً ( ه لا ) أتراباً ( ه لا ) اليمين ( ه ط ) الأولين ( ه ) الآخرين ( ه ط ) ما أصحاب الشمال ( ه ط ) وحميم ( ه لا ) يحموم ( ه لا ) ولا كريم ( ه ) مترفين ( ه ج ) العظيم ( ه ج ) لمبعوثون ( ه لا ) الأولون ( ه ) والآخرين ( ه لا ) معلوم ( ه ) المكذبون ( ه لا ) زقوم ( ه لا ) البطون ( ه ج والوقف أجوز ) الحميم ( ه ج ) الهيم ( ه ط ) الدين ( ه ) تصدقون ( ه ) تمنون ( ه ط ) الخالقون ( ه ) بمسبوقين ( ه لا ) تلعمون ( ه ) تذكرون ( ه ) تحرثون ( ه ط ) الزارعون ( ه ) تفكهون ( ه ) لمغرمون ( ه لا ) محرومون ( ه ) تشربون ( ه ) المنزلون ( ه ) تشكرون ( ه ) تورون ( ه ط ) المنشؤن ( ه ) للمقوين ( ه ج ) العظيم ( ه ) النجوم ( ه لا ) عظيم ( ه لا ) كريم ( ه لا ) مكنون ( ه ) المطهرون ( ه ط ) العالمين ( ه ) مدهنون ( ه ) تكذبون ( ه ) الحلقوم ( ه لا ) تنظرون ( ه لا ) تبصرون ( ه ) مدينين ( ه لا ) صادقين ( ه لا ) جحيم ( ه ) اليقين ( ه ) ألعظيم ( ه التفسير : ( إذا وقعت الواقعة ( نظير قولك حدثت الحادثة ( وكانت الكائنة ) وهي القيامة التي تقع لا محالة .
يقال : وقع ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقب نزوله .
واللام في ) لوقعتها ( للوقت أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله لأن الإيمان حينئذ بما هو غائب الآن ضروري إلا أنه غير نافع لأنه إيمان اليأس .
ويجوز أن يراد ليس لها وقتئذ نفس تكذبها وتقول لها لم تكوني لأن إنكار المحسوس غير معقول .
وجوز جار الله أن يكون من قولهم ( كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم ) إذا شجعته على مباشرته .
وقالت له : إنك تطيقه .
فيكون المراد أن القيامة واقعة لا تطاق شدة وفظاعة وأن الأنفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور .
وقيل : هي مصدر كالعافية فيؤل المعنى إلى الأول .
وقال في الكشاف : هو بمعنى التكذيب من قولهم ( حمل على قرنه فما كذب ) أي فما جبن وما تثبط ، وحقيقته فما كذب نفسه فيما حدثته به من طاقته له .
والحال من هذا التوجيه أنها إذا وقعت لم تكن لها رجعة ولا ارتداد ) خافضة رافعة ( أي هي تخفض أقواماً وترفع آخرين إما لأن الواقعات العظام تكون كذلك كما قال :(6/238)
" صفحة رقم 239 "
وما إن طبنا جبن ولكن
منايات ودولة آخرينا
وإما لإن للأشقياء الردات وللسعداء الدرجات وإما لأن زلزلة الساعة تزيل الأشياء عن مقارها فتنثر الكواكب وتسير الجبال في الجو يؤيده قوله ) إذا رجت الأرض ( أي حركت أو سيقت من بس الغنم إذا ساقها ) فكانت ( أي صارت غباراً متفرقاً .
ثم ذكر أحوال الناس يومئذ قائلاً ) وكنتم ( لفظ الماضي لتحقق الوقوع ) أزواجاً ( أي أصنافاً ) ثلاثة ( ثم فصلها فقال ) فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ( وهو تعجب من شأنهم كقولك ( زيد ما زيد ) سموا بذلك لأنهم يؤتون صحائفهم بأيمانهم ، أو لأنهم آهل المنزلة السنية من قولهم ( فلان مني باليمين ) إذا وصفته بالرفعة عندك وذلك لتيمنهم بالميامن دون الشماءل وتبركهم بالسانح دون البارح ، ولعل اشتقاق اليمين من اليمن والشمال من الشؤم ، والسعداء ميامين على أنفسهم في الشمال ) والسابقون ( عرف الخبر للمبالغة كقوله الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه من التوحيد والإخلاص والطاعة ) هم السابقون ( عرف الخبر للمبالغة كقولط ( وشعري شعري ) يريد والسابقون من عرف حالهم وبلغك وصفهم ، وعلى هذا يحسن الوقف ) السابقون ( ) أولئك المقربون ( إلى مقامات لا يكشف المقال عنها من الجمال والعارفون يقولون لهم إنهم أهل الله ، وفي لفظ السبق إشار إلى ذلك ) في جنات النعيم ( إخفاء حالهم وبيان محل إجسادهم أو هي الجنة الروحانية النورانية ) ثلة من الأولين ( أي جماعة كثيرة من لدن آدم إلأى أول زمان نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال أهل الاشتقاق : أصل الثلة من الثل وهو الكسر كما أن الأمة من الأم وهو الشج كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم ، ثم اشتق الإمام منه إذ به يحصل الأمة المقتدية به .
) وقليل من الآخرين ( أي من هذه الأمة .
قال الزجاج : الذين عاينوا جميع النبيين وصدقوا بهم أكثر ممن عاين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وههنا سؤال وهو أنه كيف قال ههنا ) وقليل من الآخرين ( وفيما بعده قال ) وثلة من الآخرين ( والجواب أن الثلتين في آية اصحاب اليمين هما جميعاً من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
جواب آخر وهو أن يقال : الخطاب في قوله ) وكنتم أزواجاً ( لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والأولون منهم هم الصحابة والتابعون كقوله ) والسابقون الأولون ) [ التوبة : 1 ] والآخرون منهم هم الذين يلونهم إلى يوم الدين ، ولا ريب أن السابقين يكونون في الأولين أكثر منهم في الآخرين .
وأما أصحاب اليمين فيوجدون في كلا القبيلين كثيراً وعلى هذا يكون الترتيب المذكور ساقطاً ولا نسخ لإمكان اجتماع مضموني الخبرين في الواقع .
قال الزجاج وهو قول مجاهد والضحاك يعني جماعة ممن تبع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعاينه وجماعة ممن آمن(6/239)
" صفحة رقم 240 "
به وكان بعده .
وروى الواحدي في تفسيره بإسناده عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( جميع الثلتين من أمتي ) وأجاب بعضهم بأنه لما نزلت الآية الأولى شق على المسلمين فما زال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يراجع ربه حتى نزلت ) ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ( وزيفت هذه الرواية بظهور ورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين ، وبأن النسخ لا يتضح بل لا يصح في الأخبار ، وبأن الآية الأولى لا توجب الحزن ولكنها تقتضي الفرح من حيث إنه إذا كان السابقون في هذه الأمة موجودين وإن كانوا قليلين وقد صح أنه لا نبي بعد محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لزم أن يكون بعض الأمة مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) سابقين فيكونون في درجة الأنبياء والرسل الماضين ، ولعل في قولهإشارة إلى هذا وأقول : عندي أن الجواب الصحيح هو أن السابقين في الأمم الماضية يجب أن يكونوا أكثر لأن فيض الله سبحانه المقدر للنوع الإنساني إذا وزع على أشخاص أقل يكون نصيب كل منهم أوفر مما لو قسم على أشخاص أكثر ، ولعلنا قد كتبنا في هذا المعنى رسالة وعسى أن يكون هذا سبباً لخاتمة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) أما أصحاب اليمين وهم أهل الجنة كما قلنا فإنهم كثيرون من هذه الأمة لأنهم كل من آمن بالله ورسوله وعمل صالحاً هذا ما سنح في الوقت والله تعالى أعلم بمراده .
ثم وصف حال المقربين بقوله ) على سرر موضونة ( قال المفسرون : أي منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت وقد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع أي استقروا على السرر ) متكئين ( وقوله ( ولدان مخلدون ( أي غلمان لا يهرمون ولا يغيرون قال الفراء : والرعب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط إنه لمخلد .
قال : ويقال مخلدون مقرطون من الخلدة وهو القرط .
وقيل : هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ، ولا سيئات فيعاقبوا عليها .
قال جار الله : روي هذا عن علي رضي الله عنه والحسن قال الحديث ( أولاد الكفار خدام أهل الجنة ) والأكواب الأقداح المستديرة الأفواه ولا آذان لها ولا عري ، والأباريق ذوات الخراطيم الواحد إبريق وهو الذي يبرق لونه من صفائه .
والباقي مفسر في ( الصافات ) إلى قوله ) مما يتخيرون ( أي يختارون تخيرت الشيء أخذت خيره ، قال ابن عباس : يخطر على قلبه الطير فيصير ممثلاً بين يديه على ما اشتهى .
ومن قرأ ) وحور عين ( بالرفع فمعناه ولهم أو عندهم حور .
ومن خفضهما فعلى العطف المعنوي أي يكرمون أو يتنعمون بأكواب وبكذا وكذا .
والكاف في قوله ) كأمثال ( للمبالغة أي لا يقول بعضهم لبعض أثمت لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم .
وانتصب ) سلاماً ( على(6/240)
" صفحة رقم 241 "
البدل من ) قليلاً ( أو على أنه مفعول به أي لا يسمعون يها إلا أن يقولوا سلاماً عقيبه سلام .
ثم عجب من شأن أصحاب اليمين .
والسدر شجر النبق والمخضود الذي لا شوك له كأنه خضد شوكه .
وقال مجاهد : هو من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب كأنه من كثرة ثمره ثنى أغصانه والطلح شجر الموز أو أم غيلان كثير النور طيب الرائحة وعن السدي : شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل .
وفي الكشاف أن علياً عليه السلام أنكره وقال : ما شأن الطلح إنما هو طلع وقرأ قوله ) لها طلع نضيد ( فقيل : أو نحولها ؟ قال : آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول قال : وعن ابن عباس نحوه .
قلت : وفي هذه الرواية نظر لا يخفى .
والمنضود الذي نضد بالحمل من أوله إلى آخره فليست له ساق بارزة ) وظل ممدود ( أي ممتند منبسط كظلي الطلوع والغروب لا يتقلص .
ويحتمل أن يراد أنه دائم باقٍ لا يزول وال تنسخه الشمس ، والعرب تقول لكل شيء طويل لا ينقطع إنه ممدود .
والمسكوب المصبوب يسكب لهم أين شاؤا وكيف شاؤا ، أو يسكبه الله في مجاريه من غير انقطاع ، أو أراد أنه يجري على الأرض في خير أخدود ) لا مقطوعة ( في بعض الأوقات ) ولا ممنوعة ( عن طالبيها بنحو حظيرة أو لبذل ثمن كما هو شأن البساتين والفواكه في الدنيا مرفوعة ( أي نضدت حتى ارتفعت أو مرفوعة على الأسرة قاله علي رضي الله عنه .
وقيل : هي النساء المرفوعة على الأرائك .
والمرأة يكنى عنها بالفراش يدل على هذا قوله ) إنا أنشأناهن ( وعلى التفسير الأول جعل ذكر الفرش وهي المضاجع دليلاً عليهن .
ومعنى الإنشاء إنهن نساؤنا العجز الشمط يخلقهن الله بعد الكبر والهرم ) أبكاراً عرباً ( جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل ) أتراباً ( مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين كأزواجهن كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً من غير وجع .
وقوله ( لأصحاب اليمين ( متعلق بأنشأنا وجعلنا .
ثم عجب من أصحاب الشمال .
ومعنى ) في سموم ( في حر نار ينفذ في المسام .
والحميم الماء الكثير الحرارة .
واليحموم الدخان الأسود ( يفعول ) من الأحم وهو الأسود .
ثم نعت الظل بأنه حار ضار لا منفعة فيه ولا روح لمن يأوي إليه .
قال ابن عباس : لا بارد المدخل ولا كريم المنظر .
قال الفراء : العرب تجعل الكريم تابعاً لكل شيء ينوي به المدح في الإثبات أو الذم في النفي تقول : هو سمين كريم وما هذه الدار بواسعة ولا بكريمة .
ثم ذكر أعمالهم الموجبة لهذا العقاب فقال ) إنهم كانوا قبل ذلك ( أي في الدنيا ) مترفين ( متنعمين متكبرين عن التوحيد والطاعة والإخلاص ) وكانوا يصرون على الحنث ( وهو الذنب الكبير ووصفه بالعظم مبالغة على مبالغة تقول : بلغ الغلام الخنث أي الحلم ووقت المؤاخذة بالمآثم وحنث في مينه خلاف بر فيها .
وخص جمع من(6/241)
" صفحة رقم 242 "
المفسرين فقالوا. أعني به الشرك .
وعن الشعبي : هو اليمين الغموس .
وذلك أنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون يدل عليه ما بعده وقد مر مثله في ( الصافات ) واعلم أنه سبحانه ذكر في تفصيل الأزواج الثلاثة نسقاً عجيباً وأسلوباً غريباً .
وذلك أنه لم يورد في التفصيل إلا ذكر صنفين .
أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة .
ثم بعدما عجب منهما بين حال الثلاثة السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فأقول وبالله التوفيق : هذا كلام موجز معجز فيه لطائف خلت التفاسير عنها منها : أنه طوى ذكر السابقين في أصحاب الميمنة لأن كلاً من السابقين ومن أصحاب اليمين أصحاب اليمن والبركة كما أن أصحاب الشمال أهل الشؤم والنكد ، وكأن في هذا الطي إشارة إلى الحديث القدسي ( ) ومنها أن ذكر السابقين وقع في الوسط باعتبار وخير الأمور أوسطها ، وفي الأول اعتبار والأشراف بالتقديم أولى ، وفي الآخر باعتبار ليكون إشارة إلى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نحن الآخرون السابقون ) ومنها أن مفهوم السابق متعلق بمسبوق ، فما لم يعرف ذات المسبوق لم يحسن ذكر السابق من حيث هو سابق .
فهذا ما سنح للخاطر وسمح به والله تعالى أعلم بمراده .
ثم أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقرر لهم ما شكوا فيه فقال ) قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات ( أي ينتهي أمر جميعهم إلى وقت ) يوم معلوم ( عند الله وفيه رجوع إلى أول السورة .
ولما كرر ذكر المعاد بعبارات شتى ذكر طرفاً من حال المكذبين المعاصرين ومن ضاهاهم فقال ) ثم إنكم أيها الضالون ( عن الهدى ) المكذبون ( بالبعث ) لآكلون ( أي في السموم المذكور ) من شجر ( هو للابتداء ) من زقوم ( هو للبيان ) فمالئون منها البطون ( آنت الضمير بتأويل الشجرة قال جار الله : عطف الشاربين على الشاربين لاختلافهما اعتباراً وذلك أن شرب الماء المتناهي الحرارة عجيب وشربه كشرب الهيم أعجب .
والهيم الإبل التي بها الهيام وإذا شربت فلا تروى واحدها أهيم والمؤنث هيماء وزنه ( فعل ) كبيض .
وجوز أن يكون جمع اليهام بفتح الهاء وهو الرمل الذي لا يتماسك كسحاب وسحب .
ثم خفف وفعل به ما فعل بنحو جمع أبيض والمعنى أنه يسلط عليهم الجوع حتى يضطروا إلى أكل الزقوم .
ثم يسلط عليهم العطش إلى أن يضطروا إلى شرب الحمم كالإبل الهيم ) نحن خلقناكم فلولا تصدون ( بالبعث بعد الخلق فإن من قدر على البدء كان على الإعادة أقدر .
ثم برهن أنه لا خالق إلا هو فقال ) أفرأيتم ما تمنون ((6/242)
" صفحة رقم 243 "
أي تقذفونه في الأرحام .
يقال : أمنى النطفة ومناها وقد مر في قوله ) من نطفة إذا تمنى ) [ النحم : 46 ] ( أءنتم تخلقونه ( تقدّرونه وتصورونه .
ووجه الاستدلال أن المني إنما يحصل من فضلة الهضم الرابع وهو كالطل المنبث في جميع الأعضاء ولهذا تشترك كل الأعضاء في لذة الوقاع ويجب اغتسال كلها لحصول الانحلال عنها جميعاً .
فالذي قدر على جمع تلك الإعذية في بدن الإنسان ثم على جمع تلك الأجزاء الطلية في أوعيتها ثم على تمكينها في الرحمن إلى أن تتكون إنساناً كاملاً يقدر على جمعها بعد تفريقها بالموت المقدر بينهم بحيث لا يفوته شيء منها وإلى هذا أشار بقوله ) وما نحن بمسبوقين على أن نبدل ( أي نحن قادرون على ذلك لا يغلبنا عليه أحد .
يقال : سبقته على الشيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه .
والأمثال أي على أن تبدل مكانم أشباهكم من الخلق و ) فيما لا تعلمون ( أي في خلق ما لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها ، يريد بيان قدرته على إنشائنا في جملة خلق تماثلنا أو خلق لا تماثلنا .
وجوز جار الله أن يكون جمع مثل بفتحتين والمعنى إنا قادرون على تغيير صفاتكم التي أنتم عليها وإنشاء صفات لا تعلمونها .
ثم ذكرهم النشأة الأولى ليكون تذكيراً بعد تذكير فقال ) ولقد علمتم ( الآية .
ثم دل على كمال عنايته ورحمته ببريته مع دليل آخر على قدرته قائلاً ) أفرأيتم ما تحرثون ( من الطعام أي تبذرون حبه ) أءنتم تزرعونه ( أي تجعلونه بحيث يكون نباتاً كاملاً يستحق اسم الزرع .
وفي الكشاف عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يقولن أحد زرعت وليقل حرثت ) والحطام ما تحطم وتكسر من الحشيش اليابس .
وقوله ( فظلتم ( أصله فظللتم حذفت إحدى اللامين للتخفيف وهو مما جاء مستعملاً غير مقس عليه .
ومعنى ) تفكهون ( تعجبون كأنه تكلف الفكاهة .
وعن الحسن : تندمون على الإنفاق عليه التعب فيه أو على المعاصي التي تكون سبباً لذلك .
من قرأ ) أنا ( بالخبر فواضح ويحسن تقدير القول أو لا بد منه ، ومن قرأ بالاستفهام فللتعجب ولا بد من تقدير القول أيضاً .
ومعنى ) لمغرمون ( لمهلكون من الغرام الهلاك لهلاك الرزق ، أو من الغرامة أي لملزمون غرامة ما أنفقنا ) بل نحن ( قوم ) محرومون ( لا حظ لنا ولو كنا مجدودين لما جرى علينا ما جرى ورفضوا العجب من حالهم ، ثم أسندوا ذلك إلى ما كتب عليهم في الأزل من الإدبار وسوء القضاء نعوذ الله منهما .
ثم ذكر دليلاً آخر مع كونه نعمة أخرى وهو إنزال الماء من المزن وهو السحاب الأبيض خاصة .
والأجاج الماء الملح اكتفى باللام الأولى في جواب ( لو ) عن إشاعة الثانية وهي ثابتة في المعنى لأن ( لو ) شرطية غير واضحة ليس إلا أن الثاني امتنع لامتناع الأول وهذا أمر وهمي فاحتيج في الربط إلى اللام التوكيدي .
ويمكن أن يقال : إن المطعوم مقدم على أمر المشروب والوعيد بفقده أشد وأصعب فلهذا خصت آية المطعوم باللام المفيدة(6/243)
" صفحة رقم 244 "
للتأكيد .
وإنما ختم الآية بقوله ) فلولا تشكرون ( لأ ، ه وصف الماء بقوله ) الذين تشربون ( ولم يصف المطعوم بالأكل أو لأنه قال ) أءنتم أنزلتموه من المزن ( وهذا لا عمل للآدمي فيه أصلاً بخلاف الحرث أو لأن الشرب من تمام الأكل فيعود الشكر إلى النعمتين جميعاً ثم عد نعمة أخرى من قبيل ما مر .
ومعنى ) تورون ( تقدحونها وتستخرجونها من الشجر وقد سبق ذكرها في آخر ( يس ) .
وأعلم أنه سبحانه بدأ في هذه الدلائل بذكر خلق الإنسان لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم .
ثم أعقبه بذكر ما فيه قوام الناس وقيام معايشهم وهو الحب ، ثم أتبعه الماء الذي به يتم العجين .
ثم ختم بالنار التي بها يحصل الخبز ، وذكر عقيب كل واحد ما يأتي عليه ويفسده فقال في الأولى ) نحن قدرنا بينكم الموت ( وفي الثانية ) لو نشاء لجعلناه حطاماً ( وفي الثالثة ) لو نشاء جعلناه أجاجاً ( ولم يقل في الرابعة ما يفسدها بل قال ) نحن جعلناها تذكرة ( تتعظون بها ولا تنسون نار جهنم كما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ناركم هذه التي يوقدها بنو آدم جزء من سبعين جزءاً من جهنم ) ) ومتاعاً ( وسبب تمتع ومنفعة ) للمقوين ( للذين ينزلون القواء وهي القفر أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام في السفر من أقوى الرجل إذا لم يأكل شيئاً من أيام .
وفي نسق هذه الآيات بشارة للمؤمنين وذلك أنه سبحانه بدأ بالوعيد الشديد وهو تغيير ذات الإنسان بالكلية في قوله ) وما نحن بمسبوقين على نبدل أمثالكم ( ثم ترك ذلك المقام إلى أسهل منه وهو تغير قوته ذاتاً فقال ) لو نشاء لجعلناه حطاماً ( ثم عقبه بأسهل وهو تغيير مشروبه نعتاً لا ذاتاً ولهذا حذف اللام في قوله ) لو نشاء جعلناه أجاجاً ( ويحتمل عندي أن يكون سبب حذف اللام هو كون ( لو ) بمعنى ( أن ) ولذلك أن الماء باقٍ ههنا فيكون التعليق حقيقة بخلاف الزرع فإنه بعد أن حصد صار التعليق المذكور وهمياً فافهم .
ثم ختم بتذكير النار وفيه وعد من وجه ووعيد من وجه .
أما الأول فلأنه لم يبين ما يفسدها كما قلنا يدل على أن الختم وقع على الرأفة والرحمة .
وأما الثاني فلأ ، عدم ذكر مفسدها يدل على بقائها في الآخرة .
وفي قوله ) تذكرة ( إشارة إلى ما قلنا .
ثم أمر بإحداث التسبيح بذكره أو بذكر اسمه العظيم تنزيهاً له عما يقول الكافرون به وبنعمته وبقدرته على البعث ، ثم عظم شأن القرآن بقوله ) فلا أقسم ( أي فأقسم والعرب تزيد لا قبل فعل أقسم كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه فيفيد(6/244)
" صفحة رقم 245 "
التأكيد .
ومواقع النجوم مساقطعها ومغاربها ولا ريب أن لأواخر الليل خواص شريفة ولهذا قال سبحانه ) والمستغفرين بالأسحار ) [ آل عمران : 17 ] وعن سفيان الثوري : إن الله تعالى ريحاً تهب وقت الأسحار وتحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار .
وقوله ( وأنه لقسم لو تعلمون عظيم ( اعتراض فيه اعتراض .
ومواقعها منازلها ومسايرها في أبراجها أو هي أوقات نزول نجوم القرآن الكريم الحسن المرضي من بين جنس الكتب .
أو كرمه نفعه للمكلفين .
أو هو كرامته على الله عز وجل ) في كتاب مكنون ( مستوراً على من أراد الله تعالى اطلاعه على أسراره من ملائكته المقربين وهو اللوح ) لا يمسه ( إن كان الضيمر للكتاب فالمعنى أنه لا يصل إلى ما فيه ) إلا ( عبيده ) المطهرون ( من الأدناس الجسمية وهم الكروبيون ، وإن كان للقرآن فالمراد أنه لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة الباطنة والظاهرة ، فلا يمسه كافر ولا جنب ولا محدث .
ومن الناس من حرم قراءة القرآن عند الحدث الأصغر أيضاً .
وعن ابن عباس في رواية وهو مذهب الإمامية إباحة قراءته في الجناية إلا في أربع سور فيها سجدة التلاوة لأن سجدتها واجبة عندهم .
ثم وبخ المتهاونين بشأن القرآن فقال ) أفبهذا الحديث ( أي بالقرآن أو بهذا الكلام الدال على حقيقة القرآن ) أنتم مدهنون ( متهاونون من أدهن في الأمر إذا لان جانبه ولا يتصلب فيه ) وتجعلون رزقكم ( أي شكر رزقكم ) أنكم تكذبون ( بالبعث وبما دل عليه القرآن ، ومن أظلم ممن وضع التكذيب موضع الشكر كأنه عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو ذكر تعداد النعم من قوله ) أفرأيتم ما تحرثون ( إلى قوله ) للمقوين ( وقيل : نزلت في الأنواء ونسبتهم الأمطار إليها يعني وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله عز وجل وتنسبونه إلى النجوم .
ثم زاد في توبيخ الإنسان على جحد أفعال الله وآياته .
وترتيب الآية بالنظر إلى أصل المعنى هو أن يقال : فلولا ترجعون الأرواح إلى الأبدان إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين فزاد في الكلام توكيدات منها تكرير ) فلولا ( التحضيضية لطول الفصل كما كرر قوله ) فلا تحسبنهم ( بعد قوله ) لا تحسبن الذين يفرحون ) [ آل عمران : 188 ] ومنها تقديم الظرف وهو قوله ) إذا بلغت الحلقوم ( أي النفس ، وإنما أضمرت للعلم بها كقوله ) ما ترك على ظهرها ) [ فاطر : 45 ] وإنما قدم الظرف للعناية فإنه لا وقت لكون الإنسان أحوج إلى التصرف والتدبير منه ، ولأنه أراد أن يرتب الاعتراضات عليه ، ومنه زيادة الجمل المعترضة وهي قوله ) وأنتم ( يا أهل الميت ) حينئذ تنظرون ( إليه ) ونحن أقرب إليه منكم ( بالقدرة والعلم أو بملائكة الموت ) ولكن لا تبصرون ( لا بالبصر ولا بالبصيرة .
ومعنى مدينين مربوبين مملوكين مقهورين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم .(6/245)
" صفحة رقم 246 "
ومنها قوله ) إن كنتم صادقين ( فإنه شرط زائد على شرط أي إن كنتم صادقين إن كنتم غير مدينين فارجعوا أرواحكم إلى أبدانكم متمنعين عن الموت ، والحلقوم الحلق وهو مجرى النفس ، والواو والميم زائدان ، ووزنه ( فعلوم ) ويمكن أن يقال : إن فعل ) فلولا ( الأول محذوف يدل عليه ما قبله والمعنى تكذبون مدة حياتكم جاعلين التكذيب رزقكم ومعاشكم .
فلولا تكذبون وقت الموت وأنتم في ذلك الوقت تعلمون الأحوال وتشاهدونها ؟ ويحتمل أن يكون معنى مدينين مقيمين من مدن إذا أقام ، والمعنى إن كنتم على ما تزعمون من أنكم لا تبقون في العذاب إلا أياماً معدودة فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا إن لم تكن الآخرة دار الإقامة .
ويجوز أن يكون من الدين بمعنى الجزاء والمعنى يؤول إلى الأول لأن الجزاء نوع من القهر والتسخير .
ويحتمل عندي أن يكون الضمير في ) ترجعونها ( عائداً إلى ملائكة الموت بدليل قوله ) ونحن أقرب ( والمعنى فلولا تردون عن ميتكم ملائكة الموت إن كنتم غير مقهورين تحت قدرتنا وإرادتنا .
وحين بين أن لا قدرة لهم على رجع الجياة والنفس إلى البدن وأنهم مجزيون في دار الإقامة فصل حال المكلف بعد الموت قائلاً ) فأما إن كان ( المتوفى ) من المقربين ( أي من السابقين من الأزواج الثلاثة ) فروح ( أي فله استراحة وهذا أمر يعم الروح والبدن ) وريحان ( أي رزق وهذا للبدن ) وجنة نعيم ( وهذا للروح يتنعم بلقاء المليك المقتدر .
ويروى أن المؤمن لا يخرج من الدنيا إلا ويؤتى إلأيه بريحان من الجنة يشمه ) وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك ( أيها النبي ) من اصحاب اليمين ( أي أنت سالم من شفاعتهم .
هذا قول كثير من المفسرين .
وقال جار الله : فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين كقوله ) وتحيتهم فيها سلام ) [ يونس : 10 ] ( إن هذا ( القرآن أو الذي أنزل في هذه السورة ) لهو حق اليقين ( أي الحق الثابت من اليقين وهو علم يحصل به ثلج الصدر ويسمى ببرد اليقين .
وقد يسمى العلم الحاصل بالبرهان فالإضافة بمعنى ( من ) كقولك ( خاتم فضة ) وهذا في الحقيقة لا يفيد سوى التأكيد كقولك ( حق الحق ) .
( وصواب الصواب ) أي غايته ونهايته التي لا وصول فوقه .
أو المراد هذا هو اليقين حقاً لا اليقين الذي يظن أنه يقين ولا يكون كذلك في نفس الأمر .
هذا ما قاله أكثر المفسرين وقيل : الإضافة كما في قولنا ( جانب الغربي ) و ( مسجد الجامع ) أي حق الأمر اليقين .
ويحتمل أن تكون الإضافة كما في قولنا ( حق النبي أن يصلي عليه ) و ( حق المال أن تؤدى زكاته ) ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله فإذا قالوا عصموا مني دماءهم(6/246)
" صفحة رقم 247 "
وأموالهم إلا بحقها ) أي إلا بحق هذه الكلمة .
ومن حقها أداء الزكاة والصلاة فكذلك حق اليقين الاعتراف بما قال الله سبحانه في شأن الأزواج الثلاثة .
وعلى هذا يحتمل أن يكون اليقين بمعنى الموت كقوله ) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [ الحجر : 92 ] وقال أهل اليقين : للعلم ثلاث مراتب : أولها علم اليقين وهو مرتبة البرهان ، وثانيها عين اليقين وهو أن يرى المعلوم عياناً فليس الخبر كالمعاينة ، وثالثها حق اليقين وهو أن يصير العالم والمعلوم والعلم واحدً .
ولعله لا يعرف حق هذه المرتبة إلا من وصل إيلها كما أن طعم العسل لا يعرفه إلأا من ذاقه بشرط أن لا يكون مزاجه ومذاقه فاسدين .
روى جمع من المفسرين أن عثمان بن عفان دخل على ابن مسعود في مرضه الذي مات فيه فقال له : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي .
قال : ما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي .
قال : أفلا ندعو الطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني .
قال : افلا نأمر بعطائك ؟ قال : لا حاجة لي فيه .
قال : تدفعه إلى بناتك .
قال : لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من قرأ سورة الواقعة كل يوم لم تصبه فاقة أبداً ) .(6/247)
" صفحة رقم 248 "
سورة الحديد
( سورة الحديد مدنية وقيل مكية حروفها ألف وأربعمائة وأربعة وسبعون كلماتها خمسمائة وأربعة وأربعون آياتها تسعة وعشرون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الحديد : ( 1 - 29 ) سبح لله ما . . . .
" سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون اعلموا أن الله(6/248)
" صفحة رقم 249 "
يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم "
( القراآت )
أخذ ( مجهولاً ) ميثاقكم ( بالرفع : أبو عمرو ) وكل ( بالرفع : ابن عامر ) انظرونا ( من الأنظار : حمزة ) الأماني ( بسكون الياء : يزيد ) لا تؤخذ ( بالأنيث : ابن عامر ويزيد وسهل ويعقوب ) ، ما نزل ( بالتشديد مجهولاً : عباس ) نزل ( بالتخفيف من النزول : نافع وحفص .
الباقون : بالتشديد ) ولا تكونوا ( على الخطاب : رويس(6/249)
" صفحة رقم 250 "
) المصدقين والمصدقات ( بتشديد الدال فقط : ابن كثير وأبو بكر وحماد ) بما أتاكم ( مقصوراً من الإتيان : أبو عمرو ) فإن الله هو الغني ( بغير الفصل : أبو جعفر ونافع وابن عامر ) إبراهام ( كنظائره .
الوقوف : ( الأرض ( ج لعطف الجملتين المختلفتين ) الحكيم ( ه ) والأرض ( ج لاحتمال أن يكون قوله ) يحيى ( مستأنفاً لا محل له أو له محل بتقدير هو يحيى وأن يكون ج ) عليم ( ه ) العرش ( ط ) فيها ( ط ) كنتم ( ط ) بصير ( ه ) والأرض ( ط ) الأمور ( ه ) في الليل ( ط ) الصدور ( ه ) فيه ( ط ) كبير ( ه ) بالله ( ط ) مؤمنين ( ه ) إلى النور ( ط ) حيم ( ه ) والأرض ( ط ) وقاتل ( ط ) وقاتلوا ( ط ) الحسنى ( ط ) خبير ( ه ) كيم ( ج لاحتمال تعلق الظرف بقوله ) وله أجر ( أو بقوله ) بشراكم ( أي يقال لهم ذلك يومئذ أو هو مفعول ( اذكر ) ) فيها ( ط ) العظيم ( ه ج وإن وصل وقف على ) نوركم ( لأن ) يوم ( قد يتعلق بالنور فيوقف على ) نوركم ( وقد يتعلق بقوله ) قيل ارجعوا ( ) نوراً ( ط ) باب ( ط ) العذاب ( ط ) معكم ( ط ) الغرور ( ه ) كفروا ( ط ) النار ( ط ) مولاكم ( ط ) المصير ( ه ) الحق ( ط إلا لمن قرأ ) ولا تكونوا ( على النهي ) قلوبهم ( ط ) فاسقون ( ه ) موتها ( ط ) تعقلون ( ه ) كريم ( ه ) الصديقون ( ه والوصل أولى ومن وقف على ) الصديقين ( لم يقف على ) ربهم ( ) وورهم ( ط ) الجحيم ( ه ) والأولاد ( ط ) حطاماً ( ط ) ورضوان ( ط ) الغرور ( ه ) ورسله ( ط ) من يشاء ( ط ) العظيم ( ه ) نبرأها ( ط ) يسير ( ه ج لاحتمال تعلق اللام بما قبله أو بمحذوف أي ذلك ليكلا ) أتاكم ( ط ) فخور ( ه لا لأن ما بعده بدل ) بالبحل ( ط ) الحميد ( ه ) بالقسط ( ط ه للعطف ظاهراً مع أن إنزال الحديد ابتداء إخبار غير مختص بالرسل ) بالغيب ( ط ) عزيز ( ه ) مهتد ( ج لأن الجملتين وإن اتفقتا لفظاً إلا أن الأولى للبعض القليل والثانية للكثير فيبنى على الاستئناف ) فاسقون ( ه ) ورحمة ( ط لأن ما بعدها منصوب بابتدعوا المقدر ) رعايتها ( ط لأن الجملتين وإن اتفقتا لفظاً إلا أن قوله ) فمنهم مهتد ( ) أجرهم ( ه ط لما مر ) فاسقون ( ه ) ويغفر لكم ( ط ) رحيم ( ه لا وقد يجوز الوقف بناء على أن المراد ذلك ليعلم ) يشاء ( ط ) العظيم ( ه التفسير : معنى تسبيح الموجودات قد تقدم في قوله ) وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] والآن نقول : إنه بدأ في سورة بني إسرائيل بلفظ المصدر وهو(6/250)
" صفحة رقم 251 "
) سبحان ( وفي هذه السورة وفي الحشر والصف بلفظ الماضي .
وفي الجمعة والغابن بلفظ المستقبل ، وفي سورة الأعلى بلفظ الأمر استيعاباً للأقسام وذلك دليل على أن التسبيح لله تعالى مستمر دائم في الأوقات كلها من الأزل إلى الأبد .
وتفسير أسماء الله الحسنى المذكورة في أول هذه السورة قد سبق في البسملة فلا حاجة إلى إعادة كلها إلا أننا نذكر ما أورده الإمام فخر الدين ههنا على سبيل الإيجاز مع تنقيح ما يجب تنقيحه .
قال : هذا مقام مهيب والبحث فيه من وجوه : الأول أن تقدم الشيء على الشيء إما تقدم التأثير كتقدم حركة الإصبع على حركة الخاتم ، وإما التقدم بالحاجة لا بالتأثير كتقدم الإمام على المأموم ، أو نمعقول كما إذا جعلنا المبدأ هو الجنس العالي ، وإما بالزمان كتقدم الأب على الابن قال : وتقدم بعض أجزاء الزمان على الزمان عندي ليس من هذه الأقسام الخمسة ، أما التأثير والحاجة فلأنه لو كان كذلك لوجدا معاً كما أن العلة والمعلول يوجدان معاً وكذا الواحد والاثنان .
وأما الشرف والمكان فظاهران ، وأما بالزمان فإن الزمان لا يقع في الزمان وإلا تسلسل .
قلت : لم لا يجوز أن يكون تقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض بالحاجة أي بالطبع فإن الزمان كما لا يخفى حين كان كما متصلاً غير قار الذات اقتضت حقيقته أن يكون له وجود سيال يعقب بعض أجزائه بعضاً لا تنتهي النوبة إلى جزء مفروض منه إلاد وقد انقض منه جزء مفروض على الاتصال .
وقال : إذا عرفت ذلك فنقول : القرآن دال على أنه تعالى قبل كل شيء والبرهان أيضاً يدل على هذا لأن انتهاء الممكنات لا بد أن يكون إلى الواجب إلا أن تلك القبلة ليست بالتأثير لأن المؤثر من حيث هو مؤثر مضاف إلى الأثر من حيث هو أثرو المضافان معاً .
والمعي لا يكون قبل لا بالحاجة لأنهما قد يكونان معاً كما قلنا ، ولا لمحض الشرف فإن تلك القبلية ليست مرادة ههنا ولا بالمكان وهو ظاهر ، ولا بالزمان لأن الزمان يجميع أجزائه ممكن الوجود ، والتقدم على جميع الأزمنة لا يكون بالزمان فإذن تقدم الواجب تعالى على ما عداه خارج عن هذه الأقسام الخمسة وكيفيته لا يعلمها إلا هو .
قلت : إنه سبحانه متقدم على ما سواه بجميع أقسام التقدمات الخمسة .
أما بالتأثيبر فظاهر قوله والمضافان معاً .
قلنا : إن أردت من الحيثية المذكورة فمسلم ولا محذور ، وإن أردت مطلقاً ممنوع .
وأما بالطبع فلأن ذات الواجب من حيث هو لا تفتقر إلى الممكن من حيث هو وحال الممكن بالخلاف ، وأما بالشرف فظاهر ، وأما بالمكان فلأنه وراء كل الأماكن ومعها لقوله ) فأينما تولوا فثم وجه الله ) [ البقرة : 115 ] وقد جاء في الحديث ( لو أدليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله )(6/251)
" صفحة رقم 252 "
ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وههنا سر لعلنا قد رمزنا إليه في هذا الكتاب تفهمه بإذن الله إن كنت أهلاً له .
وأما بالزمان فأظهر قوله والتقدم على الزمن لا يكون بالزمان : قلنا : ممنوع لأن الزمان عند المحققين هو أمر وهمي ، والزمان الذي يتكلم هو فيه إنما هو مقدار حركة الفلك الأعظم ، ولا ريب أن قبل هذه الحركة لا يوجد لها مقدار إلا أن قبل كل شيء يوجد امتداد وهمي يحصل فيه وجود الواجب سبحانه ، ومن هذا التحقيق يرتفع ما أشكل على الإمام من التمييز بين الأزل وما لا يزال فإن المبادىء الوهمية تتغير بتغير الاعتبارات وباختلافها تختلف حقائقها إذ ليس لها وجود سواها فقد يصير ما هو في جانب الأزل في جانب لا يزال ، وبالعكس إذا تغيرت المبادىء المفروضة .
قال : أما البحث عن كونه تعالى آخراً بمعنى أنه يبقى وكل شيء يفنى فمنهم من أوجب ذلك حتى يتقرر كونه آخراً وهو مذهب جهم فإنه زعم أنه سبحانه يوصل الثواب إلى أهل الثواب ، والعقاب إلى أهل العقاب ، ثم يفني الجنة وأهلها والنار وأهلها والعرش والكرسي والملك والفلك ولا يبقى مع اللهشيء أصلاً في أبد الآباد كما لم يكن قبله شيء في أزل الآزل قال : ومن حجج جهنم أنه تعالى إما أن يكون عالماً بعدد حركات أهل الجنة والنار أولاً .
فإن كان عالماً لزم تناهيه فإن الأحاطة بما لا يتناهى مستحيلة .
إن لم يعلم لزم نسبة الجهل إلأيه تعالى وذلك محال .
وأيضاً الحوادث المستقبلة قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك فيهو متناه .
وأجاب عن الأول بأن إمكان استمرار هذه الأشياء حاصل إلى الأبد ، والدليل عليه أن هذه الماهيات لو زال إمكانها لزم انقلاب الممكن إلى الممتنع ، ولزم أن تنقلب قدرة الله من صلاحية التأثير إلى امتناع التأثير .
قلت : هذه مغالطة فإنه لا يلزم من الإمكان الذاتي للشيء وقوعه في الخارج ولا من عدم وقوعه في الخارج الامتناع الذاتي وأجاب عن الثاني بأنه لا يعلم أن عددها ليس بمعين وهذا لا يكون جهلاً إنما الجهل أن يكون له عدد معين ولا يعلمه .
قلت : الذي علمه متناه يجب أن يكون معلومه متناهياً ، أما الذي لا نهاية لعلمه فلم يبعد بل يجب أن تكون معلوماته غير متناهية .
وأجاب عن الثالث بأن الخارج منه إلى الوجود أحداً يكون متناهياً .
قلت : الزيادة والنقصان لا يوجبان التناهي كتضعيف الألف والألفين مراراً غير متناهية قال : فالمتكلمون حين أثبتوا إمكان بقاء العالم عولوا في أبدية الجنة والنار على إجماع المسلمين .
واخلفوا في معنى كونه تعالى آخراً على وجوه أحدها : أنه تعالى يفني جميع العالم ليتحقق كونه آخراً ، ثم إنه يوجدها ويبقيها أبداَ .
قلت : هذا حقيق بأن لا يسمى آخرية بل يسمى توسطاً .
وثانيها أن صحة آخرية كل الأشياء مختصة به فلا جرم وصف بكونه آخراً .(6/252)
" صفحة رقم 253 "
أقول : هذا أول المسألة لأن الكلام لم يقع في اختصاص وجوده وعدمه وإنما النزاع في معنى قوله آخراً .
وثالثها أنه أول في الوجود آخر في الاستدلال لأن المقصود من جميع الاستدلالات معرفة ذات الصانع وصفاته ، وأما سائر الاستدلالات التي لا يراد بها معرفة الصانع فهي حقيرة خسيسة .
قلت : أراد أنه غاية الأفكار ونهاية الأنظار وهذا معنى حسن في نفسه إلا أنه لا يطابق معنى الأول كل المطابقة .
ورابعها أنه أول في ترتيب الوجود وآخر إذا عكس الترتيب .
قلت : هذا تصور صحيح ينطبق على السلسلة المترتبة من العلل والمعلولات ، وعلى المترتبة من الشرف إلى الأخس ، وعلى الآخذة من الوحدة إلى الكثرة ، وكما يلي الأزل إلى ما يلي الأبد ، ومما يلي المحيط إلى ما يقرب من المركز فهو سبحانه أول بالترتيب الطبيعي وآخر بالترتيب المنعكس فقد وضح بهذا البيان صحة إطلاق التقدمات الخمسة ومقابلاتها عليه تعالى ، وهذا من غوامض الاسرار وقد وفقني الله تعالى لحلها وبيانها فالشكر على آلائه .
أما تفسير الظاهر والباطن فالمحققون قالوا : إنه الظاهر بالأدلة الدالة على وجوده .
والباطن لأنه جل عن إدراك الحواس والعقول إياه إما في الدنيا أو فيها وفي الآخرة جميعاً .
وقيل : معنى الظاهر الغالب ، والباطن العالم بما بطن أي خفي .
قال الليث : يقال أنت أبطن بهذا الأمر أي أخبر به .
وباقي الآيات قد سبق تفسيرها في مواضع إلا قوله ) يعلم ما يلج ( فإنه قد مر في أول ( سبأ ) فقط فلا حاجة إلى الإعادة .
وقوله ( وهو معكم ( معية العلم والقدرة أو استصحاب المكان عند بعض قوله ) له ملك السموات والأرض ( وبعده مثله ليس بتكرار لأن الأول في الدنيا لقوله ) يحي ويميت ( والثاني في العقبى لقوله ) وإلى الله ترجع الأمور ( قوله ) مستخلفين فيه ( أراد أن المال مال الله والعباد عباد الله إلا أنه قد جعل أرزاقهم متداولة بيد حكمته متعلقة بالوسائط والروابط ، فالسعيد من وفقه الله تعالى لرعاية حق الاستخلاف فيتصرف فيما آتاه الله على وفق ما أمره الله من الإنفاق في سبيل الله قبل أن ينتقل منه إلى غيره بإرث أو حادث كما انتقل من غيره إليه بأحد السببين .
قوله ) لا تؤمنون ( حال من معنى الفعل كقولك ( مالك قائماً ) أي ما تصنع .
والواو في قوله ) والرسول ( للحال من ضمير ) لا تؤمنون ( فهما حالان متداخلتان .
وأخذ الميثاق إشارة إلى الأقوال المذكورة في تفسير قوله ) وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ) [ الأعراف : 172 ] ، والمراد أنه قد تعاضدت الدلائل المسعية والبراهين العقلية على الإيمان بالله فأي عذر لكم في تركه ) إن كنتم مؤمنين ( لموجب ما فإن هذا الموجب لا مزيد عليه ولا ريب أن الإيمان بالله شامل لتصديق بجميع أوامره وأحكامه ومن جملتها الإيمان بالرسول وبالقرآن وبما فيه .
استدل القاضي بقوله ) وما(6/253)
" صفحة رقم 254 "
لكم ( على أن العبد قادر على الإيمان وعلى الاستطاعة قبل لافعل وإلا لم يصح التوبيخ كما لا يقال مالك لا تطول ولا تبيض ، والبحث في أمثاله مذكور في مواضع .
والضمير في قوله ) ليخرجكم ( لله تعالى أو لعبده والميراث مجاز عن بقائه بعد فناء الخلق وقد مر في ( آل عمران ) : قال المفسرون : إن أبا بكر أول من أنفق في سبيل الله فنزل فيه وفي أمثاله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ) لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح ( أي فتح مكة وتمامه أن يقال : ومن أنفق بعد الفتح فحذف لدلالة قوله ) أولئك ( الذين أنفقوا قبل الفتح وهم الذين قال فيهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) ) أعظم درجة من الذين أنفقوا نم بعد وقاتلوا ( وسبب الفضل أنهم انفقوا قبل عز الإسلام وقوة أهله فكانت الحاجة إلى الإنفاق حينئذ أمسّ مع أنه كان أصدق إنباء عن ثقة صاحبه بهذا الدين ) وكلاً وعد الله الحسنى ( المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات .
ومن قرأ بالرفع فتقديره وكل وعده الله والقرض مجاز عن إنفاق المال في سبيل الله .
وقد مر في أواخر ( البقرة ) .
قال أهل السنة : إنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ أن كل من صدرعنه الفعل الفلاني فله كذا من لاثواب وهو الأجر الكريم ، فإذا ضم إلى ذلك مثله فهو المضاعفة .
وقال الجبائي : إن الأعواض تضم إلى الثواب فهو المضاعفة .
وإنما وصف الأجر بالكريم لأنه جلب ذلك الضعف وبسببه حصلت لكل الزيادة فكان كريماً من هذا الوجه .
ثم أكد الإيمان بالله ورسوله والأنفاف في سبيله بتذكير يوم المحاسبة فقال ) يوم ترى ( يا محمد أو يا من له أهلية الخطاب وقد مر إعرابه .
عن ابن مسعود وقتادة مرفوعاً أن كل إنسان مؤمن فإنه يحصل له النور يوم القيامة على قدر ثوابه منهم من يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعامء ، ومنهم من وره مثل الجبل ، ومنهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه ، وأدناهم نوراً من يكون نوره على إبهامه ينطفىء مرة ويتقد أخرى .
وقال مجاهد : ما من عبد إلا وينادى يوم القيامة يا فلان هذا نورك ، ويا فلان لا نور لك .
هذا وقد بينا لك في هذا الكتاب مراراً أن الكمالات والخيرات كلها أنوار وأكمل الأنوار معرفة الله سبحانه .
وإنما قال ) بين أيديهم وبأيمانهم ( لأن ذلك جعل إمارة النجاة ولهذا ورد أن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم .
ومعنى سعي النور سعيه بسعيهم جنيباً لهم ومتقدماً(6/254)
" صفحة رقم 255 "
ويقول لهم الذي يتلقونهم من الملائكة ) بشراكم ابيوم جنات ( قوله ) يوم يقول ( بدل من قوله ) يوم ترى ( ومنصوب ب ( أذكر ) مقدراً .
قال جمع من العلماء : الناس كلهم يوم القيامة في الظلمات ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار والمنافقون يطلبونها منهم قائلين ) انظرونا ( لأنهم إذا نظروا إليهم والنور قدامهم استضاؤا بتلألؤ تلك الأنوار .
قال الفارسي : حذف الجار وأوصل الفعل وأنشد أبو الحسن :
ظاهرات الجمال والحسن ينظرن
كما ينظر الأراك الظباء
والمعنى ينظرن إلى الأراك فإن كانت هذه الحالة عند الموقف فالمراد انظروا إلينا ، وإن كانت هذه الحالة عند سير المؤمنين إلى الجنة احتمل أن يكون النظر بمعنى الانتظار لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على الركاب وهؤلاء مشاة في القيود والسلاسل .
ومن قرأ ) انظرونا ( أي أمهلونا جعل استبطاءهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إمهالاً لهم .
قال الحسن : يعطى يوم القيامة كل أحد نوراً على قدر عمله .
ثم إنه يؤخذ من جمر جهنم وما فيه من الكلاليب والحسك وتلقى على الطريق فتمضي زمرة من المؤمنين وجوههم كالقمر ليلة البدر ، ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء الكواكب في السماء .
ثم على ذلك ثم على ذلك ، ثم تغشاهم الظلمة فينطفىء نور المنافقين فهناك يقول المنافقون للمؤمنين انظرونا ) نقبس من نوركم ( والاقتباس أخذ القبس أي الشعلة من النار ) قيل ارجعوا وراءكم ( أي إلى الموقف حيث أعطينا هذا النور فاطلبوا نوراً وهو تهكم بهم أو إلى الدنيا ) فالتمسوا نوراً ( بتحصيل سببه وهو الإيمان والعمل الصالح أو اكتساب المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة كأنها خدعة خدع بها المنافقون كقوله ) يخادعون الله وهو خادعهم ( : 9 ] وعلى هذا فالسور هو امتناع العود إلى الدنياوعلىة الأول قالوا : إنهم يرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم فيجدون السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة ) فيه الرحمة وظاهره ( وهو ما ظهر لأهل النار ) من قبله ( أي من جهته ) العذاب ( قال أبو مسلم : المراد من قول المؤمنين ) ارجعوا ( من ع المنافقين عن الاستضاءة كقول الرجل لمن يريد القرب منه ( وراءك أوسع لك ) والمراد أنه لا سبيل لهم إلى هذا النور ، والمراد من السور منعهم من رؤية المؤمنين قال الأخفش : الباء في قوله ) بسور ( صلة وفائدته التوكيد وأرادوا بقوله ) ألم نكن معكم ( مرافقتهم في الظاهر .
ومعنى ) فتنتم ( محنتم ) أنفسكم ( بالنفاق وأهلكتموها ) وتربصتم ( بالمؤمنين الدوائر ) وارتبتم ( وشككتم في وعيد الله أو في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو في البعث أو(6/255)
" صفحة رقم 256 "
في كل ما هو من عند الله ) وغرتكم الأماني ( بكثرة الآمال وطول الآجال ) حتى جاء أمر الله ( بالموت على النفاق ثم أوقعكم في النار ) وغرّكم بالله ( الشيطان ) الغرور ( فنفخ في خيشومكم إن الله غفور إن باب التوبة مفتوح ) فاليوم لا يؤخذ منكم ) مأواكم النار هي مولاكم ( وقيل : المراد أنها تتولى أموركم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار وقيل : أراد هي أولى بكم .
قال جار الله حقيقته هي محراكم ومقمنكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل ( إنه لكريم ) .
قال في التفسير الكبير : هذا معنى وليس بتفسير اللفظ من حيث اللغة ، وغرضه أن الشريف المرتضى لما تمسك في إمامة علي رضي الله عنه بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من كنت مولاه فعلى مولاه ) فهذا علي مولانا احتج بقول الأئمة تفسير الآية أن المولى معناه الأولى ، وإذا ثبت أن اللفظ محتمل وجب حمله عليه لأن ما عداه بين الثبوت ككونه ابن العم والناصر ، أو بين الانتفاء كالمعتق والمعتق فيكون على التقدير الأول عبثاً ، وعلى التقدير الثاني كذباً .
قال : وإذا كان قول هؤلاء معنى لا تفسيراً بحسب اللغة سقط الاستدلال .
قلت : في هذا الإسقاط بحث لا يخفى .
وجوز أن يراد في الآية نفي الناصر لأنه إذا قال هي ناصركم على سبيل التهكم وليس لها نصرة لزم نفي الناصر رأساً كقوله تعالى ) يغاثوا بماء كالمهل ) [ الكهف : 29 ] ويقال ناصره الخذلان ومعينه البكاء .
قوله سبحانه ) ألم يأن للذين آمنوا ( من أنى الأمر يأني إذا جاء إناه أي وقته .
قال جمع من المفسرين : نزل في المنافقين الذين أظهروا ايمان وفي قلوبهم النفاق المباين للخشوع. وقال آخرون : نزل في المؤمنين المحقين .
روى الأعمش أن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا ليناً في العيش ورفاهية فغيروا بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية .
وعن أبي بكر الصديق أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من اليمامة فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم فقال : هكذا كنا حتى قست القلوب .
وعن ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين .
وعن ابن عباس أنه عاتبه على رأس ثلاث عشرة .
وقوله ( لذكر الله ( من إضافة المصدر إلى الفاعل أي ترق قلوبهم لمواعظ الله التي ذكرها في القرآن ) ومنا نزل من الحق ( وأراد أن القرآن جامع للوصفين الذكر والموعظة ولكونه حقاً نازلاً من السماء .
ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول أي لذكرهم الله ولقرآن كقوله ) إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم(6/256)
" صفحة رقم 257 "
أيماناً ) [ الأنفال : 2 ] ويحتمل أن تكون اللام للتعليل أي يجب أن يورثهم الذكر خشوعاً ولا يكونوا كمن يذكره بالغفلة .
ومن قرأ ) ولا تكونوا ( بالتاء الفوقانية فهي الناهية .
ومن قرأ بالياء التحتانية احتمل أن يكون منصوباً عطفاً على أن تخشع والأمد الأجل والأمل أي طالبت المدة بين اليهود وزالنصارى وبين أنبيائهم ، أو طالت أعمارهم في الغفلة والأمل البعيد فحصلت القسوة في قلوبهم بسببه فاختلفوا فيما أحدثوا من التحريف والبدع .
وقال مقاتل بن سليمان : طال عليهم أمد خروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو طال عليهم عهدهم بسماع التوراة والإنجيل فزال وقعهما في قلوبهم قاله القرطبي ، وقرىء الأمد بالتشديد أي الوقت الأطول ) وكثير منهم فاسقون ( خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين ، وفيه إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسوق في آخر الأمر .
قال الحسن : أما والله ولق استبطأ قلوب المؤمنين وهم يقرأو من القرآن أقل مما تقرأون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسوق .
قوله ) اعلموا أن الله يحيي الأرض ( فيه وجهان : الأول أنه تمثيل والمعنى أن القلوب التي ماتت بسبب القساوة فالموظبة على الذكر سبب لعود حياة الخشوع لأنه يذكر القيامة وبعث الأموات .
ثم استأنف وعد المنفقين ووعيد أضدادهم بقوله ) إن المصدقين ( وأصله المتصدقين وعطف عليه قوله ) وأقرضوا الله ( لأن الألف واللام بمعنى الذي كأنه قال : إن الذين تصدقوا وأقرضوا .
والظاهر أن الأول هو الواجب الثاني هو التطوع لأن تشبيهه بالقرض كالدلالة على ذلك .
وأيضاً ذكر الأول بلفظ اسم الفاعل الدال على الاستمرار ينبىء عن الالتزام والوجوب .
ومن قرأ بتشديد الدال فقط فمعناه إن الذين صدقوا الله ورسوله وأقرضوا ويندرج تحت التصديق الإيمان وجميع الأعمال الصالحات إلا أنه أفرد الإنفاق بالذكر تحريضاً عليه كما أنه أفرد الإيمان لتفضيله والترغيب فيه .
وقال ) الذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ( الكاملون في الصدق إذ لا قول أصدق من التوحيد والاعتراف بالرسالة ، أوهم الكثير والصدق من حيث إنهم ضموا صدقاً إلى صدق وهو الإيمان بالله والاعتراف بالرسالة ، أو هم الكثيرر والصدق من حيث إنهم ضموا صدقاً إلى صدق وهو الإيمان بالله ورسوله أو به وبرسوله رسوله .
ثم حث على الجهاد بقوله ) والشهداء ( وهو مبتدأ حبره ) عند ربهم ( وفيه بيان أنهم من الله بمننزلة وسعة وقد بين ثوابهم الجسماني ) لهم أجرهم ونورهم ( ويجوز أن يكون قوله ) عند ربهم ( حالاً أو صفة للشهداء كقوله ( مررت على اللئيم يسبني ) وما بعده خبر .
وقال الفراء والزجاج : هم الأنبياء لقوله ) فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ) [ النساء : 41 ] ومن جعل ) الشهداء ( عطفاً على ما قبله قال : أراد أنهم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله .
قال مجاهد : كل مؤمن فهو صديق وشهيد .
وقال جار الله : المعنى أن الله يعطي(6/257)
" صفحة رقم 258 "
المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله حتى يساوي أجرهم مع أضعافه أجر أولئك .
وقيل : أ ) يد أنهم شهداء عند ربهم على أعمال عباده .
وعن الحسن : كل مؤمن فإنه يشهد كرامة ربه .
وعن الأصم .
إن المؤمن قائم لله تعالى بالشهادة فيما تعبدهم به من الإيمان والطاعة .
ثم ذكر ما يدل على حقارة أمور الدنيا وشبهها في سرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث ورباه إلى أن يتكامل نشؤه .
ومعنى إعجاب الكفار أنهم جحدوا نعمة الله فيه بعد أن راق في نظرهم فبعث الله عليه العاهة فصيره كلا شيء كما فعل بأصحاب الجنتين في ( الكهف ) وفي ( سبأ ) وبأصحاب الجنة يف ( نون ) .
ومن جعل الكفار بمعنى الزراع فظاهر قاله ابن مسعود وصيرورته حطاماً هي عودة إلى كمال حاله في النضج واليبس .
ثم عظم أمور الآخرة بتنوين التنكير في قوله ) وفي الآخرة عذاب شديد ( للكافرين ) ومغفرة من الله ورضوان ( للمؤمنين قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة .
فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله لقائه فنعم المتاع ونعم الوسيلة .
ثم حث على المسابقة إلى المغفرة وإلى الجنة وقد مر نصير في ( آل عمران ) إلا أن البشارة ههنا أعم لأنه قال هناك ) أعدت للمتقين الذين ينفقون ) [ الآية : 133 ] إلأى آخره .
وههنا قال ) أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ( ولأن هؤلاء أدون حالاً من أولئك جعل عرض الجنة هنا أقل فقال ) وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ( فلم يجمع السماء وأدخل حرف التشبيه الدال على أن المشبه أدون حالاً من المشبه به .
وفي لفظ ) سابقوا ( ههنا إشارة إلى أن مراتب هؤلاء مختلفة بعضها أسبق من بعض كالمسابقة في الخيل وفي لفظ ) سارعوا ( هنالك رمز إلى أن كلهم مستوون في القرب أومتقاربون لأن المرتبة العليا واحدة وهي مرتبة السابقين المقربين وإنها غاية الرتب الإنسانية فافهم هذه الأسرار فإن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
قال الزجاج : لما أمرنا بالمسابقة إلى المغفرة بين أن الوصول إلى الجنة والحصول في النار بالقضاء والقدر فقال ) ما أصاب من مصيبة ( أي لا يوجد مصيبة ) في الأرض ( من القحط والوباء والبلاء ) ولا في أنفسكم ( من المرض والفتن ) إلا في كتاب ( أي هو مكتبو عند الله في اللوح المحفوظ وإنما قيد المصائب بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأن حركات أهل الجنة والنار غير متناهية فإثباتها في الكتاب محال ولهذا قال ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم الدين ) ولم يقل إلى الأبد .(6/258)
" صفحة رقم 259 "
وفي الآية تخصيص آخر وهو أنه لم يذكر أحوال أهل السموات وفيه سر قال أهل البرهان : فصل في هذه السورة وأجمل ي ( التغابن ) فقال ) ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ) [ الحديد : 22 ] والتفصيل بهذه السورة ألأيق لأنه فصل أحوال الدنيا والآخرة بقوله ) اعملوا إنما الحياة الدنيا ( إلى آخره قوله ) من قبل أن نبرأها ( من قبل أن نخلق المصائب والأنفس أو الأرض أو المخلوقات ) إن ذلك ( الإثبات أو الحفظ ) على الله يسير ( وإن كان عسيراً على غيره .
ثم بين وجه الحكمة في ذلك افثبات قائلاً ) لكيلا تأسوا ( أي لكيلا تحزنوا ) على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ( نظيره ما ورد في الخبر : من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب لأنه لما علم وجوب وقوعه من حيث تعلق علم الله وحكمه وقدرته به عرف أن الفائت لا يرده الجزع والمعطى لا يكاد يثبت ويدوم لأنه عرضة للزوال ونهزة للانتقال فلا يشتد به فرحه .
روى عكرمة عن ابن عباس : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا للمصيبة صبراً وللخير شكراً أو المراد أنه لم ينف الأسى والفرح على الإطلاق ولكنه نفى ما بلغ الجزع والبطر ولا لوم على ما يخلو منه البشر .
والباقي ظاهر وقد مر في النساء .
والمقصود أن البخيل يفرح فرحا مطغياً لحبه المال ليفتخر به ويتكبر على الناس ويحمل غيره على إمساك المال لمقتضى شحه الطبيعي ) ومن يتول ( عن أوامر الله ونواهيه ولا يعرف حق الله فما أعطاه ) فإن الله هو الغني ( عن طاعة المطعين ) الحميد ( في ذاته وإن لم يحمده الحامدون .
وقيل : إن الآية نزلت في اليهود الذين كتموا صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبخلوا ببيان نعته .
ثم أراد أن يبين الغرض من بعثة الرسل المؤيدين بالمعجزات ومن إنزال الكتاب والميزان معهم .
يروى أن جبرائيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح فقال : مر قومك يزنوا به .
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض .
أنزل الحديد والنار والماء والملح .
وعن الحسن : إنزالها تهيئتها كقوله ) وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) [ الزمر : 6 ] وقال قطرب : هو من النزل يقال : أنزل الأمير على فلان نزلاً حسناً منهم من قال : هو من باب ( علفتها تبناً وماء بارداً ) .
وللعلماء في المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد الذي فيه بأس شديد والأول إما أن يكون من باب الاعتقادات ولن يتم إلا بالكتاب السماوي ولا سيما إذا كان معجزاً .
وإما أن يكون من باب المعاملات ولا ينتظم إلا بالميزان فأشرف الأقسام ما يتعلق بالوقة النظرية الروحاينة ، ثم ما يتعلق بالعملية الجسمانية ، ثم ما يتعلق بالزواجر وقد روعي في الآية هذا النسق .
وثانيها(6/259)
" صفحة رقم 260 "
المعاملات إما مع الخالق وطريقها الكتاب أو مع الخلق وهم ، إما أحباب ويفتقر في نظام أمور تمدنهم إلى الميزان ، وإما أعداء فيدفعون بالسيف .
وثالثها السابقون يعاملون بمقتضى الكتاب فينصفون ولا ينتصفون ويحترزون عن مواقع الشبهات ، والمقتصدون ينصفون وينتصفون فلا بد لهم من الميزان ، والظالمون ينتصفون من غير إنصاف فلا بدّ لهم من السيوف الزواجر .
واربعها أن الإنسان في مقام الحقيقة وهو مقام النفس المطمئنة المقربين لا يسكن إلا بكتاب الله ) ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [ الرعد : 28 ] أو هو في مقام الطريقة وهو النفس اللوامة .
وأصحاب اليمين لا بد لهم من الميزان في معرفة الأخلاق المتوسطة غير المائلة إلى طريق الإفراط والتفريط ، أو هو في مقام الشريعة والنفس الأمارة لا تنزجر إلا بحديد المجاهدة وسيف الرياضة .
وخامسها السالك إما أن يكون صاحب المكاشفة والوصلو فانتبه بميزان الكتاب ، أو صاحب الطلب والاستدلال فانتبه بميزان الدليل والحجة ، وإن كان صاحب العناد واللجاج فلا بد له من الحديد .
وسادسها الأقوال تصحح بالكتاب والأعمال تقوم بالميزان ، وميزان العدل والأحوال يعتبر بحديد الرياضة .
أو نقول : الأقوال تصحح بالكتاب والأعمال تقوّم بالميزان ، والمنحرفون من أحد الموضوعين يولون بالسيف .
وسابعها الكتاب للعلماء .
والميزان للعوام والسيف للملوك .
قال أهل التجارب : في منافع الحديد ما من صناعة إلا والحديد آلة فيها .
أو ما يعمل بالحديد بيانه أن أصول الصناعة أربعة : الزراعة والحياكة والبناء والإمارة .
أما الزراعة فتحتاج إلى الحديد في كراية الأرض وإصلاحها وحفرها وتنقية آبارها .
ثم الحبوب لا بد من طحنها وخبزها وكل منهما يحتاج إلى شيء من حديد وأكل الفواكه واللحوم وغيرها يفتقر أيضاً في التغيير والتقطيع إلى الحديد وأما الحياكة فتحتاج إلى آلات الحراثة وإلى آلات الغزل وإلى أدوات الحياكة والخياطة ، وأما البناء فلا يكمل الحال فيه إلا بآلات حديدية وأما الإمارة فلا تتم إلا بأسباب الحرب وآلات السياسة فظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد ولا يقوم الذهب ولا الجواهر في أكثرها مقام الحديد فلو لم يوجد الذهب ولاجواهر في الدنيا لم يختل شيء من المهمات ولو لم يوجد الحديد لاختلت المصالح فعند هذا يظهر أثر عناية الله بحال عبيده ، فإن كل شيء تكون حاجاتهم إليه أكثر يكون وجوده أسهل .
قال بعضهم :
سبحان من خص الفز بعزه
والناس مستغنون عن أجناسه
وأذ أنفاس الهواء وكل ذي
نفس فمحتاج إلى أنفاسه
نظيره الحاجة إلى الطعام ثم إلى الهواء ، فالطعام قلما يوجد إلا بالثمن والماء قد يباع في بعض الأمكنة والزمان والهواء لا يباع أصلاً لأن الحاجة إلى النفس أمس .
قال بعض المحققين ههنا إن العلم أبلغ ما يحتاج الإنسان إلأيه إذ به قوام روحه وصلاح معاده فلا جرم(6/260)
" صفحة رقم 261 "
لا يقع في عرضة البيع وكثيراً ما يعطى الأجر على تعلمه قوله ) وليعلم الله ( ظاهره أنه معطوف على المعنى التقدير : وأنزلنا الحديد لأجل المنافع الدنيوية ولأجل المصالح الدينية وهو ظهور معلوم الله وتعلق علمه بما سيقع من نصرة دينه ورسله باستعمال السيوف والرماح وغيرها .
ويجوز أن يكون المعطوف عليه محذوفاً بدليل ما تقدمه أي وأنزلنا الحديد ليقوم الناس بالقسط خوفاً من أن يجعل وليعلم الله ومعنى ) بالغيب ( غائباً عنهم .
قال ابن عباس : ينصرونه ، وفيه إشارة إلى أن الجهاد المعتبر هو الذي يوجد عن إخلاص القلب خالياً من النفاق والرياء وفي قوله ) إن الله قوي عزيز ( رمز إلى أنه تعالى قادر على إهلاك أعداء الدين وإعلاء كلمته بدون واسطة الجهاد ، ولكنه كلفهم ذلك ليتوسلوا به إلى نيل درجة الصديقين والشهداء .
وحين حكى قصة الرسل مجملة أعقبها بنوع من التفصيل والكتاب ظارهره الوحي .
عن ابن عباس هو الخط بالقلم والضمير في ) فمنه ( للذرية أو للمرسل إليهم بدليل الإرسال .
والفاسقون إما العاصون بارتكاب الكبائر ، وإما الكافرون ولعل هذا أظهر لوقوعه في طباق المهتدين إلا أن يحمل الفاسق على الذي لا يهتدي لوجه رشده قال مقاتل : المراد بالرأفة والرحمة هو ما أوقع الله تعالى في قلوبهم من التواد والتعاطف كما جاء في نعت أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) رحماء بينهم ) [ الفتح : 29 ] قال أبو علي الفارسي : الرهبانية لا يستقيم حمل نصبها على ) جعلنا ( لأن ما يبتدعونه لا يجوز أن يكون مجعولاً لله قال في التفسير الكبير : هذا الكلام إنما يتم لو ثبت امتناع مقدور بين قادرين من أين يليق بأبي علي أن يخوض في أمثال هذه الأشياء .
قلت : الظن بالعلماء ينبغي أن يكون أحسن من هذا ولا حاجة إلى إحالة تمام الكلام على المسألة المذكورة ولكن يرد على أبي علي أنه إذا جاز أن يكون الكفر والفسوق وسائر المعاصي الصادرة عن العبد منسوبة إلى تخليق الله ، فلم لا يجوز أن يكون الابتداع وهو إحداث أمر من عند نفسه لا على ألسنة الرسل .
مجعولاً لله سبحانه ؟ قال المفسرون : إن الجبابرة ظهروا على أمة عيسى بعد رفعه فقاتلوهم ثلاث مرات فقتلوهم حتى لم يبق منهم إلا القليل ، فترهبوا على رؤوس الجبال فارين من الفتنة متحملين كلفاً ومشاق زائدة على العبادات المكتوبة عليهم من الخلوة والاعتزال والتعبد في الغيران والكهوف ، روى ابن مسعود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يا ابن مسعود أما علمت أن بني غسرائيل تفرقوا سبعين فرقة كلها في النار إلا ثلاث فرق فرقة آمنت بعيسى عليه السلام وقاتلوا أعداءه في نصرته حتى قتلوا وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين فلبسوا العباء وخرجوا إلى القفار والفيافي وهو قوله ) وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ) الآية قال العلماء : لم يرد الله تعالى بقوله(6/261)
" صفحة رقم 262 "
) ابتدعوها ( طريقة الذم ولكن المراد أنهم أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها .
والرهبانية بفتح الراء مصدر وهو الفعلة المنسوبة إلى الرهبان بالفتح أيضاً وهو الخائف ( فعلان ) من رهب كخشيان من خشي .
وقرىء بالضم وهو نسبة إلى الرهبان جمع الراهب .
وقوله ( إلا ابتغاء رضوان الله ( استثناء منقطع عند الأكثر أي ما فرضناها نحن عليهم ولكنهم اتبدعوها طلب رضوان الله .
وقال آخرون : إنه متصل والمعنى ما تعبدناهم بها إلا على وجه تحصيل مرضاة الله فتكون ندباً إن أتى بها اترضاها الله وإن لم يأت بها فلا حرج .
وفي قوله ) فما رعوها حق رعايتها ( أقول : أحدها أنهم ما أقاموا على تلك السيرة ولكنهم ضموا إليه التثليث والإلحاد إلا إناساً منهم أقاموا على دين عيسى حتى أدرجوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فآمنوا به ، وثانيها أن أكثرهم لم يتوسلوا بها إلى مرضاة الله ولكنهم جعلوها سلماً إلى المنافع الدنيوية .
وثالثها أن يكون يف الكلام إضمار أي لم نفرضها أولاً عليهم بل كانت على جهة الاستحباب ، ثم فرضناها عليهم فما رعوها إلا قليلاً منهم آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن استقاموا على الطريقة .
ورابعها أن الصالحين من قوم عيسى ابتدعوا الرهبانية وانقرضوا عليها ثم جاء بعدهم من لم يرعها كما رعاها الحواريون .
ثم خاطب المؤمنين منهم بقوله ) يا أيها الذين آمنوا ( أي بعيسى ) اتقوا الله وآمنوا برسوله ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) يؤتكم كفلين ( نصيبين ) من رحمته ( لإيمانكم أولاً بعيسى وثانياً بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويجعل لكم نوراً مشون به ( وهو النور المذكور في قوله ) يسعى نورهم ( أو النور المذكور في قوله ) أومن ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ) [ الأنعام : 122 ] ويجوز أن يكون الخطاب لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد أثبتوا على إيمانكم برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يؤتكم ما وعد مؤمني أهل الكتاب في قوله ) اولئك يؤتون أجرهم مرتين ) [ القصص : 54 ] وذلك أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادعوةا الفضل عليهم فنزلت وفيه أنهم مثلهم في افيمانين لأنهم لا يفوقون بين أحد من رسله على أنه يجوز أن يكون النصيب الواحد من الأجر أزيد من نصيبين فإن المال إذا قسم نصفين كان الكفل الواحد نصفاً ، وإذا قسم عشرة أقسام كان الكفل الواحد جزاءً من عشرة .
ولا شك أن النصيب الواحد من القسمة الأولى أزيد من النصيب الواحد من القسمة الثانية .
قوله ) لئلا يعلم ( الآية .
أكثر المفسرين والنحويين على أن ( لا ) زائدة والمعنى ليعلم ) أهل الكتاب ( الذين لم يسلموا أن الشأن لا ينالون ولا يقدرون على شيء من الكفلين .
والنور والمغفرة لأنهم لم يؤمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلم ينفعهم إيمانهم من قبله ، أو المراد أنا بالغنا في هذا البيان وأمعنا في الوعد لهم والوعيد ليعلم أهل الكتاب أن الشأن هو أنهم لا يقدرون لعى تخصيص فضل الله بقوم معينين ، ولا يمكنهم حصر الأجر في طائفة مخصوصين ) وأن الفضل بيد الله يؤتيه(6/262)
" صفحة رقم 263 "
من يشاء ( وقيل : غير زائدة والضمير في ) لا يقدرون ( للرسول وأصحابه .
والعلم بمعنى الإعتقاد والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله ، ولكي يعتقدوا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، وقد خص بذلك محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ومن آمن به وبالله التوفيق وإليه المرجع والمآب والله أعلم .
تم الجزء السابع والعشرون ويليه الجزء الثامن والعشرون أوله تفسير سورة المجادلة .(6/263)
" صفحة رقم 264 "
سورة المجادلة
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثامن والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
( سورة المجادلة مدنية حروفها ألف وتسعمائة واثنتان وتسعون كلمها أربعمائة وثلاث وتسعون آياتها اثنتان وعشرون ) ( المجادلة : ( 1 - 22 ) قد سمع الله . . . .
" قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم(6/264)
" صفحة رقم 265 "
صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون " ( القراآت ) يظاهرون ( من المظاهرة : عاصم ) يظهرون ( بتشديد الظاء والهاء من الظهر وأصله ( يتظهرون ) أدغمت التاء في الظاء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب .
والباقون ) يظاهرون ( بتشديد الظاء ويزادة الألف من التظاهر وأصله ( يتظاهرون ) ) ما هن أمهاتهم ( بالرفع : المفضل .
الآخرون : بكسر التاء على إعمال ( ما ) عمل ليس هذه هي الفصحى ) ما تكون ( تباء التأنيث : يزيد وهو ظاهر .
الآخرون : على التذكير بناء على أن التقدير ما يقع شيء من نجوى .
) ولا أكثر ( بالرفع : يعقوب إما على الابتداء كقولك ( لا حول ولا قوة ) أو للعطف على محل ) من نجوى ( الباقون : بالنصب على أن ( لا ) لنفي الجنس أو على أنهما مجروران عطفاً على ) نجوى ( كأنه قيل : ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم .
أو عطفاً على العدد والتقدير : ما يكون من نجوى أكثر من ذلك ) وتتنجوا ( على باب الافتعال : حمزة وريويس ) ولا تتنجو ( من الافتعال أيضاً .
رويس .
) المجالس ( على الجمع : عاصم ) انشزوا ( بضم الشين فيهما : أبو جعفر ونافع وأبن عامر وعاصم غير يحيى وحماد والهراز .
الآخرون : بالكسر فيهما وهما لغتان مثل ) يعرشون ( و ) يعرشون ( ) ورسلي ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر ) عشيراتهم ( على الجمع : الشموني ) كتب ( مجهولاً الإيمان بالرفع : المفضل(6/265)
" صفحة رقم 266 "
الوقوف : ( تحاوركما ( ط ) بصير ( ه ) ما هن أمهاتهم ( ط ) ولدنهم ( ط ) وزوراً ( ط ) غفور ( ه ) يتماسا ( ط ) به ( ط ) خبير ( ه ) يتماسا ( ج ) مسكيناً ( ط ) ورسوله ( ط ) الله ( ط ) اليم ( ه ) بينات ( ق ) مهين ( ه ط لاحتمال تعلق الظرف بما قبله وكونه مفعولاً لاذكر ) عملوا ( ط رونسوء ( ط ) شهيد ( ه ) وما في الأرض ( ه ) كانوا ( ج لأن ( ثم ) للعطف أو لترتيب الاخبار ) القيامة ( ط ) عليم ( ه ) الرسول ( ز لعطف الجملتين المتفقتين معنى مع أن ) جاؤك ( فعل ماض لفظاً ) به الله ( لا لأن ما بعده حال أو عطف على ) جاؤك ( لمستقبل معنى ) نقول ( ط ) جهنم ( ط لاحمال الحال وكونه مستأنفاً ) يصلونها ( ج ) المصير ( ه ) والتقوى ( ج ) تحشرون ( ه ) بإذن الله ( ط ) المؤمنون ( ه ) يفسح الله لكم ( ج لابتداء شرط آخر مع العطف ) منكم ( لا للعطف ) درجات ( ط ) خبير ( ه ) صدقة ( ط ) وأطهر ( ط ) رحيم ( ه ) صدقات ( ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط ) ورسوله ( ط ) تعلمون ( ه ) عيلهم ( ط لتناهي الاستفهام إلى الإخبار ) منهم ( لا بناء على أن ما بعده حاله والعال معنى الفعل في الجار أي وهم يحلفون قاله السجاوندي ولا يبعد عندي أن يكون مستأنفاً فيحسن الوقف .
) يعلمون ( ه ) شديداً ( ط ) يعملون ( ه ) مهين ( ه ) شيئاً ( ط ) النار ( ط ) خالدون ( ه ) على شيء ( ط ) الكاذبون ( ه ) ذكر الله ( ط ) أولئك حزب الشيطان ( ط ) الخاسرون ( ه ه ) الأذلين ( ه ) رسلي ( ط ) عزيز ( ه ) عشيرتهم ( ط ) بروح منه ( ط للعدول عن الماضي إلى المستقبل ) فيها ( ط ) عنه ( ط ) أولئك حزب الله ( ط ) المفلحون ( ه .
التفسير : عن عائشة قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد كلمت المجادلة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جانب البيت وأنا عنده لا أسمع وقد سمع الله لها .
وعن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا دخلت عليه أكرمها وقال : قد سمع الله لها أي أجاب وهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة .
ورآها وهي تصلي وكان حسنة الجسم فلما سلمت راودها فأبت فغضب وكان به حدة فظاهر منها ، فأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : إن أوساً تزوّجني وأنا شابة مرغوب فيّ ، فلما كبر سني ونثرت بطني أي كثر منه ولدي جعلني منه كأمه .
وفي رواية أنها قالت : إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) لها : ما عندي في أمرك شيء .
وروي أنه قال لها مراراً : حرمت لعيه .
وهي تقول : أشكو إلى الله فاقتي وجدي فنزلت .
ومعنى ) في زوجها ( في شأنه ومعنى ( قد ) في ) قد سمع الله ( التوقع لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمجادلة كانا يتوقعانأن يسمع الله عز وجل مجادلتها وشكواها وينزل في شأنها ما يفرج عنها .
والتحاور التراجع في الكلام وفي(6/266)
" صفحة رقم 267 "
الآية دلالة على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق كفاه الله همه .
يروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أرسل إلى زوجها وقال : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : الشيطان ، فهل من رخصة ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : نعم وقرأ عليه الآيات الأربع وقال ( صلى الله عليه وسلم ) له : هل تستطيع العتق ؟ فقال : لا والله .
فقال : فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً ؟ فقال : لا والله يا رسول الله إلا أن تعينني منك بصدقة فأعانه بخمسة عشر صاعاً وأخرج أوس من عنده مثله فتصدق به على ستين .
وعلم أن الظهار كان من أشد طلاق الجاهلية لأنه في التحريم غاية فإن كان شرعاً متقدماً فغالآية ناسخة له ولا سيما فيمن روى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لها : حرمت عليه .
وإن كان عادة الجاهلية فلا نسخ لأن النسخ لا يوجد إلا في الشرائع .
ثم إنه سبحانه وبخ العرب أوّلاً بقوله ) الذين يُظاهِرُونَ منكم ( ثم بين الحكم العام في الآية اثلانية ولهذا لم يورد لفظة منكم ونحن نبني تفسير الآية على أبحاث الأول في معنى الظهار وهو عبارة عن قول الرجل لامرأته ( أنت عليّ كظهر أمي ) فاشتقاقه من الظهر .
وقال صاحب النظم : ليس الظهر بذلك أولى في يهذا المطلوب من سائر الأعضاء التي هي موضع التلذذ فهو مأخوذ من ظهر إذا علا وغلب وبه سمي المركوب ظهراً لأن راكبه يعلوه ، وكذلك امرأة الرجل مركبة وظهر له .
والدليل على صحة هذا المعنى أن العرب تقول في الطلاق : نزلت عن امرأتي أي طلقتها .
وفي لفظ الظهار إضمار والتقدير : ظهرك عليّ أي علوي وركوبي عليك حرام علي كعلو أمي .
ثم لا مناقشة بين العلماء في الصلاة فلو قال : أنت معي أو عندي أو مني ولي كظهر أمي صح ظهاره .
وكذا لو ترك الصلاة كلها وقال : أنت كظهر أمي كما أن قوله ( أنت طالق ) صريح وإن لم يقل ( مني ) أما إذا شبهها بغير الظهر فذهب الشافعي إلى أن ذلك العضو إن كان مشعراً بالإكرام كقوله أنت علي كروح أمي أو عين أمي صح ظهاره إن أراد الظهار لا الإكرام وإلا فلا .
وإن لم ينو شيئاً ففيه قولان ، وإن لم يكن مشعراً بالكرامة كقوله أنت كرجل أمي أو كيدها أو بطنها ففي الجديد ظهار ، وفي القديم لا ، وقد يرجح هذا البراءة الأصلية .
وقال أبو حنيفة : إن شبهها بعضو من الأم يحل له النظر إليه كاليد أو الرأس لم يكن ظهاراً ، وإن شبهها بعضو يحرم النظر إليه كالبطن والفخذ كان ظهاراً .
وفي التشبيه بالمحرمات الأخر من النسب أو الرضاع سوى الأم في الجديد وعليه أبو حنيفة أنه ظهار لعموم قوله ) يظاهرون ( ومن قصره على الأم احتج بقوله بعده ) ما هنّ أمهاتهم ( وبأن حرمة الأم أشد .
البحث الثاني في المظاهر وفيه سائل : الأولى : قال الشافعي : كل من صح طلاقه صح ظهاره وإن كان خصياً أو مجبوباً ، ويتفرع عليه أن ظهار الذمي صحيح .
حجة الشافعي عموم قوله تعالى ) والذين يظاهرون ( وأيضاً تأثير الظهار في التحريم والذمي أهل لذلك(6/267)
" صفحة رقم 268 "
بدليل صحة طلاقه .
وأيضاً إيجاب الكفارة للزجر عن هذا الفعل الذي هو منكر من القول وزور وهذا المعنى قائم في حق الذمي .
وقال أبو حنيفة ومالك : لا يصح ظهاره .
واحتج أبو بكر الرازي لهما بأن قوله ) والذين يظاهرون منكم ( خطاب للمؤمنين .
وأيضاً من لوازم الظهار تصحيح وجوب الصوم على العائد العاجز عن الإعتاق وإيجاب الصوم على الذمي ممتنع لأنه مع الكفر باطل ، وبعد الإسلام غير لازم لأنه يجب ما قبله .
وأجيب عن الأول بأن قوله ) منكم ( خطاب للحاضرين فلم قلتم : إنه يختص بالمؤمنين ؟ على أن التخصيص بالذكر عندكم لا يدل على نفي ما عداه .
وأيضاً العام عندكم إذا أورد بعد لاخاص كان ناسخاً للخاص .
وعن الثاني أن من لوازم الظهار أيضاً أنه حين عجز عن الصوم اكتفي منه بالإطعام فهو ههنا إن تحقق العجز وجب أن يكتفي فيه بالإطعام ، وإن لم يتحقق العجز زال السؤال .
وأيضاً الصوم بدل عن الإعتاق والبدل أضعف عن المبدل .
ثم إن العبد عاجز عن الإعتاق مع أنه يصح ظهاره بالاتفاق فإذا كان فوات أقوى اللازمين لا يوجب منع الظهار ففوات الأضعف كيف يمنع ؟ وقال القاضي حسين من أصحاب الشافعي في الجواب : نقول للذمي إن أردت الخلاص من التحريم فأسلم وصم قوله الإسلام يجب ما قبله .
قلنا : إنه عام والتكفير خاص والخاص مقدّم على العام .
الثانية قال مالك وأبو حنيفة والشافعي : لا يصح ظهار المرأة من زوجها وهو ظاهر ولو قال شهراً فقد قال أبو حنيفة والشافعي : بطل ظهاره بمضي المدة وكان قبل ذلك صحيحاً لام روي أن سلمة بن صخر ظاهر من امرأته حتى ينسلخ رمضان ثم وطئها في المدة فأمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بتحرير رقبة .
وأما بطلان ظهاره بعد المدة فلمقتضى اللفظ كما في الأيمان .
فإذا مضت المدة حل الوطء لارتفاع الظهار وبقيت الكفارة في ذمته .
وقال مالك وابن أبى ليلى : هو مظاهر أبداً .
البحث الثالث في المظاهر عنها .
ويصح الظهار عن الصغيرة والمجنونة والأمة المتزوّجة والذمية والرتقاء والحائض والنفساء ، ولا يصح عن الأجنبية سواء أطلق أو علق بالنكاح فقال ( إذا نكحتك فأنت عليّ كظهر أمي ) .
ويصح عن الرجعية ولا يصح عن الأمة وأم الولد عند أبي حنيفة والشافعي لأن قوله تعالى ) والذين يظاهرون من نسائهم ( يتناول الحرائر دون الإماء كما في قوله ) أو نسائهن ) [ النور : 31 ] بدليل أنه عطف عليه قوله ) أو ما ملكت أيمانهن ) [ النور : 31 ] وقال مالك والأوزاعي : يصح لأن قوله ) من نسائهم ( يشمل ملك اليمين لغة .
وفي الآية سؤال وهو أن المظاهر شبّه الزوجة بالأم ولم يقل إنها أم فيكف أنكر الله عليه بقوله ) ما هن أمهاتهم ( وحكم بأنه منكر وزور ؟ والجواب أن قوله ( أنت عليّ كظهر أمي ) إن كان إخبارً فهو كذب لأن الزوجة حلال والأم حرام وتشبيه المحللة(6/268)
" صفحة رقم 269 "
بالمحرمة في وصف الحل والحرمة كذبنو إن كان إنشاء كان معناه أن الشرع جعله سبباً في حصول الحرمة ، ولما لم يرد الشرع بهذا السبب كان الحكم به كذباً وزوراً ولهذا أوجب الله سبحانه الكفارة على صاحب القول بعد العود .
سؤال آخر قوله تعالى ) إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ( ظاهره يقتضي أنه لا أم إلا الوالدة لكنه قال في موضع آخر ) وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ) [ النساء : 23 ] وقال ) وأزواجه أمهاتهم ) [ الأحزاب : 6 ] أجاب في الكشاف بأنه يريد أن الأمهات على الحقيقة إنما هن الوالدات وغيرهن ملحقات بهن لدخولهن في حكمهن بسبب الإرضاع ، أو لكونها زوجة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي هو أبو الأمة .
وأما الزوجات فلسن من أحد القبيلين وكان قول المظاهر منكراً لمخالفة الحقيقة وزوراً لعدم موافقة الشرع .
قوله ) ثم يعودون لما قالوا ( قال الفراء : لا فرق في اللغة بين قولك عاد لما قال وإلى ما قال وفيما قال .
وقال أبو علي الفارسي : كلمة إلى واللام يتعاقبان قال الله تعالى ) الحمد لله الذي هدانا لهذا ) [ الأعراف : 43 ] وقال ) فاهدوهم إلى صراط الجحيم ) [ الصافات : 23 ] وقال أهل اللغة : إذا قال قائل عاد لما فعل جاز أن يريد أنه فعله مرة أخرى وهذا ظاهر ، وجاز أن يريد أن نقض ما فعل لأن التصرف في الشيء بالإعدام لا يمكن إلا بالعودة إليه ، وإلى هذا ذهب أكثر المجتهدين إلا أن الشافعي قال : معنى العود لما قالوا السكوت عن الطلاق قعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه ، وذلك أنه لما ظاهر فقد قصد التحريم فإن وصل ذلك بالطلاق فقد تمم ما شرع فيه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه ، فإذا سكت عن الطلاق دل على أنه ندم على ما ابتدأه من التحريم فحينئذ تجب عليه الكفارة .
واعترض أبو بكر الرازي في أحكام القرآن لعيه من وجهين : الأول أنه تعالى قال ) ثم يعودون ( وكلمة ( ثم ) تقتضي التراخي .
وعلى قول الشافعي يكون المظاهر عائداً عقيب القول بلا تراخ وهذا خلاف مفهوم الآية .
الثاني أنه شبهها بالأم والأم لا يحرم إمساكها فلا يكون إمساك الزوجة نقضاً لما قال .
وأجيب عن الأول بأنه يوجب أن لا يتمكن المظاهر من العود إليها بهذا التفسير عقيب فراغه من التلفظ بلفظ الظهار حتى يحصل التراخي مع أن الأمة مجمعة على أن له ذلك .
والتحقيق أن العبرة بالحكم ونحن لا نحكم بالعود ما لم ينقض زمان يمكنه أن يطلقها فيه فقد تأخر كونه عائداً عن كونه مظاهراً بهذا القدر من الزمان وهذا يكفي في العمل بمقتضى كلمة ( ثم ) .
وعن الثاني أن المراد إمساكها على سبيل الزوجية واللفظ محتمل لهذا وإمساك الأم بهذا الوجه محرم .
وقال أبو حنيفة : معناه استباحة الوطء والملامسة والنكر إليها بالشهوة .
وذلك أنه لام شبهها بالأم في حرمة هذه الشياء ثم قصد استباحتها كان مناقضاً لقوله ( أنت عليّ كظهر أمي ) .
وقال مالك : العود إليها عبارة عن(6/269)
" صفحة رقم 270 "
العزم على جماعها ، وضعف بأن العزم على جماعها لا يناقض كونها محرمة إنما المناقض لكونها محرمة هو القصد إلى استحلال جماعها فيرجع إلى قول أبي حنيفة .
ولا يرد عليه إلا أنه خص وجه التشبيه من غير دليل ، والذي ذكره الشافعي أعم وأقل ما يطلق عليه اسم العود فكان أولى .
وعن طاوس والحسن أن العود إليها عبارة عن جماعها وخطىء لقوله ) فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ( وغذا كان التفكير قبل الجماع والتكفير لا يثبت إلا بعد العود فالعود غير الجماع .
وأما الاحتمال الأول وهو أن العود لما فعل هو فعلة مرة أخرى ففيه أيضاً وجوه : الأول : قول الثوري : إن العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام وزيف بأنه يرجع حاصل المعنى إلى قوله ) والذين ( كانوا ) يظاهرون من نسائهم ( في الجاهلية ) ثم يعودون لما قالوا ( في الإسلام ) فكفارته ( كذا وكذا وهذا إضمار من غير دليل مع أنه خلاف الأصل .
الثاني يقال أبو العالية : إذا كرر لفظ الظهار فهو عود وإلا فلا .
وضعف بحديث أوس وحديث سلمة بن صخر قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : لزمهما الكفارة مع أنهما لم يكررا الظهار .
الثالثة : قال أبو مسلم الأصفهاني : العود هو أن يحلف على ماقل أوّلاً من لفظ الظهار فإذا لم يحلف لم تلزمه الكفارة قياساً على ما لو قال في بعض الأطعمة ( إنه حرام عليّ كلحم الآدمي ) فإ ، ه لا يلزمه الكفارة إلا إذا حلف عليه .
ورد بأن الكفارة قد تجب بالإجماع في المناسك ولا يمين .
وعندي أن هذا الرد مردود لأنه لا يلزم من وجوب الكفارة في الصورتين من غير يمين وجوبها في كل صورة بلا يمين .
نعم يرد على أبي مسلم أن تفسير العود بالحلف إثبات اللغة بالقياس ، ولا يخفى أن العود لما قالوا على هذا الاحتمال ظاهر لأنه أريد بالقول اللفظ .
وأما الاحتمال الآخر فيحتاج إلى تأويل القول بالمقول فيه وهو ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار كما مر في قوله ) ونرثه ما يقول ) [ مريم : 81 ] أي المال والواو للحال .
مسائل : الأولى : الجديد وأبو حنيفة أن الظهار يحرم جميع جهات الاستمتاعات لأن قوله سبحانه ) من قبل أن يتماسا ( يعم جميع ضروب المس من المس بيد وغيرها .
وروى عكرمة أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره بذلك فقال : اعتزلها حتى تكفِّر .
الثانية : اختلفوا فيمن ظاهر مراراً فقال أبو حنيفة والشافعي : لكل ظهار كفّارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار للتأكيد .
وقال مالك : من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفّارة واحدة .
وحجتهما أنه تعالى رتب الكفّارة على التلفظ بكلمة الظهار والمعلول يتكرر بتكرر العلة ، ويتفرع عليه أنه لو كانت تحته أربع نسوة وقال لهن : أنتن عليّ كظهر امي لزمه أربع كفارات لأن الحكم يتكرر ويتعدّد المحل .
حجته(6/270)
" صفحة رقم 271 "
أنه رتب الكفارة على مطلق الظهار والمطلق شامل للمتعدد ، ونوقض باليمين فإن الكفارة لازمة في كل يمين .
الثالثة : دلت على إيجاب الكفارة قبل التماس فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة وهو قول أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة والشافعي وسفيان وأحمد وإسحق ، لأن سلمة بن صخر قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها فقال عليه الصلاة والسلام : استغفر ربك ولا تعد حتى تكفّر .
وقال بعضهم ومنهم بعد الرحمن بن مهدي : إذا واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان .
الرابعة : لا ينبغي للمرأة أن تدع الزوج يقربها حتى يكفّر فإن تهاون حال الإمام بينهما ويجبره على التكفير وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع .
قال الفقهاء : وامتناع من إيفاء حقها .
الخامسة : قد ذكرنا أن الاستمتاعات محرمة عليه إلى أن يكفّر وذلك صريح في تحرير الربة وفي الصيام والآن نقول : إن التكفير بالإطعام أيضاً كذلك وإن لم يتعرض للتماس في قوله ) فإطعام ستين مسكيناً ( حملاً للمطلق على المقيد عند اتحاد الواقعة ، وللأقل وهو صورة واحدة على ألكثر وهذه من فصاحات القرآن .
السادسة : مذهب أبي حنيفة أن هذه الرقبة تجزي وإن كانت كافرة لإطلاق الآية .
وقال الشافعي : لا بد أن تكون مؤمنة قياساً على كفارة القتل .
والجامع أن الإعتاق إنعام والمؤمن أولى به ، ولأن المشركين نجس وكل نجس خبيث بالإجماع .
وقال الله تعالى ) ولا تيمموا الخبيث ) [ البقرة : 267 ] ولا تجزي أم الولد ولا المكاتب عند الشافعي لضعف الملكية فيه ولا يحصل الجزم بالخروج عن العهدة .
وقال أبو حنيفة : إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئاً جاز عن الكفارة لأنه رقبة بدليل قوله ) وفي الرقاب ) [ البقرة : 177 ] وإن أعتقه بعد أن يؤدي شيئاً لم يجز .
والمدبر يجزي عند الشافعي ولا يجزي عند أبي حنيفة .
السابعة : يعتبر في الرقبة بعد الإيمان على خلاف فيه السلامة عن العيوب لا التي يثبت بها الرد في البيع ولكن التي تخل بالعمل والاكتساب لأن المقصود هناك المالية وههنا تكميل حاله ليتفرغ للعبادات والوظائف المخصوصة بالأحرار ، فلا يجزي مقطوع اليدين أو الرجلين أو إحداهما ولا المجنون ، ويجزي الأعور والأصم والأخرس ومقطوع الأذنين أو الأنف أو أصابع الرجلين لا أصابع اليد لأن البطش والعمل يتعلق بها .
والعبد الغائب .
إن انقطع خبره لا يجزي ولو أعتق بعده عن كفارته شرط أن يردّ ديناراًَ أو غيره لم يجز بل يجب أن يكون الإعتاق خالياً من شوائب العوض .
الثامنة : كفارة الظهار مرتبة على ما في الآية .
فإن كان في ملكه عبد فاضل عن حاجته فواجبه هو ، وإن احتاج إلى خدمته لمرض أو كبر أو لأن مصنبه يأبى أن يخدم نفسه لم يكلف صرفه إلى الكفارة ، ولو وجد ثمن العبد فكالعبد .
والشرط أن يفضل عن حاجة(6/271)
" صفحة رقم 272 "
نفقته وكسوته ونفقة عياله وكسوتهم وعن المسكن وما لا بدّ له من الأثاث ولو كانت له ضيعة أو رأس مال يتجر فيه ويفي ما يحصل منهما بكفايته بلا مزيد ولو باعهما لارتدّ إلى حد المساكين لم يكلف صرفه إلى الكفارة .
ولو لم يجز العدول إلى الصوم بل يصبر ، وإن كان يتضرر بامتناع الابتياع لأنه تعالى قال ) فمن لم يجد ( وهو واجد .
أما من كان مريضاً في الحال ولا يقدر على الصوم فإنه ينتقل إلى الإطعام لأنه تعالى قال ) فمن لم يستطع ( وهو غير مستطيع ، والمآل غير مغلوم ولا هو متعلق باختياره بخلاف إحضار المال أو تحصيل الرقبة فإن ذلك قد يمكنه .
التاسعة : لو أطعم مسكيناً واحداً ستين مرة لا يجزي عند الشافعي لظاهر الآية ، ولأن إدخال السرور في قلب ستين أجمع وأقرب من رضا الله .
وقال أبو حنيفة : يجزي .
العاشرة : الشبق المفرط والغلمة عذر عند الأكثرين في الانتقال إلى الإطعام كما في قصة الأعرابي وهل أتيت إلا من قبل الصوم فأمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : أطعم .
وحمله آخرون على خاصة الأعرابي .
ولنكتف بهذا القدر من المسائل الفقهية في تفسير آية الظهرا .
قال الزجاج ) ذلكم توعظون ( أي ذلك التغليظ وعظ لكم حتى تتركوا الظهار .
وحين ذكر حكم الآية عقبة بقوله ذلك فيحتمل أن يعود إلى مطلق بيان كفارة الظهار ، ويحتمل أن يعود إلى التخفيف والتوسيع لتصدقوا بالله ورسوله فإن التخفيف مناسب للتصديق والعمل بالشريعة ) وللكافرين ( الذين استمروا على أحكام الجاهلية ) عذاب أليم ( وإنما قال في الآية الثانية ) عذاب مهين ( ليناسب قوله ) كتبوا ( أي أخزوا وأهلكوا .
قيل : أريد كبتهم يوم الخندق .
وفي الحدود مع المحادة نوع من التجانس ، والمحادّة المشاقة من الحد الطرف كأن كلاً من المتخاصمين في طرف آخر كالمشاقة من الشق .
وقال أبو مسلم : هي من الحديد كأن كلا منهما يكاد يستعمل الحديد أي السيف وهم المنافقون أو الكافرون على الإطلاق .
قوله ) أحصاه الله ( أي أحاط بما عمل كل منهم كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً ) ونسوه ( لكثرته أو لقلة اكتراثهم بالمعاصي وإنما يحفظ معظمات الأمور .
ثم قرر كمال علمه بقوله ) ما يكون من نجوى ثلاثة ( نفر ويجوز أن يكون ثلاثة وصفاً للنجوى على حذف المضاف أي من أهل نجوى ، أو لأنهم جعلوا نجوى مبالغة وكذلك كل مصدر وصف به .
قال الزجاج : هي مشتقة من النجوة المكان المرتفع لأن الكلام المذكور سراً يجل عن استماع الغير .
سؤال : لم ذكر الثلاثة والخمسة وأهمل ذكر الاثنين والاربعة ؟ الجواب من وجوه أحدها : أن الآية نزلت في قوم من المنافقين اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين(6/272)
" صفحة رقم 273 "
وكانوا على هذين العددين فحص صورة الواقعة بالذكر .
عن ابن عباس أن ربيعة وحبيباً ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوماً مّا يتحدثون فقال أحدهم : أترى أن الله يعلم ما نقول .
فقال الآخر : يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً .
وقال الثالث : إن كان يعلم بعضاً فهو يعلم كله فنزلت .
قالت جماعة : الحق مع الثالث فلعل الآخر كان فلسفي الإعتقاد القائل بأنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات .
ثانيها أن العدد الفرد أشرف من الزوج لأن الله تعالى وتر ولأن الزوج يحتاج إلى الوتر دون العكس كالواحد .
وثالثها أن المتشاورين الاثنين كالمتنازعين في النفي والإثبات ، والثالث كالمتوسط الحكم وهكذا في كل زوج اجتمعوا للمشاورة فلا بد فيهم من واحد يكون حكماً فذكر سبحانه الفردين الأولين تنبيهاً على الأفراد الباقية .
ورابعها أن هذا إشارة إلى كمال المرحمة ، وذلك أن الثلاثة إذا أخذ اثنان منهم ي التناجي والمسارّة بقي الواحد ضائعاً وحيداً فيضيق قلبه فيقول الله تعالى : أنا جليسك وأنيسك .
وكذا الخمسة إذا اجتمع اثنان اثنان منهم بقي الخامس قريداً فنفس الله تعالى عنه ببشارة المعية .
وهذا التأويل لا يتأتى في الاثنين والأربعة فأهلم ذكرهما .
وفيه أن من انقطع عن الخلق لم يتكره الله ضائعاً .
وخامسها وهو من السوانح .
أنه سبحانه لما أراد تكميل الكلام بقوله ) ولا أدنى من ذلك ولا أكثر ( لم يكن بد من الابتداء بالثلاثة مع أنها عدد أكثري في التشاور ، ثم بالخمسة ليكون لكل من العددين طرفا قلة وكثرة .
وفيه أيضاً من الفصاحة أنه لم يقع حروف الأربعة مكرراً إذ لو قال ( ولا أربعة إلا وهو خامسهم ) على ما وقع في مصحف عبد الله لكان في ذكر الرابع والأربعة شبه تكرار .
ولعل في الآية إشارة إلى التناجي لا ينبغي أن يكون إلا بين اثنين إلى ستة لتكون الزيادة على الخمسة بقدر احتمال النقصان على الثلاثة ، ويعضده ما روي أن عمر بن الخطاب ترك الأمر شورى بين ستة ولم يتجاوز بها إلى سابع ، وهذه من نكت القرآن زادنا الله اطلاعاً عليها .
قال أكثر المفسري : كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ويتغمزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين يريدون بذلك غيظهم ، فنهاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فعادوا لمثله وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمحالفة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل ) ألم تر إلى الذين ( الآية منهم من قال : هم المنافقون ومنهم من قال : فريق من الكفار .
والأول أقرب بدليل قوله ) وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك ( وذلك أنهم كانوا يقولفون ( السام عليك يا محمد ) والله تعالى يقول ) وسلام على عباده الذين اصطفى ) [ النمل : 59 ] و ( يا أيها الرسول ) و ( يا أيها النبي ) .
وحديث عائشة مع اليهود في هذا المعنى مذكور مع شهرته وكانوا يقولون : ما له إن كان نبياً لا يدعو علينا حتى يعذبنا الله بما نقول ، فأجاب الله تعالى عن قولهم بأن جهنم تكفيهم قال أبو علي : التناجي والانتجاء بمعنى نحو اجتوروا واعتوروا في معنى تجاوروا وتعاوروا .
ثم نهى المؤمنين عن(6/273)
" صفحة رقم 274 "
مثل تلك النجوى وهو ظاهر .
وقال جمع من المفسرين : وهو خطاب المنافقين الذين آمنوا باللسان دون مواطأة القلوب .
وأعلم أن المناجاة إذا كانت على طريقة البر والتقوى فقلما تقع الداعية إلى كتمانها فلا تكره النجوى ولا يتأذى بها أحد إذا عرفت سيرة المناجي فلهذا أمر الله سبحانه أن لا يقع التناجي إلا على وجه البر .
قوله ) إنما النجوى ( الألف واللام فيه لا يمكن أن تكون للاستغراق أو للجنس ، فمن النجوى ما تكون ممدوحة لاشتمالها على مصلحة دينية أو دنيوية فهي إذن للعهد وهو التناجي بالإثم والعدوان زينة الشيطان لأجلهم ) ليحزن ( الشيطان ، أو التناجي المؤمنين وكانوا يقولون ما نراهم متناجين إلا وقد بلغهم عن أقاربنا الذين خرجوا إلى الغزوات أنهم قتلوا أو هربوا .
ثم بين أن الشيطان أو الحزن لا يضر المؤمن أصلاً إلا بمشيئة الله وإرادته .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه ) وفي رواية ( دون الثالث ) .
وحين نهى تعالى عباده المؤمنين عما يكون سبباً للتباغض والتنافر حثهم على ما يوجب مزيد المحبة والألفة .
والتفسح في المجلس التوسع لله والمراد مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يتضامّون فيه تنافساً في القرب منه وحرصاً على استماع كلامه .
ومن قرأ على الجمع جعل لكل جالس مجلساً على حدة .
وقيل : هو المجلس من مجالس القتال أي مراكز القتال .
كان الرجل يأتي الصف فيقول : تفسحوا .
فيأبون حرصاً على الشهادة .
والقول الأول أصح .
قال مقاتل بن حيان : كان ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الجمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس نم أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما يحملهم على القيام وشق ذلك على الرسلو فقال لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان قم يا فلان .
فلم يزل كذلك حتى أقعد النفر الذين هم قيام بين يديه فعرفت الكراهية في وجه من أقيم من مجلسه ، وطعن المنافقون في ذلك قالوا : والله ما عدل على هؤلاء وإن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم فاجلس من أبطأ عنه فنزلت ) وإذا قيل انشزوا ( أي انهضوا للتوسعة على المقبلين فانشزوا ولا تملوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالارتكاز فيه ) يرفع الله الذين آمنوا منكم ( أيها الممتثلون والعالمين منهم خاصة ) درجات ( قال بعض أهل العلم : المراد به الرفعة في مجلس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو مناسب للمقام لقوله ( ليليني منكم أولو الأحلام(6/274)
" صفحة رقم 275 "
والنهي ) والمشهور أنه الرفعة في درجات ثواب الآخرة وقد أطنبنا في فضلة العلم في أوائل البقرة عند قوله ) وعلم آدم الأسماء كلها ) [ البقرة : 31 ] والأمر يقتضي أن يقتدى بالعالم في كل شيء ولا يقتدى بالجاهل في شيء ، وذلك أنه يعلم من كيفية الاحتراز عن الحرام والشبهات ومحاسبة النفس ما لا يعرفه الغير ، ويعلم من كيفية التوبة وأوقاتها وصفاتها ما لا خبر فيه عند غيره ، ويتحفظ فيما يلزمه من الحقوق ما لا يتحفظ غيره ولكنه كما تعظم منزلته عند الطاعة ينبغى أن يعظم عتابه عند التقصيرات حتى كاد تكون الصغيرة بالنسبة إليه كبيرة ، واللهم ثبتنا على صراطك المستقيم ووفقنا للعمل بما فهمنا من كتابك الكريم .
قال ابن عباس : كان المسلمون أكثروا المسائل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى شقوا عليه وأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فلما نزلت آية النجوى شح كثير من الناس فكفوا عن المسئلة وقال مقاتل بن حيان : إن الأغنياء غلبوا الفقراء في مجلس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى شقوا عليه بالصدقة عند المناجاة فازدادت درجة الفقراء وانحطت رتبة الأغنياء وتميز محب الآخرة عن محب الدنيا .
قال بعضهم : هذه الصدقة مندوبة لقوله ) ذلك خير لكم ( ولأنه أزيل العمل به بكلام متصل وهو قوله ) أأشفقتم ( والأكثرون على أنها كانت واجبة لظاهر الأمر ، الواجب قد يوصف بكونه خيراً ولا يلزم من اتصال الآيتين في القراءة اتصالهما في النزول. وقد يكون الناسخ متقدماً على المنسوخ كما مر في آية الاعتداد بالحول في البقرة .
واختلفوا في مقدار تأخرها : فعن الكلبي ما بقى ذلك التكليف إلا ساعة من نهار .
وعن مقاتل بقي عشرة أيام .
وعن علي رضي الله عنه : لما نزلت الآية دعاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ما تقول في دينار ؟ قلت : لا يطيقونه .
قال : كم ؟ قلت : حبة أوش عيرة .
قال : إنك لزيهد أي إنك لقليل المال فقدرت على حسب مالك .
وعنه عليه السلام : إن في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي .
كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم .
قال الكلبي : تصدق به ف عشر كلمات سألهنم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال القاضي : هذا لا يدل على فضله على أكابر الصحابة لأن الوقت لعله لم يتسع للعمل بهذا الفرض .
وقال فخر الدين الرازي : سلمنا أن الوقت قد وسع إلا أن الاقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير الذي لا يجد شيئاً وينفر الرجل الغني ولم يكن في تركه مضرة. لأن(6/275)
" صفحة رقم 276 "
الذي يكون سبباً للألفة ألوى مما يكون سبباً للوحشة .
وأيضاً الصدقة عند المناجاة واجبة : أما المناجاة فليست بواجبة ولا مندوبة بل الأولى ترك المناجاة لما بيّنا من أنها كانت سبباً لسآمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
قلت : هذا الكلام لا يخلو عن تعصب مّا .
ومن أين يلزمنا أن نثبت مفضولية علي رضي الله عنه ف كل خصلة ، ولم لا يجوز أن يحصل له فضيلة لم توجد لغيره من أكابر الصحابة .
فقد روي عن ابن عمر كان لعلي رضي الله عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة رضي الله عنها وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوة .
وهل يقول : روي عن ابن عمر كان لعلي رضي الله عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهم كنت أحب إلأيّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة رضي الله عنها وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى .
وهل يقول منصف إن مناجاة الني ( صلى الله عليه وسلم ) نقيصة على أنه لم يرد في الآية نهي عن المناجاة وإنما ورد تقديم الصدقة على المناجاة فمن عمل بالآية حصل له الفضيلة من جهتين : سدّ خلة بعض الفقراء ، ومن جهة محبة نجوى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ففيها القرب منه وحل المسائل العويصة وإظهار أن نجواه أحب إلى المناجي من المال والظاهر أن الآية منسوخة بما بعدها وهو قوله ) أأشفقتم ( إلى آخرها .
قاله ابن عباس .
وقيل : نسخت بآية الزكاة .
أما أبو مسلم الذي يدعي أن لا نسخ في القرآن فإنه يقول : كان هذا التكليف مقدراً بغاية مخصوصة ليتميز الموافق من المنافق والمخلص من المرائي ، وانتهاء أمد الحكم لا يكون نسخاً له .
ومعنى الآية أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق المنقص للمال الذي هو أحب الأشياء إليكم ) فإذا لم تفعلوا ( ما أمرتم به ) وتاب الله عليكم ( ورخص لكم في أن لا تفعلوا فلاتفرطوا في الصلاة والزكاة فقد كفاكم هذا التكليف .
قال المفسرون : كان عبد الله بن نبتل المنافق النجوى لم يكن من الطاعات قال : إنه لا يمتنع أن الله تعالى علم ضيق صدر كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب فقال : إذا كنتم تائبين راجعين إلى الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة فقد كفاكم هذا التكليف .
قال المفسرون : كان عبد الله بن نبتل المنافق يجالس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم يرفع حديثه إلى اليهود .
فينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في حجرة من حجراته إذ قال : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان ، فدخل ابن نبتل وكان أزرق فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لعام تشتمني أنت وأصحابك ؟ فحلف بالله ما فعل .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : بل فعلت .
فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزل ) ألم تر إلى الذين تولوا ( أي وادّوا ) قوماً غضب الله عليهم ( وهم اليهود ) ما هم منكم ( لأنهم ليسوا مسلمين بالحقيقة ) ولا منهم ( لأنهم كانوا مشركين في الأصل ) ويحلفون على الكذب ( وهو ادعاء الإسلام .
وفي قوله ) وهم يعلمون ( دلالة على إبطال قول الجاحظ إن الخبر الكذب هو الذي يكون مخالفاً للمخبر عنه مع أن المبخر يعلم المخالفة وذلك أنه لو كان كما زعم لم يكن لقوله ) وهم يعلمون ( فائدة بل يكون تكراراً صرفاًز قال بعض المحققين : العذاب(6/276)
" صفحة رقم 277 "
الشديد هو عذاب لاقبر ، العذاب المهين الذي يجيء عقيبه هو عذاب الآخرة .
وقيل : الكل عذاب الآخرة لقوله ) الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب ) [ النحل : 88 ] قال جار الله : معنى قوله ) إنهم ساء ما كانوا يعملون ( إنهم كانوا في الزمان الماضي المتطاول مصرين على سور العمل ، أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة .
ومعنى الفاء في ) فصدوا ( أنهم حين دخلوا في حماية الايمان بالأيمان الكابة وأمنوا على النفس والمال اشتغلوا بصدّ الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات وتقبيح حال المسلمين .
ويروى أن رجلاً منهم قال : لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا ) فنزل لن تغني عنهم ( الآية .
ثم أخبر عن حالهم العجيبة الشأن وهو أنهم يحلفون يوم المحشر لعلام الغيوب كما يحلفون لكم في الدنيا وأنتم بشر يخفى عليكم السرائر ) ويحسبون أنهم على شيء ( من النفع .
والمراد أنهم كما عاشوا على النفاق والحلف الكاذب يموتون ويبعثون على ذلك الوصف .
قال القاضي والجبائي : إن أهل الآخرة لا يكذبون .
ومعنى الآية أنهم يحلفون في الآخرة إما ما كنا كافرين عند أنفسنا .
وقوله ( ألا أنهم هم الكاذبون ( في الدنيا .
ولا يخفى ما في هذا التأويل من التعسف وقد مر البحث في قوله ) والله ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] ثم بين أن الشيطان هو الذي زين لهم ذلك .
ومعنى استحوذ استولى وغلب ومنه قول عائشة في حق عمر : كان أحوذياً أي سائساً غالباً على الأمور وهو أحد ما جاء على الأصل نحو ( استصوب واستنوق ) احتج القاضي به في خلق الأعمال بأن ذلك النسيان لو حصل بخلق الله لكانت إضافتها إلى الشيطان كذباً ، ولكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب لاشيطان .
والجواب ظاهر مما سلف مراراً فإن الكلام في الانتهاء لا في الوسط .
قوله ) أولئك في الأذلين ( قال أهل المعنى : إن ذل أ ؛ د الخصمين تابعلعز الخصم الآخر .
ولما كانت عزة أولياء الله تعالى غير متناهية فذل أعدائه لا نهاية له فهم إذن أذل خلق الله .
ثم قرر سبب ذلهم بقوله ) كتب الله ( في اللوح ) لأغلبن أنا ورسلي ( إما بالحجة وحدها أو بها وبالسيف .
قال مقاتل : إن المسلمين قالوا : إنا لنرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم فقال عبد الله بن أبيّ : أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتموهم عليها ؟ كلا والله إنهم أكثر عدداً وعدّة فنزلت الآية .
ثم بين أن الجمع بين الإيمان الخالص وموادّة من حادّ الله ورسوله غير ممكن ولو كان المحادّون بعض الأقربين .
وقال جار الله : هذا من باب التمثيل والغرض أنه لا ينبغي أن يكون وحقه أن يمتنع ولا يوجد .
قلت : لو اعتبر كل من الأمرين من حيث الحقيقة كان بينهما أشد التباين ولا حاجة إلى هذا التكلف إلا أن يحمل(6/277)
" صفحة رقم 278 "
أحدهما على الحقيقة واللآخر على الظاهر فحينذ قد يجتمعان كما في حق أهل النفاق ، وكما يوجد بعض أهل افيمان يخالط بعض الكفرة ويعاشرهم لأسباب دنيوية ضرورية. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة فإني أجد فيما أوحي إليّ ) ) لا تجد قوماً ( يروى أنها نزلت في أبي بكر ، وذلك أن أبا قحافة سب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصكه صكة سقط منها فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أو قد فعلته ؟ قال : نعم .
قال : لا تعد .
قال : والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته .
وقيل : في أبي عبيدة بن الجراح فقتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد ، وفي كثير من أكابر الصحابة أعرضوا عن عشائرهم وعادوهم لحب الله ورسوله .
فذهب جمع من المفسرين إلى أنها نزلت في حاطب ابن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم عام الفتح وسيجيء في الممتحنة .
والأظهر عندي نزولها في المؤمنين الخلص لقوله ) أولئك كتب ( أي أثبت ) في قلوبهم الإيمان ( إثبات المكتوب في القرطاس .
وقيل : معناه جمع .
والتركيب يدور عليه أي استكلموا أجزاء الإيمان بحذافيرها ليسوا ممن يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض .
قوله ) وأيديهم بروح الإيمان ( إثبات المكتوب في القرطاس .
وقيل : معناه وسمي النصرة روحاً لأن الأمر يحيا بها .
ويحتمل أن يكون الضمير للإيمان على أنه في نفسه روح فيه حياة القلوب والباقي ظاهر والله أعلم وإليه المصير وبيده التوفيق والإتمام بالصواب .(6/278)
" صفحة رقم 279 "
سورة الحشر
سورة الحشر مدنية حروفها ألف وخمسمائة وثلاثون كلماتها أربعمائة وخمس وأربعون آياتها أربع وعشرون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الحشر : ( 1 - 24 ) سبح لله ما . . . .
" سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن(6/279)
" صفحة رقم 280 "
الأدبار ثم لا ينصرون لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم "
( القراآت )
يخربون ( بالتشديد : أبوعمرو .
والباقون : بالتخفيف من الإخراب ) تكون ( بالتاء الفوقانية ) دولة ( بالرفع على ( كان ) التامة : يزيد .
والآخرون : على التذكير والنصب ) جدار ( بالألف على التوحيد : ابن كثير وأبو عمرو .
والآخرون : بضمتين من غير ألف .
) إني أخاف ( بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو .
و ) الباري ( بالإمالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو طريق ابن عبدوس .
الوقوف ) وما في الأرض ( ط ) الحكيم ( ه ) الحشر ( ط ) الأبصار ( ط ) في الدنيا ( ط ) النار ( ط ه ) ورسوله ( ج بناء على أن الشرط من جملة المذكور ) العقاب ( ه ) الفاسقين ( ه ) من يشاء ( ط ) قدير ( ه ) السبيل ( ه ) منكم ( ط ) فانتهوا ( ج لابتداء من بعد جزاء الشرط مع اتفاق النظم ) واتقوا الله ( ط ) العقاب ( ه لئلا يوهم أن قوله ) للفقراء ( يتعلق ب ) شديد ( ) ورسوله ( ط ) الصادقون ( ه ج بناء على أن ما بعده مستأنف أو معطوف ويجيء وجه كل منهما في التفسير .
) خصاصة ( قف قيل : وقفة والأحسن الوصل لأن الاعتراض مؤكد لما قبله ) المفلحون ( ه لمثل المذكور ) رحيم ( ه ) أبداً ( لا لأن ما بعده من تمام القول ) لننصركم ( ط ) لكاذبون ( ه ) معهم ( ج ) لا(6/280)
" صفحة رقم 281 "
ينصرونهم ( ط للعطف فيهما مع الابتداء بالقسم ) لا ينصرون ( ه ) من الله ( ط ) لا يفقهون ( ه ) جدر ( ط ) شديد ( ه ) لا يعقلون ( ه ج لتعلق الكاف ب ) لا يعقلون ( أو بمحذوف أو مثلهم كمثل ) أمرهم ( ط لاختلاف الجملتين ) أليم ( ه ج لما قلنا ) اكفر ( ط ) العالمين ( ه ) فيها ( ط ) الظالمين ( ه ) لغد ( ج لاعتراض خصوص بين العمومين أي لم يتق الله كل واحد منكم فلتنظر لغدها نفس واحد منكم ) واتقوا الله ( ه ) تعلمون ( ه ) أنفسهم ( ط ) الفاسقون ( ه ) الجنة ( الأولى ط ) الفائزون ( ه ) من خشية الله ( ط ) يتفكرون ( ه ) إلا هو ( ج لاحتمال كون ما بعده خبر مبتدأ محذوف ) والشهادة ( ج لاحتمال كون الضمير بدلاً من عالم أو مبتدأ ) الرحيم ( ه ) إلا هو ( ط لما قلنا ) المتكبر ( ط ) يشركون ( ه ) الحسنى ( ط ) والأرض ( ط ) الحكيم ( ه .
التفسير : قال المفسرون : صالح بنو النضر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما غلب الكفار يوم بدر قالوا : هوالنبي الذي نعته في التوراة لا ترد له رأيه ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكيبين إلى مكة فعاهدوا قريشاً عند الكعبة ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعباً غيلة وكان اخا كعب من الرضاعة ثم صبحهم بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم : اخرجوا من المدينة فقالوا : الموت أحب إلينا من ذاك .
فتنادوا بالحرب .
وقيل : استمهلوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشرة أيام ليتجهزوا للخروج فأرسل إليهم عبد الله بن أبيّ المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولئن خرجتم لنخرجن معكم فدرّبوا على الأزقة وحصنوها ، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة .
فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصرة المنافقين طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤا من متاعهم ، فذهبوا إلأى اريحاء وأذرعات من الشأم إلا أهل بيتين منهم ابن أبي الحقيق وحُيَيّ بن أخطب فإنهم لحقوا بخيير ولحقت طائفة بالحيرة .
واللام في قوله ) لأول الحشر ( بمعنى الوقت كقولك ( جئت ليوم كذا ). وهم أولم ن أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام .
فمعنى الحشر إخراج الجميع من مكان ، ومعنى الأولية أنه لم يصبهم قبل ذلك مثل هذا الذل لأنهم كانوا أهل منعة هذا قول ابن عباس والأكثرين .
وقيل : هذا أول حشرهم ، وآخره حيث يحشر الناس للساعة إلى ناحية الشام كما جاء ي الحديث ( نار تخرج من المشرق وتسوق الناس إلى المغرب ) قاله(6/281)
" صفحة رقم 282 "
قتادة .
وقيل : آخر حشرهم إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام .
وقيل : معناه لأول ما حشر بقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال في الكشاف : الفرق بين النظم الذي جاء عليه وبين قول القائل ( وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم ) هو أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلاً على فرط وثوقهم بحصانتها ، وفي نصب ضميرهم اسماً لأن إسناد الجملة إليه دليل على أنهم اعتقدوا عزة أنفسهم ومنعتها بحيث لا يمكن لأحد أن يتعرض لهم .
قلت : حاصل كلامه رضي الله عنه الحصر .
ومعنى إتيان الله إتيان أمره وهو النصر إن عاد إلى اليهود وهذا أظهر ليناسب قوله تعالى ) في قلوبهم ( ولاستعمال القرآن نظيره في مواضع أخر في معرض التهديد ) هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ) [ البقرة : 210 ] ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك ) [ الأنعام : 158 ] ومعنى ) لم يحتسبوا ( أنه لم يخطر ببالهم قتل كعب غيلة على يد أخيه .
وقذف الرعب في قلوبهم وهذا من خواص نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) كما مر في آل عمران ) سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) [ آل عمران : 151 ] وفي لفظ القذف زيادة تأكيد ولهذا قالوا في صفة الأسد ( مقذف ) فكأنما قذف باللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه .
قال الفراء ) يخربون ( بالتشديد يهدمون ، وبالتخفيف يخرجون منها ويتركونها .
وكان أبو عمرو ويقول : الإخراب أن يترك الشيء خراباً ، والتخريب الهدم ، وبنو النضير خربوا وما أخربوا .
وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في بعض الأحكام نحو ( فرحته ) و ( أفرحته ) و ( حسنة الله ) و ( أحسنه ) .
قال المفسرون : إنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربوناه من داخل والمسلمون من خارج .
قلت : ويحتمل أن يكون بعض التخريب لسدّ أفواه الأزقة بالخشب والحجارة أو لنقل ما أرادوا حمله من جيد الخشب والساج .
وأما المؤمنون فداعيهم إلى ذلك إزالة تحصنهم أو أن يتسع لهم في الحرب مجال ، ومعنى تخريبهم بأيدي المؤمنين أنهم كانوا السبب فيه وأنهم عرضوا المؤمنين لذلك .
ثم أمر أهل الابصار الباطنة بالاعتبار وهو العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، ومنه العبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد ، والتعبير لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول ، والعبارة لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى فهم المستمع ، والسعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ، أو القائس يعبر عن المقيس عليه إلى المقيس .
ومعنى الاعتبار في الآية أنهم اعتمدوا على حصونهم وعدّتهم فأمر الله تعالى أرباب العقول بأن ينظروا في حالهم ولا يعتمدوا على شيء غير الله ، أو المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الكفر والغدر والطعن في النبوّة فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر والكفر في البلاء والجلاء .
واعترض بأن رب شخص وكفر وما عذب في الدنيا ، ورب(6/282)
" صفحة رقم 283 "
ممتحن مبتلى هو نبي أو ولي .
وأجيب بأن حاصل القياس والاعتبار يرجع إلى أن الغادر الكافر معذب أعم من أن يكون بالتخريب أو بالقتل أو في الدنيا أو في الآخرة والعكس لا يلزم .
وقيل : معنى الاعتبار أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعدهم أن يورثهم أرضهم وأموالهم بغير قتال فكان كما وقع فدل على صحة نبوّته .
والجلاء أن لم يبق لهم بالمدينة دار ولا فيها منهم ديار وهذا عندهم أشدّ من الموت فلهذا قال ) ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ( بالقتل ) ولهم في الآخرة ( بعدما عاينوا في الدنيا ) عذاب النار ذلك ( التخريب أو الجلاء أو العذاب بسبب مخالفتهم وعصيانهم الله ورسوله .
قالت الفقهاء : فيه دليل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها فليس أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب .
يروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) حين أمر أن يقطع نخلهم ويحرق قالوا : يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها ؟ فكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء فأنزل الله تعالى ) ما قطعتم ( محله نصب و ) من لينة ( بيان له كأنه قيل : أي شيء قطعتم من لينة وهي النخلة من الألوان ما خلا العجوة والبرنية وهما أجود النخل .
وياؤها واو في الأصل كالديمة .
وقيل : هي النخلة الكريمة من اللين فتكون الياء أصلية ، فبين الله تعالى أن ذلك جائز غيظاً لقلوب الكفرة .
واحتج الفقهاء بها على جواز هدم حصون الكفار وقلع اشجارهم .
وعن ابن مسعود : قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال .
وروي أن رجلين كان يقطع أحدهما العجوة والآخر يترك فسألهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال هذا : تركتها لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال هذا ( قطعتها غيظاً للكفار .
وقد يستدل بهذا على جواز الاجتهاد ولو بحضرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى أن كل مجتهد مصيب .
قوله ) وما أفاء الله ( أدخل العاطف ههنا دون الأخرى لأن تلك بيان لهذه فهي غير أجنبية عنها والأولى معطوفة على ما قبلها .
ومعنى أفاء جعله فيئاً من فاء إذا رجع وذلك لرجوعه من ملك الكفار إلى ملك المسلمين .
والإيجاف من الوجيف وهو السير السريع .
وقوله ( عليه ( أي على ما أفاء .
والركاب ما يركب من الإبل واحدتها راحلة ولا واحد لها من لفظها ، وقلام تطلق العرب الراكب إلا على راكب البعير ، بين الله سبحانه الفرق بين الغنيمة والفيء حين طلب الصحابة أن يقسم أموال أولئك اليهود بينهم اعترض بعضهم بأن أموال بني النضير أخذت بعد القتال لأنهم حوصروا أياماً وقاتلوا وقتلوا ثم صالحوا على الجلاء فوجب أن تكون تلك الأموال من الغنيمة لا من الفيء .
وأجاب المفسرون من وجهين : الأول أنها لم تنزل في بني النضير وإنما نزلت في فدك ولهذا كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ينفق على نفسه وعلى عياله من غلة فدك ويجعل الباقي في السلاح والكراع .
الثاني تسليم(6/283)
" صفحة رقم 284 "
أنها نزلت فيهم ولكن لم يكن للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب ، ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة ، وإنما كانوا على ميلين من المدينة فمشوا على أرجلهم ولم يركب إلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان راكب جمل ، فلما كان المعاملة قليلة ولم يكن خيل ولا ركاب أجراه الله مجرى ما لم يكن قتال ثمة .
ثم روي أنه قسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهو أبو دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن أبرهة قال الواحدي : كان الفيء مقسوماً في زمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خمسة أسهم : أربعة منها لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة وكذا خمس الباقي ، والسهم الأربعة منهذا الباقي لذي القربى ولد بني هاشم والمطلب ، واليتامى والمساكين وابن السبيل .
وأما بعد الرسول فللشافعي فيه قولان : أحدهما أنه للمجاهدين المترصدين للقتال في الثغور لأنهم قاموا مقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في رباط الغثور .
والثانيأنه يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر الأهم فالأهم .
هذا في الأربعة الأخماس التي كانت له ، وأما السهم الذي كان له من خمس الفيء فإنه لمصالح المسلمين بلا خلاف وقد مر سائر ما يتعلق بقسمة الغنائم في سورة الأنفال .
ثم بين الغرض من قسمة الفيء على الوجه المذكور فقال ) كيلا يكون دولة ( قال المبرد : هي اسم للشيء الذي يتداوله الناس بينهم يكون لهذا مرة ولهذا مرة كالغرفة اسم لما يغرف .
والدولة بالفتح انتقال حال سارة إلى قوم عن قوم .
قال جار الله : هي بالضم ما يدول للانسان اي يدور من الجد يقال دالت الدولة .
فعلى قول المبرد معناه كيلا يكون الفيء شيئاً يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه فلا يصيب الفقراء ، وعلى قول جار الله : كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء جداً بين الأغنياء يتكاثرون به ، أو لكيلا يكون الفيء دولة جاهلية كان الرؤساء بالغنائم لأنهم أهل الرياسة والجد والغلبة وكانوا يقولون من عزبر ومنه قول الحسن ( اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً ) يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به .
ومن قرأ على ( كان ) التامة فالمعنى كيلا يقع شيء متعاوراً بينهم غير مخرج إلى الفقراء ، أو كيلا تقع دولة جاهلية أي ينقطع أثرها .
قوله ) وما آتاكم ( الآية .
قيل : يختص بأنه يقسم الغنائم وأن على المؤمنين أن يرضوا بما يعطيهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) منها ، والأولى عند المحققين العموم .
قوله ) للفقراء ( بدل من قوله ) ولذي القربى ( إلى آخر الأصناف الأربعة .
ولايجوز أيضاً أن يكون ابتدال البدل من قوله ) فلله ( لأنه يخل بتعظيم قولهم ) وللرسول ( لأنه تعالى أخرجه عن الفقراء بقوله ) وينصرون الله ورسوله ( ولترفع منصبه عن التسمية بالفقير .
ولئن صح أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الفقر فخري ) فذاك معنى آخر وهو غنى(6/284)
" صفحة رقم 285 "
القلب وانقطاع التعلق عما سوى الله وجعل الهموم هماً واحداً وهو الافتقار بالكلية إلى الله .
إستدل بعض العلماء بقوله ) أولئك هم الصادقون ( على إمامة أبي بكر لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يقولون له يا خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
فلو لم تكن خلافته حقه لزم كذبهم وهو خلاف الآية .
وقال في الكشاف : أراد صدقهم في إيمانهم وجهادهم .
قوله ) والذين تبوّؤا الدار ( معطوف على المهاجرين وكذا قوله ) والذين جاؤوا ( وذلك عند من يجعل الغنائم حلاً للمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان أو التابعين لهم إلى يوم القيامة وعلى هذا يكون قوله ) يحبون ( و ) يقولون ( حالين أي الغنائم لهم محببن قائلين .
ومن جعل المراد بيان غنائم بني النضير وقف على ) هم الصادقون ( و ) المفلحون ( وجعل الفعلين خبرين .
وعلى هذا يكون الآيتان ثناء على الأنصار على الإيثار ، وللتابعين على الدعاء .
قال مقاتل : أثنى على الأنصار حين طالبت أنفسهم عن الفيء إذ جعل للمهاجرين دونهم .
وههنا سؤالان أحدهما : أنه لا يقال تبوؤا الإيمان .
الثاني بتقدير التسليم أن الأنصار ما تبوؤا الإيمان قبل المهاجرين .
والجواب من الأول أن المراد تبوؤا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله :
علفتها تبناً وماء بارداً
أو هو مجاز من تمكنهم واستقامتهم على الإيمان كأنهم جعلوه مستقراً لهم كالمدينة أو هو مجاز بالنقصان .
والمعنى تبوّؤا دار الهجرة ودار الإيمان فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه وحذف المضاف من الثاني ، أو سمى المدينة بالإيمان لأنها مكان ظهور الإيمان وهذا يؤل بالحقيقة إلى الوجه الذي تقدمه .
وعن الثاني أن المراد من قبل هجرتهم أو هو من تمام تبوء الدار ، ولا شك أن الأنصار سبقوهم في ذلك وإن لم يسبقوهم في الإيمان ) ولا تجدون في صدورهم حاجة ( أي حسداً وغيظاً مما أوتى المهاجرون من الفيء وغيره .
وإطلاق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة من إطلاق اسم اللازم على الملزوم لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة .
وقال جار الله : المحتاج إليه يسمى حاجة يعني أن نفوسهم لم تتبع ما أعطوا ولم تطح إلى شيء منه يحتاج إليه ) ولو كان بهم خصاصة ( أي خلفة فهي من خصاص البيت أي فرجه ، وكل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع فهي خصاص الواحد خصاصة .
وفعول ) يؤثرون ( محذوف أي يؤثرونهم ويخصونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم .
عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال للأنصار : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لكم من الفيء كما قسمت لهم ، وإن شئتم كان لهم القسم ولكم دياركم وأموالكم .
فقالوا : لا بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا نؤثرهم بالقسمة ولا نشاركهم فيها فنزلت .
والشح المنع الذاتي الذي تقتضيه الحالة النفسانية ولهذا أضيف إلى النفس ، والبخل المنع المطلق من غير اعتبار صيرورته غريزة(6/285)
" صفحة رقم 286 "
وملكة .
قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئاً أمره الله بإعطائه فقد وقي شح نفسه .
وذكر المفسرون أنواعاً من إيثار الأنصار الضيف بالطعام وتعللهم عنه حتى شبع الضيف .
والظاهر أنها نزلت في الفيء كما مر ويدخل فيه غيره .
قوله ) والذين جاؤوا من بعدهم ( أي هاجروا بعد المهاجرين الأوّلين .
وقيل : هم التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين ، فتشمل الآيات الثلاث جميع المؤمنين .
ثم عجب من أحوال أهل النفاق من أهل المدينة كعبد الله بن أبيّ وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن زيد ، كانوا في الظاهر من الأنصار ولكنهم يوالون اليهود في السر فصاروا إخوانهم في الكفر وقالوا له ملا نطيع في قتالكم أو خذلانكم أحداً .
ثم شهد إجمالاً عليهم بأنهم كاذبون ، ثم فصل ذلك قائلاً ) لئن أخرجوا ( إلى قوله ) ولئن نصروهم ( وهذا على سبيل الفرض لأنه تعالى كما يعلم ما يكون فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون .
والمعنى لو فرض نصر المنافقين اليهود ليهزمن المنافقون ) ثم لا ينصرون ( بعد ذلك أي لا يمنعهم من عذاب الله مانع لظهور كفرهم .
وقيل : ليهزمن اليهود ثم لا تنفعهم نصرة المنافقين .
وعلى هذا يكون ( ثم ) لترتيب الأخبار كقوله ) ثم اهتدى ) [ طه : 82 ] ثم بيّن الحكمة في العزو فقال ) في صدورهم ( دلالة على نفاقهم يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله خوفاً شديداً ورهبتهم في السر منكم أشد من ذلك لأنهم لا يفقهون عظمة الله فلا يخشونه حق خشيته .
وجوز أن يكون المراد أن اليهود يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله وكانوا يتشجعون للمسلمين مع إضمار الخيفة في صدورهم .
قلت : الأظهر أن المراد أنتم فيه أكثر مكانة من مواعظ الله أو لثمرة جهادكم معهم أوفر من ثمرة ترهبهم بعقاب الله ) ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ( من سر التكاليف وتبعة الكفر والنفاق في الآخرة فلا يرتدعون إلا خوفاً من العقوبة العاجلة .
ومن هذا أخذ عمر فقال : ما يزع السلطان أي منع أكثر مما يزع القرآن .
وقال الشاعر :
السيف أصدق إنباء من الكتب
وقيل : العبد لا يردعه إلا العصا .
ثم شجع المسلمين بقوله ) لا يقاتلونكم ( أي لا يقدرون على قتالكم مجتمعين ) إلا في قرى محصنة ( غاية التحصين ) أو من وراء جدر ( لا مبارزين مكشوفين في الأراضي المستوية ) بأسهم بينهم شديد ( لا بينكم لأنكم منصورون بنصرة الله مؤيدون بتأييده ، أو لأنهم يحسبون في أنفسهم وفيما بينهم أموراً يعلم الله أنها لا تقع في الخارج على وفق حسبانهموعن ابن عباس : معناه بعضهم لبعض عدوّ يؤيده قوله ) تحسبهم جميعاً ( مجتمعين ذوي تآلف ومحبة ) وقلوبهم شتى ( متفرقة وهو فعلى من(6/286)
" صفحة رقم 287 "
الشت .
وإنما قال ههنا ) ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ( وفي الأوّل ) لا يفقهون ( لأن الفقه معرفة ظاهر الشيء وغامضه فنفي عنهم ذلك كما قلنا ، وأراد ههنا أنهم لو عقلوا لاجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا فتشتتهم دليل عدم عقلهم لأن العقل يحكم بأن الاجتماع معين على المطلوب والتفرق يوهن القوى ولا سيما إذا كانوا مبطلين .
ثم شبه حالهم بحال من قتلوا قبلهم ببدر في زان قريب .
قال جار الله : انتصلب ) قريباً ( بمحذوف أي كوجود مثل أهل بدر قريباً .
قلت : لا يبعد أن يتعلق بصلة الذين .
ثم ضرب مثلاً آخر لإغراء المنافقين اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر ، والمراد إما عموم دعوة الشيطان للإنسان إلى الكفر وإما خصوص إغراء إبليس قريشاً يوم بدر كما مر في الأنفال في قوله سبحانه ) وإذ زين لهم الشيطان ( إلى قوله ) إني برىء منكم ) [ الأنفال : 48 ] قال مقاتل : وكان عاقبة اليهود والمنافقين مثل عاقبة الشيطان والإنسان حتى صار إلى النار .
قال جار الله : كرر الأمر بالتقوى تأكيداً أو لأن الأول في أداء الواجبات لأنه قرن بما هو عمل والثاني في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد .
وسمى القيامة بالعد تقريباً لمجيئها .
عن الحسن : لم يزل بقربه حتى جعله كالغد .
وقيل : جعل مجموع زمان الدنيا كنهار عند الآخرة .
قال أهل المعاني : تنكير ) نفس ( للتقليل كما مر في الوقوف وتنكير ) غد ( للتعظيم والتهويل .
قال مقاتل : ونسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم .
قلت : يجوز أن يراد نسوا ينفعها ، أو فأراهم يوم القيامة من الأحوال ما نسوا فيه أنفسهم .
قلت : يجوز أن يراد نسوا ذكر الله فأورثهم القسوة وفساد الاستعداد بالكلية .
وحين نهى المؤمنين عن كونهم مثل الناسين الغافلين ذكرهم بأنه لا استواء بين الفريقين ففيه شبه قرع العصا كأنهم غفلوا عن هذا الواضح البين كما تقول لمن يعصي أباه ( هو أبوك ) .
استدل أصحاب الشافعي بالآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي وإلا استويا .
وأن الكافر لا يملك مال المسلم بالقهر وإلا استويا .
واحتج بعض المعتزلة بها على أن صاحب الكبيرة لو دخل الجنة وهو من أهل النار لزم خلاف الآية .
والجواب ظاهر لأنه على تقدير إمكان العفو لا يحكم أنه من أهل النار .
ثم عظم أمر القرآن الذي يعلم منه هذا البيان .
قال الكشاف : هو مثل وتخييل بدليل قوله ) وتلك الأمثال ( يعني هذا وغيره من أمثال التنزيل .
وقال غيره : المعنى إشارة إلى قوله ) كمثل الذين ( ) كمثل الشيطان ( ولما وصف القرآن بما وصف عظم شأنه بوجه آخر وهو التنبيه على أوصاف منزله ، وقد سبق شرح أكثر هذه الأسماء في هذا الكتاب ولا سيما في البسملة .
والقدّوس مبالغة القدس وهو التبليغ في الطهارة والبراءة عما يشين هذا بالنسبة إلى زمان الماضي والحال .
والسلام إشارة إلى كونه سالماً عن الآفات والعاهات والنقائص في زمان الاستقبال ، ويجوز أن يراد أنه المعطي للسلامة .
المؤمن الواهب الأمن والمصدق(6/287)
" صفحة رقم 288 "
لأنبيائه بالمعجزات .
وقد مر معنى المهيمن وأصل اشتقاقه في المائدة في قوله ) مهيمناً عليه ) [ الآية : 48 ] وأن معناه الرقيب الحافظ لكل شيء .
ولمكان تعداد هذه الأوصف كرر قوله ) يسبح له ( إلى آخر السورة .
فمن عزته كان منزهاً عن النقائص أهلاً للتسبيح ، ومن حكمته أمر المكلفين في السموات والأرضين بأن يسبحوا له ليربحوا لا ليربح هو عليهم وهو تعالى أعلم بمراده وبالله التوفيق للخير وإليه المآب .(6/288)
" صفحة رقم 289 "
سورة الممتحنة
( سورة الممتحنة وهي مدنية حروفها ألف وخمسمائة وعشرة كلماتها ثلثمائة وثمان وأربعون آياتها ثلاث عشرة ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الممتحنة : ( 1 - 13 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن(6/289)
" صفحة رقم 290 "
أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور "
( القراآت )
يفصل ( ثلاثياً معلوماً : عاصم غير المفضل وسهل ويعقوب ) يفصل ( بالتشديد : حمزة وعلي وخلف .
مثله ولكن مجهولاً : ابن ذكوان .
الآخرون : ثلاثياً مجهولاً ) فيإبراهام ( كنظائره ) أن تولوهم ( بتشديد التاء : البزي وابن فليح ) تمسكوا ( بالتشديد : أبو عمرو وسهل ويعقوب .
الوقوف : ( من الحق ( ج لأن ما بعده يحتمل الحال من ضمير ) كفروا ( والاستئناف ) بالله ربكم ( ط ) أعلنتم ( ط ) السبيل ( ه ) تكفرون ( ه ) أولادكم ( ج لاحتمال تعلق الظرف ب ) لن تنفعكم ( أو يفصل ) يوم القيامة ( ج بناء على المذكور ) بينكم ( ط ) بصير ( ه ) والذين معه ( ج لأن الظرف قد يتعلق باذكر محذوفاً أو أسوة ) من دون الله ( ط لأن ما بعد مستأنف في النظم وإن كان متصلاً في المعنى ) من شيء ( ط ) المصير ( ه ) لنا ربنا ( ه للابتداء بأن مع أن التقدير ف " نك ) الحكيم ( ه ) الآخر ( ط ) الحميد ( ه ) مودة ( ط ) قدير ( ه ) رحيم ( ه ) إليهم ( ط ) المقسطين ( ه ) تولوهم ( ج للشرط مع العطف ) الظالمون ( ه ) فامتحنوهنّ ( ط ) بإيمانهنّ ( ط ) الكفار ( ط ) لهنّ ( ط ) ما أنفقوا ( ط ) اجورهنّ ( ط ) ما أنفقوا ( ط ) حكم الله ( ط ) بينكم ( ط ) حكيم ( ه ز ) ما أنفقوا ( ط ) مؤمنون ( ه ) لهنّ الله ( ط ) رحيم ( ه ) القبور ( ه .
التفسير : يروى أن مولاة أبي عمرو ابن صيفي بن هاشم يقال لها سارة ، أتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة وهو متجهز لفتح مكة فعرضت حاجتها ، فحث بني المطلب على الإحسان إليها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دناينر وكساها برداً واستحملها كتاباً إلى أهل مكة هذه نسخته ( من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة .
اعلموا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يريدكم فخذوا حذركم ) .
فخرجت سارة ونزل جبريل عليه السلام بالخبر ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علياً رضي الله عنه وعماراً وعمرو فرساناً أخر وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، فإن أبت فاضربوا عنقها .
فأدركوها فجحدته وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسل سيفه وقال :(6/290)
" صفحة رقم 291 "
أخرجي الكتاب أن تضعي رأسك فأخرجته من عقاص شعرها .
فقال رسول الله عليه وسلم لحاطب : ما حملك عليه ؟ فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكني كنت غريباً في قريش وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً ، وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدّقه وقبل عذره فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق .
فقال : وما يرديك يا عمر لعل الله قد أطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .
ففاضت عينا عمر وقال : الله روسوله أعلم وأنزلت السورة .
و ) تلقون ( مستأنف أو حال من ضمير ) لا تتخذوا ( أو صفة لأولياء ، ولا حاجة إلى الضمير البارز وهو أنتم وإن جرى على غير من هو له لأن ذاك في الأسماء دون الأفعال كما لو قلت مثلاً ملقين أنتم وافلقاء عبارة عن الإيصال التام .
والباء في ) بالمودة ( إما زائدة كما في قوله ) ولا تلقوا بأيديكم ) [ البقرة : 195 ] أو للسببية ومفعول ) تلقون ( محذوف معناه تلقون إليهم أخبار الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب المودة .
و ) أن تؤمنوا ( تعليل ل ) يخرجون ( أي يخرجونكم لإيمانكم .
و ) إن كنتم خرجتم ( تأكيد متعلق ب ) لا تتخذوا ( وجوابه مثله .
وانتصب ) جهاداً ( و ) اتبغاء ( على العلة أي إن كنتم خرجتم من أوطانكم لأجل جهاد عدوّى ولابتغاء رضواني فلا تتولا أعدائي .
وقوله ( تسرون ( مستأنف والمقصود أنه لا فائدة في الإسرار فإن علام الغيوب لا يخفى عليه شيء .
ثم خطأ رأيهم بوجه آخر وهو أنهم إن يظفروا بهم أخلصوا العداوة ويقصدونهم بكل سوء باللسان والسنان .
قال علماء المعاني : إنما عطف قوله ) وودّوا ( وهو ماضٍ لفظاً على ما تقدمه وهو مضارع تنبيهاً على أن ودادهم كفرهم أسبق شيء عندهم لعلمهم أن الدين أعز على المؤمنين من الأرواح والأموال وأهم شيء عند العدوّ أن يقصد أعز شيء عند صاحبه .
ثم بين خطأ رأيهم بوجه آخر وهو أن المودة إذا لم تكن في الله لم تنفع في القيامة لانفصال كل اتصال يومئذ كما قال ) يوم يفر المرء من أخيه ) [ عبس : 34 ] الآية .
ويجوز أن يكون الفصل بمعنى القضاء والحكم .
ثم ذكر أن وجوب البغض في الله وإن كان أخاه أو أباه أسوة في إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه حيث جاهروا قومهم بالعداوة وقشروا لهم العصا وصرحوا بأن سبب العدوة ليس إلا الكفر بالله ، فإذا آمنوا انقلبت العداوة موالاة والمناوأة مصافاة والمقت محبة .
ثم استثنى ) إلا قول إبراهيم ( من قوله أسوة كأنه قال حق عليكم أن تأتسوا بأقواله إلا هذا القول الذي هو الاستغفار لقوله ) ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) [ التوبة : 113 ] أما قوله ) وما أملك لك من الله من شيء ( فليس بداخل في(6/291)
" صفحة رقم 292 "
حكم الاستثناء لأنه قول حق ، وإنما أورده إتماماً لقصة إبراهيم مع أبيه .
وقال في الكشاف : هو مبني على الاستغفار وتابع له كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار .
ثم أكد أمر المؤمنين بأن يقولوا ) ربنا عليك توكلنا ( الآية .
ويجوز أن يكون من تتمة قول إبراهيم ومن معه وفيه مزيد تودجيه .
ثم أكد أمر الائتساء بقوله ) لقد كان ( فأدخل لام الابتداء وأبدل من قوله ) لكم ( قوله ) لمن كان يرجو ( وختم الآية بنوع من الوعيد .
ثم أطمع المؤمنين فيما تمنوا من عداوة أقاربهم بالمودة ) والله قدير ( على تقليب القلوب وتصريف الأحوال ) والله غفور رحيم ( لمن وادهم قبل النهي أو لمن أسلم من المشركين ، فحين يسر الله فتح مكة أسلم كثير منهم ولم يبق بينهم إلا التحاب والتصافي .
ولما نزلت هذه الآيات تشدّد المؤمنون في عداوة أقاربهم وعشائرهم فنزل ) لا ينهاكم الله ( وقوله ( أن تبروهم ( بدل من ) الذين لم يقاتلوكم ( وكذا قوله ) أن تولوهم ( من ) الذين قاتلوكم ( والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء .
ومعنى ) تقسطوا إليهم ( تعطوهم مما تملكون من طعام وغيره قسطاً .
وعدّي ب ( إلى ) لتضمنه معنى الإحسان وقال في الكشاف : تقضوا إليهم بالقسط أي العدل ولا تظلموهم .
وقيل : أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه .
وعن مجاهد : الذين آمنوا بمكة .
وقيل : هم النساء والصبيان .
وعن قتادة : نسختها آية القتال .
قال المفسرون : ن صلح الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة رد إليهم ومن أتى مكة منهم لم يرد إليكم وكتبوا بذلك كتاباً وختموه .
فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحديبية ، فأقبل زوجها مسافراً المخزومي .
وقيل : صيفي بن الراهب فقال : يا محمد اردد إليّ امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف فأنزل الله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ( الآية .
فكانت بياناً لأن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء .
وعن الضحاك : كان بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين المشركين عهد أن تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا ، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها .
وللنبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الشرط مثل ذلك فأتت امرأة فاستحلفها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لقوله تعالى ) فامتحنوهن ( فحلفت فأعطى زوجها ما أنفق ونزوّجها عمر .
وفائدة قوله ) الله أعلم بأيمانهنّ ( أنه لا سبيل لكم إلى ما تسكن إليه النفس من اليقين الكامل لأنكم تختبرونهن بالحلف والنظر في سائر الأمارات التي لا تفيد إلا الظن ، وأما الإحاطة بحقيقة إيمانهن فإن ذلك مما تفرد به علام الغيوب ) فإن علمتموهن مؤمنات ( العلم الذي يليق بحالكم وهو الظن الغالب ) فلا ترجعون إلى ( أزواجهن(6/292)
" صفحة رقم 293 "
) الكفار ( لأنه لا حلّ بين المؤمنة والمشرك وآتوا أزواجهن ) مثل ما أنفقوا ( مثل ما دفعوا إليهن من المهور .
ثم نفى عنهم الحرج في تزوّج هؤلاء المهاجرات إذا أعطوهن مهورهن .
قال العلماء : إما أن يريد بهذا الأجر ما كان يدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في غباحة تزوّجهن تقديم أدائه ، وإما أن يراد بيان أن ذلك المدفوع لا يقوم مقام المهر وأنه لا بد من إصداق .
احتج أبو حنيفة بالآية على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلماً أو بذمة وبقي الآخر حربياً وقعت الفرقة بينهما ولا يرى العدة على المهاجرة ويصح نكاحها إلا أن تكون حاملاً ) ولا تمسكوا بعصم الكوافر ( وهو ما يعتصم به من عقد وسبب قال ابن عباس : أراد من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعدّها من نيائه لأن اختلاف الدين قطع عصمتها وحل عقدتها .
وعن النخعي : هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر .
وقال مجاهد : هذا أمر بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن ) واسئلوا ما أنفقتم ( من مهور أزواجكم الملحقات بالكفار ) وليسئلوا ما أنفقوا ( من مهور نسائهم المهاجرات .
أمر المؤمنين بالإيتاء ثم أمر الكافرين بالسؤال وهذه غاية العدل ونهاية افنصاف .
ثم أكد ما ذكر من الأحكام بأنها حكم الله .
قال جار الله : ( يحكم بينكم ( كلام مستأنف أو حال من حكم الله على حذف العائد أي يحكمه الله ، أو جعل الحكم حاكماً على المبالغة .
يروى أن بعض المشركين أبوا أن يؤدّوا شيئاً من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين فأنزل الله تعالى ) وإن فاتكم ( أي سبقكم وانفلت منكم ) شيء من أزواجكم ( أحد منهن قال أهل المعاني : فائدة إيقاع شيء في هذا التركيب التغليظ في الحكم والتشديد فيه أي لا ينبغي أن يترك شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر غير معوّض عنه .
ويجوز أن يراد وإن فاتكم شيء من مهور أزواجكم .
ومعنى ) فعاقبكم ( فجاءت عقبتكم من أداء المهر والعقبة النوبة شبه أداء كل طائفة من المسلمين والكافرين المهر إلى صاحبتها بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره ) فآتوا الذين ذهبت أزواجهم ( إلى الكفار ) مثل ما أنفقوا ( أي مثل مهرها من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر .
وقال الزجاج : معنى ) فعاقبتم ( فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، فالذي ذهبت زوجته كان يعطي من الغنيمة المهر .
قال بعض المفسرين : جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة : أم الحكم ينت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شدّاد الففهرى ، وفاطمة بنت أبي أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبد العزى بن نصلة وزوجها عمرو بن عبد ودّ ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص ، وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر .
أعطاهم رسولالله ( صلى الله عليه وسلم ) مهور نسائهم من الغنيمة .
وفي قوله ) واتقوا الله ( ندب إلى سيرة التقوى ورعاية العدل ولو مع الكفرة .(6/293)
" صفحة رقم 294 "
ثم نبّه نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) على شرائط المبالغة وهي المعاهدة على كل ما يقع عليه اتفاق كالإسلام والإمارة والإمامة ، والمراد ههنا المعاقدة على الإسلام وإعطاء العهود به وبشرائطه وعدم قتل الأولاد ووأد البنات ، وكانت المراة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك فكني عنه بالهتان المفترى بين يديها ورجليها لأن بطنها الذي تحمله فيه هو بين اليدين وفرجها الذي تلد به بين الرجلين .
وقيل : البهتان في الآية الكذب والتهمة والمشي بالسعاية مختلفة من تلقاء أنفسهنّ .
وقيل : قذف المحصنين .
قال ابن عباس : في قوله ) ولا يعصينك في معروف ( إنما هو شرط شرطه الله تعال على النساء ، والمعروف كل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات .
واختلف في كيفية مبايعته إياهنّ فقيل : دعا بقدح من ماء وغمس يده فيه ثم عمسن أيديهنّ. وقيل : صافحهنّ وكان على يده ثوب .
وقيل : كان عمر يصافحهنّ ما مست يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يد امرأة يملكها إنما كان كلاماً .
وعن أميمة بنت رقيقة قالت : أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في نسوة من الأنصار نبايعه على الإسلام فأخذ علينا يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنّ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أديهنّ وأرجلهنّ ولا يعصينك في معروف .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : فيما استطعن وأطقتن .
قلنا ؛ الله وسوله أرحم بنا منا بأنفسنا هلمّ نصافحك يا رسول الله .
قال : إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة .
يروى أن بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود طمعاً في ثمارهم فنزلت ) لا تتلوا قوماً ( الآية .
وسبب يأسهم من الآخرة تكذيبهم بصحة نبوّة الرسول صم عنادهم كما يئس الكفار من موتاهم أن يرجعوا أحياء .
وقيل : من أصحاب القبور بيان للكفار لأنهم أيسوا من خير الآخرة ومعرفة المعبود الحق فكأنهم أولى .(6/294)
" صفحة رقم 295 "
سورة الصف
( سورة الصف مدنية وقيل مكية كلماتها مائتان وإحدى وعشرون وحروفها تسعمائة وستة وعشرون وآياتها أربع عشرة ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الصف : ( 1 - 14 ) سبح لله ما . . . .
" سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين " (
القراآت : ( زاغوا ( بالإمالة مثل ) زاغ البصر ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحماد وأبو بكر غير ابن غالب ) متم نوره ( بالإضافة : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف وحفص .
الآخرون : بالتنوين ونصب ) نوره ( ) تنجيكم ( بالتشديد : ابن عامر ) أنصاراً ( بالتنوين ) لله ( جاراً ومجروراً : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو .
والباقون : بالإضافة ) أنصاري إلى الله ( بالفتح كما مر في ( آل عمران )(6/295)
" صفحة رقم 296 "
الوقوف : ( وما في الأرض ( ط ) الحكيم ( ه ج ) فعلون ( ه ) تفعلون ( ه ) مرصوص ( ط ) إليكم ( ط ) قلوبهم ( ط ) الفاسقين ( ه ) أحمد ( ط ) مبين ( ه ) الإسلام ( ط ) الظالمين ( ه ) الكافرون ( ه ) المشركون ( ه ) أليم ( ه ز ) وأنفسكم ( ط ) تعلمون ( ه لا لأن قوله ) يغفر لكم ( جواب ) تؤمنون ( على أنه خبر في معنى الأمر ) عدن ( ط ) العظيم ( ه ج للعطف ) تحبونها ( ط لحق الحذف أي هي نصر ) قريب ( ه لانقطاع النظم واختلاف المعنى ) المؤمنين ( ه ) إلى الله ( ط ) وكفرت طائفة ( ه لاتفاق الجملتين مع تخصيص الثانية ببيان حال أحد الفريقين ) ظاهرين ( ه .
التفسير : يروى أن المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه فدلهم الله على الجهاد فولوا يوم أحد فعيرهم .
وروي أن الله تعالى حين أخبر بثواب شهداء بدر قالوا : لئن لقينا قتلالاً إلى الله لنفرغن فيه وسعنا ففرّوا يوم أحد ولم يفوا .
وقيل ؛ كان الرجل يقول : قلت ولم يقل وطعنت ولم يطعن فأنزل الله تعالى ) لم تقولون ( واللام الجاره إذا دخلت على ( ما ) الاستفهامية أسقطت الألف لكثرة الاستعمال .
وقد عرفت مراراً أن خصوص سبب النزول لا ينافي عموم الحكم ، وهذا التفسير يتناول إخلاف كل وعد .
وقال الحسن : نزلت في الذين آمنوا بلسانهم لا بقلوبهم .
ثم عظم أمر الإخلاف في قلوب المنافقين فقال ) كبر ( الآية .
وفيه أصناف مبالغة من جهة صيغة التعجب والتعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله ، ومن جهة إسناد الفعل إلى ) أن تقولوا ( ونصب ) مقتاً ( على التمييز ومن قبل أن المقت أشدّ من البغض أو من وصفه بأنه ) عند اله ( لأن الممقوت عنده ممقوت عند كل ذي لب .
ثم حث على الجهاد بنوع آخر وذلك أنه نسب أوّلاً ترك الجهاد بعد تمنيه إلى المقت ثم نسب الجهاد إلى الحب .
وانتصب ) صفاً ( على المصدر بمعنى الحال .
وقوله ( كأنهم ( مع الأول حالان متداخلان أي صافين أنفسهم أو مصفوفين كأنهم في تراميهم من غير فرجة ولا خلل ) بنيان ( رص بعضه على بعض أي رص صف .
وجوزوا أن يراد صف معنوي وهو اتفاق كلمتهم واستواء نياتهم في الثبات .
وعلى الأول استدل بعضهم به على تفضيل القتال راجلاً بناء على أن الفرسان لا يصطفون من غير فرجة ، ثم ذكرهم قصة موسى عليه السلام مع قومه كيلا يفعلوا بنبيهم مثل ما فعل به بنو إسرائيل .
تفسير الإيذاء مذكور في آخر ( الأحزاب ) وسائر أصناف إيذائهم إياه من عبادة العجل وطلب الرؤية والالتماسات المنكرة مشهورة ) وقد تعلمون ( في موضع الحال .
وفائدة ( قد ) تأكيد العلم لا تقليله وفيه إشارة إلى نهاية جهلهم إذا عكسوا القضية وصنعوا مكان تعظيم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إيذاءه .
والزيغ الميل عن الحق والإزاغة الإمالة فكأنهم تسببوا(6/296)
" صفحة رقم 297 "
لمزيد الانحراف عن الجادة ، فالطاعة تجر الطاعة والمعصية تجر المعصية .
قال بعض العلماء : إنما قال عيسى ) يا بني إسرائيل ( ولم يقل يا قوم كما قال موسى ، لأنه لا نسب له فيهم .
قلت : ممنوع لقوله تعالى في ( الأنعام ) ) ومن ذريته داود ( إلى قوله ) وعيسى ) [ الآية : 48 ] قال النحويون : قوله ) مصدّقاً ( و ) مبشراً ( حالان والعامل فيهما معنى الإرسال في الرسول فلا يجوز أن يكون ) إليكم ( عاملاً لأنه ظرف لغو. عن كعب أن الحواريين قالوا لعيسى : يا روح الله هل بعدنا من أمة ؟ قال : نعم أمة محمد حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير العمل .
قوله ) وهو يدعى إلى الإسلام ( نظير ما مر من قوله ) وقد تعلمون إني رسول الله ( ففي كل منهما تعكيس القضية إذ جعل مكان إجابة النبي إلى الإسلام الذي فيه سعادة الدارين افتراء الكذب على الله وهو قولهم للمعجزات هي سحر ، لأن السحر كذب وتمويه ولهذا عرف الكذب بخلاف آخر ( العنكبوت ) .
ثم ذكر غرضهم من الافتراب بقوله ) يريدون ليطفؤا ( ولهذا خص هذه السورة باللام كأنه قال : يريدون الافتراء لأجل هذه الإرادة كما زيدت اللام في ( لا أبالك ) لتأكيد معنى الإضافة .
وباقي الآيتين سبق تفسيره في ( براءة ) .
وإنما قال ههنا ) والله متم نوره ( لمكان الفصل بالعلة كأنه قال : يريدون الافتراء لغرض إطفاء نور الله والحال أن الله متم نوره ، وأما هنالك فإنه عطف قوله ) ويأبى ( على قوله ) يريدون ( .
ثم دل أهل الإيمان على التجارة الرابحة وهي مجاز عن وجدان الثواب على العمل كما قال ) إن الله اشترى ( إلى قوله ) فاستبشروا ببيعكم ) [ لتوبة : : 111 ] قال أهل المعاني : فائدة إيقاع الخبر موقع الأمر هي التنبيه على وجوب الأمر وتأكيده كأنه امتثل فهو يخبره به كأنه قيل : هل تتجرون بالإيمان ؟ وعن الفراء أن قوله ) يغفر لكم ( جواب ) هل أدلكم ( بتأويل أن متعلق الدلالة هو التجارة والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد فكأنه قيل : هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم ) ذلكم ( يعني ما ذكر من الإيمان والجهاد ) خير لكم ( من أموالكم وأنفسكم وهو اعتراض .
وقوله ( إن كنتم تعلمون ( اعتراض زائد على اعتراض ومعناه إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيراً لكم لأن نتيجة الخير إنما تحصل بعد اعتقاد كونه خيراً .
ثم قال ) و ( لكم مع هذه النعم الآجلة نعمة ) أخرى ( عاجلة ) تحبونها ( وهي فتح مكة كما قال ) وأثابكم فتحاً قريباً ) [ الفتح : 18 ] وعن الحسن : هو فتح فارس والروم .
قال في الكشاف : في قوله ) تحبونها ( شيء من التوبيخ على محبة العاجلة .
وعندي أنه سبحانه رتب أمرين على أمرين : المغفرة وإدخال الجنة على الإيمان ، والنصر والفتح على(6/297)
" صفحة رقم 298 "
الجهاد ، ومحبة النصر من الله والفتح القريب لا تقتضي التوبيخ وإنما ذلك مطلوب كل ذي لب ودين .
وقال في قوله ) وبشر ( إنه معطوف على ) تؤمنون ( لأنه بمعنى الأمر .
والأظهر عند علماء المعاني أنه معطوف على ( قل ) مقدراً قل يا أيها الذين آمنوا يؤيد تقدير قل .
قوله ) هل أدلكم ( فإن نسبة هذا الاستفهام إلى رسوله أولى من نسبته إلى الله سبحانه على ما لا يخفى .
قوله ) كونوا أنصار الله ( أي أعوان دينه ) كما قال عيسى ابن مريم للحوارين ( أي أصفيائه وقد مر ذكرهم في ( آل عمران ) ) من أنصاري ( متوجهاً ) إلى ( نصرة دين ) الله ( قال أهل البيان : فيه تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى وإنه لا يصح على الظاهر لأن الكون يشبه بالكون لا القول ، فوجهه أن يحمل التشبيه على المعنى وبيانه أن كون الحواريين أنصار الله يعرف من سياق الآية بعدها وهو قول الحواريين ) نحن أنصار الله ( وارد بطريق الاستئناف كأن سائلاً سأل : فماذا قال الحواريون حينئذ ؟ فأجيب بما أجيب .
وقولهم لا يخالف كونهم فيعود معنى الآية إلى قول القائل : كونوا أنصار الله مثل كون الحواريين أنصار عيسى وقت قوله ) من أنصاري ( على أن ( ما ) مصدرية والمصدر يستعمل مقام الظرف اتساعاً كقولك ( جئتك قدوم الحاج ) و ( خفوق النجم ) أي وقت القدوم والخفوق والسر في العدول عن العبارة الواضحة إلة العبارة الموجودة هو أن سوق الكلام بطريق الكناية حيث جعل المشبه به لازم ما هو المشبه به أبلغ من التصريح ، وأن بناء الكلام على السؤال والجواب أوكد ، وأن المجاز وهو استفادة كونهم من قولهم أبلغ من الحقيقة ، ولعل في الآية أسراراً آخر لم نطلع عليها .
ومعنى ) ظاهرين ( غالبين .
عن زيد بن علي : كان ظهورهم بالحجة .(6/298)
" صفحة رقم 299 "
سورة الجمعة
( سورة الجمعة وهي مكية حروفها سبعمائة وثمانية وأربعون كلماتها مائة وثمانون آياتها إحدى عشرة ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الجمعة : ( 1 - 11 ) يسبح لله ما . . . .
" يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين "
( القراآت )
كمثل الحمار ( و ) التوراة ( بالإمالة قد سبق ذكرهما .
الوقوف ) وما في الأرض ( لا ) الحكيم ( ه ) مبين ( ه لا للعطف أي وفي آخرين ) بهم ( ط ) الحكيم ( ه ) من يشاء ( ط ) العظيم ( ه ) أسفاراً ( ط ) بآيات ( ط ) الظالمين ( ه ) صادقين ( ه ) أيديهم ( ط ) بالظالمين ( ه ) تعملون ( ه ) البيع ( ط ) تعلمون ( ه ) تفلحون ( ه ) قائماً ( ط ) للتجارة ( ط ) الرازقين ( ه .(6/299)
" صفحة رقم 300 "
التفسير : في الأميين منسوب إلى أمة العرب أو إلى أم القرى .
وقد مر سائر الوجوه في ( الأعراف ) في قوله ) النبيّ الأميّ ) [ الآية : 157 ] وباقي الآية مذكورة في ( البقرة ) و ( آل عمران ) .
والمراد بآخرين التابعون وحدهم أو مع تبع التابعين إلى يوم القيامة .
ثمّ شبه اليهود الطاعنين في نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنهم حاملوا التوراة وحفاظها العارفون بما فيها من نعت نبيّ آخر الزمان بالحماء الحامل للأسفار أي الكتب الكبار لأنه لا يدري منها إلا ما مر بجنبيه من الكدّ والتعب .
ومعنى ) حملوا ( كلفوا العمل بما فيها .
ومحل ) يحمل ( جر صفة للحمار كما في قوله ( على اللئيم يسبني ) وهذا مثل كل من علم علماً يتعلق بعمل صالح ثم لم يعمل به .
ثم قبح مثلهم بقوله ) بئس ( مثلاً ) مثل القوم الذين ( وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه فقيل لهم : إن كان قولكم حقاً ) فتمنوا الموت ( ليكون وصولكم إلى دار الكرامة أسرعة وقد مثله في أول ( البقرة ) إلا أنه قال ههنا ) ولا يتمنونه ( وهناك ولن يتمنوه وذلك أن كليهما للنفي إلا أن ( لن ) أبلغ في نفي الاستقبال وكانت دعواهم هناك قاطعة بالغة وهي كون الجنة لهم بصفة الخلوص فخص ابلغ بتلك السورة .
ثم بين أن الموت الذي لا يجترؤن على تمنيه خيفة أن يؤاخذوا بوبال كفرهم فإنه ملاقيهم لا محالة .
قال أهل النظم : قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث : زعموا أنهم أولياء لله فكذبهم بقوله ) فتمنوا الموت ( وافتخروا بأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً ، وباهوا بالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع لنا الجمعة .
قال جار الله : يوم الجمعة بالسكون الفوج المجموع كضحكة للمضحوك منه ، وضمَّ الميم تثقيل لها كما قيل في عسرة عسيرة .
قلت : ومما يدل على أن أصلها الكسون جمعها على جمع كقدرة وقدر .
وفي الكشاف أن ) من يوم الجمعة ( بيان ( إذ ) وتفسير له .
وأقوال : إن اليوم أعم من وقت النداء والعام .
لإبهامه لا يصير بياناً ظاهراً فالأولى أن تكون ( من ) للتبعيض .
والنداء الأذان في أول وقت الظهر ، وقد كان لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام للصلاة ، ثم كان أبو بكر وعمر على ذلك ، حتى إذا كان عثمان وكثر الناس زاد مؤذناً آخر ، مؤذن على داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني ، فإذا نزل أقام للصلاة .
وعن ابن عباس : إن أول جمعة في الإسلام بعد جمعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لجمعة أجتمعت بجواثى قرية من قرى البحرين من قرى عبد القيس وروي أن الأنصار بالمدينة اجتمعوا بجواثى قرية من قرى البحرين من قرى عبد القيس وروي أن نجتمع فيه فنذكر الله ونصلي فإن اليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة ، فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتمعاهم فيه ، وأنزل الله تعالى آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام قبل مقدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأول جمعة جمعها رسول(6/300)
" صفحة رقم 301 "
الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لما قدم المدينة مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخمس وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلّى الجمعة .
وفضيلة صلاة الجمعة كثيرة منها ما ورد في الصحاح عن أبي هريرة ( إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول ) و ( مثل المبكر كمثل الذي يهدي بدنه ثم كالذي يهدي بقرة ثم كبشاً ثم دجاجة ثم بيضة فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ووقى فتنة القبر ) وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر غاصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج .
وقيل : أول بدعة أحدثت مع الإسلام ترك البكور إلى الجمعة .
ولا تقام الجمعة عند أبي حنيفة إلا في مصر جامع وهو ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام .
وقد يقال : ما يكون فيه نهر جار وسوق قائم وملك قاهر وطبيب حاذق .
وعنده تنعقد بثلاثة سوى الإمام ، وعند الشافعي لا تنعقد إلاّ بأربعين متوطنين .
وأعذار الجمعة مشهورة في كتب الفقة ومعنى السعي القصد دون العدو ومنه قول الحسن : ليس السعي على الأقدام ولكنه على النيات والقلوب .
وعن ابن عمر أنه سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي .
قال العلماء : وهذا لا بأس به ما لم يجهد نفسه .
قوله ) إلى ذكر الله ( أي إلى الخطبة والصلاة وهي تسمية الشيء بأشرف أجزائه .
ومذهب أبي حنيفة أنه لو اقتصر على كل ما يسمى ذكراً مثل الحمد لله أو سبحان الله جاز .
وعند صاحبيه والشافعي لا بد من كلام يسمى خطبة .
وعن جابر كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول في خطبته : نحمد الله ونثني عليه بما هو أهله ثم يقول : من يهد الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له ، إن اصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
وعنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان صلاته قصداً وخطبته قصداً .
وعن أبي وائل قال : خطبنا عمار فأوجز وأبلغ فلما نزل قال : إني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( إن طول الصلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأقصر الخطبة وأطل الصلاة ) وإن من البيان لسحراً .
قوله ) وذروا البيع ( خاص ولكنه عام في الحقيقة لكل ما يذهل عن ذكر الله .
وسبب التخصيص أن أهل القرى وقتئذ يجتمعون(6/301)
" صفحة رقم 302 "
من كل أوب في السوق وأغلب اجتماعهم على البيع والشراء .
ولا خلاف بين العلماء في تحريم البيع وقت النداء .
وهل يصح ذلك البيع إن وقع الأكثرون ؟ نعم لأن المنع غير متوجه نحو خصوص البيع .
وإنما هو متوجه نحو ترك الجمعة حتى لو تركها بسبب آخر فقد ارتكب النهي ولو باع في غير تلك الحالة لم يصادفه نهي .
قوله ) فانتشروا ( وابتغوا إباحة بعد حظر .
وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء أمور الدنيا امتثالاً للآية .
وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا إنما هو عبادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في الله .
وعن الحسن وسعيد بن المسيب : الطلب طلب العلم .
وقيل : صلاة التطوع .
وفي قوله ) واذكروا الله كثيراً ( إشارة إلى أن المرء لا ينبغي أن يغفل عن ذكر ربه في كل حال كما قال ) رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) [ النور : 37 ] عن جابر قال : بينا نحن نصلي مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قيل : عير تحمل طعاماً فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلا اثنا عشر رجلاً فنزلت ) وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها ( أي تفرقوا إليها ) وتركوك قائماً ( في الصلاة أو في الخطبة أو في الزاوية ، وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق فهذا هو المراد باللهو والتقدير إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه .
يروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) وآله قال : والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً .
ثم حث على تجارة الآخرة وعلى تيقن أن لا رازق بالحقيقة إلأا هو سبحانه وقد مر مراراً .(6/302)
" صفحة رقم 303 "
سورة المنافقون
( سورة المنافقين مدنية حروفها سبعمائة وستة وسبعون كلماتها مائة وثمانون آياتها إحدى عشرة ) بسم الله الرحمن الرحيم
( المنافقون : ( 1 - 11 ) إذا جاءك المنافقون . . . .
" إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون " ( القراآت ) خشب ( بالسكون : أبو عمرو وعلي وابن مجاهد ) لووا ( بالتخفيف : نافع وقالون ) تعملون ( على الغيبة : يحي وحماد .
الوقوف : ( لرسول الله ( ط لئلا يوهم أن قوله ) والله يعلم ( من مقول المنافقين ) لرسوله ( ط ) لكاذبون ( ه لا لأن ما بعده يصلح صفة واستئنافاً ) عن سبيل الله ( ط ) يعملون ( ه ) لا يفقهون ( ط ) اجسامهم ( ط ) لقولهم ( ط ) مسندة ( ط ) عليهم ( ط(6/303)
" صفحة رقم 304 "
) فاحذرهم ( ط ) قاتلهم الله ( ط ز لابتداء الاستفهاهم مع اتصال المعنى ) يؤفكون ( ه ) مستكبرون ( ه ) تستغفر لهم ( ط ) لن يغفر الله لهم ( ط ) الفاسقين ( ه ) ينفضوا ( ط ) لا يفقهون ( ه ) الأذل ( ط ) لا يعلمون ( ه ) عن ذكر الله ( ط للشرط مع الواو ) الخاسرون ( ه ) قريب ( ج ه لتعلق الجواب ) الصالحين ( ه ز ) أجلها ( ط ) تعملون ( ه .
التفسير : قال علماء المعاني : أرادوا بقولهم نشهد إنك لرسول الله شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم كما ينبىء عنه ( إن واللام ) وكون الملة اسمية مع تصديرها بما يجري مجرى القسم وهو الشهادة ، فكذبهم الله تعالى لأجل علمه بعدم المواطأة .
أو يراد والله يشهد إنهم لكاذبون عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أن قولهم إنك لرسول الله كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه .
قلت : هذا مذهب الجاحظ وأنه خلاف ما عليه الجمهور وهو أن مرجع كون الخبر صدقاً أو كذباً إى طباق الحكم للواقع أو لإطباقه ولهذا أوّلوا اآية بما أوّلوا ، وهو أن التكذيب توجه إلى ادّعائهم أن قولهم قول عن صميم القلب ، ومما يدل على أن مرجع كون الخبر صدقاً إلى ما قلنا لا إلى طباقه اعتقاد المخبر أو ظنه ولا إلى عدم طباقه لذلك الإعتقاد والظن تكذيبنا اليهودي إذا قال : الإسلام باطل مع أنه مطابق لاعتقاده ، وتصديقنا له إذا قال : الإسلام حق مع أنه غير مطابق لاعتقاده .
وفائدة إقحام قوله ) والله يعلم إنك لرسوله ( النتصيص على التأويل المذكور وإلا أمكن ذهاب الوهم إلى أن نفس قولهم ) إنك لرسول الله ( كذب .
ثم أخبر عن استثباتهم بالايمان الكاذبة كما مر في ( المجادلة ) .
وجوز في الكشاف أن تكون اليمين الكاذبة ههنا إشارة إلى قولهم ) نشهد ( لأن الشهادة تجري في إفادة التأكيد مجرى الحلف وبه استدل أبو جحنيفة على أن أشهد يمين .
) ذلك ( الذي مر من أوصافهم وأخلاقهم أو من التسجيل عليهم أنهم مقول في حقهم ساء ما كانوا يعملون ) ب ( سبب ) أنهم آمنوا ( باللسان ) ثم كفروا ( بظهور نفاقهم أو نطقوا بالإسلام عند المؤمنين ثم نطقوا بكلمة الكفر إذا خلوا إلى شياطينهم ، ويجوز أن يراد أهل الردة منهم وكان عبد الله بن أبيّ رجلاً جسيماً فصيحاً وكذا أضرابه من رؤساء النفاق ويستمعون إلى كلامهم فنزلت ) وإذا رأيتهم ( أيها الرسول أو يا من له أهلية الخطاب .
ثم شبهوا في استنادهم وما هم إلا أجرام فارغة عن الإيمان والخير بالخشب المستندة وقلة جدواهم .
قال في الكشاف : ويجوز أن يكون وجه التشبيه مجرد عدم الانتفاع لأن الخشب(6/304)
" صفحة رقم 305 "
المنتفع بها هي التي تكون في سقف أو جدار أو غيرهما ، فأما المسندة الفارعة المتروكة فلا نفع فيها .
قلت : فعلى هذا لا يكون لتخصيص الخشب بالذكر فائدة لاشتراكها في هذا الباب مع الحجر والمدر المتروكين وغيرهما ، والخشب جمع خشبة كثمرة وثمر ، ومحل الجملة رفع على ( هم كأنهم خشب ) أو هو كلام مستأنف فلا محل له .
قوله ) عليهم ( ثاني مفعولي ) يحسبون ( أي يحسبونها واقعة عليهم صادرة لهم لجبنهم والصيحة كنداء المنادي في العسكر ونحو ذلك ، أو هي أنهم كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم .
ثم أخبر عنهم بأنهم ) هم العدو ( أي هم الكاملون في العداوة لأن أعدى الأعداء هو العدوّ المداجي المكاشر تظنه جاراً مكاشراً وتحت ضلوعه داء لا دواء له .
ويقال : ما ذم الناس مذمة أبلغ من قولهم ( فلان لا صديق له في السر ولا عدوّ له في العلانية ) وذلك أن هذه من آيات النفاق ) فاحذرهم ( ولا تغتر بظاهرهم ، وجوز أن يكون ) هم العدو ( المفعول الثاني و ) عليهم ( لغو .
وإنما لم يقل ( هي العدو ) نظراً إلى الخبر أو بتأويل كل أهل صيحة ) قاتلهم الله ( دعاء عليهم باللعن والإخزاء أي أحلهم الله محل من قاتله عدو قاهر .
ويجوز أن يكون تعليماً للمؤمنين أي ادعوا عليهم بهذا .
يروى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم ازدحم على الماء جمع من المهاجرين والأنصار واقتتلا ، فلطم أحد فقراء المهاجرين شاباً حليفاً لعبد الله بن أبيّ ، فبلغ ذلك عبدالله فقال : ما صحبنا محمداً إلا لنلطم والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قيل ( سمن كلبك يأكلك ) ، أما والله ) لئن رجعنا إلأى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ( عنى بالأعز نفسه وبالأذل أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم قال لقومه : لو أمسكتم عن هؤلاء الفقراء فضل طعامكم لم يركبوا رقابكم ولا تفضوا من حول محمد ، فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث فقال : أنت والله الذليل القليل .
فال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب .
فأخبر زيد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال عمر : دعني أرضرب عنق هذا المنافق .
فقال : إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب .
قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجريّ فأمر به نصارياً فقال : فيكف إذا تحدث الناس أن محمداً قتل أصحابه .
ولما أنزل الله تعالى تصديق قول زيد وبان نفاق عبد الله قيل له : قد نزلت فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يستغفر لك ، فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أومن فآمنت وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد فنزلت ) وإذا قيل لهم تعالوا ( ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات وقد تقدم قصة هذا المنافق في صورة ( براءة ) بأكثر من هذا ، وقد نفى عن المنافقين الفقه أولاً وهو معرفة غوامض الأشياء ، ثم نفى عنهم العلم رأساً كأنه قال : لا فقه لهم بل لا علم .
أو نقول : إن معرفة كون الخزائن لله مما يحتاج إل تدبر وتفقه لمكان اأسباب والوسائط والروابط المفتقرة في رفعها من البين(6/305)
" صفحة رقم 306 "
إلى مزيد توجه وكامل نظر ، فأما كون الغلبة الوقة لدين الإسلام فذلك بظهور الإمارات وسطوع الدلائل بلغ مبلغاً لم يبق في وقوعه شك لمن به أدنى مسكة وقليل علم ، فلا جرم أورد في خاتمة كل آية ما يليق بها .
وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر بعده .
وعن الحسن بن علي رضي الله عنه أن رجلاً قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً فقال : ليس بتيه ولكنه عزة وتلا الآية .
وحينئذ عير المنافقين بما عير .
وحث المؤمنين على ذكر الله في كل حال بحيث لا يشغلهم عنه التصرفي الأموال والسرور بالأولاد وكل ما سوى الله حقير في جنب ما عند الله ، فإن من تصرف في شيء ما المال أو صرف زمانه في طرف من أمر الأولاد فلله وبالله وفي الله .
وقال الكلبي : ذكر الله الجهاد مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وعن الحسن : جميع الفرائض .
وقيل : القرآن .
وقيل : الصلوات الخمس ) يفعل ذلك ( أي ومن أشغلته الدنيا عن الدين .
ثم حثهم على الإنفاق إما على الإطلاق وإما في طريق الجهاد .
وإتيان الموت إتيان سلطانه وأماراته حين لا يقبل توبته ولا ينفع عمل فيسأل الله التأخير في الأجل لتدارك ما فات ومن له بذلك كما قال ) ولن يؤخر الله نفساً ( والمعنى هلا أخرت موتي إلى زمان قليل ) فأصدّق وأكون ( من قرأ بالنصب فظاهر ، ومن قرأ بالجزم فعلى وهم أن الأول مجزوم كأنه قال : إن أخرتني أصدق وأكن .
وقيل : هذا الوعيد لمانع الزكاة .(6/306)
" صفحة رقم 307 "
سورة التغابن
( سورة التغابن مكية إلا قوله ) يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم ( إلى آخر ثلاث آيات حروفها ألف وسبعون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( التغابن : ( 1 - 18 ) يسبح لله ما . . . .
" يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم "
( القراآت )
يوم نجمعكم ( بالنون : رويس .
الباقون : على الغيبة ) نكفر ( و ) ندخله ( بالنون فيهما : أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل .
الآخرون : على الغيبة(6/307)
" صفحة رقم 308 "
الوقوف : ( وما في الأرض ( ط لاختلاف الجملتين ) وله الحمد ( ط النوع اختلاف وهو تقديم الخبر على المبتدأ في الأوّل ) قدير ( ه ) مؤمن ( ط ) بصير ( ه ) صوركم ( ج لعطف المختلفين ) المصير ( ه ) تلعنون ( ه ) الصدور ( ه ) من قبل ( ط لتناهي الاستفهام إلى الاخبار مع صدق الاتصال بالفاء ) أليم ( ه ) يهدوننا ( ه لاعتراض الاستفهام بين المتفقين ) الله ( ط ) حميد ( ه ) يبعثوا ( ط ) عليم ( ه ) يسير ( ه ) أنزلنا ( ط ) خبير ( ه ) التغابن ( ط ) أبداً ( ط ) العظيم ( ه ) فيها ( ط ) المصير ( ه ) بإذن الله ( ط ) قلبه ( ط ) عليم ( ه ) الرسول ( ج ط ) المبين ( ه ) إلا هو ( ط ) المؤمنون ( ه ) فاحذروهم ( ج ) رحيم ( ه ) فتنة ( ط ) عظيم ( ه ) لأنفسكم ( ط ) المفلحون ( ه ) ويغفر لكم ( ط ) حليم ( ه لا ) الحكيم ( ه .
التفسير : قال في الكشاف : قدم الظرفين في قوله ) له الملك وله الحمد ( لمكان الاختصاص وأن لا ملك بالحقيقة إلا له ولا استحقاق حمد في التحقيق إلا له .
قلت : لو عكس الترتيب أفاد الخصوصية بوجه آخر وهو أن هذا الجنس وهذه الطبيعة له كما سبق في ( الفاتحة ) ) هو الذي خلقكم ( ذا فطرة سليمة .
وقوله ( فمنكم كافر ومنكم مؤمن ( بحسب الأسباب الخارجية كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ) والكل على وفق المشيئة .
قالت المعتزلة : أراد هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق فكان يجب عليكم أن تقابلوه بالتوحيد والتكبير مجتمعين مطيعين لا أن يغلب الكفر والجحود عليكم ، ولمكان هذه الغلبة قدم الكافر .
والعجب من صاحب الكشاف أنه سلم أن في خلق الكافر قد يكون وجه جسن ولكنه يخفى علينا ولا يسلم أن في خلق بالخلق وهم الكافر قد يكون وجه حسن يخفى لعيه .
وقيل : هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ، ومنكم مؤمن .
قووله ) فأحسن صوركم ( كقوله في ) أحسن ) [ التين : 4 ] وسيجيء في ( التين ) إن شاء الله العزيز .
وكل قبيح من الإنسان فهو في نوعه كامل إلا أن الله تعالى خلق أكمل منه من نوعه وأحسن فلهذا يحكم بدمامته وقبحه ، ولهذا قالت الحكماء : شيئان لا غاية لهما : الجمال والبيان .
وحين وصف نفسه بالقدرة الكاملة والعلم الشامل أعم أولاً ثم أخص ثم أخفى ، هدد كفار مكة بحال الأمم الماضية فقال ) ألم يأتكم ( الآية ) ذلك ( الوبال الدنيوي والعذاب الأخروي ) بأنه ( أي بأن الشان ) كانت ( أي كانت القضية وقد مر نظيره في ( حم المؤمن ) .
) أبشر ( فاعل فعل محذوف تفسيره ) يهدوننا ( وجمع الضمير لأن(6/308)
" صفحة رقم 309 "
البشر اسم جمع ) إنّما أنا بشر ) [ الكهف : 110 ] ( إن نحن إلا بشر ) [ إبراهيم : 11 ] قال أهل المعاني : لم يذكر المستغنى عنه في قوله ) واستغنى الله ( ليتناول كل شيء ومن جملته إيمانهم وطاعتهم .
قال في لاشكاف : معناه وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان مع قدرته على ذلك ، وإنما ذهب إلى هذا التأويل لئلا يوهم أن يوجدالتولي والاستغناء معاً ويلزم منه أن لا يكون الله في الأزل غنياً .
قلت : لو جعل الواو للحال أي وقد كان الله مستغنياً قديماً أو والحال وجود استغناء الله في وجودكم لم يحتج إلى التأويل .
قوله ) زعم ( من أفعال القلوب وفيه تقريع لكفار مكة لأن الزعم ادعاء العلم مع ظهور أمارات خلافه ويؤيده ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( زعموا مطية الكذاب ) و ) أن لن يبعثوا ( في تقدير مفرد قائم مقام المفعولين .
قال جار الله : ( يوم يجمعكم ( منصوب بقوله ) لتنبؤن ( أو [ ) خبير ( لأنه في معنى الوعد كأنه قيل : واله يعاقبكم يوم كذا أو بإضمار ( اذكر ) قلت : يجوز أن يكون ) يوم ( مبنياً على الفتح ومحله ابتداء والخبر جملة قوله ) ذلك يوم التغابن ( سؤال : ما الفائدة في زيادة قوله ) ليوم الجمع ( الجواب إن كان الخطاب في ) يجمعكم ( لكفار مكة فظاهري أن اذكروا وقت جمعكم الواقع في وقت يجمع فيه الأوّلون والآخرون ، وإن كان لعموم الناس فلعل اللام في الجمع للمعهود الذي سلف في نحو قوله ) يوم يجمع الله الرسل ) [ المائدة : 109 ] ( وحشرناهم فلم نغدر منهم أحداً ) [ الكهف : 47 ] ( قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ) [ الواقعة : 49 ، 50 ] هذا ما سمح به الفكر الفاتر والله تعالى أعلم بمراده .
قال جار الله : التغبن مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغبن بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي ينزلونها لو كانوا أشقياء .
قلت : في تسمية القسم الأخير تغابناً نظر إلا أن يفرض بنزول الشقي في ذلك المنزل يزيد عذاب الشقي ، وزيادة العذاب سبب تضيق المكان عليه .
واعتذرت عنه جار الله بأنه تهكم بالأشقياء لأن خسران أحد الفريقين مبني على ربح الآخر ولا ربح في التحقيق فيلزم التهكم مثل ) فبشرهم ) [ آل عمران : 21 ] وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من عبد يدخل الجنة إلا يرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً وما من عبد يدخل النار إلا يرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة ) ويجوز أن يفسر التغابن بأخذ المظلوم حسنات الظالم وحمل الظالم خطايا المظلوم وإن صح مجيء التغبن بمغنى الغبن فذلك واضح في حق كل مقصر صرف شيئاً من استعداده الفطري في غير ما أعطى لأجله .
قوله ) ومن يؤمن بالله يهد قلبه ((6/309)
" صفحة رقم 310 "
كقوله ) وزدناهم هدى ) [ الكهف : 13 ] والأول باللسان والثاني بالجنان أي هدبنا قلبه إلى حقيقة الإيمان .
وقال جار الله : يلطف به ويشرحه للازدياد من الطاعة والخير ، والتحقيق فيه أن نور الإيمان ينبسط كل يوم بسبب الرسوخ والثبات وتكامل المغيبات وتزايد المعارف والطاعات إلى أن يتنور جميع أجزاء القلب وينعكس منه إلى كل الأعضاء والجوارح .
وعن الضحاك : يهد قلبه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه .
وعن مجاهد : إن ابتلى صبر وإن أعطى شكر وإن ظلم غفر ) والله بكل شيء عليم ( يعلم درجات القلوب من الإيمان .
ولما كان أكثر ميل الناس عن الطاعات والكمالات الحقيقيات لأجل صرف الزمان في تهيئة أمور الأزواج والأسباب المفضية إيلهن أو المعينة عليهن ، ثم الأولاد الذين هم ثمرات الأفئدة وحياة القلوب وقرة العيون ، بيّن الله سبحانه أن العاقل لا ينبغي أن يصرف كده في ذلك ويكون على حذر منهم ومن تكثيرهم ، وبيع الدين بالدنيا لأجلهم فمن الأزواج أزواج يعادين بعولتهن وأعدى عدوّك هي التي تضاجعك ، وهل يستلذ الوسنان إذا كان في مضجعه ثعبان .
ومن الأولاد أولاد كيد زائدة قطعها مؤذ وفي إبقائها عيب ) وإن تعفوا ( عنهم إذا أطلعتم منهم على معاداة فإن الله يجازيكم .
وروى أن ناساً أرادوا الهجرة عن مكة فثبطهم أزواجهم وأولادهم فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فنزلت .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان فنزل إليهما فأخذهما ووضعهما في حجرة على المنبر فقال : صدق الله ) إنما أموالكم وأولادكم فتنة ( رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما .
وعن بعض السلف : العيال سوس الطاعات .
وقال بعض اهل التفسير : أراد إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما .
وحين بين أن الأزواج والأولاد لا ينبغي أن يمنعوا المكلف عن طاعة الله أنتج من ذلك الأمر بتقوى الله بمقدار الوسع والطاقة .
( وما ) للمدة أو للمصدر وقوله ( خيراً لأنفسكم ( نصب بمحذوف هو افعلوا أو ائتوا وقد مر نظيره في آخر ( النساء ) في قوله ) انتهوا خيراً لكم ) [ الآية : 171 ] وفيه إشارة إلى أن أمثال هذه الأوامر خير من التهالك في أمور الأزواج والأولاد وإغضاب الرب وإتعاب النفس لتكثير المال المخلف ومن أشقى ممن لا يقدّم لأجل نفسه شيئاً يستقرضه منه رازقه مع شدة احتياجه إلى ذلك بعد مماته ويؤخر لأجل وارثه أموالاً عظيمة مع عدم وثوقه بأنه هل يكون له انتفاع بها أم لا اللهم اشغلنا بما يغنينا وبالله .(6/310)
" صفحة رقم 311 "
سورة الطلاق
( سورة الطلاق وهي مكية حروفها ألف وسبعون كلمها مائة وسبع وأربعون آياتها اثنتا عشرة آية ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الطلاق : ( 1 - 12 ) يا أيها النبي . . . .
" يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما " ( القراآت ) بالغ أمره ( بالإضافة : حفص .
الآخرون : بالتنوين والنصب ) وجدكم ((6/311)
" صفحة رقم 312 "
بكسر الواو : روح .
) ندخله ( بالنون : أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل .
الوقوف : ( العدة ( ج تعظيماً لأمر الاتقاء ) ربكم ( ط لاتصال المعنى مع عدم العاطف ) مبينة ( ج ) وتلك حدود الله ( ط ) نفسه ( ط ) امراً ( ه ) لله ( ط ) الآخر ( ط ) مخرجاً ( لا ) لا يحتسب ( ط ) حسبه ( ط ) أمره ( ط ) قدراً ( ه ) أشهر ( لا للعطف أي واللائي لم يحضن كلذلك ) لم يحضن ( ط ) حملهن ( ط ) يسراً ( ه ط ) إليكم ( ط ) اجراً ( ه ) عليهن ( ط ) حملهن ( ط ) أجورهن ( ط ) بمعروف ( ك ) أخرى ( ه ط ) من سعته ( ط ) آتاه الله ( ط ) يسراً ( ه ) نكراً ( ه ) خسراً ( ه ) الألباب ( ه ز والوصل ههنا والوقف على ) آمنوا ( أجوز من العكس ) ذكراً ( ه لأن ما بعده بدل أو غيره كما يجيء ) إلى النور ( ط ) أبداً ( ط ) رزقاً ( ه ) مثلهن ( ط ) علماً ( ه .
التفسير : لما نبه في آخر السورة المتقدمة على معاداة بعض الأزواج والمعاداة كثيراً ما تفضي إلى الفراق بالطلاق أرشد في هذه السورة إلى الطلاق السني الذي لا يحرم إيقاعه وإلى أحكام أخر معتبرة في فراق الزوجين .
وقبل الخوض في تقرير أقسام الطلاق نقول : إنه يورد ههنا سؤال وهو أنه كيف نادى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وحده ثم قال ) إذا طلقتم ( على الجمع ؟ والجواب أنه كما يقال لرئيس القوم يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهاراً لتقدمه وأن من سواه من قومه تبع له في الخطاب .
وقيل : الجمع للتعظيم والمراد بالخطاب النبيّ أيضاً. وقيل : أراد يا أيها النبي والمؤمنون فحذف للدلالة .
وقيل : يا أيها النبي قل للمؤمنين .
ومعنى ) إذا طلقتم ( إذا أردتم تطليقهن كقوله ) فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ) [ النحل : 98 ] واللام في قوله ) لعدتهنّ ( بمعنى الوقت أي للوقت الذي يمكنهنّ الشروع في العدّة وهو الطهر الذي لم يجامعها فيه .
وقال جار الله : فطلقوهن مستقبلات لعدّتهن كقولك ( أتيته لليلة بقيت من شهر كذا ) أي مستقبلاً لها .
قال الفقهاء : السنيّ طلاق المدخول بها التي ليست بحامل ولا صغيرة ولا آيسة في غير حالة البدعة ، والبدعيّ طلاق المدخول بها في حيض أو نفاس أو طهر جامعها فيه ولم يظهر حملها .
فلتحريم الطلاق سببان : أحدهما وقوعه في حال الحيض إذا كانت المرأة ممسوسة وكانت ممن تعتدّ بالإقراء لقوله تعالى ) فطلقوهن لعدّتهن ( وطلق ابن عمر امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال : مرة ليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم يطلقها إن شاء .
فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلق لها النساء .
والمعنى فيه أن بقية الحيضة لا تحسب من العدة فتطول عليها مدة التربص .
وثانيهما إذا جامع امرأته في طهرها وهي ممن تحبل ولم يظهر حملها حرم عليه أن يطلقها في ذلك الطهر لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) في قصة ابن عمر ( ثم إن شاء طلقها قبل أن يسمها ) ولأنه ربما يندم على الطلاق لظهور الحمل .(6/312)
" صفحة رقم 313 "
هذا تقرير السنة والبدعة من جهة الوقت .
أما السنة والبدعة من جهة العدد فقال مالك : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة وكان يكره الثلاث مجموعة أو مفرقة على الأطهار .
وقال أبو حنيفة واصحابه : يكره ما زاد على الواحدة في طهر واحد ، فأما متفرقاً في الأطهار .
وقال لما روي في قصة ابن عمر : إنما السنة أن يستقبل الطهر استقبالاً ، ويطلق لكل قرء تطليقه .
وقال الشافعي : لا بأس بإرسال الثلاث وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة .
وقد يستدل بما روي في حديث اللعان أن اللاعن قال : هي طالق ثلاثاً .
ولم ينكر عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت الشيعة : إذا طلقها ثلاثاً يقع واحدة .
ومنهم من قال : لا يقع شيء وهو قول سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين .
والأصح عند أكثر المجتهدين أن الطلاق البدعي واقع وإن كان صاحبه آثماً وعاصياً وهذا مبنيّ على أن النهي لا يوجب فساد المنهي عنه .
وفي قصة ابن عمر أنه قال : يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثاً ؟ فقال له : إذن عصيت وبانت منك امرأتك .
قالت العلماء : المحرم هو الطلاق بغير عوض فأما إذا خلع الحائض أو طلقها على مال فلا إطلاق قوله تعالى ) فلا جناح عليهما فيما أفتدت به ) [ البقرة : 229 ] ولأن المنع كان رعاية لجانبها وبدل المال دليل على شدة الحاجة إلأى الخلاص بالمفارقة .
قال جار الله : اللام في قوله ) النساء ) للجنس وقد علم بقوله ) فطلقوهن لعدتهن ( أنه مطلق على البعض وهنّ ذوات الأقراء المدخول بهن فلا عموم ولا خصوص .
قلت : ما ضره لو جعله عاماً لأنه إذا روعي الشرط المذكور في هذا البعض لزم أن يكون طلاق كل النساء من الصغيرة والآيسة والحامل وغير المدخول بها والمدخول بها بحيث يمكنهن أن يشرعن الطلاق في العدة .
قوله ) وأحصوا العدة ( أي اضبطوها واحفظوا عدد أيامها ثلاثة أقراء كوامل لا أزيد ولا أنقص ) لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ ( يعني من مساكن الراق وهي بيوت الأزواج أضيفت إليهن لاختصاصها بهنّ من حيث السكنى إلى انقضاء العدة ، وكما أن البعولة لا ينبغي أن يخرجوهنّ غضباً عليهنّ أو لحاجة لهم إلى المساكن الفراق وهي بيوت الأزواج أضيفت بأنفسهنّ .
وقوله ( إلا أن يأتين ( استثناء من الجمة الأولى أي إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهنّ ، أو إلا أن يطلقهن على النشوز فإن النشوز يسقط حقهنّ في السكنى ، أو إلا أن يبذون فيحل إخراجهنّ لبذائهن ويؤيده قراءة أبيّ ) إلا أن يفحشن عليكم ( وقيل : خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه .
والمعنى إن خرجت فقد أتت بفاحشة مبينة وعلى هذا يكون الاستثناء من الجملة الثانية .
قوله ) لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً ( أي أحصوا العدة وألزموهن مساكنكم فلعلكم تندمون بقلب الله البغضة محبة والمقت مقة والطلاق رجعة .
والخطاب في ) لا تدري ( للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) على نسق أول السورة أو لكل مكلف ) فإذا بلغن(6/313)
" صفحة رقم 314 "
أجلهنّ ( أي شافن انقضاء عدتهن فأنتم بالخيار إن شئتم فالرجعة لا على وجه الضرار بل بالشرع والعرف ، وإن شئتم فالفراق بالمرعوف كما مر في ( البقرة ) ) وأشهدوا ( على الرجعة أو الفرقة و ) ذوى عدل منكم ( أي من جنسكم من المسلمين قاله الحسن .
وعن قتادة : من أحراركم .
وهذا الإشهاد أن لا يقع التجاحد وأن لا يتهم في إمساكها أو يموت أحدهما فيدعي الآخر ثبوت الزوجية لأجل الميراث .
ثم حث الشهود على أن لا يشهدوا إلا لوجه الله من غير شائبة غرض أخروي أن عرض دنيوي ) ذلكم ( الحث على أداء الشهادة لله ) يوعظ به من ( هو من أهل الإيمان بالله والمعاد لأن غيره لا ينتفع به ، ويجوز أن تكون الإشارة بذلكم إلى ما مر من الإمساك أو الفراق بالمعروف لا على وجه الضرار فيكون موافقاً لما مر في ( البقرة ) إلا أنه وحد كاف الخطاب هنالك لأنه أكد الكلام بزيادة منكم ، وههنا جمع فلم يحتج إلى لفظ منكم والله تعالى أعلم بأسرار كلامه .
ثم حض على التقوى في كل باب ولا سيما فيما سبق من أمر الطلاق وكأنه قال ) ومن يتق الله ( فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد ) يجعل له مخرجاً ( وخلصاً من غموم الدنيا والآخرة ومن جملة ذلك تأيم الأزواج ) ويرزقه ( من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه بدل ما أدى وبذل من المهر والحقوق .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ) ) ومن يتق الله ( فما زال يقرؤها ويعيدها .
وروي أن عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً ، فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : أسر ابني وشكا إليه الفاقة .
فقال : ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق الله واصبر وأكثر من قول ال حول ولا قوة إلا بالله .
ففعل ، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدوّ فاستاقها فنزلت هذه اآية .
قلت : قد جربت الآية في محن ومهالك فوجدت مفرجة منفسة .
ومن أسرار القرآن ولطائفه أنه سبحانه حث على التقوى في هذه السورة ثلاث مرات : بقوله ) ومن يتق الله ( وذلك على عدد الطلقات الثلاث ، ووعد في كل مرة نوعاً من الجزاء : الأول أنه يخرجه مما دخل فيه وهو كاره ويتيح له خيراً ممن طلقها .
الثاني اليسر في الأمور والموالاة في المقاصد ما دام حياً .
الثالث أفضل الجزاء وهو ما يكون في الآخرة من النعماء .
ثم حث في التوكل بثلاث جمل متقاربة الخطى : الأولى ) ومن يتوكل على الله فهو حسبه ( لأن المعبود الحقيقي القادر على كل شيء الغنيّ عن كل شيء الجواد بكل إذا فوض عبده الضعيف أمره إليه لا يهمله البتة .
الثاني ) إن الله بالغ أمره ( أي يبلغ كل أمر يريده ولا يفوته المطلوب .
الثالثة ) قد جعل الله(6/314)
" صفحة رقم 315 "
لكل شيء قدراً ( أي وقتاً ومقداراً .
وهاتان الجملتان كل منهما بيان لوجوب التوكل عليه لأنه إذا علم كونه قادراً على كل شيء وعلم أنه قد بيّن وعيّن لكل شيء حداً ومقدراً لم يبقَ إلا التسليم والتفويض .
قال جار الله : قال المفسرون : إن ناساً قالوا : قد عرفنا عدة ذوات الأقراء فما عدة اللواتي لم يحضن فنزلت ) واللائي يئسن ( فمعنى إن ارتبتم إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهن .
قلت : في حصة هذه الرواية نظر فإن السورة ليس فيها بيان عدة ذوات الأقراء وإحالتها على ما في ( البقرة ) ، والمطلقات يتربصن لا يجوز لأن هذه مكية وتلك مدنية .
نعم لو ثبت أن هذه متأخرة النزول كان له وجه كما روي عن عبد الله بن مسوعد : من شاء باهلته إن سورة النساء القصرى نزلت بعد التي في البقرة والجمهور أن المراد أن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أو استحاضت ) فعدّتهن ثلاثة أشهر ( وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب أولى .
وسن اليأس مقدر بخمس وخمسين وبستين .
والمشهور عند أكثر أصحاب الشافعي النظر إلى نساء عشيرتها من الأبوين ، فإذا بلغت السن التي ينقطع فيها حيضهن فقد بلغت سن اليأس ) واللائي لم يحضن ( هن الصغائر والتقدير فعدتهن أيضاً ثلباثة أشهر حذف لدلالة ما قبله عليه .
قوله ) وأولات الأحمال ( أي النساء الحوامل ) أجلهن ( بعد الطلاق أو بعد وفاة الزوج أي اقنضاء عدتهن ) أن يضعن حملهن ( هذا قول أكثر الأئمة والصحابة وإما تنقضي العدة بوضع الحمل بتمامه .
فلو كانت حاملاً بتوأمين لم تنقض العدة حتى ينفصل الثاني بتمامه ، وإنما يكون الولدان توأمين إذا ولدا على التعاقب وبينهما دون ستة أشهر وإلا فالثاني حمل آخر. وعن علي وابن عباس أن عدة الحامل المتوفي عنها زوجها أبعد الأجلين من بقية الحمل ومن أربعة أشهر وعشر ، ووضع الحمل لا يتفاوت بكونه خحياً أو ميتاً أو سقطاً أو مضغة لا صورة فيها ، وصدقت المرأة بيمينها لأنهنّ مؤتمنات على أرحامهنّ .
وحين كرر شرط التقوى كان لسائل أن يسأل : كيف يعمل بالتقوى في شأن المعتدات ؟ فقيل ) أسكنوهن من حيث سكنتم ( أي بعض مكان سكناكم الذي تطيقونه .
والوجد .
الوسع والطاقة .
قال قتادة : فإن لم يكن إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه .
قال أبو حنيفة : السكنى والنفقة واجبتان لكل مطلقة .
وعند الشافعي ومالك : ليس للمبتوتة إلا السكنى .
وعن الحسن وحماد : لا نفقة لها ولا سكنى لما في حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : لا سكنى لك ولا نفقة .
وضعف بقول عمر : لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا لقول امرأة نسيت أو شبه لها سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول لها السكنى والنفقة ) ولا تضاروهن ( بإنزال مسكن لا يوافقهن أو بغير ذلك من أنواع المضار حتى تضطروهن إلى الخروج وقيل : هو أن يراجعها كلما قرب انقضاء عدتها ليضيق أمرها وقد يلجئها إلى(6/315)
" صفحة رقم 316 "
أن تفتدي منه .
قوله ) وإن كن أولات حمل ( تخصيص للحامل بالنفقة لأجل الحمل وإن كانت بائنة .
هذا عند الشافعي ، وأما عند أبي حنيفة ففائدته أن مدة الحمل ربما تطول فيظن ظان أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحامل فنفى ذلك الوهم ، وأما الحامل المتوفى عنها فالأكثرون على أنه لا نفقة لها لوقوع الإجماع على من أجبر الرجل على إنفاقه من امرأة أو ولد صغير لا يجب أن ينفق عليه من ماله بعد موته فكذلك الحامل .
وعن علي وعبد الله وجماعة ومنهم الشافعي أنهم أوجبوا نفقتها .
ثم بين أمر الطفل قائلاً ) فإن أرضعن ( أي هؤلاء المطلقات ) لكم ( أي لأجلكم ولداً منهن أو من غيرهن بعد انفصام عرى الزوجية .
وهذه الإجارة لا تجوز عند أبي حنيفة وأصحابه إذا كان الولد منهن ما لم تحصل البينونة .
وجوز الشافعي مطلقاً كلما صار .
ثم خاطب الآباء والأمهات جميعاً بقوله ) وأتمروا ( قال أهل اللغة : الائتمار بمعنى التآمر كالاشتوار بمعنى التشاور أي ليأمر بعضكم بعضاً بالجميل وهو المسامحة وأن لا يماكس الأب ولا تعاسر الأم على التعاسر كما تقول لمن تطلب منه حاجة وهو يتأنى في قضائها : سيقضيها في أمر مؤنة الإرضاع ) فسترضع ( أي الطفل ) له ( أي للأب مرضعة ) أخرى ( وفيه طرف من معاتبة الأم على التعاسر كما تقول لمن تطلب منه حاجة وهو يتأنى في قضائها : سيقضيها قاضٍ .
يريد لا تبقى غير مقضية وأنت ملوم .
ثم بين أن ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات هو بمقدار الوسع والطاقة كما في ( البقرة ) على الموسر قدره وعلى المقتر قدره إلى أن يفتح الله أبواب الرزق عليهم .
ثم هدد من خالف الأحكام المذكورة بأحوال الأمم السابقة .
والحساب الشديد أي بالاستقصاء والمناقشة ، والعذاب النكر أي المنكر الفظيع .
يحتمل أن يراد بهما حساب الدنيا وعذابها وهو إحصاء صغائرهم وكبائرهم في ديوان الحفظة وما أصاب كل قوم من الصيحة ونحوها عاجلاً ، وأن يراد عذاب الآخرة وحسابها .
ولفظ الماضي لتحقق الوقوع مثل ) وسيق ) [ الزمر : 72 ] ( ونادى ) [ الأعراف : 38 ] وعلى هذا يكون قوله ) أعد الله ( تكريراً للوعيد وبياناً لكونه مترقباً كأنه قال : أعد الله لهم هذا العذاب فاحذروا مثله ) يا أولى الألباب ( وجوز جار الله أن يكون ) عتت ( وما عطف عليه صفة للقرية و ) أعد الله ( عاملاً في ) كأين ( .
قوله ) رسولاً ( قال جار الله : هو جبرائيل أبدل من ) ذكراً ( لأنه وصف بتلاوة آيات الله وكان إنزاله في معنى إنزال الذكر فصح إبداله منه ، أو أريد بالذكر الشرف كقوله ) وإنه لذكر لك ولقومك ) [ الزخرف : 44 ] فأبدل منه كأنه في نفسه شرف إما لأنه شرف للمنزل عليه وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله ، أو جعل لكثرة ذكره الله وعبادته كأنه ذكر ، أو أريد ذا ذكر ملكاً مذكوراً في السموات وفي الأمم كلها ،(6/316)
" صفحة رقم 317 "
أو دل قوله ) قد أنزل الله ( على أرسل فكأنه قيل : أرسل رسولاً أو أعمل ) ذكراً ( في ) رسولاً ( إعمال المصدر في المفاعيل أي أنزل الله أن ذكر رسولاً أو ذكره رسولاً .
قلت : لم يبعد على هذه الوجوه أن يكون المراد بالرسول هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
ثم ذكر غاية الإنزال أو التلاوة بقوله ) ليخرج ( والمعنى ليخرج الله أو الرسول ) الذين ( عرف منهم أنهم سيؤمنون من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، أو ليوفقهم بعد الإيمان والعمل الصالح لمزيد البيان والعيان الذي ينجيل به ظلم الشكوك والحسبان .
قوله ) قد أحسن الله له رزقاً ( فيه معنى التعجب والتعظيم .
ثم ختم السورة بالتوحيد الذي هو أجل المطالب وتفسيره ظاهر مما سلف مراراً إلا أن ظاهر هذهه الآية يدل على أن الأرض متعددة وأنها سبع كالسموات فذهب بعضهم إلى أن قوله ) مثلهن ( أي في الخلق لا في العدد .
وقيل : هن الأقاليم السبعة ، والدعوة شاملة لجميعها .
وقيل : إنها سبع أرضين متصل بعضها ببعض وقد حال بينهم بحار لا يمكن قطعها والدعوة لا تصل إلأيهم .
وقيل : إنها سبع طبقات بعضها فوق بعض لا فرجة بينها وهذا يشبه قول الاحكماء : منها طبقة هي أرض صرفة تجاوز المركز ، ومنها طبقة طينية تخالط سطح الماء من جانب التقعير ، ومنها طبقة معدنية يتولد منها المعادن ، ومنها طبقة تركبت بغيرها وقد انكشف بعضها ، ومنها طبقة الأدخنة والأبخرة على اختلاف أحوالها أي طبقة الزمهرير ، وقد تعدّ هذه الطبقة من الهواء .
وقيل : إنها سبع أرضين بين كل واحدة منها إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام كما جاء في ذكر السماء وفي كل أرض نمها خلق حتى قالوا : في كل منها آدم وحواء ونوح وإبراهيم وهم يشاهدون السماء من جانب أرضهم ويستمدون الضياء منها أو جعل لهمنوراً يستضيئون به .
وذكر النقاش في تفسيره فصلاً في خلائق السموات والأرضين وأشكالهم وأسمائهم أضربنا عن إيرادها لعد الوثوق بمثل تلك الروايات .
ومعنى ) تنزل الأمر بينهن ( أن حكم الله وأمره يجري فيما بين السموات والأرضين أو فيما يتركب منهما ولا يعلم تلك الأجرام ولا تلك الأحكام ولا كيفية تنفيذها فيهن إلا علام الغيوب تعالى وتقدس .(6/317)
" صفحة رقم 318 "
سورة التحريم
( سورة التحريم وهي مدنية حروفها ألف وستون كلماتها مائتان وتسع وأربعون آياتها اثنتا عشرة آية ) بسم الله الرحمن الرحيم
( التحريم : ( 1 - 12 ) يا أيها النبي . . . .
" يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين " ( القراآت ) عرف ( بالتخفيف : عليّ ) تظاهرا ( عاصم وحمزة وعلي وخلف .
) أن(6/318)
" صفحة رقم 319 "
يبدله ( بالتشديد : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) نصوحاً ( بضم النون : يحيى وحماد ) وكتبه ( على الجمع : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص .
الوقوف ) لك ( ج لاحتمال أن الجملة بعده حال أو استفهامية بحذف الحرف وهذا أحسن ، لأن تحريم الحلال بغير ابتغاء مرضاتهن أيضاً غير جائز ) أزواجك ( ط ) رحيم ( ه ) أيمانكم ( ج لعطف الجملتين المختلفتين ) مولاكم ( ط للابتداء بذكر ما لم يزل من الوصفين مع اتفاق الجملتين ) الحكيم ( ه ) حديثاً ( ج ) عن بعض ( ج ) هذا ( ط ) الخبير ( ه ) قلوبكما ( ج ) المؤمنين ( ه لتناهي الشرط إلى الإخبار ) ظهير ( ه ) وأبكاراً ( ه ) ما يؤمرون ( ه ) اليوم ( ط ) تعملون ( ه ) نصوحاً ( ط ) الأنهار ( لا بناء على أن الظرف يتعلق بقوله ) ويدخلكم ( وج لاحتمال أن ) يوم ( متعلق بقوله ) يسعى ( بعد ) واغفر لنا ( ج للابتداء بأن مع احتمال اللام ) قدير ( ه ) عليهم ( ه ) جهنم ( ط ) المصير ( ه ) لوط ( ط لابتداء الحكاية ) الداخلين ( ه ) فرعون ( ج لئلا يتوهم أن الظرف متعلق ب ) ضرب ( يل التقدير ( اذكروا ) ) ألظالمين ( ه لأن ما بعده معطوف على امرأة فرعون ) القانتين ( ه .
التفسير : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يأتي زينب بنت جحش فيشرب عندها العسل ، فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له : إنما نشم منك ريح المغافير .
والمغفور والمغثور شيء واحد ينضحه العرفط والرمث مثل الصمغ وهو حلو كالعسل ويؤكل وله ريح كريهة .
وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يكره التفل فحرم لقولهما على نفسه العسل .
الثاني أنه أم أحل الله له من ملك اليمين .
وههنا روايتان : الأولى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) خلا بمارية القبطية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها : اكتمي عليّ وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي ، فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين .
الثانية أنه خلا بمارية في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية فقال عمر لابنته : لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك .
فنزل جبريل ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : راجعها فإنها صوّامة قوّامة وإنخا لمن نسائك في الجنة .
قال جمع من العلماء : لم يثبت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تحريم حلال بأن يقول : هو عليّ حرام ولكنه كان يميناً كقوله ( والله لا أشرب العسل ولا أقرب الجارية بعد اليوم ) فقيل له : لم تحرم أي لم تمتنع منه بسبب اليمين يعني أقدم على ما حلفت عليه وكفر عن يمينك ) والله غفور ( لك ) رحيم ( بك لوالدليل عليه ظاهر .
قوله ) قد فرض الله لكم تحلة ( بمعنى التحليل كالتكرمة ) أيمانكم ( أي شرع لكم تحليلها بالكفارة .
وقيل : قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك حلل فلان في يمينه إذا استثنى فيها وذلك أن يقول : إن شاء الله عقبها حتى لا يحنث .
والتحلة تفعلة بمعنى التحليل كالتكرمة(6/319)
" صفحة رقم 320 "
بمعنى التكريم .
عن الحسن أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكفر عن يمينه لأنه كان مغفوراً له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين .
وعن مقاتل أنه أعتق رقبة في تحريم مارية .
وما حكم تحريم الحلال ؟ قال أبو حنيفة : هو يمين على الامتناع من الانتفاع المقصود ، فلو حرم طعاماً فهو يمين على الامتناع من أكله ، أو أمه فعلى الامتناع من وطئها ، أو زوجة فمحمول على ما نوى ، فإن نوى الظهار فظهار ، أو الطلاق فطلاق بائن ، وإن لم ينو شيئاً فعلى الإيلاء ، وإن قال : كل حلال عليه حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو وإلا فعلى ما نوى ، وعن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد أن الحرام يمين .
وقال الشافعي : هو في النساء من صرائح ألفاظ الطلاق .
وعن عمر : إذا نوى الطلاق فرجعي .
وعن علي رضي الله عنه : ثلاث .
وعن عثمان : ظهار .
وعن مسروق والشعبي أنه ليس بشيء فما لم يحرمه الله ليس لأحد أن يحرمه ) والله مولاكم ( متولي أموركم وقيل : أولى بكم من أنفسكم ونصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم ) وهو العليم ( بما يصلحكم ) الحكيم ( فيما يأمركم به وينهاكم عنه ) و ( اذكر ) إذا أسرّ النبي إلى بعض أزواجه ( وهي حفصة ) حديثاً ( هو حديث مارية وإمامة الشيخين ) فلما نبأت به ( حفصة عائشة ) وأظهره الله ( على نبيه أي أطلعه على إفشائه على لسان جبريل .
وقيل : أهر الله الحديث على النبي فيكون من الظهور ) عرف بعضه ( أعلم ببعض الحديث .
ومن قرأ بالتخفيف من العرفان فمعناه المجازاة من قولك للمسيء ( لأعرفنّ لك ذلك ) وكان جزاؤه تطليقه إياها .
وقيل : المعرف حديث الإمامة والمعرض عنه حديث مارية .
وإنما أعرض عن البعض تكرماً .
قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام .
وروي أنه قال لها : ألم أقل لك اكتمي عليّ ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحاً بالكرامة التي خص الله بها أبي .
وإنما ترك المفعول ولم يقل ( فلما نبأت به بعضهنّ وعرفها بعضه لأن ذلك ليس بمقصود وإنما الغرض ذكر جناية حفصة في وجود الإنباء به ، وأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكرمه وحلمه لم يوجد منه إلا الإعلام بالبعض وهو حديث الإمامة .
ولما كان المقصود في قوله ) من أنبأك هذا ( ذكر المنبأ به أتى بالمفعولين جميعاً .
ثم وبخ عائشة وحفصة على طريقة الالتفات قائلاً ) إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ( أي فقد وجد منكما ما يوجب التوبة وهو ميل قلوبكما عن إخلاص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من حب ما يحبه وبغض ما يكرهه والأصل قلباكما .
ووجه الجمع ما مر في قوله ) فاقطعوا أيديهما ) [ المائدة : 38 ] ( وإن تظاهرا ( أي تعاونا على ما يوجب غيظه فلم يعدم هو من يظاهره كيف والله ) مولاه ( أي ناصره ) وجبريل ( خاصة من بين الملائكة ) وصالح المؤمنين ( قال أكثر العلماء : هو واحد في معنى الجمع لأنه أريد الجنس لشمول كل من آمن وعمل صالحاً وجوز أن يكون جمعأً وقد أسقط الواو في الخط لسقوطه في اللفظ .
عن سعيد بن جبير :(6/320)
" صفحة رقم 321 "
هو كل من برىء من النفاق .
وقيل : الأنبياء والصحابة والخلفاء .
) والملائكة ( على كثرة جموعهم ) بعد ذلك ( الذي عرف من نصرة المذكورين ) ظهير ( فوج مظاهر له كأنهم يد واحدة فأي وزن لاتفاق امرأتين بعد تظاهر هؤلاء على ضد مطلوبهما .
ولا يخفى أن الكلام مسوق للمبالغة في الظاهر وإلا فكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً .
ثم وبخهما بنوع آخر وهو قوله ) عسى ربه إن طلقكنّ ( الآية .
والسائحات الصائمات كما في آخر التوبة .
قال جار الله : شبه الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره بالسائح الذي لا زاد معه فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد من يطعمه .
وقيل : السائحات المهاجرات فانظر في شؤم العصيان فإن أمهات المؤمنين وهنّ خير نساء العالمين يصير غيرهن بفرض عدم العصيان خيراً منهن بفرض العصيان وتطليق الرسول إياهن .
وقد عرفت في النظائر أن الواو في قوله ) وأبكاراً ( يقال لها ( واو الثمانية ) إلا أن للواو في هذا المقام فائدة أخرى وهي أن وصفي الثيابة والبكارة متنافيان لا يكون إلا أحدهما بخلاف الصفات المتقدمة فإنها ممكنة الاجتماع ، فالمراد أن أولئك النساء جامعات للأوصاف المتقدمة ولأحد هذين .
ثم عمم التحذير فقال ) قوا أنفسكم ( وهو أمر من الوقاية في الحديث ( رحم الله رجلاً قال يا أهلاه صلاتكم وصيامكم وزكاتكم مسكينكم ويتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعهم معه في الجنة ) وتفسير قوله ) وقودها الناس والحجارة ( قد مر في أول ( البقرة ) وكونها معدّة للكافرين لا ينافي تعذيب المؤمنين الفسقة بها إن استحقوها .
وجوز أن يكون أمراً بالتوقي من الارتداد وأن يكون خطاباً للذين آمنوا بألسنتهم ) عليها ملائكة ( أي موكل على أهلها الزبانية التسعة عشر الموصوفن بالغلظة والشدة في الإجرام أو في الأفعال أو فيهما لأنه لا تأخذهم رأفة بمن عصى الله .
وقوله ( ما أمرهم ( نصب على البدل أي لا يعصون أمر الله ولا يخفى أن عدم العصيان يستلزم امتثال الأمر فصرح بما عرف ضمناً قائلاً ) ويفعلون ما يؤمرون ( ويجوز أن يكون الأوّل عائداً إلى الماضي والثاني إلى المستقبل .
ثم وعظ المؤمنين بما يقال للكافرين عند جخولهم النار وهو قوله ) لا تعذروا ( لأنه لا عذر لكم أو لا عذر مقبولاً لكم ، وليس هذا من قبيل الظلم ولكنه جزاء أعمالهم .
ثم أرشد المؤمنين إلى طريق التوبة ، ووصفت بالنصوح على الإسناد المجازي لأن النصح صفة التائبين وهو أن ينصحوا أنفسهم بالتوبة لا يكون فيها شوب رياء ولا نفاق .
وقيل : هو من نصاحة الثوب أي توبة ترفأ خروقك في دينك .
وقيل : خالصة عسل ناصح إذا خلص من الشمع .
وقيل : توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها .
و ) عسى ( من الكريم إطماع ولئلا يتكلوا .
قوله ) لا يخزي ( تعريض لمن أخزاهم من أهل النار ) ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) [ آل عمران : 192 ] كأنه استحمد المؤمنين على أنه عصمهم من مثل(6/321)
" صفحة رقم 322 "
حالهم .
قوله ) نورهم يسعى ( قد مرّ في الحديد قوله ) يقولون ربنا أتمم لنا نورنا ( أي قائلين ذلك إذا طفىء نور المنافقين خوفاً من زواله على عادة البشرية ، أو لأن الإخلاص والنفاق من صفة الباطن لا يعرفه إلا الله سبحانه على أنه يجوز أن يدعو المؤمن بما هو حاصل له مثل اهدنا ، ويجوز أن يدعو به من هو أدنى منزلة لأن النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلاً لا مجازاة لانقطاع التكليف والعمل يومئذ .
ثم أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بجهاد الكفار بالسيف والمانفقين بالحجة أو بإقامة الحدود عليهم ، وأمر باستعمال الغلظة والخشونة على الفريقين هذا عذابهم في الدنيا ولهم في الآخرة جهنم وقد سبق نظير الآية في ( التوبة ) .
ثم ضرب مثلاً لأهل الكفر امرأة نوح واسمها قيل واعلة وامرأة لوط .
واسمها قيل واهلة ومثلاً لأهل الإيمان امرأة فرعون واسمها آسية وهي عمة موسى ومريم ابنة عمران .
وفي ضمن التمثيلين تعريض بما مرّ في أول السورة من حال عائشة وحفصة وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين لا الكافرتين اللتين حين خانتا زوجيهما لم يغنيا عنهما من عذاب الله شيئاًن وقيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة ) ادخلا النار مع ( سائر ) الداخلين ( الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء من قوم نوح وقوم لوط أو من كل قوم .
وفي قوله ) عبدين من عبادنا ( إشارة إلى أن سبب المزية والرجحان عند الله ليس إلا الصلاح كائناً من كان .
وخيانة المرأتين ليست هي الفجور وإنما هي نفاقهما وإبطانهما الكفر وتظاهرهما على الرسولين .
فامرأة نوح قالت لقومه إنه لمجنون ، وامرأة لوط دلت على ضيفانه .
قال ابن عباس : ما بغت امرة نبي قط .
عن أبى هريرة أن آسية حين آمنت بموسى عليه السلام وتدها فرعون باربعة أوتاد واستقبل بها الشمس وأضجعها على ظهرها ووضع الرحى على صدرها .
قال الحسن : فنجاها الله أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتنعم فيها .
وقيل : لما ) قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ( بنى من درّة .
ومعنى ) عندك بيتاً في الجنة ( أنها طلبت القرب من الله والبعد عن عدوّه في مقام القرب ، أو أرادت أعلى موضع في الجنة .
وقولها ) من فرعون وعمله ( كقولك ( أعجبني زيد وكرمه ) وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله من الأشرار دأب الصالحين .
والضمير في ) فيه ( للفرج وقيل : هو جيب الدرع وقد مرّ في ( الأنبياء ) .
وكلمات الله صحف إبراهيم وغيره أو جميع ما كلم الله به وكتبه اللوح أو الكتب الأربعة ومن وحد فهو الإنجيل .
وقرىء ) بكلمة الله ( أي بعيسى ) وكانت من القانتين ( من باب التغليب كما مرّ في قوله ) واركعي مع الراكعين ) [ آل عمران : 43 ] وقيل : ( من ) للابتداء أي ولدت منهم لأنهم من أعقاب هرون عليه السلام .
تم الجزء الثامن والعشرون ويليه الجزء التاسع والعشرون وأوله تفسير سورة الملك(6/322)
" صفحة رقم 323 "
سورة الملك
الجزء التاسع والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
( سورة الملك وهي مكية حروفها ألف وثلثمائة وثلاثة عشر كلمها ثلثمائة وخمس وثلاثون آياتها ثلاثون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الملك : ( 1 - 30 ) تبارك الذي بيده . . . .
" تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير(6/323)
" صفحة رقم 324 "
الكافرين من عذاب أليم قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين " ( القراآت ) من تفوّت ( من التفعل : حمزة وعلي ) هل ترى ( بالإدغام : أبو عمرو وحمزة وعلي وهشام ) ولقد زينا ( مثل ) لقد سمع ( : ابن فليح ) فسحقا ( بالضم : يزيد وعلي الآخرون : بالسكون ) أءمنتم ( بهمزتين : حمزة وعلي وخلف وابن عامر .
والباقون ) ءأمنتم ( بتوسيط ألف بين الهمزتين ) نذيري ( ) ونكيري ( كنظائرهما .
) سيئت ( مثل ضربت : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي ورويس .
) يدعون ( بسكون الدال : يعقوب .
) أهلكني الله ( بسكون الياء : حمزة ) معي ( بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وعاصم غير يحيى وحماد ) فسيعلمون ( على الغيبة : علي .
الوقوف ) الملك ( ط لنوعاختلاف بين الجملتين من حيث تقدم الظرف في الأولى ) قدير ( ه لا لأن ) الذي ( بدل ) عملاً ( ه ) الغفور ( ه لا لأن ما بعده صفة أو بدل ) طباقاً ( ط ) تفاوت ( ط ) البصر ( ط في الموضعين لأن ما بعد الأول مفعول أي فانظر هل ترى ، وما بعد الثاني ظرف مع أن الجواب منتظر ) فطور ( ه ) حسير ( ه ) السعير ( ه ) جهنم ( ط ) المصير ( ه ) تفور ( ه لا لأن ما بعده خبر آخر أو بدل ) الغيظ ( ط ) نذير ( ه ) من شيء ( ط ج لاحتمال أن ما بعده من تمام قول الكفار وأن يكون مقول قول محذوف للخزنة ) كبير ( ه ) السعير ( ه ) يذنبهم ( ج لابتداء الشتم مع الفاء ) كبير ( ه ) أو اجهروا به ( ه ط ) الصدور ( ه ) خلق ( ط لتناهي الاستفهام مع أن الواو يحسن حالاً .
) الخبير ( ه ) من رزقه ( ط ) النشور ( ه ) هي تمور ( ه لا لأن أم معادل ) أم أمنتم ( ) حاصباً ( ط لابتداء التهديد ) نذير ( ه ) نكير ( ه ) ويقبض ( ) الرحمن ( ط ) بصير ( ه ) الرحمن ( ط ) غرور ( ه ) رزقه ( ط ) ونفور ( ه ) مستقيم ( ه ) والأفئدة ( ط ) تشكرون ( ه ) تحشرون ( ه ) صادقين ( ه ) عند الله ( ط ص ) مبين ( ه ) تدعون ( ه ) رحمنا ( لا لأن ما بعده جواب الشرط ) أليم ( ه ) توكلنا ( ج ومن قرأ ) فسيعلمون ( بياء الغيبة فوقفه مطلق للعدول ) مبين ( ه ) معين ( ه .
التفسير : كثير خير من تحت تصرفه وتسخيره ) الملك ( الحقيقي ) وهو على ( إيجاد ) كل ( ممكن وإعدامه ) قدير ( بيانه أنه ) خلق الموت والحياة ( وهما عرضان يتعاقبان على كل من صح عليه ذلك .
فالموت نظير الإعدام والحياة مثلا الإيجاد ، وتقديم الموت لأن الأصل في الأشياء العدم ، قال مقاتل : يعني كونه نطفة وعلقة ومضغة ثم نفخ فيه الروح(6/324)
" صفحة رقم 325 "
وعن ابن عباس : الموت في الدنيا والحياة في الآخرة دار الحيوان ، وإن الله خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد رائحته شيء إلا مات ، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي ، قال الحكماء الإسلاميون : هذا على سبيل التمثيل وإلا فالعرض لا يكون جوهراً .
أقول : لعل الأملح والبلقاء إشارة إلى أن هذين العرضين في عالمنا هذا لا يطرآن إلا على ما فيه طبائع متضادة فتكون بسبب ذلك تارة وتفقد أخرى .
قال جار الله : إنما قدم الموت لأن أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه ، فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم .
زعم الكلبي أنه تعالى قادر على مثل مقدور العبد ، وقال أبو علي وأبو هاشم : إنه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد .
وقالت الأشاعرة : إنه قادر على القبيلين وإلا لم يكن على كل شيء قدير وهو خلاف الآية فلزمهم صحة وجود مقدور بين قادرين وبهذا بطل القول بالطبائع على ما تقوله الفلاسفة ، وبالمتولدات على ما تقوله المعتزلة ، ويكون العبد موجد الأفعال نفسه .
ومعنى الغاية في قوله ) ليبلوكم ( أنه إذا علم أن وراء الموت حياة وحالة يستوي فيها الغني والفقير والموىل والعبد ولا ينفعه إلأا ما قدم من خير صار ذلك داعياً إلى جسن العمل وزاجراً عن ضده .
وكذا لو قيل : إن الموت حال كونه نطفة والحياة نفخ الروح في الجنين فإنه إذا تفكر في أمور نفسه علم أن وراء هذه الحياة موتاً ينقطع به تدارك ما فات ، وأن الدنيا مزرعة الآخرة .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه تلاها فلما بلغ قوله ) أيكم أحسن عملاً ( قال : أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله .
وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال لقومه ( لو أكثرتم ذكرها ذم اللذات لشغلكم عما أرى ) والابتلاء مجاء كما مر في قوله ) وإذ ابتلى إبراهيم ( وفي الكهف قوله ) أيكم أحسن عملاً ( مفعول ثاني ) ليبلوكم ( على أنه متضمن معنى العلم وليس هذا من باب التعليق لأن التعليق هو أن تكون الاستفهامية سادة مسد المفعولين جميعاً نحو ( علمت أزيد منطلق ) نعم إنه تعليق على قول الفراء والزجاج لأنهما قالا تقديره ليبلوكم فيعلم أ ] كم أحسن عملاً ) وهو العزيز ( الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل ) الغفور ( لمن تاب من أهل الإساءة ، وهذان الوصفان يتوقفان على كمال القدرة والعلم فلا جرم دل عليهما ) الذي خلق سبع سموات طباقاً ( أي ذات طباق أو طوبقت طباقاً أو هو وصف بالمصدر مبالغة أي مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا طار طارقها .
ثم أشار إلى أنها محكمة متقنة بقوله ) ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ( أو تفوّت قال(6/325)
" صفحة رقم 326 "
الفراء : وهما واحد ومعناه يرجع " لى عدم التناسب والنظام بحيث يقول الناظر الفهم لو كان كذا لكان أحسن ، والخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو لكل راءٍ .
والأصل ما ترى فيهن فعدل إلأى العبارة الموجودة تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على أنه سبب تناسبهن كقوله ( خلق الرحمن ) .
فلو علم للمكلفين أنفع من هذا الخلق لفعل .
وفسر بعضهم التفاوت بالفطور لقوله ) هل ترى من فطور ( أي صدوع وشقوق وخروق وفتور كل هذه من عبارات المفسرين وهو كقوله في أول ( ق ) ) وما لها من فروج ) [ ق : 4 ] وإنما أمر برجع البصر لأن النظرة الأولى حمقاء ، ثم أمر بتكرير رجع البصر كرتين وهو تثنية الكرة مثل لبيك وسعديك إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة فإنه لا يعثر على شيء من الخلل والعيب ، ومعنى ) خاسئاً ( بعيداً عن إصابة الملمس ، قوله ) ولقد زينا ( قد مر تفسيره في ( حم السجدة ) .
والرجوم جمع رجم مصدر سمي به ما يرجم به .
وقيل : معناه جعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم الأحكاميون من أهل التنجيم. وحين بين أنه أعد لهؤلاء عذاب السعير في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا عمم الوعيد بقوله ) وللذين كفروا ( الآية .
ثم وصف جهنم بصفات منمها أن ) لها شهيقاً ( تشبيهاً لحسيسها المنكر الفظيع بصوت الحمار .
ويجوز أن يكون الشهيق لأهلها ممن تقدم طرحهم أو من أنفسهم ومنها الفوران .
قال ابن عباس : تغلي بهم كغلي المرجل .
وقال مجاهد : تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل .
ويجوز أن يكون من فور الغضب يؤيده قوله ) تكاد تميز من الغيظ ( يقال فلان يتميز غيظاً وغضباً فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء إذا وصفوه بالإفراط فيه ، ولعل السبب في هذا المجاز هو أن الغضب حالة تحصل عند غليان دم القلب ، والدم عند الغليان يصير أعظم حجماً ومقداراً فيمدد الأوعية حتى كادت تنشق وتنخرق ، فجعل ذكر هذا اللازم كناية عن شدة الغضب ، وقيل : الغيظ للزبانية احتجت المرجئة بقوله ) كلما ألقي ( الآية .
على أنه لا يدخل النار إلأا الكفار لأنه تعالى حكى عن كل من ألقي فيها أنه قال كذبنا النذير أجاب القاضي بأن النذير قد يطلق على ما في المقول من الأدلة المحذرة عن المعصية فيشمل الفاسق ، القائلون بأن معرفة الله وشكره لا يجبان إلأا بعد ورود الشرع .
احتجوا بأنه تعالى ما عذبهم إلا بعد مجيء النذير .
ثم حكى عن أهل النار أنهم يقولون للخزنة ) لو كنا نسمع ( الإنذار سماع من كان طالباً للحق أو نعقله عقل متأمل متفكر ) ما كنا في أصحاب السعير ( وإنما جمع بين السمع والعقل لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل واحتج بالآية من فضل السمع على البصر لأنه تعالى جعل مناط الفوز السمع ولم يذكر البصر القائل بأن الدين لا يتم إلا بالتعليم .
احتج بأنه قدم السمع على العقل تنبيهاً على أنه لا بد أولاً من إرشاد(6/326)
" صفحة رقم 327 "
المرشد وهداية الهادي .
وأجيب بأن سبب التقديم هو أن المكلف لا بد أن يسمع قول الرسول ثم يتفكر يه .
قال في الكشاف : ومن بدع التفاسير أن لامراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أوعلى مذهب أصحاب الرأي ، ثم قال في إبطاله كأن هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين ، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم ، وكأن من كان من هؤلاء فهو من الناجين لا محالة .
قلت : الإنصاف أن نزول الآية قبل المذهبين لا ينافي توبيخ أهل النار يوم القيامة أنفسهم بأنهم على تلك السيرة ، وكم من قصة قد أخبر الله بوقوعها من قبل أن تقع وهو أحد أنواع إعجاز القرآن ، أيضاً لا يلزم من كونهما ناجمين كون غيرهما من أهل الوعيد .
وأيضاً على هذا التفسير بأنهم على تلك السيرة ، وكم من قصة النجاة قطعاً فينضم إلى المبشرين أفراد غير محصورة فضلاً عن حادي عشر فيكون دعوى انحصار المبشرين في العشرة مصادرة على المطلوب .
والفاء في قوله ) فاعترفوا ( للنتيجة أي فصح بعد البيانات السابقة أنهم اعترفوا ) بذنبهم ( قال مقاتل : يعني تكذيبهم الرسل .
قال الفراء : الذنب ههنا بمعنى الجمع لأن فيه معنى الفعل كما يقال : خرج عطاء الناس أي أعطيتهم .
ثم بين أن ذلك الاعتراف مما لا ينفع قائلاً فيه ) فسحقاً ( أي فبعداً لهم عن رحمة الله اعترفوا أو جحدوا .
والتخفيف والتثقيل لغتان والمعنى أسحقهم الله سحقاً .
وقال أبو علي : إسحاقاً إلا أن المصدر جاء على الحذف كقولهم ( عمرك الله ) ثم أتبهم الوعيد الوعد قائلاً ) إن الذين ( الآية .
وقد مر مراراً .
ثم هدد على العموم فقال ) وأسروا ( وهو من التسرية وعلل ذلك بقوله ) أنه عليم بذات الصدور ( قال ابن عباس : كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء فيخبره جبرائيل فقالوا : أسروا قولكم لئلا يسمعه إلأه محمد فأنزل الله الآية بياناً لجهلهم .
ثم استدل على كمال علمه بنوع آخر قائلاً ) ألا يعلم من خلق ( ومحل ( من ) رفع أي ألا يعلم من خلق مخلوقه ، وذلك أن خلق الشيء يتوقف على معرفة تفاصيل كمياته وكيفياته من خلقه ، وجوز أن يكون ( من ) بمعنى ( ما ) ويكون إشارة إلى ما يسره الخلق ويجهرونه ويضمرونه في صدورهم ، وهذا يقتضي أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى .
وقد يستدل بالوجهين الأولين أيضاً على ذلك لأن العبد لو كان موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها بناء على الآية .
ولكن غير عالم بتفاصيلها لأنه لا يعرف مقادير حركته وسكونه وكمية الجواهر الفردة الواقعة على مسافته ، بل لا يعرف الأسباب السابقة والغايات اللاحقة لا بكلها ولا بأكثرها في كل من أعفاله .
وأنكر في الكشاف أن يكون قوله ) ألا يعلم ( متروك المفعول على تقادير كون ( من ) مرفوع المحل نحو ( فلان يعطي ) قال : لأن قوله ) وهو اللطيف(6/327)
" صفحة رقم 328 "
الخبير ( حال والشيء لا يوقت بنفسه فلا يقال : ألا يعلم وعو عالم ولكن ، ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء قلت : أما قوله ) ، هو اللطيف حال فممنوع ولم لا يجوز أن يكون مستأنفاً ، وعلى تقدير تسليمه فليس معنى قوله ) ألا يعلم ( متروك المفعول على تقدير كون ( من ) مرفوع المحل حتى يلزم توقيت الشيء بنفسه ، بل المعنى ألا يتصف الخالق بالعلم والحال أن علمه وصل إلى بواطن الأشياء وخبايا الأمورز وذلك أن المتصف بالأخص متصف بالأعم ضرورة .
قوله ) هو الذي جعل لكم الأرض ( قال أهل النظم : وجه التعلق أنه سبحانه وتعالى قال : أيها الكافرون أنا عالم بسركم وجهركم فكونوا خائفين مني محترزين من عقابي فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها وتعتقدون أنها أبعد الأشياء عن الإضرار بكم أنا الذي ذللتها لكم وإن شئت خسفت بكم إياها ، والذلول من كل شيء المناقد الذي يذل لك ، ومن ذلها أنه ما جعلها خشنة يمتنع المشي عليها ، ولا صلبة بحيث لا يمكن حفرها والبناء عليها ، ، لا متحركة على الاستقامة واستدارة ، بل جعلها ساكنة في جو الهواء عند المركز .
قال جار الله : المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل لأن ملتقى المنكبين من الغارب أبعد شيء من أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا كان هذا الموضع ذلولاً فما ظنك بغيره ، وعن ابنعباس والضحاك وقتادة أن مناكب الأرض جبالها وآكامها ، وإذا كانت هذه الأمكنة مع شخوصها وارتفاعها مذللة فغيرها أولى .
قال الحسن ومجاهد والكلبي ومقاتل ، وهو رواية عطاء عن ابن عباس واختاره الفراء وابن قتيبة : أن مناكبها جوانبها وطرقها ، ومنكبا الرجل جانباه فيكون كقوله ) والله جعل لكم الأرض بساطاً لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً ) [ نوح : 19 ، 20 ] ( وكلوا من رزقه ( الذي خلق لكم في الأرض ولا يخفى أن الأمر بالمشي والأكل للإباحة .
ثم قال ) وإليه النشور ( يعني ينبغي أن يكون مشيكم في الأرض وأكلكم من رزق الله مشي من يعلم وأكل من يتيقن أن المصير إلى الله ، والمراد التحذير من المعاصي سراً وجهراً .
ثم بين أن بقاءهم سالمين على هذه الأرض إنما هو بفضل الله ولو شاء لخسف بهم الأ ) ض أو أمطر عليهم مطر القهر ، واستدلال المشبهة بقوله ) من في السماء ( ظاهر .
وأهل السنة يتأولونه بوجوه منها : قول أبي مسلم أن العب كانوا يقرون بوجود الإله لكنهم يزعمون أنه في السماء فقيل لهم على حسب اعتقادهم ) أأمنتم من ( تزعمون أنه ) في السماء ( ومنها قول جمع من المفسرين أأمنتم من السماء ملكوته أو سلطانه أو قهره لأن العادة جارية بنزول البلاء من السماء .
ومنها قول آخرين أن المراد جبرائيل يخسف بهم الأرض بأمر الله والمور حركة في اضطراب وقد مر في ( الطور ) .
والحاصل ريح فيها حصباء وقد مر أيضاً .
ثم هدد وأوعد قائلاً ) فستعلمون كيف نذير ( قال(6/328)
" صفحة رقم 329 "
عطاء والضحاك عن ابن عباس : هو المنذر يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى فستعلمون رسولي وصدقه حين لا ينفعكم ذلكز وقيل : بمعنى الإنذار أي عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول ، ثم مثل بحال الأمم السابقة .
قال أبو مسلم : النكير عقاب المنكر .
وقال الواحدي : أراد إنكاري وتغييري .
ثم برهن على الوحدانية وكمال القدرة بوجوه : الأول ) أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ( أي باسطات أجنحتهن لأنهم إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً .
قال أهل المعاني : وإنما قيل ) ويقبضن ( دون ( قابضات ) على نحو ( صافات ) لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في كل منهما مد الأطراف وبسطها ، والقبض طارىء على البسط لأجل الإعانة فالمعنى أنهن صافات ويكون منهن القبض في بعض الأوقات كما يكون من السابح. وإنما قال في ( النحل ) ) ما يمسكهن إلا الله ) [ الآية : 79 ] وفي هذه السورة ) ما يمسكهن إلا الرحمن ( لأن التسخير في جو السماء محض الآلهية ، وأما صافات وقابضات فكان إلهامها كيفية البسط والقبض على الوجه المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن .
) إنه بكل شيء بصير ( فيعلم أو يرى كيف يدبر العجائب .
قالوا وفي الآية دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى ، لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري لها وقد أضافه الله تعالى إلى نفسه ، ثم إن الكفار كانوا يمتنعون من الإيمان ولا يلتفتون إلى دعوة الرسول وكان تعويلهم على أمرين : أحدهما القوة من جهة الإخوان والأعوان .
والثاني الاستظهار بالأصنام والأوثان وكانوا يقولون إنها توصل إلينا جميع الخيرات وتدفع عنا كل الآفات ، فأبطل الله الأول بقوله ) أمن هذا الذي ( يعني من يشار إليه من المجموع ويقال هذا الذي ) هو جند لكم ( هو ) ينصركم من دون الرحمن ( إن أرسل عذابه عليكم ) إن الكافرون إلا في غرور ( من الشياطين يغرونهم أن العذاب لا ينزل بهم ولو أنزل دفعه أصنامهم ، وأبطل الثاني بقوله ) أمن هذا الذي ( يشار إليه هذا الذي ) يرزقكم ( بزعمكم ) إن أمسك ( الله ) رزقه ( بإمساك أسبابه من المطر وغيره هل يقدر على رزقكم ) بل لجوافي عتو ( وتباعد عن الحق ) ونفور ( عنه بالطبع والأول دليل فساد القوة العلمية ، والثاني إشارة إلى فساد القوة النظرية .
ثم نبه على قبح هذين الوصفين قائلاً ) أفمن يمشي مكباً ( قال الواحدي ( أكب ) مطاوع ( كب ) .
وأنكر عليه صاحب الكشاف بأن مطاوع ( كب ) هو ( انكب ) ومثله ( قشعت الريح السحاب فانقشع ) وأما الهمزة في ( أكب ) و ( أقشع ) فللصيرورة أي صار ذا كب وقشع ، أو دخل فيهما ولا شيء من بناء أفعل مطاوعاً ولا يخفى أن هذا نزاع لفظي ، أما المثل فقيل : هو في حق راكب التعاسيف وفي الذي يمشي على الصراط السوي وقيل : هو الأعمى والبصير أو العالم والجاهل .
وعن قتادة : الكافر أكب على معاصي الله فحشره يوم القيامة على وجهه ،(6/329)
" صفحة رقم 330 "
والمؤمن كان على الدين الواضح فهداه الله للطريق السوي إلى الجنة .
ومنهم من قال : هو في شخصين فقال مقاتل : أبو جهل والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال عطاء عن ابن عباس : أبو جهل وحمزة بن عبد المطلب .
وعن عكرمة : أبو جهل وعمار بن ياسر : والأص التعميم وإن كان السبب خاصاً. البرهان الثاني ابتداء خلق الإنسان وتبيين جوارحه .
وفي قوله ) قليلاً ما تشكرون ( إشارة إلى أنه أعطاهم هذه القوى الشريفة ولكنهم ضيعوها في غير ما خلقت لأجله .
البرهان الثالث ذرء الناس ونشرهم ) في الأرض ( ثم أشار إلى المعاد بقوله ) وإليه تحشرون ( لأن القادر على البدء أقدر على الإعادة وقد مر نظير الآيتين في سورة ( المؤمنين ) .
وحين أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يخوفهم بعذاب الله حكى عن الكفار أنهم طالبوه بتعيين الوقت .
قال أبو مسلم : المراد كانوا ) يقولون متى هذا الوعد ( يعني العذاب النازل بعاد وثمود وغيرهما لقوله بعد ذلك ) فلما رأوه ( ومن حمل اللفظ على المستقبل وفسر الوعد بالقيامة كان قوله ) فلما رأوه ( من قبيل ) وسيق ) [ الزمر : 72 ] وأجابهم الله بقوله ) قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين ( العلم بوقوعه حاصل عندي وكان كافياً الإنذار والتحذير ، وأما العلم بوقته فليس إلا لله ولا حجة في النذارة إلى ذلك. والضمير في ) رأوه ( للوعيد في الدنيا أو في الآخرة والزلفة القرب .
قال الحسن : أراد عياناً لأن ما قرب من الإنسان رآه معاينة .
وقال في الكشاف : انتصابها على الحال أو الظرف أي رأو ذا زلفة أو مكاناً ذا زلفة .
قوله ) سيئت ( قال ابن عباس : اسودت وعلتها الكآبة والقترة كوجه من يقاد إلى القتل .
وقال الزجاج : تبين فيها السوء وهذا الفعل يستعمل لازماً ومتعدياً بمعنى القبح أو التقبيح .
قوله ) وقيل هذا الذي ( الأكثرون على أن القائلين هم الزبانية .
وقال آخرون : بل يقول بعضهم لبعض .
و ) تدعون ( تفعلون من الدعاء أي تتمنون وتستعجلون به ويؤيده قراءة من قرأ بالتخفيف .
وقيل : هو من الدعوى أي كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون وكنتم ببطلانه مدعين .
وقيل : استفهام على سبل الإنكار والمعنى ، أهذا ما ادعيتموه لا بل كنتم بسببه تدعون عدمه .
يروى أن كفار مكة كانوا يدعون على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى المؤمنين .
بالهلاك ويتربصون بهم الدوائر فأمر الله بنوعين من الجواب الأول .
) قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي ( كما تتمنون فنقلب إلى الجنة ) أو رحمنا ( بالنصرة وإمهال المدة كما نرجو ) فمن يجير الكافرين من عذاب ( النار فنحن متربصون لإحدى الحسنيين وأنتم هالكون بالهلاك الذي لا هلاك بعده ، وإن أهلكنا الله بالموت فمن يخلصكم من النار بعد موت هداتكم ؟ وإن رحمنا بالإمهال والغلبة عليكم فمن ينجيكم من العذاب فإن المقتول على أيدينا هالك ؟ وإن أهلكنا الله في الآخرة بذنوبنا ونحن له مسلمون فأي خلاص ومناص للكافرين ؟ وإن رحمنا(6/330)
" صفحة رقم 331 "
لأجل الإيمان فمن يرحم الكافرين ولا إيمان لهم ؟ النوع الثاني في الجواب ) قل هو الرحمن آمنا به ( ولم نكفر كما كفرتم ) وعليه ( خاصة ) توكلنا ( لا على غيره ، وفيه تعريض بالكفرة أنهم متكلون على الرجال والأموال وإذا كانت حالنا هكذا فكيف يقبل الله دعاءكم علينا ؟ ثم أشار إلى وجوب الاعتماد عليه في كل حاجة مع أنه برهان آخر على كمال قدرته ووحدانيته فقال ) قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً ( أي غائراً مصدر بمعنى الفاعل للمبالغة .
عن الكلبي : لا تناله الدلاء .
والمعين الجاري على وجه الأرض وقد ذكرنا الخلاف في اشتقاقه في ( الصافات ) .
يحكى أن بعض المتجبرين على الله قرئت الآية عنده فقال : تأتينا به الفؤس والمتكل فذهب ماء عينيه وهذا من الإعجاز .
قال مؤلف الكتاب : وحكم القريحة كذلك فإن فتح باب العويصات لا يتيسر إلأا بإعانة رب الأرض والسموات والله الموفق وإليه المآب وبالله التوفيق والنصر .(6/331)
" صفحة رقم 332 "
سورة القلم
( سورة نون مكية حروفها ألف وأربعمائة وستة وخمسون كلمها ثلثمائة آياتها اثنتان وخمسون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( القلم : ( 1 - 52 ) ن والقلم وما . . . .
" ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أم عندهم الغيب فهم يكتبون فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين " ((6/332)
" صفحة رقم 333 "
القراآت : ( ن والقلم ( مظهراً : يزيد وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وابن كثير ونافع وعاصم غير يحية وحمتد وغالب وهو الأصل للوقف .
ووجه الإخفاء نية الوصل ) أءن كان ( بهمزتين : حمة وأبو بكر وحماد ) آن كان ( بقلب الثانية ألفاً ، ابن عامر ويزيد ويعقوب الباقون بهمزة واحدة ) يبدلنا ( بالتشديد : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) لما تخيرون ( بتشديد التاء : البزي وابن فليح ) ليزلقونك ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع الآخرون : بالضم من الإزلاق .
الوقوف : ( يسطرون ( ه ط لأن ما بعده جواب القسم ) لمجنون ( ه ج لأن ما بعده يصلح مستأنفاً وعطفاً على جواب القسم ) ممنون ( ه ج لذلك ) عظيم ( ه ) ويبصرون ( ج لأن ما بعد مفعول ) المفتون ( ه ) سبيله ( ط لاتفاق الجملتين ) بالمهتدين ( ه ) المكذبين ( ه ) فيدهنون ( ه ) مهين ( ه لا ) بنميم ( ه لا ) أثيم ( ه لا ) زنيم ( ه ط لمن قرأ ) أن كان ( مستفهماً ) وبنين ( ه ومن قرأ مقصوراً يقف على البنين دون ) زنيم ( ) الأولين ( ه ) الخرطوم ( ه ) الجنة ( ط لاحتمال أن يكون ( إذ ) ظرفاً ليكون وأن يكون مفعول ( أذكر ) محذوفاً ) مصبحين ( ه لا لتعلق أن المفسرة ) صارمين ( ه ) يتخافتون ( ه لا ) مسكين ( ه ) قادرين ( ه ) الضالون ( ه لا لعطف ( بل ) واتحاد المفعول ) محرومون ( ه ) تسبحون ( ه ) ظالمين ( ه ) يتلاومون ( ه ) طاغين ( ه ) راغبون ( ه ) العذاب ( ط ) أكبر ( ) يعلمون ( ه ) النعيم ( ه ) كالمجرمين ( ه ط ) مالكم ( ص وقفة لطيفة لاستفهام آخر ) تحكمون ( ه ج ) تدرسون ( ه ج لأن ما بعده مفعول ) تدرسون ( وإنما كسرت ( أن ) لدخول اللام في خبرها ) تخيرون ( ه لا لأن ( أم ) معادل الاستفهام أو بمعن ألف الاستفهام ) القيامة ( لا لأن ( أن ) جواب الأيمان ) تحكمون ( ه ) زعيم ( ه لما مر في ) تخيرون ( ) شركاء ( ج للابتداء بأمر التعجيز مع الفاء ) صادقين ( ه ) فلا يستطيعون ( ه لا لأن ما بعده حال ) ذلة ( ط ) سالمون ( ه ) بهذا الحديث ( ط ) لا يعلمون ( ه ج للعطف ) لهم ( ط ) متين ( ه ) مثقلون ( ه ) يكتبون ( ه ) الحوت ( بناء على أن ( إذ ) مفعول ( اذكر ) مكظوم ( ه ط ) مذموم ( ه ) الصالحين ( ه ) لمجنون ( ه لئلا يوهم أن ما بعده مقول الكفار ) للعالمين ( ه .
التفسير : الأقوال المشتركة في فواتح نحو هذه اسورة مذكورة .
أما المخصوصة بالمقام فعن ابن عباس ومجاهد ومقاتل والسدى أن النون السمكة أقسم بالحوت الذي على ظهره الأرض وهو في بحر تحت الأرض السفلى ، أو بالحوت الذي احتبس يونس في بطنه ، أو بالحوت بالذي لطخ سهم نمرود بدمه ، اقوال .
عن ابن عباس في رواية الضحاك والحسن(6/333)
" صفحة رقم 334 "
وقتادة أن النون هو الدواة .
قال :
إذا ما الشوق برّح بي إليهم
ألقت النون بالدمع السجوم
فيكون قسماً بالدواة والقلم العظيم النفع فيهما فإن التفاهم يحصل بالكتابة كما يحصل بالعبارة .
وعن بعض الثقات أن اصحاب السجر يستخرجون من بعض الحيتان شيئاً أسود كالنقس أو أشد سواداً منه يكتبون منه فيكون النون .
وهو الحوت عبارة عن الدواة ، ويعضده ما روي ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أول شيء خلقه الله القلم ثم خلق النون وهو الدواة ثم قال اكتب ما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل فكتب ما هو كائن وما كان إلى يوم القيامة ثم ختم على القلم فلم ينطق إلى يوم القيامة ) وعن معاوية بن قرةمرفوعاً أن النون لوح من نور تكتب الملائكة فيه يأمرهم الله به .
وقيل : نهر في الجنة .
اعترض النحويون على هذه الأقوال كلها أن اللفظ إن كان جنساً لزم الجر والتنوين وكذا إن كان علماً منصرفاً ، وإن كان علماً غير منصرف لزم الفتح بتقدير حرف القسم ، وقيل : النون آخر حرف من حروف الرحمن فإنه يجتمع من الروحم ون هذا الإسم الخاص .
أما القلم فالأكثرون على أنه جنس أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض وقال آخرون : هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر أن ( أول ما خلق الله القلم ) والجوهرة التي وردت في الحديث ( أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وتسخنت فارتفع منها دخان وزبد فخلق من الدخان السماء ومن الزبد الأرض ) كلها واحدة ولعلك قد وقفت على تحقيق هذه المعاني في هذا الكتاب .
و ( ما ) في قوله ) وما يسطرون ( موصولة أو مصدرية والضمير لكل من يسطر أو للحفظة .
وقيل : أراد أصحاب القلم فحذف المضاف قال الزجاج : ( أنت ) اسم ( ما ) والخبر ) بمجنون ( وقوله ( بنعمة ربك ( كلام وقع في البين والمعنى انتفى عنك الجنون بواسطة إنعام ربك عليك ، أو انتفى عنك الجنون متلبساً بنعمة الله كما لو قلت : أنت عاقل بمحمد الله أي ثبت لك العقل حال كونك متلبساً بحمد الله ، أو أثبته لك حال كون التباسي بالحمد .
وقال عطاء وابن عباس : يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة وسائر الأخلاق الفاضلة وفيه إشارة إلى أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة وكمال العقل والاتصاف بكل ملكة وإذا كانت هذه النعمة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون وكلام العدى ضرب من الهذيان .
) وإن لك ( على احتمال أعباء النبوة ومشاق تبليغ الرسالة ) لأجراً غير ممنون ((6/334)
" صفحة رقم 335 "
قال الأكثرون : أي غير مقطوع كقوله ) عطاء غير مجذوذ ) [ هود : 108 ] وعن مجاهد ومقاتل والكلبي أنه غير مكدر عليك بسبب المنة .
وقالت المعتزلة : في تقرير هذا الوجه أن له ممنا لأنه ثواب يستوجبه على عمله وليس بتفضل ابتداء ، وضعف لأنه يلزم منه التكرار لأن الأجر عندهم شيء ينبىء عن كونه غير ممنون .
الحاصل أنه لا يمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا الخطب الجسيم وهو دعاء الخلق إلى الدين القويم فإن لك بسببه ثواباً عظيماً .
) وإنك لعلى خلق عظيم ( والخلق ملكة نفسانية يقدر معها على الإتيان بالفعل الجميل بمواتاة وسهولة ، فإذا وصفه مع ذلك بالعظم وهو كونه على الوجه الأجمل والنهج الأفضل لم يكن خلق أحسن منه .
وفيه إشارة إلى أن نعم الله تعالى كانت ظارهة نفي الجنون عنه ودلالة على تكذيب الحساد لأن المجنون لا خلق له يحمد أو عليه يعتمد ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان من حسن الخلق المتشابه بحيث كان مجمع أخلاق سائر الأنبياء وكان يوجد فيه ما كان متفرقاً فيهم ، وإليه الإشارة بقوله ) فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] أي اقتد بكل منهم فيما اختص به من الخلق الكريم وفي قوله ) لعلى ( إشارة إلى أنه مستول على أحسن الأخلاق الفاضلة لا يزعه عنها وازع .
قال سعيد بن هشام : قلت لعائشة : أخبريني عن خلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قالت : كان خلقه القرآن .
وفي روياة : قرأت ) قد أفلح المؤمنون ) [ المؤمنون : 1 ] وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال : لبيك ، وقال أنس : خدمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشر سنين فما قال لي في شيء فعلته لمَ فعلته ولا في شيء لم أفعله هلا فعلت ، ثم سلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وهدد أعداءه بقوله ) فستبصر ( يا محمد ما قدر لك من عز الدارين ) ويبصرون ( في الدنيا بالقتل والسبي كما في بدر أو في الآخرة .
قوله ) بأيكم المفتون ( قال الأخفش وأبو عبيدة وابن قتيبة : الباء صلة والمعنى أيكم المفتون وهو الذي فتن بالجنون .
وقال الفراء والمبرد والحسن والضحاك عن ابن عباس : المفتون مصدر بمعنى المجنون كالمعقول والمجلود .
وقيل : الباء بمعنى ( في ) وعل هذا يجوز أن يكون الفتون بمعنى المجنون أي في أي الفريقين من يستحق هذا الاسم أو في إيهما الشيطان لأن الشيطان مفتون في دينه .
وكانت العرب تزعم أنه من يخبله الجن فقال الله تعالى سيعلمون غداً بأيهم الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون وإختلاط العقل ، وفيه تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأضرابهما .
ثم أ ؛ ال كيفية الحال إلأى كمال علمه فقال ) إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ( أي بمن جن ) وهو أعلم بالمهتدين ( وهم العقلاء .
والأظهر أن يراد الضلال في غوائلهم والاهتداء في الدين وفيه وعد ووعيد .
قال المفسرون : إن المشركين أرادوا من النبي أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة وهم يعبدون الله مدة وآلهتهم مدة فأنزل الله تعالى ) فلا(6/335)
" صفحة رقم 336 "
تطع المكذبين ( وهو كالنتيجة لما تقدمه لأنه سبحانه حين وعده أنصار العز والرفعة في الدارين وأوعد أعداءه بضد ذلك وكان علمه شاملاً بحال الفريقين وجزائهما لم يبق لطاعة الأعداء وجه .
ثم ذكر تمنيهم فقال ) ودوا لو تدهن ( تلين وتصانع ) فيدهنون ( أي فهم يدهنون حينئذ لأن النفاق يجر النفاق أي ودوا ادهانك فهم الآين يدهنون طمعاً في ادهانك .
قال المبرد : أدهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر .
ثم حض النبي قائلاً ) ولا تطع كل حلاف مهين ( لأن من أكثر الحلف بالله ولم يعرف قدر المعبود بالحق أذله الله .
وفيه إشارة إلى أن عزة النفس منوطة بتصحيح نسبة العبودية ، ومهانة النفس مربوطة بالغفلة عن سر الربوبية .
وأيضاً الحلاف يتفق له الكذب كثيراً والكذب حقير عند الناس .
الناس بالمكروه .
وعن الحسن : يلوي شدقيه في أقفية الناس .
) مشاء بنميم ( أي لأجل سعاية .
والنميم مصدر نم ينم ) مناع للخير ( أي للمال أو مناع أهل الخير وهو الإسلام فذكر الممنوع منه دون الممنوع فكأنه قال مناع من الخير ) معتد ( مجاوز في الظلم حده ) أثيم ( كثير الإثم ) عتل ( غليظ في الخلقة جاف في الخليقة .
الزنيم الدعي ومعنى ) بعد ذلك ( التبعيد في الرتبة أي مع الأوصاف المعدودة له هذا الوصف الذي هو أشنعها لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث جميع أخلاق الولد .
عن ابن عباس في رواية أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي كان موسراً وله عشر بنين يقول لهم : من أسلم منكم منعته رفدي وفي رواية أخرى ليس من سنخهم ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده ويقال : بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية .
وقوله ( أن كان ( بهمزة واحدة تقديره لأن كان أي لا تطع صاحب هذه المثالب لكثرة ماله وولده ومن قرأ بهمزتين فمعناه ألأن كان ) ذا مال ( كذب فمتعلق الجار مدلول .
قوله ) إذا تتلى لعيه آياتنا قال ( وذلك أن قال لا يصلح أن يعمل فيه لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ولا قوله ) يتلى ( لأنه مضاف إيله .
عن مجاهد أنه الأسود بن عبد يغوث وعن السدى : الأخنس بن شريق أصله في ثقيف وعداده في زهرة .
وقيل : كان الوليد دعياً في قريش ) سنسمه على الخرطوم ( أي الأنف وفيه استخفاف به من جهة الوسم ومن جهة التعبير عن أنف الآدمي بالخرطوم الذي هو أنف الحيوانات المنكرة كالخنزير والفيل كما لو عبر عن شفاه الناس بالمشافر ، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر ، ثم الأنف أكرم موضع من الوجه ولهذا قيل : الجمال في الأنف وله التقدم ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأنفة وقالوا : في الذليل ( جدع أنفه ورغم أنفه ) والوسم في الأنف إهانة فوق إهانة .
ومتى هذا الوسم ؟ منهم من قال في الدنيا فعن ابن عباس خطم يوم بدر بالسيف فبقيت سمته على خرطومه .
وعن النضر بن(6/336)
" صفحة رقم 337 "
شميل : الخرطوم الخمر أي سنسمه على شربها .
وسمي الخمر خرطوماً كما قيل لها السلافة وهو ما سلف عن عصير العنب ، أو لأنها تطير في الخياشيم وتؤثر فيها .
ومنها من قال في الآخرة نعلمه فعبر عن سواد الوجه كله بسواد الخرطوم .
ومنهم من قال في الدارين أي الخرطوم .
ولا شك أن هذه الأوصاف الذميمة وتبعاتها بقيت في حق الوليد بن المغيرة في الدنيا والآخرة كالوسم على الأنف والوسم على الجبهة .
ثم بين أنه إنما أعطى رؤساء مكة الآلاء ليواظبوا على شكر نعم الله وإلا صب عليهم بدل الآلاء البلاء ومكان السراء والضراء .
وهذه صورة الابتلاء كما أنه كلف أصحاب الجنة ذات الثمار أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم ، يورى أن واحداً من ثقيف وكان مسلماً كان ملك ضيعة فيها نخل وزروع بقرب صنعاء ، وكان يجعل منها نصيباً وافراً للفقراء ، فلما مات ورثها منه بنوه ثم قالوا : عيالنا كثير والمال قليل فلو فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا ) ليصر منها ( أي ليقطعن ثمر نخيلها في وقت الصباح ) ولا يستثنون ( أي لا يقولون ( إن شاء الله ) وأصله من الثني وهو الرد كأن الحالف يرد انعقاد اليمين بالثنيا .
ولعلهم إنما لم يقولوا إن شاء الله لوثوقهم بالتمكن من صوامها .
هذا قول الأكثرين .
وزعم الآخرون أن المراد يصومون كل ذلك ولا يستثنون للمساكين من جملته ذلك القدر الذي كان يدفع أبوهم إليهم ) فطاف عيلها ( عذاب ) طائف من ( حكمخ ) ربك ( أو بعض من عذاب ربك ، والطائف لا يكون إلا ليلاً .
قال الكلبي : أرسل الله عليها ناراً من السماء فاحترقت ) وهم نائمون فأصبحت ( الجنة ) كالصريم ( ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) أو معنى ( مفعول ) والأول قول من قال إنها لما احترقت صارت سوداء كالليل المظلم ، أو سمي الليل صريما لأنه يصرم نور البصر فيقطعه أو لأنه يقطع بظلمته عن التصرف ، وقيل : النهار يسمى أيضاً صريماً لأن كل واحد من الملوين ينصرم بالآخر فالصريم بمعنى الصارم .
ووجه التشبيه أنها يبست وذهبت خضرتها أو لم يبق منها شيء من قولهم ( صرم الإناء ) إذا أفرغه .
والثاني وهو الأولى قول من قال إنها لما احترقت كانت شبيهة بالمصرومة في هلاك الثمرة وإن كان أثر الاحتراق مغايراً لأثر الصوم .
وقال الحسن : أي صوم عنها الخير : وقيل : الصريم من الرمل قطعة ضخمة تنصرم عن سائر الرمال وجمعه للصرائم شبهت الجنة وهي محترقة لا ثمر فيها ولا خير بالرملة المنقطعة عن الرمال وهي ما لا تنبت شيئاً ينتفع به .
قال مقاتل : لما أصبحوا قال بعضهم لبعض ) اغذوا على حرثكم ( وعنوا بالحرث الزرع والثمار والأعناب ولذلك قالوا ) صارمين ( لأنهم أرادوا قطع الثمار من هذه الأشجار وضمن الغدو معنى الإقبال فلهذا عدي بعلى أي أقبلوا على حرثكم باكرين ، أو(6/337)
" صفحة رقم 338 "
عبر عن الغدو لأج الصرم بالغدو عليه كما قال : غدا عليهم العدو ) يتخافتون ( يتسارون فيما بينهم والنهي عن الدخول للمسكين نهي لأصحاب الجة عن تمكين المسكين منه كأنهم قالوا فيما بينهم لا تمكنوه من الدخول .
قوله ) وغدوا على حرد ( هو المنع ومنه حاردت السنة إذا منعت خيرها ، وحاردت الإبل إذا منعت درها ، أي قادرين على منع المساكين لا غير يعني أنهم عزموا على حرمان المساكين مع كونهم قادرين على نفعهم .
وغدوا بحال فقر وذهاب ثمر لا يقدرون فيها إلا على النكد والمنع .
وفيه أنهم طلبوا حرمان الفقراء فعورضوا بنقيض مقصودهم فتعجلوا الحرمان والمسكنة .
ويجوز أن تكون المحارجة للجنة أي غدوا حاصلين على منع الجنة خيرها لا على إصابة النفع منها .
ويجوز أن لا يكون قوله ) على حرد ( صلة ) قادرين ( ولكن الكل يعود إلى قوله ) أن اغدوا على حرثكم ( أي عاقبهم اله بأن حاردت جنتهم فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرج وقوله ( قادرين ( يكون من باب عكس الكلام للتهكم أي قادرين على ما عزموا عليه من الصراموحرمان المساكين .
وقيل : الحرد بالتسكين والتحريك وهو الأكثر بمعنى الغضب أي لم يقدروا إلا على غضب بعضهم على بعض كقوله ) يتلاومون ( وقيل : الحرد القصد والسرعة قطا حراد أي سراع يعني وغدوا على حالة سرعة ونشاط قادرين عند أنفسهم على صرامها ومنع خيرها من المساكين .
وقيل : حرد علم للجنة بعينها والمعنى كما تقدم لأن قوله ) إنا لضالون ( يحتمل أن يراد الضلال عن الطريق كأنهم لما رأوا جنتهم محترقة سبق إلى ذهنهم أنها ليست هي وأنهم ضلوا الطريق ، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا ) بل نحن محرومون ( حرمنا خيرها لشؤم عزمنا على البخل ومنع المساكين .
ويحتمل أن يراد الضلال عن الدين لأن منع حق الله نوع من الضلال .
ومعنى بل أنهم اعتقدوا كونهم قادرين على الانتفاع به ومنع الغير منها فقالوا : بل الأمر انقلب علينا فصرنا نحن المحرومين .
) قال أوسطهم ( أي أعدلهم وخيرهم كما مر في قوله ) وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) [ البقرة : 143 ] ( ألم أقل لكم لولا تسبحون ( قال الأكثرون : معنى التسبيح ههان الاستثناء لأنه تعالى وبخهم بقوله ) ولا يستثنون ( والاستثناء نوع من التنزيه لأنه لو دخل في الوجود شيء على خلاف مشيئته كان نقصاً في كمال القدرة .
وعن الحسن : هو الصلاة كأنهم يتكاسلون فيها وإلا لنهتهم عن الفحشاء والمنكر .
وقال آخرون : إن أوسطهم كان يقول لهم عند عزمهم على منع حقوق الفقراء : لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من هذه العزيمة الخبيثة .
لم يلتفتوا إلى قوله إلا بعد خراب الجنة قائلين ) سبحان ربنا ( عن أن يجري في ملكه شيء على خلاف مشيئته .
قالت المعتزلة : سبحان الله عن الظلم وعن كل قبيح ) إنا كنا ظالمين ( بمنع المعروف وترك الاستثناء .
ومعنى ) يتلاومون ( يلوم بعضهم بعضاً يقول واحد لغيره : أنت(6/338)
" صفحة رقم 339 "
أشرت علينا بهذا الرأي ويقول الآخر : أنت خوفتنا بالفقر .
ويقول الثالث : أنت الذي رغبتني في جمع المال .
ثم قالوا جميعاً ) يا ويلنا إنا كنا طاغين ( اعترافاً بالذنب ثم قووا رجاءهم قائلين ) عسى ربنا ( الآية .
سئل قتادة عنهم أهم نم أهل الجنة أم من أهل النار ؟ فقال : لقد كلفتني تعباً كأنه توقف في المسألة .
وعن مجاهد : إن هذه كانت توبة منهم فأبدلوا خيراً منها .
وعن ابن مسعود : بلغني أنهم أخصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً .
ثم هدد المكلفين بقوله ) كذلك العذاب ( أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة من القحط والقتل وبلونا أصحاب الجنة عذاب الدنيا ) ولعذاب الآخرة ( أشد وأعظم .
ثم مزج وعيد الأشقياء بوعد السعداء قائلاً ) إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم ( ليس فيها إلا النعيم الخالص لا يشوبه منغص كجنان الدنيا .
قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين : إن الله فضلنا عليكم في فنفى الله معتقدهم بقوله ) أفنجعل المسلمين كالمجرمين ( قال القاضي : فيه دليل واضح على أن وصفي المسلم والمجرم متنافيان فلا يكون الفاسق مسلماً .
وأجيب بأنه تعالى لم ينف المماثلة من كل الوجوه لتماثلهما في الجوهرية والجسمية وسائر الأوصاف التي لا تكاد تحصر ، فإذن المراد نفي التسوية في أثري الإسلام والإجرام ولا نزاع في ذلك فإن أثر أحدهما وعد وأثر الآخر وعيد أو يكون ثواب المسلم غير المجرم أكثرمن ثواب المسلم المجرم على أن المجرم في الآية يحتمل أن يراد به الكافر الذي ضرب مثل أصحابه الجنة فيه وفي أمثاله نظير الآية ) أم نجعل المتقين كالفجار ) [ ص : 28 ] وقد مر في ( ص ) .
ثم قال لهم على طريقة الالتفات ) ما لكم كيف تحكمون ( هذا الحكم المعوج وتخير الشيء واختاره إذا أخذ خيره ) أم لكم أيمان علينا ( يقال لفلان علي يمين بكذا إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به .
ومعنى ) بالغة ( مؤكدة مغلظة وقوله ( إلى يوم القيامة ( يجوز أن يتعلق ببالغة أي هذه الإيمان في قوتها وكمالها بحيث تنتهي إلى يوم القيامة لم تبطل منها يمين على أن يحصل المقسوم عليه وهو قوله ) إن لكم لما تحكمون ( ثم قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أو لكل من يستأهل الخطاب ) سلهم أيهم بذلك ( الحكم ) زعيم ( أي كفيل بالإستدلال على صحته ) أم لهم ( ناس ) شركاء ( في هذا القول .
والمراد من الآيات أنه ليس لهم دليل عقلي في إثبات مذهبهم ولا نقلي وهو كتاب يدرسون ولا عهد لهم به عند الله ولا زيعم لهم يقوم به ولا لهم من يوافقهم من العقلاء ، فدل ذلك على أنه باطل من كل الوجوه .
قوله ) يوم يكشف ( قيل : منصوب بقوله ) فليأتوا ( أي إن كانوا صادقين في أنها شركاء فليأتوا بها يوم القيامة لتنفعهم وتشفع لهم .
وقيل : بإضمار ( اذكر ) وقيل : التقدير يوم يكشف ) عن(6/339)
" صفحة رقم 340 "
ساق ( كان كيت وكيت .
احتجت المشبهة على أن لله ساقاً وأيدوه بما يروى عن ابن مسعود مرفوعاً أنه يتمثل الحق يوم القيامة ثم يقول : هل تعرفون ربكم ؟ فيقولون : إذا عرفنا نفسه عرفناه فعند ذلك يكشف الرحمن عن ساقه ، فأما المؤمنون فيخرون سجداً ، وأما المنافقون فتكون ظهورهم كالطبق الواحد وذلك قوله ) ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ( حال كونهم ) خاشعة أبصارهم ( يعني يلحقهم ذل بسبب أنهم لم يكونوا مواظبين على خدمة مولاهم في حال السلامة ووجود الأصلاب والمفاصل على هيآتها المؤدية للركوع والسجود .
وقال أهل السنة : الدليل الدال على أنه تعالى منزه عن الجسمية وعن كل صفات الحدوث وسمات الإمكان دل على أن لاساق لم يرد بها الجارحة ، فأولوه أنه عبارة عن شدة الأمر وعظم الخطب ، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهم ومثله .
( وقامت الحرب بنا على ساق ) .
ومعناه يوم يشتد الأمر ويتفاقم ولا كشف ثمة ولا ساق كما تقول للأقطع الشحيح ( يده مغلولة ) ولا يد ثمة ولا غل وإنما هو مثل في البخل ، وهكذا في الحديث ومعناه يتشد أمر الرحمن ويتفاقم هوله .
قال في الكشاف : ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إلأيه المشبه لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن .
وإنما جاءت منكرة في التمثيل للدلالة على أنه أمر فظيع هائل : قلت : الإنصاف أن هذا لا يرد على المشبه فإن له أن يقول إنما نكر الساق لأجل التعظيم أي ساق لا يكتنه كنة عظمتها كما يقول غيره .
وقال أبو سعيد الضرير : ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان ، فمعنى الآية يوم تظهر حقائق الأشياء ، وأصولها .
وقيل : يكشف عن ساق جهنم أو عن ساق العرش أو عن ساق ملك مهيب .
وقال أبو مسلم : هذا في الدنيا لأنه تعالى قال في وصف ذلك اليوم ) ويدعون إلى السجود ( ولا ريب أن يوم القيامة ليس فيه تعبد وتكليف فهو زمان العجز ، أو آخر أيام دنياه فإنه في وقت النزع ترى الناس يدعون إلى الصلاة بالجماعة إذا حضرت أوقاتها وهؤلاء لا يستطعيون الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع نفساً إيمانها .
والتحقيق أن الذي ذكره محتمل إلا أن في تعليله ضعفاً فإنا نوافقه أن يوم القيامة ليس وقت تعبد وتكليف .
ولكن لا مانع من الدعاء إلى السجود للتوبيخ والتفضيح على رؤس الأشهاد .
وقال الجبائي : لما خصص عدم الاستطاعة بالآخرة دل على أنهم كانوا يستطيعون فيبطل هذا قول من قال لا قدرة له على الإيمان ، والجمع بين المتنافيين محال فالاستطاعة في الدنيا أيضاً غير حاصلة على قول الجبائي .
والجواب الصحيح عندي أن عدم الاستطاعة في الدنيا لمانع آخر وهو أنه تعالى لم يرد منهم الإيمان وعلم منهم الكفر وقدر لهم ذلك ، وعدم الاستطاعة في الآخرة لمانع آخر له من السجود وهو لين المفاصل(6/340)
" صفحة رقم 341 "
ومطاوعة الأعصاب وسلامة الفقر .
ثم خوفهم بنوع آخر قائلاً ) فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ( وفيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه قال : حسبي مجازياً لمن يكذب بالقرآن فلا تشغل قلبك بشأنه .
وقوله ( سنستدرجهم ( إلى قوله ) مبين ( قد مر في آخر ( الأعراف ) .
وقوله ( أم تسألهم ( إلى ) يكتبون ( قد مر في ( الطور ) .
ثم أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بالصبر ونهاه عن الضجر في أمر التبليغ كحال يونس عليه السلام وقد تقدم مراراً .
قال بعض العلماء : معنى قوله ) كصاحب الحوت ( أنه كان في ذلك الوقت مكظوماً أي مملوءاً من الغيظ فكأنه قيل : لا تكن مكظوماً أولا يوحد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة .
وقال جمع من المفسرين : أن الآية نزلت بأحد حين حل بالمؤمنين أم حل فأراد أن يدعو على من انهزم .
وقيل : نزلت حين أراد أن يدعو على ثقيف والنعمة التي تداركت يونس أي التحقت به وسدت خلته هي النبوة أو عبادته السابقة ، أو قوله في بطن الحوت ( لا إله إلأا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) ، وهذه النعمة التوبة بالحقيق .
وقد اعتمد في جواب لولا على الحال أعني قوله ) وهو مذوم ( والمعن أن حاله كانت على خلاف الصبر حين نبذ بالعراء أي الفضاء كما مر في ( الصافات ) .
لولا تسبيحه لكانت حاله على الذم .
ويل : أراد لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ، ثم نبذ بعراء القيامة أي بعرصتها مذموماً ) فاجتباه ربّه ( بقبول التوبة ) فجعله من الصالحين ( أي من الأنبياء عن ابن عباس : رد الله إليه الوحي وشفعه في نفسه وقومه .
ثم أخبر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن حسد قومه وحرصهم على إيقاع المكروه به بعد أن صبره وشجعه فقال ) وإن يكاد ( هي مخففة من الثقيلة واللام دليل عليها .
زلفة بمعنى يقال زلق الرأس وأزلقه أي حلقه .
قال جار الله : يعني أنهم من شدة تخوفهم ونظرهم إليك سراً بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قمك أو يهلكونك من قولهم ( نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني أو يكاد يأكلني ) أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله .
ثم بين بقوله ) لما سمعوا الذكر ( أن هذا النظر كان يشتد منهم ي حال قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) القرآن حسداً على ما أوتي من النبوة .
) ويقولون إنه لمجنون ( حيرة في أمره وتنفيراً عنه مع علمهم بأنه أعقلهم ثم قال تعالى ) وما هو ( أي القرآن ) إلا ذكر ( وموعظة ) للعالمين ( وفيه استجهال أن يجنبن من جاء بمثله من الآداب والحكم وأصول كل العلوم والمعارف .
واعلم أن للعقلاء خلافاً في أن الإصابة بالعين هل لها في الجملة حقيقة أم لا ؟ وبتقدير كونها حقيقة فهل الآية مفسر بها أم لا ؟ أما المقام الأول فقد شرحناه في أول ( البقرة ) في قوله ) واتبعوا ما تتلوا الشياطين ) [ الآية : 102 ] وفي يوسف في قوله ) يا بني لا تدخلوا من باب واحد ) [ الآية : 67 ] والذي نقوله ههنا : فمنهم من أنكر ذلك بناء على أن تأثير الجسم في الجسم لا يعقل(6/341)
" صفحة رقم 342 "
إلا بواسطة المماسة وهو ضعيف لأن النفوس والأمزجة له تأثيرات خاصة .
ويروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر ) وأما المقام الثاني فقد قال بعض المفسرين : فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله إلا عانه .
فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : لم أر كاليوم رجلاً مثله .
فعصمه الله تعالى .
طعن الجبائي في هذا التأويل وقال : الإصابة بالعين مقرونة باستحسان الشيء ، والقوم كانوا يبغضون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأجيب بأنهم كانوا يبغضونه من حيث الدين إلا أنهم كانوا يستحسنون مصاحبته بإيراده الأعاجيب من الحجج والبيان وأنواع المعجزات .
وعن الحسن : دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية وبالله التوفيق .(6/342)
" صفحة رقم 343 "
سورة الحاقة
( سورة الحاقة مكية حروفها ألف وستة وخمسون آياتها اثنتان وخمسون وكلمها أربعمائة وثمانون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الحاقة : ( 1 - 52 ) الحاقة
" الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم ها هنا حميم ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم "
( القراآت )
وما أدراك ( بالإمالة حيث كان : حمزة وخلف والخراز عن هبيرة ،(6/343)
" صفحة رقم 344 "
وأبو عمرو والنجاري عن ورش ، وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ) فهل ترى ( كما في الملك ) ومن قبله ( بكسر القاف وفتح الباء : أبو عمرو وسهل ويعقوب الآخرون : بفتح القاف وسكون الباء ) وتعيها ( بسكون العين تشبيهاً بخاء ( فخذ ) : القواس عن حمزة عن خلف وخلف لنفسه والهاشمي عن قنبل والخزاعي عن ابن فليح وأبو ربيعة عن أصحابه ) فهي يومئذ ( بالإدغام : شجاع أبو شعيب ) لا يخفى ( على التذكير : حمزة وعلي وخلف ) كتابي ( ) وحسابي ( بغير هاء السكت في الوصل : سهل ويعقوب ) مالي ( و ) سطاني ( بدون الهاء في الوصل : حمزة وسهل ويعقوب ) يؤمنون ( و ) يذكرون ( على الغيبة : ابن كثير وسهل ويعقوب وابن عامر .
الوقوف : ( الحاقة ( ه لا لأن ما بعده خبرها ) ما الحاقة ( ه لا لاحتمال الواو بعده الحال والاسئناف ) الحاقة ( ه ) القارعة ( ه ) بالطاغية ( ه ط ) عاتية ( ط ) أيام ( لا لأن ) حسوماً ( صفة الثمانية ) صرعى ( لا لأن ما بعده صفة ) خاوية ( ه ج للاستفهام مع الفاء ) باقية ( ط ) بالخاطئة ( ه ) رابية ( ه ) ألجارية ( ه ج ) واعية ( ه ) واحدة ( ه لا ) واحدة ( ه ط ) الواقعة ( ه لا للعطف ) واهية ( ه لا لذلك ) رجائها ( ط لاختلاف النظم ) ثمانية ( ط ) خافية ( ه ) كتابيه ( ه ج ) حسابيه ( ه ج ) راضية ( ه لا ) عالية ( ه لا ) دانية ( ه ) الخالية ( ه ) كتابيه ( ه ج ) حسابيه ( ه ج ) القاضية ( ه ج ) ماليه ( ه كلها جائزات وتفصيلاً بين الندامات مع اتحاد المقولات ) سلطانية ( ه ) فغلوه ( ط للعطف ) صلوه ( ه لا لذلك ) فاسلكوه ( ه ط ) العظيم ( ه لا ) المسكين ( ه ط ) كريم ( ه لا ) غسلين ( ه لا ) الخاطئون ( ه ) تبصرون ( ه لا ) وما لا تبصرون ( ه لا ) كريم ( ه لا ) شاعر ( ط ) تؤمنون ( ه ) كاهن ( ط ) تذكرون ( ه أي هو تنزيل ) العالمين ( ه ) باليمين ( ه لا ) الوتين ( ه والوصل أجوز لدخول الفاء واتحاد الكلام ) حاجزين ( ه ) للمتقين ( ه ) مكذبين ( ه لا ) الكافرين ( ه ) اليقين ( ه ) العظيم ( ه .
التفسير : ( الحاقة ( وهي القيامة بالاتفاق إلا أنهم اختلفوا في سبب التسمية فقال أبو مسلم : هي الفاعلة من حقت كلمة ربك أي الساعة واجبة الوقوع لا ريب في مجيئها ، وقريب منه قول الليث أنها النازلة التي حقت فلا كاذبة لها .
وقيل : إنها التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة نم قولك لا أحق هذا أي لا أعرف حقيقته ، جعل الفعل لها وهو لأهلها ، وقيل : هي التي يوجد فهيا حواق الأمور وهي الواجبة الحصول من الثواب والعقاب وغيرهما من أحوال القيامة .
وهذا الوجه والذي تقدمه يشتركان في الإسناد المجازي إلا أن الفاعل في الأول بمعنى المفعول والثاني على أصله ، وقريب منه قول(6/344)
" صفحة رقم 345 "
الزجاج أنها تحق أي يكون فيها جميع آثار أعمال المكلفين ويخرج عن حد الانتظار .
قال الأزهري : سميت بذلك أنها تح قكل محاق في دين الله بالباطل أي تخاصم كل مخاصم وتغلبة .
وأورد في التفسير الكبير وجوهاً أخر إلى تمام العشرة فهي في التحقيق مكررة فلذلك حذفناها .
قوله ) ما الحاقة ( مبتدأ وخبره والمجموع خبر الحاق .
والأصل ما هي يعني وأي شيء هي ؟ وفي هذا الاستفهام تعظيم وتفخيم لشأنها ، وفي وضع الظاهر موضع المضمر تهويل فوق تهويل وفي قوله ) وما أدراك ما الحاقة ( مبالغة أخرى والمعنى أي شيء أعلمك ما الحاقة ؟ وفيه أن مدى عظمها بحيث لا يبلغه وصف واصف ولا نعت مخبر .
قال جار الله : ما يعني في ما الحاقة الثانية في موضع الرفع على الابتداء .
) وأدراك ( معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام .
قلت : ولولا ذلك لنصب الجزأين على أنهما مفعول ثان وثالث كقولك ( أعلمتك زيداً فاضلاً ) وحين ذكر الحاقة على أبلغ وجوه التعظيم أتبعها ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تخويفاً لأهل مكة فقال ) كذبت ثمود وعاد بالقارعة ( والأصل بها أي بالحاقة إلا أنه وضع القارعة موضع المضير ليدل بذلك على معنى الروع في الحاقة زيادة في وصف شدتها .
ولا ريب أنها تفزع الناس بالأفزاع والأهوال ، والسماء بالانشقاق ، والأرض بالدك ، والنجوم بالطمس إلى غير ذلك. وكانت عادة القرآن جارية بتقديم قصة عاد على ثمود إلا أنه قلب ههنا لأن قصة صمود بنيت على غاية الاختصار ومن عادتهم تقديم ما هو اخصر .
قوله ) بالطاغية ( أي بالواقعة المجاوزة للحد وهي الرجفة أو الصاعقة أو الصحية ، وقيل : الطاغية مصدر أي بسبب طغيانهم .
واعترض بأنه لا يطابق قصة عاد فأهلكوا بريح .
ويمكن أن يجاب بأن السبب الفاعلي والسبب الآلي كلاهما يشتركان في مطلق السببية ، وهذا القدر من المناسبة كافٍ في الطباق وعلى هذا القول يحتمل أن تكون الطاغية صفة موصوف أي بشؤم الفرقة الطاغية التي تواطأت على عقر الناقة .
ويجوز أن يراد بها عاقر الناقة وحده والتاء للمبالغة .
الصرصر الشديد الصوت أو الكثير سميت عاتية بشدة عصوفها .
قال جار الله : العتو استعارة قلت : لأنه مستعمل في مجاوزة الإنسان حد الطاعة والانقياد .
قال عطاء عن ابن عباس : يريد أن الريح عتت على عاد فما قدروا على ردها بحيلة من استتار ببيت واستناد إلى جبل ، فإنها كانت تزعجهم من مكانهم .
قال الكلبي : عتت على خزانها كما جاء في الحديث ( ما أرسل الله من ريح إلا يمكيال ولا قطرة من مطر إلا بمكيال إلا يوم نوح ويوم عاد ، فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان والريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل ) وقيل : العاتية من عتا النبت أي بلغ منتهاه وجف قال تعالى ) وقد بلغت من الكبر عتياً ) [ مريم : 8 ] أي ريح بالغة منتهاها ي الشدة والقوة(6/345)
" صفحة رقم 346 "
) سخرها ( أي سلطها بدليل ) عليهم ( وقال الزجاج : أقامها وقيل : أرسلها .
قوله ) حسوماً ( جمع حاسم كشهود جمع شاهد .
والتركيب يدور على القطع والاستئصال ومنه الحسام لأنه يحسم العدو عما يريد من بلوغ أمله ، وذلك أن تلك الريح حسمت كل خير واستأصلت كل بركة .
وقيل : إنها تتابعت من غير فتور ولا انقطاع حتى أتت عليهم ، فمثل تتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء مرة بعد أخرى إلى أن ينحسم .
ويجوز أن يكون ) حسوماً ( مصدراً كالدخول والخروج وعلى هذا انتصب بفعل مضمر أي يستأصل استئصالاً ، أو يكون وصفاً بالمصدر أي ذات حسوم ، أو مفعولاً له ، وقيل : هي أيام العجوز وذلك أن عجوزاً من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها .
والصحيح أنها أيام العجز وهي آخر الشتاء وأساميها .
الصن والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفىء الجمر .
وقيل : ومكفىء الظعن .
والضمير في ) فيها ( للجهات أو الليالي والأيام الخاوية الساقطة .
وقيل : الخاوية لأن الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم ، وعلى هذا يحتمل أن تكون الخاوية بمعن البالية لأن النخل إذا بليت خلت أجوافها والباقية مصدر .
وقيل : من نفس باقية : قال ابن جريج : كانوا سبع ليال وصمانية أيام أحياء في عذاب الله ، فلما كان اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر فذلك قوله ) فهل ترى لهم من باقية ( وقوله ( فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ) [ الأحقاف : 25 ] ومن قرأ ) ومن قبله ( بالفتح والسكون فظاهر أي ومن تقدمه من رؤساء الكفر والضلال كنمرود ونحوه .
ومن قرأ بالسكر والفتح أراد ومن عنده من أتباعه وجنوده .
والخاطئة مصدر أي بالخطأ أو صفة أي بالفعلة أو الأفعال ذوات الخطأ العظيم ) رابية ( من ربا الشيء يربو إذا زاد أي زائدة في الشدة كما كانت فعلاتهم زائدة في القبح .
وقيل : معنى الزيادة اتصال عذابهم في الدنيا بعذاب الآخرة .
) أغرقوا فأدخلوا ناراً ( ولاريب أن عذاب الآخرة أشد وكان عقابهم ينمو ويزيد إلى حد ليس فوقه عذاب .
قال الوحدي : الوجه في قوله ) رسول ربهم ( أن يكون رسول الأمم الماضية كلهم أعني موسى ولوطاً وغيرهما من رسل من تقدم فرعون كقوله ) أنا رسول رب العالمين ) [ الشعراء : 16 ] ولو جعل عبارة عن موسى عليه اسللام لزم التخصيص من غير مخصص .
ثم ذكر قصة بع من تقدم فرعون فقال ) إنا لما طغى الماء ( وطغيان الماء كعتو الريح وقد سبق في عدة سور .
ومعنى ) حملناكم ( حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم ) في الجارية ( في السفينة وهي سفينة نوح ) لنجعلها ( قال الفراء : أي الجارية لأنها المذكور والأظهر عودة إلى الواقعة والحالة وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكافرين فإنها هي التذكرة والعبرة ولقوله ) وتعيها أذن واعية ( من شأنها حفظ كل ما تسمع لتعمل به .
قال أهل اللغة :(6/346)
" صفحة رقم 347 "
كل ما حفظته في نفسك فقد وعيته وما تعيه في غير نفسك فقد أويته. يقال : أوعيت المتاع في البيت .
والشر أخبث ما أوعيت من زاد
قال جار الله : إنما قيل ) أذن واعية ( على التوحيد والتنكير للإيذان بأن الوعاغة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ، للدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت فهي عند الله بمكان وما سواها لا يلتفت إليه وإن ملأ العالم .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال لعلي رضي الله عنه عند نزول هذه الآية : سألت الله يجعلها أذنك يا علي .
قال علي رضي الله عنه : فما نسيت شيئاً بعد ذلك وما كان لي أن أنسى .
وحين فرغ من بيان القدرة والحكمة عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو حديث الحاقة ، والنفخة الواحدة عن ابن عباس أنها الأولى التي عندها خراب العالم ، وفي رواية عنه أنها الثانية لقوله بعد ذلك ) يومئذ تعرضون ( والعرض عند الثانية .
ولناصر الرواية الأولى أن يقول : اليوم اسم للحين الواسع الذي يقع فيه النفخات والصعقة والنشور والوقوف والحساب كما تقول ( جئته عام كذا ) وإنما جئت في وقت واحد من أوقاتها .
قوله ) واحدة ( صفة مؤكدة قوله ) وحملت ( أي رفعت من جهاتها بريح شديدة أو بملك أو بقدرة الله من غير واسطة .
والضمير في ) دكتا ( لجماعتي الأرض والجبال والمراد أن هاتين الجملتين يضرب بعضها ببعض حتى يندك ويرجع كثيباً مهيلاً منثوراً .
والدك أبلغ من الدق .
وقيل : فبسطتا بسطة واحدة صارتا قاعاً صفصفاً من قولك ( اندك السنام ) إذا انقرش ( وبعير أدك ) ( وناقة دكاء ) قوله ) فيومئذ ( جواب ) فإذا نفخ ( والواقعة النازلة وهي القيامة ) واهية ( مسترخية بعد أن كانت مستمسكة ) والملك ( جنس ولهذا كان أعم من الملائكة لشموله الواحد والاثنين دونها .
والأرجاء الجوانب جمع رجا مقصوراً .
والمعنى أن السماء إذا اشنقت عدلت الملائكة عن مواضع الشق إلى جوانب السماء .
سؤال : الملائكة يموتون في الصعقة الأولى فيكف يقفون على أرجاء السماء ؟ الجواب أنهم يقفون لحظة ثم يموتون أو هم المستثنون بقوله إلا ما شاء الله ، والضمير في ) فوقهم ( عائد إلى الملك على المعنى لأن التقدير الخلق الذي يقال له الملك ، والمقصود التمييز بينهم وبين الملائكة الذين هم حملة العرش ، وقال مقاتل : الضمير للحملة أي فوق رؤسهم والإضمار قبل الذكر جائز لأنه بعده حكماً كقوله ( في بيته يؤتى الحكم ) وعن الحسن : لا أدري ثمانية أشخاص أو ثمانية آلاف أو ثمانية صفوف .
وعن الضحاك : ثمانية صفوف ولا يعلم عددهم إلا الله .
قال المفسرون : الحمل على الأشخاص أولى لأن هذا أقل ما يصدق(6/347)
" صفحة رقم 348 "
اللفظ عليه والزائد لا دليل له ، وكيف لا والمقام مقام تهويل وتعظيم ؟ فلو كان المراد ثمانية آلاف لوجب ذكره ليزداد التعظيم والتهويل ويؤيده ما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة أخرى ) وروي ( ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤسهم ووهم مطرقون يسبحون ) وقيل : بعضهم على صورة الإنسان ، وبعضهم على صورة الأسد ، وبعضهم على صورة الثور ، وبعضهم على صورة النسر ، وروي ( ثمانية أملاك في خلق الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاماً ) ( وعن شهر بن حوشب : أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك .
وأربعة يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك .
ولولا هذه الروايات لجاز أن يكون الثمانية من الروح أو من خلق آخر .
قالت المشبهة : لو لم يكن الله على العرش لم يكن لحمله فائدة وأكدوا شبهتهم بقوله ) يومئذ تعرضون ( للمحاسبة والمساءلة فلو لم يكن الإله حاضراً لم يكن للعرض معنى .
وأجيب بأن الدليل على أن حمل الإله محال ثابت فلا بد من التأويل وهو أنه تعالى خاطبهم بما يتعارفونه فخلق نفسه بيتاً يزورونه ليس ليسكن فيه ، وجعل في ذلك اليبت حجراً هو يمينه في الأرض إذ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم ، وجعل على العباد حفظة لا لأن النسيان يجوز عليه بل لأنه المتعارف .
فكذلك لما كان من شأن الملك إذا أراد محاسبة عماله أن يجلس لهم على سرير ويقف الأعوان حواليه صور الله تعالى تلك الصورة المهيبة لا لأنّه يقعد على السرير .
روي أن في القيامة ثلاث عرضات .
فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ ، وأما الثالثة ففيها تنشر الكتب .
قوله ) لا تخفى منكم خافية ( اي تعرضون على من لا يخفى عليه شيء أصلاً وقيل : أراد لا يخفى منكم يوم القيامة ما كان مخفياً في الدنيا على غير الله وذلك ليتكامل سرور المؤمنين ويعظم توبيخ المذنبين .
ثم أخذ في تفصيل عرض الكتب .
( وهاء ) صوت بصوت به فيفهم منه ( خذ ) وله لغات واستعمالات مذكورة في اللغة منها ما ورد به الكتاب الكريم وهو ( هاء ) مثل باع للواحد المذكور ( وهاؤما ) بضم الهمة وإلحاق الميم بعدها ألف للتثنية ) هاؤم ( بضم الهمة بعده ميم ساكنة لجمع المذكر .
( هاء ) بالكسر للمؤنثة ( هاؤن ) لجمعها ) كتابيه ( مفعول ) هاؤم ( عند الكوفيين و ) أقرؤا ( عند البصريبين لأنه أقرب أصله هاؤم كتابي اقرأوا كتابي فحذف لدلالة الثاني عليه .
قال البصريون : ولو كان العامل الأول لقيل اقرأه إذ المختار إضمار المفعول ليكون دليلاً على المحذوف .
وأجاب الكوفيون بأن(6/348)
" صفحة رقم 349 "
الظاهر قد أغنى عن الضمير كما في قوله ) والذاكرين الله كثيراً والذاكرات ) [ الأحزاب : 35 ] والهاء في ) كتابيه ( وغيره هاء السكت ومن ههنا تثبت في الوقف وتسقط في الوصل لكنه استحب التلفظ بها في الوصل عند جماعة اتباعاً لوجودها في المصحف ، وإنما قال ) من أوتي كتابه ( ) هاؤم اقرؤوا كتابيه ( ابتهاجاً وفرحاً .
وقيل : يقول ذلك لأهل بيته وقرابته وفي قوله ) إني ظننت ( وجوه كما مر في قوله ) الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) [ البقرة : 46 ] ومما يختص بالمقام قول بعضهم أنه أراد الن في الدنيا لأن أهل الدنيا لا يوقنون بنيل الدرجات ، وفي هذا الوجه نظر لأنهم كنوا غير قاطعين بالجنة إلا أنهم يجب أن يقطعوا بالحساب الجزاء .
وعن أبي هيريرة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الرجل يؤتى به يوم القيامة ويؤتى له .
اقلب كفك فيرى حسناته فيفرح ثم يقول ) هاؤم اقرؤا كتابيه إني ظننت ( ) عند النظر الأولى ) أني ملاق حسابيه ( على سبيل الشدة ، وأما الآن فقد فرج الله عني ذلك الغم ، وأما في حق الأشقياء فيكون ذلك على الذد مما ذكرنا .
ثم بين عاقبة أمره قائلاً ) فهو في عيشه ( فعلة من العيش للنوع ) راضية ( منسوبة إلى الرضا كالدارع والنابل للمنسوب إلى الدرع والنبل ، وهذا من النسبة بالصيغة كما أن قولك ( بصري ) أو ( هاشمي ) من النسبة بالحروف ، ويجوز أن يكون من الإسناد المجازي كقولك ( نهاره صائم ) جعل الصوم للنهار وهو لصاحبه كذلك ههنا جعل الرضا للعيشة وهو لصاحبها ) في جنة عالية ( درجاتها لأنها فوق السموات على تفاوت الطبقات أو في جنة رفعية المباني والقصور والأشجار ) قطوفها دانية ( ثمارها قريبة التناول .
والقطوف جمع قطف بالكسر وهو المقطوف كالطحن بمعنى المطحون ، يروى أن ثمارها يقرب تناولها للقائم والجالس والمضطجع وإن أحب أن تدنو دنت ) كلوا ( على إرادة القول و ) هنيئاً ( مصدر أو صفة كما مر في ( الطور ) جمع الخطاب في ) كلوا ( مع أنه وحد الضمير في قوله ) أوتي ( وغيره حملاً على لفظ من ثم على معناه .
والغرض من هذا الأمر التوقير والعرض لا التكليف .
ومن قال بالإباحة ليس بتكليف فلا إشكال .
وقوله ( بما أسلفتم ( كقوله في ( الطور ) ) بما كنتم تعملون ) [ الآية : 19 ] والإسلاف في اللغة تقديم ما ترجو أن يعود عليك بخير فهو كالافتراض ومنه يقال ( أسلف في كذا ) إذا قدم فيه ماله .
والمعنى بسبب ما عملتم من الأعمال الصالحة في أيام الدنيا الماضية وعن مجاهد والكلبي : هي أيام الصيام فيكون الأكل والشرب في الجنة بدل الإمساك عنهما في الدنيا .
ثم أخذ في قصة الأشقياء .
وإنما تمنى أنه لم يدر أي شيء حسابه لأنه عليه لا يعود منه إليه سوى الضر .
والضمير في ) يا ليتها ( عائد إلى الموتة الأولى يدل عليها سياق الكلام .
ولعل(6/349)
" صفحة رقم 350 "
في قوله ) ولم أدر ( إشارة إليها لأنها حالة العدم المستلزمة لعدم الإدراك أي الموتة التي متها يا ليتها ) كانت القاضية ( لأمري أو للحياة فلم أبعث بعدها .
وقيل : هاء الضمير للحال أي ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت عليّ .
قال القفال : تمنى الموت حين رأى من الخجل وسوى المنقلب ما هو أشد وأشنع من الموت .
قوله ) ما أغني ( نفي .
ويجوز أن يكون استفهاماً على سبيل الإنكار ومعناه أي شيء أغنى ) عني ( ما كان لي من اليسار فإنه لم يبق منه إلا الوبال ) هلك عني ( تسلطي على الناس وزال عني ما كنت أتصوره حجة وبرهاناً. قال ابن عباس : ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها على محمد في الدنيا .
وقال مقاتل : إنما يقول هذا حين شهدت عليه الجوارح بالشرك .
يحكى عن عضد الدولة أنه قال قصيدة مطلعها هذا البيت :
ليس شرب الكاس إلا في المطر
وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهي
ناعمات يف تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها
ساقيات الراح من فاق البشر عضد الدولة وابن ركنها
ملك الأملاك غلاب القدر
يروى بضم القاف جمع القدرة وبفتحها وهو ما قدر الله على عباده وقضى .
ولا ريب أن المصراع الأخير فيه سوء الأدب والجراءة على الله من وجهين : أحدهما أنه سمى نفسه ملك الأملاك ولا يصلح هذا الاسم إلا لله سبحانه ولهذا جاء في الحديث ( أفظع الأسماء عند الله رجل تسمى ملك الأملاك ) ويقا لها بالفارسية شاهنشاه والثاني أنه زعم الغلبة على القدر وهذا أيضاً من أوصاف الله جل وعلا لا يصلح لغيره .
وإن زعم أنه قال ذلك بالنسبة إلى ملوك دونه فذلك قيد لا يدل عليه الإطلاق فسوء الأدب باقٍ فمن ههنا روي أن الله تعالى ابتلاه عقيب ذلك بالجهل وفساد الذهن وخور القوى ، وكان لا ينطلق لسانه إلا بتلاوة ) ما أغني عني ماليه هلك عني سلطانيه ( ) خذوه ( على إرادة القول أي يقال لهم خذوه أيها الخزنة يروى أنهم مائة ألف ملك تجمع يده إلى عنقه .
والتصلية في الجحيم وفي النار العظمى ، إشارة إلى أنه كان سلطاناً يتعظم على الناس .
والسلسلة حق منتظمة كل حلقة(6/350)
" صفحة رقم 351 "
منها في حلقة .
وكل شيء مستمر بعد شيء على الولاء والنظام فهو مسلسل .
والذرع في اللغة التقدير بالذراع من اليد .
وقوله ( سبعون ذراعاً ( يجوز أن يكون محمولاً على الظاهر وأن يراد بالمبالغة على عادة العرب .
وتقديم الجحيم على التصلية والسلسلة على السلك للحصر أي لا تصلوه إلا في الجحيم ولا تسلكوه إلا في هذه السلسلة الطويلة لأنها إذا طالت الكلفة أشد .
قالوا : كل ذراع سبعون باعاً أبعد مما بين مكة والكوفة .
قال الحسن : الله أعلم بأي ذراع هو قال ابن عباس : تدخل السلسة في دبره وتخرج من حلقه ثم يجمع بين ناصيته وقدميه قال الكلبي : كما يسلك الخيط في اللؤلؤ يجعل في عنقه سلوكها .
عن بعضهم أن جمعاً من الكفار يقرن في هذه السلسلة الطويلة ليكون العذاب عليهم أشد وإنما لم يقل فاسلكوا السلسلة فيه لأنه أراد أن السلسلة تكون ملتفة على جسده بحيث لا يقدر على حركة .
وقيل : هو كقولهم ( أدخلت القلنوسة في رأسي ) أو ( الخاتم في أصبعي ) زمعنى ( ثم التراخي في الرتبة .
ثم ذكر سبب هذا الوعيد الشديد وهو عدم الإيمان بالله العظيم وعدم بذل المال للمساكين ولعل الأول إشارة إلى فساد القوة النظرية ، والثاني إلى فساد القوة العملية .
قال جار الله ) وعطف حرمان المساكين على الكفر تغليظ ، وفي ذكر الحض دون لافعل تغليظ دون تغليظ ليعلم أن ترك الحض بهذه المنزلة فيكف بتارك الفعل ؟ وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ، وكان يقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلا نخلع نصفها الآخر إلا بالإطعام .
والطعام اسم بمعنى الإطعام كالعطاء اسم بمعنى الإعطاء .
وفي الآية دلالة على أن الكفار مخطابون بالفروع .
والحميم القريب النافع وقوله ( ههنا ( إشارة إلى مكان عذابهم أو إلى مقام الوصول إلى هذا الحد من العذاب .
يروى أن ابن عباس سئل عن الغسلين فقال : لا أدري .
وقال الكلبي : هو ما يسال من أهل النار .
فغسلين من الغسالة والطعام ما يهيأ للأكل .
ويجوز أن يكون إطلاق الطعام عليه من باب التهكم أو مثل عقابك السيف .
قال ابن عباس : الخاطئون في الآية هم المشركون .
ثم عظم شأن القرآن بالإقسام بكل الأشياء لأنها إما مصبر أو غير مبصر .
وقيل : الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجن والخلق والخالق والنعم الظاهرة والباطنة .
والأكثرون على أن الرسول الكريم ههنا هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر ولا كاهن ، والقوم ما كانوا يصفون جبرائيل بالعشر والكهانة وإنما يصفون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وأما في سورة التكوير فالأكثرون على أنه جبرائيل عليه السلام لأن الأوصاف التي بعده تناسبه كما يجيء .
وفي ذكر الرسول إشارة إلى أن هذا القرآن ليس قوله من تلقاء نفسه وإنما هو قول المؤدي عن الله(6/351)
" صفحة رقم 352 "
بطريق الرسالة ، وهكذا لو كان المراد جبرائيل .
وفي وصفه بالكرم إشارة إلى أمانته وأنه ليس ممن يغير الرسالة طمعاً في أغراض الدنيا الخسيسة .
وأيضاً من كرمه أنه أتى بأفضل أنواع المزايا والعطايا وهو المعرفة والإرشاد والهداية .
وإنما قال عند نفي الشعر عنه قليلاً ما تؤمنون ( وعند نفي الكهانة ) قليلاً ما تذكرون ( لأن انتفاء الشعرية عن القرآن أمر كالبين المحسوس .
أما من حيث اللفظ فظاهر لأن الشعر كلام موزون مقفى وألفاظ القرآن ليست كذلك إلا ما هو في غاية الندرة بطريق الاتفاق من غير تعمد ، وأما من جهة التخيل فلأن القرآن فيه أصول كل المعارف والحقائق البراهين والدلائل المفيدة للتصديق إذا كان المكلف ممن يصدق ولا يعاند .
وانتفاء الكهانة عنه أمر يفتقر إلى أدنى تأمل يوقف .
على أن كلام الكهان أسجاع لا معاني تحتها وأوضاع تنبو الطباع عنها .
وأيضاً في القرآن سب الشياطين وذم سيرتهم والكهان إخوان الشياطين فكيف رضوا بإظهار قبائحهم .
ثم صرح بالمقصود فقال ) تنزيل من رب العالمين ( أي هو تنزيل ثم بين أن المفتري لا يفلح وإن فرض أنه نبي فقال ) ولو تقول ( وهو تكلف القول من غير أن يكون له حقيقة و ) الأقاويل ( جمع أقوال .
وقال جار الله : في اللفظ تصغير وتحقير كالأعاجيب والأضاحيك كأنه جمع ( أفعولة ) من القول .
ومعنى الآية لو نسب إلينا قولاً لم نقله لقتلناه أشنع قتل وهو أن يؤخذ بيمينه وتضرب رقبته وهو ينظر إلى السيف ، وهذه فائدة تخصيص اليمين لأن القتال إذا أخذ بيسار المقتول وقع الضرب في قفاه .
ومعنى ) لأخذنا منه باليمين ( لأخذنا بيمينه ، وكذا قوله ) لقطعنا منه الوتين ( لقطعنا وتينه وهذا تفسير منقول عن الحسن البصري .
ولوتين العرق المتصل من القلب بالرأس فإذا انقطع مات الحيوان : قال ابن قتيبة : لم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه كما يفعل الملوك فكان كمن أخذ بيمينه فقطع وتينه ونظيره ( ما زالت أكلة خبير تعاودني ، فهذا أوان اقطع أبهري ) .
والأبهر عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال : هذا أوان يقتلني السم .
وعن الفراء والمبرد والزجاج أن اليمين القوة وقوة كل شيء في ميامنه والباء زائدة ومعنى الأخذ السلب أي سلبنا عنه القدرة على التكلم بذلك القول وهذا كالواجب في حكمة الله تعالى كيلا يشتبه الصادق بالكاذب وقال مقاتل : اليمين الحق كقوله ) إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ) [ الصافات : 28 ] أي من قبل الحق .
والمعنى منعناه بواسطة إقامة الحجة وقضينا له من يعارضه فيه فيظهر للناس كذبه ) فما منكم من أحد عنه ( أي عن الرسول أو عن القتل ، والخطاب للناس وأحد في معنى الجمع لأنه في سياق النفي فلذلك قال ) حاجزي ( أي مانعين .
وحين بين أن(6/352)
" صفحة رقم 353 "
القرآن تنزيل من عند الله بواسطة جبرائيل على محمد الذي صفته أنه ليس بشاعر ولا كذاب ، بين أن القرآن ما هو وإلى أي صنف يعود نفعه فقال ) وإنه لتذكرة للمتقين ( ثم أوعد على التكذيب .
قائلاً ) وإنا لنعلم أن منكم مكذبين ( ثم بين أن تكذيب القرآن سبب حسرة الكافرين في القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين أو في الدنيا إذارأوا دولة المؤمنين ، لأن القرآن حق اليقين أي حق يقين لا ريب فيه ، فأضيف أحد الوصفين إلى الآخر للتأكيد كقوله ( هو حق العالم ) .
ثم أمر بالتسبيح شكراً له على الإيحاء إليه ، أو على أن عصمه من الافتراء عليه .(6/353)
" صفحة رقم 354 "
سورة المعارج
( سورة المعارج وهي مكية حروفها ثمانمائة وأحد وستون كلماتها مائتان وست عشرة آياتها أربع وأربعون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( المعارج : ( 1 - 44 ) سأل سائل بعذاب . . . .
" سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون فمال الذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون "
( القراآت )
سأل ( بغير همز مثل باع : أبو جعفر ونافع وابن عامر وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة على التذكير : علي ) ولا يسأل ( بضم الياء : البزي من طريق الهاشمي والبرمجي ) يومئذ ( بالفتح على البناء : أبو جعفر ونافع غير إسماعيل وعباس وعلي(6/354)
" صفحة رقم 355 "
والشموني والبرجمي ) توويه ( بغير همز : يزيد والأعشى وحمزة في الوقف ) نزاعة ( بالنصب : حفص والمفضل ) يخرجون ( من الإخراج : الأعشى وحمزة في الوقف ) إلى نصب ( بضمتين : ابن عامر وسهل وحفص ) نصب ( بالضم فالسكون : المفضل الباقون : بالفتح والسكون .
الوقوف : ( واقع ( ه لا ) دافع ( ه لا ) ألمعارج ( ه لا ) سنة ( ج ) جميلاً ( ه ) بعيداً ( ه لا ) قريباً ( ه ط ) كالمهل ( ه لا ) كالعهن ( ه لا ) حميماً ( ه ج لأن ما بعده منقطع عنه مستأنف ولكن أصلحوا الوقف على ) يبصرونهم ( ) ببنيه ( ه لا ) وأخيه ( ه ) تؤويه ( ه لا ) جميعاً ( ه لا للعطف ) ينجيه ( ه لا ) كلا ( ط ) لظى ( ه ج لأن من قرأ ) نزاعة ( بالرفع جاز أن يكون بدلاً أو خبر ) لظى ( والضمير في ) أنها ( للقصة أو خبر مبتدأ محذوف .
ومن نصب فعلى الحال المؤكدة أو على الإختصاص .
) للشوى ( ه ص لأن ) يدعو ( يصلح مستأنفاً وبدلاً من ) نزاعة ( ) وتولى ( ه لا ) فأوعى ( ه ) هلوعاً ( ه لا ) جزوعاً ( ه لا ) منوعاً ( ه لا ) المصلين ( ه لا ) دائمون ( ه لا ) معلوم ( ه لا ) والمحروم ( ه ص ) الدين ( ه ) مشفقون ( ه ج ) مأمون ( ه ) حافظون ( ه لا ) ملومين ( ه ج ) العادون ( ه ج ) راعون ( ه لا ) قائمون ( ه ك ) يحافظون ( ه لا ) مكرمون ( ه ط لانقطاع المعنى ) مهطعين ( ه لا ) عزين ( ه ) نعيم ( ه ) كلا ( ط ) يعلمون ( ه ) لقادرون ( ه ج ) منهم ( ج بناء على أن الواو للحال ) بمسبوقين ( ه ) يوعدون ( ه لأن ما بعد بء دل ) يوقضون ( ه ج لأن ما بعد حال من الضمير ) ذلة ( ط ) يوعدون ( ه .
التفسير : من قرأ ) سأل ( بالهمزة ففيه وجهان : الأول عن ابن عباس أن النضر بن الحرث قال ) اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة ) [ الأنفال : 32 ] الآية فأنزل الله تعالى ) سأل سائل ( أي دعا داع ولهذا عدي بالباء .
يقال ( دعاه بكذا إذا استدعاه وطلبه .
وقال ابن الأنباري : الباء للتأكيد والتقدير : سأل سائل عذاباً لا دافع له البتة .
إما في الآخرة وإما في الدنيا كيوم بدر .
الثاني قال الحسن وقتادة : هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) استعجل بعذاب الكافرين ، أو سأل عن عذاب .
والباء بمعنى ) عن ( .
قال ابن الأنباري : أو عنى واهتم بعذاب أنه على من ينزل وبمن يقع ، فبين الله تعالى أن هذا واقع بهم فلا دافع له .
والذي يدل على صحة هذا الوجه قوله في آخر الآية ) فاصبر صبراً جميلاً ( ومن قرأ بغير همز فله وجهان أيضاً : الأول أنه مخفف ) سأل ( وهي لغة قريش والمعاني كمامرت ، والآخر أن يكون من السيلان ويعضده قراءة ابن عباس ) سال سيل ( وهو مصدر في معنى سائل كالفوز بمعنى الفائز .
والمعنى اندفع وأدى عذاب فذهب بهم وأهلكهم أما ) سائل ((6/355)
" صفحة رقم 356 "
فلا يجوز فيه إلا الهمز وفاقاً لأنه إن كان من سأل المهموز فظاهر ، وإن كان من غير المهموز انقلبت الياء همزة كما في بائع .
وقوله ( للكافرين ( صفة أخرى للعذاب أي بعذاب واقع ، لا محالة كائن للكافرين ، أو متعلق بواقع أي نازل لأجلهم ، أو كلام مستأنف جواب للسائل الذي سأل : إن العذاب على من ينزل أي هو للكافرين .
والظاهر أن قوله ) من الله ( يتعلق ) بدافع ( أي لا دافع له من جهة الله لأنه قضاء مبرم .
وجوز أن يتصلف بواقع أي نازل من عند ) ذي المعارج ( المصاعد .
روى الكلبي عن ابن عباس أنها السموات لأن الملائكة يعرجون فيها .
وقال قتادة : ذي الفواضل والنعم بحسب الأرواح ومراتب الاستحقاق والاستعداد .
وقيل : هي الجنة لأنها درجات .
وقال في التفسير الكبير .
وهي مراتب أرواح الملكية المختلفة بالشدة والضعف وبسببها يصل آثار فيض الله إلى العالم السفلي الكبير .
وهي مراتب أرواح الملكية المختلفة بالشدة كالمصاعد لمراتب الحاجات التي ترفع إليها ، كالمنازل لآثار الرحمة من ذلك العالم إلينا .
قوله ) تعرج الملائكة والروح ( وفي مواضع أخرى يوم يقوم الروح والملائكة .
قيل : إن الروح أعظم الملائكة قدراً وهو أول في درجة نزول الأنوار من جلال الله ، وأما المتكلمون أرواح سائر الملائكة والبشر في آخر درجات منازل الأرواح .
وبين الطرفين معارج مراتب فالجمهور منهم قالوا : إن اروح هو جبريل عليه السلام .
ولا استدلال لأهل التشبيه في لفظ ) المعارج ( فإنا بينا أنها المراتب .
قووله ) إليه ( إلى عرشه أو حكمه أو إلى حيث تهبط أوامره أو إلى مواضع العز والكرامة .
والأكثرون على أن قوله ) في يوم ( من صلة ) تعرج ( ، أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم وهو يوم القيامة .
قال الحسن : يعني من موقفهم للحساب إلى حين يقضي بين العباد خمسون ألف سنة من سني الدنيا ، ثم بعد ذلك يستقر أهل الجنة في الجنة إلى آخر الآية .
والأصح أن هذا الطول إنما يكون للكافر لما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قيل لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ما أطول هذا اليوم ؟ فقال : والذي نفسي بيه إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة في الدنيا .
ومنهم من قال : إن ذلك الموقف وإن طال فقد يكون سبباً لمزيد السرور والراحة للمؤمن .
ومنهم من قال : إن هذه المدة على سبيل التقدير لا على سبيل التحقيق .
والمعنى أنه لو اشتغل بذلك القضاء والحكومة أعقل الناس وأدهاهم لبقي فيه همسين ألف سنة .
ثم إنه تعالى يتمم ذلك القضاء والحكومة في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا .
وأيضاً الملائكة يعرجون إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقي في ذلك الصعود خمسين ألف سنة ثم إنهم يصعدون إليها في ساعة .
قاله وهب وجماعة من أهل التفسير .
وقال أبو مسلم : إن هذا(6/356)
" صفحة رقم 357 "
اليوم الدنيا كلها من أول ما خلق العالم إلى القيامة وفيه يقع عروج الملائكة .
ثم لا يلزم من هذا أن يصير وقت القيامة معلوماً لأنا لا ندري كم مضى وكم بقى .
ومر في ( ألم السجدة ) وقال جمع من المفسرين قوله ) في يوم ( من صلة ) واقع ( أي يقع ذلك العذاب في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سنيكم وهو يوم القيامة .
وثم يحتمل أن يكون المراد منه استطالة ذلك اليوم لشدته على الكفار ، ويحتمل أن العذاب .
يورى عن ابن أبي مليكة أن ابن بهذه المدة ثم ينقله الله تعالى إلى نوع آخر من العذاب .
يروى عن ابن أبي مليكة أن ابن عباس سئل عن هذه الآية وعن قوله ) في يوم كان مقداره ألف سنة ( فقال : أيام سماها الله هو أعلم بها كيف تكون وأكره أن أقول فيها ما لا علم لي به .
وقال وهب في الجواب : من أسفل العالم إلى أعلى شرف العرش مسيرة خمسين ألف سنة ، ومن أعلى السماء الدنيا إلى الأرض مسيرة ألف سنة ، لأن عرض كل سماء من السموات السبع مسيرة خمسمائة سنة ، وبين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة أخرى ، فالمراد مقدار ألف سنة لو صعدوا إلى سماء الدنيا ومقدار خمسين ألف سنة لو صعدوا إلى العرش .
وفي قوله ) فاصبر صبراً جميلاً ( تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه قيل له : إن العذاب قرب وقوعه فاصبر فقد شارفت الانتقام قال الكلبي : هذه الآية نزلت قبل أن يؤمر الرسول بالقتال إنهم يرون العذاب أو يوم القيامة بعيد امد بعيداً عن الإمكان ) ونراه قريب ( منه ثم قال ) يوم ( أي اذكر يوم ) تكون السماء كالمهل ( كدرديّ الزيت .
عن ابن مسعود : كالفضة المذابة .
) وتكون الجبال كالعهن ( أي الصوف المصبوغ ألواناً لقوله ) ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ) [ فاطر : 27 ] وجوز جار الله أن ينتصب ) يوم ( ب ) قريباً ( أو بإضمار يقع لدلالة واقع عليه ، أو يراد به يوم تكون السماء كالمهل كان كيت وكيت ، أو هو بدل من يوم القيامة فيمن علقه ) بواقع ( قوله ) ولا يسأل حميم ( من قرأ بفتح الياء فظاهر أي لا يسأله بكيف حالك لاشتغال كل بنفسه ، ومن قرأ بالضم فالمعنى لا يسأل حميم عن حميم ليعرف شأنه من جهته كما يتعرف خبر الصديق من جهة صديقه فيكون على حذف الجار .
وقال الفراء : لا يقال الحميم أين حميمك. ثم كان لسائل أن يقول ( لعله لا يبصره فلهذا لا يسأل فقال ) يبصرونهم ( ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تسائلهم ويجوز أن يكون صفة أي حميماً مبصرين معرفين إياهم وإنما جمع ضمير الحميم لأنه في معنى الجمع حيث رفع في سياق النفي .
وقيل : إن الملة تتعلق بما بعده والمعنى إن المجرمين يبصرون المؤمنين حال ما يود أحدهم أن يفدي نفسه بكل ما يمكنه فإن الإنسان إلذا كان في البلاء ثم رأى عدوه في الرخاء كان ذلك أشد عليه ) وفصيلته ( عشيرته الأدنون الذين فصل عنهم ) تؤويه ( تضمه(6/357)
" صفحة رقم 358 "
إليها للانتماء في النسب أو في إعداد النوائب .
ومعنى ) ثم ( استبعاد الإنجاء عن الافتداء ثم أكد الإستبعاد بقوله ) كلا ( وهو ردع للمجرم عن كونه بحيث يود افتداءه وتنبيه على أنه لا ينفعه ذلك .
والضمير في ) أنها ( للقصة كما ذكرنا أو للنار وإن لم يجر لها ذكر لدلالة العذاب عليها ، ويجوز أن يعود إلى العذاب والتأنيث باعتبار الخبر لأن ) لظى ( علم لنار جهنم .
واللظى اللهب الخاص .
والشوى الأطراف وهي اليدان والرجلان ، والشوى أيضاً جلد الرأس ، الواحدة شواة ، قال سعيد بن جبير : العصب والعقب ولحم الساقين اليدين تنزعها نزعاً فتهلكها ثم يعيدها الله سبحانه .
وفي قوله ) تدعو ( وجوه منها : أنها تدعوهم بلسان الحال كما قيل : سل الأرض من شق أنهارك وغرش أشجارك فإن لم تجبك جؤاراً أجابتك اعتباراً .
فههنا لما كان مرجع كل من الكفرة إلى دركة من دركات جنهم كأنها تدعوهم إلى نفسها .
ومنها أن الله تعالى يخلق الكلام في جرم النار حتى تقول صريحاً فصيحاً : لي يا كافة الكفرة ثم تلتقطهم التقاط الحب .
ومنها أن يكون على حذف المضاف أي تدعو زبانيتها .
ومنها أن الدعاء بمعنى الإهلاك كقول العرب ) دعاه الله ( أي أهلكه ) من أدبر ( أي عن الطاعة ) وتولى ( عن الإيمان ) وجمع ( المال حرصاً عليه ) فأوعى ( جعله في وعاء وكنزه فلم يؤد حقوق الله فيه أصلاً وهذه مجامع آفات النفس .
ثم بين أن الإنسان بالطبع مائل إلى الأخلاق الذميمة فقال ) إن الإنسان ( وهو الكافر عند بعضهم والأظهر العموم بدليل الاستثناء عقيبه ) خلق هلوعاً ( والهلع قلة الصبر وشدة الحرص كما فسره الله تعالى بقوله ) إذا مسه الشر ( أي الفقر والمرض ونحوه من المضار ) كان جزوعاً وإذا مسه الخير ( أشداد ذلك ) كان منوعاً ( عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) شر ما أعطي ابن آدم شح هالع وجبن خالع ( قال أهل السنة : الحالة النفسانية التي هي مصدر الأفعال الاختيارية كالجزع والمنع لا شك أنها بخلق الله تعالى .
بل الجزع والمنع أيضاً من خلقه ولا اعتراض لأحد عليه خلق بعض الناس هلوعاً وخلق المستثنين منهم غير هلوع بل مشغولي القلب بأحوال الآخرة ، وكل ذلك تصرف منه في ملكه ، وقالت المعتزلة : ليس المراد أنه مخلوق على هذا الوصف لأنه تعالى ذكره في معرض الذم والله تعالى لا يذم فعله .
ولأنه تعالى استثنى منهم جماعة جاهدوا أنفسهم وظلفوها عن الشهوات .
ولو كانت ضرورية لم يقدروا على تركها .
والجواب أن الذين خلقهم كلذلك لم يقدروا على الترك والذين تركوها هم الذين خلقوا على هذا الوصف وهم أصناف ثمانية : الأول الذين يداومون على الصلوات والمراد منها أداؤها(6/358)
" صفحة رقم 359 "
في أوقاتها ، وأما المحافظة عليها فترجع إلى الاهتمام بشأنها وذلك يحصل برعاية أمور سابقة على الصلاة كالوضوء وستر العورة وطلب القبلة وغيرها ، حتى إذا جاء وقت الصلاة لم يكن يتعلق القلب بشرائطها وأمور مقارنة للصلاة كالخشوع والاحتراز عن الرياء والإتيان بالنوافل والمكملات ، وأمور لاحقة بالصلاة كالاحتراز عن اللغو وما يضاد الطاعة لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فارتكابه المعصية بعد الصلاة دليل على أن تلك الصلاة لم تقع في حيز القبول .
الثاني ) والذين في أموالهم حق ( قال ابن عباس والحسن وابن سيرين : هو الزكاة المفروضة قلت : الدليل عليه وصفه بأنه معلوم واقترانه بإدامة الصلاة ، وقال مجاهد وعطاء والنخعي : هو ما سوى الزكاة وإنه على طريق الندب والاستحباب .
قلت : هذا التفسير بما في ( الذاريات ) اشبه لأنه لم يصف الحق هناك بأنه معلوم ولأنه مدح هناك قوماً بالتزام ما لا يلزمهم كقلة الهجوع والإستغفار بالأسحار .
الثالث ) والذين يصدقون بيوم الدين ( أي يؤمنون بالغيب والجزاء .
الرابع ) والذين هم من عذاب ربهم مشفقون ( خائفون والمؤمن خائف من التقصير في الطاعة وبعض الفسقة لا يخافون من إرتكاب انواع الظلم وأصناف المعصية .
ثم أكد ذلك الخوف بقوله ) إن عذاب ربهم غير مأمون ( لأن الأمور بخواتيمها والخاتمة غير مقطوع بها .
الخامس ) والذين هم لفروجهم حافظون ( إلى قوله ) العادون ( وقد مر في ( المؤمنين ) والسادس ) والذين هم لأماناتم وعهدهم راعون ( وقد مر أيضاً .
السابع ) والذين هم بشهاداتهم قائمون ( من أفرد فلانها مصدر ، ومن جمع فللنظر إلى اختلاف الشهادات وكثرة أنواعها .
وأكثر المفسرين قالوا : هي الشهادات عند الحكام يقومون بها بالحق ولا يكتمونها ، وهذه من جملة الأمانات خصها بالذكر تنبيهاً على فضلها لأن في إقامتها إحياء للحقوق وفي تركها تضييع لها .
وروى عطاء عن ابن عباس أنها الشهادة بالله أنه واحد لا شريك له .
الثامن ) والذين هم على صلاتهم يحافظون ( وقد ذكرناه .
ثم عين مكان هؤلاء بقوله تعالى ) أولئك في جنات مكرمون ( قال المفسرون : كان المشركون يحتفون حول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فرقاً يستهزؤن به وبالمؤمنين ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم فنزلت .
) فما للذين كفروا قبلك ( أي نحوك وفي مقابلتك ) مهطعين ( مسرعين مادين أعناقهم إليك ) عزين ( فرقاًً شتى جمع عزة محذوفة العجز وأصلها عزوة لأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى فهم مفترقون .
وجمع بالواو والنون عوضاً عن المحذوف كما مر في ) عضين ( قوله ) كلا ( ردع لهم عن الطمع الفاسد وذلك من وجهين : أحدهما أنهم ينكرون البعث فمن أين لهم هذا الطمع .
والثاني أنهم لم يعدوا لها زاداً من الإيمان والعمل الصالح .
وفي قوله ) إنا خلقناهم مما يعلمون ( رد عليهم من(6/359)
" صفحة رقم 360 "
الوجهين فإن من علم أن أوله نطفة لم ينكر البعث ، أو من علم أن أوله نطفة مذرة كسائر بني آدم لم يدع التقدم والشرف بلا توسل من الإيمان والعمل الصالح .
ثم بين كمال قدرته على الإيجاد والإعدام مؤكداً بالأقسام وأنه لا يفوته شيء من الممكنات .
ومعنى ) المشارق والمغارب ( قد تقدم في أول ( الصافات ) و ( الرحمن ) وإن للشمس في كل يوم من نصف السنة مغرباً ومشرقاً .
وقيل : مشرق كل كوكب ومغربه .
وقيل : المراد أنواع الهدايات والخذلانات .
واختلف فيما وصف الله نفسه بالقدرة لعيه هل خرج إلى الفعل أم لا ؟ قال بعضهم : بدل الله بهم الانصار والمهاجرين .
وقال آخرون : بدل الله كفرهم بالإيمان .
وقيل : التبديل بمعنى الإهلاك الكلي لهم وإيجاد آخرين مكانهم ولكنه هددهم بذلك لكي يؤمنوا ، ثم زاد في التهديد بأن يخلوا وشأنهم إلى أوان لقاء الجزاء والأجداث القبور كما في ( يس ) .
ثم شبه إسراعهم إلى الداعي مستبقين بإسراعهم إلى أنصابهم وهي كل ما ينصب فيبعد من دون الله وقد مر في قوله ) وما ذبح على النصب ) [ المائدة : 3 ] ومعنى ) يوفضون ( يسرعون .
) وترهقهم ذلة ( تغشاهم والباقي ظاهر والله أعلم .(6/360)
" صفحة رقم 361 "
سورة نوح
( سورة نوح عليه السلام وهي مكية حروفها سبعمائة وخمسون كلماتها مائتان واحدى وعشرون آياتها ثمان وعشرون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( نوح : ( 1 - 28 ) إنا أرسلنا نوحا . . . .
" إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا " ( القراآت ) دعائي إلا ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ) أني أعلنت ( بالفتح .
أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير ) وولده ( بالضم والسكون : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف .
الباقون : بفتحتين ) ودا ((6/361)
" صفحة رقم 362 "
بالضم : أبو جعفر ونافع الآخرون : بالفتح ) خطاياهم ( بالتكسير : أبو عمرو ) بيتي ( بالفتح : حفض وهشام .
الوقوف : ( أليم ( ه ) مبين ( ه ) وأطيعون ( ه ) مسمى ( ط ) لا يؤخر ( ) تعلمون ( ه ) ونهاراً ( ه ) فراراً ( ه ) إستكباراً ( ه ج لأن ( ثم ) لترتيب األأخبار مع اتحاد ) مدراراً ( ه ) أنهاراً ( ه ط لابتداء الإستفهام ) وقاراً ( ه ج لأن ما بعده يحتمل الحال والإستئناف ) أطواراً ( ه ) طباقاً ( ه لا ) سراجاً ( ه لا ) نباتاً ( ه ) إخراجاُ ( ه ) بساطاً ( ه ) فجاجاً ( ه ) خساراً ( ه ج للآية مع العطف واتحاد الكلام ) كباراً ( ه لذلك ) ونسراً ( ه ك لأن ما بعده ليس بمعطوف ولكنه حال من فاعل ) قالوا ( وذكر السجا وندي أنه حال من مفعول ) لا تذرن ( وفيه نظر ) كثيراً ( ه ز لأ ، قوله ) ولا تزد ( لا يصح عطفه ظاهراً ولكنه متصل بما قبله بطريق الحكاية أي قال نوح رب إنهم عصوني وقال لا تزد ) ضلالاً ( ه ) أنصاراً ( ه ) دياراً ( ه ) كفاراً ( ه ) تياراً ( ه .
التفسير : لما حذر الناس أهوال يوم القيامة ذكرهم قصة نوح وما جرى على قومه من الإغراق قبل الأطراف حين عصوا رسولهم و ( أن ) في ) أن أنذر ( و ) أن اعبدوا ( مفسرة لما في ألإرسال والإنذار من معنى القول .
أو ناصبة والجار محذوف أي أ ) سلناه بأن قلنا له أنذر أي أرسلناه بالأمر بالإندار .
ثم حكى أنه امتثل الأمر فأمر قومه بعبادة الله قبل الأطراف ويتناول جميع الواجبات والمندوبات ) واتقواه ( ويشتمل على الزجر عن جميع المحظورات وبطاعة نفسه تنبيهاً على أن طاعة الله هي طاعة نبيه ، والإلهيات لا تكمل معرفتها إلا بمعرفة النبوات .
ثم وعدهم على العبادة والتقوى والطاعة شيئين : أحدهما دفع مضار الآخرة وهو غفران الذنوب ، والثاني وصول منافع الدنيا وهو بتأخير الأجل إلى أقصى الإمكان .
وقد مر في سورة إبراهيم إستدلال من جوز زيادة ( من ) في الإثبات بنظير هذه الآية .
وما أجيب عنه .
والذي نزيده ههنا ما قيل : إنه لم لا يجوز أن يراد يغفر لكم كل ما كان من ذنوبكم فتكون فائدته عدم المؤاخذة بمجموع الذنوب لا بكل فرد من أفراده لصدق قول القائل لا أطالبك بمجموع ذنوبك لكني أطالبك بهذا الذنب الواحد .
وفي قوله ) يغفر لكم ( معنى لا يؤاخذكم قاله الإمام فخر الدين الرازي وهو شبه مغالطة لأنه يوجب استعمال مقتضى النفي مكان مقتضى الإثبات وبالعكس بتأويل تقدير الإثبات وبالعكس مثلاً اتفقوا على وجوب النصب في قولك(6/362)
" صفحة رقم 363 "
( جاءني القوم إلا زيداً ) وعلى قوله يمكن رفعه على البدل بتأويل يتخلف القوم إلا زيد وهكذا قولك ( جاءني رجل ) لا يشمل المجيء سواه .
ولو قلت ( ما تخلف رجل ) عمّ المجيء كل أحد .
ثم قال : هب أنه يقتضي التبعيض لكنه حق لأن من آمن فإنه يغفر ما تقدم من ذنوبه على إيمانه ، أما المتأخر عنه فإنه لا يصير بذلك السبب مغفوراً فثبت أنه لا بد ههنا من حرف التبعيض .
قلت : هذا التأويل جائز في حق هذه الأمة أيضاُ فوجب أن يذكر من في سورة الصف أيضاً .
قوله ) إن أجل الله ( إشارة إلى الأجل المسمى وفيه تنبيه على أن الأجل الاختراعي قد يؤخر بتقدير الإيمان والعبادة ، وفيه أن وقت الفرصة والإمهال يجب أن يغتنم قبل حلول مالا حيلة فيه ، وفي قوله ) لو كنتم تعلمون ( توبيخ على أن إمهالهم في أمور الدنيا بلغ إلى حيث صيرهم شاكين في وقوع الموت .
ثم حكى شكوى نوح إلى ربه بعد أن لم ينجع في قومه طول دعوته .
ومعنى ) ليلاً ونهاراً ( دائباً دائماً من غير توان وفتور .
قوله ) فلم يزدهم دعائي إلا فراراً ( كقوله ) ما زادهم إلا نفوراً ) [ فاطر : 42 ] قوله ) لتغفر لهم ( ذكر ما هو المقصود وترك ما هو الوسيلة ، وأصل الكلام ليؤمنوا فتغفر لهم ذنوبهم السالفة هذا قول جار الله .
ويمكن أن يقال : إنه وعدهم المغفرة على العبادة والتقوى والطاعة فكأنه قال : دعوتهم إلى عبادتك وتقواك وطاعتي لتغفر لهم ، وهذا كلام متسق مبني على الأول كما ترى .
ثم ذكر أنهم عاملوه بأشياء منها : جعل الأصابع في الآذان لئلا يسمعوا قوله .
ومنها تغطيهم بثيابهم تأكيداً لعدم سماع الحجة أو لئلا يبصروا وجهه .
ومنها إصرارهم على مذهبهم واستكبارهم عن قبول الحق إستكباراً بالغاً نهايته .
ثم حكى نوح أنه كان لدعوته ثلاث مراتب بدأ تقريع وتغليظ فلم يؤثر .
وانتصب ) جهاراَ ( على المصدر لأنه نوع من الدعوة أو على أنه صفة دعاء محذوف .
والوصف بالمصدر مبالغة على أنه في موضع الحال .
ثم إنه جمع بين الأمرين كما يفعل المجتهد المتحير في التدبير فلم ينفع .
ثم فسر الدعوة بقوله ) فقلت استغفروا ( إلى آخره وفيه أن الاستغفار يوجب زيادة البركة والنماء .
وله وجه معقول وهو أن الله سبحانه مفيض لاخيرات والبركات بالذات كما قال ( سبقت رحمتي غضبي ) فكل ما يصل إلى العباد مما يضاد ذلك كالفقر والقحط والآلام والمخاوف فإنها بشؤم معاصيهم ، فإذا تابوا واستغفروا زال الشؤم والبلاء وعاد الخير والنماء .
يروى أنهم لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة أو سبعين .
فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا دفع الله عنهم البلاء .
والمدرار الكثير الدريستوي(6/363)
" صفحة رقم 364 "
فيه الذكر والمؤنث .
ثم إنه وبخهم بقوله ) مالكم لا ترجون لله وقاراً ( أصل الرجاء الأمل .
والوقار التوقير ( فعال ) بمعنى ( تفعيل ) مثل ( سراح ) بمعنى ( تسريح ) وقد يستعمل الرجاء بمعنى الخوف فمعناه على هذا مالكم لا تخافون عظمة الله .
وعلى الأول قال جار الله : معناه أي شيء لكم وما بالكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب ) ولله ( بيان أو حال ولو تأخر لكان صلة للوقار أو صفة ، ويحتمل أن يكون الوقار فعلاً للقوم وذلك أنهم كانوا يستخفون برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فحثهم على تعظيمه لأجل الله راجين ثوابه .
وغعن ابن عباس أن الوقار هو الثواب من وقر إذا ثبت واستقر قال جار الله : في تقريره أي لا تخافون لله عاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب .
وقال غيره : تم الكلام عند قوله ) مالكم ( ثم استفهم منكراً ) لا ترجون ( أي لا تعتقدون لله ثباتاً وبقاء فإنكم لو رجوتم ذلك لما أقدمتم على الإستخفاف برسوله .
قال الليث : الطور التارة أي خلقكم مرة بع مرة نطفة ثم علقة إلى آخرها .
وقال ابن الإنباري : والطور الحال فيجوز أن يراد الأوصاف المختلفة التي لا شبه بعضها بعضاً ، وهذا دليل للتوحيد المأخوذ من الأنفس ، ثم أشار إلى دليل الآفاق بقوله ) ألم تروا ( الآية .
ومعنى ) طباقا ( قد مر في أول ( الملك ) فلا يلزم منه أن لا يبقى للملائكة مساكن فيها فلعلها متوازية لا متماسة .
وأما على قول من يزعم أن الملائكة روحانية فلا إشكال ، قوله ) فيهن ( في حيزه من السموات وشبه الشمس بالسراج لأن نوره ذاتي كهي ، أو لأن الليل عبارة عن ظل الأرض والشمس سبب لزواله .
ثم عاد إلى دليل الأنفس بقوله ) ، الله أنبتكم من الأرض نباتاً ( يحتمل أن يكون من باب التفعيل فيكون مصدراً متعدياً قريباً من لفظ الفعل وأن يكون ثلاثياً لازماً فيكون أبعد ، ويجوز أن يراد أنبتكم فنبتم نباتاً ، قال جار الله : استعير الإنبار للإنشاء ليكون أدل على الحدوث .
وفي قوله ) إخراجاً ( تأكيداً أي يخرجكم حقاً ولا محالة .
ثم ذكر دليلاً آخراً فاقياً من حال الأرض .
والفج الطريق الواسع .
ثم إن سائلاً كأنه سأل : ماذا قال نوح بعد هذه الشكوى ؟ فبين سبحانه أنه تعالى ) قال نوح رب إنهم عصوني ( مكان قوله وأطيعون ) واتبعوا ( رؤساءهم ولم يزدهم ما لهم وولدهم ) إلأ خساراً ( في الآخرة كأن التمع القليل في الدنيا كالعدم .
وولده بالضم لغة في الولد ويجوز أن يكون جمعاً كفلك ) ومكروا ( معطوف على ) لم يزده ( لأن المتبوعين هم الذين مكروا ) وقالوا ( للأتباع ) لا تذرن ( وجمع حملاً على المعنى .
والكبار بالتشديد أكبر من الكبار بالتخفيف ولهذا لم يقرأ مخففاً إلا في الشاذ فكلاهما مبالغة في الكبير .
ولا ريب أن رأس الخيرات هو الإرشاد إلى التوحيد فنقيضه وهو الدعاء إلى الشرك يكون أعظم الكبائر(6/364)
" صفحة رقم 365 "
وأفظع أنواع المكر .
وإنما سمي مكراً لأنهم دلسوا عليهم بأنه دين آبائكم وألاباء أعرف من الأبناء .
وبأن هذه الأصنام تعطيكم الخيرات والمنافع وأنها شفعاؤكم .
ثم خصوا الأصنام الخمسة بالذكر لأنها كانت عندهم أكبر قالوا : وقد انتقلت من قوم نوح إلى العرب لأسباب لا لعلمها إلا الله ، ولأنها لم تكن مما تعرف بالطوفان ، فكان ود لكلب ، وسواع لهمدان ، ويغوث لمذحج ، ويعوق لمراد ، ونسر لحمير ، وصورته أيضاً كشورة النسر ، وأما ود فعلى صورة الرجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، وإنما دعا نوح عليهم بالضلال غضباً عليهم حين عرف بالقرائن المفيدة للجزم أنهم لا يكادون يؤمنون ، أو المراد ضلال طريق الجنة ، أو ضلال مكرهم المذكور وعدم ترويجه ، أو المراد العذاب كقوله ) إن المجريمين في ضلال وسعير ) [ القمر : 47 ] وقالت المعتزلة : أراد الخذلان ومنع الألطاف وخص هذا بالضلال دون التبار لموافقة قوله ) وقد أضلوا ( قوله ) مما خطيئاتهم ( ( من ) للتعليل كقولك ( جئتك لأجل كذا ) و ( ما ) صلة للتوكيد .
وسبب تقديم الجار بيان أنه لم يكن إغراقهم بالطوفان فإدخالهم النار إلا من أجل خطاياهم وهي كفرهم المضموم إلى أنواع إيذاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في مدة ألف سنة إلا خمسين عاماً .
وقد يستدل بفاء التعقيب لا سيما وقد دخل على ماضٍ معطوف على مثله على إثبات عذاب القبر .
عن الضحاك : كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب هكذا حال من مات من المجرمين في ماء أو ي نار أو في جوف سبع أصابه ما يصيب المقبور من العذاب العقلي وهو ظاهر ، والعذاب الجسمي وهو غير بعيد في قدرة الله تعالى .
وتنكير النار للتعظيم أو لأنها نوع نم النار مختص بهم .
وفي قوله ) فلم يجدوا ( تهكم بهم وبآلهتهم قوله ) وقال ( معطوف على مثله ولهذا دخل العاطف كأنه جمع نوح بين ذلك القول وبين هذا .
وإنما وقع مما خطيئاتهم إلى الآية اعتراضاً في البين تنبيهاً على أن خطيئاتهم هي المذكورات في الآية المتقدمة من عصيان رول الله واتباع غيره .
والمكر الكبار والحث على التقليد والإشراك بالله خصوصاً الأصنام الخمسة ) دياراً ( من الأسماء المتسعملة في النفي العام .
يقال : ما بالدار ديار وهو ( فيعال ) من الدور أو من الدار أي نازل دار قاله ابن قتيبة .
فعل به ما فعل بنحو أيام لو كان فعالاً لقيل دواراً ، قوله ) إنك إن تذرهم ( غىل آخره .
قال العلماء : عرف ذلك بالوحي كما قال ) إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) [ هود : 36 ] وبالتجربة في المدة إليه حالهم واتفق الجمهور على أن صبيانهم لم يغرقوا على وجه العذاب .
قال الحسن : علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب ولكن كما يموت أكثر الناس بآجال إختراعية ، ومنه(6/365)
" صفحة رقم 366 "
الحديث ( يهلكون مهلكاً واحداً يصدرون مصارد شتى ) ومن روى أن الله سبحانه أعقم أرحام نسائهم أربعين أو سبعين سنة فلا إشكال .
ثم إن نوحاً كأنه تنبه أن دعاءه عليهم كان بسبب الانتقام وبعض حظ النفس فاستغفر الله من ترك الأولى ، ثم عقبه بذكر والديه .
وكان إسم أبيه لمك بن متوشلخ .
وإسم أمه شمخا بنت أنوش .
قال عطاء : لم يكن بين نوح وآدم عليه السلام من آبائه كافر وكان بينه وبين أدم عشرة آباء .
وقيل : أراد بالوالدين آدم وحواء ) ولمن دخل بيتي ( أي منزلي .
وقيل : مسجدي .
وقيل : سفينتي .
وقيل : ديني .
على هذا يكون قوله ) مؤمناُ ( احترازاً من المنافق أي دخولاً مع تصديق القلب ، ثم عمم دعاء الخير للمؤمنين والمؤمنات ودعاء الشر لأهل الظلم والشرك إلى يوم القيامة .
والتبار الهلاك ويجوز أن يريد بالظالمين قومه فقط والله أعلم .(6/366)
" صفحة رقم 367 "
سورة الجن
( سورة الجن مكية حروفها سبعمائة وتسعة وخمسون كلماتها مائتان وخمس وثمانون آياتها ثمان وعشرون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الجن : ( 1 - 28 ) قل أوحي إلي . . . .
" قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا " ( ( القراآت ) وأنه تعالى ( إلى قوله ) وأنا منا المسلمون ( بالفتح : يزيد وابن عامر وحمزة(6/367)
" صفحة رقم 368 "
وعلي وخلف وحفص .
والمشهور عن أبي جعفر أنه كان يفتح الألف في سبعة مواضع ) أنه ( ) وأنه ( في خمسة مواضع ، واثنين في قوله ) وأن لو استقاموا ( ) وأن المساجد ( وهما بالفتح لا غير بالإتفاق ) تقول الإنس ( بالتشديد من التفعل : يعقوب ) يسلكه ( على الغيبة : عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب الباقون : بالنون ) وإنه لما قام ( بالكسر : نافع وأبو بكر وحماد ) لبداً ( بالضم : هشام .
) قل إنما أدعو ( على الأمر : عاصم وحمزة ويزيد الآخرون ) قال ( على صيغة الماضي والضمير لعبد الله ) ربي أمداً ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ) ليعلم ( مبنياً للمفعول : يعوب .
الوقوف : ( عجباً ( ه لا ) فآمنا به ( ط للعدول عن الماضي المثبت إلى ضدهما .
ثم الوقف على الآيات التي بعد أ ، جائز ضورةر انقطاع النفس والوقف في قراءة الكسر أجوز ) أحداً ( ه ) ولا ولداً ( ه ) شططاً ( ه لا ) رهقاً ( ه ) أحداً ( ه ) وشهباً ( ه ) للسمع ( ط ) رصداً ( ه ) رشداً ( ه ) ذلك ( ط ) قدداً ( ه ) هرباً ( ه ) آمنا به ( ط ) رهقاً ( ه ) ومنا القاسطون ( ه ط للابتداء بالشرط ) رشداً ( ه ) حطباً ( ه لا ) غدقاً ( ه لا ) فيه ( ج ) صعداً ( ه ) أحداً ( ه لمن قرأ ) وأنه ( بالفتح ) لبداً ( ه ) أحداً ( ه ) رشداً ( ه ) ملتحداً ( ه ) ورسالاته ( ط ) أبداً ( ه لا لأن حتى للابتداء بما بعدها ) عدداً ( ه لا ) امداً ( ه ) أحداً ( ه لا ) رصداً ( ه ) عدداً ( ه .
التفسير : روى يونس وهرون عن أبي عمرو ) وحي ( بضم الواو من غير ألف .
والوحي والإيحاء بمعنى وهو إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء وسرعة كالإلهام وإنزال الملك وقد مر مراراً .
وقرىء ) أحي ( بقلب الواو همزة .
والكلام في الحنِّ اسماً وحقيقته قد سلف في الاستعاذة وكذا بيان اختلاف الروايات أنه ( صلى الله عليه وسلم ) هل رأى الجن أم لا ، وذلك في آخر سورة ( حم الأحقاف ) .
والذي أزيجه ههما ما ذكره بعض حكماء الإسلام أنه لا يبعد أن تكون الجن أرواحاً مجردة كالنفوس الناطقة ، ثم يكون لكل واحد منهم تعلق بجزء من أجزاء الهواء كا أن أول متعلق النفس الناطقة هو الروح الحيوني في القلب ، ثم بواسطة سريان ذلك الهواء في جسم آخر كثيف يحلص التدبير والتصرف فيه كما للنفس الناطقة في البدن ، ومنهم من جوز أن يكون الجن عبارة عن النفوس الناطقة التي فارقت أبدان الإنسان فتتصرف فيما يناسبها من الأرواح البشرية التي لم تفارق بعد فتعينها بالإلهام إن كانت خيرة ، وبالوسوسة إن كانت بالضد .
أما الذاهبون إلأى أن الجن أجسام فمنهم الأشاعرة القائلون بأن البنية ليست شرطاً في الحياة وأنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علماً بأمور كثيرة وقدرة على أعمال شاقة ، فعند هذا ظهر القول بإمكان وجود الجن سواء كانت(6/368)
" صفحة رقم 369 "
أجسامهم لطيفة أو كثيفة وسواء كان أجزاؤهم صغاراً أو كباراً .
ثم الأمر بالخروج إليهم وقراءة القرآن عليهم لا أنه رآهم وعرف جوابهم .
والله تعالى أوحى في هذه السورة .
ومنهم من قال : البنية شرط وأنه لا بد من صلابة في البنية حتى يكون قادراً على الأفعال الشاقة .
ومن الأولين نم جوز أن يكون المرئي حاضراً والشرائط حاصلة والموانع مرتفعة ، ثم أنا لا نراه .
وأعلم أن ما ذكرنا في تفسير الأحقاف عن ابن عباس أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما رأة الجن .
وعن ابن مسعود أنه رآهم .
فالجمع بين القولين أن ما ذكره ابن عباس لعله وقع أولاً فأوحى الله إليه في هذه السورة أنهم قالوا كذا وكذا ، أو رآهم وسمع كلامهم وآمنوا به ، ثم رجعوا إلى قومهم وذكروا لقومهم على سبيل الحكاية ) أنا سمعنا قرآناً عجباً ( إلى آخره كقوله في ( الأحقاف ) ) فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين ) [ الآية : 29 ] أوحى الله تعالى إلى نبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ماجري بينهم وبين قومهم .
والفائدة فيه أن يعلم أنه مبعوث إلى الثقلين وأن الجن مكلفون كالأنس وأنهم يسمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا ، وأن المؤمن منهم يدعو سائرهم إلى الإيمان .
وأجمع القراء على فتح ) أنه استمع ( لأنه فاعل ) أوحي ( وكذا على فتح ) وأن لو استقاموا ( ) وأن المساجد ( لأنه يعلم بالوحي فهما معطوفان على ) أنه استمع ( وأجمعوا على كسر ) إنا ( في قوله ) إنا سمعنا ( لأنه وقع بعد القول .
وفي البواقي خلاف ، فمن كسر فمحمول على مقول القول وأنه صريح من كلام الجن ، ومن فتح فعلى أنه فاعل ) أوحى ( ولا بد من تقدير ما في الحكاية ليكون حكاية كلام الجن كأنه قيل : وحكوا أنه تعالى جد ربنا إلى آخره إلا في قوله ) وأنه لما قام عبد الله ( فإنه كاللذين تقدماه يصح وقوعه فاعل ) أوحي ( من غير تقدير ، وجوز صاحب الكشاف فيمن قرأ بفتح الكل في قوله ) وأنه تعالى جد ربنا ( ) وأنه كان يقول سفيهنا ( وكذلك البواقي أن يكون معنا صدقنا أنا قلت : وفيه نظر لنبوة عن الطبع في أكثر المواضع إذ لا معنى لقول القائل مثلا : صدقنا أنا لمسنا السماء وصدقنا أنا لما سمعنا الهدى آمنا به .
وبالجملة فكلامه في هذا المقام غير واضح ولا لائق بفضله. قوله سبحانه ) عجباً ( مصدر وضع موضع الوصف للمالغة أي قرآناً عجباً بديعاً خارجاً عن حد أشكاله بحسن مبانيه وصحة معانية ) يهدي إلى الرشد ( أي الصواب أو التوحيد والإيمان ) فآمنا به ( لأن الإيمان بالقرآن إيمان بكل ما فيه من التوحيد والنبوة والمعاد ، ويجوز أن يكون الضمير لله لأن قوله ) ولن نشرك بربنا ( يدل عليه بعد دلالة الحال ولن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك .
ذكر الحسن أن فيهم يهود ونصارى ومجوساً ومشركين .
قلت : ومما يدل على أن فيهم نصارة قوله تعالى ) وأنه تعالى جد ربنا ( أي عظمته مكن قولهم ( جد فلان في عيني ) أي عظم .
وفي حديث عمر كان الرجل منا إذا(6/369)
" صفحة رقم 370 "
قرأ البقرة وآل عمران جد فينا .
ويحتمل أن يراد ملكه وسلطانه أو غناه استعارة من الجد الذي هو الجولة والبخت لأن الملوك والأغنياء المجودون .
وفي الحديث ( لا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ ) قال أبو عبيدة : لا ينفع ذا الغنى منك غناه .
وفي حديث آخر ( قمت على باب الجنة فإذا غلقه من يدخلها من الفقراء وإذا أصحاب الجد محبوسون ) يعني أصحاب الغنى في الدنيا أي ارتفع غنى ربنا عن الاحتياج إلى الصاحبة والاستئناس بالولد كأنهم بسماع القرآن تنبهوا على خطا أهل الشرك من أهل الكتاب وغيرهم .
فقوله ) ما اتخذ ( بيان للأول .
وقيل : الجد أبو الأب وإن علا فهو مجاز عن الأصل أي تعالى أصل ربنا وهو حقيقته المخصوصة عن جميع جهات التعلق بالغير قاله الإمام في التفسير الكبير .
النوع الثالث مما ذكره الجن قوله ) وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا ( السفه خفة العقل ، والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره ومنه أشط فيء السوم إذا أبعد فيه أي يقول قولاً هو في نفسه شطط ، وصف بالمصدر للمبالغة ، والسفيه إبليس أو غيره من مردة الجن الذين جاوزا الحد في طرف النفي إلى أن أفضى إلى التعطيل ، أو في طرف الإثبات إلى أن أدى إلى الشريك والصاحبة والولد .
الرابع ) وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً ( أي إنما أخذنا قول الغير لأنا ظننا أن لا يفتري الكذب على الله أحد ، فلما سمعنا القرآن عرفنا أنهم قد يكذبون .
وقال جار الله ) كذباً ( صفة أي قولاً مكذوباً فيه ، أو مصدر لأن الكذب نوع من القول .
ومن قرأ بالتشديد وضع ) كذباً ( موضع تقولا ولم يجعله صفة لأن التقول لا يكون إلا كذباً .
قال بعض العلماء : فيه ذم لطريقة أهل الطريق وحث على الاستدلال والنظر .
الخامس ) وأنه كان رجال من الإنس ( الآية قال جمهور المفسرين : كان الرجل في الجاهلية إذ سافر فأمسى في واد قفر خاف على نفسه قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد الجن وكبيرهم فيبيت في جوار منهم حتى يصبح .
وقال آخرون : إذا قحطوا بعثوا رائدهم فإذا وجد مكاناً يه كلأ وماء رجع إلى أهله فسار بهم ، فإذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذ برب هذا الوادي ان يصيبنا آفة يعنون الجن فإن لم يفزعهم أحد نزلوا وربما أفزعهم الجن فهربوا .
وقيل : المراد أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضاً لكن من شر الجن كأن يقول مثلاً : أعوذ برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من شر جن هذا الوادي .
وإنما ذهبوا إلى هذا التأويل ظناً منهم بأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن ، وضعف بأنه لم يقم دليل(6/370)
" صفحة رقم 371 "
على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلاً .
أما قوله ) فزادوهم رهقاً ( فمعناه أن الإنس لاستعاذتهم بهم زادوهم إثماً وجراءة وطغياناً وكبراً لأنهم إذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا : سدنا الجن والإنس .
وقيل : ضمير الفاعل للجن أي فزاد الجن الإنس خوفاً وغشيان شر بإغوائهم وإضلالهم فإنهم لما تعوذوا بهم ولم يتعوذوا بالله استولوا واجترؤا عليهم .
السادس ) وأنهم ( أي الإنس ) ظنوا كما ظننتم ( أيها الجن قاله بعضهم لبعض .
وقيل : هذه الآية والتي قبلها من جملة الوحي بلا تقدير الحكاية .
والضمير في ) وأنهم ( للجن ، والخطاب في ) ظننتم ( لأهل مكة .
والأولى أن يكون الكلام من كلام الجن لئلا يقع كلام أجنبي في البين .
السابع ) وأنا لمسنا السماء ( قال أهل البيان : اللمس المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب التعرف ، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها .
والحرس إسم مفرد في معنى الحراس كالخدم بمعنى الخدام ولها لم يقل شداد .
الثامن ) وأنا كنا نقعد منها من الملائكة وهو اسم جمع كما قلنا في حرس .
فقوله ) رصداً ( كالخبر بعد الخبر وقال الفراء : هو فعل بمعنى مفعول أي شهاباً قد رصد ليرجم به .
وقيل : بمعنى فاعل أي شهاباً راصداً لأجله .
واعلم أنا قدبينا في هذا الكتاب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل مبعث نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) وقد جاء ذكرها في الجاهلية وفي كتب الفلاسفة ، وإنما غلظت وشدد أمرها عند البعث لئلا يتشوش أمر الوحي بسبب تخليط الكهنة .
وفي قوله ) كنا نقعد منها مقاعد ( إشارة إلى أن الجنّ كانوا يجدون بعض المقاعد خالية عن الشهب والحرس والآن ملئت المقاعد كلها .
التاسع ) وأنا لا ندري ( الآية .
وفيه قولان : أحدهما لا ندري أن المقصود من منع الإستراق شر أريد بمن في الأرض أم خير وصلاح .
وثانيهما لا نعلم أن المقصود من إرسال محمد الذي وقع المنع من الإستراق لأجله هو أن يكذبوه فيهلكوا كما هلك المكذبون من الأمم السالفة ، أو أن يؤمنوا فيهتدوا ، وفيه اعتراف من الجن بأنهم لا يعلمون الغيب على الإطلاق .
العاشر ) وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك ( أي قوم أدون حالاً في الصلاح نم المذكورين حذف الموصوف واكتفى بالصفة كا في قوله ) وما منا الإله مقام معلوم ) [ الصافات : 164 ] وهذا القسم يشمل المقتصدين والصالحين .
وقوله ( كنا طرائق قدداً ( بيان للقسمة المذكورة ، فالطرائق جمع الطريقة بمعنى السيرة والمذهب ، والقدد جمع قدة من قد كالقطعة من قطع أي كنا قبل الإسلام ذوي مذاهب متفرقة مختلفة أوعلى حذف المضاف أي كانت طرائقان طرائق قدد ، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة .
الحادي عشر ) وأنا ظننا ( أي تيقينا وقد استعمل الظن الغالب مكان اليقين ) أن لن نعجز الله(6/371)
" صفحة رقم 372 "
في الأرض ( إن أراد بنا أمر ) ولن نعجزه هرباً ( أي هاربين أو بسبب الهرب إن طلبنا وفيه إقرار منهم بأن الله غالب على كل شيء .
الثاني عشر ) وأنا لما سمعنا الهدى ( الآية .
عنوا سماعهم القرآن وإيمانهم به .
وقوله ( فلا يخاف ( في تقدير مبتدأ أو خبر أي فهو لا يخاف وإلا قيل بالجزم وبدون الفاء ، والفائدة في هذا المساق تحقيق أن المؤمن ناجٍ لا محالة كأنه وقع فأخبر أنه لا يخاف ودلالة على أنه هو المختص بذلك دون غيره إذ يعلم من بناء الكلام على الضمير أن غيره خائف .
وقوله ( بخساً ولا رهقاً ( على حذف المضاف أي جزاء بخس ولا رهق لأنه لم يبخس أحداً حقاً ولا رهق ظلم أحد ، وفيه أن المؤمن ينبغي أن يكون غير باخس ولا ظالماً .
ويجوز أن يراد لا يخاف البخس من الله لأنه يجزي الجزاء الأحسن الأوفر ولا ترهقه ذلة .
الثالث عشر ) وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون ( أي الجائرون عن طريق باخس ولا ظالماً ، ويجوز أن يراد لا يخاف البخس من الله لأنه يجزي الجزاء الأحسن الأوفر ولا ترهقه ذلة .
الثالث عشر ) وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون ( أي الجائرون عن طريق الحق بالكفر والعدوان وهو قريب من العاشر إلا أن في هذا النوع تفصيل جزاء الفريقين فذكر الإيعاد صريحاً وفي الوعد اقتصر على ذكر سببه وهو تحري الرشد أي طلب الصواب المستتبع للثواب .
قال المبرد : أصل التحري من قولهم ذلك أحرى وأحق وأقرب .
وقال أبو عبيدة : تحروا توخوا .
وفي العدول عن الحقيقة إلى المجاز في جانب الوعد بشارة وإشارة إلى تحقيق الثواب لما عرفت مراراً أن المجاز أبلغ من الحقيقة .
قوله ) وأن لو استقاموا ( معطوف على ) إنه استمع ( كما مر ومعناه أوحى إليّ أن الشأن والحديث لو استقام الجن على الطريق المثلى .
وجوز جمع من المفسرين أن يعود الضمير في ) استقاموا ( إلى الإنس لأن الترغيب في الانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بهم لا بالجن ، ولأن الآية روي أنها نزلت بعدما حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين .
وزعم القاضي أن الثقلين .
يدخلون في الآية لأنه أثبت حكماً معللاً بعلة وهو الاستقامة فوجب أن يعم الحكم بعموم العلة .
وأما قول من يقو لإن الضمير عائد إلى الجن فله معنيان : أحدهما لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله ولم يتتكبر عن السجود لآدم وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم .
وذكر الماء الغدق وهو الكثير كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع لأنه أصل البركات ، فتكون الآية نظير قوله ) ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم ) [ المائدة : 65 ] وثانيهما لو استقام الجن الذين استمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الإستماع ولو ينتقلوا عنها إلى الإسلام لو سعنا عليهم الرزق في الدنيا ليذهبوا بطيباتهم في الحياة الفانية ) ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا ( إلى آخره .
وأما الذين قالوا : الضمير عائد إلى الإنس فالوجهان جاريان فيه بعينهما .
وعن أبي مسلم : إن المراد بالماء الغدق جنات تجري من تحتها الأنهار يعني في الجنة .
واحتجاج الأشاعرة بقوله(6/372)
" صفحة رقم 373 "
) لنفتنهم ( على أنه سبحانه هو الذي يضل عباده ويوقعهم في الفتن والمحن. والمعتزلة أجابوا بأن الفتنة هنا بمعنى الاختبار كقوله ) ليبلوكم ) [ الملك : 2 ] ثم بين وعيد المعرضين عن عبادة الله ووحيه .
وانتصب ) عذاباً صعدأً ( على حذف الجار أي في عذاب صعد كقوله ) ما سلككم في سقر ) [ المدثر : 42 ] أو على تضمين معنى الإدخال .
الصعد مصدر بمعنى الصعود ، ووصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه .
وقد روى عكرمة عن ابن عباس أن ) صعداً ( جبل في جهنم من صخرة ملساء يكلف الكافر صعودها ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة ، وإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسلفها ثم يكلف الصعود مرة أخرى ، وهكذا أبداً ومن جملة الوحي قوله ) وأن المساجد لله ( ذهب الخليل أن الجار محذوف ومتعلقه ما بعده أي ولأجل أن المساجد لله خاصة ) فلا تدعوا مع الله أحداً ( فليها عن الحسن عني بالمساجد الأرض كلها لأنها جعلت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) مسجداً وهو مناسب لمدح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا المقام أي كما أنه مفضل على الأنبياء ببعثه إلى الثقلين فكذلك خص بهذا المعجز الآخر .
وقال جمع كثير من المفسرين : إنها كل موضع بني للصلاة ويشمل مساجدنا والبيع والكنائس أيضاًز قال قتادة : كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله فأمرنا بالإخلاص والتوحيد وعن الحسن أيضاً أن المساجد جمع مسجد بالفتح فيكون مصدراً بمعنى السجود .
وعلى هذا قال سعيد بن جبير : المضاف محذوف أي مواضع السجود من الجسد لله وهي الآراب السبعة : الوجه والكفان والركبتان والقدمان .
وقال عطاء عن ابن عباس : هي مكة بجميع ما فيها من المساجد ، وأنها قبة الدنيا فكل أحد يسجد إليها .
قال الحسن : من السنة أن الرجل إذا دخل المسجد أن يقول ( لا إله إلا الله ) لأن قوله ) لا تدعوا مع الله أحداً ( في ضمنه أمر بذكر الله بدعائه .
قوله ) وأنه لما قام عبد الله ( هو النبي باتفاق المفسرين .
ثم قال الواحدي : هذا من كلام الجن لأن الرسول لا يليق به أن يحكي عن نفسه بلفظ المغايبة .
ولا يخفى ضعفه فإنه وارد على طريق التواضع والأدب في الإفتخار بالانتساب إلى عبودية المعبود الحق ، وهذا طريق مسلوك في المحاورات والمكاتبات .
يقولون : عبدك كذا وكذا دون أن يقال ( فعلت كذا ) .
وفي تخصيص هذا اللفظ بالمقام دون الرسول والنبي نكته أخرى لطيفة هي أن ما قبله النهي عن عبادة غير الله وما بعده ذكر عبادة النبي إياه .
فإن كان هذا من جملة الوحي فلا إشكال في النسق ، وإن كان من كلام الجن وفرض أن ما قبل قوله ) ، أن لو استقاموا ( أيضاً من كلامهم كانت الآيتان المتوسطتان كالاعتراض بين طائفتي كلام الجن ومناسبة الاستقامة على الطريقة وتخصيص المساجد بعبادة الله وحده لما قبلها ظاهرة فلا(6/373)
" صفحة رقم 374 "
اعتراض على هذا الاعتراض .
وفي قوله ) كادوا ( ثلاثة أوجه أظهرها أن الضمير للجن ، والقيام قيام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن فاستمعوا لقراءته متزاحمين عليه متراكمين تعجباً مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه .
والثان بأن الضمير للمشركين والمعنى لما قام رسولاً يعبد الله وحده مخالفاً للمشركين كاد المشركون لتظاهرهم عليه يزدحمون على عداوته ودفعه .
والثالث قول قتادة أي لما قام عبد الله تلبدت الإنس ولاجن وتظاهروا عليه ليطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره .
و ) لبداً ( جمع لبدة وهي ما تلبد بعضه على بعض كلبدة الأسد .
والتركيب يدور على الإجتماع ومنه اللبد .
ومن قرأ ) قل إنما أدعو ( فظاهر وهو أمر من الله تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقول لأمته المتظاهرين أو للجن عند ازدحامهم : ليس على المضي فإخبار نم الهل تعالى أن نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) قال للمتظاهرين أو للجن عند ازدحاوهم : ليس ما ترون من عبادتي ربي بأمر بديع وإنما يتعجب ممن يدعو غير الله وجوز في الكشاف أن يكون هذا من كلام الجن لقومهم حكاية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
ثم أمر أن يخبر أمته بكلمات قاطعة للأسباب والوسائل سوى الإسمان والعمل الصالح .
والرشد بمعنى النفع ، والضر بمعن الغي ، وكل منها إمارة على ضده .
ثم من ههنا إلى قوله ) إلا بلاغاً ( اعتراض أكد به نفي الاستطاعة وإثبات العجز على معنى أن الله إن أراد به سوأ لن يخلصه منه أحد ولن يجد من غير الله ملاذاُ ينحرف غليه .
والمقصود أني لا أملك شيئاً إلا البلاغ الكائن من الله ورسالاته ، فالجار صفة لا صلة لأن التبليغ إنما يعدى ب ( عن ) قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( بلغوا عني ولو آية ) قال الزجاج : انتصب ) بلاغاً ( على البدل أي لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنهما أرسلني به .
قلت : على هذا جاز أن يكون استثناء منقطعاً .
وقيل : أن لا أبلغ بلاغاً لم أجد ملتحداً كقولك ( أن لا قياماً وقعوداً ) استدل جمهور المعتزلة بقوله ) ومن يعص الله ( الآية .
على أن الفساق نم أهل القبلة مخلدون في النار ، ولا يمكن حمل الخلود على المكث الطويل لاقترانه بقوله ) أبداً ( وأجيب بأن الحديث في التبليغ عن الله فلم لا يجوز أن تكون هذه القرينة مخصصة ؟ أي ومن يعص الله في تبليغ رسالته وأداء وحيه ، ومما يقوي هذه القرينة أن سائر عمومات الوعيد لم يقرن بها لفظ ) أبداً ( فلا بد لتخصيص المقام بها من فائدة وما هي إلا أن التقصير في التبيلغ أعظم الذنوب .
وقد يجاب أيضاً بأن قوله ) ومن يعص الله ( لا يحتمل أن يجري على عمومه كأن يراد ومن يعص الله بجميع أنواع المعاصي .
فمن المحال أن يقول شخص واحد بالتجسيم والتعطيل ، وإذا صار هذا العام مخصصاً بدليل العقل فلم لا يجوز أن يتطرق إليه تخصيص وبالتعطيل ، وإذا صار هذا العام مخصصاً وحينئذ لا يبقى للخصم شبهة بل نقول : لا حاجة إلى التزام تخصيص آخر ، فإن الآتي بالكفر(6/374)
" صفحة رقم 375 "
آت بجميع المعاصي الممكنة الجمع .
قال جار الله : ( حتى إذا ( متعلق بقوله ) يكونون عليه لبداً ( أي يتظاهرون عليه بالعداوة إلى يوم بدر أو إلى يوم القيامة حين يعلم يقيناً أن الكافر أضعف الفريقين .
وجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار واستقلالهم لعدده كأنه قال : لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا رأوا .
ثم أمره بأن يفوّض علم تعيين الساعة إلى الله لأنه عالم الغيب ) ومن رسول ( بيان ) لمن ارتضى ( وفيه أن الإنسان المرتضى للنوبة قد يطلعه الله تعالى على بعض غيوبه ، وعلم الكهنة والمنجمين ظن وتخمين فلا يدخل فيه ، وعلم الأولياء إلهامي لا يقوى قوة علوم الأنبياء كنور القمر بالنسبة إلى ضياء الشمس .
وههن أسرار لا أحب إظهارها فلنرجع إلى التفسير .
قوله ) فإنه يسلكه ( الأكثرون على أن الضمير لله سبحانه .
وسلك بمعنى أسلك .
) رصداً ( مفعول أي يدخل الله من أمام المرتضى ووزائه حفظة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك .
وفي الكلام إضمار التقدير .
إلا من ارتضى من رسول فإنه يطلعه على غيبه بطريق الوحي ثم يسلك .
وقيل : الضمير للمرتضى وسلك بمعنى ساء وفاعله الملائكة ) ورصداً ( حال .
قال في الكواشي : ثم بين غاية الإظهار والسلك فقال ) ليعلم ( أي ليظهر معلوم الله كما هو الواقع من غير زيادة ولا نقص ، ومثل هذا التركيب قد مر مراراً .
قال قتادة ومقاتل : أي ليعلم محمد أن قد أبلغ جبرائيلومن معه من الملائكة الوحي بلا تحريف وتغيير .
وقوله ( من بين يديه ( مع قوله ) أن قد أبلغوا ( كقوله ) فإن له نار جهنم خالدين ( من الحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى .
ثم ما ذكرنا وهو أن المراد بالعلم هو الظهور بقوله ) وأحاط بما لديهم ( من لاحكم والشرائع أي وقد أحاط قبل به .
ثم عمم العلم فقال ) وأحصى كل شيء ( من ورق الأشجار وزبد البحار وقطر الأمطار .
و ) عدداً ( مصدر في معنى الإحصاء أو حال أي ضبط كل شيء معدوداً محصوراً أو تمييز والله أعلم .(6/375)
" صفحة رقم 376 "
سورة المزمل
( سورة المزمل مكية غير آية ) إن ربك ( حروفها ثمانمائة وثمانية وثمانون كلماتها مائتان وثمان وخمسون آياتها عشرون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( المزمل : ( 1 - 20 ) يا أيها المزمل
" يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم " ( القراأت : ( أو انقص ( بكسر الواو للساكنين : حمزة وعاصم وسهل .
الآخرون : بضمها للإتباع ) ناشية ( بالياء : يزيد والشموني والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف .
الباقون .
بالهمزة ) وطأ ( بكسر الواو وسكون لاطاء : ابن عامر وأبو عمرو .
الآخرون : بالمد مصدر واطأت مواطأة ووطاء ) رب المشرق ( بالخفض على البدل ) من ربك ( ابن عامر ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل .
الباقون : بالرفع على المدح أي هورب .
) ونصفه وثلثه ( بالصنب فيهما : عاصم وحمزة وعلى وابن كثير وخلف .
الوقوف ) المزمل ( ه لا ) إلا قيلاً ( ه لا ) قليلاً ( ه لا ) ترتيلاً ( ه ) ثقيلاً ( ه(6/376)
" صفحة رقم 377 "
) قيلاً ( ه ط ) طويلاً ( ه ط ) تبتيلاً ( ه ط بالخفض لا يقف ) وكيلا ( ه ) جميلاً ( ه ) قليلاً ( ه ) وجحيماً ( ه لا ) أليماً ( ه وقد قيل يوصل بناء على أن يوم ظرف لدينا والوقف أجوز لأن ثبوت إلا نكال لا يختص بذلك اليوم بل المراد ذكر يوم كذا أو يوم كذا ترون ما ترون ) مهيلاً ( ه ) رسولاً ( ه ) وبيلا ( ه ) شيباً ( ه لا بناء على أن ما بعده صفة يوماً ) به ( ط ) مفعولاً ( ه ) تذكرة ( ج للشرط مع الفاء ) سبيلاً ( ه ) معك ( ط ) والنهار ( ه ) القرآن ( ط ) مرضى ( لا للعطف ) من فضل الله ( لا لذلك ) في سبيل الله ( ج لطول الكلام والوصل أولى للتكرار ) فاقرؤا ( ه ) منة ( لا للعطف ) حسناً ( ط ) أجرأ ( ط لاختلاف الجملتين ) الله ( ط ) حيم ( ه .
التفسير ) المزمل ( أصله المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف بها ، فأدغم التاء في الزاء ونحوه المدثر في المثر والخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالإتفاق إلا أنهم اختلفوا في سببه .
فعن ابن عباس : أول ما جاءه جبرائيل عليه لاسلام خافه فظن أن به مساً من الجن فرجع من الجبل مرتعداً وقال : زملوني فبينا هو كذلك إذ جاءه ابمبك وناداه ) يا أيها المزمل ( فهذه السورة على هذا القول من أوائل ما نزل من القرآن قال الكلبي : إنما تزمل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بثيابه ليتهيأ للصلاة فأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه .
ومثله عن عائشة وقد سئلت عن تزلمه فقال : إنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان تزمل مرطاً سداه شعر ولحمته وبر طوله أربع عشرة ذرعاً نصفه علي وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي .
وقيل : أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة فنودي بما يهجن تلك الحالة لأنها فعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن فأمر أن يختار على الهجود التهجد وعلى التزمل الموجب للاستثقال في النوم التشمر للعبادة ، وقال عكرمة : إشتقاقه من الزمل الحمل ومنه أزدمله أي احتمله ، والمعنى يأيها الذي احتمل أمراً عظيماً يريد أعباء النبوة ويناسبه التكليف بعده بقيام الليل .
قال ابن عباس : إنه كان فريضة عليه بناء على ظاهر الأمر ثم نسخ .
وقيل : كان واجباً عليه وعلى أمته في صدر الإسلام فكانوا على ذلك سنة أو عشر سنين ، ثم نسخ بالصلوات الخمس ، قالجار الله : قوله ) نصفه ( بدل من الليل و ) إلا قليلاً ( استثناء من النصف كأنه قال : قم أقل من نصف الليل أو انقص من النصف قليلاً أو د على النصف ، خيره بين أمرين بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ، وبين أن يختار أحد الأمرين : النقصان من النصف أو الزيادة عليه .
وإن شئت جعلت ) نصفه ( بدلاً من ) قليلاً ( لأن النصف قليل بالنسبة إلى الكل ، ولأن الواجب إذا كان هو النصف لم يخرج صاحبه عن العهدة لا بزيادة شيء فيصير الواجب بالحقيقة نصفاً فشيئاً فيكون الباقي أقل منه ، فكان تخييراً بين ثلاث بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص منه ، وبين قيام الزائد(6/377)
" صفحة رقم 378 "
عليه ، فلك أن تقول : على تقدير إبدال النصف من الليل إن الضمير في ) منه ( و ) عليه ( راجع إلى الأقل من النصف فكأنه قيل : قم أقل من نصف الليل أو قم أنقص القليل أو أزيد منه قليلاً فيكون التخيير فيما وراء النصف إلى الثلث مثلاً ، وإن شئت على تقدير إبدال النصف من ) قليلاً ( جعلت ) قليلاً ( الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع كأنه قال : أو انقص منه قليلاً نصفه ويجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع كأنه قيل : أو زد عليه أي على الربع قليلاً نصفه وهو الثمن فيكون تخييراً بين النصف وحده والرابع والثمن معاً والربع وحده ، هذا حاصل كلامه مع بعض الإيضاح .
وأما في التفسير الكبير فقد اختار أن المراد بقوله ) قليلاً ( الثلث لقوله تعالى في السورة ) إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة ( ففيه دليل على أن أكثر المقادير الواجبة كان الثلثين إلا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ربما يتفق له خطأ بالإجتهاد أو النوم فينقص شيء منه إلى النصف أو إلى الثلث على قراءة الخفض .
وليس هذا مما يقدح في العصمة لعسر هذا الضبط على البشر ولا سيما عند اشتغاله بالنوم ولذلك قال ) علم أن لن تحصوه ( فيصير تقدير الآية .
قم الثلثين ثم نصف الليل .
أو انقص من النصف ، أو زد عليه .
والغرض التوسعة وأن أكثر الفرض هو الثلثان وأقله الثلث ليكون النقصان من النصف بقدر الزيادة .
عن الكلبي قال : كان الرجل يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين .
ثم علم أدب القراءة فقال ) ورتل القرآن ترتيلاً ( وهو قراءة على تأن وتثبت ولا تحصل إلا بتبيين الحروف وإشباع الحركات ومنه ( ثغر مرتل ) إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير ، ومنه قال الليث : الترتيل تنسيق الشيء وثغر رتل حسن التنضيد كنور الأقحوان .
سئلت عائشة عن قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : لا كسر دكم .
هذا لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها .
وفي قوله ) ترتيلاً ( زيادة تأكيد في افيجاب وأنه لا بد للقاريء منه لتقع قراءته عن حضور القلب وذكر المعاني فلا يكون كمن يعثر على كنز من الجواهر عن غفلة وعدم شعور .
حين أمره بقيام الليل ويتدبر القرآن فيه وعده بقوله ) إنا سنلقي لعيك قولاً ثقيلاً ( كأنه قال : صير نفسك بأنوار العبادة والتلاوة مستعداً لقبول الفيض الأعظم وهو القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة على نفوس البشر .
وقيل : ثقلة أنه كان إذا نزل عليه الوحي تربد جلده ارفض جبينه عرقاً .
ومنه قيل ( برحاء الوحي ) وقال الحسن : أراد ثقله في الميزان وقال أبو علي الفارسي : ثقيل على المنافقين من حيث إنه يهتك أستارهم وقال الفراء : كلام له وزن وموقع لأنه حكمة وبيان ليس بالسفساف وما لا يعبأ به .
وقيل : باقٍ على وجه الدهر لأن الثقيل من شأنه أن لا يزول عن حيزه .
وقيل : يثقل إدراك معانيه وإحضارها .
والفرق بين أقسامها من(6/378)
" صفحة رقم 379 "
المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والظاهر والمؤل .
ثم عاد إلى حكمة الأمر بقيام الليل فقال ) إن ناشئة الليل ( فيها قولان : أحدهما أنها ساعات الليل إما كلها لأنها تنشأ أي تحدث واحدة بعد اخرى ، وإما الساعات الأول ما بين المغرب والعشاء وهو قول زين العابدين وسعيد بن جبير والضحاك والكسائي وذلك أنها مباديء نشوء الليل .
والثاني أنها بعارة عن الأمور التي تحدث في الليل ، وعلى هذا اختلفوا فمهم من قال : هي النفس الناشئة بالليل أي التي تنشأ من مضجعها للعبادة أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت .
ومنهم من قال : هي مصدر كالعاقبة أي قيام اللليل ولا بد من سبق النوم لما روي عبيد بن عمير قلت لعائشة : رجل قام من أول الليل أتقولين له قام ناشئة الليل ؟ قالت : لا إنما الناشئة القيام بعد النوم .
وقد فسرها بعض أهل المعنى بالواردات الروحانية والخواطر النورانية والإنفعالات النفسانية للإبتهاج بعالم القدس وفراغ النفس من الشواغل الحسية التي تكون بالنهار .
الوطاء والمواطأة الموافقة .
قال الحسن : يعني النفس أشد موافقة بين السر والعلانية أو القلب أو اللسان لانقطاع رؤية الخلائق ، أو يواطيء فيها قلب القائم لسانه ، إن أردت الساعات ، أو القيام .
ومن قرأ وطأ بغير فالمعنى أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل وأثقل وأغلظ على المصلي من صلاة النهار ومه قوله ( اللهم أشدد وطأتك على مضر ) ) وأقوم قيلاً ( وأشد مقالاً وأثبت قراءة لهدوّ الأصوات وسكون الحركات فلا يكون بين القراءة وبين تفهم معانيها حائل ولا مشوش .
قال في الكشاف : عن أنس إنه قرأ و ( أصوب قيلاً ) فقيل له : يا أبا حمزة إنما هي ) أقوم ( فقال : إنهما واحد. قال ابن جني : وهذا يدل على أن القوم كانوا يعتبرون المعاني ولا يلتفتون نحو الألفاظ قال العلماء الراسخون : هذا النقل يوجب القدح في القرآن فالواجب أن يحمل النقل لو صح على أنه فسر أحد اللفظين بالآخر لا أنه زعم أن تغيير لفظ القرآن جائز .
ثم أكد أمر قيام الليل بقوله ) إن لك في النهار سبحاً طويلاً ( قال المبرد : أي تصرفاً وتقلباً في مهماتك فلا تفرغ لخدمة الله إلا بالليل ومنه السابح لتقلبه بيديه ورجليه .
وقال الزجاج : أراد أن ما فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه .
وقيل : أن لك في النهار مجالاً للنوم والإستراحة وللتصرف في الحوائج .
ثم بين أن أشرف الأعمال عند قيام الليل ما هو فصله في شيئين ذكر إسم الرب والتبتل إليه وهو الإنقطاع إلى الله بالكلية والتبتل القطع ، الأول مقام السالك والثاني مقام المشاهد .
فالأول كالأثر والثاني كالعين وإنما لم يقل وبتل نفسك إليه تبتيلاً لأن المقصود بالذات هو التبتل فبين أولاً ما هو المقصود ثم أشار أخيراً إلى سببه تأكيداً مع رعاية الفاصلة .
ثم أشار إلى الباعث إلى التبتل فقال ) رب المشرق والمغرب ((6/379)
" صفحة رقم 380 "
لأن التكميل والأحسان موجب المحبة وجبلت القلوب على حب من أحسن إليها والمحبة تقتضي الإقبال على المحبوب بالكلية ) لا إله إلا هو ( وهو إشارة إلى كماله تعالى في ذاته والكمال محبوب لذاته ، وهذا منتهى مقامات الطالبين وإنه يستدعي رفع الإختيار من البين وتفويض الأمر بالكلية إلى المحبوب الحقيقي حتى أن المحبوب لو كان رضاه في عدم التبتل إليه رضي المحب بذلك ، وإن كان رضاه في التبتل والتوجه نحوه فهو المطلوب لا من حيث إنه تبتل بل من حيث إنه مراد المحبوب الحق جل ذكره .
وقوله ( فاتخذه وكيلاً ( كالنتيجة لما قبله ، وفيه إن من لم يفوض كل الأمور إليه لم يكن راضياً بإلهيته معترفاً بربوبيته ، وفيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سيكفيه شر الكفار وأعداء الجين .
ثم أمره بالصبر عند الإختلاط بالهجر الجميل إذا أراد أن لا يخالطهم .
والهجر الجميل أن يخالفهم بقلبه ويداريهم بالإغضاء وترك المكافآت ومن المفسرين من قلا : إنه منسوخ بآية القتال وقد عرفت مراراً أنه لاضرورة إلى التزام النسخ .
في أمثال هذه الآية .
ثم أمره بأن يخلي بينه وبين المكذبين أصحاب الترفه .
والنعمة بالفتح التنعم وهم صناديد قريش ولم يكن هناك منع ولكنه سبحانه أجرى الكلام على عادة المحاورات ، والغرض أنه سبحانه يكفي في رفع شرور الكفرة ودفع إيذائهم ثم فصل ما سيعذب به أهل التكذيب مما يضاد تنعمهم .
والإنكال جمع نكل بالكسر أو نكل بالضم وهي القيود الثقال .
عن الشعبي : إذا ارتفعوا استلفت بهم .
والطعام ذو الغصة هو الذي ينشب في الحلق كالزقوم والضريع فلا ينساغ ، وقد يمكن حمل هذه الأمور على العقوبات الروحانية فالإنكال عبارة عن بقاء النفس في قيود العلائق الحسية والملكات الوهمية ، والجحيم نيران لحسرة والحيرة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة. ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق الجلال والبقاء في ظلمة الضلال والتنوين في هذه الألفاظ للتعظيم أو النوع .
ثم وصف اليوم فيه هذه الأحوال والأهوال فقال ) يوم ترجف الأرض والجبال ( الرجفة الزلزلة والكثيب الرمل المجتمع ( فعلي ) ( بمعنى ) ( مفعول ) من كثب الشيء جمعه .
وقال الليث : الكثيب نثر التراب أو الشيء يرمي به .
وسمي الكثيب كثيباً لأن ترابه دقاق كأنه نثر بعضه على بعض لرخاوته ، والمهيل السائل تراب مهيل ومهيول أي مصبوب وإنما لم يقل كثيبة مهيلة لأنها باسرها تجتمع فتصير واحداً ، أو المراد كل واحد منها ، وحين خوف المكذبين بأهوال الآخرة خوفهم بأهوال الدنيا مثل ما جرى على الأمم السابقة لا سيما فرعون وجنوده .
وإنما خصص قصة موسى بالذكر لأن أمته أكثر الأمم الباقية ومعجزاته أبهر فكان تشبيه نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) بحال أنسب .
ومعنى ) شاهدا عليكم ( كما مر في قوله ) ويكون الرسول عليكم شهيداً ) [ البقرة : 143 ] إنما عرّف الرسول ثانياً لأنه ينصرف إلى المعهود(6/380)
" صفحة رقم 381 "
السابق في الذكر والأخذ الوبيل الثقيل الغليظ ومنه الوابل للمطر العظيم .
قال أبو زيد : هو الذي لا يستمر ألو خامته ومنه كلأ مستوبل .
ثم عاد إلى توبيخهم مرة بعد أخرة قائلاً ) فكيف تنقون إن كفرتم يوماً ( وانتصب ) يوماً ( على أنه مفعول به ) لتتقون ( أي كيف تحذرون ذلك اليوم لو كفرتم أي إن جحدتم يوم الجزاء فكيف تدعون تقوى الله وخوف عقابه ؟ ويجوز أن يكون ظرفاً ) لتتقون ( أي فيكف لكم بالتقوى يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا ؟ ثم ذكر من هول ذلك اليوم شيئين : الأول أنه يجعل الولدان شيئاً جمع أشيب نحو بيض جمع أبيض فقيل : إنه وصفه بالطول بحيث يبلغ الأطفال فيه أوان الشيخوخة والشيب .
والأكثرون على أنه مثل في الشدة كما قيل ( يوم يشيب نواصي الأطفال ) والأصل فيه قول الحكماء إن الهموم والأحزاب تسرع الشيب لإقتضائهما احتباس الروح إلى داخل القلب المستتبع لانطفاء الحرارة الغريزية المستعقب لفجاجة الأخلاط واستيلاء البلغم المتكرج .
وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيباً حقيقة لأن إيصال الألم والخوف إلى الصبيان غير جائز .
وجوزه بعضهم بناء على أن ذلك اليوم أمر غير داخل تحت التكليف وقد حكي أن رجلاً أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب وأصبح وهو أبيض الرأس واللحية فقال : أرأيت القيامة والنار في المنام ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار ، فمن هول ذلك وأصبحت كما ترون .
الثاني قوله ) السماء منفطر به ( وإنما ذكر السماء لأن تأنيثه غير حقيقي ، أو بتأويل السقف ، أو بتأويل الشيء المنفطر أو ذات انفطار .
والباء في ) به ( بمعنى ( في ) عند الفراء ، أو للآلة نحو فطرت العود بالقدوم أي أنها تنفطر بسبب هول ذلك اليوم ، أو تثقل به إثقالاً يؤدي إلى إنفطارها كقوله ) ثقلت في السموات والأرض ) [ الأعراف : 187 ] ( كان وعده ( أي وعد الله وقيل وعد اليوم فيكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول ) إن هذه ( الآيات المشتملة على التكاليف والتخاويف ) تذكرة ( موعظة شافية ) فمن شاء إتخذ إلى ( قرب ) ربه سبيلاً ( بالإتعاظ والإدكار والتوسل بالطاعة والتجنب عن المعصية .
قال المفسرون : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه شمروا بعد نزول أوائل السورة عن ساق الجد في شأن قيام الليل ، وتركوا الرقاد حتى انتفخت أقدامهم واصفرت ألوانهم فلا جرم رحمهم ربهم وخفف عنهم قائلاً ) إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ( أقل منهما .
قال أهل المعاني والبيان : إنما استعير الأدنى للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز ) و ( تقوم ) نصفة وثلثه ( وهذا مطابق لما مر أو لأن التخيير بين النصف والناقص منه إلى الثلث وبين الزائد على النصف إلى الثلثين ومن قرأ بالجر فمعناه يقوم أقل من الثلثين وهو النصف ، وأقل من النصف وهو ثلثه ، وأقل من(6/381)
" صفحة رقم 382 "
الثلث وهو الربع وهو مطابق للوجه الآخر. و قوله ) وطائفة ( عطف على المستتر في ) يقوم ( وجاز من غير تأكيد للفصل ) والله يقدر الليل والنهار ( فلا يعرف ما مضى من كل منهما أي آن يفرض إلا هو .
وهذا الحصر ينبيء عنه بناء الكلام على الإسم دون الفعل .
ثم أكد المعنى المذكور بقوله ) علم أن لن تحصوه ( أي لا يصح منكم ضبط أوقات الليل كما هي إلا أن تأخذوا بالأوسع الأحوط وذلك شاق عليكم ) فتاب عليكم ( ما فرط منكم في مساهلة حصر الأوقات ورفع تبعته عنكم ) فاقرؤا ما تيسر من القرآن ( الأكثرون على أن القراءة ههنا عبارة عن الصلاة كما يعبر عنها بالقيام والركوع ولاسجود ، والمعنى فصلوا ما تيسر عليكم بالليل فيكون هذا ناسخاً للأول .
ثم إنهما نسخاً جميعاً بالصلوات الخمس ، أو نسخ هذا وحده بهن .
وعن بعضهم أنها القراءة حقييقة .
وروي ( من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن ومن قرأ مائة آية أو خمسين كتب من القانتين ) ثم بيّن الحكمة في النسخ فقال ) علم ( وهو استئناف على تقدير السؤال عن وجه النسخ .
و ( أن ) في قوله ) أن سيكون ( مخففة من الثقيلة اسمها الشأن و ( كان ) تامة أي سيوجد ) منكم مرضى ( هي جمع مريض ) وآخرون ( عطف عليه في الموضعين سوى الله سبحانه بين المسافرين للكسب الحلال والمجاهدين في سبيله فما أنصف من جانبه من العلماء مستنكفاً عنه إلى طلب ما لم يجوز أخذ الأجرة عليه كالإمامة والقضاء والتدريس يرى أنه منصب من المناصب الدينية فيضع دينه للذة خيالية لا اعتداد بها عند العقلاء .
عن عبد اله بن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رحل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله ، وعن عبد الله ابن مسعود مرفوع ظناً .
أيما رجل جلب شيئاًً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء .
وظاهر أن المرضى لا يمكنهم الإشتغال بالتجهد لمرضهم .
وأما المسافرون والمجاهدون فمشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة ، فلو اشتغلوا بالعبادة في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم قوله ) فاقرؤا ما تيسر منه ( من إعادة الأوّل تأكيداً للرخصة ، عن ابن عباس : سقط عن أصحاب النبي قيام الليل وصار تطوعاً وبقي ذلك فريضاً على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . ثم أمر بإقامة الصلوات الخمس وإيتاء الزكاة وهذا أيضاً مما يغلب على الظن أن الآية مدنية .
وقيل : هي زكاة الفطر .
ثم أشار إلى صدقة التطوع بقوله ) وأقرضوا الله ( ويحتمل أني عود هذا أيضاً إلى الزكاة أي أقرضوا الله بإيتاء الزكاة ، وفيه أن(6/382)
" صفحة رقم 383 "
إخراج الزكاة ينبغي أن يكون على أحسن وجه من مراعاة النية الخالصة والصرف إلى المستحقين وكونها من أطيب الأموال لا أقل من الوسط. ثم حث على الإنفاق مطلقاً بقوله ) وما تقدموا ( الآية وقوله ( هو ( صيغة الفصل .
وقوله ( خيراً ( ثاني مفعولي ) تجدوه ( ثم حرض على الإستغفار في جميع الأحوال وإن كان طاعات لما عسى أن يقع فيها تفريط وإليه المرجع والمآب(6/383)
" صفحة رقم 384 "
سورة المدثر
( سورة المدثر مكية حروفها ألف وعشرة كلماتها مائتان وخمس وخمسون آياتها ست وخمسون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( المدثر : ( 1 - 56 ) يا أيها المدثر
" يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة كلا بل لا يخافون الآخرة كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة " ( القراأت ) الرجز ( بضم الراء : يزيد وسهل ويعقوب وحفص والمفضل والآخرون : بالكسر ) تسعة عشر ( بسكون العين لتوالي الحركات : يزيد والخراز عن هبيرة ) إذا ( بسكون الذال ) أدبر ( من الإدبار : نافع ويعقوب وحمزة وخلف وحفص والمفضل .
الباقون(6/384)
" صفحة رقم 385 "
) إذا ( بالألف ) دبر ( من الدبور .
) مستنفرة ( بفتح الفاء : أبوجعفر ونافع وابن عامر والمفضل ) تخافون ( بتاء الخطاب : ابن مجاهد والنقاش عن أبي ذكوان ) وما تذكرون ( على الخطاب : نافع ويعقوب .
الوقوف : ( المدثر ( ه لا ) فأنذر ( ه لا ) فكبر ( ه ك ) فطهر ( ه ك ) فاهجر ( ه ك ) تستكثر ( ه ك ) فاصبر ( ه ط وقد يجوز الوقوف على الآيات قبلها إلا على الأولى ) الناقور ( ه لا ) عسير ( ه ) يسير ( ه ) وحيداً ( ه لا ) ممدوداً ( ه ك ) شهوداً ( ه ك ) تمهيداً ( ه ك ) أ ، أزيد ( ه ) كلا ( ط ) عنيداً ( ه ط للإبتداء بالتهديد ) صعوداً ( ه ك للإبتداء بأن ) وقدر ( ه لا ) قدر ( ه لا ) نظر ( ه لا ) وبسر ( ه ك ) واستكبر ( ه ك ) يؤثر ( ه ك ) البشر ( ه ) سقر ( ه لا ) ما سقر ( ه ط لتناهي الإستفهام ) ولا تذر ( ه لأن التقدير هي لواحة مع اتحاد المقصود ) للبشر ( ط للآية ولأن ما بعده من تمام المقصود ) عشر ( ه ط ) ملائكة ( ص لاتفاق الجملتين مع استقلال كل منهما بنفي واستثناء ) كفروا ( لا لتعلق اللام ) والمؤمنون ( لا لذلك ) مثلاً ( ط ) ويهدي من يشاء ( ط ) إلا هو ( ط ) للبشر ( ه قد يوصل على جعل ) كلا ( ردعاً والوقف على ) البشر ( دون ) كلا ( صواب لأنه تأكيد القسم بعدها ) والقمر ( ه ) إذ أدبر ( ه لا ) أسفر ( ه لا ) الكبر ( ه ) للبشر ( ه ) يتأخر ( ه ط ) رهينة ( ه لا ) اليمين ( ه ط على تقديرهم في جنات يتساءلون فيها .
والوقف على ) جنات ( أولى لعدم الإضمار ) سقر ( ه ) المصلين ( ه ) المسكين ( ه ) الخائضين ( ه ك ) الدين ( ه لا ) اليقين ( ه ) الشافعين ( ه ج للإبتداء بالاستفهام به ) معرضين ( ه لا لأن ما بعده صفتهم ) مستنفرة ( ه ط ) قسورة ( ه ط ) منشرة ( ه ط ) كلا ( للردع عن الإرادة ) الآخرة ( لا على جعل ) كلا ( بمعنى حقاً تذكرة ( ج للشرط مع الفاء ) ذكره ( ه ) الله ( ه ) المغفرة ( ه .
التفسير : روى جابر بن عبدالله أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : كنت على جبل حراء فنوديت على محمد إنك رسول الله ، فنظرت عن يميني ويساوي فلم أر شيئاً ، فنظرت فوقي فرأيت الملك قاعداً على عرش بين السماء والأرض فخفت ورجعت إلى خديجة فقلت : دثروني وصبوا عليّ ماء بارداً ، ونزل جبرائيل وقال ) يا أيها المدثر ( وروى الزهري مثله ، وقريب منه ما قيل : إنه تحنث في غار حراء فقيل له ) يا أيها المدثر ( المغطى بدثار اشتغل بدعوة الخلق ، فالسورة على هذا من أوائل ما نزول .
وقيل : سمع من قريش ما كرهه كما يجيء حكايته عن الوليد فاغتنم فتغطى بثوبه مفكراً فأمر أن لا تدع إنذارهم وتصبر على أذاهم .
وقيل : أراد يا أيها المدثر بدثار النبوة مثل لباس التقوى .
والدثار ما فوق الشعار ، والشعار الوب الذي يلي(6/385)
" صفحة رقم 386 "
الجسد قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الأنصار شعار والنار دثار ) قوله ) قم ( أي من مضجعك أو قيام عزم وتصمم .
وقوله ( فأنذر ( متروك المفعول لئلا يختص بأحد نحو ( فلان يعطي ) أي فافعل الإنذار وأوجده وقيل : أراد فحذر قومك من عذاب الله إن لم تؤمنوا .
قوله ) وربك فكبر ( أي عظم ربك مما يقول عبدة الأوثان ، أو من أن يأمرك بالإنذار من غير حكمة وصلاح عام .
وعن مقاتل : وهو نفس التكبير .
يروى أنه لما نزل قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : الله أكبر فكبرت خديجة وفرحت وأيقنت أنه الوحي وقد يحمل على تكبير الصلوات ولا يبعد أن يكون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أول الأمر صلوات مخصوصة والفاآت في ) فكبر ( وما يتلوها لتلازم ما قبلها وما بعدها كأنه قيل : مهما كان من شيء فلا تدع تكبيره .
وقوله ( وثيابك فطهر ( في تفسيره وجوه أربعة : أحدها أن يترك كل من لفظي الثياب والتطهير على ظاهره .
فعن الشافعي أن المراد الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس والأقذار ولا ريب أن هذا هو الأصل إلا أن في غير حال الصلاة أيضاً لا يحل إتسعمال النجس أولا يحسن فقبح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثاً .
وروي أنهم ألقوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سلى شاة فرجع إلى بيته حزيناً وتدثر ثيابه فقيل ) يا أيها المدثر قم فأنذر ( ولا تمنعك تلك الناهية عن الإنذار ) وربك فكبر ( عن أن لا ينتقم منهم ) وثيابك فطهر ( عن تلك النجاسات والقاذورات الثاني : الثياب حقيقة والتطهير كناية عن التقصير لان العرب كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم .
وقال علي عليه السلام : قصر ثيابك فإنه أتقى وأبقى وأنقى .
وقيل : تطهيرها أن لا تكون مغصوبة ولا محرمة بل تكون مكتبسة من وجه حلال .
الثالث : عكسه فعبر عن الجسد بالثياب لاشتماله على النفس .
وكان العب لا يتنظفون وقت الإستنجاء فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالتنظيف الرابع : أن يكون كل من اللفظين مجازاً قال القفال : إنهم لما لقبوه بالساحر شق عليه ذلك فرجع إلى بيته وتدثر فكان ذلك إظهار جزع وقلة صبر فأمر بحسن الخلق وتهذيب الأخلاق أي طهر قلبك عن الصفات الذميمة كقطع الرحم وعزم الإنتقام والسآمة من الدعوة إلى دين الله لأجل أذى القوم .
وهذا بعد منا سبته لخطابه بالمدثر مجاز مستعمل يقال : فلان طاهر الجيب نقي الذيل إذا كان بريئاً من المثالب .
ويقال : المجد في ثوبيه والكرم في برديه وذلك أن الثواب كالشيء الملازم للإنسان فجعل طهارته كطهارته ، ولأن الغالب أن من طهر باطنه طهر ظاهرة .
وقيل : هو أمر بالإحتراز عن الآثام والأوزار التي كان يقدم عليها قبل النبوة .
وهذا تأويل من حمل قوله ) ووضعنا عنك وزرك ) [ الشرح : 2 ] على آثام الجاهلية : وقيل :(6/386)
" صفحة رقم 387 "
معناه نساءك طهرهن .
وقد يكنى عن النساء بالثياب هن لباس لكم .
قوله ) والرجز فاهجر ( هو بالكسر والضم العذاب والمراد اهجر ما يؤدي إليه من عبادة الأوثان وغيرها أي أثبت على هجره مثل أهدنا ، وهذا يؤكد تأويل من حمل قوله ) وثيابك فطهر ( على تحسين الأخلاق والأجتناب عن المعاصي ) ولا تمنن تستكثر ( لا تعط مستكثراً رائياً لما أعطيته كثيراً بل يجب أن تستحقرها وترى أن للأخذ حرمة عليك بقبول ذلك الإنعام ، وهذا نهاية الكرم على أن الإستكثار ينبيءء على المنة وهي مبطلة للعمل كما قال ) لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) [ البقرة : 267 ] فقوله ) تستكثر ( مرفوع والجملة في موضع الحال منصوباً ، ويجوز أن يكون الأصل لأن تستكثر فحذف اللام ثم ( أن ) وأبطل عملها كما روي ( ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ) بالرفع .
واختار أبو علي الفارسي الوجه الأول إلا أنه قال : تأويله لا تمنن مقدراً الإستكثار كما في قول القائل : مررت برجل معه صقر صائداً به غدأً .
وأقول : هذا التأويل مما لا حاجة إليه لأن طلب الكثرة مقرون بالإعطاء بخلاف لاصيد غداً .
وذهب جم غفير من المفسرين إلى أنه نهى عن الإستقراض وهو أن يهب شيئاً طامعاً ي أن يأخذ أكثر منه فيكون نهى تنزيه لأنه جاء في الحديث ( المستغزر يثاب من هبته ) ويجوز أن يكون نهي تحريم خاصاً برسول الله لأن منصبه يجل عن طلب الدنيا خصوصاً بهذا الوجه ، ومنهم من حمله على الرياء فيكون نهي تحريم للكل والمن معنى .
وقال القفال : يحتمل أن يكون المقصود النهي عن طلب العوض كاره أن ينتقص المال بسبب العطاء فكأنه يطلب الكثرة .
والناقص فأن طالب العوض كاره أن ينتقص المال بسبب العطاء فكأنه يطلب الكثرة .
ويجوز أن يقال : إنما حسنت هذه الإستعارة لأن الغالب أن الثواب يكون زائداً على العطاء قسمي طلب الثواب إستكثاراً حملاً للشيء على أغلب أحواله ، وكما أن الأغلب أن المرأة ذات الولد إنما تتزوج للحاجة إلى من يربى ولدها فسمي الولد ربيباً ، ثم اتسع ولد المرأة ربيباً .
وإن كان كبيراً خارجاً عن حد التربية أمر ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكون عطاؤه خالياً عن انتظار العوض والتفات النفس إليه كيف كان حتى يقع خالصاً لوجه الله ويكون صابراً محتسباً .
وعن الحسن وغيره أنه لما أمره الله بإنذار القوم الكبير كالمستكثر لما تفعله بل اصبر على ذلك كله ويؤكده قوله بعد ذلك ) ولربك فاصبر ( أي استعمل الصبر في مظانه خالصاً لوجه ربك وقيل : لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الين والوحي كالمستكثر لذلك بأمر الله .
وقيل : لا تمنن عليهم بنبوتك لتستكثر أي لتأخذ منهم على ذلك أجراً فيكثر مالك .
وقال مجاهد : لا تمنن أي لا تضعف من قولك ( حبل من ) أي ضعيف ومنه ( منّه السير ) أي أضعفه .
والمعنى لا تضعف أن تستكثر من هذه الأوامر ووجه الرفع ما مر في قوله ( أحضر(6/387)
" صفحة رقم 388 "
الوغى ) قوله ) فإذا نقر ( الفاء للتسبيب كأنه قال : اصبر على التكاليف المعدودة وعلى أذى المشركين فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك والفاء في ) فذلك ( للجزاء .
وانتصب ) إذا ( بما دل عليه الجزاء لأن المعنى : فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين ( فاعول ) من النقر كالهاضوم من الهضم ، يشبه أن يكون البناء للآلة لأن الهاضوم ما به يهضم .
فالناقور ما ينقر به وهو الصور باتفاق المفسرين ، فكأنه آلة النقر أي النفخ وذلك أن النفخ سبب حدوث الصوت في المزامير كما أن النقر سبب الحدوث في الآلات ذوات الأوتار .
قال الجوهري في الصحاح ) فإذا نقر في الناقور ( أي نفخ في الصور .
وقد يلوح من كلام الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير أن النقر غير النفخ .
وهكذا من كلام الحليمي في كتاب ( المنهاج ) وذلك أنه قال : جاء في الأخبار أن في الصور ثقباً بعدد الأرواح كلها فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر و ( النفخ ) لتكون الصيحة أهول الأولى بعد أن أثبت المغايرة .
ومن المفسرين من ذهب إلى أن النفخة الثانية أهول لأنه سبحانه أخبر أن ذلك الوقت شديد على الكافرين ، والإصعاق ليس بشديد عليهم ولذلك يقولون ) يا ليتها كانت القاضية ) [ الحاقة : 27 ] أي يا ليتنا بقينا على الموتة الأولى .
قلت : لا دليل في هذا لأن الإصعاق شديد عليهم لا محالة ، ثم إذا جاءت النفخة الثانية رأوا من الأهوال ما تمنووا حالة الإصعاق .
أو نقول : مبتدا الشدة من حين الإصعاق ثم يصير الأمر بعد ذلك أشد لأنهم يناقشون في الحساب وتسود وجوههم وتتكلم جوارحهم إلى غير ذلك من القبائح والأهوال ، فلذلك يحتمل أن يكون إشارة إلى النقر ويتم الكلام بتقدير مضاف أي ) فذلك ( النقر ) يومئذ ( نقر ) يوم عسير ( فالعامل في ) يومئذ ( هو النقر .
ويجوز أن يكون إشارة إلى اليوم و ) يومئذ ( مبني على الفتح ولكنه مرفوع المحل بدلاً منه كأنّه قيل : فيوم النقر يوم عسير وقوله ( غير يسير ( تأكيد كقولك ( أنا محب لك غير مبغض ) وفائدته أن يعلم أن عسرة على الكافرين ولا يرجى زواله كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا ، أو يراد أنه عسير على الكل لأن أكثر الأنبياء يقول : نفسي نفسي والولدان يشيبون إلا أن الكافر يختص بمزيد العسر بحيث يكون اليسر منفياً عنه رأساً ويعلم هذا من تقديم الظرف .
روى المفسرون أن الوليد بن المغيرة الخزومي وجماعة من صناديد قريش كأبي جهل وأبي لهب وأبي سفيان والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاصي بن وائل اجتمعوا وقالوا : إن وفود العرب يجتمعون في أيام الحج ويسألوننا عن أمر محمد فكل منا يجيب بجواب آخر ؛ فواحد(6/388)
" صفحة رقم 389 "
يقول مجنون .
وآخر يقول : كاهن وآخر يقول : شاعر فتستدل العرب باختلاف الأجوبة على كون هذه الأجوبة باطلة ، فهلموا نجتمع على تسمية محمد باسم واحد .
فقال واحد : إنه شاعر فقال الوليد : سمعن كلام عبيد بن الأبرص وكلام أمية بن أبي الصلت وكلامه ما يشبه كلامهما .
فقال الآخر .
وهو كاهن .
فقال الوليد : إن الكاهن يصدق تارة ويكذب أخرى ومحمد ما كذب قط .
فقال آخر : إنه مجنون فقال الوليد : المجنون يخيف الناس وما يخيف محمد أحداً قط فقام الوليد وانصرف إى بيته فقال الناس : صبأ الوليد فدخل أبو جهل وقال : مالك يا أبا عبد شمس ؟ هذه قريش تجمع لك شيئاً زعموا أنك احتجت وصبأت فقال الوليد : مالي إليه حاجة ولكني فكرت في أمر محمد فقلت : إنه ساحر لأنه يفرق بين الرجل ووالده ومواليه وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل .
فأجمعوا على تلقيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بهذا اللقب وفرحوا بذلك وعجبوا عن كياسته وفكره ونظره ثم إنهم خرجوا ونادوا بمكة إن محمداً لساحر ، فلما سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته حزيناً فتدثر بقطيفة وأنزل الله تعالى ) يا أيها المدثر قم فأنذر ( الآية .
ثم إنه هدد الوليد وسلى نبيه بقوله ) ذرني ومن خلقت وحيداً ( وهو كقوله في المزمل ) فذرني والمكذبين ) [ الآية : 11 ] وقوله ( وحيداً ( من غير شكة أحد أو من ( مفعول ) خلقت المحذوف أي خلقته وهو وحيد فريد لا مال له ولا ولد .
ويجوز أن يكون نصباً على الذم والمراد أذم وحيداً بناء على أن الوليد كان يلقب بالوحيد فإن كان علماً فلا إشكال ، وإن كان صفة على ما روى أنه كان يقول أنا الوحيد بن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي نظير ، وهو إستهزاء به وتهكم بحسب ظنه واعتقاده نحو ) ذق أنك أنت العزيز الكريم ) [ الدخان : 49 ] فيفيد أنه ليس وحيداً في العلو والشرف ولكنه وحيد في الخبث والدناءة والكفر .
وقيل : إن ) وحيداً ( مفعول ثان قال أبو سعيد الضرير : الوحيد في الخبث والدناءة فيكون طعناً في نسبه كما في قوله ) عتل بعد ذلك زنيم ) [ ن : 13 ] وفي المال الممدود وجوه أظهرها أنه المال الذي يكون له مدد يأتي منه الخير بعد الخير على الدوام كالزرع والضرع وأنواع التجارات ، ولهذا فسره عمر بن الخطاب بغلة شهر بشهر .
وقال ابن عباس : هو ما كان له بين مكة والطائف من صنوف الأموال. وعلى هذا يكون المال الممدود إما بمعنى المدد كما قلنا ، أو بمعنى امتداد مكانه .
وقريب منه ما روى مقاتل أنه كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره صيفاً ولا شتاءً. ومن المفسرين من قدر المال الممدود فقال : ألف دينار أو أربعة آلاف أو تسعة آلاف أو ألف ألف فهذه تحكمات لا أصل لها إلا أن تكون رواية صحيحة أن مال الوليد على أحد هذه الأعداد وحينئذ يمكن أن يقال : العبرة بعموم(6/389)
" صفحة رقم 390 "
اللفظ لا بخصوص السبب وفي قوله ) وبنين شهوداً ( وجوه : أحدها أنهم حضور معه بمكة لا يفارقونه لاستغنائهم عن الكسب وطلب المعاش فهو مستأنس بهم يغر محزون بفراقهم .
الثاني أنهم رجال يشهدون معهم بمكة في المجامع والمحافل .
الثالث أنهم من أهل الشهادات في الحكومات يسمع قولهم ويعتد بهم .
وأما عددهم فعن مجاهد : عشرة وقيل : ثلاثة عشر وقيل : سبعة كلهم رجال : الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وبعد شمس .
قال جار الله : أسلم منهم ثلاثة : خالد بن الوليد وخالد وعمارة .
قلت : إنه أبقى الوليد بن الوليد في حوزة الكفرة وهو مسلم حسن الإسلام مشهور الصحبة كما ذكره رشيد الدين الوطواط في رسالته ، وصاحب سر السلف سيد الحفاظ أبو اقاسم فيه أن الوليد بن الوليد ابن المغيرة كان من المستضعفين حبسه المشركون فدعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قنوته : اللهم أنج الوليد ابن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام .
ثم قدم المدينة فتوفى بها فكفنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قميصه وكانت أم سلمة تندبه .
أبكى الوليد بن الوليد بن المغيرة
أبكى الوليد بن الوليد أخا العشيرة
وقال ابن الأثير في أحاديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مؤلف كتاب ( جامع الأصول ) : هو الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي أخو خالد بن الوليد ، أسر يوم بدر كافراً وفداه أخواه خالد وهشام ، فلما فدى أسلم فقيل له : هلا أسلمت قبل أن تفتدي ؟ فقال : كرهت أن تظنواأني أسلمت جزعاً من الإسار فحبسوه بمكة وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يدعو له في القنوت مع من يدعو له من المستضعفين بمكة ثم أفلت من أيديهم ولحق بالمدينة .
والعجب من جار أنه ذكر في سورة الزمر في تفسيره قوله ) قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ( أن الوليد أسلم وأسلم معه نفر هاجروا ثم إنه أبقاه ههنا في بقية الكفار .
قوله ) ومهدت له تمهيداً ( أي وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه فأتممت عليه نعمتي المال والجاه ، واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا حتى جعلوه دعاء الخير فيما بينهم قائلين ( أدام الله تأييدك وتمهيدك ) أي بسطتك وتصرفك في الأمور .
وكان الوليد من وجهاء قريش وصناديدهم ولذلك لقب بالوحيد وريحانة قريش .
ومعنى ( ثم ) في قوله ) ثم يطمع أن أزيد ( استبعاد وتعجب من طمعه وحرصه على الزيادة بعد أن لم يعرف حق بعض ما أوتي .
قال الكلبي ومقاتل : ثم يرجو أن أزيد في ماله وولده وقد كفر بي .
وقيل : إن تلك الزيادة في الآخرة كأن يقول إن كان محمد صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي .
ثم قال الله تعالى ) كلا ( حتى افقتر ومات فقيراً .
ثم علل الرجع على وجه الاستئناف كأن قائلاً قال : لم لا يزداد ؟ فقال : لأنه ) كان لآيتاتنا عنيداً ( معانداً والكافر لا يستحق المزيد ولا سيما إذا كان كفره أفحش أنواعه وهو كفر العناد ، ومما يدل على أن كفره كفر عناد بعدما حكينا عنه ما روي أن الوليد مر برسول(6/390)
" صفحة رقم 391 "
الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يقرأ حم السجدة فرجع وقال لبني مخزوم : والله لقد سمعت آنفاً من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن .
إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وأن أعلاه لمثمر وإن اسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يعلى ، ولا ريب أن من عرف هذا القدر ثم زعم أن القرآن سحر فإنه يكون معانداً ، والعنيد هو الذي كان العناد خلقه وديدنه فلشدة عناده وصفه الله تعالى به .
وتقديم الظرف يدل على أن عناده كان مختصاً بآيات الله وإن كان تاركاً للعناد في سائر الأمور .
وفي جمع الآيات إشارة إلى أنه كان منكراً للتوحيد والنبوة والبعث وغير ذلك من دلائل الدين ومعجزاته ولهذا أوعده الله سبحانه أشد الوعيد قائلاً ) سأرهقه صعوداً ( أي سأصعده عقبة شاقة المصعد وفيه قولان : أحدهما الظاهر وهو ما روي عن النبي ( الصعود جبل من نار يصعد فيه خمسين خريفاً ثم يهوي فيه كذلك أبداً ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( يكلف أن يصعد عقبة من النار كلما وضع عليها يده ذابت فإذا رفعها عادة وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت ) الثاني إنه مثل لما سيلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق كما مر في قوله ) يسلكه عذاباً صعداً ) [ الجن : 17 ] ثم فسر كيفية عناده بقوله ) إنه فكر ( ماذا يقول في القرآن ) وقدر ( في نفسه كلاماً ) فقتل كيف قدر ( وهذا الكلام مما ينطق به العرب عند التعجب والإستعظام يقولون : قتله الله ماأشجعه .
وقاتله ما أشعره ، وأخزاه ما أظرفه .
والمراد أنه قد بلغ المبلغ الذي حق له أن يحسد فيدعى عليه .
والمعنى في الآية التعجب من قوة خاطره .
أنه كيف استنبط هذه الشبهة في أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بحيث وافق غرض قريش كما حكينا وهي بالحقيقة ثناء على طريق الإستهزاء .
ومعنى ) ثم ( الداخلة في تكرير الدعاء الدلالة على أن التعجب في الكرة الثانية أبلغ من الأولى ، أو هي حكاية لما كرره من قوله تعالى ) قتل كيف قدر ( ويجوز أن يكون التقيدر الأخير تقديراً للتقدير أي ينظر فيه بتمام الإحتياط فهذا ما يتعلق بأحوال قلبه .
ثم وصفه بأحوال ظاهره قائلاً ) ثم نظر ( في وجوه القوم ) ثم عبس وبسر ( قال الليث : عبس عبوساً إذا قطب ما بين عينينه فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل : كلح ) واستكبر ( عن الإيمان ويحتمل أن يقال : قدر ما يقوله ثم نظر فيه احتياطاً والدعاء بينهما اعتراض ، ثم قطب في وجه النبي ثم أدبر عن الحق واستكبر عنه .
ومعنى ( ثم ) في هذه الأفعال سوى فعل الدعاء الثاني المهلة .
والفاء في قوله تعالى ) فقال ( للدلالة على أنه كما تولى واستكبر ذكر هذه الشبهة ، أو أن الكلمة لما خطرت بباله بعد التفكر لم يتمالك أن نطق بها من غير تراخ .
وقوله ( يؤثر ( من الأثر بالسكون الرواية كما مر أو من الإيثار أي هو مختار على جميع أنواع السحر .
قوله ) إن هذا إلا قول البشر ( جار(6/391)
" صفحة رقم 392 "
مجرى التوكيد من الجملة الأولى ولهذا لم يتوسط العاطف بينهما .
أراد بذلك أنه ملفوظ من كلام غيره .
ومن تمل في هاتين الجملتين عرف أنه حكاية كلام مفتخر غير خاف عليه وجوه الحيل ودفع الحق الصريح ولذلك جازاه الله بقوله ) سأصليه سقر ( ولعله بدل من قوله ) سأرهقه صعوداً ( ثم قال ) وما أدراك ما سقر ( والمراد التهويل : ثم بينه بقوله ) لا تبقي ولا تذر ( قال بعضهم : معناهما واحد والتكرير للمبالغة .
وقال آخرون : لا بد من الفرق : فروى عطاء عن ابن عباس أنها لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئاً فإذا أعيدوا خلقاً جديداً فلا تترك إحراقهم وهكذا أبداً .
وقيل : لا تبقي من المستحقين للعذاب إلا عذبتهم ، ثم لا تذر من أبدان أولئك المعذبين شيئاً إلاّ أحرقته .
وقيل : لا تبقى على شيء ولا تذر من قوتها شيئاً إلا استعملته والتقدير هي لا تبقى بدليل قوله خبراً بعد خبر ) لواحة ( ويجوز أن يكون هذا خبراً لمبتدأ آخر .
قال أكثر المفسرين : هي من لاحه العطش ولوحه أي غيره وذلك أنها تسود البشرة وهي أعلى الجلود بإحراقها .
واعتراض الحسن والأصم بأن وصفها بالتغيير لا يناسب بعد قوله ) لا تبقى ولا تذر ( نعم لو عكس الترتيب لاتجه لأنها تغير البشرة أولاً ثم تفنيها ، فمعنى لواحة لماعة من لاح البرق ونحوه يلوح إذا لمع والبشر بمعنى الإنسان وذلك أنها تظهر لهم من مسيرة خمسمائة عام .
ثم بين أن عدد الخزنة الموكلين عليها ) تسعة عشر ( فترك المميز فقيل صنفاً .
والأكثرون شخصاً مالك وثمانية عشر أعينهم كالبرق وأنيابهم كالصياصي يجرون أشعارهم يخرج اللهب والنار من أفواههم ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر ، نزعت الرأفة والرحمة منهم يأخذ أحدهم سبعين ألفاُ في كفه يرميهم حيث أراد من جهنم .
وذكر العلماء في تخصيص هذا العدد وجوها فقال المتشرعون : هذا مما لا يصل إليه عقول البشر كأعداد السموات والأرضين والكواكب وأيام السنة والشهور. وكأعداد الزكاة والكفارات والصلوات .
وقيل : إن العدد على وجهين : قليل وهو من الواحد إلأى التسعة ، وكثير وهو من الشعرة إلى ما لا نهاية ، فجمع بين نهاية القليل وبداية الكثير .
وقيل : إن ساعات اليوم بليلته أربع وعشرون ، خمس منها تركت لأجل الصلوات الخمس والباقية لكل منها يعذب من يضيعها في غير حق الله .
وقيل : إن أبواب جهنم سبعة ، وله للفساق زبانية زبانية واحدة بسبب ترك العمل ، ولكل من الأبواب الباقية ثلاثة أملاك لأن الكفار يعذبون لأجل أمور ثلاثة : ترك الإعتقاد وترك الإقرار وترك العمل .
قال الحكيم : إن فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية هو بسبب استعماله القوى الحيوانية والطبيعية لا على وجهها .
والقوى الحيوانية الشهوة والغضب .
والحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة .
والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة ، فلما كان منشأ الإفادة هذه القوى التسع عشر لا جرم كان عدد(6/392)
" صفحة رقم 393 "
الزبانية كذلك .
يروى أنه لما نزلت الآية قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ؟ فقال المسلمون : ويحكم أتقاس الملائكة بالحدادين أي السجانين ؟ وجرى هذا مثلاً في كل شيئين لا يسوىّ بينهما وأنزل الله تعالى ) وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ( أي وما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون ويرحمون فإن الجنسية مظنة الرأفة ولذلك جعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من جنس الأمة ليكون بهم رؤفاً رحيماً .
ولا استبعاد في كونه الملائكة في النار غير معذبين بناء على القول بالفاعل المختار ، ولعلهم غلبت عليهم النارية فصارت لهم طبعاً كالحيوانات المائية .
وقوله ( وما جعلنا عدتهم إلا فتنة ( الآية .
هو على مذهب أهل السنة ظاهر ، وأما على أصوب المعتزلة فقال الجبائي : المراد بالفتنة تشديد التعبد ، استدلوا به على كمال قدرة الله تعالى وقال الكبعي : هي الإمتحان فيؤمن المؤمن بالمتشابه ويفوض حكمة التخصيص بهذا العدد إلى الخالق ، والكافر يعترض عليه .
وقال : بعضهم : أراد ما وقعووا فيه من الكفر بسبب أنكارهم والتقدير إلا فتنة على الذين كفروا ، وحاصله يرجع إلى ترك الألطاف .
وأجيب عن هذه التأويلات بأنتنزيل المتشابهات لا بد أن يكون له أثر في تقوية داعية الكفر وإلا كان إنزالها كلا إنزال .
ومع هذا الترجيح لا يحصل الإيمان ألبة وهو المعنى بالإضلال .
واعلم أن في الآية دلالة على أنه سبحانه جعل افتتان الكافر بعدد الزبانية سبباً لأمور أربعة : أولها ) يستيقن ( ثانيها ) ويزداد ( ثالثا ) ولا يرتاب ( رابعها ) وليقول ( وفيه إشكال .
قال جار الله : ما جعل افتتانهم بالعدد سبباً ولكنه وضع ) تسعة عشر ( تعبيراً عن المؤثر باللفظ الدال على الأثر تنبيهاً على أن هذا الأثر من لوازم ذلك المأثر .
وقال آخرون : تقديرهوما جعلنا عدتهم إلا فتنة للكافرين وإلا ليستيقن كما يقال : فعلت كذا لتعظيمك ولتحقير عدوك .
قالوا : والعاطف يذكر في هذا الموضع تارة ويحذف أخرى .
وأما سبب إستيقان أهل الكتاب فهو أنهم قرؤا هذا العدد في كتابهم ولكنهم ما كانوا واثقين لتطرق التحريف إلى كتابهم .
فلما سمعوا ذلك في القرآن تيقنوا بصحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أخبرهم بما في كتابهم من غير سابقة دراسة وتعلم .
ولأنه أخبر كفار قريش بهذا الأمر الغريب من غير مبالاة باستهزائهم وتكذيبهم فعرفوا أنه نم قبيل الوحي وإلا لم يجترىء على التكلم به خوفاً من السخرية .
وأما زيادة إيمان المؤمنين فحملعلى آثاره ولوازمه ونتائجه .
وأما نفي الارتياب عن أهل الكتاب والمؤمنين بعد إثبات الاستيقان وزيادة الإيمان لهم فمن باب التوكيد كأنه قيل : حصل لهم يقين جازم بحيث لا يحصل بعده شك وريب .
فإن الذي حصل له اليقين قد يغفل عن مقدمة من مقدمات الدليل فيعود له الشك .
وفيه أيضاً تعريض(6/393)
" صفحة رقم 394 "
بحال من عداهم كأنه قيل : وليخالف حالهم حال المرتابين من أهل الزيغ ولكفران ، وأما الذين ف قلوبهم مرض فهم أهل النفاق الذين أحدثوا بعد ذلك لأن السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق وإنما حدث بالمدينة ، ففي الآية إخبار بالغيب وقد وقع مطابقاً فكان معجزاً .
واللامات في الأمور الأربعة للغاية عند الأشاعرة ، والمعتزلة يسمونها لام العاقبة وقد مر في مواضع .
وقوله ( ماذا أراد الله بهذا مثلاً ( إلى قوله ) من يشاء ( قد مر في ( البقرة ) .
وجعل مثل هذا العدد مثلاً لغرابته حيث لم يقل عشرين وسواه والمعنى أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب مع أنهم منكرون له من أصله .
والكاف في ) كذلك ( منصوب المحل أي مثل ذلك المذكور من افضلال والهدى يضل ويهدي .
قوله ) وما يعلم جنود ربك ( إشارة إلى أن ما عليه عدد الخزنة لا يعلم حكمته ولا حكمة ما عليه كل جند من العدد إلى حين الأبد إلا الله سبحانه كما يقوله أهل الحق وقد مر .
وقيل : إن القوم قد استقلوا ذلك العدد فقال تعالى في جوابهم : هبوا أن هؤلاء تسعة عشر إلا أن لكل واحد من الأعوان والجنود ما لا يحصيهم إلا الله ) وما يعلم جنود ربك ( لفرظ كثرتها ) إلا هو ( فلا يعسر عليه تتميم الخزنة عشرين وأزيد ولكن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها .
قوله ) وما هي إلا ذكرى ( متصل بوصف سقر .
وقوله ( وما جعلنا أصحاب النار ( إلى ههنا اعتراض أي وما سقر وصفتها إلا موعظة للناس .
ويحتمل أن يعود الضمير إلى هذه الآيات المشتملة على هذه المتشابهات وهي ذكرى لجميع العاليمين وإن لم ينتفع بها إلا أهل الإيمان وقوله ( كلا ( قيل : إنكار لأن يكون للكفار ذكرى لأنهم لا يتذكرون أو ردع لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيراً ، أو ردع لقول أبي جهل وأصحابه أنهم يقدرون على مقاومة خزنة النار ، أو ردع لهم عن الإستهزاء بالعدة المخصوصة .
وقد مر أنه يجوز أن يكون بمعنى حقاً تأكيداً للقسم بعده .
قال الفراء : دبر وأدبر بمعنى واحد كقبل وأقبل .
روى بعضهم أن ابن عباس كان يعيب قراءة الثلاثي ويقول : إنما يدبر ظهر البعير .
وفي صحة الرواية نظر لأن القراآت السبع كلها متواترة. قال الواحدي : والقراءتان عند أهل اللغة سواء ومنه أمس الدابر .
وعلى هذا يكون دبور الليل وإدباره وإسفار الصبح أي إضاءته كشيء واحد .
قال أبو عبيدة وابن قتيبة : هو من دبر الليل النهار إذا خلفه .
ثم قال ) إنها ( أي إن سقر التي جرى ذكرها ) لإحدى ( البلايا أو الدواهي ) الكبر ( جمع الكبرى .
قال جار الله : جعلت ألف التأنيث كتائها فكما جمعت ( فعلة ) على ( فعل ) جمعت ( فعلى ) عليه .
ونظير ذلك ( السوافي ) في جمع ( السافياء ) وهو التراب الذي يسفيه الريح .
( والقواصع ) في جمع ( القاصعاء ) كأنها فاعلة .
وقال المفسرون : المراد من الكبر دركات جهنم وهي سبع : جهنم ولظى والحطمة وسعير وسقر والجحيم والهاوية .
فعلى هذا معنى كون سقر إحداهن ظاهر .
وقال أهل المعاني : أراد أنها من بين الدواهي واحدة في العظم لا(6/394)
" صفحة رقم 395 "
نظير لها ) ونذيراً ( تميز من إحدى أي إنها فحدى الدواهي إنذاراً كما تقول : هي إحدى النساء عفافاً وقيل ) نذيراً ( حال ومن غريب التفسير أن ) نذيراً ( متصل بأول السورة أي قم فأنذر نذيراً .
ثم قال ) لمن شاء ( السبق أو هو خبر وما بعده وهو ) أنو يتقدم أو يتأخر ( مبتدأ كقولك لمن توضأ أن يصلي أنه مطلق لمن شاء السعي إلى اليخر أو التخلف عنه .
( أو ) للتهديد كقوله ) فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) [ الكهف : 29 ] ويجوز أن يكون ) لمن شاء ( بدلاً من قوله ) للبشر ( أي إنها منذرة للذين إن شاؤا تقدموا ففازوا وإن شاؤا تأخروا فهلكو .
واستدلال المعتزلة على أن العبد مختار ظاهر ، والأشاعرة يحملونه على التهديد أو على أن فاعل شاء هو الله سبحانه أي لمن شاء الله منه التقدم أو التأخر .
سلمنا أن الفاعل ضمير عائد إلى من لكن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله لقوله ) وما تشاؤن إلا أن يشاء الله ( ثم أكد المعنى المتقدم بقوله ) : ل نفس بما كسب رهينة ( أي ليس لامرىء إلا جزاء عمله كما مر نظيره في ( الطور ) قال النحويون : التاء في رهينة ليست للتأنيث لأن ( فعيلاً ) بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وإنما هي إسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم .
وأقول ايضاً : يحتمل أن تكون التاء للمبالغة ) إلا أصحاب اليمين ( فإنهم فكوا رقابهم عن الرهب بسبب أعمالهم الحسن كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق .
قال الكلبي : هم الذين كانوا على يمين آدم .
وقال ابن عباس : هم الملائكة .
وعن علي عليه السلام وابن عمر : هم الأطفال .
قال الفراء : هذا القول أشبه بالصواب لأن الولدان لم يكتسبوا إثماً يرتهنون به ، ولأنه تعالى ذكر فيهم أنهم يتساءلون عن حال المجرمين وهذا إنما يليق بالولدان الذين لايعرفون موجب دخول النار والأولون حملوا السؤال على التوبيخ والتخجيل .
قال في الكشاف : معن التساؤل عنهم أنهم يسأل بعضهم بعضاً عن حالهم .
أو يتساءلون غيرهم عنهم كقولك ( دعوته أنا وتداعيناه نحن ) .
ثم زعم أن الوجه في قوله ) ما سلككم ( على الخطاب مع أن سياق الكلام يقتضي الغيبة هو أنه حكاية قول المسؤلين لأن المسؤلين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون قلنا لهم ما سلككم ) في سقر ( على الخطاب مع أن سياق الكلام يقتضي الغيبة هو أنه حكاية قول المسؤلين لأن المسؤلين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم ويبن المجرمين فيقولون قلنا لهم ما سلككم ) في سقر ( وقال غيره : المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم ، فلما رأوهم قالوا لهم ما سلككم ؟ وأقول : ولو فرض التكلم مع المجرمين زال الإشكال أي يتساءلون عن حال المجرمين أي عن حال أنفسهم وليس فيه إلا وضع المظهر مكان الضمير .
وهذا التكرار مما جاء في القرآن وغيره من فصيح الكلام شائعاً ذائعاً كقوله ) فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا ) [ الأعراف : 162 ] ( أن يسألوا(6/395)
" صفحة رقم 396 "
الحق يعطي الحق سائله ) وإذا جاز ذلك مع التصريح بهما فكيف لم يجز وأحدهما محذوف ؟ وهذا من غرائب نظم القرآن وفصاحته غير بعيد ، والمعنى ما أدخلكم في هذه الدركة من النار ؟ فأجابوا بأن ذلك لأمور أربعة : أحدها ترك الصلاة ، والثاني ترك إطعام المسكين .
قال العلماء : يجب أن يحمل هذان على الصلاة والصدقة الواجبتين وإلا لم يجز العذاب على تركهما .
الثالث الشروع في الأباطيل مع أهلها كإيذاء أهل الحق وكل ما لا يعني المسلم .
الرابع التكذيب بالبعث والجزاء إلى حين عيان الموت وأمارات ظهور نتائج أعمال المكلف عليه ، وقد يستدل بالآية على أن الكفار معذبون بفروع الشرائع كما يعذبون بأصولهما كالتكذيب بيوم الدين .
وإنما أخر لأنه أعظم الذنوب أي إنهم بعد ذلك كله يكذبون بهذا الأصل كقوله ) ثم كان من الذين آمنوا ) [ البلد : 17 ] ويجوز أن يكون سبب التأخير أنه آخر الأصول فأوّلها المبدأ وآخرها المعاد .
وأيضاً أراد أن يرتب عليه قوله ) حتى أتانا اليقين ( وهو آخر حالات المكلف فلو قدم لم يحسن معنى ولا لفظاً لوقوع الفصل بين المعطوفات .
قال في الكشاف : يحتمل أن كل واحد منهم دخل النار لمجموع هذه الأربع ، أو دخلها بعضهم ببعضها والباقون بسائرها أو بكلها .
قلت : إنهم جميعاً مستوون في الدركة والظاهر أنهم دخلوها بمجموع الأمور ، ثم بين غاية خسرانهم بقوله ) فما تنفعهم شفاعة الشافعين ( وفيه دليل على أن غيرهم تنفعهم الشفاعة وذلك لغير الفساق عند المعتزلة ، وفائدة الشفاعة زيادة درجاتهم أو العفو عن صغائرهم ، ثم وبخهم بقوله ) فمالهم عن التذكرة ( أي عن القرآن الذي هو سبب الموعظة ) معرضين ( حال نحو مالك قائماً ) كأنهم حمر مستنفرة ( من قرأ بكسر الفاء فمعناه الشديدة النفار كأنها تطلب النافر من نفوسها ، وفي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة ونداء عليهم بالبلادة والغباوة وعدم التأثر من مواعظ القرآن بل صار ما هو سبب لاطمئنان القلوب موجباً لنفرتهم ، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش ولا سيما إذا رابها ريب ولهذا وصف الحمر بقوله ) فرت من قسورة ( وهى إسم جمع للرماة أو إسم جنس للأسد وهو القهر والغلبة ، وقال ابن عباس : هي ركز الناس وأصواتهم .
وعن عكرمة : ظلمة الليل .
ومن قرأ بفتح الفاء فهي المحمولة على النفار .
ورجح بعضهم قراءة الكسر بناء على أن الفرار يناسب النفار .
ذكر المفسرون أنهم قالوا لرسول الله : لا نتبعك حتى تأتي لكل واحد منا بكتب من السماء بصحف عنوانها من رب العالمين .
إلى فلان ابن فلان نؤمر فيها باتباعك .
وروى بعضهم أنهم قالوا : إن كان محمداً صادقاً فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة وأمنة من النار فأنكر الله تعالى فقال : ( بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتي صحفاً منتشرة ( أي قراطيس منتشرة تقرأ كسائر الصحف ، أو منتشرة على أيدي الملائكة(6/396)
" صفحة رقم 397 "
أنزلت ساعة كتبت قبل أن تطوى .
وقيل : كانوا يقولون : بلغنا أن بنى إسرائيل كان الرجل منهم يصبح مكتوباً على رأسه ذنبه وكفارته فائتنا بمثل ذلك .
فعلى هذا المراد بالصحف الكتابات الظاهرة المكشوفة .
ثم زجرهم عن اقتراح الآيات فقال ) كلا بل لا يخافون الآخرة ( فلذلك أعرضوا عن التذكرة .
ثم وصف القرآن بأنه موعظة بليغة وتذكر شاف ) فمن شاء ذكره ( وتذكير الضمير ههنا وفي إنه بتأيول الذكر أوالقرآن .
ثم بين السبب الأصلي في عدم التذكرة قائلاً ) ومايذكرون إلا أن يشاء الله ( واستدلال الأشعري به ظاهر ، والمعتزلة حملوه على مشيئة القسر والإلجاء .
ثم ختم السورة بذكر ما ينبىء عن كمال الهيبة وهو صفة القهر الذي بسببه يجب أن يتقي ، وصفه اللطف الذي به يجب أن يرجى ، والله الموفق للصواب وإليه المصير والمآب .(6/397)
" صفحة رقم 398 "
سورة القيامة
( سورة القيامة وهي مكية حروفها ثلثمائة واثنان وخمسون كلماتها مائة وتسع وتسعون آياتها أربعون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( القيامة : ( 1 - 40 ) لا أقسم بيوم . . . .
" لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى " ( القراآت : روى الهاشمي وابن ربيعة عن قنبل ) لأقسم ( على أن اللام حرف الابتداء أي لأنا أقسم ولا خلاف في قوله ) ولا أقسم بالنفس اللوامة ( ) برق ( بفتح الراء : أبو جعفر ونافع .
الآخرون : بكسرها ) تحبون ( و ) تذرون ( على الخطاب أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف ) ولا صلى ( إلى اخر السورة بالإمالة اللطيفة : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو .
وقرأ حمزة وعلي وخلف بالأمالة الشديدة .
) يمنى ( علىالتذكير : حفص والمفضل وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ورويس .
الباقون : بتاء التأنيث .
الوقوف : ( القيامة ( ه لا ) اللوامة ( ه ) عظامه ( ه ط لاستئناف الجواب أي بلى نجمعها ) بنانه ( ه ) امامه ( ه ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف ) القيامة ( ه ج ) البصر ( ه لا ) القمر ( ه ك ) المفر ( ه ك لأن كلاً يصلح للردع عن الفرار والأجوز ) لا(6/398)
" صفحة رقم 399 "
وزر ( ه ط ) المستقر ( ه ط ) وأخر ( ه ط ) بصيرة ( ه لا ) معاذيره ( ه لا ) لتعجل به ( ه ط ) وقرآنه ( ه ج لاحتمال أن ( ثم ) لترتيب الأخبار ) بيانه ( ه ط ) العاجلة ( ه ) الآخرة ( ه ) ناضرة ( ه ج ) ناظرة ( ه ج للفصل بين أهل السعادة والشقاوة ) باسرة ( ه ) فاقرة ( ه ط ) التراقي ( ه لا ) راق ( ه ك ) الفراق ( ه ك ) بالساق ( ه ك ) بالمساق ( ه ك ) ولا صلى ( ه لا ) وتولى ( ه ك ) يتمطى ( ه ط للعدول إلى الخطاب ) فأولى ( ه لا ) سدى ( ه ط ) يمنى ( ه ) فسوى ( ه ك ) والأنثى ( ه ط ) الموتى ( ه .
التفسير : المشهور أن ( لا ) في ) لا أقسم ( صلة زائدة كما مر في قوله ) فلا أقسم بمواقع النجوم ) [ الواقعة : 75 ] واعترض عليه بوجوه أحدها : أنه يوجب الطعن في القرآن بحيث أنه لا يبقى الوثوق بنفيه وإثباته قلت : إذا عرف من استعمالات العرب زيادة لا في هذا الفعل المخصوص لم يبق للطاعن مجال على أن الحكم بزيادتها إنما هو بالنظر إلى أصل المعنى وإلافلها في التركيب معان : الأول كأنها نفي لكلام قبل القسم وذلك أنهم أنكروا البعث كما أخبر الله في آخر السورة المتقدمة فقيل : ليس الأمر على ما ذكرتم ثم أقسم بكذا وكذا إنه لواقع .
والثاني أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له فكأنه بإدخال حرف القسم يقول : إن إعظامي له بإقسامي به كلا اعظام إنه يستأهل فوق ذلك .
الإعتراض الثاني أن هذا الحرف إنما يزاد في وسط الكلام لا في أوّله وأجيب بالمنع ، ألا ترى أن أمرأ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته :
فلا وأبيك ابنة العامري
لا يدّعي القوم أني أفّر وفائدة الزيادة كما تقرر .
وقد يجاب بأن القرآن كله في حكم كلام واحد متصل بعضه ببعض
ولا سيما هذه السورة وآخر السورة المتقدمة عليها ولكني أسألك غير مقسم أتحسب أنا لا تجمع عظامك إذا تفرقت بالموت ، فإن كنت تحسب ذلك فاعلم أنّا قادرون عليه .
وقيل : المعنى على الاستفهام الإنكاري والتقدير : ألا أقسم بيوم القيامة ولا اقسم بالنفس اللوامة على أن الحشر حق .
وهذا التأويل يعضده قراءة من قرأ ) لأقسم ( على أن اللام للابتداء .
وقال بعضهم : على هذه القراءة إنه أقسم بالقيامة تعظيماً لها ولم يقسم بالنفس اللوامة تحقيراً لها لأنها إما كافرة بالقيامة مع عظم أمرها ، وإما فاسقة مقصرة في العمل .
أما تفسير النفس اللوامة فقد سبق لنا في سورة يوسف في قوله ) إن النفس لأمارة بالسوء ) [ الآية : 53 ] بيان سبب تسمية النفس تارة بالأمارة وأخرى باللوامة ثم بالمهلهمة ثم بالمطمئنة .
والذي ذكره المفسرون ههنا وجوه منها ما قال ابن عباس : كل نفس فإنها تلوم نفسها يوم القيامة(6/399)
" صفحة رقم 400 "
على ترك الازدياد من الطاعة إن كانت محسنة ، أو على التفريط إن كانت مسيئة .
وضعف بعضهم هذا النقل بناء على أن أهل الجنة لا يكون لهم مثل هذه الخواطر وإلا لدام حزنهم .
وعن الحسن أن هذا اللوم في الدنيا والمؤمن لا تراه إلا لائماً نفسه وإن الكافر يمضي على سيرته لا يعاتب نفسه .
ومنها أنها النفوس المتقية التي تلوم النفس العاصية يوم القيامة بسبب أنها تركت التقوى .
ولا يخفى وجه المناسب بين القسمين أعني بين القيامة وبين النفس اللوامة على هذه الوجوه .
وخص النفس اللوامة بعضهم بآدم عليه السلام وذلك أنه لم يزل يتلوم على فعله الذي خرج به من الجنة .
وقيل : أن الإنسان خلق هلوعاً فأي شيء طلبه إذا وجده مله فيلوم نفسه على أني لم طلبت فلكثرة هذا العمل سميت باللوامة .
والجمهور على أن جواب القسم محذوف وهو لتبعثن دل عليه قوله ) أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ( وفي الأقسام بيوم القيامة على وقوع يوم القيامة مزيد تقرير وتأكيد لوقوعه فإن الأقسام بالمعدوم لا يعقل معناه ، وفي ضم النفس الوامة إليه تنبيه على أن الغرض من القيامة وهو إظهار أحوال النفس ومراتبها في السعادة وضدها .
قال جمع من الأصوليين : الإنسان في اآية هو المكذب بالبعث على الإطلاق وقال ابن عباس : هو أبو جهل .
وقال آخرون : إن عدي بن ربيعة ختن الأخنس بن شريق وهما اللذان كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول فيهما : اللهم اكفني جاري السوء .
قال : يا محمد حدثنا عن يوم القيامة كيف أمره فأخبره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : لو عانيت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أؤمن به ، أو يجمع الله العظام ؟ فأنزل الله سبحانه ) أيحسب الإنسان ( الآية .
قوله ) قادرين ( حال مؤكدة لأنه يستحيل جمع العظام بدون القدرة الكاملة التي نبه عليها بقوله ) أن نسوي بناته ( لأن من قدر على ضم سلاميات الأصبع مع صغرها ولطافتها كما كانت ، كان على ضم العظام الكبار أقدر ، وإنما خص البنان وهو الأنملة بالذكر لأنه آخر ما يتم به خلقه فذكره يدل على تمام الأصبع يدل على تمام سائر الأعضاء التي هي أطرافها .
وقيل : معنى التسوية جعلها شيئاً واحداً كخف البعير وحافر الحمار بحيث لا يقدر على البطش ، والمراد أنه قادر على رد العظام والمفاصل إلى هيأتها الأولىة وعلى ضد ذلك قوله ) بل يريد ( إضراب عن قوله والظاهر أنه إيجاب ويجوز أن يكون استفهاماً مقدراً .
ومعنى ) ليفجر أمامه ( ليدوم على فجوره في الأوقات التي بين يديه وهي المستقبلة .
وهذا فحوى قول سعيد بن جبير يقدم الذنب ويؤخر التوبة حتى يأتيه الموت على شر أحواله .
قال أهل النظم : وإن إنكاراً البعث يتولد تارة من الشبهة بأن يستبعد اجتماع الأجزاء بعد تفرقها وتلاشيها ، وأخرى من التهور بأن ينكر المعاد باسترسال الطبع والميل إلى الفجور ، فأشار إلى الجواب عن الشبهة بقوله ) أيحسب الإنسان ( إلى قوله ) بنانه ( وأنكر على الثاني بقوله(6/400)
" صفحة رقم 401 "
) بل يريد ( أن يكذب بما أمامه من البعث والحساب لئلا تنتقص عنه اللذات العاجلة ) يسئل ( سؤال تنعت ) أيان يوم القيامة ( ثم ذكر من أمارات الساعة أموراً أولها ) فإذا برق البصر ( أي تحير فزعاً وأصله من برق الرجل بالكسر إذا تأثر ناظره من تأمل البرق ، ثم استعمل في كل حيرة .
ومن قرأ بفتح الراء فهو من البريق ي لمع من شدة شخوصه كقوله ) إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ) [ إبراهيم : 42 ] وثانيها ) وخسف القمر ( أي ذهب ضوءه كما يشاهد في الدنيا وقت خسوفه ، أو ذهب بنفسه من قوله ) فخسفنا به وبداره الأرض ) [ القصص : 81 ] وهذا التفسير عندي لا يلائم ما بعده أن الجمع بينه وبين الشمس بعد انعدامه غير معقول ظاهراً .
وثالثها ) وجمع الشمي والقمر ( قيل : أي في اطلاعهما من المغرب .
وقيل : في ذهاب الضوء .
وقيل : يجتمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران كما جاء في الحديث ، ولعل ذلك لأنهما عبدا من دون الله ، والثور مثل في الذل والبلادة فإذا كان عقيراً أي جريحاً كان أبلغ في ذلك .
وقيل : يجمعان ثم يقذفان في البحر فيكون نار الله الكبرى .
طعن الملاحدة في الآية بأن خسوف القمر لا يحصل باجتماع الشمس والقمر .
وأجيب بأنه تعالى قادر على خسف القمر في غير حالة المقابلة وحيلولة الأرض .
والأولى عندي أن يجاب بأن اجتماعهما بمعنى آخر غير ما هو المعهود بين أهل التنجيم كما مر من الأقوال .
ولئن سلمنا أن المراد هو الإجتماع المعهود فالقمر حينئذ في المحق وهو خسفه ، أو لعل القمر خسف في وسط الشهر والاجتماع يكون في آخره فإن اتحاد الزمان في هذه الأمور غير مذكور .
ومنهم من جعل هذه الأمور من علامات الموت ، أما شخوص البصر تحيره حين الموت فظاهر ، وأما خسوف القمر فمعناه ذهاب ضوء البصر بعد الحيرة : يقال : عين خاسفة إذا فقئت فغارت حدقتها في الرأس .
وأما جمع الشمس والقمر فكناية عن اتصال الروح بعالم الآخرة ، فالروح كالقمر وعالم الآخرة وهو عالم الأنوار والكشوف كالشمس وكما أن القمر يقبل النور من الشمس فالروح تقبل نور المعارف من ذلك العالم وهذا التفسير بالتأويل أشبه. قال الفراء : إنما قال ) جمع ( ولم يقل ( جمعت ) مع أن التأنيث أحسن لأن المراد أنه جمع بينهما في زوال النور .
وقال الكسائي : المعنى جمع النوران والضياآن. وقال أبو عبيدة : القمر شارك الشمس في الجمع فغلب جانب التذكير ) يقول الإنسان ( المنكر للقيامة ) اين المفر ( والاستفهام على أصله وهو إقرار منه بأنه لا مفر كما إذا أيس من وجدان زيد فيقول : أين زيد ) كلا ( ردع عن طلب مكان الفرار وهذا أصح عند أهل اللغة .
قال الأخفش والزجاج : المصدر من يفعل بكسر العين مفتوح العين ، وبالكسر المكان .
وجوز بعضهم أن يكون المفتوح موضعاً .
وأصل الوزر المحل المنيع ثم استعمل(6/401)
" صفحة رقم 402 "
لكل ما التجأت إليه وتحصنت به ، والمعنى أنه لا شيء يعتصم به وقتئذ من أمر الله إلا الله فلذلك قال ) إلى ربك ( خاصة دون غيره ) يومئذ المستقر ( أي إستقرار العباد ولا بد من تقدير مضاف أي إلى حكم ربك أو إلى جنته أو ناره .
) ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم ( من عمل ) وأخر ( فلم يعلمه ، أو بما قدم من ماله وتصدق به وما أخر فخلف أو بما قدم من عمل الخير والشر وما أخر من سنة حسنة أو سيئة .
وعن مجاهد بأول عمله وآخره أي بجميع أعماله .
والأظهر أن هذا الإنباء إنما هو في يوم القيامة .
وجوز أن يكون عندالموت حين رأى مقعده من الجنة والنار .
ثم بين أن الإنسان لأعماله بصير وإن لم ينبأ فقال ) بل الإنسان على نفسه بصيرة ( أي حجة بينة .
وقال أبو عبيدة : التاء للمبالغة كعلامة .
قال الأخفش : جعله في نفسه بصيرة كما يقال ( فلان جود وكرم ) وذلك أنه يعلم بالضرورة متى رجع إلى عقله أن طاعة خالقه واجبة وعصيانه منكر فهو حجة على نفسه بعقله السليم .
قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل : إن المراد شهادة جوارحه عليه .
قوله ) ولو ألقى معاذيره ( تأكيد أي ولو جاء بكل معذرة يحاج بها عن نفسه فإنها لا تنفعه لأنه لا يخفى شيئاً من أفعاله فإن نفسه وأعضاءه تشهد عليه .
وقال الواحدي والزمخضري : المعاذير اسم جمع للمعذرة كالمناكير للمنكر ، ولو كان جمعاً لقيل معاذر بغير ياء .
وعن الضحاك والسدي أن المعاذير جمع معذار وهو الستر ، والمعنى إنه إن اسبل الستور لن يخفى شيء من عمله قال جار الله : إن صح هذا النقل فالسبب في التسمية أن الستر يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب .
فمدار التركيب على الحجب والمنع ومنه العذران قال الإمام فخر الدين الرازي : زعم قوم من قدماء الشيعة أن هذا القرآن مغير بالزيادة والنقصان ، ومن جملة إستدلالاتهم أنه لا مناسبة بين هذه الآية وبين قوله عقيبها ) لا تحرك به ( أي بالقرآن الذي نتلوه عليك ) لسانك لتعجل به ( أي بأخذه .
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يشتد عليه حفظ التنزيل فكان إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبرائيل مخافة النسيان فنهاه الله تعالى عن ذلك ، نظيره ما مر في ( طه ) ) ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه ) [ الاية : 114 ] وهذا من قبيل ترك الأولىة ، أو لعل هذا كان مأذوناً فيه أولاً ثم ورد النهي ناسخاً له ) أن علينا ( بحكم الوعد أو بالنظر إلى الحكمة ) جمعه ( في صدرك ) وقرآنه ( سيعيده عليك جبرائيل أو توقيفك لدراسته وحفظ لقوله ) سنقرئك فلا تنسى ) [ الأعلى : 114 ] وهذا من قبيل ترك الأولى ، أو لعل هذا كان مأذوناً فيه أولاً ثم ورد النهي ناسخاً له ) أن علينا ( بحكم الوعد أ بالنظر إلى الحكمة ) جمعه ( في صدرك ) وقرآنه ( سيعيده عليك جبرائيل أو توقيفك لدراسته وحفظه لقوله ) سنقرئك فلا تنسى ) [ الأعلى : 6 ] فالقارىء على الأول جبرائيل ، وعلى الثاني محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل : أراد بالجمع ترتيبه على ما هو عليه في الخارج وبالقرآن جمعه في ذهنه ، والتركيب يدل على الضم ومنه القرء ) فإذا قرأناه ( بقراء جبرائيل ) فاتبع قرآنه ( قال قتادة : أي حلاله وحرامه(6/402)
" صفحة رقم 403 "
وضعف بأن هذا ليس موضع الأمر باتباع الحلال والحرام بل المراد أنه لا ينبغي أن تكون قراءتك مقارنة لقراءة جبرائيل عليه السلام لكن يجب أن تسكت حتى يتم جبرائيل القراءة ثم تأخذ أنت في القراءة .
قال ابن عباس : فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد ذلك إذا نزل عليه جبرائيل أطرق واستمع فإذا ذهب قرأ .
ثم إنه ( صلى الله عليه وسلم ) كما كان حريصاً على القراءة حتى لا ينسى لفظه كان حريصاً على فهم المعنى ، وكان يسأل جبرائيل في أثناء الوحي عن المعاني المشكلة فنهي عن هذا أيضاً بوعد البيان وهو قوله ) إن علينا بيانه ( قال بعضهم : وفيه دليل على أن تأخير البيان عن وقت الخطاب جائز .
إذا عرفت تفسير الاية فاعلم أن العلماء استنبطوا للنظم وجوهاً منها : أن هذا الإستعجال لعله اتفق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند نزول هذه الآيات فلا جرم نهي عن ذلك في الوقت كما أن المدرس إذا كان يلقي على تلميذه شيئاً من العلم وأخذ التلميذ يلتفت يميناً وشمالاً فيقول المدرس في أثناء درسه : لا تلتفت يميناً وشمالاً ، ثم يعود إلى الدرس مع هذا الكلام في أثنائه اشتبه وجه المناسب على من لم يعرف الواقعة .
ومنها أنه علت كلمته أخبر عن الإنسان أنه يحب السعادة العاجلة فيفجر لذلك أمامه ، فبين بين ذلك أن التعجل مذموم مطلقاً ولو في أمور الدين فقال ) لا تحرك به لسانك ( ورتب على ذم الإستعجال قوله ) كلا بل تحبون العاجلة ( ومنها أنه لام قال ) ولو ألقى معاذيره ( وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يظهر التعجيل في القراءة خوف النسيان قيل له : إنك وإن أتيت بهذه المعذرة لكنك يجب أن تعلم أن الحفظ لا يحصل إلا بتوفيق الله وإعانته فاترك هذا التعجيل واعتمد على هدايتنا ، ولا تستعن في طلب الحفظ بالتكرار ، وفيه أن الكافر كان يفر من الله إلى غيره حين قال ) أين المفر ( فعلى المؤمن أن يضاده ويفر من غير الله إلى الله ولا يستعين في كل أموره إلا به .
ومنها أنه تعالى كأنه قال : يا محمد إن غرضك من هذا هو التبليغ لكنه لا حاجة إليه فإن الإنسان على نفسه بصيرة يعرف قبح الكفر مهما رجع إلى نفسه .
وقال القفال : يجوز أن يكون المخاطب بهذا هو افنسان المذكور في قوله ) ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ( كأنه حين عرض كتابه يقال له ) إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً ) [ الإسراء : 14 ] فإذا أخذ في القراءة ينبأ بقبح أعماله فيتلجلج لسانه من الفزع ويسرع له القراءة فيقال له ) لا تحرك به لسانك لتعجل به ( فإنه يجب علينا بحكم الوعد والحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك ، فإذا قرأناه عليك يجب علينا بحك الوعد والحكمة أن نجمع أعمالك عليك وشرح مراتب عقوبته .
قوله سبحانه .
) كلا بل تحبون ( قال بعضهم : هو بمعنى حقاً .
وقال جار الله : هو ردع لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن عادة العجلة وحيث له على الأناة والتؤدة وقد بالغ في ذلك باتباعه قوله ) بل تحبون العاجلة ( كأنه قيل : بل أنتم يا بني آدم خلقتم من عجل(6/403)
" صفحة رقم 404 "
تعجلون في كل شيء ، ومن ثم تحبون الدنيا وتتركون الأخرة .
ثم وصف اليوم الآخر بوقله ) وجوه يومئذ ناضرة ( ذات نضارة وبهاء .
والوجه عبارة عن الجملةقاله في الكشاف : والأولى عندي تقليلاً للمجاز أن راد بالوجوه العيون فيكون من إطلاق الكل على الجزء لا عكسه ) إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة ( شديدة العبوس ) تظن أن يفعل بها فاقرة ( فعل هو في شدته وفظاعته فاقرة أي داهية تقصم فقار الظهر كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير .
قال الأصمعي : الفقر أن يحز أنف البعير حتى يخلص إلى العظم أو يقرب منه ثم يجعل فيه خشبة يجر بها البعير ، ومنه قيل : عملت به الفاقرة .
وقال الكلبي : هي أن تحجب عن رؤية ربها فلا تنظر إلأيه .
وأعلم أن أهل السنة استدلوا بالآية على إمكان رؤية الله تعالى في الآخرة بل على وجوبها بحكم الوعد وحاصل كلامهم أن النظر إن كان بمعنى الرؤية فهو المطلوب ، وإن كان بمعنى تقليب الحدقة نحو المرئي فهذا في حقه تعالى محال لأنه منزه عن الجهة والمكان فوجب حمله على مسببه وهو الرؤية وهذا مجاز مشهور وأما المعتزلة فزعموا أن النظر المقورن ب ( إلى ) إنما يراد به تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً للرؤية فقد تحصل الرؤية وقد لا تحصل كما قال سبحانه ) وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ( ويقال : دور فلان متناظرة أي متقبابلة ولا ريب أن تقليب الحدقة نحو الشيء يستدعي جهة لذلك الشيء وهذا في حق الله تعالى محال فوجب حمل النظر على الانتظار أي منتظرة ثواب ربها كقولك : أنا ناظر إلى فلان ما يصنع فيّ .
والانتظار إذا كان في شيء متيقن الوقوع لا يوجب الغم والحزن بل يزيد اللذة والفرح .
واعترض بأن النظر إذا كان بمعنى الانتظار لا يعدّى ب ( إلى ) كقوله ) أنظرونا نقتبس من نوركم ) [ الحديد : 13 ] ( وهل ينظرون إلى تأويله ) [ الأعراف : 53 ] وأجيب بأن ذلك إنما يكون إذا كان منتظراً للشخص ، أما إذا كان منتظراً لرفده ومعونته فإنه يستعمل مقروناً بإلى كقول الرجل : إنما نظري إلى الله ثم إليك .
وقد يقول الأعمى : عيني ناظرة إلأيك .
سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون ( إلى ) واحد الآلاء أي نعمة ربها منتظرة ، وتقديم المفعول لأجل الفاصلة أو للاختصاص أي لا ينتظرون إلا إلى نعمة الله ورحمته ، قال في الكشاف : وهذا المعنى أعني إفادة الاختصاص أحد الدلائل الدالة ، على أن النظر ههنا ليس بمعنى تقليب الحدقة ولا بمعنى الرؤية لأنهم ينظرون إلى أشياء ويرون أشياء لا تدخل تحت الحصر فلا بد من حمل النظر على معنى يصح معه الإختصاص وهو التوقع والرجاء .
وحين وصف القيامة الكبرى أتبعه نعت القيامة الصغرى فروّعهم عن إيثار العاجلة على الآجلة. وذكرهم حالة الموت التي هي أول منزلة من منازل الآخرة .
) والضمير في ) بلغت ( للنفس لدلالة قرينة الحال والمقال كما في قوله(6/404)
" صفحة رقم 405 "
) فلولا إذا بلغت الحلقوم ) [ الواقعة : 83 ] والتراقي العظام المكتنفة ثغرة النحر من الجانبين واحدها ترقوة ، والمراد زهوق الروح لأن متعلق النفس هو الروح الحيواني الذي منبعه القلب فإذا فارق المنبع لم يبق من آثاره ي حواليه إلا قليل كما لو غارت العين لم يبق في نواحيها إلا أثر قليل من النداوة فيمول عن قرب .
قوله ) وقيل من راق ( إن كان من الرقبة يقال رقاه يرقيه إذا عوذه بما يشفيه ومنه ( بسم الله أرقيك من كل يؤذيك ) فالقائل هم بعض أصحاب الميت وأقاربه ، والاستفهام إما على أصله لأن العادة جارية على طلب الطبيب والراقي في وقت ما يشتد المرض ، وإام بمعنى الإنكار أي من الذي يقدر أن يرقي هذا الإنسان المشرف على الموت ، وإن كان اشتقاقه من الرقي الصعود ومنه المرقاة قال الله تعالى ) ولن نؤمن لرقيك ) [ الإسراء : 93 ] فالقائل بعض الملائكة يعني أيكم يرقي بروح هذا المحتضر ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب .
وعنابن عباس : إن الملائكة يكرهون القرب من الكافرين فيقول ملك الموت : من يرقى بروح هذا الكافر ؟ وقال الكلبي : يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة العذاب مع ملك الموت فإذا بلغت نفس العبد التراقي نظر بعضهم إلى بعض أيهم يعرج بروحه إلى السماء ) وظن ( المحتضر أي تيقن ) أنه ( وقت ) الفراق ( عن الدنيا وأوان الفطام عن مألفواتها .
وفي التعبير عن اليقين ههنا بالظن تهكم بالميت وإشارة إلى أن الإنسان لتهالكه على الدنيا وحرصه على الحياة العاجلة لا يكاد يقطع بحلول الأجل وإن لم يبق منه إلا حشاشة يسيرة ، غايته أنه يغلب على ظنه الموت مع رجاء الحياة العاجلة لا يكاد يقطع بالموت .
واستدل بهذه الآية على أن النفس باقٍ بعد خراب البدن لأن الله سمى الموت فراقاً والفراق والوصال صفة والصفة تستدعي وجود الموصوف .
) والتفت الساق بالساق ( فيه وجهان أحدهما : أنه كناية عن الشدّة كما مر في قوله ) يوم يكشف عن ساق ) [ القلم : 42 ] أي اتصلت شدة فراق الدنيا وترك الأهل والولد والجاه وشماتة الأعداء وحزن الأولياء وغير ذلك بشدّة الإقبال على أحوال الآخرة وأهوالها .
الثاني أن الساق هي العضو المخصوص .
قال الشعبي : أما رأيته يف النزع كيف يضرب بإحدى رجليه على الأخرى ؟ قال الحسن وسعيد بن المسيب : هما ساقاه التفتا في أكفانه .
وقيل : التفاف ساقيه وهو أنه إذا مات يبست ساقاه ولصقت إحدهما بالأخرى .(6/405)
" صفحة رقم 406 "
وقريب منه قول قتادة ماتت رجلاه فلا يحملانه وقد كان عليهما جوالاً ) إلى ربك ( أي حكمة خاصة ) يومئذ المساق ( أي السوق .
وقيل : أراد أن سوقه وقتئذ يفوض إلى الله دون غيره ، والفرق أن الرب أي حكمه في الول هو المسوق إليه وهو في الثاني سائق يسوقه إلى الجنة أو إلى النار .
قوله ) فلا صدّق ولا صلى ( الضمير فيه عائد إلى الإنسان المذكور في قوله ) أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ( وقد سبق أن تعينه صنفيّ أو شخصي أخبر الله سبحانه عن اختلال حال أعماله فيما يتعلق بأصول الدين وفروعه قائلاً ) فلا صدق ( أي فلا صدّق بالرسول أو بالقرآن أو بالبعث ) ولا صلى ( ) ولكن كذب ( بالحق ) وتولى ( عن الطاعة ) ثم ذهب إلى أهله يتمطى ( متبختراً مفتخراً بذلك وأصله يتمطط أي يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه ، قلبت لاطاء الأخيرة ياء كما في ( تقضى البازي ) .
ويحتمل أن يكون من مطا الظهر لأن المتبختر يلوي ظهره .
قال أهل العربية ( لا ) ههنا بمعنى ( لم ) وقلما تقع لا الداخلة على الماضي إلا مكررة ومنه الحديث ( لا أكل ولا شرب ولا استهل ) أما قوله عز من قائل ) فلا أقتحم العقبة ) [ البلد : 11 ] فسيجيء قال قتادة والكلبي ومقاتل : أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيد أبي جهل ثم قال له ) أولى لك فأولى ( يوعده ويدعو عليه بالهلاك والبعد عن الخير والقرب من المكاره ، وقد مر في قوله ) فأولى لهم ) [ محمد : 20 ] وذلك في سورة القتال .
فقال أبو جهل : بأي شيء تهددني ؟ لا تستطيع أنت ولا بك أن تفعلا فيّ شيئاً وأني لأعز أهل هذا الوادي ثم سل يده ذاهباً فأنزل الله كما قال الرسول .
قال القفال : هذا محتمل ، ويحتمل أن يكون أيضاً وعيداً مبتدأ من الله للكافر على طريقة الإلتفات ، ويحتمل أن يكون أمراً من الله لنبيه بأن يقوله لعدو الله فيكون القول مقدراً أي فقلنا لك يا محمد قل له هذا .
ثم قال دليلين على صحة الخبر الأول ) أيحسب الإنسان أن يترك سدى ( أي هملاً لا يكلف ولا يحاسب بعمله وهذا خلاف الحكمة نظيره ) أفحسبتم أنما خلقنا كم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ) [ المؤمنون : 115 ] الثاني الاستدلال بالخلق الأول على الإعادة و ) منيّ يمنى ( يراق في الرحم .
من ذكّر فللمني ، ومن أنّث فللنطفة .
والنطفة اسم لما ينطف كالقبضة لما يقبض والغرفة لما يغرف إلا أنها غلبت على الماء المخصوص الذي هو للحيوان بمنزلة البذر للنبات .
والمني ( فعيل ) بمعنى ( مفعول ) من المني بالسكون وهو الدفق غلب أيضاً على الماء المخصوص فقوله ) من مني ( أي من هذا الجنس كالتأكيد لها .
وقوله(6/406)
" صفحة رقم 407 "
) يمني ( تأكيد على تأكيد وفيه إشارة إلى حقارة الإنسان في ذاته وأنه لا يليق به التمطي والفخر والإستكبار عن طاعة خالقه فإنه مخلوق من المني الذي جرى على مجرى النجاسة نظيره في عيسى وأمه ) كانا يأكلان الطعام ) [ المائدة : 75 ] والمراد به قضاء الحاجة .
قوله ) فخلق فسوى ( أي قدّر فعدّل أركانه .
وقيل : خلق فيه الروح فصير أعضاءه متناسبة ) فجعل منه ( أي من الإنسان ) الزوجين ( الصنفين ) الذكر والأنثى ( عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه اكن إذا قرأ خاتمة السورة قال عقيبها : سبحانك بلى .
والله الموفق وإليه المصير والمآب .(6/407)
" صفحة رقم 408 "
سورة الإنسان
( سورة الدهر وهي مكية حروفها ألف وثلاثة وخمسون كلماتها مائتان وأربعون آياتها 31 ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الإنسان : ( 1 - 31 ) هل أتى على . . . .
" هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قوارير من فضة قدروها تقديرا ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما " ( القراآت ) سلاسلاً ( بالتنوين والوقف بالألف : أبو جعفر ونافع وعلي وأبو بكر وحماد وهشام ) سلاسل ( في الحالين : ابن كثير وحمزة وخلف وسهل ويعقوب يصلون بغير ألف(6/408)
" صفحة رقم 409 "
ويقفون بالألف ) قوارير قوارير ( غير مصروفين في الحالين : حمزة ويعقوب كلاهما بالتنوين والوقف بالألف والثاني بغير الألف في الحالين .
الباقون كلاهما بغير تنوين والوقف على الأول بالألف .
) لؤلؤاً ( بالواو في الأول : شجاع ويزيد وأبو بكر وحماد .
الآخرون : بهمزتين .
) عاليهم ( بسكون الياء وكسر الهاء : أبو جعفر ونافع وحمزة والمفضل الباقون : بفتح الياء وضم الهاء ) خضر واستبرق ( بالرفع فيهما ) وإستبرق ( بالخفص : ابن كثير والمفضل وأبو بكر وحماد .
الآخرون : بالخفض فيهما ) وما يشاؤن ( على الغيبة : ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو .
الوقوف : ( مذكوراً ( ه ) أمشاج ( لا قد قيل يوقف عليه لئلا يوهم أن ) نبتليه ( صفة له لأنه حال من ) خلقنا ( أي خلقناه مريدين ابتلاءه والوهم المذكور زائل لأن ضمير ) كافوراً ( ه ج لاحتمال أن يكون ) عيناً ( بدلاً ) تفجيراً ( ه ) مستطيراً ( ه ) شكوراً ( ه ) قمطريراً ( ه ) سروراً ( ه ج ) على الأرائك ( ط لاحتمال ما بعده الحال والإستئناف ) زمهريراً ( ه ج لما يعرف في التفسير ) تذليلاً ( ه ) كانت قوارير ( ه لا وقيل : بوقف عليه وليس به لأن الثانية بدل من الأولى ) تقديراً ( ه ) زنجبيلاً ( ه ج لما مر في ) كافوراً ( ) سلسبيلاً ( ه ج ) مخلدون ( ه بناء على أن ) حسبتهم ( صفة الولدان والظرف عارض ) منثوراً ( ه ) كبيراً ( ه ) واستبرق ( ك لاختلاف الجملتين مع أن وجه الحال في الواو واضح أي وقد حلوا ) فضة ( ج لأن الواو ويحتمل الحال والإستئناف وهذا أولى لإفراد هذه النعمة العظيمة عن سائر النعم ) طهوراً ( ه ط ) مشكوراً ( ه ) تنزيلاً ( ه ج للآية مع الفاء ) أو كفوراً ( ه ) أصيلاً ( ه ج لما ذكرنا ) طويلاً ( ه ) ثقيلاً ( ه ) أسرهم ( ج ) تبديلاً ( ه ) تذكرة ( ج ) سبيلاً ( ه ) أن يشاء الله ( ط ) حكيماً ( ه والوصل أوجه بناء على أن الجملة صفة ) في رحمته ( ط ) أليماً ( ه .
التفسير : اتفقوا على أن ( هل ) ههنا وفي ( الغاشية ) بمعنى ( قد ) وهذا ما ذهب إليه سيبويه قال : وإنما تفيد معنى الاستفهام حيث تفيده لتقدير الهمزة ، وإنما حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال والدليل على تقدير الهمزة ، وإنما حذفت الهمة لكثرة لكثرة الاستعمال والدليل على تقدير الهمزة ، جواز إظهارها مع ( هل ) كقوله :
سائل فوارس يربوع بشدتنا
أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم ؟
ويربوع أبو حي من تميم ، ومعنى الآية أقد أتى .
فالإستفهام يفيد التقرير وقد تفيد التقريب(6/409)
" صفحة رقم 410 "
فيكون حاصله أنه ) أتى على الإنسان ( قبل زمان قريب ) حين من الدهر ( وهو طائفة من الزمان غير محدود .
وعن ابن عباس وابن مسعود أن الإنسان ههنا آدم والحين محدود وذلك أنه مكث أربعين سنة طيناً إلى أن نفخ فيه الروح فصار شيئاً مذكوراً بعد أن كان كالمنسي وفي رواية عنه قال : أقام من طين أربعين .
ثم من حمأ مسنون أربعين ، ثم خلقه بعد مائة وعشرين وإطلاق الإنسان عليه قبل نفخ الروح فيه من باب إطلاق الخمر على العصير .
ويجوز أن يراد قد أتى على هذا الذي هو الآن إنسان بالفعل زمان لم يكن هو فيه إنساناً إلا بالقوّة وهذا صادق على آدم كما قلنا ، وعلى بنيه أيضاً عند الأكثرين .
ولعل هذه الآية كالتقدمة والتوطئة للتي تعقبها ، وكالتأكيد لخاتمة السورة المتقدمة .
وقوله ( لم يكن ( محله رفع على أنه نعت ) حين ( أو نصب على الحال من الإنسان لأنه في تقدير المفعول ويروى أن الصديق لما سمع هذه الآية قال : أيتها تمت أي ليت تلك الحالة تمت وهي كونه غير مذكور لم يخلق ولم يكلف .
وقيل : الإنسان آدم كما ذكرنا ولكن الحين هو الستة الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض ثم فرغ لخلق آدم في عصر يوم الجمعة .
وقيل : الإنسان عام والحين مدة فترة الرسل وقيل : الحين مدة لبثه في بطن أمه .
قال ابن الأعرابي وطائفة من أهل اللغة : الأمشاج جمع مشيج وأمشاج فوصف المفرد بها جميعاً نحو برمة أعشار للقدر المتكسرة قطعاً ، وثوب أكياش للذي فتل غزله مرتين .
يقال عليك بالثوب الأكياش فإنه من لباس الأكياس .
والمعنى من نطفة قد امتزج فيها الماآن ماء الرجل .
وهو أبيض غليظ - وماء المرأة - وهو أصفر رقيق - والأول يخرج من الصلب ، والثاني يخرج من الترائب ، فما كان من عصب وعظم فيمن نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة .
عن ابن مسعود : هي عروق النطفة .
وقال الحسن : أي مزجت بدم الحيض الذي فيه غذاء الجنين ، وعن قتادة : هي أطوارها نطفة ثم علقة ثم مضغة وذهب إلى أنها العناصر وبالجملة فإنها عبارة عن انتقال النطفة من حال إلى حال ولهذا فسر الإبتلاء بعضهم بهذا الإنتقال ومنه قول ابن عباس ) نبتليه ( أي نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة .
والأظهر أن حاصل المعنى خلقناه من أمشاج لا للعبث بل للإبتلاء والإمتحان .
ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر اللذان هما أشرف الحواس ولهذا خصا بالذكر .
وفيه إشارة إلى أن الحواس السليمة أسباب كلية لتحصيل الكمالات النفسية فمن فقد حساً فقد علماً .
وقيل : في الآية تقديم وتأخير ، ونبتليه معناه لنبتليه .
ثم أخبر أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة أوضح له بواسطة أن آتاه العقل السليم سبيل(6/410)
" صفحة رقم 411 "
الهدى والضلالة .
فقوله ) شاكر أو كفوراً ( حالان من مفعول ) هدينا ( أي مكناه وأقدرناه في هاتين الحالتين وقيل : تقديره هديناه السبيل فيكون إما شاكراً أو كفوراً .
وفيه جهة الوعيد أي فإن شاء ليكفر وإن شاء فليشكر فإنا أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا .
وجوز أهل العربية أن يكونا حالين من السبيل على الإسناد المجازي لأن وصف السبيل بالشكر والكفر مجاز ، وهذه الأقاويل تناسب أصول المعتزلة .
أما الذي اختاره الفراء وهو مطابق لمذهب أهل السنة أن تكون ( إما ) في هذه الاية كما في قوله ) وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ) [ التوبة : 106 ] والمعنى هديناه السبيل ثم جعلناه تارة شاكراً تارة كفوراً .
والمراد بالشكراً لإقرار بالله وبالكفر إنكاره حتى لا يكون بين الفريقين واسطة .
ويجز أن يريد بالشاكر المطيع وبأهل الكفر كل من سواه كان كفرانه مطلقاً وهو الكافر بالله ، أو ببعض المعاصي وهو الفاسق .
قوله ) سلاسل ( من قرأه بالتنوين فإنه صرفه لمناسبة .
قال الأخفش : سمعنا من العرب صرف جميع مالا يصرف وهذه لغة الشعراء اضطروا إليه في اشعر فجرت ألسنتهم بذلك في النثر أيضاً .
وقيل : إنه مختص بهذه الجموع لأنها أشبهت الآحاد لهذا جاز ( صواحبات يوسف ) .
وجوز في الكشاف أن يكون هذا التنوين بدلاً من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف ، ومثله ) قوارير ( فيمن قرأ بالتنوين ، والاعتاد الإعداد ، والسلاسل للأرجل والأغلال للأيدي والأبرار جمع برّ وبار .
عن الحسن : هم الذين لا يؤذون الذّر ) من كأس ( أي إناء يه الشراب .
وقال ابن عباس ومقاتل : هو الخمر بعينها ، والمزاج ما يمزج به ، والكافور إسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعم الكافور ولا مضرته ، والمضاف محذوف ماء كافور .
والحاصل أن ذلك الشراب يكون ممزوجاً بماء هذا العين قيل : ( كان ) زائدة والأظهر أنها مفيدة ولكناه مسلوبة الدلالة على المضي كقوله ) وكان الله عليماً حكيماً ) [ النساء : 17 ] عن قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك .
وقيل : يخلق فيه رائحة الكافور وبياضه وبرده فكأنها مزجت بالكافور .
قال جار الله : فقوله ) عيناً ( على هذين القولين بدل نم محل ) كأس ( على تقدير حذف مضاف كأنه قال : يشربون خمراً خمر عين ، أو نصب على الإختصاص .
ولا خلاف بين العلماء أن عباد الله في الآية مختص بالمؤمنين الأبرار فغلب على ظنهم أن العباد المضاف إلى اسم الله سبحانه مخصوص في إصطلاح القرىن بالأخيار ، وعلى هذا يسقط إستدلال المعتزلة بقوله ) ولا يرضى لعباده الكفر ) [ الزمر : 7 ] كما مر في أول الزمر .
وإنما قال أولاً ) يشربون من كأس ( وآخراً ) يشرب بها ( لأن الكأس هي مبدأ شربهم وأما العين فإنما يمزجون بها شرابهم فالباء بمعنى ( مع ) مثل ( شربت الماء بالعسل )(6/411)
" صفحة رقم 412 "
) يفجرونها ( يجرونها حيث شاؤا من منازلهم ) تفجيراً ( سهلاً ( قال مؤلف الكتاب ) : لا يبعد أن يكون الخمر عبارة عن العلوم اللدنية الحاصلة بالذوق والمكاشفة .
والكافور عبارة عن المعارف الحاصلة بواسطة البدنية ، ومزاجها تركيبها على الوجه الموصل إلى تحصيل لذات وكمالات أخر ، وتفجرها إشارة إلى اتصالها إلى أهلها من النفوس المستعدة لذلك .
قال أهل النظم : حين وصف سعادة الأبرار كان لسائل أن يسأل : ما لهم يرزقون ذلك ؟ فأجاب بقوله ) يوفون بالنذر ( وفيه أن الذي وفى بما أوجبه على نفسه بوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى .
ذكر الواحدي في البسيط والزمخشري في الكشاف وكذا الإمامية أطبقوا على أن السورة نزلت في أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا سيما يف هذه الآي .
يروى عن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضاً فعادهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ناس معه فقال : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن أبرأهما الله يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهما شيء ، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة منها صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم ، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم يا أهل محمد ، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياماً .
فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه .
ووقف عليهم في اثلالثة أسير ففعلوا مثل ذلك .
فلما أصبحوا أخذ علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال : ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم .
وقام وانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد لصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبرائيل وقال : خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فاقرأه السورة .
ويروى أن السائل في اللياللي جبرائيل أراد بذلك ابتلاءهم بإذن الله سبحانه .
ووصفهم الله سبحانه بالخوف من أهوال القيامة في موضعين أولاً في قوله ) ويخافون يوماً كان شره مستطيراً ( أي مكروهه مستطيراً فاشياً منتشراً من استطار الحريق ، ومنه الفجر المستطير وأصله منطار. والغرض أنه تسع مكاره ذلك اليوم جميع المكلفين حتى الأنبياء يقولون : نفيس إلا نبينا محمد فإنه يقول ( أمتي أمتي ) والسموات يتفطرن والكواكب ينتثرن إلى غير ذلك من المكاره والأهوال .
ولا ينافي هذا أمن المسلمين ي الآخرة على قال ) لا يحزنهم الفزع الأكبر ) [ الأنبياء : 103 ] وثانياً في قوله ) إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً ( وإذا كان حال أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو حال الأبرار على العموم في الخوف من الله إلى هذه الغاية فغيرهم أولى بالخوف .
وأما الضمير ي ) حبه ( فللطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه كقوله ) لن تنالوا البر حتى تنفقوا(6/412)
" صفحة رقم 413 "
مما تحبون ) [ آل عمران : 92 ] ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ الحشر : 9 ] وقال الفضيل بن عياض : أي على حب الله عز وجل نظير الآية قوله ) وآتى المال على حبه ) [ البقرة : 177 ] وعنى المسكين واليتيم قد عرف مراراً ، وأما الأسير فعن سعيد بن جبير وعطاء : هو الأسير من أهل القبلة .
وعن أبي سعيد الخدري : هو المملوك والمسجون .
وسمى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الغريم أسيراً فقال ( غريمك أسيرك فأحسن أسيرك ) وقد سمى الزوجة أسيراً من أهل القبلة .
وعن أبي سعيد الخدري : هو المملوك الحس : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول : أحسن إليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه .
وعند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجباز والإحسان إليهم في الحال إلى أن يرى الإمام فيهم ما يرى من قبتل أو من أو فداء أو إسترقاق ، لا ينافي احتمال حكم الإمام عليهم بالقتل في المآل لأن سد خلتهم بالإطعام واجب على الفور وذلك يحتمل التراخي كما في حق من يلزمه القصاص ولم يكن له مال .
ثم هذا الإطعام يجب أولاً على الإمام فإن لم يفعله وجب على المسلمين .
قال قتادة : كان أسيرهم يومئذ المشرك فأخوك المسلم أحق أن تطعمه .
ثم الإطعام ليس بواجب على التعيين ولكن الواجب مواساتهم بأي وجه كان .
وإنما عبر عن ذلك بالإطعام لأن سبب النزول كان كذلكن ولأن المقصود الأعظم من أنواع الإحسان الطعام الذي به قوام البدن .
يقال : أكل فلان مال فلان إذا أتلفه بأي وجه كان ، وإن القول .
ثم إن هذا القول يجوز أن يكون منهم باللسان منعاً للسائل عن المجازاة بمثله ، أو بالكشر ليقع إطعامهم خالصاً لله .
ويجوز أن يكون بنطق الحال .
قال مجاهد : إما إنهم ما تكلموا بذلك ولكن الله علم ذلك منهم فكشف عن نيتهم وأثنى عليهم .
وفيه تنبيه على ما ينبغي أن يكون عليه المطعم بل كان عامل من إخلاص عمله لله .
عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى هل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً .
والشكور مصدر كالكفور ولو فتحت أولهما عاد المعنى مبالغة في شاكر وكافر .
قوله ) إنا نخاف ( ظاهرة أنه تعليل للإطعام ويجوز أن يكون تعليلاً لعدم إرادة المجازاة .
ووصف اليوم بالعبوس مجاز وذلك بطريقين أحدهما : أن يشبه في ضرره وشدته بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل .
والثاني أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء .
يروى أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران .
والقمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله بلاء وأصله الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه(6/413)
" صفحة رقم 414 "
والتركيب يدل على الجمع ومنه القمطر خريطة يجمع فيه الكتب ، واقمطرت الناقة إذا رفعت ذنباه وجمعت قطريها وزمت بأنفها قاله الزجاج : فأصله من القطر وجعل الميم زائدة والظاهر أنها أصلية .
وحين أخبر عن أعمال الأبرار وإخلاصهم ذكر ما سيجزيهم على ذلك وأكد تحقيق الوعد بأن عبر عنه بصيغة الماض قائلاُ ) فوقاهم الله شر ذلك اليوم ( أي مكروهه فإن كل ما يشق على النفس وتكرهه فهو شر بالإضافة إليها ، وإن كان خيراً في نفس الأمر مشتملاً على الحكم والفوائد كالقصاص وسائر الحدود ) ولقاهم ( أعطاهم ) نضرة ( في الوجوه ) سروراً ( في القلوب بدل عبوس الكفرة وحزنهم ) وجزاهم بما صبروا ( على التكاليف أو الإيثار المؤدي إلى إفناء المال المستتبع للجزع ) جنة وحريراً ( أي بستاناً فيه مأكل هنيّ ولباساً له منظر بهيّ قال الأخفش والزجاج ) متكئين ( نصب على الحال من مفعول ) جزاهم ( وقيل : على المدح .
وقيل : حال من الجنة .
وضعف لأنه يستدعي إبراز الضمير بأن يقال : متكئين فيها هم .
والزمهرير شدة البرد .
والأظهر أن الميم والهاء أصليتان لعدم النظير لو جعل أحدهما زائداً ، والمعنى أن هواءها معتدل .
وفي الحديث ( هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر ) .
وعن ثعلب أن الزمهرير هو القمر بلغة طير واشتقاقه من الزهر ، والمراد أن الجنة لضيائها لا تحتاج إلى شمس ولا قمر .
قوله ) ودانية ( ذكر الأخفش والكسائي والفراء والزجاج أنه معطوف على ) متكئين ( كما تقول في الدار عبد الله متكئاً ومرسلة عليه الحجال ، وإن جعلنا قوله ) لا يرون ( حالاً صارت الأحوال ثلاثاً والتقدير .
وجزاهم متكئين فيها على الأرائك غير رائين فهيا هواء مؤذياً ودانية عليهم الظلال .
ودخلت الواو في الثالثة للدلالة على الإجتماع كأنه قيل : وجزاهم جنة متكئين فيها على الأرائك جامعين فيها بين البعد عن الحر والرد وبين الدنو من الظلال .
ويجوز أن يكون ) دانية ( معطوفاً على ) جنة ( لأنهم وصفوا بالخوف .
وقد قال سبحانه ) ولمن خاف قمام ربه جنتان ) [ الرحمن : 46 ] والتقدير : وجزاهم جنة أخرى دانية عليهم ظلالها .
وقوله ( لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ( من باب ( علفتها تبناً وماء بارداً ) وذلك لأن الزمهرير لا يرى أي ولا ينالون زمهريراً وإن أريد بالشمس نكاية شعاعها وحرها فمعنى لا يرون لا ينالون ، ولا يخفى أن هذا الظل ليس بالمعنى المصطلح في الدنيا وهو الضوء النوراني فإنه لا شمس هناك ، فمعنى دنو الظلال أن أشجار الجنة خلقت بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار قريبة الظلال على أهل الجنة وقد أكد هذا المعنى بقوله ) وذللت قطوفها تذليلاً ( أي لا تمتنع على قطافها كيف شاؤا .
وقال ابن قتيبة : ذللت أي أدنيت من قولهم ( حائط ذليل ) إذا كان قصيراً قال البراء ابن عازب : من أكل قائماً لم يؤذه ، ومن أكل جالساً ومضجعاً أمكنه .
وحين وصف طعامهم(6/414)
" صفحة رقم 415 "
ولباسهم ومسكنهم واعتدال هوائه وكيفية جلوسهم فيه أخبر عن شرابهم وقد ذكر الأواني .
ومعنى ) قوارير من فضة ( أن جنس الآنية من الفضة إلا أن تلك الفضة في صفاء القوارير وشفافتها حتى يرى باطنها من ظاهرها ، وإذا كانت قوارير الدنيا وأصلها من الحجر في غاية الصفاء والرقة بحيث تحكي ما في جوفها فما ظنك بقوارير الجنة وأصلها من الفضة ؟ ومعنى كانت كما مر في قوله ) كان مزاجها كافوراً ( وقال في الكشاف : هو من قوله ) كن فيكون ) [ يس : 82 ] أي تكونت قوارير بتكوين الله والمراد تفخيم تلك الخلقة العجيبة الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين .
والضمير في ) قدروها ( إما لأهل الدنّة أي إناه جاءت كما قدروا في أنفسهم حسب شهوتهم وحاجتهم ، وإما للطائفين أي قدروا شرابها على مقدار ري كل أحد من غير زيادة ونقصان .
وقريب منه قول مجاهد : لا تنقص ولا تفيض .
وقال الربيع بن أنس : إن تلك الأواني تكون مقدار ملء الكف لم تعظم فيثقل حملها .
قوله ) ويسقون فيها كأساً ( أي في الجنة إناء مملوأ من الخمر ، ويجوز أن يكون الضمير للأواني ، والكأس الخمر نفسها والعرب تحت طعم الزنجبيل في المشروب وتستلذه ولذلك وصف الله مشروبهم في الآخرة بذلك .
قال ابن عباس : وكل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة فليس منه في الدنيا إلا الاسم .
أما السلسبيل فقد قال ابن الأعرابي : لم اسمعه إلا في القرآن .
وقال الأكثرون اشتقاقه من السلاسة .
يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل أي عذب سهل المساغ فكأن الباء واللام زيدتا للمبالغة حتى صارت الكلمة خماسية .
ويرد عليه أن الباء ليست من حروف الزيادة .
قال الزجاج : السلسبيل في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة .
والفائدة في تسميتها بالسلسبيل بعد تسميتها بالزنجبيل هي أنها في طعم الزنجبيل ولذته ولكن ليس فيها اللذاع الذي هو مناف للسلاسلة .
وقد نسب إلى علي بن أبي طالب عليه اسلام أن معناه سل سبيلاً إليها .
ووجه أن صحت الرواية بأنها حينئذ جملة سميت بها مثل ( تأبط شراً ) وسبب التسمية في الأصل أنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالإيمان والعمل الصالح .
وفي بعض شعر المتأخرين :
سل سبيلاً فيها إلى راحة النف
س براح كأنها سلسبيل
والظاهر منع صرفه للعملية والتأنيث ولكن لم يقرأ به إلا في الشواذ والمتواترة التنوين ، ووجهه ما مر في ) سلاسلاً ( على أن رعاية المشاكلة أولى لكونه راس آية .
ثم وصف خدمهم بقوله ) ويطوف عليهم ولدان مخلدون ( ويجوز أن يكون هذا بياناً للطائفين في قوله ) ويطاف عليهم بآنية ( وقد صرح به في الواقعة وزاد ههنا أن شبههم في حسنهم وصفائهم وبقائهم وتفرقهم في المجلس لأصناف الخدمة باللؤلؤ المنثور .
يحكى أن المأمون ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل وهو على بساط منسوج من ذهب وقد نثرت عليه(6/415)
" صفحة رقم 416 "
نساء دار الخلافة اللؤلؤ ، فنظر إليه منثوراً على ذلك البساط فاستحسن المنظر وقال : لله دّر أبي نواس كأنه شاهد مجلسنا هذا حيث قال البيت :
كأن صغرى وكبرى من فواقعها
حصباء در على أرض من الذهب
وقيل : شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء ، ثم أجمل نعيمهم لأنه مما لا يحصر ولا يخطر ببال أحد ما دام في الدنيا فخاطب نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أو كل راء قائلاً ) وإذا رأيت ( قال الفراء : مفعوله وهو الموصول مضمر تقديره ما ) ثم ( كقوله ) لقد تقطع بينكم ) [ الأنعام : 94 ] يريد ما بينكم .
وأنكر الزجاج وغيره حذف الموصول والإكتفاء بالصلة .
والذي اختاره اصحاب المعاني أن يكون المفعول متروكاً ليشيع ويعم .
والمعنى أن الرائي أينما وجد الرؤية لمي تعلق إدراكه إلا بنعيم ) وملكاً كبيراً ( أي واسعاً هنيئاً .
و ( ثم ) ظرف مكان أشير به إلى الجنة .
روي أن أدنىأهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام .
وقيل : الملك الكبير هو الذي لا زوال له .
وقيل : هو أنه إذا أراد شيءاً كان .
ومنهم من حمله على التعظيم وهو أن يأتي الرسول بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه ولا يدخل عليه رسول رب العزة وإن كان من الملائكة المقربين إلا بعد الإستئذان قاله الكلبي : وقال أهل العرفان : الملك الكبير هو اللذات الحقيقة والمعارف الإلهية والأسرار الربانية التي تستحقر عندها اللذات البدنية .
وعن علي أنه قرأ ) ملكاً كبيراً ( بفتح الميم وكسر اللام هو الله .
من قرأ ) عاليهم ( بسكون الياء فعلى أنه مبتدأ ) وثياب سندس ( خبر أي ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس ومن قرأ بالنصب فعلى أنه ظرف بمعنى فوق فيكون خبراً مقدمأً .
ويجوز أن يكون نصباً على الحال من ضمير الأبرار أي ولقاهم نضرة وسروراً .
حال ما يكون عاليهم ثياب سندس .
يطوف عليهم أي على الأبرار ولدان حال ما يكون عاليهم ثياب سندس .
ويحتمل أن يكون العامل ) رأيت ( والمضاف محذوف والتقدير رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب سندس .
من قرأ ) خضر ( بالرفع فظاهر ، ومن قرأ بالجر فعلى الجوار أو على أنه صفة سندس بالإستقلال لأنه جنس فكان في معنى الجمع كما يقال : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض .
وأما الرفع في ) إستبرق ( فللعطف على ثياب ، والجر للعطف على سندس وكلاهما ظاهر .
قوله ) وحلوا أساور من فضة ( إن كان الضمير للولدان فلا إشكال لأن أساور المخدومين تكون من ذهب كما قال سبحانه في مواضع ) يحلون يها من أساور من ذهب ) [ الكهف : 31 ] وأساور الخدام من فضة .
وإن كان الضمير للأبرار فلا إشكال(6/416)
" صفحة رقم 417 "
أيضاً فلعلهم يسورون بالجنسين إما على المعاقبة وإما على الجمع .
وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران سوار من ذهب وسوار من فضة .
وأيضاً فالطباع مختلفة قرب إنسان يكون إستحسانه لبياض الفضة ، ورب إنسان يكون إستحسانه لصفرة الذهب فالله تعالى يعطي كل أحد بفضله ما تكون رغبته فيه أتم .
وقال بعض أهل التأويل : أساور اليد أعمالها وأكسابها التي صارت ملكات نورانية بها يتوسل إلى جوار الحضرة الصمدية كما أن الذهب والفضة في الدنيا وسائل إلى تحصيل المطالب العاجلة .
ثم ختم جزاء الأبرار بقوله ) وسقاهم ربهم شراباً طهوراً ( هو إما مبالغة طاهر والمراد أنها ليست بنجسة كخمور الدنيا ولا مستقذرة طبعاً لمساس الأيدي الوضرة والأقدام النجسة والدنسة ، ولا تؤل إلى النجاسة ولكنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك .
وإما مبالغة مطهر .
قال أبو قلابة : يؤتون بالطعام والشراب ممزوجاً بالكافور والزنجبيل فإذا كان ذلك سقوا هذا الشراب فتظهر بذلك بطونهم ويفيض عرق من جلودهم كريح المسك .
وذكر أسحاب التأويل أن الأنوار الفائضة من العالم العلوي متفاوتة في الصفاء والقوة والتأثير فبعضها كافورية طبعها البرد واليبس ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والقبض ، وبعضها زنجبيلياً على طبع الحر واليبس .
ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والقبض ، وبعضها زنجبيلياًَ ، ثم لا يزال الروح الإنساني ينتقل من نوع إلى نوع ومن مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى حضرة نور الأنوار فيضمحل في نور تجليه سائر الأنوار ، وهذا آخر سير الصديقين ومنتهى درجاتهم في الارتقاء إلى مدراج الكمال ، فلهذا أضاف السقي إلى ذاته قائلاً ) وسقاهم ربهم ( ثم ختم وعدهم بقوله ) إن هذا كان لكم جزاء ( عن ابن عباس أن هذا المعنى إنما يقال لهم بعد دخولهم الجنة ، فالقول مقدر والغرض إعلامهم أن كل ما تقدم من أصناف العطاء إنما هو جزاء أعمالهم والغرض إذاقة لذة الآخرة فإن سرورهم يزيد بذلك .
وقال آخرون : إنه ابتداء خبر من الله تعالى لعباده في الدنيا ليعلموا في دار التكليف أن هذه الأشياء معدة في الآخرة لمن بر وأطاع .
واعلم أنه سبحانه بين في أول السورة أن الإنسان وجد بعد العدم ، ثم ذكر أنه خلقه من أمشاج وهي العناصر والأخلاط والماآن ماء الرجل وماء المرأة ، والأطوار المتعاقبة على النطفة أو النفس أو البدن ، وعلى جميع التقادير فلذلك يدل على كونه فاعلاً مختاراً صانعاً حكيماً .
ثم أخبر أنه ما خلقه لأجل العبث ماطلاً باطلاً ولكنه خلقه للابتلاء والامتحان وأعطاه كل ما هو محتاج إليه من العقل والحواس ، ثم إن مآل أمره بالجبر أو بالقدر إلى الشكر أو الكفر ، أما الكفر فله السلاسل والأغلال ، وأما الشاكر فله النعيم والظلال .
واختصر في العقاب وأطنب في ذكر الثواب إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه .(6/417)
" صفحة رقم 418 "
وحين فرغ من شرح أحوال الآخرة بدأ بكيفية صدور القرآن الذي منه تعليم هذه العلوم والحقائق فقال ) إنا نزلنا عليك القرآن تنزيلاً ( وفيه أنواع من المبالغة من قبل إيقاع الضمير اسماً لأن ( ثم ) تكريره ومن جهة ذكر الصمدر بعد الفعل ومن جهة لفظ التنزيل دون الإنزال لأن تنزيل القرآن منجماً مفرقاً أقرب إلى تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتثبيت فؤاده ، وحيث سلى قلبه أمره بالصبر على أذى الكفار إلى أوان تنزيل آية القتال ونهاه عن طاعة كل آثم منهم وخصوصاً الكفور فإن الكفر أعظم الآثام قال النحويون : كلمة أو مفيدة لأحد الشيئين أو الأشياء ، فأورد عليه أنه يلزم في الآية أنه لا يجوز طاعة الآثم والكفور إذا تخالفا .
أما إذا توافقا فإنه يجوز طاعتهما إذ لا يبعد أن يقول السيد لعبده إذا أمرك أحد هذين الرجلين فخالفه .
أما إذا توافقا فلا تخالفهما .
والجواب أنه لا ريب أن قولك ( لا تضرب زيداً أن أو عمراً ) معناه في الأظهر لا تضرب زيداً ولا عمراً. ويحتمل احتمالاً مرجوحاً ( لا تضرب أحدهما واضرب الآخر ) إلا أن هذا الاحتمال مدفوع في الآية لقرينة الإثم والكفر فإن أحدهما إذا كان منهياً عنه فكلاهما معاً أولى لأن زيادة الشرِّ شرٌّ .
ولهذا قال الفراء : لا تطع واحداً منهما سواء كان آثماً أو كفوراً. ولو كان العطف بالواو كان نصاً في النهي عن طاعتهما معاً ، ولا يلزم منه النهي عن طاعة كل منهما على الإنفراد .
وقد خص بعض المفسرين فقال : الآثم هو عتبة لأنه كان متعاطياً لأنواع الفسوق .
والكفور هو الوليد لأنه كان شديد الشكيمة في الكفر .
يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : اردع عن هذا الأمر حتى أزوجك ولدي فإني من أجمل قريش ولداً .
وقال الوليد : أنا أعطيك من المال حتى ترضى فإني من أكثرهم مالاً .
فقرأ عليهم رسول الله من أول ( حم السجدة ) إلى قوله ) فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ( فانصرفا عنه .
وقال أحدهما : ظننت أن الكعبة ستقع. وقال الحسن : الآثم هو المنافق ، والكفور مشركو العرب ، أمره بالصبر على التكاليف مطلقاً .
ثم قسمها إلى نهي وأمر على هذا الترتيب لأن التخلية مقدمة على التحلية .
أما النهي فقد مر ، وأما الأمر فأوله ذكر اله ولا سيما في الصلاة أول النهار ولآخره وهو المراد بقوله ) بكرة وأصيلاً ( ويشمل صلوات الفجر والظهر والعصر وأول الليل وهو المراد بقوله ) ومن الليل فاسجد له ( أي وفي بعض الليل فصل له يعني صلاة المغرب والعشاء وأوسطه وهو المعنى بقوله ) وسبحه ( أي وتهجد له طويلاً من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه كما مر في ( المزمل ). ثم شرع في توبيخ المتمردين عن طاعته مستحقراً إياهم قائلاً ) إن هؤلاء يحبون ( الدار ) العاجلة ( ونعيمها الزائل ) ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً ( أي شديداً كقوله ) ثقلت في السموات والأرض ) [ الأعراف : 187 ] ثم بين كمال قدرته قائلاً ) نحن خلقناهم وشددنا(6/418)
" صفحة رقم 419 "
أسرهم ( أي ربطهم وتوثيقهم ومنه أسر الرجل إذا أوثق بالقدر وبه سمى القد أسراً .
والمعنى ركبناهم تركيباً محكماً وتقنا مفاصلهم بالأعصاب والربط والأوتار حسب ما يحتاجون إليه في التصرف لوجوه الحوائج ) وإذا شئنا ( أهلكناهم بالنفخة و ) بدلنا أمثالهم ( في شدة الأسر عند النفخة الثانية .
وقال جار الله : قيل معناه بدلنا غيرهم ممن يطيع وحقه أن يجيء بأن لا بإذا كقوله ) وأن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ) [ محمد : 38 ] ممن يطيع ) وإن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ) [ إبراهيم : 19 ] قال الإمام فخر الدين الرازي : هذا الكلام كأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف لأن كل واحد من ( إذا ) ( وإن ) حرف الشرط .
قلت : ما ذكره جار الله ليس طعناً في القرآن وإنما هو طعن في نفس ذلك القول بناء على أن ( إذا ) لا تستعمل إلا فيما كان مقطوع الوقوع كالإماتة بالنفخة الأولى والإحياء في النشأة الأخرى .
أما الإهلاك على سبل الإستئصال فذلك غير مقطوع به فلهذا ألا يحسن تفسير اللفظ به وتعين التفسر الأول ، والمبادرة بالإعتراض قبل الفهم التام ليس من دأب العلماء المتقين فعجب من مثله ذلك .
قوله ) إن هذه تذكرة ( قد مر في ( المزمل ) والمقصود من إعادته أن هذه السورة بما فيها من الترتيب الأنيق تبصرة للمتأملين المتخذين إلى كرامة الله سبيلاً بالطاعة والانقياد ، وفيه دليل للقدري .
وفي قوله ) وما تشاؤن إلا أن يشاء الله ( إلى آخر السورة دليل للجبري والتوفيق بينهما مفوض إلى فهم أهل التوفيق وقدمنا فيه التحقيق .
وانتصب ) الظالمين ( بفعل يفسره معنى أعد أو وعدت ونحوهما أوعد ، وبالهه التوفيق وإليه المصير والمآب .(6/419)
" صفحة رقم 420 "
سورة المرسلات
( سورة المرسلات وهي مكية حروفها ثمانمائة وستة عشر كلماتها مائة وإحدى وثمانون آياتها خمسون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( المرسلات : ( 1 - 50 ) والمرسلات عرفا
" والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا إنما توعدون لواقع فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ويل يومئذ للمكذبين انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون ويل يومئذ للمكذبين إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون " ( ) القراآت ) فالملقيات ذكراً ( بتشديد الذال للإدغام : أبو عمرو وحمزة في رواية عنهما ) عذراً ( بضم الذال : الشموني والبرجمي ) أو نذراً ( بالسكون : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد : ( وقتت ( بالتشديد والواو : أبو عمرو ويعقوب .
وبالتخفيف : ويزيد .
وفي رواية بإبدالالواو همزة كقولهم ( أجوه ) في ( وجوه ) .
الباقون : بالإبدال(6/420)
" صفحة رقم 421 "
وبالتشديد ) ألم نخلقكم ( مظهراً روى النقاش عن ابن ربيعة عن أصحابه والحلواني عن قالون وحفص والنجاري وعن ورش ) فقدرنا ( مشدداً : أبو جعفر عن نافع وعلي ، ) انطلقوا إلى ظل ( بفتح اللام : رويس : ( جمالة ( على التوحيد : حمزة وعلي وخلف وحفص ) وجمالات ( بضم الجيم مجموعة : يعقوب .
الآخرون : بالكسر مجموعاً .
الوقوف : ( عرفاً ( ه لا ) عصفاً ( ه لا ) نشراً ( ه لا ) فرقاً ( ه لا ) ذكراً ( ه لا ) نذراً ( ه لا ) لواقع ( ه ط ) طمست ( ه لا ) فرجت ( ه لا ) نسفت ( ه لا ) أقتت ( ه لا بناء على أن عامل ( إذا ) محذوف أي إذا كانت هذه الأمور يفصل بين الخلق ) أجلت ( ه ط للفصل بين الجواب والسؤال ) الفصل ( ج ) للمكذبين ( ه ) الأولين ( ه ط لأن ما بعده مستأنف أي ثم نحن نتبعهم ) الآخرين ( ه ) بالمجرمين ( ه ) مهين ( ه لا ) معلوم ( ه لا ) فقدرنا ( ه ) القادرون ( ه ) كفاتا ( ه لا ) وأمواتاً ( ه لا ) فراتا ( ه لا ) للمكذبين ( ه ) تكذبون ( ه ج للتكرار مع الآية ووجه الوقف لمن قرأ بفتح اللام أوضح لأنه ابتداء إخبار عن موجب عملهم بما أمروا به ) شعب ( ه لا ) اللهب ( ه ط ) كالقصر ( ه ج لأن ما بعده وصف لشرر لا للقصر ) صفر ( ه ط ) للمكذبين ( ه ) لا ينطقون ( ه لا ) فيعتذرون ( ه ) للمكذبين ( ه ) الفصل ( ه ج لاحتمال ما بعده الإستئناف والحال أي أشير إلى يوم مجموعاً فيه ) والأولين ( ه ) فكيدون ( ه ) للمكذبين ( ه ) يشتهون ( ه ) تعملون ( ه ) المحسنين ( ه ) للمكذبين ( ه ) مجرمون ( ه ) للمكذبين ( ه ) لا يركعون ( ه ) للمكذبين ( ه ) يؤمنون ( ه .
التفسير : الكلمات الخمس في أول هذه السورة يحتمل أن يكون المراد بها جنساً واحداً أو أجناساً مختلفة .
أما الإحتمال الأول فذكروا فيه وجوهاً الأول : أنها الملائكة أقسم رب العزة بطوائف الملائكة الذين أرسلهم بأوامره حال كونهن عرفاً أي متتابعة كشعر العرف .
يقال : جاؤا عرفاً واحداً وهم عليه كعرف الضبع إذا اجتمعوا عليه ، يوجوز أن يكون العرف خلاف النكر أي أرسلهن للاحسان والمعروف ، فإن هؤلاء الملائكة إن كانوا بعثوا للرحمة فمعنى الإحسان حينئذ ظاهر ، وإن كانوا قد بعثوا لأجل العذاب فذلك إن لم يكن معروفاً للكفار فإنه معروف للإنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله من الكفار لأجلهم .
ومعنى الفاء في ) فالعاصفات ( أنهن عقيب الأمر عصفن في مضيهن كما عصفت الرياح بدراً إلى امتثال الأمر .
قيل : هو من قولهم ( عصفت الحرب بالقوم ) أي ذهبت بهم وأهلكتهم .
ويقال ( ناقة عصوف ) أي عصفت براكبها فمضت كأنها ريح من السرعة فالمراد أنهن حين أرسلن للعذاب طرن بروح الكافر .
ثم أقسم بطوائف من الملائكة نشرن أجنحتهن في الجو عن(6/421)
" صفحة رقم 422 "
انحطاطهن بالوحي أو نشرن الشرائع في الأرض .
أو أحيين النفوس الميتة بما أوحين ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكراً إلى الأنبياء ) عذراً ( للمحقين ) أو نذراً ( للمبطلين .
قال الأخفش والزجاج : هما بالسكون مصدران كالشكر والكفر ، والضم لغة في كل منهما كالنكر والنكر ، والمعنى عذاراً أو إنذاراً وكل منهما بدل من ) ذكر ( أو مفعول له .
وقال أبو عبيدة : بالثقل جمع عذير بمعنى المعذرة وجمع نذير بمعنى الإنذار أو بمعنى العاذر والمنذر فيكونان حالين من الإلقاء أي عاذرين أو منذرين الوجه الثاني أنها الرياح أقسم الله سبحانه برياح عذاب أرسلهن متتابعة فعصفن عصفاً ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بينه كقوله ) ويجعله كسفاً ) [ الروم : 48 ] فألقين ذكراً إي صرن سبباً في حصول الذكر لأن الإنسان العاقل إذا شاهد تلك الرياح إلتجأ إلى ذكر الله والتضرع إليه فيكون عذراً للذين يعتذرون إلى الله عز وجل بالتوبة والإستغفار ، وإنذاراً للذين يغفلون عن الله ويغفلون عن شكره إذ ينسبونها إلى الأنواء .
والوجه الثالث إنها القرآن وآياته أرسلت متتابعة أو بكل معروف وخير فعصفت أي قهرت سائر الملل والأديان والكتب أي إبتدأن بالقهر والنسخ عقيب الإرسال ، نشرن بعد ذلك بالتدريج آثار الحكم وأنوار الهداية في قلوب العالمين ففرقت بين الحق والباطل وألقت الذكر والشرف إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته كما قال ) وإنه لذكر لك ولقومك ) [ الزخرف : 44 ] الرابع أنها طوائف الأنبياء أرسلوا بالوحي المستعقب لكل خير ومفتاحه ( لا إله إلا الله ) فأخذ أمرهم في العصوف والاشتداد إلى أن بلغ غايته وانتشرب دعوتهم ففرقوا بين المؤمن والكافر ، والمقر والجاحد ، وألقوا الذكر والتوحيد إلى الناس كافة أو إلى طائفة معينين .
الخامس وهو بالتأويل أشبه أن المرسلات هي الدواعي والإلهامات الربانية أرسلت فأخذت في العصوف والاشتداد بحيث أزالت عن القلب حب ما سوى الله وانبثت آثارها في سائر الأعضاء والجوارح ، فلا يسمع إلا بالله ولا يبصر إلا بالله ، وكذا البطش والمشي وسائر الحركات والسكنات ، ففرقت بين الوجودالمجازي وهو وجود سوى الله وبين الوجود الحقيقي وهو البقاء بالله ، وألقت الذكر على كل الجوارح فلم يذكر غير الله .
وأما الإحتمال الثاني ففيه وجوه أيضاً أحدها : وهو المنقول عن الزجاج واختاره القاضي أن الثلاث الأول هي الرياح كما في الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة ، والباقيتان الملائكة كما مر في الوجه الأول منها .
ووجه الجمع بين الرياح والملائكة هو اللطافة وسرعة الحركة .
وثانيها أن الأولين هما الرياح والثلاثة الأخيرة هي الملاكة لأنها تنشر الوحي ، ثم يعقبه أثران ظهور الفرق بين أولياء الله وأعدائه ودوران ذكر الله على القلوب والألسن : وقد يتأيد هذا الوجه بعطف الثانية على الأولى بفاء الوصل المنبيء عن التعقيب والتسبيب .
ثم التنسيق بالواو(6/422)
" صفحة رقم 423 "
وعطف الباقيين عليها بالفاء وثالثها أن الأولى ملائكة العذاب والباقية آيات القرآت على منوال ما سبق .
قوله ) إنما توعدون لواقع ( جواب القسم ومعناه على ما قال الكلبي : كل ما توعدون به من الخير والشر لواقع .
والأكثرون يخصونه بمجيء القيامة بدليل ذكر أماراتها بعده وهو قوله ) فإذا النجوم طمست ( أي أزيلت عن أماكنها بالإنتثار وأذهب ضوءها بالإنكدار وقد ورد كل منهما ) وإذا الكواكب انتثرت ) [ فاطر : 2 ] ( وإذا النجوم انكدرت ( النور .
وفسر الانتثار في الكشاف بمحق الذوات وفيه بعد لأن الانتثار غير الانعدام وإن أراد بالمحق غير هذا فعليه بالبيان قوله ) وإذا السماء فرجت ( أي فتحت السماء فكانت أبوابا ( طه ) في قوله ) ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً ) [ طه : 105 ] قال مجاهد والزجاج : المراد بأقتت الرسل تعيين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم ، وكان هذا الوقت مبهماً عليهم قبل ذلك وقريب منه قول جار الله : إن معنى وقتت بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة .
ثم عجب العباد هول ذلك اليوم فقال ) لأي يوم أجلت ( الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل وهي تعذيب من كذبهم وتعظيم من صدقهم وظهور ما كانوا يوعدون الأمم إليه ويخوفونهم به من العرض والحساب ونشر الدواوين ووضع الموازين .
ثم أجاب بأنهم أجلوا ) ليوم الفصل ( بين الخلائق ، ثم عظم ذلك اليوم ثانياً فقال ) وما أدراك ما يوم الفصل ( وأي شيء شدته ومهابته .
ثم عقبه بتهويل ثالث فقال ) ويل يومئذ ( أي يوم إذا كان كذا وكذا من الأهوال ) للمكذبين ( وإعرابه كإعراب ) سلام عليك ) [ مريم : 47 ] وقد سبق .
وقد كرر هذا التهويل في تسعة مواضع أخر لمزيد التأكيد والتقرير كما مر في سورة الرحمن .
ثم هددهم بقوله ) ألم نهلك الأولين ( كعاد وثمود وغيرهما إلى زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ثم نتبعهم الآخرين ( وهن كفار مكة أهلكهم الله يوم بدر وغيره من المواطن قوله ) كذلك ( أي مثل ذلك الإهلاك الفظيع ) نفعل ( بكل مجرم .
ثم وبخهم بتعديد النعم وآثار القدرة عليهم فقال ) ألم نخلقكم من ماء مهين ( حقير لا يعبأ به وغيره من المواطن في قرار مكين ( وهو الرحم وهو أنه يتمكن فيه ما يتكون منه الولد ) إلى قدر معلوم ( أي إلى مقدار معلوم من الزمان المقدر ولهذا قال ) فقدرنا ( بالتشديد ) فنعم القادرون ( أي فنعم المقدورن له نحن .
ومن قرأ بالتخفيف فبمعنى التقدير أيضاً لتتوافق القراءتان .
قال الفراء : قدر وقدّر بالتخيف والتشديد لغتان ، ويجوز أن يكون المخفف من القدرة أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا فنعم أصحاب القدرة نحن حيث خلقناهم في أحسن تقويم .
وفي(6/423)
" صفحة رقم 424 "
قوله ) ويل يومئذ للمكذبين ( وتوبيخ وتخويف من وجهين أحدهما : أن النعمة كلما كانت أعظم كان كفرانها أفحش .
والثاني أن الابداء أقدر على الإعادة فالمنكر لهذا الدليل الواضح يستحق غاية التوبيخ .
ثم عد عليهم نعم الآفاق بعد ذكر الأنفس .
والكفات اسم ما يكفت أي يضم ويجمع ، ويجوز أن يكون اسماً لما يكفت به مبيناً للمفعول كالشداد لضمام يشد به رأس القرورة .
وانتصب ) أحياء وأمواتاً ( بفعل مضمر دل عليه هذا الاسم أي تكفت أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها .
والتنكير للتفخيم أي أحياء وأمواتاً لا تعد ولا تحصى .
وجوز انتصابهما على الحال والضمير الذي هو ذو الحال محذوف للعلم به أي تكفتكم في حال حياتكم وفي حال مماتكم .
وقيل : معنى كونها كفاتاً أنها تجمع ما ينفصل منهم من المستقذرات وقيل : معناه أنه جامعة لما يحتاجون إليه في التعيش .
وقيل : هما راجعان إلى الأرض يعني ما ينبت وما لا ينبت .
والكل بتكلف .
والوجه هو الأول .
وباقي الآية ظاهر مما سلف مراراً .
ثم أخبر عما يقال للمكذبين في قوم الفصل فقال ) انطلقوا ( أي يقال لهم انطلقوا لما كذبتم به من العذاب .
ثم بين ما أجمل بقوله ) انطلقوا ( يروى أن الشمس تقرب يوم القيامة لرؤس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفاسهم ، ويحمي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظلاله فهناك يقولون ) فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم ) [ الطور : 25 ] ويقال للمكذبين ) انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ( من عذاب الله وعقابه ) انطلقوا إلى ظل ( قال الحسن : ما أدري ما هذا الظل ولا سمعت فيه بشيء فقال قوم : سمى النار بالظل مجازاً .
وشعبها الثلاث كونها من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومحيطة بهم .
وعن قتادة : هو الدخان شعبة عن يمينهم وأخرى عن يسارهم والثالثة من فوق ، تظلم حتى يفرغ من حسابهم والمؤمنون في ظل العرش .
وقال في الكشاف : هو عبارة عن عظم الدخان .
فالدخان العظيم تراه يتفرق ذوائب وقال أهل التأويل : الشعب الثلاث هي القوة الغضبية ومنشؤها القلب في الجانب الأيسر ، والشهوية ومنشؤها الكبد في الجانب الأيمن ، والشيطانية ومنشؤها الدماغ من فوق ، فيتولد من اتباع هذه الثلاثة ثلاثة أنواع من الظلمات .
وقال أبو مسلم : هي الأوصاف الثلاثة التي ذكرها الله تعالى عقيبه وهي ) لا ظليل ولا يغني من اللهب أنّها ترمي بشرر كالقصر ( وفيه تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين أي ذلك الظل غير مانع حر الشمس وغير مغن منحر اللهب شيئاً أي لا روح كما قال في الواقعة ) لا بارد ولا كريم ) [ الآية : 44 ] يقال أغن عني وجهك أي أبعده لأن الغني عن الشيء يباعده كما أن المحتاج إلأيه يقاربه .
وإنما عدي في الآية ب ( من ) لأنه أراد أن ابتداء الإغناء منه ، وعن قطرب ان اللهب ههنا هو العطش .
ثم شبه الشرر وهو ما يتطاير(6/424)
" صفحة رقم 425 "
من النار متبدداً في كل جهة بالقصر .
والأكثرون على أنه واحد القصور .
وعن سعيد بن جبير ومقاتل والضحاك أنه الغليظ من أصول الشجر العظام الواحدة قصرة كجمرة وجمر .
وروي عن ابن عباس أنه سئل عن القصر فقال : خشب كنا ندخره للشتاء .
ثم زاد في البيان أن أتبعه تشبيهاً آخر قائلاُ ) كأنه جمالات صفر ( وهي جمع جمالة بمعنى جمل .
ويجوز أن يكون جمع جمال كرجالات وقال أبو علي : التاء في ) جمالة ( لتأكيد الجمع كحجر وحجارة .
أما الجمالة بالضم فهي قلوس سفن البحر أي حبالها كما مر في قوله ) حتى يلج الجمل في سم الخياط ) [ الأعراف : 40 ] وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس أنها قطع النحاس .
ومعظم أهل اللغة لا يعرفونه .
وقال الفراء : يجوزأن يكون الجمالات بالضم من الشيء المجمل .
يقال : أجملت الحساب وجاء القوم جملة أي مجتمعين : والمعنى أن هذه الشرر ترتفع كأنها شيء مجموع غليظ أصفر والأكثرون على أن المراد بهذه الصفرة سواد يعلوه صفرة .
قال الفراء : لا ترى أسود في الليل إلا وهو مشرب صفرة والشرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار كأنه اشبه شيء بالجمل الأسود الذي يشوبه شيء من الصفرة .
وقال آخرون : الشرر إنما يسمى شرراً ما دام مرتفعاً وحينئذ يكون ناراً وإذا كان ناراً كان أصفر فاقعاً .
واعلم أنه عز اسمه شبه الشرر في العظم والارتفاع بالقصر ثم شبهه مع ذلك في اللون والكثرة والتابع وسرعة الحركةبالجمالات الصفر .
ثم نقل عن ابن عباس أنه قال : هذا التشبيه إنما ورد على ما هو معتاد في بلاد العرب .
وقصروهم قصيرة السمك جارية مجرى الخيمة .
فسمع أبو العلاء ذلك فشبه الشرر بالطراف وهو الخيمة من الأديم قال :
حمراء ساطعة الذوائب في الد
جى ترمي بكل شرارة كطراف
فزعم صاحب الشكاف أنه أراد معارضة المعجز .
قال الإمام فخر الدين الرازي : كان الأولى بصاحب الكشاف أنه أراد معارضة المعجز .
قال الإمام فخر الدين الرازي : كان منصباً من أن يتصدى لمعارضته أحد بعد استرقرار أمره ويلتفت إلىالمعارض ، وإذ قد ذكر صاحب الشكاف ذلك فلنذكر التفاوت بين القرآن وبين كلام أبي العلاء وذلك من وجوه الأول : قيل : إن لون الأديم قريب من لون الشرارة إلا أن الجمالات متحركة كالشرارة دون الخيمة .
الثاني أن القصر موضع الأمن وتشبيه الشرارة به إشارة إلى أن الكافر إنما يعذب بآفة من الموضع الذي يتوقع منه الأمن وهو دينه وملته التي ظن أنه منها على شيء ، وليست الخيمة موضع الأمن الكلي الثالث أن الشرر متتابعة كالجمال ولا كذلك الطراف الرابع أن العرب اعتقدوا أن الجمال في ملك الجمال وتمام النعم في حصول النعم .
ففي الآية إشارة إلى أنكم كنتم تعدون الجمال فخذوا هذه الشرارات التي هي كالجمالات وهذا التهكم غير(6/425)
" صفحة رقم 426 "
موجود في الشعر .
الخامس أن الإبل إذا نفرت وشردت متتابعةنال من وقع فيما بينهما بلاء شديد .
فتشبيه الشرر بها يفيد كمال الضرر والطراف ليس كذلك .
السادس أن القصر يكون أعظم غالباً من الطراف والجمالات وهي جمع الجمع تكون أكثر عدداً من الطراف والغرض التوكيد فيكون تشبيه القرآن أبلغ في المعنى المقصود .
السابع أن التشبيه بشيئين كالقصر والجمالات في إثبات الوصفين كالعظم والصفرة أوقى في ثبوت الوصفين من التشبيه بشيء واحد للوصفين بعينهما ، لأن الأول كالمبين المفصل ، والثاني كالمجمل المبهم إذ يحتمل أن يكون وجه التشبيه واحداً منهما فقط .
الثامن أن الإنسان إنما يكون طيب العيش إذا كان وقت الانطلاق راكباً ووقت النزول راقداً في الظل فكأنه قيل في الآية على سبيل التهكم مركوبكم هذه الجمالات من الشرر وظلكم في مثل هذا القصر ولو شبه بالطرف لم يحصل هذا المقصود .
التاسع أن تطاير القصر وهو من اللبن والحجر والخشب في الهواء أغرب من تطاير الخيمة وهي خفيفة الحجم .
العاشر أن سقوط القصر افظع وأهول من سقوط الطراف هذه خلاصة كلام الإمام في هذا المقام أوردناهما لئلا يكون كتابنا خالياً من فوائد تفسيره .
قوله ) هذا يوم لا ينطقون ( يروى أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الجمع بين هذه الآية وبين نحو قوله ) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) [ الزمر : 31 ] فأجاب بتغاير الزمانين وتباين الموطنين .
وقال الحسن : أراد لا ينطقون بحجة صحيحة وعذر واضح فكأنهم لم ينطقوا ولم يعتذروا .
قوله ) ولا يؤذن ( إنما لم يقل ( فيعتذروا ) بسقوط النون للنصب كقوله ) لا يقضي عليهم فيموتوا ) [ فاطر : 36 ] لأنه لو نصب لأوهم أنهم إنما لم يعتذروا لأجل أنهم لم يؤذوا في الإعتذار ولولا المنع لاعتذروا وهذا غير جائز ، ولكن المراد أن لا عذر لهم في نفس الأمر لا إذن فالفاء لمطلق النسق لا للتسبب .
هذا مع أنه فيه رعاية الفاصلة وهي من جملة الفصاحة اللفظية ، ولهذا لم يقرأ في سورة ( اقتربت ) ) إلى شيء نكر ) [ الآية : 6 ] لا مثقلاً .
وقريء قوله في آخر ( الكهف ) و ( الطلاق ) ) عذاباً نكراً ) [ الآية : 8 ] بالوجهين قالوا : وإنما لم يؤذن لهم في الاعتذار لأنه سبحانه أزاح الاعتذار في الدنيا بتقديم الإنذار بدليل قوله ) فالملقيات ذكراً عذراً ونذراً ( ولهذا قال في آخر هذا الأخبار ) ويل يومئذ للمكذبين ( ثم أشار لمزيد التهديد والتوبيخ إلى اليوم المذكور بقوله ) هذا يوم الفصل ( ثم أوضح هذه الجملة بقوله ) جمعناكم ( أيها لامتأخرون ) والأولين ( لأن الفصل بين الخلائق لا يجوز إلا بإحضار الكل .
وقد يستدل به على عدم جواز القضاء على الغائب .
ثم عجزهم وحقر أمرهم بقوله ) فإن كان لكم كيد فكيدون ( وقد علم أنه لا حيلة لهم في رفع البلاء عن أنفسهم يومئذ كما كانوا يحتالون في الدنيا يؤذون بذلك أنبياء الله وأولياءه ، وهذا التعجيز(6/426)
" صفحة رقم 427 "
والتخجيل من جنس العذاب الروحاني فلهذا عقبه بقوله ) ويل يومئذ للمكذبين ( ثم زاد في حسرتهم وغمهم بتعديد ما أعد للمطيعين المتقين من الظلال والعيون والفواكه بدل ظلالهم التي لا روح فيها ولا تغني عن لاحر والعطش ، استقروا في تلك النعم مقولاً لهم ) كلوا واشربوا ( وهو أمر إكرام لا أمر تكليف وهذا أيضاً من جنس العذاب الروحاني بالنسبة إلى الكافرين حين يرون الذين اتقوا الشرك في النعيم المقيم ولذا أردفه بقوله ) ويل يومئذ للمكذبين ( ثم ذكر أن هذا الويل ثابت لهم في حال ما يقال في الآخرة ) كلوا وتمتعوا ( قال جار الله : هذا في طريقة قول القائل :
إخوتي لا تبعدوا أبداً
وبلى والله قد بعدوا
أي كنتم أحقاء في حياتكم بأن يدعى لكم بهذا ، وفيه توبيخ وتذكير بحالهم السمجة وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم ، وعلل ذلك بكونهم مجرمين إيعاداً لكل مجرم ، وجوز أن يكون ) كلوا وتمتعوا ( كلاماً مستأنفاً خطاباً للمكذبين في الدنيا .
ثم ذمهم على ترك الخشوع والتواضع لله بقبول وحيه .
وقيل : ما كان على العرب أشد من الركوع والسجود .
يروى أن وفد ثقيف أمرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالصلاة فقالوا : لا ننحني أي لا نركع ولا نسجد فإنها مسبة علينا .
فقال صلى الله عيله وسلم : لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود .
وأنزل الله الآية .
ثم ختم السورة بالتعجب من حال الكفار وإصرارهم على جهالاتهم وضالاتهم بعد القرآن وبياناته وقد مر في أول ( الجاثية ) نظيره والله أعلم .
تم .
تم الجزء التاسع والعشرون ويليه الجزء الثلاثون وأوله تفسير سورة النبأ(6/427)
" صفحة رقم 428 "
سورة النبأ
الجزء الثلاثون من أجزاء القرآن الكريم
( سورة النبأ وهي مكية حروفها سبعمائة وسبعون كلماتها مائة وثلاث وسبعون آياتها أربعون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( النبأ : ( 1 - 40 ) عم يتساءلون
" عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا إن يوم الفصل كان ميقاتا يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا وفتحت السماء فكانت أبوابا وسيرت الجبال فكانت سرابا إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزاء وفاقا إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا وكل شيء أحصيناه كتابا فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاء من ربك عطاء حسابا رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا " ( القراأت ) كلا ستعلمون ( بتاء الخطاب في الموضعين : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ) وفتحت ( بالتخفيف : عاصم وحمزة وعليّ وخلف ) لبثين ( مقصوراً : حمزة ) ولا كذاباً ( مخففاً .
عليّ ) رب ( بالرفع بتقدير هو رب : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبوعمرو والمفضل. الباقون : بالجر على البدل ) الرحمن ( باجر على البدل أو البيان : ابن عامر وسهل ويعقوب وعاصم غير المفضل .
الآخرون : بالرفع على ( هو لارحمن ) أو على أنه خير آخر .
الوقوف ) يتساءلون ( ه ج لاحتمال أن الجار متصل بالفعل المذكور والمراد التهديد(6/428)
" صفحة رقم 429 "
قال الفراء : ( عن ) بمعنى اللام أي لأي شيء ، أو متصل بمحذوف كأن سائلاً سأل عن أي شيء يتساءلون فأجيب عن النبأ .
) العظيم ( ه لا ) مختلفون ( ه ط بناء على أن معنى كلا حقاً ) سيعلمون ( لا ه ) سيعلمون ( ه ج ) مهاداً ( ه لا ) أوتاداً ( ه ص ) أزوجاً ( ه ) سباتاً ( ه لا ) لباساً ( ه لا ) معاشاً ( ه ص ) شداداً ( ه لا ) وهاجاً ( ه ص ) ثجاجاً ( ه لا ) ونباتاً ( ه ك ) ألفافاً ( ه ط ) ميقاتاً ( ه ط لأن ما بعده بدل ) أفواجاً ( ه ك ) أبواباً ( ه ك ) سراباً ( ه ط ) مرصاداً ( ه لا ) مآباً ( ه لا ) أحقاباً ( ه ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً ، ويجوز أن يكون صفة ل ) أحقاباً ( لمكان عود الضمير في ) فيها ( إلياه ) شراباً ( ه لا ) غساقاً ( ه ك ) وفاقاً ( ه ) حساباً ( ه ) كذاباً ( ه لأن التقدير أحصينا كل شيء أحصيناه ) كتاباً ( ه لا ) عذاباً ( ه ) مفازاً ( ه ) وأعناباً ( ه ) أتراباً ( ه ك ) دهاقاً ( ه ط لأنه لو وصل اشتبه بالصفة وللموصوف وجه كما يجيء في التفسير .
) كذاباً ( ه ط لأن ) جزاء ( يصلح مصدراً ومفعولاً له ) حساباً ( ه ط لمن قرأ ) رب ( بلارفع وقف على ) بينهما ( إلا لمن قرأ ) الرحمن ( بالرفع ) رب ( بالجر على الرحمن وقف على الوجوه إلا إن جعله مبتدأ ) لا يملكون ( خبره ) خطاباً ( ه لا بناء على أن ) يوم ( ظرف ) لا يملكون ( ) صفاً ( ه لا بناء على أن ) يوم ( ظرف ) لا يتكلمون ( ) صواباً ( ه لحق لاشرط مع الفاء ) مآباً ( ه ) قريباً ( د ه ج لأن ) يوم ( متعلق باذكر أو ب ) عذاباً ( ) تراباً ( ه .
التفسير : حرف الجر إذا دخل على ( ما ) الإستفهامية تحذف ألفها نحو ( بم ) و ( عم ) و ( علام ) و ( لم ) ه لشدّة الإتصال وكثرة الإستعمال .
ثم إن كان الكلام مبنياً على السؤال والجواب فالسائل والمجيب واحد وهو الله ، والفائدة في هذا لأسلوب أن يكون إلى التفهيم أقرب .
ومعنى هذا الاستفهام تفخيم شأن ما وقع فيه التساؤل وبيان أن مطلب ما وضع للسؤال عن حقائق الأشياء المجهولة والشيء العظيم الذي تعجز العقول عن إدراكه أو يدعي فيه العجز يكون مجهولاً ، فوقع بين المسؤول بما وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه ، والمشابهة أحد أسباب المجاز .
والنبأ العظيم القيامة بدليل الردع عن الاختلاف وللتهديد بعده .
وتقديم الضمير وبناء الكلام عليه لتقوى الكلام لا لا للاختصاص فإن غير قريش أيضاً مختلفون ي أمر بالبعث فمنهم من يثبت الروحاني في المعاد فقط ، ومنهم من يشك فيه كقوله ) وما أظن الساعة قائمة ) [ الكهف : 36 ] ومنهم من يقطع بعدم البعث ) إن هي إلا حياتنا الدنيا ) [ الأحزاب : 37 ] كان يسأل بعضهم بعضاُ عن القيامة ويتحدثون عنها متعجبين من وقوعها .
ويجوزأن يكون المفعول محذوفاً أي يتساءلون النبي والمؤمنون نحو تراءينا الهلال فيكون التساؤل بطريق الاستهزاء ويحتمل أن يكون الضمير للمسلمين والكافرين(6/429)
" صفحة رقم 430 "
جميعاً فقد كانوا جميعاً يتساءلون عنه ، أما المؤمن فليزداد خشية واستعداد ، وأما الكافر فلأجل الاستهزاء .
وقيل : النبأ العظيم القرآن ، واختلافهم فيه أن بعضهم جعلوه سحراً .
وبعضهم شعراً وكهانة .
وقيل : نبوّة محمد كانوا يقولون ما هذا الذي حدث ) بل عجبوا إن جاءهم منذر منهم ) [ ق : 2 ] وقالت الشيعة : هو عليّ قال القائل في حقه هو النبأ العظيم وفلك نوح وباب الله وانقطع الخطاب .
قال أهل المعاني : تكرير الردع مع الوعيد دليل على غاية التهديد .
وفي ( ثم ) إشارة إلى أن الوعيد الثاني أبلغ ، ويجوز أن يكون الأول في الدنيا والثاني في الآخرة ، أو اللأول للكفار والثاني للمؤمنين .
وقيل : الأول ردع عن الاختلاف والثاني عن الكفر .
وحذف المفعول به أي سيعلمون أن ما يتساءلون عنه مختلفين فيه حق وصدق وذلك إذا اتصل العيان بالخبر. ومن قرأ الخطاب فقد سلك سبيل اللالتفات .
ثم عدد دلائل القدرة على البعث ودلائل الحكمة في الجزاء على أن كلاً منهما نعمة يجب أن تشكر بالتوفر على الطاقة ولا تكفر بالإقدام على المعصية .
والمهاد الفراش ، والأوتاد ما يشدّ بها أطناب الخمية ، شبهت الجبال الراسيات بها لأنها تحفظ الأرض أن تميد بما عليها وقد سبق تقريره .
والأزواج الأصناف المتقابلات القبيح بإزاء الحسن والطويل بحذاء القصير وغير ذلك من الأضداد .
والسبات الراحة .
والتركيب يدلع على القطع والإزالة ومنه سبت الرجل رأسه إذا حلقه ، والنوم يزيل التعب عن الإنسان فيستعقب الراحة قاله ابن الأعرابي والمبرد. وقال الزجاج وغيره : هو الموت وهذا التفسير لا يناسبه مقام تعداد النعم .
واللباس ما يتغطى به والليل أخفى للويل .
والمعاش مصدر أو اسم زمان لأن الناس يتقبلون فيه لوجوه تعيشهم .
والشداد المحكمة التي لا تقبل الشق والخرق إلا ما شاء الله .
والوهاج المتلألىء الوقاد .
وفي كتاب الخليل : الوهج النار .
ولا شك أن الشمس جامعة للنور والحرارة .
والمعصرات السحاب بلغة قريش من أعصرت إذا شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر كقولك ( أحصد الزرع ) أي حان أن يحصد ، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض وهذا القول مروي عن ابن عباس واختاره أبو العالية والربيع والضحاك .
وقال مجاهد والكلبي ومقاتل وقتادة : هي الرياح التي تنشىء السحاب وتدرّ أخلافه فكأنها مبادىء الإنزال .
الثجاج المنصب بكثرة يقال ( ثجة وثج بنفسه ) وفي الحديث ( أفضل الحج العج والثج ) فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج صب دماء الهدي .
ثم بين غاية الإنزال وهي إخراج الحب للإنسان ، والنبات للأنعام غالباً ، والجنات الملتفة لأجل التلذذ والتفكه .
قال الكسائي والأخفش : والألفاف جمع لف بالكسر ويحتمل(6/430)
" صفحة رقم 431 "
أن يكون جمع لفيف كشريف واشراف .
وقال في الكشاف : إنه لا واحد له كالأوزاع للجماعات المتفرقة ومنه قولهم ( أخوة أخياف ) أي مختلفة .
واعلم أن هذه التسعة نظراً إلى حدوثها وإمكانها تدل على الفاعل المختار ، ونظراً إلى ما فيها من الإتقان والإحكام تدل على كمال علمه وحمته الذاتية .
وبعد ثبوت كماله في هذه الأوصاف لم يبق للمتأمل شك في إمكان الحشر وقد أخبر الصادق عن وقوع هذا الممكن فوجب الجزم به على أن في إخراج النبات بعد جفافه ويبسه دليلاً ظاهراً على إمكان إخراج الموتى من القبور وبعثهم فلهذا رتب على هذه البيانات قوله ) إن يوم الفصل كان ميقاتاً ( أي حداً توقت به الدنيا أو حداً لفصل الحكومات تنتهي الخلائق إليه .
والنفخة ههنا هي الثانية التي تكون عندها الحياة بدليل قوله ) فتأتون أفواجاً ( أي طائفة طائفة إلى أن يتكامل اجتماعهم .
وقال عطاء : كل نبي يأتي مع أمته .
وروى صاحب الكشاف عن معاذ أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنه فقال عليه السلام : ( يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه وقال : تحشر عشرة أصناف من أمتيّ بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكسون أجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عمي ، وبعضهم صم بكم ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتناً من الجيف ، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم .
فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس ، وأما الذين على صورة الخنازير فآكل السحت ، وأما المنكسون فأكلة الربا ، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم ، وأما الصم والبكم فالمعجبون بأعملاهلم ، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم ، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الين يؤذون الجيران ، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان ، وأما الذين هو أشد نتناً من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله في أموالهم ، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء ). وفتح السماء شقها وانفطارها أو معنى آخر مغاير لهما .
والضمير في ) فكانت ( للسماء كأنها لكثرة أبوابها المفتوحة لنزول الملائكة صارت بكليتها أبواباً كقوله ) وفجرنا الأرض عيوناً ) [ القمر : 12 ] ويحتمل أن يعود إلى مقدر دل عليه الكلام أي فكانت تلك المواضع المفتوحة أبواباً .
وقال الواحدي : المضاف محذوف أي فكانت ذات أبواب .
وأما الجبال فإنه تعالى ذكر حالها بعبارات مختلفة ، ويمكن الجمع بينها بأن تدرك أوّلاً ) وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ) [ الحاقة : 14 ] ثم تصير كالعهن ثم تصير كالهباء(6/431)
" صفحة رقم 432 "
) وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً ( وهي في كل هذه الأحوال باقية في مواضعها ثم تنسف بإرسال الرياح عليها ) وإذا الجبال نسفت ) [ الانفطار : 4 ] ثم تطير ههنا أحوال إذا برزت من تحتها ) ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة ) [ الكهف : 47 ] والثاني للجبال فتطيره في الهواء كالهباء فمن نظر إليها حسبها لتكاثفها أجساماً جامدة وهي بالحقيقة مارة بتحريك الهواء كما قال ) وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب ) [ النمل : 88 ] والثالث لها باعتبار أماكنها الأصلية فمن نظر إلى المواضع من بعيد ظن أن الجبال هناك حتى إذا دنا منها لم يجد فيها شيئاً ) كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءهلم يجده شيئاً ) [ النور : 39 ] وقد أشار إلى هذه الحالة بقوله ) وسيرت الجبال فكانت سراباً ( ثم أخبر عن أحوال السعداء والأشقياء يومئذ .
وقدم ذكر هذا المقام غير محرر فلينظر الأشقياء لأن الكلام في السورة بني على التهديد فقال ) إن جهنم كانت ( أي في علم الله أو هي مسلوبة الدلالة على المضي .
والمرصاد إما اسم للمكان الذي يرصد فيه كالضمار للذي تضمر فيه الخيل ، والمنهاج إسم للمكان الذي ينهج فيه .
والمعنى أن خزنة جهنم يرصدون الكفار هناك ، أو أن خزنتها يستقبلون المؤمنين عندها لأن جوازهم عليه بدليل قوله ) وإن منكم إلا واردها ) [ مريم : 71 ] ولهذا قال الحسن وقتادة : يعني طريقاً إلى الجنة .
وإما صفة نحو ( مقدام ) بمعنى أنها ترصد أعداء الله .
وقوله ( للطاغين ( متعلق بما بعده أو بما قبله ، وعلى التقديرين لا بد من إضمار وهو لفظة لهم أو لأهل الجنة .
ثم ذكر كيفية استقرارهم هناك فقال ) لابثين ( ومن قرأ بغير ألف فهو أدل على الثبات .
قال جار الله : اللابث من وجد منه اللبث فقط ، واللبث من لا يكاد يبرح المكان أما الأحقاب فزعم الفراء أن أصله الترادف والتتابع أي دهوراً مترادفة لا تكاد تتناهى كلما مضى حقب تبعه آخر. وقال الحسن : الأحقاب لا يدري أحد ما هي ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة مما تعدّون .
وسأل هلال الهجري علياً فقال : الحقب مائة سنة السنة اثنا عشر شهراً والشهر ثلاثون يوماً واليوم ألف سنة .
وقال عطاء والكلبي ومقاتل عن ابن عباس : الحقب الواحد بضع وثمانون سنة والسنة ثلثمائة وستون يوماً واليوم ألف سنة من أيام الدنيا ونحو هذا يروى عن ابن عباس وقطرب مرفوعاً .
فإن قيل : عذاب أهل النار ولا سيما الطاغين غير متناه والأحقاب بالتفاسير المذكورة وإن كثر مبلغها متناهية ، فلما وجه الجمع بينهما ؟ قلنا : الحق متناه ولكن الأحقاب لا نسلم أنها متناهية فإن الجمع لا يلزم تناهي آحاده فيجوز أن يكون المعنى كلما مضى حقب تبعه آخر .
قال الفراء : سلمنا أن الأحقاب تفيد التناهي لكن بالمفهوم والنصوص الدالة على التأبيد كقوله ) يريدون أن يخرجو من النار(6/432)
" صفحة رقم 433 "
وماهم بخارجين منها ) [ المائدة : 37 ] تدل بالمنطوق ولا شك أن المنطوق راجح .
وقال الزجاج : المعنى أنهم يلبثون فيه أقاباً غير ذائقين برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً ، ثم ينقلون إلى جنس آخر غير الحميم والغساق .
وذكر في الكشاف وجهاً آخر وهو أن يكون أحقاباً من حق بعامنا هذا إذا قل خيره .
وحقب فلان ذا أخطأ الرزق فهو حقب كحذر وجمعه أحقاب فينتصب حالاً منهم أي لابثين في أسوأ حال .
والرد معروف أي لا يجدون هواء بارداً ولا امء بارداً .
وقال الأخفش والفراء : هو النوم ولذلك أن البرد لازم للنوم ولهذا يسكن العطش .
وسببه توجه الحرارة الغريزية إلى الباطن عند فتور الحواس الظاهرة والحركات الاختيارية وفي أمثالهم ( منع البرد البرد ) أي أصابني من البرد ما منعني من النوم وقد يضعف هذا القول أنهم لا يقولون ذقت البرد ويقولون ( ذقت الكرى ) وبأنهم يجدون الزمهرير فكيف يصح نفي البرد عنهم .
وقد يجان عن الأول بأن الذوق في لاصورتين مجاز فأي ترجيح لأ ؛ دهما على الآخر .
وعن الثاني بأن المراد برد له روح لا الذي فيه عذاب .
والحميم الماء البالغ في الحرارة ، والغساق صديد أهل النار .
قوله ) جزاء ( نصب على المصدر أي جزاهم جزءا .
وانتصب ) وفاقاً ( على الوصف أي ذا وفاق أو موافقاً لعملهم في القبح والفظاعة والدوام. ثم ذكر علة التبأبيد فقال ) إنهم كانوا لا يرجون حساباً ( لا يخافون أو لا يتوقوعن حساباً وهذه إشارة إلى نقصانهم بحسب القوة العلمية فإن الذي اعتقد أنه لا حشرة ولا حساب ولا يبالي بأي شيء ترك من القبائح والمظالم أو أي شيء ترك من الخيرات والفضائل .
قوله ) وكذبوا بآياتنا كذاباً ( إشارة إلى فساد عقائدهم حتى جحدوا الحق وكذبوا الرسل .
ومصدر ( فعل ) مشدد العين يجيء على ( فعال ) بالتشديد وهو الأكثر ، وبالتخفيف عند بعضهم ولهذا لم يقرأ به إلا في الشواذ .
قال جار الله : هو مصدر كذب بدليل قوله :
فصدّقتها وكذبتها
والمرء ينفعه كذابه
وهو مثل قوله ) أنبتكم من الأرض نباتاً ) [ نوح : 17 ] يعني وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً أو تنصبه ب ) كذبوا ( لأنه يتضمن معنى كذبوا لأن كل مكذب بالحق كاذب .
وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة أو كذبوا بها مكاذبين ، لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يبالغ في أمر فبلغ فيه أقصى جهده .
أقول : أراد بهذا الوجه الأخير أن باب المغالبة يبنى على المفاعلة فيمكن أن يستدل بالمفاعلة على المبالغة بطريق العكس الجزئي ) وكل شيء أحصيناه ( من باب الإضمار على شريطة التفسير .
قوله ) كتاباً ( مصدر لأنه والإحصاء يتلاقيان في معنى الضبط والتحصيل ، ويجوز أن يكون حالاً(6/433)
" صفحة رقم 434 "
أي مكتوباً في اللوح أو في صحف الأعمال .
قال جار الله : هذه جملة معترضة .
أقول : إنها من تمام التعليل المذكور اي فعلوا كذا وكذا ونحن عالمون بجميع الكليات والجزيئات فلهذا كتبنا جزاء العاين على وفق أعمالهم .
ثم أظهر غاية السخط بطريق الالتفات نم الغيبة إلى الخطاب ، والتعقيب بفاء الجزاء الدال على أن المذكور سبب عن كفرهم بالحسنات وتكذيبهم بالآيات .
وزيادة العذاب يحتمل أن تكون الأجل أن المؤثر إذا استمرَّ ودام ازداد الإحساس بأثره ، ويحتمل أن يكون لازدياد كفرهم وعتوّهم حيناً بعد حين كقوله ) فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) [ التوبة : 125 ] ويحتمل أن تكون زيادة العذاب عبارة عن نفس استمراره لأنه يتزايد بمرور الزمان ، والمراد انا لن نخلصكم من العذاب إلى خلافه .
ثم شرع في شرح أحوال السعداء قائلاً ) إن للمتقين مفازاً ( فوزاً وظفراً بالمطالب والأماني أو موضع فوز ثم فسره بقوله ) حدائق ( الخ .
والحدائق البساتين فيها أنواع الشجر وقد مرّ في قوله ) حدائق ذات بهجة ) [ النمل : 60 ] وخص منها الأعناب لشأن مزيته على سائر الفواكه .
والكواعب النواهد واحدها كاعب كطالب وطامث وهي التي ظهر ثديها كالكعب لها نتوّ قليل .
والأتراب اللدات .
والدهاق المترعة المملوءة وهذا قول أكثر أهل اللغة كأبي عبيدة والزجاج والكسائي والمبرد .
يروى أن ابن عباس دعا غلاماً له فقال : اسقنا دهاقاً فجاء الغلام بها ملآنة فقال ابن عباس : هذا هو الدهاق .
وعن أبي هريرة وسعيد بن جبير ومجاهد : هي المتتابعة .
قال الواحدي : وأصل هذا من قول العرب أدهقت الحجارة إدهاقاً وهو شدّة تلازمها ودخولها بعضها في بعض .
وعن عكرمة : دهاقاً أي صافية .
والدهاق على هذا القول يجوز أن يكون جمع دهق وهي خشبتان يعصر بهما .
والكأس الخمر أي خمراً ذات دهاق وهي التي عصرت وصفيت بالدهاق .
) ولا يسمعون فيها ( أي في الجنة وهو الأظهر أو في الكأس وشربها ) لغواً ( كلاماً باطلاً ) ولا كذاباً ( أي لا يكذب بعضهم بعضهم لأنهم إخوان الصفاء وأخذان الوفاء .
ومن قرأ بالتخفيف فمعناه أنه لا يجري بينهم كذاب أو مكاذبة .
قال جار الله : ( جزاء ( مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله ) إن للمتقين مفازاً ( كأنه قال : جازى المتقين بمفازو ) عطاء ( نصب ب ) جزاء ( نصب المفعول به أي جزاهم عطاء .
وقال الزجاج : المعنى جازاهم بذلك جزاء وأعطاهم عطاء .
ومعنى ) حساباً ( كافياً من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال : حسبي .
وقيل : أي على حسب أعمالهم فمعنى الحساب العدّو والتقدير لبعضهم عشرة ولبعضهم سبعمائة وأكث .
وقال ابن قتيبة : هو من أحسبت فلاناً أي أكثرت له يعني عطاء كثيراً .
وإنما قال في الأول ) جزاء وفاقاً ( لأن جزاء السيئة(6/434)
" صفحة رقم 435 "
سيئة مثلها أي موافقة لها .
وأما ههنا فالمراد ثواب المؤمنين وليس ذلك بتقدير العمل فقط ولكن بمقدار ما يكفيه .
ثم مدح نفسه بقوله ) رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن ( وقد تقدّم إعرابه في الوقوف .
والضمير في ) لا يملكون ( قيل للكافرين نقله عطاء عن ابن عباس ، يريد لا يخاطب المشركون الله ، وأما المؤمنون فيشفعون ويقبل الله ذلك منهم .
وقيل للمؤمنين لأن ذكرهم أقرب من ذكر الكفار ، والمراد أنه ما تحيف حقهم فبأي سبب يخاطبونه. والأكثرون على أن الضمير لأهل السموات والأرض فإن أحداً من المخلوقين لا يملك خطاباً من جهة الله إذ كل من هو سواه فهو مملوكه ، والمملوك لا يملك من جهة مالكه شيئاً وإلا لم يكن للمالك كمال الملك .
وقالت المعتزلة : إنه عالم بقبح القبيح غني عن فعله وعالم بغناه فلا يفعل إلا الحسن وحينئذ لا وجه للمطالبة والمخاطبة .
ثم أكد المعنى المذكور بقوله ) يوم يقوم الروح ( وهو أعظم المخلوقات قدراً كما مرّ في سورة سبحان في تفسير قوله تعالى ) ويسألونك عن الروح ) [ الإسراء : 85 ] والصف مصدر في الأصل لا يثنى ولا يجمع غالباً فلهذا جاز أن يكون المراد أنهم يقومون صف من الروح وحده ومن الملائكة بأسرهم صف ، وجاز أن يكون يراد يقوم الكل صفاً واحداً أو يقومون صفوفاً لقوله ) وجاء ربك والملك صفاً صفاً ) [ الفجر : 22 ] ثم بين أنهم مع جلالة قدرهم لا يتكلمون إلا بشرطين : أحدهما الإذن من الله ، والضمير في ) له ( إما للشافع أو للمشفوع .
والثاني أن يقول ) صواباً ( والضمير في ) قال ( أيضاً إما للشافع فالمراد أنهم لا ينطقون إلا بعد ورود الإذن في الكلام ، ثم بعد الإذن يجتهدون حتى لا يتكلمون إلا بما هو حق وصواب .
وإما للمشفوع .
والقول الصواب على هذا التفير شهادة أن لا إله إلا الله ) وذلك اليوم الحق ( أي لا باطل فيه ولا ظلم أو هو الكائن لا محالة ) فمن شاء اتخذ ( بالطاعة ) إلى ربه مآباً ( ومرجعاً .
والظاهر أن الضمير عائد في ) شاء ( إلى ) من ( وفيه دليل للمعتزلة .
ويروى عن الخدري وابن عباس أن الضمير لله ) عذاباً قريباً ( هو عذاب الآخرة لأن ما هو آت قريب .
وفي المرء أقوال : فعن عطاء أنه الكافر لتقدّم ذكر الإنذار وقوله الكافر ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم .
وعن الحسن وقتادة : إنه المؤمن لمجيء ذكر الكافر بعده ، ولأن المؤمن لما قدّم الخير والشر فهو منتظر لأمر الله كيف يحدث ، وأما الكافر فإنه قاطع بالعذاب ومع القطع لا يحصل الانتظار .
والأظهر أنه عام في كل مكلف .
و ( ما ) استفهامية منصوبة ب ) قدّمت ( أو موصولة منصوبة ب ) ينظر ( فيلزم إضمار ( إن ) حذف العائد من قدّمته ، وحذف الجار لأن الأصل أن يقال ينظر إليه .
قوله ) كنت تراباً ( فيه وجوه أحدها : ليتني لم أبعث غير محشور .
الثاني ما ورد في الأخبار أن البهائم تحشر فيقتص(6/435)
" صفحة رقم 436 "
للجماء من القرناء ثم تردّ تراباً فيودّ الكافر حالها ليتخلص من العذاب .
وأنكر بعض المعتزلة ذلك لأنه تعالى إذا أعادها فهي بين معوّض وبين متفضل عليه ، وعلى التقديرين لا يجوز أن يقطعها عن المنافع لأن ذلك كالإضرار بها .
قال القاضي : إذا وفر الله أعواضها وهي غير كاملة العقل لم يبعد أن يزيل الله حياتها على وجه لا يحصل لها شعور بالألم فلا يكون ضرراً .
وقال بعضهم : إن الحيونات إذا انتهت مدّة أعواضها جعل الله تعالى كل ما كان منها حسن الصورة ثواباً لأهل الجنة ، وما كان قبيح الصورة عقاباً لأهل النار .
الثالث قال بعض الصوفي : أراد يا ليتني كنت متواضعاً في طاعة الله كالتراب لا مرتفعاً كالنار .
الرابع قيل : الكافر إبليس يرى آدم وثواب أولاده فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال ) خلقتني من نار وخلقته من طين ) [ ص : 76 ](6/436)
" صفحة رقم 437 "
سورة النازعات
( سورة النازعات وهي مكية حروفها سبعمائة وثلاثون وآياتها ست وأربعون وكلمها مائة وسبعون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( النازعات : ( 1 - 46 ) والنازعات غرقا
" والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها "
( القراآت )
والسابحات سبحاً فالسابقات سبقاً ( بالإدغام فيهما : أبو عمرو غير عباس ) أئنا ( ) أئذا ( كما مر في ( الرعد ) إلا ابن عامر فإنه وافق الكسائي ) ناخرة ( بالألف : حمزة وعلي غير نصير وعتيبة وخلف ورويس وعاصم غير المفضل وحفص و ) طوى ( طما مر في ( طه ) وكذا ما بعدها إلا حمزة وخلف في اختياره فإنهما يفتحان .
ومناه ) تزكَّى ( بتشديد الزاي : أبو جعفر ونافع وابن كثير وعباس ويعقوب ) منذر من ( بالتنوين : يزيد وعباس .
الآخرون : بالإضافة للتخفيف .(6/437)
" صفحة رقم 438 "
الوقوف ) غرقاً ( ه لا ) نشطاً ( ه لا ) سبحاً ( ه لا ) أمراً ( ه لأن جواب القسم محذوف وهو ليبعثن ولأنه وصل لأوهم أن ) يوم ( ظرف ) المدبرات ( وليس كذلك لأن تدبير الملائكة قد انقضى وقتئذ بل عامل ) يوم ( تتبعها ) الراجفة ( ه لا ) الرادفة ( ه ط ) واجفة ( ه ط ) خاشعة ( ه لتناهي وصف القيامة وابتداء حكاية قولهم في الدنيا ) في الحافرة ( ط لمن قرأ ) أئذا ( مستفهماً ) نخرة ( ه ط ) خاسرة ( ه لتناهي قولهم بالإنكار وابتداء أخبار الله تعالى ) واحدة ( ه ط ) بالساهرة ( ه ط ) موسى ( ه لأن ) إذ ناداه ( يجوز أن يكون ظرفاً لا ذكر قاله السجاوندي .
ويحتمل أن يكون ) اذهب ( مفعول ) ناداه ( لأنه في معنى القول واحتمال أن يكون مفعول القول المحذوف ) طغى ( ه للآية وانتهاء اتفاق الجملتين والوصل أجه للفاء ) تزكى ( ه لا للعطف ) فتخشى ( ط للآية وانتهاء الاستفهام مع العطف بفاء التعقيب ) الكبرى ( ه ز لذلك إنما كان الوصل أوجه للفاء واتصال المقصود ) وعصى ( ه ) يسعى ( ه ) فنادى ( ه ) الأعلى ( ه والوصل ههنا ألزم للعبرة بتعجيل المؤاخذة ) واولى ( ه ط ) يخشى ( ه ط لبتدل الكلام لفظاً ومعنى وابتداء الاستفهام ) أم السماء ( ه ط بناء على أن الجملة لا تقع صفة للمعرفة وتقدير حذف الموصول من ضيق العطن فاعرفه ) بناها ( ه لا ) فسوّاها ( ه لا ) ضحاها ( ه ص ) دحاها ( ه ط بناء على أن ما بعده كالتفسير للدحو وهو تمهيدها لأجل السكنى ، وجوز أن يكون ) أخرج ( حالاً بإضمار ( قد ) فلا وقف ) مرعاها ( ه ص ) أرساها ( ه ) ولأنعامكم ( ه ط ) الكبرى ( ه ز لأن ) يوم ( ظرف ) جاءت ( وعامل ( إذا ) مقدّر تقديره أي ترون أو كان ما كان ، وجوز أن يكون ) يوم ( مفعول ( اذكر ) وعامل ( إذا ) مقدّر قبل يوم ، ويجوز أن يكون مجموع الشرط والجزاء وهو قوله ) فأما من طغى ( إلى آخره جوابا لقوله ) فإذا جاءت ( .
) سعى ( ه ط ) لمن يرى ( ه ) طغى ( ه لا ) الدنيا ( ه لا ) المأوى ( ط ) الهوى ( ه لا ) المأوى ( ه ط ) مرساها ( ط ) ذكراها ( ه ط ) منتاها ( ه ط ) يخشاها ( ه ط ) ضحاها ( ه .
التفسير : في الكلمات الخمس المذكورة في أول السورة وجوه على نسق ما سبق في المرسلات أحدها : أنها صفات طوائف الملائكة الذين ينزعون نفوس الكفرة من بني آدم غرقاً أي نزعاً بشدّة من أقاصي اللأجساد من أناملها وأظفارها .
والغرق والإغراق في اللغة واحد يقال : نزع في القوس فأغرق أي بلغ غايته حتى انتهى إلى النصل ، وبالذين يجذبون نفوس المؤمنين برفق ولين كما ينشط الدلو من البئر ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها أي(6/438)
" صفحة رقم 439 "
تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر بإذن الله أمراً من أمور العباد أو جنس الأمر .
قال مقاتل : يعني بهذه الطوائف جبريل وميكائيل وغسرافيل وعزرائيل وأعوان كل منهم .
فجبريل موكل بالرياح والجنود ، وميكائيل موكل بالقطر والنبات ، وإسرافيل بنفخ الصور ، وملك الموت عزرائيل وأعوانه بقبض الأرواح .
قال الإمام فخر الدين الرازي : النازعات هم الذين نزعوا أنفسهم عن الصفات البشرية والأخلاق الذميمة من الشهوة والغضب والموت والهرم والسقم لأنهم جواهر روحانية مجردة ، والناشطات إشارة إلى أن خروجهم من هذه الأحوال ليس على سبيل الكلفة والمشقة ولكنه بمقتضى الطبيعة والماهية ، والسابحات هم الذين سبحوا في بحار جلال الله فسبق بعضهم بعضاً في ميدان العرفان وحلبة البرهان فدبروا أمر العالم العلوي والعالم السفلي بإذن مبدعهم المنّان .
أقول : ويمكن حمل هذه الأمور على مراتب النفس الإنسانية بمثل التقدير المذكور .
الوجه الثاني وهو قول الحسن البصري أنها النجوم وتلخيص ذلك على الوجه المطابق للغة والشريعة أنها تغرق شبه النزع من المشرق إلى المغرب بالحركة السريعة ، وتنشط نشطاً أي تخرج من برج إلى برج من قولك ( ثور ناشط ) إذا خرج من بلد إلى بلد ، وهذا بحركته البطيئة الثابتة .
وأما السابحات فهي السيارة كقوله ) كل في فلك يسبحون ) [ الأنبياء : 33 ] ولأن سيرها المتفاوت يصير سبباً لسبق بعضها بعضاً ، ويترتب على السبق الاتصالات والانصرافات ومعرفة الفصول والأوقات وتقدّم العلم بالكائنات بل العالم السفلي وتدبيراتها مناط بتلك الحركات بإذن خالق الأرض وفاطر السموات فلهذا أدخل الفاء في القرينيتين الأخريين دون الأوليات .
الوجه الثالث أنها صفات خيل الغزاة تنزع في أعنتها نزعاً ، تغرق الأعنة فيه لطول أعناقها لأنها عراب ، وهى ناشطات تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب ، وهي سابحات تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر وتتسبب فيه .
الوجه الرابع وهو اختيار أبي مسلم النازعات أيدي الغزاة وأنفسهم تنزع القسي بإعراق السهام ، والناشطات السهام لاخاجرة من أيديهم أو قسيهم ، والسابحات الخيل العاديات أو الإبل ، والمدبرات بمعنى المعقبات لأنها تأتي في أدبار هذه الأفاعيل بأمر الغلبة والنصر. قال جار الله : ( يوم ترجف ( منصوب بجواب القسم المحذوف وهو ( لبعثن ) .
وقوله ( تعبها ( حال .
ثم أورد على نفسه أن ها يوجب أن يكون البعث عند النفخة الأولة وأجاب عنه بأنهم يبعثون في الوقت الواسع الذي يقع فيه النفختان كما يقال ( رأيته عام كذا ) وإنما رؤيته ي ساعة منها .
والراجفة الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال وهي النفخة الأولى فهي من الإسناد المجازي. والرادفة رجفة أخرى تتبع الأولى فتضطرب الأرض لإحياء الموتى كما اضطربت في الأولى لموت الأحياء ، وقد ورد(6/439)
" صفحة رقم 440 "
الخبر أن ما بين النفختين أربعون عاماً .
ويروى أنه تعالى يمطر الأرض في هذه الأربعين ويصير ذلك الماء عليها كالنطف فيكون سبباً في الإحياء ولله تعالى أن يفعل ما يشاء .
وقيل : الراجفة هي النفخة الأولى ، والرادفة هي قيام الساعة من قوله تعالى ) عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون ) [ النمل : 72 ] وقيل : الراجفة الأرض والجبال من قوله ) يوم ترجف الأرض والجبال ) [ المزمل : 14 ] والرادفة السماء والكواكب لأنها تنفطر وتنتثر على أثر ذلك .
وقيل : الراجفة هي الأرض تتحرك وتتزلزل ، والرادفة زلزلة ثانية تتبع الأولى حتى تنقطع الأرض وتفنى .
قال أبو مسلم بناء على تفسيره الذي روينا عنه إن كلاً من الراجفة والرادفة هي خيل المشركين وأريد بهما طائفتان من المشركين حاربوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتبعت إحداهما الأخرى .
والقلوب الواجفة أي القلقة ، والأبصار الخاشعة هي أبصار المنافقين على الأقوال القلوب الموصوفة مبتدأ .
وقوله ( أبصارها خاشعة ( خبره وفي الكلام إضمار أي أصحابها خاشعة بدليل قوله ) يقولون أئنا لمردودون في الحافرة ( أي الحالة الأولى وهي الحياة وأصله من قولهم ( رجع فلان في حافرته ) أي طريقة الي جاء فيها ، جعل أثر قدميه حفراً فالطريق في الحقيقة محفورة إلا أنها سميت خافرة على الإسناد المجازي أو على وتيرة النسبة أي ذات حفر كما قلنا في ( عيشة راضية ) ونحوه ) كرة خاسرة ( كما يجيء .
ثم زادوا في الإنكار مع إشارة إلى وجه الإحالة قائلين ) أئذا كنا عظاماً نخرة ( نردّ أو نبعث .
يقال : نخر العظم فهو نخر وناخر مثل حذر وحاذر وهو الأجوف البالي الذي تمر فيه الريح فيسمع لهنخر وهما لغتان فصيحتان ، لأن النخر وإن كان أبلغ في المعنى إلا أن الناخرة بالألف أشبه بأخواتها من رؤوس الآي .
ثم أخبر أنهم قالوا على سبيل الاستهزاء ) تلك ( الكرة ) إذا ( أي إذا نحشر ونردّ ونرجع ) كرة خاسرة ( رجعة ذات خسران لأنا كذبنا بها .
ثم افحمهم بقوله ) فإنما هي زجرة ( أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله فما ه 9 ي إلا صيحة ) واحدة ( يقال : زجر البعير إذا صاح عليه وهي صيحة إسرافيل في النفخة الثانية .
يروى أنه تعالى يحييهم في بطون الأرض فيسمعونها فيقومون .
والساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك لأن ساكنها لا ينام خوف الهلاك ، أو لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة أي جارية .
والأظهر أنها أرض الآخرة .
وقيل : هي أرض الدنيا ثم ذكرهم بقصة موسى لأنه أبهر الأنبياء المتقدّمين معجزة وفيها تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن فرعون كان أكثر جمعاً وأشدّ قوة من كفار قريش .
الوادي المقدّس المبارك المطهر ، وطوى اسم واد بالشأم عند الطور وقد مر في ( طه ) .
قوله ) هل لك ( الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي هل لك حاجة أو ميل أو التفات ونحو ذلك ، وهذه كلمة جامعة لمواجب(6/440)
" صفحة رقم 441 "
التكاليف لأن الملكف لا يصير زاكياً إلا بالتخلية عن كل ما لا ينبغي ، ويجوز أن يكون التزكي إشارة إلى تطهير النفس الفاسدة .
قوله ) وأهديك ( إشارة إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة أقلها وأفضلها التوحيد المرتب على الخشية التي منها تنشأ جوامع الخيرات ولهذا قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ) وعن بعض الحكماء : اعرفوا الله فنم عرفه لم يقدر أن يعصيه طرفه عين .
ثم ههنا إضمار كأنه قال : فذهب موسى إلى فرعون فقال له ما أمر به فلم يصدقه فرعون وجحد نبوته ) فأراه ( وفي ابتداء المخاطبة بالاستفهام الذي معناه العرض من التلطف والمداراة ما لايخفى فهو كقوله ) فقولا له قولاً ليناً ) [ طه : 44 ] والآية الكبرى العصا أو اليد أو هما كما مر في ( طه ) ) فكذب ( بالقلب واللسان إذ نسب المعجزإلى السحر ) وعصى ( بإظهار التمرد الطغيان ) ثم أدبر ( خوفاً من الثعبان ) يسعى ( هارباً أو يتحيل في دفع موسى أو تولى عن موسى إظهاراً للجحود .
وجوز أن يكون ) أدبر ( موضوعاً مكان ( اقبل ) مكان يقال : أقبل فلان يفعل كذا بمعنى طفق يفعل فكنى عن الإقبال بالإدبار إظهاراً للسخط ولقصد التفاؤل عليه .
ومعنى الفاء في ) فكذب ( أنه لم يلبث عقيب رؤية الآية الكبرة أن بادرها بنقيض مقتضاها لفرط عتوّه ورسوخ تفرعنه .
ومعنى ( ثم ) في ) ثم أدبر ( تراخي الرتبة فإن الهرب من الحية مع ادعاء الربوبية مما لا يحتمعان وكذا السعاية والمكيدة بين الناس ) فحشر ( جنوده للتشاور أو لجمع السحرة ) فنادى ( في المقام الذي اجتمعوا فيه معه أو أمر منادياً .
وقيل : قام فيهم خطيباً فقال ما قال .
وانتصب ) نكال الآخرة ( على أنه مصدر مؤكد كأنه قيل : نكل الله به نكالاً وهو مصدر كالتنكيل مثل السلام والتسليم .
قال الحسن وقتادة : عذاب الآخرة الإحراق وعذاب الأولى الإغراق .
وقيل : الآخرة والأولى صفتان لكلمتي فرعون .
ثم اختلفوا فعن مجاهد والشعبي وسعيد بن جبير ومقاتل ورواية عطاء والكلبي عن ابن عباس أن كلمته الأولى ) ما علمت لكم من إله غيري ) [ القصص : 38 ] والثانية ) أنا ربكم الأعلى ) [ النازعات : 24 ] وبينهما أربعون سنة أو عشرون ، وفيه دليل على أنه تعالى يمهل ولا يهمل .
وذكر قوم واستحسنه القفال أن كلمته الأولى تكذيب موسى حين أراه الآية ، والأخرى هي قوله ) أنا ربكم الأعلى ( وقد يدور في الخلد أن كلمته الأولى هي قوله ) أنا ربكم ( والآخرة وصفه بالأعلى فإنه لو اقتصرعلى الأولى لم يكن كفراً بدليل قول يوسف ) ارجع إلى ربك ) [ يوسف : 50 ] ( إنه ربي أحسن مثواي ) [ يوسف : 23 ] لكنه لما وصفه بالأعلى صار كفراً فأخذه بالأولى والآخرة .
قال الإمم فخر الدين الرازي : إن العاقل لا يشك في نفسه أنه ليس خالق السموات(6/441)
" صفحة رقم 442 "
والأرض وما بينهما ، فالوجه أن يقال : إن فرعون كان دهرياً منكراً للصانع والحشر والجزاء وكان يقول ليس لأحد عليكم أمر ولا نهي سواي فأنا ربكم بمعنى مربيكم والمحسن إيلكم .
وأقول : كما أن نسبة الإنسان خلق العالم إلى نفسه يوجب الحكم عليه بالجنون وسخافة العقل فالقول بنفي الصانع ونسبة وجود الأشياء إلى ذواتها مع تغيرها في أنفسها يوجب الحكم عليه بعدم العقل فما الفرق بين الأمرين ؟ وأيّ استبعاد في ذلك وقد قال الله تعالى ) إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى ) [ العلق : 7 ] وسكر الدنيا أشدّ من سكر الخمر فإن الثمل من الخمر يرجى صحوه والثمل من شراب حب المال والجاه الطافح من خيال الرياسة لا ترجى إفاقته .
ثم ختم القصة بقوله ) إن في ذلك ( الحديث أو النكال وهو في العرف يقع على ما يفتضح به صاحبه ويعتبر به المعتبر ) لعبرة لمن يخشى ( أي يكون من أهل الخشية لا القسوة .
ثم خاطب منكري البعث بقوله ) أأنتم أشدّ ( أي أصعب ) خلقاً أم السماء ( فنبههم على أمر معلوم بالمشاهدة وهو أن خلق السماء أعظم وأبلغ في القدرة .
وإذا كان الله قادراً على إنشاء العالم الأكبر يكون على خلق العالم الأصغر بل على إعادته أقدر .
ثم أشار إلى كيفية خلق السماء فقال ) بناها ( وفيه تصوير للأمر المعقول وهو الإبداع والاختراع بالأمر المحسوس وهو البناء .
ثم ذكر هيئة البناء فقال ) رفع سمكها ( وهو الامتداد القائم على كل من امتدادي الطول والعرض .
فإذا اعتبر من السفل إلأى العلو يسمى سمكاً ، وإذا اعتبر بالعكس يسمى عمقاً .
وذكر أهل التفسير أن ما بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام .
ولأهل الهيئة طريقة أخرى قد برهنوا عليها في كتبهم .
قوله ) فسوّاها ( زعم أصحاب الهيئة أن المراد بهذه التسوية جعلها كرية ولا ضرر في الدين من هذا الإعتقاد .
وحملها المفسرون على تمام التأليف أو على نفي الفطور عنها .
وأقول : من الجائز أن يراد بها جعلها طبقات مرتبة كقوله ) فسوّاهن سبع سموات ) [ البقرة : 29 ] الغطش الظلمة يقال : غطش الليل وأغطشه الله .
ويقال : أغطش الليل أيضاً مثل أضاء وأظلم .
وعبر بالضحى عن النهار لأن الضحى أكمل أجزائه في الور والضوء .
وإنما أضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما بسبب غروب الشمس وطلوعها الحادثين بسبب حركة الفلك قوله ) والأرض بعد ذلك دحاها ( قد مر تفسير الدحو في أول سورة ( البقرة ) وأن بعدية دحو الأرض لا تنافي تقدّم خلق الأرض على السماء في قوله ) هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء ) [ البقرة : 29 ] قال أهل اللغة : دحوت أدحو ودحيت أدحى لغتان في حديث عليّ : اللهم داحي المدحيات أي باسط الأرضين السبع .
وقد يروى عن ابن عباس ومجاهد والسدّي وابن جريج أن قوله ) بعد ذلك ( يعنى مع ذلك كقوله ) فك رقبة ( إلى قوله ) ثم كان من الذين آمنوا ) [ البلد : 17 ] أي كان مع هذا من أهل الإيمان بالله .
ونصب ) الأرض ( ) والجبال ((6/442)
" صفحة رقم 443 "
فيما يجيء بإضمار دحى وأرسى على شريطة التفسير .
قال المفسرون : أراد بالمرعى جميع ما يأكله الناس والأنعام فيكون الرعي مستعاراً للإنسان ولهذا قال ) متاعاً ( أي فعل كل ذلك تميعاً لكم ولأنعامكم .
حين فرغ من دلائل القدرة على البعث رتب عليه شرح يوم القيامة .
والطامة الداهية التي لا تطاق من قولهم طم الفرس طميماً إذا استفرغ جهده في المشي والجرع فإذا وصفت بالكبرى كانت في غاية الفظاعة ونهاية الشدّة ، وفي أمثالهم ( جرة الوادي فطم على القري ) وهو مفرد وجمعه أقرية وقرية وقريان وهي الجداول والأنهار .
وأصل الطم الدفن والغلب فكل ما غلب شيئاً وقهره وأخفاه فقد طمه .
وقيل : الطامة النفخة الثانية عن الحسن .
وقيل : هي الساعة التي يساق بها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار .
قال جار الله : ( يوم يتذكر ( بدل من ) إذا جاءت ( لأنه إذا رأة أعماله مدوّنة مكتوبة تذكررها وكان قد نسيها .
قوله ) وبرزت الجحيم لمن يرى ( كقولهم ( قد بين الصبح لذي عينين ) وهو مثل في الأمر المنكشف الذي لا يخفى على أحد فعلى هذا يكون استعارة ولا يجب أن يراها كل أحد لأن الإخبار إنما وقع عن كونها بحيث لا تخفى على ذي بصر لا عن وقوع البصر .
وقيل : إنها برزت الجحيم ليراها كل من له بصر وعلى هذا يجب أن راها كل أحد إلا أن المؤمنين يمرون عليها كالبرق الخاطف ، وأما الكافرون فيقعون فيها فكأنها برزت لأجلهم فقط ، وبهذا الاعتبار قال في موضع آخر .
) وبرّزت الجحيم للغاوين ) [ الشعراء : 91 ] وقوله ( طغى ( إشارة لى فساد القوى النظرية فإن من عرف الله بالكمال عرف نفسه بالنقصان فلم يصدر عنه الطغيان .
قوله ) وآثر الحياة الدنيا ( رمز إلى اختلال القوّة العملةي فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة .
واللام في ) المأوى ( للعهد الذهني أي مأواه اللائق به ولهذا استغنى عن العائد ولا حاجة إلى تكلف أن الألف ، واللام بدل من الإضافة .
قوله ) خاف مقام ربه ( نقيض طغى .
قوله ) ونهى النفس ( الأمارة ) وآثر الحياة الدنيا ( فهذا الشخص إذا كامل في قوّته النظرية والعملية .
وتفسير ) خاف مقام ربه ( قد مر في سورة الرحمن .
) ونهى النفس ( ضبطها وتوطينها على متاعب التكاليف من الأفعال والتروك .
ثم إن المشركين كانوا يسمعون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يذكر الطامة والحاقة وغيرهما من أسماء القيامة فيسألون ) أيان مرساها ( أي زمان إرسائها وهو إقامة الله إياها وقد مر في آخر ( الأعراف ) وعن عائشة رضي الله عنها لم يزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت .
وقوله ( فيم أنت ( على هذا تعجب من كثرة ذكره لها كأنه قيل : في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها حرصاً على جوابهم إلى ربك منتهى علمها لم يؤته أحداً من خلقه .
ويجوز أن يكون قوله ) فيم أنت من ذكرها ( من تتمة السؤال أي يسألونك(6/443)
" صفحة رقم 444 "
فيم أنت من العلم بها .
ويحتمل أن يكون فيم إنكار سؤالهم أي فيم هذا السؤال .
ثم قيل : أنت من ذكراها أي إرسالك وأنت آخر الرسل وخاتم الأنبياء ذكر من أذكارها وعلامة من علاماتها فلا حاجة إلى الاستفهام عن وقتها بعد العلم باقترابها ، فإن هذا القدر من العلم يكفي في وجوب الاستعداد لها بل لا يتم الغرض من التكليف إلا بإخفاء وقته كالموت ) إنما أنت منذر ( لا تتعداه إلى العلم بالغيب الذي العلم بالساعة جزئي منه .
وخص الإنذار بأهل الخشية لأنهم المنتفعون بذلك .
ثم أخبر أنهم حين يرون الساعة يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا .
وقيل : في القور .
روى عطاء عن ابن عباس أن الهاء والألف صلة والمعنى لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى .
وقال النحويون : فيه إضمار والتقدير إلا عشية أو ضحى يوم تلك العشية على أن الإضافة في ) ضحاها ( يكفي فيها أدنى ملابسة وهو ههنا إجتماعهما في نهار واحد .
قال صاحب الكشاف : فائدة الإضافة الدلالة على أن مدة لبثهم كانها لم تبلغ يوماً كاملاً .
قلت : سلمنا أن هذه الفائدة مفهومة من عبارة القرآن إلا أنها تحصل أيضاً بتقدير عدم الإضافة كما لا يخفى فلا يصح أن تسند الفائدة إلى الإضافة وحدها .
فالوجه أن يقال : فائدة الإضافة أن يعلم أن مجموع الدنيا في ظنهم كيوم واحد وزمان لبثهم في الدنيا كساعة منه عشية أو ضحاها نظيره قول القائل ( ما سرت إلا عشية أو ضحى ) فإنه لا يفهم منه إلا السير في بعض يوما مّا ، وقدتكون العشية من يوم والضحى من يوم آخر .
ولو قال ( إلا عشية أو ضحاها ) لم يمكن أن يكون السير إلا في أحد هذين الوقتين من يوم واحد .
قال بعضهم : فائدة الترديد أن زمان المحنة يعبر عنه بالعشية وزمان الراحة يعبر عنه بالضحى فكأنه قيل : ما كان عمرنا في الدنيا إلا هاتين الساعتين .
أقول : ويحتمل أن يقال إن مبدأ اليوم بليلته كانقبل شرعنا في أكثر الأديان من نصف النهار وقد صار المبدأ في شرعنا من أول الفجر وكأنهم حين أرادو التعبير عن بعض اليوم. قالوا : إن كان المبدأ من نصف النهار فنحن لم نلبث إلا عشية وهو ما بعد الزوال إلى الغروب ، وإن كان المبدأ من أول الفجر فلم نلبث إلا من الفجر إلى الضحى فلعل هذا هو السر في تقديم العشية على الضحى مع رعاية الفاصلة والله أعلم بأسرار كلامه .(6/444)
" صفحة رقم 445 "
سورة عبس
( سورة عبس مكية حروفها خمسمائة وثلاثة وثلاثون كلمها مائة وثلاث وثلاثون آياتها اثنتان وأربعون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( عبس : ( 1 - 42 ) عبس وتولى
" عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة " ( القراآت : كل آيات هذه السورة في الإمالة والتفخيم مثل سورة طه ) فتنفعه ( بالنصب على أنه جواب لعل : عاصم غير الأعشي ) تصدّى ( بتشديد الصاد للإدغام : أبو جعفر ونافع وابن كثير .
الآخرون : بتخفيفها بناء على حذف تاء تتفعل أو الخطاب عنه ) تلهى ( بإشباع ضمة الهاء وتشديد التاء : البزي وابن فليح ) أنا ( بالفتح على البدل من الطعام : عاصم وحمزة وخلف .
الوقوف : ( وتولى ( ه لا ) الأعمى ( ه ط ) يزكى ( ه لا ) الذكرى ( ه ط ) استغنى ( ه لا ) تصدّى ( ه ط ) يزكى ( ه ) يسعى ( ه لا ) يخشى ( ه ) تلهى ( ه ز لأن ) كلا ( للردع فلا يوقف أو بمعنى حقاً فيوقف ) تذكرة ( ه ج للشرط بعده مع الفاء ) ذكره ( ه لأن الظرف لا يجوز أن يتعلق بما قبله ولكنه خبر مبتدأ محذوف أي هو في صحف ) مكرمة ( ه لا ) مطهرة ( ه لا ) سفرة ( ه ز ) بررة ( ط ) أكفره ( ه ط ) خلقه ( ه ز لأن(6/445)
" صفحة رقم 446 "
الجواب محذوف أي خلقه من ) نطفة ( ط ) فقدّره ( ه لا ) يسره ( ه ز ) فأقبره ( ه لا ) أنشره ( ه ط بناء على أن ) كلا ( بمعنى حقاً ولا يصلح للردع وجه كما يجيء ) أمره ( ه ط ) إلى طعامه ( ه ز إلا لمن قرأ ) أنا ( بالفتح ) صباً ( ه لا ) شقاً ( ه لا ) حباً ( ه ز ) وقضباً ( ه ك ) ونخلاً ( ه ك ) غلباً ( ه ك ) وأباً ( ه لا ) ولأنعامكم ( ه ط ) الصاخة ( ه ز فإن الأوضح أن يكون ) يوم ( ظرف ) جاءت ( وجوز أن يكون مفعول ( اذكر ) محذوفاً والعامل مقدّر أي فإذا جاءت الصاخة كان ما كان ) أخيه ( لا ) وأبيه ( ه ك ) وبينه ( ه ط ) يغنيه ( ه ك ) مسفرة ( ه لا ) مستبشرة ( ه ج فصلاً بين حالتي الفئتين مع اتفاق الجملتين ) غبرة ( ه لا ) قترة ( ه ) الفجرة ( ه .
التفسير : أطبق المفسرون على أن الذي عبس هو الرسول صلىة الله عليه وسلم والأعمى هو ابن أم مكتوم واسمه عبد الله بن شريخ بن مالك بن ربيعة الزهري .
وذلك أنه أتى رسول الله وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم .
فقال : يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك وهو لا يعلم شغله بالقوم ، فكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت ، فكان رسول الله صلى هلله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه ويقول : إذا رآه : مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ويقول له : هل لك من حاجة ؟ واستخلفه على المدينة مرتين .
وقال أنس : رأيته يوم القادسية وعليه درع وله راية سوداء .
والجار محذوف على القياس متعلق ب ) عبس ( أو ب ) تولى ( على اختلاف في باب تنازع الفعلين للكوفيين والبصريين والتقدير : عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك .
يروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما عبس بعدها في وجه فقيل قط ولا تصدّى لغني .
قال أهل المعاني : في الالتفات من الغيبة إلى الخطاب دلالة على مزيد الإنكار كمن يشكو جانياً بطريق الغيبة وهو حاضر ثم يقبل على الجاني مواجهاً بالتوبيخ .
قالوا : وفي ذكر الأعمى نحو من الإنكار أيضاً لأن العمى يوجب العطف والرأفة عند ذوي الآداب غالباً لا التولي والعبوس ، ولا يخفى أن نظر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان على أمر كلي هو رجاء إسلام قريش فإنه في الظاهر أهم من إجابة رجل أعمى على الفور إلا أنه سبحانه عدّ هذا الجزئي كلياً من جهة أخرى هي تطييب قلوب الفقراء والضعفاء وإهمال جانب أهل الغنى والثراء ، فإن هذا أدخل في الإخلاص وابتغاء رضوان الله وذلك مظنة التهمة والرياء .
يحكى عن سفيان الثوري أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء .
وأيضاً فائدة الإرشاد والتعليم بالنسبة إلى هذا الأعمى أمر معلوم وبالنسبة إلى أولئك أمر موهوم لأنه جاء طالباً مسترشداً وأنهم جاءوا مستهزئين معاندين ، وترك المعلوم للموهوم خارج عن طريق الاحتياط وإلى هذا المعنى أشار بقوله(6/446)
" صفحة رقم 447 "
) وما يدريك لعله ( لعل الأعمى ) يزكى ( عما لا ينبغي ) أو يذكر ( يتعظ ) فتنفعه الذكرى ( فيفعل ما ينبغي .
وقيل : الضمير في ) لعله ( للكافر يعني أي شيء أدراك بحال كل من أولئك الكفرة حتى طمعت في تطهرهم من الأوزار وانتفاعهم بالاذكار .
ثم زاد تصريحاً لما فعل قائلاُ ) أما من استغنى ( أي بالمال .
وقال عطاء : عن الإيمان .
وقال الكلبي : أي عن الله .
والأول أولى لأنهم كانوا أغنياء وما توجه الخطاب إلا من هذه الجهة وإن كان إسلامهم موهوماً ) فأنت له تصدّى ( تتعرض وأصله تتصدد من الصدد وهو ما استقبلك فصار قبالك ) وما عليك ( يحتمل أن تكون ( ما ) استفهامية ونافية يعني أي وبال يعود عليك أو ليس عليك بأس في أن لا يتزكى ذلك المستغني إن عليك إلا البلاغ فما الموجب للحرص والتهالك على إسلامه حتى تكسر قلوب الفقراء بالعبوس والإعراض ، وهذا معنى قوله ) وأما من جاءك يسعى ( يسرع في طلب الخير ) وهو يخشى ( الله أو يخشى الكفار وأذاهم في إتيانك .
وقيل : يخشى الكبوة لأنه أعمى ما كان له قائد ) فأنت عنه تلهى ( أي تتشاغل .
قال أهل المعاني : بناء الكلامين على ضمير المخاطب تقوية إنكار التصدي والتهلي عليه أي مثله خصوصاً لا ينبغي أن يتصدّى لغنى ويتلهى عن الفقير .
قوله ) كلا ( ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله أي لا تفعل مثل ذلك .
ثم قال ) إنها ( يعني آيات القرآن وهو قول مقاتل ، أو هذه السورة وهو قول الكلبي واختاره الأخفش ) تذكرة ( وهي في معنى الذكر والوعظ فلذلك قال ) فمن شاء ذكره ( والمراد أن هذا القرآن أو هذا التأديب الذي عرفناكه في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا ثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة .
وفيه أن القرآن الذي بلغ في العظمة إلى هذا الحد أيّ حاجة له إلى أن يقبله هؤلاء الكفرة ، فسواء قبلوه أو لا فلا تلتفت إلأيهم واحتهد في تطيب قلوب الفقراء الذين هم أهل الإخلاص وحزب الله .
ثم وصف الصحف بأنها مكرمة عند الله مرفوعة في السماء أو مرفوعة المقدار مطهرة عن أهل الخبائث لا يمسها إلا المطهرون من تلك الملائكة وتلك الصحف ) بأيدي سفرة ( قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل وقتادة : هم الكتبة من الملائكة واحدها سافر مثل كتبة وكاتب ، وقد مرّ في أول التفسير أن التركيب يدل على ربهم .
وقال عطاء : أراد أنهم يكرمون من أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا مع زوجته للجماع وعند قضاء الحاجة ) بررة ( أتقياء واحدها بارّ .
وقيل : هي صحف الأنبياء فيكون كقوله ) إن هذا لفي الصحف الأولى ) [ الأعلى : 18 ] وقيل : السفرة القراء .
وقيل : الصحابة ثم عجب من(6/447)
" صفحة رقم 448 "
صناديد قريش وأضرابهم من أهل العجب والكفر المرتفعين على الفقراء مع أن أوّلهم نطفة مذرة وآخرهم جيفة قذرة وهم فيما ين الوقتين حملة عذرة فقال ) قتل الإنسانء ( وهو دعاء عليه أشنع دعوة لأنه لا أفظع من القتل و ) ما أكفره ( تعجب من حال إفراطه في الكفران وتلقي نعم خالقه بالجحود والطغيان ، وهذا قد ورد على أسلوب كلام العرب وأنه لا يمكن أن يحمل في حقه تعالى إلا على إرادة إيصال العقاب الشديد وليكون لطفاً للمعتبرين المتعجبين المتأملين في مراتب حدوثهم التي أوّلها نطفة وأشار إيلها بقوله ) من أي شيء خلقه من نطفة ( والاستفهام لزيادة التقرير في التحقير .
ثم قال ) فقدّره ( فحمله الفراء على أطواره بعد كونه نطفة إلى وقت إنشائه خلقاً آخر ، وعلى أحواله من كونه ذكراً أو أنثى وشقياً أو سعيداً .
وقال الزجاج : قدره على الاستواء كقوله ) ثم سوّاك رجلاً ) [ الكهف : 37 ] ويحتمل أن يراد فقد كل عضو في الكمية والكيفية على التقدير اللائق بمصلحته .
وأما المرتبة الوسطى فإليها الإشارة بقوله ) ثم السبيل يسره ( وهو نصب على شريطة التفسير فمن ففسر التقدير بالأطوار فسر السبيل بمخرج الولد من بطن أمه .
يقال : إن رأس المولود في بطن أمه يكون من فوق ورجله من تحت ، فإذا جاء وقت الخروج انقلب بإلهام الله تعالى إياه على أن نفس خروج الولد حياً من ذلك المنفذ الضيق من أعجب العجائب وعلى التفاسير الأخر فالمراد تسهيل سبيل الخير والشر كقوله ) إنا هديناه السبيل ) [ الدهر : 3 ] وأشار إلى المرتبة الأخيرة بقوله ) ثم أماته فأقبره ( أي جعله ذا قبر فيكون متعدياً إلى واحد ، ويحتمل أن يكون الثاني محذوفاً أي فأقبره غيره ، يقال : قبر الميت إذا دفنه بنفسه ، وأقبر غيره الميت إذا أمره بدفنه ، فالمراد أن الله سبحانه أمر بدفن الأموات الإنسية تكرمة لهم دون أن يطرحوا على وجه الأرض طعمة للسباع كسائر الحيوان ) ثم ( إن في كل هذه الانتقالات دلالات واضحة على أنه سبحانه ) إذا شاءئ ( أن ينشر الإنسان ببعثه من قبره ) أنشره ( قوله ) : لا ( يجوز أن يكون ردعاً للإنسان عن تكبره وترفعه أو عن كفره وإنكاره المعاد .
وقال في الكشاف : وهذا هو ردع للإنسان عما هو عليه فهذا قول مجاهد إن إنساناً لم يخل من تقصير قط فلم يقض أحد من لدن آدم إلى هذه الغاية جميع ما كان مفروضاً عليه .
وقال آخرون : معناه أن الإنسان الكافر لم يقض بعد ما أمره الله من التأمل في دلائل التوحيد والبعث .
وقال الأستاذ أبو بكر بن فورك : القضاء بمعنى الحكم والضمير لله أي لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان وترك التكبر بل أمره بما لم يحكم له به .
وحين فرغ من دلائل الأنفس أردفها بدلائل الآفاق قائلاً ) فينظر الإنسان ( نظر استدلال وتدبر ) إلى طعامه ( الذي يعيش به كيف دبرنا أمره من إنزال الماء من السماء ، ثم شق(6/448)
" صفحة رقم 449 "
الأرض بالنبات أو بالكراب على البقر فيكون إسناد الفعل إلى السبب .
والحب ما يصلح للقوت كالحنطة والشعير ، والقضب العلف بعينه قاله الحسن .
وقال أكثر المفسرين : إنه القت لأنه يقضب مرة بعد أخرى أي يقطع .
والغلب الغلاظ الأعناق في الأصل يقال : أسد أغلب ، ثم استعير للحدائق أنفسها لتكاثف أشجارها ولأشجارها لعظمها وغلظها .
ثم أجمل الفاكهة ليعم الكل وأجمل العلف بقوله ) وأبا ( للعموم وهو المرعة لأنه يؤب أي يؤم وينتجع .
والأب والأم إخوان قاله جار الله .
وقيل : الأب الفاكهة اليابسة المعدّة للبقاء .
والفاء في قوله ) فإذا جاءت ( مثل ما مر في ( النازعات ) ) والصاخة ( النفخة الأخيرة .
قال الزجاج : أصل الصخ الطعن والصك صخ رأسه بالحجر أي شدخه ، والغراب يصخ بمنقاره في دبر البغير أي يطعن ، والنفخة لشدّتها تصك الآذان .
وقال جار الله : يقال صخ لحديثه مثل أصاخ له فوصف النفخة بالصاخة مجاز لأن الناس يصخون لها أي يستمعون .
وفرار المرء من الجماعة المذكورين إما بالصورة وذلك للاحتراز عن المطالبة بالتبعات يقول الأخ : ما واسيتني بمالك. ويقول الأبوان : قصرن في برنا .
وتقول الصاحبة : أطعمتني الحرام وفعت كذا وكذا ، والبنون يقولون : لم تعلمنا ولم ترشدنا .
قال جار الله : إنما بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ، والفرار إنما يقع من الأبعد ثم من الأقرب ، وأخر الصاحبة والبنين لأن البنين أقرب وأحب فكأنه قيل : يفر من أخيه بل من أبيه بل من صاحبته وبنيه .
وأقول : هذا القول يستلزم أن تكون الصاحبة أقرب وأحب من الأبوين ولعله خلاف العقل والشرع ، والأصوب أن يقال : أراد أن يذكر بعض من هو مطيف بالمرء في الدنيا من أقاربه في طرفي الصعود والنزول فبدأ بطرف الصعود لأن تقديم الأصل أولى من تقديم الفرع ، وذكر أوّلاً في كل من الطرفين من هو معه في درجة واحدة وهو الأخ في الأول ، والصاحبة في الثاني على أن وجود البنين موقوف على وجود الصاحبة فكانت بالتقديم أولى .
وقيل : أول من يفر من أخيه هابيل ، ومن أبويه إبراهيم ، ومن صاحبته نوح ولوط ، ومن ابنه نوح .
والأنسب عندي أن يكون الفار قابيل وقد جاء هكذا في بعض الروايات ، والأظهر أن الفرار المعنيّ هو قلة الاهتمام بشأن هؤلاء بدليل قوله ) لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه ( أي يصرفه ويصدّه عن قرابته .
قال ابن قتيبة : ويقال أن عني وجهك أي اصرفه .
وعندي أن اشتقاقه من الغنى وذلك أن من أغناك فقد صرفك عن نفسك أو عن طلب حاجته .
ثم ذكر أن الناس يومئذ فريقان وأن أهل الكمال تلوح على وجوههم أنوار الكمال من أسفر الصبح إذا أضاء يستبشرون بأنواع المسار ، ويضحكون بدل ما كانوا يبكون في الدنيا خوفاً من عقاب الله تعالى ، وأن أهل النقائص يظهر على وجوههم سواد مع غبرة كوجوه الزنوج مثلاً(6/449)
" صفحة رقم 450 "
إذا أعبرت .
والقترة سواد كالدخان جمع الله في وجوههم ظلمة الضلال والكفر مع غبار الفجوة والفسق ولهذا نعى عليهم بقوله ) أولئك هم الكفرة الفجرة ( أعاذنا الله في الدارين من مثل أحوالهم .(6/450)
" صفحة رقم 451 "
سورة التكوير
( سورة التكوير مكية حروفها خمسمائة وثلاثة وثلاثون كلمها مائة وتسع وثلاثون آياتها تسع وعشرون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( التكوير : ( 1 - 29 ) إذا الشمس كورت
" إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت وإذا الصحف نشرت وإذا السماء كشطت وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " ( القراآت ) سجرت ( بالتخفيف : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب .
) قتلت ( بالتشديد : يزيد و ) نشرت ( مخففاً : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم غير يحيى وحماد ) الجوار ( ممالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو في رواية ) بظنين ( بالظاء : ابن كثير وعلي وأبو عمرو ويعقوب .
الباقون : بالضاد .
الوقوف ) كورت ( ه ص ) انكدرت ( ه ص ) سيرت ( ه ط ) عطلت ( ه ك ) حشرت ( ه ك ) سجرت ( ه ك ) زوّجتْ ( ه ك ) سعرت ( ه ك ) أزلفت ( ه ك الاستفهام بين السنق ) نشرت ( ه ص ) كشطت ( ه ك ) سعرت ( ه ك ) أزلفت ( ه ك ) أحضرت ( ه ط لتمام الشرط والجزاء والتقدير إذا كورت الشمس كورت ارتفعت الشمس بفعل مضمر تفسيره الظاهر وكذلك ما بعدها .
وقوله ( علمت ( جواب عن الكل وهو العامل في ( إذا ) وما عطف عليها ) بالخنس ( ه لا ) الكنس ( ه لا ) عسعس ( ه ك ) تنفس ( ه ك ) كريم ( ه ك ) مكين ( ه ك ) أمين ( ه ط بناء على أن ما بعده مستأنف ومن جعل ) وما(6/451)
" صفحة رقم 452 "
صاحبكم ( وما بعدها معطوف على جواب القسم لم يقف على ) أمين ( إلى قوله ) فأين تذهبون ( .
) بمجنون ( ه ج ) المبين ( ه ج ) بضنين ( ه ج ) رجيم ( ه ج ) تذهبون ( ه ط ) للعالمين ( ه لا لأن ما بعده بدل البعض ) يستقيم ( ه ) العالمين ( ه .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر الطامة والصاخة في خاتمتي السورتين المتقدمتين أردفهما بذكر سورتين مشتملتين على أمارات القيامة وعلامات يوم الجزاء .
أما هذه ففيها اثنا عشر شيئاً أوّلها تكوير الشمس وفيه وجهان : أحدهما إزالة النور لأن التكوير هو التلفيف على جهة الاستدارة كتكوير العمامة .
وفي الحديث ( نعوذ بالله من الحور بعد الكور ) أي من التشتت بعد الألفة والاجتماع ، ومنه كارة القصار وهي ثوب واحد يجمع ثيابه فيه .
ولا يخفى أن الشيء الذي يلف يصير مخفياً عن الأعين فعبر عن إزالة النور عن جرم الشمس وصيرورتها غائبة عن الأعين بالتكوير .
الثاني أن يكون من قولهم طعنه فحوره وكوره إذا ألقاه أي ألقيت ورميت عن الفلك .
وثانيها انكذار النجوم أي تساقطها وتناثرها والأصل في الانكدار الانصباب وكل متراكب ففهي كدورة فلهذا يقال للجيش الكثير دهماء .
قال الخليل : انكدر عليهم القوم إذا جاءوا أرسالاً فانصبوا عليهم .
قال الكلبي : تمطر السماء يومئذ نجوماً فقال عطاء : وذلك أنها في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من النور وتلك السلاسل في أيدي الملائكة ، فإذا مات من في السماء والأرض تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة .
ويروى في الشمس والنجوم أنها تطرح في جهنم ليراها من عبدها .
وثالثها تسييرجبال وقد مر في سورة ( عم ) .
ورابعها تعطيل العشار وهي جمع عشراء كالنفاس في نفساء .
والعشراء الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع الحمل لتمام السنة ، وهي أنفس ما يكون عند أهلها وهم العرب فخوطبوا بما هو مركوز في أذهانهم مصوّر في خزانة خيالهم ، والغرض بيان شدّة الاشتغال بأنفسهم حتى يعطلوا ويهملوا ما هو أهم شيء عندهم .
وقيل : العشار هي السحاب تعطلت عما فيها من الماء ، ولعله مجاز من حيث إن العرب تشبه السحاب بالحامل .
قال الله تعالى ) فالحاملات وقرا ) [ الذاريات : 2 ] وخامسها حشر الوحوش والوحش ضد ما يستأنس به من دواب البر .
قال قتادة : يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص ، وفيه أنه سبحانه إذا كان لا يهمل أمر الوحوش فكيف يهمل أمر المكلفين .
قال الإمام فخر لادين : وفيه دليل على أن هول ذلك(6/452)
" صفحة رقم 453 "
اليوم بلغ مبلغاً لا يفرغ الوحوش للنفار عن الإنسان ولا بعضها للاحتراز عن بعض مع العداوة الطبيعية بين بعض الأصناف حتى صار بعضها غذاء بعض .
قلت : هذا الاستدلال ضعيف فإن الوحوش في الدنيا أيضاً مجتمعة مع الناس ومع أضدادها لكن في أمكنة مختلفة ، فلم لا يجوز أن تكون في القيامة أيضاً كذلك .
وعن ابن عباس في رواية إن حشر الوحوش عبارة عن موتها وذلك إذا قضى بينها فردّت تراباً فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاوس ونحوه .
يقال : إذا اجتاحت السنة الناس وأموالهم جحشرتهم السنة أي أماتتهم .
السادس تسجير البحار أي تنشيف ما فيها من الرطوبة حتى لا يبقى فيها شيء من المياه وقد سبق في ( الطور ) .
السابع تزويج النفوس وهو اقتران الأرواح بالأجساد .
وقال الحسن : هو كقوله ) وكنتم أزواجاً ثلاثة ) [ الواقعة : 7 ] أي صنفتم أصنافاً ثلاثة وقريب منه قول من قال : هو أن يضم كل واحد إلى من يجانسه في طبقته من خير أو شر .
وقول من قال : هو أن يقرب بين الرجل وبين من كان يلازمه في الدنيا من ملك أو سلطان .
وقال ابن عباس : زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين ، ونفوس الكافرين بالشياطين ، ويقرب منه قول الزجاج هو أن تقرن النفوس بأعمالها .
الثامن سؤال الموؤدة .
قال جار الله : وأد يئد مقلوب آد يؤد إذا أثقل لأنه إثقال بالتراب ، وكانوا يدفنون بناتهم في الأرض أحياء خوفاً من الفقر ولخوف العار كما مر في ( النحل ) وغيره .
ومعنى هذا السؤال تبكيت قاتلها كما يخاطب عيسى بقوله ) أأنت قلت للناس ) [ المائدة : 116 ] والغرض تبكيت النصارى .
وقيل : الموؤدة هي التي تسأل نفسها فهي السائلة والمسؤول عنها .
وإنما قيل ) قتلت ( ماضياً مجهولاً غائباً بناء على أن الكلام إخبار عنها ، ولو حكى ما خوطبت به حين سئلت لقيل قتلت مجهولاً مخاطباً ، ولو حكى كلامها حين سألت لقيل قتلت متكلماً مجهولاً وبه قرأ ابن عباس .
قالت المعتزلة وبه يحتج صاحب الشكاف : إن في الآية دلالة على أن أطفال المشركين لا يعذبون لأنه تعالى إذا بكت الكافر بسببها فلأن لا يعذبها أولى .
ويمكن أن يجاب بأن تعذيب الوائد للوأد من جهة أنه تصرف في ملك الله تعالى بغير حق لا ينافي تعذيب الموؤدة من جهة أخرى وهي أن حكمها في افسلام والكفر حكم أبيها .
التاسع نشر صحف الأعمال .
عن قتادة : هي صحيفتك يا ابن آدم تطوى على عملك حين موتك ثم تنشر يوم القيامة فلينظر رجل يملى في صحيفته .
ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها أي فرقت بينهم .
وعن مرثد بن ودعاة : إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك وهي صحف غير صحف الأعمال قاله في الشكاف .
العاشر كشط السماء كما يكشط(6/453)
" صفحة رقم 454 "
الإهاب عن الذبيحة .
والغطاء عن الشيء أي كشفت وأزيلت عما فوقها وهو الجنة وعرش الله تعالى .
الحادي عشر والثاني عشر تسعير الجحيم أي إيقادها وإزلاف الجنة أي إدناؤها .
استدل بعضهم بالآية على أن النار غير مخلوقة الآن لأنه علق تسعيرها بيوم القيامة ، ويمكن المعارضة بأنها تدل على أن الجنة مخلوقة وإلا لم يمكن إزلافها على أن تعليق تسعير الجحيم بيوم القيامة لا ينافي وجودها قبل ذلك غير موقدة ايقادها شديداً .
وقيل : يسعرها غضب الله عز وجل وخطايا بني آدم .
وقوله ( علمت نفس ما أحضرت ( كقوله ) يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً ) [ آل عمران : 30 ] والتنوين في ) نفس ( للتقليل على أنه مفيد للتكثير بحسب المقام نحو ) قد يعلم الله ) [ النور : 63 ] ( ربما يود الذين كفروا ) [ الحجر : 2 ] ويجوز عندي أن يكون للتعظيم أو للنوع يعني النفس الإنسانية لا النباتية ولا الحيوانية ولا الفلكية عند القائلين بها .
وإسناد الإحضار إلى الأنفس مجاز لأن الملائكة أحضروها في الصحف أو في الموازين إلا أنها لما تسبب منهخا ذلك أسند إليها على أن آثار اعمالها إنما تلوح عليها قال أهل التأويل : هذه الأحوال يمكن اعتبارها في وقت القيامة الصغرى وهي حالة الموت ، فالشمس النفس الناطقة ، وتكويرها قطع تعلقها ، وانكدار النجوم تساقط القوى ، وتسيير الجبال انعزال الأعضاء الرئيسة عن أفعالها ، والعشار البدن يهمل أمرها ، وحشر الوحوش ظهور نتائج الأفعال البهيمة والسبعية على الشخص ، وتسجير البحار نفاد الأوهام الباطلة والأماني الفارغة فإنه بحر لا ساحل له دون الموت الاختياري أو الاضطراري ، وتزويج النفوس انضمام كل ملكة إلى جنسها الظلمة إلى الظلمة والنور إلى النور ، والموردة القوة التي ضيعها المكلف في غير ما خلقت لأجله .
وسمعت بعض المحققين من أساتذتي أنها كل مسألة سنحت للخاطر ولم تقيد بالكتابة حتى غابت .
والسماء سماء الأرواح والباقي ظاهر .
وحين أثبت المعاد شرع في النبوّات فأكدها بالحلف .
والخنس جمع خانس ، والكنس جمع كانس .
والأكثرون على أنها السيارات الخمسة الجاريات مع النيرين في أفلاكها بالارتباطات المعلومة من الهيئة وقد ذكرنا طرفاً منها في البقرة بقوله ) إن في خلق السموات والأرض ) [ الآية : 164 ] وفي قوله ) فسواهن سبع سموات ) [ البقرة : 29 ] فخنوسها رجوعها ومنه الخناس للشيطان ، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس ومنه كنس الوحش إذا دخل كناسه .
واملنجمون يسمون زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد متحيرة لمشاهدة الوقوف والرجوع منها بعد الاستقامة وهي حركتها الخاصة من المغرب إلى المشرق على توالي البروج أي من الحمل إلى الثور ثم إلى الجوزاء وهكذا على الترتيب .(6/454)
" صفحة رقم 455 "
فإذا تحركت القهقري بعكس هذا الترتيب شبه الحركة اليومية .
يقال : إنها راجعة أقسم الله بها إذ أحوالها أغرب ورباطاتها مع الشمس أعجب كما بين في ذلك العلم .
وعن علي رضي الله عنه وهو قول عطاء ومقاتل وقتادة أنها هي جميع الكواكب وخنوسها غيبتها عن البصر بالنهار وكنوسها ظهورها للبصر في الليل كما يظهر الوحش من كناسه .
وعن ابن مسعود والنخعي أنها بقر الوحش وخنوسها صفة لأنوفها ومنه ( رجل أخنس وامرأة خنساء ) وفي هذا القول بعد عن الخنس المقسم بها لأنه لا يناسب ما بعده .
وقال أهل التأويل : هي الحواس الخمس تظهر آثارها تارة وتغيب أخرى .
ثم أقسم بالليل والنهار. ومعنى عسعس أقبل وأدبر فهو من الأضداد ، وتنفس الصبح مجاز عن تخلصه من ظلمة الليل كنفس المكروب غذا وجد راحة أو مجاز عما يكون عنده من روح ونسيم .
والضمير في ) إنه ( للقرآن ، والرسول الكريم جبرائيل ، وكرمه على ربه أن جعله واسطة بينه وبين أشرف عباده وهم الأنبياء ، وكرمه في نفسه أنه لا يدل إلا على الخير والكمال .
ومعنى كون القرآن قول جبرائيل أنه وصل منه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك أن النزاع وقع من الكفرة في أنه قول محمد أو هو من السماء فأثبت الثاني ليلزم نفي الأول .
وفي لفظ رسوله دلالة على أنه ليس قوله بالاستقلال .
وقوله ( ذي قوّة ( كقوله ) ذي مرة ) [ النجم : 6 ] وقد مر بالنجم .
وقوله ( عند ذي العرش ( أي عند ربه بالقرب كقوله ) ومن عنده ) [ الرعد : 43 ] والمكين ذو الجاه الذي يعطى ما يسأل يقال مكن فلان بضم الكاف مكانة .
وقوله ( ثم ( إشارة إلى الظرف المذكور أي مطاع عند الله في الملائكة المقربين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه ) أمين ( على الوحي والسفارة وقد عصمه الله من الخيانة والزلل .
استدل في الكشاف بالآيات على تفضيل الملك على الأنبياء وقال : لأنه وصف جبرائيل بصفات الكرامة ، ثم وصف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ) وما صاحبكم بمجنون ( وشتان بين الوصفين قلت : أمثال هذا التغليط من باب الجنون وهذا نشأ من سماع لفظ المجنون .
والتحقيق أن ذكر جبرائيل ومدحه وقع استطراداً لبيان مدح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولامبالغة في صدقه فإن الكفرة زعموا أن القرآن إفك افتراه مجنون به وأعانه عليه قوم آخرون فلم يكن بد من نفي الجنون عنه .
ووصف جبرائيل بالأمانة والمكانة وغيرهما فإن شرف الرسول يدل على شرف المرسل إليه وصدقه ، فالعجب من الزمخشري أنه كيف سمع لفظ المجنون فاعتراه حتى استدل به على مفضولية أشرف المخلوقات ، ولم يعلم أن ذكر جبرائيل ووصفه بأوصاف الكمال اتفق لغرض تزكية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
والعجب من الإمام فخر الدين الرازي أيضاً أنه كيف أورد حجته الواهية في تفسيره ولم يتعرض للجواب عنه مع كمال حرصه على تزييف أدلتهم .
ثم حكى أنه قد رأى جبرائيل على صورته الأصلية بحيث حصل عنده علم ضروري بأنه ملك مقرب لا(6/455)
" صفحة رقم 456 "
شيطان رجيم فقال ) ولقد رآه بالأفق المبين ( وهو أفق الشمس كما مر في ( النجم ) .
ثم أخبر عن صدقه وإشفاقه فقال ) وما هو على الغيب بضنين ( ومن قرأ بالظاء الذي مخرجه من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا كالذال والثاء فهو من الظنة التهمة أي ليس بمتهم بل هو ثقة فيام يؤدي عن الله بواسطة جبرائيل .
ومن قرأ بالضاد الذي مخرجه من أصل حافة اللسان وما بينهما من الأضراس ومن يمين اللسان أو يساره وإخراجه من الجانب الأيسر الأسهل ، وقد يسهل على بعض الناس كلاهما فمعناه أنه لا يضن بالوحي أي لا يبخل به من الضن وهو البخل ، وفيه أنه يكتم شيئاً من الوي مما أمر بإظهاره وأنه لا يمنع المستعدّين من الإرشاد والكمال ) فأين تذهبون ( بعد هذه البيانات وفيه استضلال لهم كقولك لتارة لجادّة إعتسافاً أين تذهب ، مثلت حالهم في ترك الحق والعدول عنه إلى الباطل براطب التعاسيف الذي يستأهل أن يقال له أين تذهب .
قوله ) لمن شاء ( فائدة هذا الإبدال أن نفع التذكير ما في السموات والأرض .
ولا يخفى ما بينها وبين قوله ) فأين تذهبون ( من التناسب والطباق وفيه دليل القدرية إلا أن قوله ) وما تشاؤن إلا أن يشاء الله ( فيه دليل الجبرية كما مر في آخر ) هل أتى ( وغيره والله الموفق .(6/456)
" صفحة رقم 457 "
سورة الانفطار
( سورة انفطرت مكية حروفها ثلثمائة وسبعة وعشرون كلماتها ثمانون آياتها 19 ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الإنفطار : ( 1 - 19 ) إذا السماء انفطرت
" إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله " ( القراآت ) فجرت ( بالتخفيف : ابن شنبوذ عن أهل مكة ) فعدلك ( مخففاً : يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل ) ركبك كلا ( مدغماً : أبو عمرو وقتيبة عنه ) يكذبون ( عل الغيبة : يزيد ) يوم لا ( بالرفع : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب .
الآخرون : بالفتح .
الوقوف ) انفطرت ( ه ك ) انتثرت ( ه ك ) فجرت ( ه ك ) بعثرت ( ه ك ) وأخرت ( ه ط ) الكريم ( ه لا ) فعدلك ( ه ط بناء على أن الظرف بعده متعلق ب ) ركبك ( ومن خفف ) فعدلك ( لم يقف بناء على أنه جعل ( في ) بمعنى ( إلى ) أي فعدلك إلى أي صورة ما شاء ) ركبك ( ه ط بناء على أن ( كلا ) توكيد لتحقيق بل ومن جعله ردعاً عن الاعتراف لم يقف ) بالدين ( ه ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف والوصل أجوز إلا من قرأ ) يكذبون ( على الغيبة فإنه يقف مطلقاً للعدول ) لحافظين ( ه لا ) كاتبين ( ه ك ) تفعلون ( ه ) نعيم ( ه ج ) جحيم ( ه ج لاحتمال أن ما بعه مستأنلف أو صفة جحيم ) بغائبين ( ه ط لابتداء النفي أو الاستفهام ) الدين ( ه ) يوم الدين ( ه لا لمن قرأ ) يوم ( بالصنب أي ذلك في يوم ومن رفعه على أنه بدل من يوم الدين فلا وقف .
) شيئاً ( ط ) لله ( ه ط .
التفسير : إنه سبحانه يذكر طرفاً آخر من أشراط الساعة في هذه السورة .
فأوّلها انفطار السماء أى انشقاقها كقوله في الفرقان ) ويوم تشقق السماء بالغمام ) [ الفرقان : 25 ] وكما(6/457)
" صفحة رقم 458 "
يجيء في قوله ) إذا السماء انشقت ) [ الانشقاق : 1 ] وفيه كذا في قوله ) وإذا الكواكب انتثرت ( إبطال قول من زعم أن الفلكيات لا تنخرق .
أما الدليل المعقول الذي ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره وهو أن الأجسام متماثلة في الجسمية فيصح على كل واحد منها ما يصح على الباقي لكن السفليات يصح عليها الانخراق فيصح على العلويات أيضاً فغير مفيد ولا مقنع ، لأن الخصم لو سلم الصحة فله أن ينازع في الوقوع لمانع كالصورة الفلكية وغيرها .
وأما تفجير البحار فقد فسروها بفتح بعضها إلى بعض حتى تصير البحار كلها بحراً واحداً وذلك التزلزل الأرض وتصدعها حتى يرتفع الحاجز الذي بين البحار الشرقية وبين البحار الغربية .
وقد فسره في الكشاف بزوال البرزخ بين العذب والمالح حتى يختلطا وهو تصوّر فاسد نشأ من مجرّد سماع لفظ ارتفاع البرزخ .
وعن الحسن : إن الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية وهو معنى التسجير عنده كما مر في السورة المتقدّمة .
قال جار الله : بعثر وبحثر بمعنى وهما من البعث والبحث زيد فيهما الراء والمعنى بحثت القبور وأخرج موتاها ، ولأهل التأويل أن يحملوا بعثرة القور على كشف الأسرار والأ ؛ وال الخفية ، ومعنى التقديم والتأخير قد سبق في القيامة في قوله ) بنبأ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخر ) [ القيامة : 13 ] والمراد جميع أعمالها وإنما يحصل بها العلم الإجمالي عند الموت أو في اوائل أشراطه ثم يزيد شيئاً فشيئاً إلى حين مطالعة صحيفة العمل .
ولما أخبر عن وقوع الساعة والحشر بين ما يدل عليه عقلاً فقال ) يا أيها الإنسان ( هو الكافر المنكر للبعث عند طائفة لقوله بعد ذلك ) كلا بل تكذبون ( وقد يخص ببعضهم فروي عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة .
وعن الكلبي ومقاتل في الأشد بن كلدة .
وذلك أنه ضرب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يعاقبه الله تعالى وأنزل الآية .
والأقرب أنها تتناول جميع العصاة وخصوص السبب لا يقدح في العموم ، وههنا سؤال وهو أنه تعالى وصف نفسه في هذا المقام بالكرم وهذا الوصف يقتضي الاغترار به حتى قالت العقلاء : من كرم الرجل سوء أدب غلمانه .
وسمع الموبذ في مجلس أنوشروان ضحك الخدم فقال : أما يهاب هؤلاء الغلمان .
فقال : إنما يهابنا أعداؤنا .
وعن علي رضي الله عنه أنه دعا غلامه مرات فلم يجبه فنظر فإذا هو بالباب فقال لم لم تجبني ؟ فقال : لثقتي بتحملك وأمني من عقوبتك فاستحسن جوابه فأعتقه .
( قال مؤلف الكتاب ) : إني في عنفوان الشباب رأيت فيما يرى النائم أن القيامة قد قامت وقد دار في خلدي أن الله تعالى لو خاطبني بقوله ) يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك ( فمادّا أقول ؟ ألهمني الله في المنام أن أقول : غرني كرمك يا رب .
ثم إني وجدت هذا المعنى قد ذكر في بعض التفاسير .
وعن الفضيل بن عياض أنه قال : أقول في الجواب غرتني ستورك المرخاة .
وإذا ثبت أن الكرم يقتضي أن يغتر بصاحبه فيكفي وقع الإنكار عليه ؟(6/458)
" صفحة رقم 459 "
والجواب من وجهين : الأول أن كل كريم فهو حكيم لأن إيصال النعم إلى الغير لو لم يكن مبنياً على داعية الحكمة كان تبذيراً لا كرماً فكأنه سبحانه قال : كيف اغتررت بكرمي وكرمي حقيقي صادر عن الحكمة وهي تقتضي أن لا يهمل وإن أمهل ، وأن ينتقم للمظلوم من الظالم ولو بعد حين ، وأن يعيد الناس لأجل المجازاة حتى يظهر المحسن من المسيء والبر من الفاجر لا يضيع حقوق الناس ؟ .
والحاصل أن الكرم بالخلق والتسوية وهي انتصاب القامة أو سلامة الأعضاء ، وبالتعديل وهو تناسبها أو جعله مستعدّاً لقبول الكمالات لا يقتضي أن لا يعيده إلى الحالة الأولى لأجل المجازا ، بل يجب أن يعيده تتميماً للنعمة وإظهاراً للحكمة .
الثاني أن كرمه السابق بالخلق وغيره لا يوجب كرماً لاحقاً بالعفو والغفران لجميع المعاصي لأن غاية الكرم هو أن يبتدىء بالنعم من غير عوض ولا غرض ، أما الكريم إذا أمر المنعم عليه بشيء وإنه يتلقاه بالعصيان فليس من الكرم أن يغمض عن جرمه بل قد يعدّ ذلك ضعفاً وذلة ولا سيما إذا كان المأمور به هو معرفة المنعم ولهذا روي عن عمر مرفوعاً ( غره جهله ) .
وعن الحسن : غره والله شيطانه الخبيث حتى طمع في الكرم اللاحق لأجل الكرم السابق .
خصوصاً إذا لم يكن ممن حصل له معرفة ربه في الدنيا .
قال النحويون : ( ما ) في ) ما شاء ( مزيدة قلت : وذلك بالنظر إلى أصل المعنى وإلا فهي مفيدة للتأكيد أي في كل صورة من الصور شاء كقوله ) هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء ) [ آل عمران : 6 ] وإنما لم يقل ( ففي أي صورة ) بالفاء العاطفة على نسق ما تقدّمها لأنها كالبيان بعد ذلك .
والجارّ متعلق بركب أي ركبك في أي صورة اقتضتها حكمته أو بمحذوف أي حاصلاً في بعض الصور المرادة .
وجوّز جار الله أن يتعلق ب ) عدّلك ( ويكون في أيّ معنى التعجب أي فعدّلك في صورة عجيبة ثم قال ما شاء أي ركبك ما شاء من التركيب .
قال الحسن : منهم من صوّره ليستخلصه له ، ومنهم من صوّره ليشغله بغيره .
قلت : الأوّلون مظاهر اللطف والجمال ، والآخرون مظاهر القهر والجلال .
ثم زجرهم عن الاغترار بقوله ) كلاَ ( وهي حرف وضع في اللغة لنفي ما تقدم وتحقيق غيره أي ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث ولا نشور ، ولئن فرض فالله كريم غفار للذنوب ، ولئن قدّر أنه معاقب فلعله غير عالم بالجزئيات فكيف يحاسب فنبههم الله تعالى على خطئهم بأن تكذيبهم بالجزاء إنما وقع في حال تسليط الحفظة لعيهم ، وهذا التكذيب أيضاً من جملة ما يكتبونه .
أو نقول : لما ردعهم عن الطمع الفارغ والأمل المنكر أضرب عنه إلى ما هو شر منه وهو إنكار الجزاء اصلاً .
وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم إشارة إلى أن أمر الجزاء عند الله تعالى من عظائم الأمور(6/459)
" صفحة رقم 460 "
والاشغال .
قال بعضهم : من لم يزجره عن المعاصي مراقبة الله إياه كيف يردّه عنها الكرام الكاتبون ؟ قلت : لا ريب أن الأول أصل والثاني فرع إلا أن المكلف لإلفه بالمحسوسات يزجره ما هو أقرب إلى عالم الحس أكثر ما يزجره ما هو أقرب إلى عالم الأرواح ولهذا تقع الزواجر والروادع في المدينة الفاضلة .
ثم ذكر فائدة كتابة الحفظة وغايتها فقال ) إن الأبرار ( إلى آخره .
يحكى أن سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة وهو يريد مكة فقال لأبي حازم : كيف القدوم على الله غداً ؟ فقال : أما المحسن فالكغائب يقدم على أهله ، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه .
قال : فبكى ثم قال : ليت شعري مالنا عند الله فقال أبو حازم : اعرض عملك على كتاب الله قال : في أي مكان ؟ قال في قوله ) إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ( قال جعفر الصادق : النعيم المعرفة والمشاهدة ، والجحيم ظلمات الشهوات .
وقال آخرون : النعيم القناعة والتوكل ، والجحيم الطمع والحرص ، وقال العارفون : النعيم الاشتغال بالله والجحيم الاشتغال بما سواه .
وقوله ( وما هم عنها بغائبين ( كقوله وما هم بخارجين منها أو أراد ما كانوا يغيبون عنها قبل ذلك أي في قبورهم فيكون قد بين حال البرزخ كما شرح حال المبدأ والمنتهى .
ثم نبه بقوله ) وما أدراك ( مرتين أن يوم الدين مما لا يكتنه كنه شدته ، والخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه لم يعرفه إلا بالوحي .
وقيل : للكافر .
ثم وصفه مجملاً بقوله ) يوم لا تملك ( إلى آخره أي لا ملك ولا تصرف في ذلك بظاهر وحقيقة الإله تعالى .(6/460)
" صفحة رقم 461 "
سورة المطففين
( سورة المطففين مكية وقيل مدنية حروفها سبعمائة وثلاثون كلمها مائة وتسعون آياتها 36 ) بسم الله الرحمن الرحيم
( المطففين : ( 1 - 36 ) ويل للمطففين
" ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون " ( القراآت ) بل ران ( حفص يقف على ) بل ( وقفة يسيرة ومع ذلك يصل .
وقرأ الحلواني عن قالون مظهراً ) ران ( بالإمالة : حمزة وعلي وخلف وحماد ويحيى ) تعرف ( مبنياً للمفعول ) نضرة ( بالرفع : يزيد ويعقوب ) خاتمه ( بالألف بعد الخاء والتاء مفتوحة : عليّ .
) أهلهم ( بكسر الهاء والميم : أبو عمرو وسهل ويعقوب ، وقرأ حمزة وعلي وخلف بضمهما .
الباقون : بضم ميم الجمع فقط ) فكهين ( مقصوراً : يزيد وحفص ) هل ثوب الكفار ( بالإدغام : حمزة وعلى وهشام .(6/461)
" صفحة رقم 462 "
الوقوف ) للمطففين ( ه لا ) يستوفون ( ه للفصل بين تناقض الحالين ولكن يلزم تفريق الوصفين مع اتفاق الجملتين ) يخسرون ( ه للاستفهام ) عظيم ( ه لا لأن التقدير لأمر يوم عظيم في يوم كذا وهو بدل بني على الفتح للإضافة إلى الجملة ) لرب العالمين ( ه ط لأن ( كلا ) لتحقيق أنّ بمعنى ( ألا ) التي للتنبيه أو حقاً أو هو ردع عن التطفيف وكذا أخواتها في السورة ) سجين ( ه ط ) ما سجين ( ه ط للحذف أي هو كتاب ) مرقوم ( ه ط لأن ) ويل ( مبتدأ ) للمكذبين ( ه لا ) الدين ( ه ط للابتداء بالنفي ) أثيم ( ه لأن الشرطية بعده صفة أخرى له ) الأوّلين ( ه والوقف لما ذكر ) يكسبون ( ه ) لمحجوبون ( ه لأن ( ثم ) لترتيب الأخبار ) الجحيم ( ه ك لاختلاف الجملتين ) تكذبون ( ه ط ) نعيم ( ه لا لأن ما بعده حال أو صفة ) ينظرون ( ه لا لذلك ) النعيم ( ه ج لأن ما بعده يصلح مستأنفاً أو حالاً ) مختوم ( ه لا لأن ما بعده وصف ) مسك ( ط ) المتنافسون ( ه ط ) تسنيم ( ه لا بناء على أن ) عيناً ( حال كما قال الزجاج .
فإن أريد النص على المدح جاز الوقف ) المقربون ( ه ط ) يضحكون ( ه ط للآية ولكن إتمام الكلام أولى ) يتغامزون ( ه ك لذلك ) فكهين ( ه ك ) لضالون ( ه لا لأن المنفية حال ) حافظين ( ه ط لتبدل الكلام معنى ) يضحكون ( ه لا ) ينظرون ( ه ط ) يفعلون ( ه .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر في السورة المتقدمة بعض أشراط الساعة وأخبر عن طرف من أحوالها وأهوالها صدّر هذه السورة بالنعي على قوم آثروا الحياة الزائلة على الحياة الباقية ، وتهالكوا في الحرص على استيفاء أسبابها حتى اتسموا بأخس السمات وهي التطفيف .
والتركيب يدل على القليل وطف الشيء جانبه وحرفه ، وطف الوادي والإناء إذا بلغ الشيء الذي فيه حرفه ولم يمتلىء .
وقال الزجاج : إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف لأنه لا يكون الذي يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلاً فنزلت فأحسنوا الكيل .
قلت : إن كانت السورة مدنية فظاهر ، وإن كانت مكية فلعل النبي حين قدم المدينة قرأها عليهم .
وهكذا الوجه فيما روي أن أهل المدينة كانوا تجاراً يطففون وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة يعني بيع الغرر كالطير في الهواء فنزلت ، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقرأها عليهم فقال ( خمس بخمس .
قيل : يا رسول الله وما خمس بخمس ؟ قال : ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا(6/462)
" صفحة رقم 463 "
الزكاة إلا حبس عنهم القطر ) وعن علي رضي الله عنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له : أقم الوزن بالقسط ثم أرجح بعد ذلك ما شئت .
كأنه أخبره بالتسوية أوّلاً ليعتادها ويفصل الواجب من النفل .
وعن أبيّ : لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين .
والاكتيال الأخذ بالكيل كالاتزان الأخذ بالوزن .
قال الفراء : ( من ) و ( على ) يعتقبان في هذا الموضع .
فمعنى اكتلت عليك أخذت ما عليك ، ومعنى أكتلت منك استوفيت منك .
وقال أهل البيان : وضع ( على ) مكان ( من ) للدلالة على أن اكتيالهم من الناس اكتيال فيه ضرر .
وجوز أن يتعلق الجار ب ) يستوفون ( والتقديم للتخصيص أي يستوفون على الناس خاصة ، فأما أنفسهم فيستوفون لها .
والضمير في ) كالوهم أو وزنوهم ( منصوب راجع إلى الناس والأصل كالوا لهم ووزنوا لهم فحذف المضاف وأصل الفعل .
قال الكسائي والفراء : هذه لغة الحجاز ومنه المثل ( الحريص يصيدك لا الجواد ) أي الحريص يصيد لك لا الفرس الجواد .
ويجوز أن يكون على حذف المضاف والتقدير وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم .
وعن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين للمطففين على أنهما توكيد للمرفوع ويقفان عند الواوين وقفة يبينان بها ما أراد .
وخطأهما بعضهم بأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه ، ولو كان الضميران للتأكيد لم يكن بدل من الألف ، وزيفت هذه التخطئة بأن خط المصحف لا يقاس عليه فكم من أشياء فيه خارجة عن اصطلاح الخط .
وقد ذكر الزمخشري في إبطال قولهما أن المعنى حينئذ يؤل إلى قول القائل وإذا تولوا الكيل والوزن هم على الخصوص بأنفسهم اخسروا أي نقصوا ، وهذا كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر .
قلت : النظم على قولهما باقٍ على حالته من الإعجاز والفصاح لأنه يفيد ضرباً من التوبيخ ، فإنهم إذا أخسروا وقد تولوا الكيل أو الوزن بأنفسهم ولم يمنعهم من ذلك مانع من لادين والمروءة ، فلأن يرضوا بالإخسار وقد تولاه لأجلهم من تعلق بهم يكون أولى ، ومن قلة مروأتهم ودينهم أنهم كانوا متمكنين في الإعطاء من البخس في الكيل وفي الوزن جميعاً ولهذا قال سبحانه ) وإذا كالوهم أو وزنوهم ( وأما في الأخذ فالميزان غالباً يكون بيد البائع فلا يتمكن المشتري من التصرف فيه بالزيادة المعتد بها فإن الكفة تميل بأدنى ثقل ، وإنما يتمكن في الاكتيال بأن يحتال في مكياله بالتحريك ووضع اليد عليه بقوّة فلهذا لم يقل هناك ( أو اتزنوا ) وأعلم أن أمر المكيال والميزان عظيم لأن مدار معاملات الخلق عليهما ، ولهذا جرى على قوم شعيب بسببه ما جرى .
وذهب بعض العلماء إلى أن المطفف لا يتناوله(6/463)
" صفحة رقم 464 "
الوعيد إلا إذا بلغ تطفيفه نصاب السرقة .
والأكثرون على أن قليله وكثيره يوجب الوعيد .
وبالغ بعضهم حتى عد العزم عليه من الكبائر .
وقال الشيخ أبو القاسم القشيري رحمه الله : لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل ، وفي إظهار العيب وإخفائه ، وفي طلب الإنصاف والانتصاف ، ومن لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه فليس بمنصف .
والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه فهو من هذه الجملة ، والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلب لنفسه فهو من هذه الجملة ، والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يطلب من أحد لنفسه حقاً .
ويحكى أن أعرابياً قال لعبد الملك بن مروان : إن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به ، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ووزن ؟ ثم زاد في توبيخهم بقوله ) ألا يظن ( فإن كانوا من أهل الإسلام كما روي أن أهل المدينة كانوا يفعلون ذلك فالظن بمعنى العلم ، وإن كانوا كفاراً منكري البعث فالظن بمعناه الأصلي .
والمراد هب أنهم لا يقطعون بالبعث أفلا ، وإن كانوا كفاراً منكري البعث فالظن بمعناه الأصلي .
والمراد هب أنهم لا يقطعون بالبعث ب ) أولئك ( وقد ذكرهم عما قريب تبعيد لهم عن رتبة الاعتبار بل عن درجة الإنسانية .
وفي هذا الإنكار ووصف اليوم بالعظم وقيام الناس فيه لرب العالمين بيان بليغ لعظم هذا الذنب كما إذا قال الحالف والله الطالب الغالب الحي القيوم .
ففيه تعظيم شأن المقسم عليه .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقوم النس مقدار ثلثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيها بأمر ) .
قال ابن عباس : هو في حق المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة .
وفيه أنه غذا ظهرالتطفيف الذي يظن به أنه حقير فكيف بسائر الظلامات ؟ وحمل بعضهم هذا القيام على ردّ الأرواح إلى أجسادها حتى يقوموا من مراقدهم .
وعن أبي مسلم : أراد به الخضوع التام كقوله ) وقوموا لله قانتين ) [ البقرة : 238 ] ثم بيّن أن كل ما يعمل من خير أو شر فإنه مكتوب عند الله .
وقدم ديوان الشرور لأن المذكور قبله هو وعيد أهل الفجور .
وسجين ( فعيل ) من السجن وهو الحبس والتضييق جعل علماً لديوان الشر الجامع لأعمال الكفرة والفسقة والشياطين ، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا العلمية ) كتاب مرقوم ( ليس تفسيراً للسجين بل التقدير : كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وإن كتاب الفجار مرقوم .
وموقع قوله ) وما أدراك ما سجين ( اعتراض تعظيماً لأمر السجين ، ولأن ذلك لم يكن مما كان العرب تعرفه أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك .
وقيل : مرقوم أي مطروح وعلى هذا يكون سجين اسم مكان .
ثم اختلفوا ، فعن ابن عباس في رواية عطاء وقتادة ومجاهد والضحاك وعن البراء مرفوعاً أنه اسفل أرضين وفيها إبليس وذريته .
وعن أبي هريرة مرفوعاً أنه جب في جهنم .
وقال الكلبي : صخرة تحت(6/464)
" صفحة رقم 465 "
الأرض السابعة .
والتحقيق أنه سبحانه أجرى أمور عباده على ما تعافوه فيما بينهم ، ولا شك أن السفلة والظلمة والضيق وحضور الشياطين الملاعين من صفات البغض فوصف الله كتاب الفجار بأنه في هذا الموضع استهانة بهم وبأعمالهم ، كما أنه وصف كتاب الأبرار بأنه في عليين وتشهده الملائكة المقربون تعظيماً لحالهم .
ثم أوعد المكذبين ووصفهم بقوله ) الذين يكذبون ( للذم لا للبيان لأن كل مكذب فالوعيد يتناوله سواء كان مكذباً بالبعث أو بسائر آيات الله تعالى فهو كقولك ( فعل فلان الفاسق الخبيث ) .
وإنما خص التكذيب بالبعث لتقدّم ذكره وذكر ما يتعلق به .
ثم بالغ في الذم بقوله ) وما يكذب به إلاّ كلٌّ معتد أثيم ( متجاوز عن حد الاعتدال في استعمال القوة النظرية إما في طرف الإفراط وهو الجريرة حتى عدّ الممكن محالاً وأقدم على التكذيب ، وإما في طرف التفريط وهو البله والغباوة حتى قنع بالاستبعاد المحض وأعرض عن النظر في دلائل البعث من الخلق الأوّل وغيره .
أثيم في إعمال القوى البدينة في غير مواقعها حتى أثمر له الباطل بدل الحق ، وحكم على آيات الله بأنها أساطير الأوّلين ، وفيه إنكار للنبوّة أيضاً .
ثم أضرب عن أن يكون لهم اختبار فيما قالوه أو يكون لهم ارعواء عما ارتكبوه ، لأن ما كسبوه قدران على قلوبهم أي ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها .
قال أهل اللغة : ران النعاس والخمر في الرأس يرين ريناً وريوناً إذا رسخ فيه ، ولهذا قال الحسن : هو الذنب بعد الذنب حتى يسود القلب .
قلت : الغين هو الحجاب الرقيق الذي يزول عن كثب ومثله الغيم .
والرين هو الغليظ الذي لا يرجى زواله ولهذا جاء في الحديث ( إنه ليغان على قلبي ) وأما الرين فمن صفة الكفار الذين صارت ملكاتهم الذميمة في غاية الرسوخ حتى أظلم سطوح قلوبهم بل دخلت الظلمة أجوافها وبلغت الكدورة صفاقها .
ثم قال ) كلا ( حقاً وهو ردع عن الكسب الرائن على القلب ) إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ( وذلك أن النور لا يرى إلا بالنور ، فإذا كانت نفوسهم في غاية الظلمة الذاتية والعرضية الحاصلة من الملكات الردية احتجبوا عن نور الله ومنعوا من رؤيته ، قال أهل السنة كثرهم الله : وفي تخصيصهم بالحجب دلالة على أن أهل الإيمان والأعمال الصالحة لا يكونون محجوبين عن ربهم .
وقالت المعتزلة : المضاف محذوف أي عن رحمة ربهم أو كرامته .
وقال في الكشاف : هو تمثيل للاستخفاف بهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين .
ثم أخبر بقوله ) ثم إنهم لصالوا الجحيم ( أي داخلوها عن بقية حالهم وأنهم لا يتركون عن حجب الحرمان بل يعذبون بنار القطيعة والهجران لأنهما متلازمان ) ثم يقال ( في معرض التوبيخ ) هذا الذي كنتم به تكذبون ( جمعاً بين عذاب الوجل وعذاب الخجل .(6/465)
" صفحة رقم 466 "
ثم شرع في قصة الأبرار .
وعليون جمع ( عليّ ) ( فعيل ) من العلو وإعرابه كإعراب الجمع لأنه على صورته وإن صار مفرداً كقنسرين من حيث إنه جعل علماً لديوان الخير الذي فيه أعمال الملائكة وصلحاء الثقلين ، إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة ، وإما لأنه مرفوع من السماء السابعة حيث يحضره الملائكة المقربون .
وقال مقاتل : هو في ساق العرش .
وعن ابن عباس : هو لوح من زبرجد معلق تحت العرش .
وبالجملة كتاب الأبرار ضد كتاب الفجار بجميع معانية كما عرفت من بقية حال الأبرار .
ومفعول ) ينظرون ( محذوف ليشمل أنواع نعيمهم في الجنة من الحور العين والأطعمة والأشربة والملابس والمراكب والمساكن وكل ما أعدّ الله لهم .
قال عليه السلام ( يلحظ المؤمن فيحيط بكل ما آتاه الله وإن أدناهم منزلة من له مثل سعة الدنيا ) وقال مقالت : ينظرون إلى عدوّهم حين يعذبون ولا يحجب الحجاب أبصارهم عن الإدراك الحجاب أبصارهم عن الإدراك .
وقال بعضهم : ينظرون إلى الله تعالى بدليل قوله ) تعرف ( يا من له أهل العرفان ) في وجوههم نضرة ( وقوله في موضع آخر ) وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) [ القيامة : 22 ، 23 ] ولا ريب أن هناك قرائن وأحوالاً تعرف بها بهجتهم وازدهاؤهم بالضحك والاستبشار بل بتجلي الأنوار والآثار .
والرحيق الخمر الصافية التي لا غش فيها ) مختوم ( أوانيه ) ختامه ( أي ما يختم به ) مسك ( مكان الطينة أو الشمعة .
وإنما ختم تكريماً وصيانة على ما جرت به العادة فكأنها أشرف من الخمر الجارية في أنهارها من الجنة .
وقيل : ختامه أي مقطعه رائحة المشك إذا شرب .
وهذا قول علقمة والضحاك وسعيد بن جبير ومقاتل وقتادة .
قال الفراء : الختام آخر كل شيء ومنه يقال : ختمت القرآن ، والأعمال بخواتيمها ، والخاتم مثله وأنت خاتم النبيين والتركيب يدل على القطع والانتهاء بجميع معانيه .
عن أبي الدرداء مرفوعاً : هو شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شربهم ، لو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد ريحه الطيبة .
قال بعضهم : مزج الخمر بالأدوية الحارة مما يعين على الهضم وتقوية الشهوة ، فلعل فيه إشارة إلى قوة شهوتهم وصحة أبدانهم .
ثم رغب في العمل الموجب لهذا الكرامة قائلاً ) وفي ذلك فيتنافس المتنافسون ( فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله .
قال أهل اللغة : نفست لعيه الشيء نفاسة إذا ضننت به وأن لا تحب أن يصير إليه ، والتنافس تفاعل منه فإن كل واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به لما يظهر من نفسه من الجد والاعتمال في الطاعة والعبودية .
والجملة معترضة ، وفي تقديم الجار إشارة إلى أن بعينها في الجنة من سنمه إذا رفعه لأنها أرفع شراب هناك ، ولأنها تأتيهم من فوق على ما(6/466)
" صفحة رقم 467 "
روي أنها تجري في الهواء متسمنة فتصب في أوانيهم ، أو لأنها لكثرة مائها تعلو على كل شيء تمرّ به ، أو يرى فيها ارتفاع وانخفاض .
والتركيب يدل على الارتفاع ومنه سنام البعير عن ابن عباس : أشرف شراب أهل الجنة هو التسنيم فالمقرّبون يشربونها صرفاً وتمزج لأصحاب اليمين .
فقال بعض اهل العرفان : وذلك أن المقرّبين السابقين لا يشتغلون إلا بمطالعة وجه الله الكريم ، وأما أهل اليمين فإنه يكون شرابهم ممزوجاً لأن نظرهم تارة إلى الله وتارة إلى الخلق .
ثم حكى قبائح أفعال الكافرين على أن التكلم واقع في يوم القيامة بدليل قوله عقيبه ) فاليوم ( قال المفسرون : هم مشركو مكة أبو جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما ، كانوا يضحكون منعمار وصهيب وبال وغيرهم من فقراء المؤمنين .
وقيل : جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه فنزلت هذه الآي قبل أن يصل علي كرم الله وجهه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
والتغامز تفاعل من الغمز وهو الإشارة بالعين أو الحاجب أو الشفة ، وأكثر ذلك إنما يكون على سبيل الخبث .
ومعنى ) فكهين ( متلذذين بذكرهم والسخرية منهم .
قوله ) وما أرسلوا ( حال معترضة إنكاراً من الله عليهم وتهكماً بهم أي ينسبون المسلمين إلى الضلال والحال أنهم لم يرسلوا على المسلمين موكلين بهم حافظين عليهم أحوالهم .
وجوز في الكشاف أن تكون المنفية من جملة قول الكفار فيكون إنكاراً لصدّهم إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام .
قلت : لو كان من جملة قولهم لكان الظاهر أن يقال : وما أرسلوا أي المسلمون علينا .
يروى أنه يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم : اخرجوا إليها .
فإذا وصلوا إليها أغلق الباب دونهم يفعل ذلك بهم مراراً فيضحك المؤمنون منهم ناظرين إليهم على الأرائك .
ولا يخفى ما في هذا الإخبار والحكاية من تسلية المؤمنين وتثبيتهم على الإسلام والتصبر على متاعب التكاليف وأذية الأعداءفي أيام معدودة لنيل ثواب لا نهاية له ولا غاية .
قال المبرد : ثوّب وأثاب بمعنى ، وقد تستعمل الإثابة في الشر كالمجازاة ، ويجوز أن يراد التهكم نحو ) فبشرهم بعذاب ) [ آل عمران : 21 ] وفي هذا القول مزيد غيظ وتوبيخ للكافرين ونوع سرور وتنفيس للمؤمنين .
ويحتمل أن يكون الاستفهام للتقرير أي هل قدرنا على الإثابة نحو ) فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ) [ الأعراف : 44 ](6/467)
" صفحة رقم 468 "
سورة الانشقاق
( سورة الانشقاق مكية حروفها أربعمائة وأربعون كلمها مائة وسبع كلمات آياتها خمسة وعشرون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الإنشقاق : ( 1 - 25 ) إذا السماء انشقت
" إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور بلى إن ربه كان به بصيرا فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبق فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا يكذبون والله أعلم بما يوعون فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون " ( القراآت ) ويصلى ( ثلاثياً مفتوح العين مبنياً للفاعل : أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وحمزة وعاصم وخلف .
الباقون ) يصلى ( بالتشديد مبنياً للمفعول ) لتركبن ( بفتح الباء للتوحيد والخطاب للإنسان : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف .
الآخرون : بالضم على خطاب افراد الجنس .
الوقوف ) انشقت ( ه لا ) وحقت ( ه ك ) مدّت ( ه ك ) وتخلت ( ه ك ) وحقت ( ه ط لأن الجواب محذوف أي إذا كانت هذه الأمارات ظهر ما ظهر ) فملاقيه ( ه ط وقد يقال عامل ( إذا ) ) فملاقيه ( أي إذا السماء انشقت لاقى كدحه فلا وقف إلى قوله ) فملاقيه ( وقيل : قوله ) فأما من أوتي ( الشرط مع جوابه جواب للشرط الأول ، وقوله ( يأيها الإنسان ( إلى قوله ) فملاقيه ( اعترض ولا وقف على ) بيمينه ( ) يسيراً ( ه ك ) مسروراً ( ه ط ) ظهره ( ه لا ) ثبوراً ( ه لا ) سعيراً ( ه ط ) مسروراً ( ه ) يحور ( ه لا ) بلى ( ج لجواز تعلق بلى بما قبله وبما بعده ) بصيراً ( ه ط للإبتداء بالقسم ) بالشفق ( ه لا ) وسق ( ه لا ) اتسق ( ه لا ) طبق ( ه ك ) لا يؤمون ( ه ك ) لا يسجدون ( ه ط(6/468)
" صفحة رقم 469 "
) يكذبون ( ه ز للآية والوصل أوجب لأن الواو للحال ) يوعون ( ه ز لفاء التعقيب ) أليم ( ه لا ) ممنون ( ه .
التفسير : عن علي رضي الله عنه أن السماء تنشق من المجرّة .
ومعنى ) أذنت لربها ( استمعت له ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن ) والمراد أنها لم تمتنع عن قبول ما أريد بها من الإنشقاق والانفطار فعل المأمور والمطواع الذي أصغى لحديث آمره ) وحقت ( بذلك لأن الممكن لا بدّ له أن يقع تحت قدرة الواجب لذاته .
ومدّ الأرض تسوية جبالها وآكامها بحيث لا يبقى فيها عوج .
عن ابن عباس : مدّت مدّ الأديم العكاظي لأن الأديم إذا مدّ زال ما فيه من الانثناء واستوى .
وقيل : من مدّه بمعنى أمدّه أي زيد في سعتها أو بسطتها ليمكن وقوف الخلائق الأوّلين والآخرين عليها ) وألقت ما فيها ( أي رمت بما في جوفها من الكنوز والأموات ) وتخلت ( أي خلت غاية الخلو كأنها تكلفت أقصى ما يمكنها من الفراغ .
وقوله ( وأذنت لربها وحقت ( ليس بمكرر لأن الأوّل في السماء وهذا في الأرض وحذف جواب ( إذا ) ليذهب الوهم كل مذهب ، أو اكتفاء بما مر في سورتي ( التكوير ) و ( الانفطار ). وقيل : في الكلام تقديم وتأخير .
والمعنى ) يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ( إذا السماء انشقت ، والأقرب أن الإنسان للجنس بدليل التفصيل بعده .
وقيل : هو رجل بعينه إما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى إنك تكدح في تبليغ رسالات الله فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل ، وأما أمية بن خلف وإنه يجتهد في إيذاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قاله ابن عباس .
والكدح جهد النفس في العمل حتى تأثرت من كدحت جلده إذا خدشته أي جاهد إلى وقت لقاء ربك وهو الموت وما بعده .
وفيه أن الدنيا دار عناء وتعب ولا راحة ولا فرح فيها .
والضمير في قوله ) فملاقيه ( للرب أي فملاق له ألبتة فهو كالتأكيد للمذكور ، ويجوز أن يكون للكدح أي لجزائه يؤيده التفصيل الذي بعده .
عن عائشة ان الحساب اليسير هو أن يعرّف ذنوبه ثم يتجاوز عنه .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من يحاسب يعذب فقيل : يا رسول الله ) فسوف يحاسب حساباً يسيراً ( قال : ذلكم العرضمن نوقش في الحساب عذب ) أقول ) سوف ( من الكريم إطماع فيمكن أن تكون الفائدة في إيراده أن يكون(6/469)
" صفحة رقم 470 "
المؤمن على ثقة واطمئنان بالوعد ، ويمكن أن يكون إشارة إلى طول الامتداد بين مواقف ذلك اليوم ) وينقلب إلى اهله ( من الحور العين في الجنة أو إلى قرنائه من المؤمنين أو إلى عشيرته كقوله ) جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّياتهم ) [ الرعد : 23 ] ومعنى ) وراء ظهره ( أن تغل يمناه إلى عنقه ويجعل شماله وراء ظهره ويؤتى كتابه بشماله ومن وراء ظهره .
وقيل : تخلع يده اليسرى من وراء ظهره .
وقيل : تجعل وجوههم إلى خلف فيكون الكتاب قد أوتي من جانب ظهره ولكن بشماله كما في ( الحاقة ) .
والوراء ههنا بمعنى مجرد الجانب ، أو معنى قدام .
والثبور الهلاك ودعاؤه أن يقول : واثبوراه ( وسمي المواطأة على الشيء مثابرة على الشيء مثابرة لأنه كأنه يريد أن يهلك نفسه في طلبه والنفس تمنعه عن ذلك أنه كان أي في الدنيا مسروراً في أهله كقوله ) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ) [ المطففين : 31 ] وفيه أن الفرح في الدنيا يعقب الغم في الآخرة لقوله ) فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً ) [ التوبة : 82 ] ومن كان في الدنيا حزيناً متفكراً في أمر الآخرة كان حاله في الآخرة بالعكس .
والفرح المنهي عنه ما يتولد من البطر والترفه لا الذي يكون من الرضا بالقضاء ومن حصول بعض الكمالات والفضائل النفسية لقوله ) قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) [ يونس : 58 ] ثم بين أن سروره إنما كان لأجل أن البعث والنشور لم يكن محققاً عنده فقال ) إنه ظنّ أن لن يحور ( أي أن يرجع إلى اله أو إلى خلاف حاله من السرور والتنعيم .
عن ابن عباس : ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنت لها : حوري أي ارجعي .
ثم نفى منطوقه بقوله ) بلى ( أي بلى يحور .
وفي قوله ) إن ربه كان بصيراً ( إشارة إلى أن العلم التام بأحوال المكلفين يوجب إيصال الجزاء إليهم ، فلا بد من دار سوى دار التكليف وإلا كان قدحاً في القدرة والحكمة .
قال الكلبي : ( كان به بصيراً ( من يوم خلقه إلى أن بعثه .
وقال عطاء : بصيراً بما سبق عليه في أم الكتاب من الشقاء ثم أكد وقوع القيامة وما يتبعها من الأهوال بقوله ) فلا أقسم بالشفق ( وهو الحمرة الباقية من آثار الشمس في الفق الغربي قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل .
وعن الفراء : سمعت بعض العرب يقول : عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمر .
وعن أبي حنيفة في إحدى الروايتين أنه البياض ، وأنه روى أنه رجع عنه لأن البياض يمتد وقته فلا يصلح للتوقيت ، ولأن التركيب يدل على الرقة ومنه الشفق ههنا النهار لما في النور من الرقة واللطافة كما أن في الظلمات الغلظ والكثافة ، لأن القسم بالنهار يناسب القسم بالليل في قوله ) والليل وما وسق ( والتركيب يدل على الاجتماع والضم ومنه الوسق لأنه جامع لستين صاعاً .
واستوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت ، وقد وسقها الراعي أي جمعها ونظيره في وقوع )(6/470)
" صفحة رقم 471 "
افتعل ( و ) استفعل ( مطاوعين لفعل ) اتسع ( و ) استوسع ( .
أقسم الله سبحانه بجميع ما ضمه الليل وآواه وستره من النجوم والدواب وغيرها .
ويمكن أن يكون من جملته أعمال العباد الصالحين .
ثم أقسم بالقمر إذا اتسق أي اجتمع نوره وتكامل كما يقال ( أمور فلان متسقة ) أي مجتمعة على الصلاح كما يقال منتظمة .
والطبق ما يطابق غيره ومنه قيل للغطاء ( الطبق ) ثم قيل للحال المطابقة لغيرها طبق .
وقوله ( عن طبق ( حال من فاعل ) لتركبن ( أو صفة أي طبقاً مجاوزاً لطبق ، ف ( عن ) تفيد البعد والمجاوزة أي حالاً بعد حال ، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول .
وجوز أن يكون جمع طبقة أي أحوالاً بعد أحوال هي طبقات في الشدّة ، فبعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من أهوال القيامة كأنهم لما انكروا البعث أقسم الله سبحانه أن ذلك كائن وأن الناس يلقون بعدالموت شدائد متنوّعة وأحوالاً مترتبة حتى يتبين السعيد من الشقي والمحسن من المسيء .
وقيل : لتركبن سنة الأولين من المكذبين المهلكين .
عن مكحول : كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه. والركوب على هذه التفاسير مجاز عن الحصول على تلك الحالة .
وقد يقال على قراءة فتح الباء : إنها صيغة الغائبة والضمير للسماء وأحوالها المختلفة انشقاقها ثم انفطارها ، ولعل هذا كمال الانحراف ثم صيرورتها وردة كالدهان أو كالمهل وهذا القول مناسب لأول السورة وهو مرويّ عن ابن مسعود .
وقيل : الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد أعباء الرسالة وأنه يجب عليه أن يتلقاه بالصبر والتحمل إلى أوان الظفر والغلبة كقوله ) لتبلوّن في أموالكم وأنفسكم ) [ آل عمران : 86 ] وعن ابن عباس وابن مسعود أن المراد حديث الإسراء وأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ركب أطبقا السماء .
وبين القسم والمقسم عليه مناسبة لأنه أقسم بتغيرات واقعة في الأفلاك والعناصر على صحة إيجاد سائر التغايير من أحوال القيامة وغيرها ، ولا شك أن القادر على بعض التغايير المعتبرة قادر على أمثالها فلا جرم قال على سبيل الاستبعاد ) فما لهم لا يؤمنون ( وتأويل الآية أن النفس إذا استغرقت في بعض المجهولات التصورية والتصديقية كان المناسبة شبيهة بالشمس الغاربة ، فإذا أقبلت على تحصيل قضية من تلك القضايا المجهولة مثلاً تجلى عليها نور من النفس يترجح به عندها أحد طرفي النقيض على الآخر ، لكن ما لم تكن جازمة فذلك النور كالشفق بالنسبة إلى ضياء الشمس ، ثم إذا سبحت في لجة المعلومات لها طالبة للحد الأوسط عرضت هناك شبهة شبيهة بالليل وما وسقه ، فإذا حصل الحدّ الأوسط بالتحقيق وانتقل الذهن منه إلى النتيجة الحقة صارت المسألة كالبدر التم وهو المستفاد ضوءه من النفس الناطقة القدسية التي يكاد زيتها يضيء ولو ولو لم تمسسه نار .
و ) طبقاً عن طبق ( هي مراتب العلوم النظرية من(6/471)
" صفحة رقم 472 "
أوّل بدايتها وهي كونها عقلاً هيولانياً إلى نهايتها وهي كونها عقلاً مستفاداً فكأنه سبحانه اقسم بأحوال المعلومات المستخلصة على إمكان حصول العلم بها .
ثم وبخهم على أنهم لا ينظرون في الدلائل حتى يورثهم الإيمان والسجود عند تلاوة القرآن .
وقوله ( لا يؤمنون ( و ) لا يسجدون ( في موضع الحال والعامل معنى الفعل في ) فما لهم ( عن ابن عباس ، عباس والحسن وعطاء والكسائي ومقاتل : المراد من السجود ههنا الصلاة .
وقال أبو مسلم وغيره : أراد به الخضوع والاستكانة .
والأكثرون على أنه السجود نفسه .
ثم اختلفوا فعن أبي حنيفة وجوبه لأنه ذمهم على الترك .
وعن الحسن وهو قول الشافعي أنه ستة كسائر سجدات التلاوة عنده .
ثم بين بقوله ) بل الذين كفروا يكذبون ( أن الدلائل الموجبة للإيمان وتوابعه وإن كانت جلية ظاهرة لكن الكفار يكذبون بها تقليداً للأسلاف أو عناداً .
ثم أجمل وعيدهم بقوله ) واله أعلم بما يوعدون ( أي يجمعون ويضمرون في صدورهم من الشرك والعناد وسائر العقائد الفاسدة والنيات الخبيثة فهو يجازيهم على ذلك .
وقيل : بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء .
ثم صرح بالوعيد قائلاً ) فبشرهم ( وقوله ( إلا الذين آمنوا ( استثناء منقطع عند الزمخشري ولا بأس بكونه متصلاً كأنه قال : إلا من آمن منهم فله أجر غير مقطوع أو هز من المنة ، بني الكلام ههنا على الاستئناف فلم يحتج إلى الفاء ، وعلى التعقيب في التين فأورد الفاء والاستئناف أجمع مقدّمة .(6/472)
" صفحة رقم 473 "
سورة البروج
( سورة البروج مكية حروفها أربعمائة وثمانية وخمسون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( البروج : ( 1 - 22 ) والسماء ذات البروج
" والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " ( القراآت ) المجيد ( بالجر صفة للعرش : حمزة وعلي وخلف والمفضل .
الآخرون : بالرفع خبراً بعد خبر ) محفوظ ( بالرفع صفة للقرآن : نافع .
الوقوف ) البروج ( ه لا ) ألموعود ( ه ) ومشهود ( ه ط بناء على أن جواب القسم محذوف وأن معنى قتل لعن وأصحاب الأخدود هم أهل الظلم ، وإن جعل قتل بمعناه الأصلي وأصحاب الأخدود هم المظلومون صح جواباً للقسم بتقدير : لقد قتل ولا وقف على ) الأخدود ( لأن الانر بدل اشتمال منه ) الوقود ( ه لا ) قعود ( ه لا ) شهود ( ه ط ) الحميد ( ه لا ) والأرض ( ط ) شهيد ( ه ط ) الحريق ( ه ط ) الأنهار ( ط ) الكبير ( ه ط إلا لمن جعل ) إن بطش ربك ( جواباً للقسم وسائر الوقوف ههنا لا بد منها لطول الكلام ) لشديد ( ه ك ) ويعيد ( ه ج لاختلاف الجملتين ) الودود ( ه لا ) المجيد ( ه لا ) يريد ( ه ج لابتداء الاستفهام ) الجنود ( ه لا لأن ما بعده بدل ) وثمود ( ه ط للإضراب ) تكذيب ( ه لا لأن الواو للحال ) محيط ( ه ج ) مجيد ( ه لا ) محفوظ ( ه .(6/473)
" صفحة رقم 474 "
التفسير : لما أخبر في خاتمة السورة المتقدمة أن في الأمة مكذبين سلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بأن سائر الأمم السالفة كانوا كذلك كاصحاب الأخدود وكفرعون وثمود .
أما البروج فأشهر الأقوال أنها الأقسام الاثنا عشر من الفلك الحمل والثور إلى آخرها .
وإنما أقسم بها لشرفها حيث نيط تغيرات العالم السفلي بحلول الكواكب فيها .
وقيل : هي منازل القمر الثمانية والعشرون .
وقيل : وقت انشقاق السماء وانفطارها وبطلان بروجها .
أما الشاهد والمشهود فأقوال المفسرين فيهما كثيرة ، وقد ضبطها القفال بأن اشتقاقهما إما من الشهود الحضور ، وإما من الشهادة والصلة محذوف أي مشهود عليه أو به .
والاحتمال الأول فيه وجوه الأول : وهو مروي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد والحسن بن عليّ وابن المسيب والنخعي والثوري ، أن المشهود يوم القيامة والشاهد الجمع الذي يحضرون فيه من الملائكة والثقلين الأولين والآخرين لقوله ) من مشهد يوم عظيم ) [ مريم : 37 ] ( ذلك ( ) يوم مجموع له الناس ) [ هود : 103 ] قال جار الله : وطريق تنكيرهما ما مرّ في قوله ) علمت نفس ما أحضرت ) [ التكوير : 14 ] كأنه قيل : وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود .
ويجوز أن يكون للتعظيم أي شاهد ومشهود لا يكتنه وضفهما .
وإنما حسن القسم بيوم القيامة لأنه يوم الفصل والجزاء وتفرد الله بالحكم والقضاء .
الثاني وهو قول ابن عمر وابن الزبير أن المشهود يوم الجمعة وأن الشاهد الملائكة .
روى أبو الدرداء أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة ) الثالث أنّه يوم عرفة والشاهد من يحضرة من الحجاج ققال الله تعالى ) يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ) [ الحج : 27 ] وحسن القسم به تعظيماً لأمر الحج .
يروى أنه تعالى يقول للملائكة يوم عرفة ( انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً أتوين من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم وأن إبليس يصرخ ويضع التراب على رأسه لما يرى يف ذلك اليوم من نزول الرحمة ) الرافع أنه يوم النحر لان أهل الدنيا يحضرون في ذلك اليوم بمنى والمزدلفة .
الخامس أنهما كل يوم فيه اجتماع عظيم للناس فيتناول الأقوال المذكورة كلها ، والدليل عليه تنكيرهما لأن القصد لم يكن فيه إلى يوم بعينه .
والاحتمال الثان فيه أيضاً وجوه أحدها : أن الشاهد هو الله تعال والمشهود به هو التوحيد لقوله ) شهد الله أنه لا إله إلا هو ) [ آل عمران : 18 ] وثانيها الشاهد هو الأنبياء والمشهود عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لقوله ) فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ) [ النساء : 41 ] وثالثها العكس لقوله ) وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) [ النساء : 41 ] ورابعها الشاهد الحفظة والمشهود عليه المكلفون لقوله ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ) [ ق : 21 ] ( وإن(6/474)
" صفحة رقم 475 "
عليكم لحافظين ) [ الانفطار : 11 ] وخامسها وهو قول عطاء الخراساني : الشاهد الجوارح والمشهود عليه الإنسان ) يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ) [ النور : 24 ] وسادسها الشاهد والمشهود عيسى وأمته كقوله ) وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ) [ المائدة : 117 ] وسابعها أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وسائر الأمم ) وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا والمشهود له واجب الوجود أخذاً من قول الأصوليين إنه استدلال بالشاهد على الغائب .
وتاسعها الحجر الأسود والحجيج للحديث ( الحجر الأوسد يمين الله في أرضه يؤتى به يوم القيامة له عينان يبصر بهما يشهد على من زاره ) أو لفظ هذا معناه .
وعاشرها الأيام والليالي وأعمال بني آدم كما روي عن الحسن : ما من يوم إلا وينادي إني يوم جديد وإني على ما تعمل فيّ شهيد .
أما جواب القسم فعن الأخفش أنه ) قتل ( واللام مقدّر والكلام على التقديم والتأخير أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج .
وعن ابن مسعود وقتادة واختاره الزجاج أن الجواب هو قوله ) إن بطش ربك لشديد ( وقيل : إن الذين فتنوا وما بينهما اعتراض .
واختار الزمخشري وطائفة من المتقدمين أنه محذوف .
ثم اختلفوا فقال المتقدمون : المحذوف هو إن الأمر حق في الجزاء على الأعمال .
وقال في الكشاف : هو ما دل عليه قتل فكأنه أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود ، وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم من التعذيب على الإيمان حةى يقتدوا بهم ويصبروا على أذى قومهم ويعلموا أن كفارهم أحقاء بأن يقال فيهم قتلت قريش ، أي لعنوا كما قتل أصحاب الأخدود وهو الخد أي الشق في الأرض يحفر مستطيلاً ونحوهما بناء .
ومعنى الخق والأخقوف بالخاء الفوقانية منه الحديث ( فساخت قوائمة ي أخاقيق جرذان ) عني به فرس سراقة حين تبع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد خروجه من الغار .
والمعتمد من قصص أصحاب الأخدود ما جاء في الصحاح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان لبعض الملوك ساحر ، فلما كبر ضم إليه غلاماً ليعلمه السحر .
وكان في طريق الغلام راهب يتكلم بالمواعظ لأجل الناس ، فمال قلب الغلام إلى حديثه .
فرأى في طريقه ذات يوم دابة أوحية قد حبست الناس فأخذ حجراً فقال : اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها بهذا الحجر فقتلها .
وكان الغلام بعد ذلك يتعلم من الراهب إلى أن صار بحيث يبرىء الأكمه والأبرص ويشفي من الداء ، وعمي جليس للملك فأبراه فأبصره الملك فسأله : من ردّ عليك بصرك ؟ فقال : ربي .
فغضب فعذبه فدل على الغلام ، فعذب الغلام حتى دل(6/475)
" صفحة رقم 476 "
على الراهب ، فلم يرجع الراهب عن دينه فقدّ بالمنشار ، وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا ، فذهبوا به إلى قرقور وهي سفينة صغيرة فلججوا به ليغرقوه فدعا فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا .
قوال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذ وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول : بسم الله رب الغلام .
ثم ترميني به فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات فقال الناس : آمنا برب الغلام .
فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر فأمر بأخاديد في أفواه السكك ، وأوقدت فيها النيرات فنم لم يرجع منهم طرحه فيها ، حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي : يا أماه اصبري فإنك على الحق ، وما هي إلا غميضة فصبرت واقتحمت .
وعن علي رضي الله عنه أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس ، وكان بعض ملوكهم أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم ، وكانت الخمر قد أحلت لهم فتناولها فسكر فوقع على أخته ، فلما صحا ندم وطلب المخرج فقال : إن المخرج أن تخطب الناس فتقول : إن الله عز وجل أحل لكم نكاح الأخوات ثم تخطبهم إن الله حرمه .
فخطب فلم يقبلوا منه قالت له : ابسط فيهم السوط فلم يقبلوا .
فقالت : ابسط فيهم السيف فلم يقبلوا .
فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها .
وقيل : وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير ، فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثني عشر ألفاً في الأخاديد .
وقيل : سبعين ألفاً .
وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعاً وعرضه اثنا عشر وقد أشار سبحانه إلى عظم النار إشارة مجملة بقوله ) ذات الوقود ( أي لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس .
وهذه الروايات لا تعارض بينها ولا منافاة فيحتمل أن يكون الكل واقعاً والمجموع مراد الله أو بعضه هو أعلم به .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان إذا وصل إلأى ذكر أصحاب الأخدود قال : نعوذ بالله من جهد البلاء .
و ) إذ ( ظرف لقتل و ) هم ( عائد إلى الأصحاب و ) قعود ( جمع قاعد فإن كانوا مقتولين فمعنى قعودهم على النار إما أن يكون هو أن طرحوا عليها وقعدوا حواليها للإحراق وذلك أنهم كانوا يعرضون المؤمنين على النار فكل من ترك دينه تركوه ومن صبر على دينه ألقوه في النار ، وإما أن يكون ( على ) بمعنى ( عند ) كقوله ) ولهم عليّ ذنب ( أي عندي فالمراد بالقتل على هذا التفسير اللعن ويعضده قوله ) وهم ( أي الظالمون ) على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ( أي حضور ، وفيه وصفهم بقسوة القلب ، ووصف المؤمنين بالصلابة في دينهم حيث لم يلتفتوا إليهم وبقوا مصرين عل الحق ، أو هو من الشهادة والمعنى أنهم(6/476)
" صفحة رقم 477 "
وكلوا بذلك وجعلوا شهوداً يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحداً منهم لم يفرط فيما أمر به من التعذيب ، ويجوز أن يراد شهادة جوارحهم على ذلك يوم القيامة .
ثم ذم أولئك الجبابرة بما في ضمنه مدح المؤمنين قائلاً ) وما نقموا منه ( أي وما عابوا وما أنكروا عليهم ) إلا أن يؤمنوا ( وإنما اختير بناء الاستقبال رمزاً إلى أنهم كانوا يطلبون منهم ترك الإيمان في المستقبل ولم يعذبوهم على الإيمان في الماضي أي عذبوهم على ثباتهم وصبرهم على إيمانهم بمن يستحق أن يؤمنوا به لكونه إلهاً قادراً لا يغالب بليغاً في الكمال بحيث استأهل الحمد كله مالكاً لجميع المخلوقات .
وفيه إشارة إلى أنه لو شاء لمنعهم عن ذلك التعذيب لكنه أخرهم إلى يوم الجزاء ودل عليه بقوله ) والله على كل شيء شهيد ( ثم عم الوعيد في آيتين أخريين والفتنة البلاء والإيذاء والإحراق .
وفي قوله ) ثم لم يتوبوا ( دلالة على أن توبة القاتل عمداً مقبولة خلاف ما يروى عن ابن عباس .
وعذاب جهنم وعذاب الحريق أما متلازمان كقوله :
إلى الملك القرم
وابن الهمام
والغرض التأكيد وإما مختلفان في الدركة : الأول لكفرهم ، والثاني لأنهم فتنوا أهل الإيمان .
وجوز أن يكون الحريق في الدنيا لما روي أن النار انقلبت عليهم فاحترقتهم .
ثم رغب ورهب بوجه آخر في آيات والبطش الأخذ بالعنف فإيذا وصف بالشدّة كان نهاية .
ثم أكده بقوله ) إنه هو يبدىء ( البطش ) ويعيد ( أي يبطش بالجبابرة في الدنيا والآخرة .
ويجوز أن يدل باقتداره على الإبداء والإعادة على شدّة بطشه وقوته .
وفيه وعيد للكفرة بأنه يعيدهم كما بدأهم ليبطش بهم إذ كفروا بنعمة الإبداء وكذوبا بالإعادة .
قال ابن عباس : إن أهل جهنم تأكلهم النار حتى يصيروا فحماً ثم يعيدهم خلقاً جديداً فذلك قوله ) هو يبدىء ويعيد ( والودود بليغ الودادة والمراد به إيصال الثواب لأهل طاعته إلى الوجه الأتم فيكون كقوله ) ويحبهم ) [ المائدة : 54 ] وإن شئت قلت : هو بمعنى مفعول فيكون كقوله ) ويحبونه ) [ المائدة : 54 ] وقال القفال : ويكون بمعنى الحليم من قولهم ( فرس ودود ) وهو المطيع القياد .
قال في الكشاف ) فعال ( خبر مبتدأ محذوف .
قلت : الأصل عدم الإضمار فالأولى أن يكون خبراً آخر بعد الأخبار السابقة ، ولعله حمله على ذلك كونه نكرة وما قبله معارف والعذر عنه من وجهين : أحدهما قطع النسق بقوله ) ذو العرش ( ولا سيما عند من يجوّز ) المجيد ( صفة العرش .
والثاني تخصيص ) فعال لما يريد ( فإنه صيره مضارعاً لملضاف .
قال : وإنما قيل ) فعال ( لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة .
قلت : ويجوز أن يكون المعنى أن ما يريده فإنهي فعله ألبتة لا يصرفه عنه صارف .
ثم ذكرهم وسلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بقصة ) فرعون وثمود ( من(6/477)
" صفحة رقم 478 "
متأخري الكفار ومتقدميهم ، والمراد بفرعون هو وجنوده .
ثم أضرب عن التذكير إلى التصريح بتكذيب كفار قريش والتنبيه على أنه محيط أي عالم بهم فيجازيهم ، ويجوز أن يكون مثلاً لغاية اقتداره عليهم وأنهم في قبضة حكمه كالمحاط إذا أحيط به من روائه فسدّ عليه مسلكه بحيث لا يجد مهرباً .
ويجوز أن تكون الإحاطة بمعنى الإهلاك ) وظنوا أنهم أحيط بهم ) [ يونس : 22 ] ثم سلى رسول ( صلى الله عليه وسلم ) بوجه آخر وهو أن هذا القرآن الذي كذبوا به شريف الرتبة في نظمه وأسلوبه حتى بلغ حد الأعجاز وهو مصون عن التغيير والتحريف بقوله ) وإنا له لحافظون ) [ الحجر : 9 ] قال بعض المتكلمين : اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرأونه وأمثال هذه الحقائق مما يجب به التصديق سمعا الله حسبي .(6/478)
" صفحة رقم 479 "
سورة الطارق
( سورة الطارق مكية حروفها مائتان وأحد وتسعون كلمها اثنتان وسبعون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الطارق : ( 1 - 17 ) والسماء والطارق
" والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب إن كل نفس لما عليها حافظ فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع إنه لقول فصل وما هو بالهزل إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا "
( القراآت )
لما ( بالتشديد : ابن عامر وعاصم وحمزة ويزيد .
الوقوف ) الطارق ( ه لا ) الطارق ( ه ك ) الثاقب ( ه ك ) حافظ ( ه ط ) مم خلق ( ه ط للفصل بين الاستخبار والإخبار ) دافق ( ه لا ) والترائب ( ه ط ) لقادر ( ه ك بناء على أن الظرف مفعول ( اذكر ) ومن جعل ) يوم ( ظرفاً للرجع وهو أولى لم يقف ) السرائر ( ه لا ) ولا ناصر ( ه ط ) الرجع ( ه ) الصدع ( ه ك ) فصل ( ه ك ) بالهزل ( ه ط ) كيداً ( ه لا ) كيداً ( ج ه ) رويداً ( ه .
التفسير : إنه سبحانه أكثر في كتابه الكريم الأقسام بالسمويات لأن أحوالها في مطالعها ومغاربها ومسيراتها عجيبة .
أما الطارق فهو كل ما ينزل بالليل ولهذا جاء في الحديث التعوّذ من طوارق الليل .
وذكر طروق الخيال في اشعار العرب كثير لأن تلك الحالة تحصل فيد الأغلب ليلاً ، وقد نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأتي الرجل أهله طروقاً .
ثم إنه تعالى بين أنه أراد بالطارق في الآية ) النجم الثاقب ( أي هو طارق عظيم الشأن رفيع القدر وهو جنس النجم الذي يهتدى به في ظلمات البحر والبر .
قال علماء اللغة : سمي ثاقباً لأنه يثقب الظلام بضوئه كما سمي درياً لأن يدرأوه أي يدفعه ، أو لأنه يطلع من المشرق نافذاً في الهواء كالشيء الذي يثقب الشيء ، أو لأنه إذا رمي به الشيطان ثقبه أي نفذ فيه وأحرقه .
وقد خصه(6/479)
" صفحة رقم 480 "
بعضهم بزحل لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات .
وقال ابن زيد : هو الثريا .
وروى أن أبا طالب أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأتحفه بخبز ولبن ، فبينما هو جالس يأكل إذا انحط نجم فامتلأ ما ثم نوراً ففزع أبو طالب وقال : أيّ شيء هذا ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله فعجب أبو طالب ونزلت السورة .
من قرأ ) لما ( مشدّدة بمعنى ( إلا ) ف ( إن ) نافية .
ومن قرأها مخففة على أن ( ما ) صلة كالتي في قوله ) فبما رحمة ) [ آل عمران : 159 ] ف ( إن ) مخففة من المثقلة .
والآية على التقديرين جواب القسم .
والحافظ هو الله أو الملك الذي يحصي أعمال العباد كقوله ) وإن عليكم لحافظين ) [ الأنفطار : 10 ] أو الذي يحفظ الإنسان من المكاره حتى يسلمه إلى القبر .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( وكل بالمؤمن مائة وستون ملكاً يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين ) أو الذي يحفظ عليه رزقه وأجله حتى يستوفيهما .
وحين ذكر أن على كل نفس حافظاً أتبعه بوصيته للإنسان بالنظر في مبدئه ومعاده .
والدفق صب فيه دفع ، ولا شك أن الصب فعل الشخص فهو من الإسناد المجازي أو على النسبة أي ماء ذي دفق كما مر في ) عيشة راضية ) [ الحاقة : 21 ] ومعنى خروجه من بين الصلب والترائب أن أكثره ينفصل من هذين الموضعين لإحاطتهما بسور البدن ، والذي ينفصل من اليدين ومن الدماغ المرأة ، ويحتمل أن وطالما أعطى للأكثر حكم الكل وهذا المعنى يشمل ماء الرجل وماء المرأة ، ويحتمل أن يقال : أريد به ماء الرجل فقط إما بناء على حكم التغليب وإما بناء على مذهب من لايرى للمرأة ماء ولا سيما دافقاً .
وذهب جم غفير إلى أن الذي يخرج من بين الصلب ومادّته من النخاع الآتي من الدماغ هو ماء الرجل ، والذي يخرج من الترائب وهي عظام الصدر الواحدة تريبة هو ماء المرأة .
وإنما لم يقل من ماءين لاختلاطهما في الرحمن واتحادهما عند ابتداء خلق الجنين .
وقد يقال : العظم والعصب من ماء الزجل ، واللحم والدم من ماء المرأة ، وقد ورد في الخبر أن أيّ الماءين علا وغلب فإن الشبه يكون منه .
ثم بين قدرته على الإعادة بقوله ) إنه على رجعه ( أي على إعادة الإنسان ) لقادر ( يعني بعد ثبوت قدرته على تكوين الإنسان ابتداء من نطفة حقيرة وجب الحكم بأنه قادرعلى رجعه .
وعن مجاهد أن الضمير في ) رجعه ( يعود إلى الماء والمراد إنه قادر على ردّ الماء إلى الإحليل .
وقيل : إلى الصلب والترائب وهذا قول عكرمة والضحاك .
وقال مقاتل بن حيان : إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصبا ، ومن الصبا إلى النطفة .
والقول هو الأول بدليل قوله ) يوم تبلى السرائر ( أي يمتحن ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وما أخفى من الأعمال الحسنة أو القبيحة ، وحقيقة البلاء في حقه تعال ترجع إلى الكشف والإظهار كقوله ) ونبلو أخباركم ) [ محمد : 31 ] ويحتمل أن يعود البلاء إلى المكلف كقوله ) هنالك تبلو(6/480)
" صفحة رقم 481 "
كل نفس ما أسلفت ) [ يونس : 30 ] ومثله قول ابن عمر : يبدي الله يوم القيامة كل سرّ منها فيكون زيناً في الوجوه وشيناً في الوجوه وشيناً في الوجوه .
يعني من أدّاها كان وجهه مشرقاً ومن ضيعها كان وجهه مغبراً .
ثم نفى القوة الذاتية والقوة العرضية الخارجية عن الإنسان يومئذ بقوله ) فما له من قوّة ولا ناصر ( ثم أكد حقية القرآن الذي فيه هذه البيانات الشافية والمواعظ الوافية فقال ) والسماء ذات الرجع ( اي المطر لأن الله يرجعه وقتاً فوقتاً على سبيل التفاؤل أو زعماً منهم أن السحاب يحمل الماء من البحاء ثم يرجعها إليها .
والصدع ما تتصدع عنه الأرض من النبات .
وقيل : الرجع الشمس والقمر يرجعان بعد مغيبهما ، والصدع الجبلان بينهما شق وطريق .
والضمير في ) إنه ( للقرآن والفصل الفاصل بين الحق والباطل كما قيل له ( فرقان ) وقال القفال : أراد إن هذا الذي أخبرتكم به من قدرتي على الرجع كقدرتي على الإبداء قول حق .
ثم أكد حقيته بقوله ) وما هو بالهزل ( لأن اليبان الفصل لا يذكر إلا على سبيل الجد والاهتمام بشأنه وأعلاها أن يكون خاشعاً باكياً كقوله ) إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً ) [ مريم : 58 ] ثم سلى نبيه وحثه على الصبر الجميل فقال ) إنهم ( يعنى أشراف مكة ) يكيدون كيداً ( في إطفاء نور الحق وذلك بإلقاء الشبهات والطعن في النبوّة والتشاور في قتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كقوله ) وإذا يمكر بك الذين كفروا ) [ الأنفال : 30 ] ( وأكيد كيداً ( سمي جزاء الكيد بالاستدراج والإمهال المؤدي إلى زيادة الإثم الموجبة لشدّة العذاب كيداً .
ثم أنتج من ذلك قوله ) فمهل الكافرين ( أي لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به .
ثم كرر ذلك المعنى للمبالغة ووصف الإمهال بقوله ) رويداً ( أي سهلاً يسيراً .
والتركيب يدل على الرفق والتأني ومنه قولهم في باب أسماء الأفعال ( رويد زيداً ) أي أروده إرواداً وأرفق به فكأنه سبحانه قال : مهل مهل مهل ثلاث مرات بثلاث عبارات وهذه نهاية الإعجاز .
وأجل الإمهال يوم بدر أو يوم القيامة وهذا أولى ليعم التحذير عن مثل سيرتهم ويتم الترغيب في خلاف طريقهم والله المستعان على ما تصفون .(6/481)
" صفحة رقم 482 "
سورة الأعلى
( سورة الأعلى وهي مكية حروفها مائتان واحد وتسعون كلمها اثنتان وسبعون آياتها تسع عشرة ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الأعلى : ( 1 - 19 ) سبح اسم ربك . . . .
" سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى "
( القراآت )
فسوّى ( وجيمع آياتها مثل ( طه ) وكذلك في سورة و ( الشمس ) و ( الليل ) و ( الضحى ) و ( اقرأ باسم ربك ) من وقله ) أرأيت الذي ينهى ( إلى آخر السورة .
) قدر ( بالتخفيف : علي ) بل يؤثرون ( على الغيبة : قتيبة وأبو عمرو ويعقوب .
الوقوف : ( الأعلى ( ه لا ) فسوّى ( ه ص ) فهدى ( ه ك ) المرعى ( ه ك ) أحوى ( ه ط ) فلا تنسى ( ه لا ) الله ( ط ) يخفى ( ج ه للعدول .
وقيل : قوله ) ونيسرك ( معطوف والوصل اليق ) الذكرى ( ه ج ) يخشى ( ه لا ) الأشقى ( ه لا ) الكبرى ( ج ه لأن ( ثم ) لترتيب الأخبار ) ولا يحيا ( ه ط لأن ما بعده مستأنف ) تزكى ( ه لا ) فصلى ( ه ط لأن ( بل ) للإضراب ) الدنيا ( ه بناء على أن الواو للاستئناف أو الحال أوجه ) وأبقى ( ه ط ) الأولى ( ه لا ) وموسى ( ه .
التفسير : روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحب هذه السورة .
وأكثر السلف كانوا يواظبون على قراءتها في التهجد ويتعرفون بركتها .
وعن عقبة بن عامر أنه قال : لما نزل قوله ) فسبح باسم ربك العظيم ) [ الواقعة : 74 ] قال لنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : اجعلوها في ركوعكم. ولما نزل قوله ) سبح اسم ربك الأعلى ( قال : اجعلوها في سجودكم .
ومن الناس من تمسك بالآية في أن الاسم نفس(6/482)
" صفحة رقم 483 "
المسمى لأن الستبيح أي التنزيه إنما يكون للمسمى لا للاسم .
وأجاب المحققون عنه بأن الاسم صلة كقوله : ( ثم اسم السلام عليكما ) .
سلمنا أنه يغر صلة ولكن تسبيح اسمه تنزيهه عما لا يليق معناه بذاته تعالى أو صفاته أو بأفعاله أو بأحكامه ، فإن العقائد الباطلة والمذاهب الفاسدة لم تنشأ إلا من هذه ، ومن جملة ذلك أن يصان اسمه عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم ، وأن لا يسمى غيره بأسمائه الحسنى ، وأن لا يطلق عليه من الأسامي إلا ما ورد به الإذن الشرعي .
قال بعض العلماء : لعل الذين نقل عنهم أن الاسم نفس المسمى أرادوا به أن الاسم الذي حدّوه بأنه ما دل على معنى في نفسه غير مقترن بزمان هو نفس مدلول هذا الحد .
قال الفراء لا فرق بين ) سبح اسم ربك ( وبين ( سبح معناه سبح الله أي نزهه بسبب ذكر أسمائه العظام ، أو متلبساً بذكره إلا أن تجعل الباء صلة في الثاني نحو ) ولا تلقوا بأيديكم ) [ البقرة : 195 ] أو مضمرة في الأول مثل ) واختار موسى قومه ) [ الأعراف : 155 ] أي من قومه .
نعم لو زعم الفراء أن المعنيين متلازمان جاز .
ومن الملاحدة من طعن في القرآن بأن يتتضي أن يكون للعالم ربان أحدهما عظيم وهو في قوله ) فسبح باسم ربك العظيم ) [ الواقعة : 96 ] والآخر أعلى منه وهو ) سبح اسم ربك الأعلى ( والجواب أنه عظيم في نفسه وأعلى وأجل من جمسع الممكنات ، والصفة كاشفة لا مميزة ونظيره وصفه بالكبير تارة وبالأكبر أخرى .
والمراد بالعظم والعلو عظم الشرف وعلو القدر فلا استدلال فيه للمشبهة .
ثم شرع في بعض أوصافه الكمالية فقال ) الذي خلق فسوّى ( وقد مر نظيره في ) الانفطار ( أي خلق الإنسان فجعله منتصب القامة في أحسن تقويم ، أو خلق كل حيوان بل كل ممكن فجعله مستعدّاً للكمال اللائق بحاله .
) والذي قدر ( لكل مخلوق ما يصلح له فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به كا يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت وقد ألهمها الله أن تمسح العين بورق الرازيانج الرطب فتطلبه إلأى أن تجده فيعود بصرها ، وإلهامات البهائم والطيور مشروحة مكتوبة في كتب العجائب .
وقال الحكيم : كل مزاج فإنه مستعدّ لقوة خاصة ، وكل قوة فإنها لا تصلح إلا لفعل معين فالتقدير عبارةعن التصرف في الأجزاء الجسمية ، وتركيبها على وجه خاص لأجله يستعدّ لقبول تلك القوى ، والهداية عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء بحيث تكون قوّة مصدراً لفعل معين ، ويحصل من مجموعها إتمام المصلحة .
وقد خصه بعض المفسرين فقال مقاتل : هدى الذكر للأنثى كيف يأتيها .
وقال غيره : هداه لمعيشته ومرعاه .
وقيل : هداه لسبيل الخير والشر .
وقال السدّي : قدر مدة مكث الجنين في الرحم(6/483)
" صفحة رقم 484 "
ثم هداه للخروج .
وقال الفراء : قدّر فهدى وأضل فاكتفى بذكر أحدهما كقوله ) سرابيل تقيكم الحر ) [ النحل : 81 ] وقيل : الهداية بمعن الدعاء إلى الإيمان أي قدّر دعاء الكل إلى الإيمان فدعاهم إليه كقوله ) وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) [ الشورى : 52 ] وقيل : دلهم بأفعاله على توحيده وكبريائه ) ففي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ( ومن جملة ذلك إخراج المرعى وهو الكلأ الأخضر ، ثم جعله غثاء وهو مات يبس من النبات فحمتلته الأهوية وطيرته الرياح .
والظاهر أن أحوى صفة للغثاء .
والحوّة السواد ، فالعشب إذا يبس واستولى البرد عليه جعل يضرب إلى السواد ، وقد يحتمله السيل فيلصق به أجزاء كدرة .
وقال الفراء وأبو عيبدة : الأحوى هو الأسود لشدّة خضرته وعلى هذا يكون حالاً من ضمير ) المرعى ( اي صيره في حال حوّته غثاء .
وقال جار الله : هو حال من ) المرعى ( أي أخرجه أسود من الخضرة والري فجعله غثاء وحين أمره بالتسبيح بشره وشرفه بإيتاء آية باهرة وهي أن يقرأ عليه جبرائيل ما يقرأ من الوحي الذي هو أشرف أنواع الذكر فيحفظه لا ينساه إلا ما شاء الله أن ينساه وهو أحد طريقي النسخ .
فقال مجاهد ومقاتل والكلبي : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا نزل عليه القرآن كثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى فقيل له : لا تعجل بالقراءة فإن جبرائيل مأمور بأن يكرر عليك إلى أن تحفظه نظيره ) ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه ) [ طه : 114 ] وعلى هذا يجوز أن يراد بالتعليم والإقراء شرح الصدر وتقوية الحفظ بحيث يبقى القرآن محفوظاً له من غير دراسة ، ومع أنه أمي فيكون إعجازاً .
وعن بعضهم أن قوله ) فلا تنسى ( نهي لا خبر ، والألف مزيدة للفاصلة نحو ) الظنونا ) [ الأحزاب : 10 ] و ) السبيلا ) [ الأحزاب : 67 ] وضعف بأن الزيادة خلاف الأصل فلا يصار إيلها إلا لدليل ظاهر .
وأما إذا جعلناه خبراً كان معنى الآية البشارة بأنا جعلناك بحيث لا تنسى ، وإن جعلناه نهياً كان أمراً بالمواظبة على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة والبحث فلا يكون من البشارة في شيء .
وأيضاً النسيان لا يتعلق بقدرة العبد فيلزم أن يحمل النهي عنه على الأمر بالأسباب المانعة منه وهو خلاف الظاهر ، أما الاستثناء ففيه قولان : الأول أنه ليس على حقيقته ، فقد روي عن الكلبي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم ينس بعد نزول هذه الآية شيئاً .
وعلى هذا فالمقصود من الاستثناء إما نفي النسيان رأساً كما تستعمل القلة في معنى العدم ، وإما التبرك بذكر هذه الكلمة وتعليم العباد أن لايتركوها في كل ما يخبرون عنه ، وفيه أنه تعالى قادر على إنسائه إلا أنه لا ينسيه بفضله وإحسانه ، وفيه لطف للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكون متيقظاً مبالغاً دراسة ما ينزل عليه من الوحي قليلاً كان أو كثيراً ، فإن كل جزء من أجزائه يحتمل أن يكون هو المستثنى .
الثاني أنه حقيقة .
ثم حمله مقاتل على النسخ كما مر .
وقال الزجاج : أراد إلا أن يشاء الله فتنساه ثم تذكره بعد النسيان كما روي أنه أسقط في(6/484)
" صفحة رقم 485 "
قراءته آية في الصلاة فحسب أبيّ أنها نسخت فسأله فقال : نسيتها .
وقيل : أريد القلة والندرة لا في الواجبات فإنه يورث الخلل في الشرع ولكن في غيرها .
ثم علل حسن النسخ بقوله ) إنه يعلم الجهر وما يخفى ( وإذا كان كذلك كان وضع الحكم ورفعه واقعاً بحسب مصالح المكلفين .
وقيل : أراد أنك تجهر بقراءتك مع قراءة جبرائيل مخافة النسيان والله يعلم ما في نفسك من الحرص على تحفظ الوحي ، فلا تفعل فأنا أكفيك ما تخافه .
ثم بشره ببشارة أخرى وهو تيسيره أي توفيقه للطريقة التي هي أيسر وهي حفظ القرآن والشريعة السهلة السمحة .
وعن ابن مسعود : هي الجنة يعني العمل المؤدي إليها .
والعبارة المشهورة أن يقال : جعل الفعل الفلاني ميسراً لفلان وإنما عكس الترتيب في الآية لدقيقة هي أن الفاعل ما لم يوجد فيه قابلية لصدور الفعل عنه امتنع حصوله منه وهذا معنى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل ميسر لما خلق له ) .
وفي الآية دلالة على أنه سبحانه فتح عليه من أبواب قبول الفيض ما لم يفتحه على غيره حتى صار يتيم أبي طالب قدوة للعالمين وهادياً للخلائق أجمعين كما قال ) فذكر إن نفعت الذكرى ( وإن لم تنفع فحذفت إحدى القرينتين للعلم بها كقوله ) سرابيل تقيكم الحر ) [ النحل : 81 ] وهو بناء على الإغلب فإن التذكير إنما يكون غالباً إذا كان رجاء التذكر حاصلاً كقوله ) ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً ) [ النور : 33 ] وفيه حث على الانتفاع بالذكرى كما يقول المرء لغيره إذا بين له الحق : قد أوضحت لك إن كنت تسمع وتقبل ، ويكون مراده البعث على السماع والقبول .
أو تنبيه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أن الذكرى لا تنفعهم كما يقال للرجل : أدع فلاناً إن أجابك .
والمعنى ما أراه يجيبك .
ووجه آخر وهو أن تذكير العالم واجب في أوّل الأمر .
وأما التكرير فالضابط فيه هو العرف فلعله إنما يجب عند رجاء حصول المقصود فلهذا أردفه بالشرط .
قيل : التعليق بالشرط إنما يحسن في حق من يكون جاهلاً بعواقب الأمور. والجواب أن أمر الدعوة والبعثة مبنيّ على الظواهر لا على الخفيات .
وروي في الكتب أنه تعالى كان يقول لموسى ) فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ) [ طه : 44 ] وأنا أشهد أنه لا يتذكر أو يخشى .
وإنام سمى الوعظ بالتذكير لأن حسن هذا الدين مركوز في العقول ) فطرة الله التي فطر الناس عليها ) [ الروم : 30 ] فكأن هذا العلم كان حاصلاً في نفسه بالقوّة ثم زال عنها بالعوائق والغواشي ، وعند بعض العقلاء أن النفوس قبل تعلقها بالأبدان عالمة بما لها أن تعلم إلا أنها نسيتها لاشتغالها بتدبير البدن ، ومن هنا قال أفلاطون : لست أعلمكم ما كنتم تجهلون ولكن أذكركم ما كنتم تعلمون .
ثم إنه تعالى بين أن المنتفع بالتذكير من هو فقال ) سيذكر من يخشى ( قال في التفسير الكبير : إن الناس في أمر المعاد ثلاثة أقسام : القاطع بصحته ، والمتردد فيه ، والجاحد له .
والفريقان(6/485)
" صفحة رقم 486 "
الأوّلان ينتفعان بالتذكير والتنخويف ، وكثير من المعاندين إنما يجحدون باللسان فقط ، فتبين أن أكثر الخلق ينتفعون بالوعظ والمعرض نادر وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فلهذا وجب تعميم التذكير .
قلت : هذا خلاف القرآن حيث قال ) وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) [ يوسف : 103 ] وقال ) وقليل من عبادي الشكور ) [ سبأ : 13 ] ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) [ الأعراف : 17 ] وخلاف الحديث حيث قال ( صلى الله عليه وسلم ) في بعث النار ( من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ) .
وخلاف المعقول فإنه لو أن قسمين من الأقسام الثلاثة ينتفعان بالتذكير وينضم إليه من القسم الثالث بعض آخر فقد لا يلزم أن يكون الثاني أقل من المجموع المفروض لجواز اختلاف الأقسام ، بل السبب في تعميم التذكير انتفاع المنتفعين به وهم أهل الخشية أعني العلماء بالله وإلزام الحجة لغيرهم .
والسين في ) سيذكر ( إما لمجرّد الإطماع فإن ( سوف ) من الله واجب ، وإما لأن التذكير متراخ عن التذكير غالباً لتخلل زمان النظر والتأمل بينهما غالباً .
قيل : نزلت الآية في عثمان بن عفان .
وقيل : في أبن أم مكتوم .
ونزل في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة قوله ) ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ( أي السفلى من أطباق النار .
وعن الحسن : النار الكبرى نار جهنم والصغرى نار الدنيا .
فالأشقى هو الكافر بدخول النار أن لا يدخلها الفاسق ، وسبب تخصيص الكافر بالذي أن الفاسق لم يتجنب التذكير بالكلية فيكون القرآن مسكوتاً عن الشقي الذي هو أهل الفسق ، ويحتمل أن يكون الأشقى بمعنى الشقي كقوله ) وهو أهون عليه ) [ الروم : 27 ] أي هين فيدخل فيه الفاسق لأنه يجتنب بوجه من الوجوه .
وقوله ( ثم لا يموت فيها ولا يحيى ( قد مر تفسيره في ( طه ) .
ومعنى ( ثم ) تراخى الرتبة لأن هذا النوع من الحياة أفظع من نفس الدخول في النار .
ثم ذكر وعد السعداء بعد وعيد الأشقياء .
ومعنى ) تزكى ( تطهر من أدناس الشرك والمعاصي والعقائد الفاسدة ) وذكر اسم ربه ( بالتوحيد والإخلاص ) فصلى ( أي اشتغل بالخدمة والطاعة حتى يكون كاملاً بحسب قوّته النظرية والعملية بعد تخليته لوح الضمير عن النقوش الفاسدة .
وقال الزجاج : تزكى أي تكثر من التقوى وأصله من الزكاء النماء فيكون تفصيله قوله ) قد أفلح المؤمنون ) [ المؤمنون : 1 ] إلى آخر الآيات .
وفي أوّل البقرة إلى قوله ) هم المفلحون ) [ الآيات : 1 ، 5 ] وقال مقاتل : تزكى من الزكاة كتصدّق من الصدقة والمعنى : قد أفلح من تصدّق من ماله وذكر ربه بالتوحيد والصلاة فصلى له .
وخصه قوم بصلاة العيد وصدقة الفطرة أي ألفح من تصدّق من ماله وذكر ربه بالتوحيد والصلاة فصلى له ، وخصه قوم بصلاة العيد وصدقة الفطر أي أفلح من تصدّق قبل خروجه إلى المصلى ، وذكر اسم ربه في طريق المصلى أو عند تكبيرة الافتتاح فصلى العيد وهذا قول عكرمة وأبي العالية وابن(6/486)
" صفحة رقم 487 "
سيرين وابن عمرو وعلي .
وقد روي مرفوعاً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وضعف بأنه خلاف ما ورد في مواضع أخر من القرآن من تقديم الصلاة على الزكاة .
والجواب إنما ورد هكذا لأن زكاة الفطر مقدّمة على صلاته .
واعترض الثعلبي بأن السورة مكية بالإجماع ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر .
وأجاب الواحدي بأنه لا يمتنع أن يقال لما كان في معلوم الله تعالى أن يكون ذلك أثنى على من فعل ذلك .
استدل على بعض الفقهاء بالآية على وجوب تكبيرة الافتتاح ، واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة بها على أن التكبيرة الأولى ليست من صلب الصلاة العطف الصلاة عليها ، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه .
وأجيب بما روي عن ابن عباس أن المراد ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له وبأنه قد يقال ( أكرمتني فزرتني ) وبالعكس من غير فرق .
وقد يزيف هذا الجواب الثاني بأنه خلاف الظاهر وبأن خصوصية المادة ملغاة فلا يلزم من عدم الفرق في المثال المضروب عدم الفرق فيما يتعلق به حكم شرعي .
ثم وبخهم بقوله ) بل تؤثرون ( إلى آخره .
ثم بين أن ما في السورة من التوحيد والنبوّة والوعيد والوعد كانت ثابتة في صحف الأنبياء الأقدمين لأنها قواعد كلية لا تتغير بتغير الأزمان فهو كقوله ) وإنه لفي زبر الأوّلين ) [ الشعراء : 196 ] وقيل : المشار إليه بهذا هو قوله ) بل تؤثرون ( الآية لأنه أقرب المذكورات ، ولأن حاصل جميع الكتب السماوية الزجر عن الدنيا والإقبال على الآخرة .
قال في الكشاف : روي عن أبي ذر أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : كم أنزل الله من كتاب ؟ قال ( مائة وأربعة كتب منها على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسون صحيفة ، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثون صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان ) فتقدير الآية إن هذا لفي الصحف الأولى التي منها صحف إبراهيم وموسى .
قالوا : في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه الله تعالى حسبي .(6/487)
" صفحة رقم 488 "
سورة الغاشية
( سورة الغاشية مكية حروفها ثلثمائة وأحد وثمانون كلمها اثنتان وتسعون آياتها ست وعشرون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الغاشية : ( 1 - 26 ) هل أتاك حديث . . . .
" هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم "
( القراآت )
تصلى ( بضم التاء من الإصلاء : أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر وحماد .
الباقون : بالفتح ) لا يسمع ( بضم الياء التحتانية ) لاغية ( بالفع : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب .
وقرأ نافع بتاء التأنيث والرفع .
الآخرون : بفتح تاء التأنيث أو الخطاب لكل سامع ) لاغية ( بانصب .
) بمصيطر ( بالصاد : أبو جعفر ونافع وعاصم وعلي وخلف .
وقرأ حمزة في رواية بإشمام الزاي .
الباقون : بالسين .
) إيابهم ( بالتشديد : يزيد .
الوقوف : ( الغاشية ( ه ط ) خاشعة ( ه ) ناصبة ( ه ك ) حامية ( ه ك ) آنية ( ه ط لتمام الأوصاف ) ضريع ( ه ط ) جوع ( ه ج للابتداء بعده ) ناعمة ( ه لا ) راضية ( ه لا ) عالية ( ه ج ) لاغية ( ه ط ) جارية ( ه لئلا يتوهم أن ما بعدها صفة لعين فيكون في الحارية سرور ليس كذلك ) مرفوعة ( ه لا ) موضوعة ( ه لا ) مصفوفة ( ه لا ) مبثوثة ( ه ط ) خلقت ( ه ) رفعت ( ه ك ) نصبت ( ه ط ) سطحت ( ه وقد يوقف على الآيات الأربع لأجل مهلة النظر وإلا فلكل متسقة ) مذكر ( ه ط ) بمصيطر ( ه لا ) وكفر ( ه ك ) الأكبر ( ه ط ) إيابهم ( ه لا ) حسابهم ( ه .(6/488)
" صفحة رقم 489 "
التفسير : لما انجر الكلام في السورة المتقدّمة إلى ذكر الآخرة ، شرح في هذه السورة بعض أحوال المكلفين فيها .
والغشية القيامة لأنها تغشى الناس بشدائدها ، وكل ما أحاط بالشيء من جميع الجهات فهو غاشٍ له قال الله تعالى ) يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) [ العنكبوت : 55 ] وقال ) وتغشى وجوههم النار ) [ إبراهيم : 50 ] أي لم يأتك حديث هذه الداهية وقد أتاك الآن فاستمع .
وقدّم وصف الأشقياء لأن مبنى السورة على التخويف كما ينبىء عنه لفظ الغاشية .
والمراد بالوجه الذات ووجه حسن هذا المجاز أن الخشوع والانكسار والذل وأضدادها يتبين أكثرها في الوجه كقوله ) وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفيّ ) [ الشورى : 45 ] والعمل والنصب أي التعب .
قيل : كالهما في الآخرة وه والأظهر لقوله ) يومئذ ( أي تعمل في النار عملاً تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال وخوضعها في النار خوض الدابة في الوحل وتردّدها في صعود من نار وحدور منها .
قال الحسن : كان يجب عليها أن تعمل لله في الدنيا خاشعة ناصبة فلام قصر في ذلك وقع في مثله بعد المفارقة إلى أن يشاء الله ليكون معارضاً بنقيض مقصوده .
وقيل : كلاهما في الدنيا وهم أصحاب الصوامع خشعت وجوههم لله وعملت ونصبت في أعمالها نم غير نفع لهم في الآخرة ، لأن أعمالهم مبنية على غير أساس من الدين الحنيفي .
وقيل : عملت في الدنيا أعمال السوء فهي في نصب منها في الآخرة .
ثم شرح مكانهم وهو النار الشديدة الحر ، ومشروبهم وهو من عين آنية أي متناهية في الحرارة ، ومطعومهم وهو الضريع .
وإنما قدّم المشروب على الضريع المطعوم لأن الماء يناسب النار مناسبة الضدين أو الشبيهين من حيث بساطتهما ، أو لأنهم إذا أثر فيهم حر النار غلب عليهم العطش وكان الماء عندهم أهم ، ثم إذا أثرت فيهم الحراراتان أرادوا أن يدفعوا ألم الإحساس بها بما يزيد العذاب على البدن ، هذا مع أن الواو ليست للترتيب .
قال الحسن : لا أدري ما الضريع ولم أسمع فيه من الصحابة شيئا وقد يروى عنه أيضاً أنه ( فعيل ) بمعنى ( مفعل ) كالأليم بمعنى المؤلم .
والبديع بمعنى المبدع ومعناه إلا من طعام يحملهم على الضرارعة والذل عند تناوله لما فيه من الخشونة والمرارة والحرارة .
وعن سعيد بن جبير أنه شجرة ذات شوك .
قال أبو الجوزاء : كيف يسمن من يأكل الشوك .
وفي الخبر ( الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر وأنت من الجيفة وأشدّ حراً من النار ) قال العلماء : إن للنار دركات وأهلها على طبقات : فمنهم من طعامه الزقوم ، ومنهم من طعامه غسلين ، ومنهم من طعامه ضريع ، ومنهم من شرابه الحميم ، ومنهم من شرابه الصديد ) لكل باب منهم جزء مقسوم ) [ الحجر : 44 ] ووجود النبت في النار ليس بيدع من قدرة الله كوجود(6/489)
" صفحة رقم 490 "
بدن الإنسان والعقارب والحيات فيها .
قوله ) لا يسمن ولا يغني من جوع ( صف للطعام أو للضريع ، وفيه أن طعامهم ليس من جنس طعام الإنس لكن من جنس الشوك الذي ترعاه الإبل ما دام رطباً فإذا يبس نفرت عنه لأنه سم قاتل .
ويحتمل أن يراد لا طعام لهم أصلاً لأن الضريع يبيس هذا الشوك والإبل تنفر عنه كما قلنا فهو كقوله ( ليس لفلان ظل إلا الشمس ) يريد نفي الظل على التوكيد .
وروي أن كفار قريش قالوا على سبيل التعنت حين سمعوا الآية : إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت ) لا يسمن ولا يغني من جوع ( أي ليس فيه منفعة الغذاء ولا الاسمان ودفع الجوع كذبهم الله في قولهم يسمن الضريع ، أو نبههم الله بعد تسليم أن ضريعهم مسمن على أن ضريع النار ليس كذلك أي كل ما فيالنار يجب أن يكون خالياً عن النفع .
ثم أخذ في وصف السعداء فقال ) وجوه ( وإنما فقد العاطف خلاف ما في سورة القيامة لأنه أراد ههنا تفصيل ما أجمل في قوله ) هل أتاك حديث الغاشية ( ومعنى ناعمة ذات نعومة أو تنعم .
وقوله ( لسعيها راضية ( أي رضيت بما عملت في الدنيا وأثنت عليه نحو قولها ( ما أحسن ما عملت ) وذلك إذا رأت محلها ومنزلتها في الكرامة والثواب أو رضيت لجزاء سعيها حين رأت ما لا مزيد عليه .
واللغغية اللغو مصدر كالعافية والباقية ، ويجوز أن تكون صفة لمحذوف أي كلمة ذات لغو .
قوله ) عين جارية ( قال جار الله : يريد عيوناً في غاية الكثرة كقوله ) علمت نفس ) [ الأنفطار : 5 ] قال الكلبي : لا أدري جرت بماء أو غيره .
قال القفال : عين شراب جارية على وجه الأرض في غير أخدود وتجري لهم كما أرادوا .
) مرفوعة ( في الرتبة أو مرتفعة عن الأرض ليرى المؤمن بجلوسه عليها جميع ما آتاه الله من الخدم والملك ، فإذا جاء وليّ الله ليجلس عليها تطأطأت له ، فإذا استوى عليها ارتفعت إلى حيث أرأد الله .
وقد وصفها ابن عباس بأن الواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت .
وقيل : مرفوعة أي مخبوءة لهم من رفع الشيء إذا خبأه .
والأكواب الكيزان التي لا عرى لها كلما أرادوها وجدوها موضوعة بين أيديهم حاضرة أو موضوعة على حافات العيون ليشرب بها .
وجوّز في الكشاف أن يراد موضوعة من حدّ الكبر إلى التوسط والاعتدال .
والنمارق الوسائد واحدها نمرقة بضم النون .
وروى الفراء بكسرها أيضاً ) مصفوفة ( بعضها بجنب بعض أينما أراد أن يجلس جلس على واحدة وأسند إلى أخرى والزرابيّ البسيط العراض الفاخرة واحدها زربية بكسر الزاي ، وقيل : هي الطنافس التي لها خمل رقيق .
و ) مبثوثة ( أي مبسوطة أو مفرقة في المجلس .
وحين ذكر أحوال المعاد عاد إلى الاستدلال على المبدأ فإن من عادة كتاب الله الكريم أنه يرجع إلى تذكير الأصول عوداً إلى بداية .
وللمحققين في نسق الآية وفي تناسب هذه الأمور وجوه منها : قول أكثر أهل(6/490)
" صفحة رقم 491 "
المعاني إن القرآن إنما نزل بلغة العرب فيجب أن يخاطبوا بحسب ما هو مركوز في خزانة خيالهم ، ولا ريب أن جل هممهم مصروفة بشأن الإبل فمنها يأكلون ويشربون ، ومن أصوافها وأوبارها ينتفعون ، وعليها في متاجرهم ومسافراتهم يحملون ، فحيث أراد الله سحانه أن ينصب لهم دليلاً من مصنوعاته يمكنهم أن يستدلوا به على كمال حكمة الصانع ونهاية قدرته لم يكن شيء أحضر صورة في متخليهم من الإبل فنصبها لهم .
ولا ريب أنها من أعاجيب مصنوعات الله تعالى صورة وسيرة لما ركب فيها من التحلم على دوام السير مع كثرة الأثقال ، ومن البروك حتى تحمل ، ثم النهوض بما حملت ، ومن الصبر على العطش ، وعلى العلف القليل أياماً ، ثم شرب الماء الكثير إذا وجدت ، ومن تذللها لصبي أو ضعيف قال الإمام فخر الدين الرازي : كنت مع جماعة في مفازةٍ فضللنا الطريق فقدّموا جملاً وتبعوه وكان ذلك الجمل يمشي ينعطف من تل إلى تلك ومن جانب إلى جانب حتى وصل الطريق فتعجبنا من قوّة تخيله .
وعن بعض أهل الفراسة أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه في بروكه ثم نهوضه مثقلاً وقد نشأ في بلاد لا ففكر ثم قال : يوشك أن تكون طوال الأعناق ، وذلك أن طول العنق يسهل عليه النهوض .
ثم إن أصحاب المواشي لاحتياجهم الشديد إلى الماء المستعقب للكلأ صار جل نظرهم إلى السماء التي منها ينزل المطر ، ثم إلى الجبال التي هي أقرب إلى السماء وأسرع لقوع المطر عليها وحفظ الثلج الذي منه مادة العيون والآبار عند إقلاع الأمطار على أنها مأمنهم ومسكنهم في الأغلب .
لنا جبل يحتله من نجيره
منيع يرد الطرف وهو كليل
ثم إلى الأرض التي فيها ينبت العشب وعليها متقلبهم ومرعاهم ، فثبت أن الآية كيف وردت منظمة حسب ما انتظم في خزانة خيال العرب بحسب الأغلب .
ومنها أن جميع المخلوقات متساوية في دلالة التوحيد وذكر جميعها غير ممكن فكل طائفة منها تخص بالذكر .
ورد هذا السؤال فوجب الحكم بسقوطه ، ولعل في ذكر هذه الأشياء التي لا تناسب في الظاهر تنبيهاً على أن هذا الوجه من الاستدلال غير مختص بنوع دون نوع بل هو عام في السحاب بالإبل في أشعارهم .
ومنها أن تخصيص الإنسان بالاستدلال منه على التوحيد يستتبع القوع في الشهوة والفتنة ، وكذا الفكر في البساتين النزهة والصور الحسنة فخص الإبل بالذكر لأن التفكير فيها متمحض لداعية الحكمة وليس للشهوة فيها نصيب ، على أن إلف العرب بها أكثر كما مر ، وكذا السماء والأرض والجبال دلائل الحدوث فيها ظاهرة وليس فيها نصيب للشهوة .
والمراد بالنظر إلى هذه الأشياء هو النظر المؤدّي إلى الاستدلال(6/491)
" صفحة رقم 492 "
بدليل قوله ) كيف خلقت ( ) كيف رفعت ( ) كيف نصبت ( ) كيف سطحت ( وليس في السطح دلالة على عدم كرية الأرض لأنها في النظر مسطحة وقد تكون في الحقيقة كرة إلا أنها لعظمها لا تدرك كريتها .
ثم أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بتذكير الأمة بهذه الأدلة وأمثالها لأن أمره مقصور على كونه مذكراً لا منحطاً إلى كونه مسيطراً أي مسلطاً عليهم فإن أراد بالتسليط القهر أو بالإكراه بمعنى خلق الهداية فيهم فالآية ثابتة لأن ذلك لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى ، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً .
وإن أراد القتال معهم إن لم يؤمنوا فالآية منسوخة وهذا قول كثير من المفسرين ، وعلى هذا فالأظهر أن يكون الاستثناء في قوله ) إلا من تولى وكفر ( متصلاً لا باعتبار الحال فإن السورة مكية ولكن بالنظر إلى الاستقبال أي إلا المصرين على الإعراض والكفر فإنك تصير مأموراً بقتالهم مستولياً عليهم بالغلبة والقهر .
وقيل : هو استثناء منقطع اي لست بمستول عليهم ولكن من تولى وكفر فإن لله لولاية والقهر فهو يعذبه العذاب الأكبر الذي هو القتل والسبي أو عذاب الدرك الأسفل .
وقيل : هو استثناء من قوله ) فذكر ( أي فذكر إلا من انقطع طمعه من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض .
ويرد أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لا ينقطع طعمه من إيمان الكفرة ما داموا أحياء إلا أن يعلمه الله بذلك ، وعلى تقدير الإعلام أيضاً لا يجوز أن يقطع التذكير لأن الدعوة عامة في الأصل ولو جعلت خاصة لم تبق مضبوطة كرخصة المسافر مثلاً .
ثم ختم السورة بما يصلح للوعد والوعيد والترغيب والترهيب .
ومن قرأ ) إيابهم ( بالتشديد فإما أن يكون ( فيعالاً ) مصدر ( فيعل ) من الإياب ، وأما أن يكون أصله ( أوّاباً ) فعالاً من ( أوّب ) ثم قلبت إحدى الواوين ياء كما في ( ديوان ) ثم الأخرى كما في ( سيد ) .
قال جار الله : فائدة تقديم الظرف في الموضعين الحصر أي ليس ينبغي أن يكون مرجعهم إلا إلى الجبار المقتدر على توفية جزاء كل طائفة ولا أن يكون حسابهم واجباً إلا على حكمة من هو أحكم الحاكمين ورب العالمين .(6/492)
" صفحة رقم 493 "
سورة الفجر
( سورة الفجر مكية حروفها خمسمائة وستة وستون كلمها مائة وست وثلاثون آياتها ثلاثون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الفجر : ( 1 - 30 ) والفجر
" والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " ( القراآت : روى ابن مهران وابن الاسكندراني عن أبي عمرو أنه كان يقف على ) والفجر ( واشباهها من ذوات الراء بنقل حركة اراء إلى ما قبله و ) الوتر ( بكسر الواو : حمزة وعلي وخلف والمفضل .
الباقون : بالفتح ) يسري ( و ) بالوادي ( ) أكرمني ( و ) أهانني ( بالياء في الحالين : يعقوب والهاشمي عن البزي والقواس وأبو ربيعة عن أصحابه .
وقرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ) أكرمني ( و ) أهانني ( بالياء في الوصل وبغير ياء في الوقف ) بالوادي ( بالياء في الوصل : ورش وسهل وعباس .
الباقون : كلها بغير ياء ) فقدّر ( بالتشديد : ابن عباس ويزيد ) ربي ( بالفتح : أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو .
) يكرمون ( ) ولا يحضون ( ) ويأكلون ( ) ويحبون ( كلها على الغيبة : أبو عمرو وسهل ويعقوب .
الآخرون : بتاء الخطاب ) تحاضون ( بفتح التاء الفوقانية والألف(6/493)
" صفحة رقم 494 "
من التفاعل : عاصم وحمزة وعلي ويزيد ) لا يعذب ( ) ولا يوثق ( بتح الذال والثاء : عليّ والمفضل وسهل ويعقوب .
الآخرون : بكسرهما .
الوقوف : ( والفجر ( ه لا ) عشر ( ه ك ) والوتر ( ه ك ) يسر ( ه ك لجواز أن يكون جواب القسم المحذوف وهو ليبعثن أوليعذبن مقدراً قبل ( هل ) أو بعده ) حجر ( ه ط ثم الوقف المطلق على ) لبالمرصاد ( وما قبله وقف ضرورة ) بعاد ( ه لا ) العماد ( ه لا ) البلاد ( ه ص ( بالواد ( ك ) الأوتاد ( ه ك ) البلاد ( ه ك ) الفساد ( ه ك ) عذاب ( ه ج لاحتمال التعليل ولما قيل : إن جواب القسم قوله ) إن ربك لبالمرصاد ( وما بينهما اعتراض .
) لبالمرصاد ( ه ج ) أكرمن ( ه ج لابتداء شرط ) أهانن ( ه ج لأن ( كلا ) يحتمل معنى ( إلا ) وحقاً ومعنى الردع .
) اليتيم ( ه لا ) المسكين ( ه ط ) لما ( ه ط ) جماً ( ه ك ) دكاً ( ه لا ) دكاً ( ه ك ) صفاً ( ه لا ) صفاً ( ه ك ) بجهنم ( ه ) الذكرى ( ه ج لأن ما بعده مستأنف كأنه قيل : كيف يتذكر ) لحياتي ( ه ج ) أحد ( ه لا ) أحد ( ه ط ) المطمئنة ( ه ط ) مرضية ( ه ) عبادي ( ه ) جنتي ( ه .
التفسير : إقسام الله تعالى بهذه الأمور ينبىء عن شرفها وأن فيها فوائد دينية ودنيوية أما الفجر فعن بعضهم أنه الغيران التي تتفجر منها المياه ، والأظهر ما روي عن ابن عباس أنه الصبح الصادق ويوافقه قوله في المدّثر ) والصبح إذا أسفر ) [ الآية : 34 ] وفي ( كورت ) ) والصبح إذا تنفس ) [ الآية : 18 ] وذلك أن فيه عبرة للمتأمل لما يحصل من انفجار الضوء فيما بين الظلام ، وانتشار الحيوان من أوكارها لطلب المعاش كما في نشور الموتى من قبورهم .
وقيل : المضاف محذوف أي ورب الفجر أو أقسم بصلاة الفجر .
وخصه بعضهم بفجر النحر لأنه يوم الضحايا والقرابين ، وبعضهم بفجر المحرّم لأنه أوّل يوم السنة ، وبعضهم بفجر ذي الحجة لقوله ) وليال عشر ( والتنكير لأنها ليال معدودة من ليالي السنة أو لأنها مخصوصة بفضائل كما جاء في الخبر ( ما من أيام العمل الصالح فيهم أفضل منعشر ذي الحجة ) قال أهل المعاني : ولو عرّفت بناء على أنها ليال معلومة جاز إلا أن التعظيم المستفاد من التنكير يفوت التناسب بين اللامات إذ ذاك فعدم اللام خير من وجوده مخالفاً للباقية .
وقيل : إنها عشر المحرم .
وقيل : العشر الأخيرة من رمضان ولهذا سن فيها الاعتكاف وفيها ليلة القدر ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دخل العشر الأخير شدّ المئزر وأيقظ أهله أي كف(6/494)
" صفحة رقم 495 "
عن الجماع وأمر أهله بالتهجد .
وأما الشفع والوتر فمعناهما الزوج والفرد .
والوتر بالفتح لغة أهل العالية ، وبالكسر لغة تميم .
واختلف المفسرون فيهما اختلافاً عظيماً فمنهم من حملهما على الأشياء كلها لأن الموجودات لا تخلو من هذين القسمين فتكون كقوله ) فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون ) [ الحاقة : 38 ، 39 ] وقيل : الشفع صفات الخلق كالعلم والقدرة والحياة ، ونقائضها الجهل والعجز والموت .
الوتر صفات الحق وجود بلا عدم وقدرة بلا عجز وعلم بلا جهل وحياة بلا موت. وقيل الشفع والوتر : نفس العدد وكأنه تعالى أقسم بالحساب الذي لا بد للخلق منه فهو في معرض الامتنان بمنزلة العلم والبيان في قوله ) علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) [ العلق : 4 ، 5 ] الرابع الشفع الممكنات ) ومن كل شيء خلقنا زوجين ) [ الذاريات : 49 ] والوتر الواجب تعالى وتقدّس .
الخامس الشفع الصلوات الثنائية والرباعية والوتر الثلاثية ، عن عمران بن حصين عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الصلاة منها شفع ومنها وتر ) .
السادس الشفع درجات الجنة وأبوابها وهي ثمانية ، والوتر دركات النار وأبوابها وهي سبعة .
السابع الشفع البروج الاثنا عشر ، والوتر الكواكب السبعة .
الثامن الشفع الشهر الذي يكون ثلاثين والوتر تسعة وعشرون .
التاسع الشفع السجدتان والوتر الركوع .
العاشر الشفع العيون الاثنا عشر لموسى ) فانجرت منه اثنتا عشرة عيناً ) [ البقرة : 60 ] والوتر معجزاته ) ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ) [ الإسراء : 101 ] وأظهر الأقوال ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة لأنه تاسع أيام الليالي المذكورة .
وحين أقسم بالليالي المخصوصة أقسم على العموم بالليل إذا يسري أي إذا يمضي كقوله ) والليل إذا أدبر ) [ المدثر : 33 ] وعن مقاتل : هو ليلة المزدلفة .
وعلى هذا جوّز أن يراد بالسري الإسناد المجازي لأن الساري فيه هو الحاج .
يروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقدّم ضعفة أهله في هذه الليلة .
والحجر بالكسر العقل سمي بذلك لأنه يمنع من الوقوع فيما لا ينبغي كما سمي عقلاً ، ونهي لأنه يعقل وينهى ، وحصاة لأنه يحصى أي يضبط .
قال الفراء : يقال إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها .
والمراد بالاستفهام تقرير أن هذه المذكورات لشرفها وعظم شأنها يحق أن يؤكد بمثلها المقسم عليه كمن ذكر حجة باهرة ثم قال : هل فيما ذكرته حجة يريد أنه لا حجة فوق هذا ومن هنا قال بعضهم : فيه دليل على أنه تعالى أراد رب هذه الأشياء ليكون غاية في القسم .
ولقائل أن يقول : المقنع والكفاية غير الغاية والنهاية .
ثم إنه تعالى ذكر للعبرة ولتسلية نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) قصة ثلاث فرق على سبيل الإجمال لأنهم أعلام في القوة(6/495)
" صفحة رقم 496 "
والشدّة والتجبر .
والمعنى ألم ينته علمك إليهم علماً يقرب المشاهدة لتعاضده بالوحي أو التواتر ، والخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو لكل راءٍ .
والمراد بعاد هو عاد الأولى القديمة ولهذا ابنه لزم لأنهم أولاد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوع فسموا باسم جدهم .
قيل : إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها .
ولم ينصرف قبيلة أو أرضاً للعلمية والتأنيث .
وقيل : الإرم العلم لأنهم كانوا يبنون أعلاماً كهيئة المنارة كقوله ) أتبنون بكل ريع آية ) [ الشعراء : 128 ] وعلى هذين الوجهين يكون المضاف محذوفاً أي أهل البلدة أو الأعلام ، وعلى الوجه الأخير لا يكون لمنع الصرف وجه ظاهر لكونه اسم جنس .
والعماد بمعنى العمود لأنه ما يعمد أو جمع عمد .
ثم إن كانت صفة للقبيلة فالمعنى أنهم كانوا بدويين أهل عمد أو كانوا طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة ، أو كانت ذات البناء الرفيع .
وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى أنها ذات أساطين .
ثم قيل : هذه المدينة اسكندرية .
وقيل : دمشق .
واعترض بأن بلاد عاد كانت فيما بين عمان إلى حضرموت وهي بلاد الرمال المسماة بلأحقاف .
وروي أنه كان لعاد ابنان : شدّاد وشديد ، فملكا وقهرا البلاد وأخذا عنوة وملكاً ، ثم مات شديد وخلص الأمر لشدّاد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال : أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة ، وهي مدنية عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار .
ولم تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا .
ويروى أنه وضع إحدى قدميه فيها فأمر ملك الموت بقبض روحه .
ويروى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى ملك الموت حين عرج به إلى السماء فسأله : هل رققت لأحد من الخلائق الذين قبضت أرواحهم ؟ فقال : نعم اثنان أحدهما طلف ولد بالمفازة ثم أمرت بقبض روح أمه ولم يكن هناك إنسان يتعهد الطفل ، والثاني ملك اجتهد في بناء مدينة لم يخلق مثلها ثم لم يرزق رؤيتها بعد أن وضع رجله فيها يعني شداداً ، فدعا الله نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن يخبره بذلك فأوحى إليه أن ذلك الملك هو ذلك الطفل الذي ربيناه وآتيناه مملكة الدنيا .
وحين قابل النعمة والملك بالكفران وبنى الجنان التي هي من مقدورات الله الرحمن جزيناه بالخيبة والحرمان .
هكذا وجدت الحكاية في بعض التفاسير .
وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع على تلك المدينة فحمل ما قدر عليه مما هناك ، فبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه ، فبعث إلى كعب الأحبار فسأله فقال : هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له .
ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال : هذا والله ذلك(6/496)
" صفحة رقم 497 "
الرجل .
والضمير في ) مثلها ( لإرم لأنهم أطول الناس قدوداً وأشدّهم بناء ، أو للمدينة أو للأعلام على اختلاف الأقوال .
وجاب الصخرة أي الجر العظيم قطعه كقوله ) وتنحتون من الجبال بيوتاً ) [ الشعراء : 149 ] والوادي وادي القرى قاله مقاتل .
وقد قيل : لفرعون ذي الأوتاد لكثرة جنوده أو لتعذيبه للناس بالأوتاد الأربعة وقد مرّ في ( ص ) .
وصب السوط كناية عن التعذيب المتواتر ، وفيه إشارة إلى أن عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة كالسوط بالنسبة إلى القتل مثلاً وقد أشار إلى عذاب الآخرة أو إليه مع عذاب الدنيا بقوله ) إن ربك لبالمرصاد ( أي ميمهل ولكنه لا يهمل .
والمرصاد المكان الذي يرقب فيه الرصد ، والباء بمعنى ( في ) وهو مثل لعدم الإهمال .
وقيل لبعض العرب : أين ربك ؟ فقال : بالمرصاد .
وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ السورة عند المنصور حتى بلغ الآية فقال ) إن ربك لبالمرصاد ( يا أبا جعفر عرض له في هذا بأنه من الجبابرة الذين وعدوا بها .
وقال الفراء : معناه إليه المصير فيكون وعداً ووعيداً للمؤمن والكافر .
قال أهل النظم : لما ذكر أنه تعالى بمرصد من المعاش كأنه قيل : نحن مترقبون لمجازاةة الإنسان على ما سعى ، فأما هو فإنه لا يهمه إلا الدنيا وطيباتها فإن وجد راحة فرح بها وإن مسه ضرّ كند .
والظاهر أن الإنسان للجنس .
وعن ابن عباس أنه عتبة بن ربيعة .
وعن الكلبي هو أمية بن خلف .
ومعنى الابتلاء في البسط والضيق وهو أنه سبحانه يعامل المكلف معاملة المختبر ليظهر أنه هل يتلقى النعمة بالشكر والضيق بالصبر أم لا كقوله ) ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) [ الأنبياء : 35 ] وتقدير الكلام فأما الإنسان فيقول ربي أكرمن إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ) وأما ( هو فيقول ربي أهانن ) إذا ما ابتلاه فقدر أي ضيق ) عليه رزقه ( فقوله ) فيقول ( خبر المبتدأ في الموضعين ) وإذا ما ابتلاه ( ظرف ل ) يقول ( وإنما قال في جانب البسط ) فأكرمه ونعمه ( أي جعله ذا نعمة وثروة ولم يقل في طرف القبض ( فأهانه وقدر عليه ) لأن رحمته سبقت غضبه فلم يرد أن يصرح بإهانة عبده ، ولئلا يكون الكلام نصاً في أن القبض دليل الإهانة من الله ، فقد يكون سبباً لصلاح معاش العبد ومعاده .
وأما البسط فهو إكرام في الظاهر الغلب ، والبسط لأجل الاستدراج قليل وعلى قلته فهو خير من خسران الدنيا والآخرة جميعاً .
وعلام توجه الإنكار والذّم ؟ فيه وجهان : أحدهما على قوله ) ربي أهانن ( فقط لأنه سمي ترك التفضل إهانة وقد لا يكون كذلك. والثاني على مجموع الأمرين لا من حيث مجموعهما بل على كل منهما .
أما على دعوى الإهانة فكما قلنا ، وأما على دعوى الإكرام فلأنه اعتقد حصول الاستحقاق في ذلك الإكرام كقوله ) إنما أوتيته على علم عندي ) [ القصص : 78 ] وكان عليه أن يرى ذلك(6/497)
" صفحة رقم 498 "
محض الفضل والعناية منه تعالى ، أو لأنه قال في ذلك كبراً وافتخاراً وتكاثراً ، أو لأن هذا القول يشبه قول من لا يرى السعادة إلا في اللذات العاجلة ، أو قول من غفل عن الاستدراج والمكر .
ويحتمل أن يتوجه الذم على مجموع الأمرين من حيث المجموع حتى لو قال في البسط ( أكرمني ) تحدثاً بنعمة الله ، وفي القبض لم يقل ( اهانني ) بل قال ( الحمد لله عليى كل حال ) لم يكن مذموماً .
ثم ردع الإنسان عن تلك المقالة بقوله ) كلا ( أي لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ ولا بالفقر لهوانه لديّ ولكنهما من محض المشيئة ، أو على حسب المصالح .
ثم نبه الإضراب في قوله ) بل لا تكرمون اليتيم ( على أن هناك شراً من ذلك وهو أنه يكرمهم بكثرة المال ثم لا يودّون حق الله فيه .
وعن مقاتل : كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف وكان يدفعه عن حقه فنزلت .
والتراث أصله الوراث نحو تجاه ووجاه .
واللم الجمع لشديد ومنه كتيبة ملمومة مصدر جعل نعتاً أي أكلاً جامعاً بجميع أجزائه كقوله ) ولا تأكلوها إسرافاً ) [ النساء : 6 ] وقال الحسن : أي يجمعون نصيب اليتامى إلى نصيبهم كقوله ) ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) [ البقرة : 88 ] وقيل : جامعاً بين حلال ما جمعه الميت وبين حرامه .
وقيل : جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة اللذيذة والملابس الفاخرة كما يفعل أهل البطالة من الورّاث .
والجم الكثير جم الماء وغيره يجم جمومً إذا ثكر جامّ ، وجمّ نهي عن التهالك .
والشره على جمع المال .
وفي وصف الحب بالجم دلالة على أن حب المال وتعلق القلب بتحصيل ما يسدّ الخلة منه غير مكروه بل مندوب إليه لبقاء نظام العالم على أن كل السلامة وجل الفراغ في الترك كما هو دأب المتوكلين .
إن السلامة من ليلى وجارتها
أن لا تمر على حال بواديها
ولا ينبئك مثل خبير .
ثم ردعهم عن الفعل المذكور وذكر تحسر المقصر في طاعة الله يوم القيامة .
وجواب ( إذا ) محذوف بعد ) صفاً ( أبو بعد قوله ) بجهنم ( ليذهب الوهم كل مذهب أي كان ما كان من الأهوال .
ثم استؤنف ) وجيء يومئذ ( أو عطف على ما قبله ويوقف على هذا التقدير على قوله ) بجهنم ( ويكون ) يومئذ ( الثانية متعلقاً بما بعده ، ويجزز أن يكون ( إذا ) منصوباً ب ) يتذكر ( و ) يومئذ ( الثانية بدل منه .
ومعنى ) دكاً دكاً ( دكاً بعد دك كما قيل في ( لبيك ) أي كرر عليها الدك حتى صارت هباء منبثاً .
وقال المبرد : استوت في الانفراض فذهب دورها وقصورها وجبالها وقلاعها حتى تصير قاعأً صفصفاً ، ولعل هذا الذي بعد الزلزلة .
قوله ) وجاء ربك ( أي أمره بالجزاء والحساب أو قهره أو(6/498)
" صفحة رقم 499 "
دلائل قدرته .
ويجوز أن يكون تمثيلاً لهول ذلك اليوم كما إيذا حضر الملك بنفسه وجنوده كان أهيب وتنزل ملائكة كل سماء ) صفاصفاً ( أي مصطفين صفوفاً مرتبة .
يروى أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى اشتد على أصحابه فجاء علي رضي الله عنه فاحتضنه وقبل عاتقة ثم قال : يا نبي الله بأبي أنت وأمي ما الي حدث اليوم حتى غيرك ؟ فتلا عليه الآية .
فقال له علي : كيف يجاء بجهنم ؟ قال : يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شراررة لو تركت لأحرقت أهل الجمع .
قال الأصوليون : معنى جيء بجهنم برزت وأظهرت فإن جهنم لا تنتقل من مكان إلى مكان .
قوله ) وأنى له ( أي ومن أين له منفعة ) الذكرى ( ثم فسر التذكر وإنما قدرنا المضاف احترازاً من التنافي وإلا فلا وجه للاستفهام الإنكاري بعد إثبات التذكر بأنه يقول ) يا ليتني قدمت ( خيراً أو عملاً صالحاً ) لحياتي ( هذه وهي الحياة الأخيرة ، أو اللام بمعنى الوقت أي وقت حياتي في الدنيا .
وقد يرجع هذا الوجه لأن أهل النار لا حياة لهم في الحقيقة المضاهية للموت أو التي هي أشدّ من الموت ولأهل الجنة جميعاً .
قالت المعتزلة : في هذا التمني دليل واضح على أن الاختيار كان زمامه بيده ، ويحتمل أن يجاب بأن استحالة متمناه قد تكون من جهة أن الأمر في الدنيا لم يكن إليه فيتحسر على ذلك .
وقال في التفسير الكبير : فيه دليل على أن قبول التوبة لا يجب عقلاً .
ويرد عليه أنه لا يلزم من عدم قبولها في اخرة عدم قبولها في دار التكليف كإيمان اليأس .
من قرأ ) لا يعذب ( ) ولا يوثق ( على البناء للفاعل فمعناه على ما قال مقاتل : لا يعذب عذاب الله أي عذابه أحد من الخلق .
ضعف بأن يوم القيامة لا يعذب أحد سوى الله فلا يتصور لهذا النفي فائدة .
وأجيب بأن المراد لا يتولى يوم القيامة عذاب الله أحد لأن الأمر يومئذ لله وحده ، أو لا يعذب أحد في الدنيا ولا يوثق مثل عذاب الله الكافر ومثل إيثاقه إياه في الشدّة والإيلام .
وقال أبو علي الفارسي : تقديره لا يعذب أحد من الزبانية أحداً مثل عذاب هذا الإنسان وهو أمية بن خلف ، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه لتناهيه في كفره وفساده .
ومن قرأ بناء الفعل للمفعول فيهما فظاهر .
والضمير في ) عذابه ( و ) وثاقه ( للإنسان .
ويمكن أن يراد لا يحمل عذاب الإنسان أحد كقوله ) ولا تزر وارزة وزر أخرى ) [ الأنعام : 164 ] قال الواحدي : وهذا أولى الأقوال .
ثم ذكر بشارة الأبرار وهو أن يقول للمؤمن بذاته أو على لسان ملك ) يا أيتها النفس المطمئنة ( أي بذكر الله أو بتحصيل الأخلاق الفاضلة والعقائد الصحيحة التي تسكن النفس السليمة إليها ) ارجعي إلى ربك ( إلى حيث لا مالك سواه أو إلى ثوابه ) راضية ( بما حكم عليك وقدر لك ) مرضية ( عند الله(6/499)
" صفحة رقم 500 "
نظيره ) رضي الله عنهم وروضوا عنه ) [ البينة : 8 ] وهذه صفة أرباب النفوس الكاملة وإن كانوا بعد في دار التكليف ولهذا رتب على هذه الصفة قوله ) فادخلي في عبادي ( أي في جملة الصالحين ) وادخلي جنتي ( وهي في الدنيا مقام الرضا والتسليم .
وإذا كانت النفس متحلية بالكمالات الحقيقية والمعارف اليقينية في حياته العاجلة كانت أهلاً لهذه البشارة عند الموت وعند البعث وفي كل المواطن إلى دخول الجنة .
وقيل : إنما يقال له هذا عند البعث والمعنى فادخلي في أجساد عبادي يؤيده قراءة ابن مسعود ( في جسد عبدي ) قالوا : أنزلت في حمزة بن عبد المطلب أو في خبيب بن عدي الذي صلبه أهله مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال : اللهم إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك ، فحوّل الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يغيرها .
والظاهر العموم ولو سلم فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .(6/500)
" صفحة رقم 501 "
سورة البلد
( سورة البلد مكية وقيل مدنية حروفها مائتان وستة وثلاثون كلمها ثمانون آياتها عشرون ) بسم الله الرحمن الرحيم
البلد : ( 1 - 20 ) لا أقسم بهذا . . . .
" لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة "
القرآات ( لبداً ) بالتشديد : يزيد ) فك رقبة أو إطعام ( على صيغة الفعلين ونصب ) رقبة ( ابن كثير وأبو عمرو وعليّ. الباقون : على المصدرين فأضافوا الأول نونوا الثاني أي هي الفك أو الإطعام ) مؤصدة ( بالهمز : أبو عمرو ويعقوب وحمزة وخلف وحفص والمفضل .
الوقوف : ( البلد ( ه لا ) البلد ( ه ك ) ولد ( ه ك ) كبد ( ه ط ) أحد ( م ه لئلا يوهم أن ما بعده صفة ) لبداً ( ط ) أحد ( ه ك ) عينين ( ه لا ) وشفتين ( ه ك ) النجدين ( ج ه للنفي مع الفاء ) العقبة ( ه ز ) العقبة ( ه ط ) رقبة ( ه لا ) مسغبة ( ه ك ) مقربة ( ه ك ) متوبة ( ه ط لأن ثم لترتيب الأخبار ) بالمرحمة ( ه ك ) الميمنة ( ه ط ) المشأمة ( ه ط ) مؤصدة ( ه .
التفسير : إنه سبحانه قرر في هذه السورة وفي أكثر ما يتلوها من السور مراتب النفوس الإنسانية وأحوالها في السعادة وضدّها ، فأكد ذلك بالإقسام بالبلد الحرام وهي مكة التي جعلها الله تعالى منشأ كل بركة وخير. وقوله ( وأنت حلّ بهذا البلد ( اعتراض بين القسمين كأنه تعالى عظم مكة من جهة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) حلّ بها وأقام فيها. وقيل : الحل بمعنى الحلال كأنه سبحانه عجب من اعتقاد أهل مكة كيف يؤذون أشرف الخلق في موضع محرم. عن(6/501)
" صفحة رقم 502 "
شرحبيل : يحرمون أن يقتلوا بها صيداً ويغضدوا بها شجرة وستحلون إخراجك وقتلك. وقال قتادة : أنت حلّ أي لست بأثيم وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت كما في الحديث ) ولم تحل لي إلا ساعة من نهار (. فأنت كانت السورة مكية أو مدنية قبل الفتح فقوله ) حل ( بمعنى الاستقبال نحو ) إنك ميت وإنهم ميتون ) ) الزمر : 30 ) وكثيراً ما تبرز الأفعال المستقبلة في القرآن في صيغ الماضي لتحقق الوقوع ، وإن كان حال الفتح أو بعده فظاهر. وعلى الأول يكون فيه إخبار بالغيب وقد يسر الله له فتح مكة كما وعد فيكون معجزاً. أما الوالد والولد فقيل : آدم وذرّيته لكرامتهم على الله ) ولقد كرمنا بني آدم ) ) الإسراء : 70 ) وقيل : كل والد ومولود. وقد يخص الإقسام بالصالحين لأن غير الصالحين لا حرمة لهم ) أولئك كالأنعام بل هم أضل ) ) الأعراف : 179 ) والأكثرو على أن ا لوالد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام والولد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه أقسم ببلده ثم بوالده ثم به و التنكير للتعظيم. وإنما لم يقل ومن ولد للفائدة المذكورة في قوله ) والله أعلم بما وضعت ) ) آل عمران : 36 ) أي بشيء وضعته وهو مولود عجيب الشأن. والكبد الشقة والتعب كقوله ) إنك كادح إلى ربك كدحاً ) ) الإنشقاق : 6 ) وأصله من كبد الرجل بالكسر كبداً بالفتح فهو كبد إذا وجعت كبده وانتفخت. ولا تخفى الشدائد الورادة على الإنسان من وقت احتسابه في الرحم إلى انفصاله ثم إلى زمان رضاعه ثم إلى بلوغه ثم ورود طوراق السراء وبوراق الضراء وعلائق التكاليف وعوائق التمدن والتعيش عليه إلى الموت ، ثم إلى البعث من المساءلة وظلمة القبر ووحشته ، ثم إلى الاستقرار في الجنة والنار من الحساب والعتاب والحيرة و الحسرة و الوقوف بين يدي الجبار ، اللهم سهل علينا هذه الشدائد بفضلك يا كريم ووفقنا للعمل بما يستعقب الخلاص منها إلى النعيم المقيم. وقيل : الكبد مرض القلب وفساد العقيدة والمراد به الذين علم الله من حالهم أنهم لا يؤمنون. وقيل : الكبد هو الاستواء والاستقامة أي خلقناه منتصب القامة. وقيل : الكبد الشدة والغلظ ثم اشتق منه اسم العضو لأنه دم غليظ. وقد يخص الإنسان على هذا التفسير بشخص واحد من جمح يكنى أبا الأشدين ، كان يجعل تحت قدميه الأديم ثم يمدّ من تحت قدميه فيتمزق الأديم ولم تزل قدماه ويعضد هذا التفسير قوله ) أيحسب ( يعني ذلك الإنسان الشديد. وعلى الأول معناه لن يقدر على بعثة ومجازاته أو على تغيير أحواله وأطواره ) يقول أهلكت مالاً لبداً ( أي كثيراً بعضه فوق بعض وهو جمع لبدة بالضم لما يلبد قاله الفراء. وعن الزجاج أنه مفرد والبناء للمبالغة والكثرة. يقال : رجل حطم إذا كان كثير الحطم. ومن قرأ بالتشديد فهو جمع لا بد يريد كثرة ما أنفقه في الجاهلية فوبخه على ذلك بقوله ) أيحسب أن لم يره أحد ( يعني أنه تعالى كان عالماً بقصده حين ينفق ما ينفق(6/502)
" صفحة رقم 503 "
رياء وافتخاراً وحباً للإنتساب إلى المكارم و المعالي أو معاداة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وقال قتادة : أيظن أن الله لم يره ولا يسأله عن ماله من أين كسبه وفي أي شيء أنفقه ؟ وقال الكلبي : كان كاذباً ولم ينفق شيئاً فقال الله : أيزعم أن الله ما رأى ذلك منه ولو كان قد أنفق لعلم الله. ثم دل على كمال قدرته مع إشارة إلى الاستعداد الفطري بقوله ) ألم نجعل له عينين ( يبصر بهما المصنوعات ) ولساناً ( يعبر به عما في ضميره ) وشفتين ( يستعين بهما على الإفصاح بالنطق ) وهديناه النجدين ( سبيلي الخير والشر كقوله ) إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً ) ) الدهر : 3 ) هذا قول عامة المفسرين. والنجد في اللغة المكان المرتفع جعل الدلائل لارتفاع شأنها وعلو مكانها مالاً لبداً ( فمن الذي يحاسبني عليه ؟ فقيل الذي قدر على أن خلق لك الأعضاء قادر على محاسبتك. وعن ابن عباس وسعيد بن المسيب : هما الثديان لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه هدى الله الطفل الصغير حتى ارتضعهما ، قال القفال : والتفسير هو الأول. ثم قرر وجه الاستدال به فقال : إن من قدر على أن خلق من الماء المنتن قلباً عقولاً ولساناً فؤولاً فهو على إهلاك ما خلق أقدر ، فما الحجة في الكفر بالله مع تظاهر نعمه ؟ وما العلة في التعزز على الله وأوليائه بالمال وإنفاقه وهو المعطي و الممكن من الإنتفاع ؟ ثم عرف عباده وجوه الإنفاق الفاضلة تعريضاً بأن ذلك الكافر لم يكن إنفاقه في وجه مرضيّ معتدّ به لابتناء قبول الطاعات على الإيمان الذي هو أصل الخيرات. والاقتحام الدخول بشدّة ولهذا يستعمل في الأخطار والأهوال. والعقبة طريق الجبل ؛ فعن ابن عمر : هي جبل زلال في جنهم. وعن مجاهد والضحاك : هي الصراط يضرب على نار جهنم ، وهو معنى قول الكلبي : عقبة بين الجنة والنار. وزيف الواحدي وغيره هاتين الروايتين بأنه من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا العقبة بهذا المعنى ، وبأن تفسير الله سبحانه العقبة عقيبة ينافيه. وعن الحسن : عقبة والله شديدة إن هذا مجاهد الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان. قال النحويون : قلما توجد لا الداخلة على الماضي إلا مكررة كقوله ) فلا صدّق ولا صلّى ) ) القيامة : 31 ) وتقول : لا خيبني ولا رزقني. والقرآن أفصح الكلام فهو أولى برعاية هذه القاعدة. والجواب أن القرآن حجة كافية ولو سلم فهم متكررة في المعنى. قال الزجاج : ألا ترى أنه فسر العقبة بفك الرقبة والإطعام ؟ فكأنه قيل : فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً ولا سيما فيمن قرأ ) فك ( و ) أطعم ( على الإبدال من ) اقتحم ( وجعل ما بينهما اعتراضاً. ويجوز أن يراد فلا اقتحم العقبة ولا آمن يدل عليه قوله ) ثم كان من الذين آمنوا ( ومن قرأ ) فك ) ) أو إطعام ( على المصدرين فالفاعل محذوف وهو من خواص المصدر لا(6/503)
" صفحة رقم 504 "
يجوز حذف الفاعل من غيره والتقدير : فك فاك رقبة أو إطعام يتيماً. والمسبغة مصدر على ( مفعلة ) من سغب إذا جاع ، وكذا القربة من قرب في النسب. والمتربة من ترب إذا افتقر والتصق بالتراب فليس فوقه ما يستره ولا تحته ما يوطئه. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : هو الذي مأواه المزابل. ووصف اليوم بذي مسبغة مجاز باعتبار صاحبه نحو ( نهاره صائم ). وفك الرقبة تخليصها من رق أو غيره. وفي الحديث إن رجلاً قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : دلني على عمل يدخلني الجنة. فقال : ( تعتق النسمة وتفك الرقبة. فقال : أوليسا سواء ؟ قال : لا إعتاقها أن تتفرد بعتقها وفكها تخليصها من قود أو غرم ( وقد استدل أبو حنيفة من تقديم العتق على أنه أفضل من الصدقة. وعند بعضهم بالعكس لأن في الصدقة تخليص النفس من الإشراف على الهلاك فإن قوام البدن بالغذاء ، وفي الفك تخليصها من القيد في الأغلب. وأيضاً لعل الأمر في الأول أضيق. ولا شك أن إطعام اليتيم القريب أفضل من اليتيم الأجنبي. وقد يستدل للشافعي أن المسكين أحسن حالاً من الفقير وأنه قد يكون بحيث يملك شيئًا وإلا وقع قوله ) ذا متربة ( تكراراً. وقال بعض أهل التأويل : فك رقبة أن يعين المرء نفسه على إقامة الوظائف الشرعية ليتخلص بها عن النار. وعندي هو أن يفك رقبته عن الكونين ليلزم عنه زوال الحرص المستتبع لمواساة النفس على الطعام والإيثار. وفي قوله ) ثم كان ( وجوه أحدها : أن هذا التراخي في الذكر لا في وجود فان الإيمان مقدمّ على جميع الخصال المعتدّ بها شرعاً كقوله :
إن من ساد ثم ساد أبوه
ثم قد ساد قبل ذلك جده
أي ثم أنه أذكر ساد أبوه : وثانيهما التأويل بالعاقبة أي ثم كان في عاقبة أمره ممن يموت على الإيمان. وثالثهما أن الآية نزلت فيمن أتى بهذه الخصال قبل إيمانه بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) : إنا كنا نأتي بأعمال الخير في الجاهلية فهل لنا منها شيء ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) أسلمت على ما قدّمت من الخير (. ورابعها وهو أولى الوجوه عند أصحاب المعاني أن المراد تراخي الرتبة والفضيلة لأن ثواب الإيمان أكثر من ثواب العتق والصدقة. وقد يوجه البيت المذكور على هذا بأن المراد ثم ساد أبوه مع ذلك ثم ساد جده مع ما ذكر ،(6/504)
" صفحة رقم 505 "
ولا ريب أن مجموع الأمرين أو الأمور أشرف من أن ساد هو بنفسه فقط .
وحين ذكر خصال الكمال عقبه بما يدل على التكميل قائلاً ) تواصوا ( أي أوصى بعضهم بعضاً ) بالصبر ( على التكاليف الشرعية وعلى البلايا والمحن التي قلما يخلوا المؤمن عنها ) وتواصوا بالمرحمة ( أي التعاطف و التراحم كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا أخواناً متعاضدين (. وفي الآية نكتة لطيفة وهي أنه سبحانه ذكر في باب الكمال أمرين : فك الرقبة والإطعام ثم الإيمان ، وذكر فب باب التكميل شيئين : التواصي بالصبر على الوظائف الدينية والتواصي بالتراحم ، وكل من النوعين مشتمل على التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله إلا أنه في الأول قدّم جانب الخلق ، وفي الثاني قدم جانب الحق. ففي الأول إشارة إلى كمال رحمته ونهاية عنايته بالمخلوقات فإن رعاية مصالحهم عنده نفس الأمر زادنا الله إطلاعاً على دقائق هذا الكتاب الكريم. قوله ) أصحاب الميمنة ( و ) أصحاب المشأمة ( مر في أول الواقعة تفسيرهم. قال أهل اللغة : أوصدت الباب وآصدته بالواو وبالهمز أي أطبقته وأغلقته. قال مقاتل فلا يخرج أحد منها و لا يدخل روح فيها. والإيصاد بالحقيقة صفة أبواب النار أي مؤصدة أبوابها فهو من الإسناد المجازي. وقيل : أراد إحاطة النار بهم من جميع الجوانب نعوذ بالله منها .(6/505)
" صفحة رقم 506 "
سورة الشمس
( سورة الشمس وهي مكية حروفها مائتان وستة وأربعون كلمها أربع وخمسون آياتها خمس عشرة ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الشمس : ( 1 - 15 ) والشمس وضحاها
" والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها "
( القراآت )
تلاها ( و ) طحاها ( مثل ) دحاها ( مثل ) دحاها ) [ الآية : 30 ] في ( النازعات ) ) فلا يخاف ( بالفاء وضم الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير بناء على أن ) قد افلح ( جواب القسم واللام محذوف أي لقد افلح .
الوقوف : ( وضحاها ( ه لا ) تلاها ( ه ك ) جلاها ( ه ك ) يغشاها ( ه ك ) بناها ( ه ك ) طحاها ( ه ك ) سوّاها ( ه لا ص ) وتقواها ( ه لا ) زكاها ( ه ك ) دساها ( ه ط ) بطغواها ( ه ط لأن الظرف يتعلق ب ) كذب ( أو بالطغوى ) أشقاها ( ه ) وسقياها ( ه ) فعقروها ( ط ) فسوّاها ( ه ط ) عقباها ( ه .
التفسير : قال النحويون : إن في ناصب ) إذا تلاها ( وما بعده إشكالاً لأن ( ما ) سوى الواو الأولى إن كن للقسم لزم اجتماع أقسام كثيرة على مقسم به واحد وهو مستنكر عند الخليل وسيبويه ، لأن استئناف التغليظ ، وإن كن عاطفة لزم العف على عاملين بحرف واحد وذلك أن الجواب أنا نختار الثاني ولزوم العطف على عاملين ممنوع لأن حرف العطف ناب عن واو حرف العطف ناب عن اواو القسم المقتضي للجر وعن الفعل الذي يقتضي انتصاب الظرف .
والجواب أنا نختار الثاني ولزوم العطف على عاملين ممنوع لأن حرف العطف ناب عن واو القسم النائب عن الفعل المتعدّي بالباء ، وكما أن واو القسم تعمل الجر في القسم والنصب(6/506)
" صفحة رقم 507 "
في الظرف إذا قلت مثلاً ابتداء ) والليل إذا يغشى ) [ الليل : 1 ] لقيامه مقام قولك ( اقسم بالليل إذا يغشى ) فكذا حرف العطف النائب منابه نظيره قولك ( ضرب زيد عمراً وبكر خالداً ) فترفع بالواو وتنصب لقيامه مقام ضرب .
قال بعض المتكلمين : المضاف في هذه الأقسام محذوف تقديره ورب الشمس إلى آخرها .
وزيف بلزوم التكرار في قوله ) وما بناها ( وما بعده .
وأجيب بأن ( ما ) في ) وما بناها ( وما بعده مصدرية .
واعترض عليه في الكشاف بأنه يلزم من عطف قوله ) فألهمهما ( على قوله ) وما سوّاها ( فساد النظم فالوجه أن تكون ( ما ) موصولة .
وإنما أوثرت على ( من ) لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل : والسماء والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيم الذي سوّاها ، على أنه قد جاء ( ما ) مستعملاً في ( من ) كقولهم ( سبحان ما سخركن لنا ) .
أما الذين لم يقدروا المضاف فأورد عليهم أنه يلزم تأخير القسم برب السماء وبانيها عن القسم بالسماء .
والجواب أن الله عز قائلاً أراد أن نتدرج من المحسوسات إلى المعقولات ومن المصنوعات إلى الصانع ، ولا يخفى أن المحسوسات أظهرها هو الشمس فذكرها سبحانه مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمتها .
فأول أعظم الأوصاف الضور الحاصل منها عند ارتفاع النهار ، وثانيها تلو القمر لها غاية في منتصف الشهر أو تلوه لها في أخذ الضور عنها أو في غروبه ليلة الهلال بعدها قاله قتادة والكلبي .
وقيل : في كبر الجرم بحسب الحس وفي ارتباط مصالح هذا العالم بحركته والثالث والرابع بروزها لمجيء النهار واختفاؤها لمجيء الليل .
ثم ذكر ذاته المقدسة وعقبه بأنواع تدابيره في السماء والأرض وفي البسائطوما يتركب منها وأشرفها النفس .
ولنشتغل بتفسير بعض الألفاظ .
قال الليث : الضحو ارتفاع النهار والضحى فوق ذلك .
والضحاء بالمد إذا امتد النهار وقرب أن ينتصف .
وتلاها تبعها بإحدى المعانى المذكورة ، والتجلية الكشف والعيانز والضمير في ) جلاها ( للشمس في الظاهر على ما قال الزجاج وغيره ، لأن النهار كلما كان أصدق نوراً كانت الشمس أجلى ظهوراً فإن الكشف والعيان يدل على قوة المؤثر وكماله لا قوة الأثر وكماله ، فكان النهار يبرز الشمس ويظهرها .
وذهب جم غفير إلى أن الضمير يعود إلى الظلمة أو الدنيا أو الأرض بدلالة قرائن الأحوال وسياق الكلام ، ولعل الوجه الأول أولى لأن عود الضمير إلى المذكور أقرب منه إلى المقدر ، ولأنه يلزم تفريق الضمائر يعود إلى الظلمة أو الدنيا أو الأرض بدلالة قرائن ألحوال وسياق الكلام ، ولأن غشيان الليل الشمس عبارة عن ذهاب الضوء وحصول الظلمة بسبب غيبة الشمس في الأفق ، فكذا تجلية النهار إياها يجب أن تكون إشارة إلى كمال الضوء وظهوره للحس بواسطة ظهور الشمس فوق الأرفق .
والحاصل أن الذهن كما ينتقل من عدم الأثر إلى عدم(6/507)
" صفحة رقم 508 "
المؤثر فجعل كأن لعدم الأثر تأثيراً في عدم المؤثر ، فكذلك ينتقل من وجود الأثر إلى وجود المؤثر فيصح أن يقال : إن وجود الأثر علة لوجود المؤثر وهذا معنى كون النهار مجلياً للشمس .
والطحو مثل الدحو وقد مر في ( النازعات ) أي بسطها على الماء .
وتنكير النفس إما للتنويع أي نفس خاصة من بين النفوس وهي النفس القدسية النبوية التي تصلح لرياسة ما سواها من النفوس ، وإما للتكثير على الوجه المذكور في قوله ) علمت نفس ما أحضرت ) [ التكوير : 14 ] وتسويتها إعطاء قواها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن وهي الحواس الظاهرة والباطنة والقوى الطبيعية المخدومة والخادمة وغيرها ) فألهمها فجورها وتقواها ( قالت المعتزلة : هو كقول ) وهديناه النجدين ) [ البلد : 10 ] أي علمناه وعرفناه سلوك طريقي الخير والشر ويعضده ما بعده ) قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ( والتدسية ضد التزكية .
وأصل دسي دسس قلب أحد حرفي التضعيف ياء كما في ( قضيت ) .
والتدسيس مبالغة الدس وهو الإخفاء في التراب قال عز من قائل ) أم يدسه في التراب ) [ النحل : 59 ] والضمير في ( زكى ) و ( دس ) ل ( من ) وقال أهل السنة : الضمير أن لله تعالى و ( من ) عبارة عن النفس والمعنى : قد سعدت نفس زكاها الله تعال وخلقها طاهرة ، وخابت نفس دساها الله وخلقها كافرة فاجرة .
وقد يروى هذا الوجه عن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي قالوا : أصل الإلهام من قولهم ( لهم الشيء والتهمة ) إذا ابتلعه و ( ألهمته إياه ) أي أبلعته ذلك .
فالإلهام الإبلاغ أي وضع الإيمان في قلب المؤمن والكفر في قلب الكافر .
ثم وعظهم بقصة ثمود لقربها من ديارهم. ولأهل التأويل أن يقولوا : إنما خص هذه القصة لأن ناقة الله هي البدن وعبر بصالح عن الروح ، ولما كانت قصة ثمود مناسبة لأحوال النفس الإنسانية كما مرت في التأويلات ، وكانت هذه السورة مسوقة لبيان مراتب النفس في السعادة والشقاوة ، وخصت القصة بالذكر لذلك ، وعلى هذا التأويل قد يراد بالشمس تجلي النفس الناطقة على البدن بالتديبر الكامل ، وبالقمر الروح الحيواني .
أو شمس المعرفة ، وقمر المكاشفة ، ونهار وليل المحو وسماء الروح وأرض القلب كما مر مراراً. والطغوى اسم من الطغيان كالتقوى من الوقاية قلبت ياؤه واواً فرقاً بين ما هي اسم وبين ما هي صفة كقولهم ( امرأة خزياً وصدياً ) والباء للآلة أي فعلت التكذيب بواسطة طغيانها .
وقيل : المضاف محذوف والمجموع صفة للعذاب والباء للإلصاق أي كذبت ثمود بما أووعدت من العذاب ذي الطغوى كقوله ) فأهلكوا بالطاغية ) [ الحاقة : 5 ] والأول أوضح لئلا يكون قوله ) فكذبوه ( تكراراً .
ومعنى ) انبعث ( تحركت داعيت وقوي عزمه على العقر .
) وأشقاها ( عاقر الناقة قدار بن سالف ، أو هو مع من ساعده على ذلك فإن أفعل التفضيل يجوز أن لا(6/508)
" صفحة رقم 509 "
يفرق فيه بين الواحد .
والجمع وعلى هذا يجوز أن يكون الضمير في ) لهم ( عائداً إلى الجماعة الأشقياء ، وعلى الأول يكون عائداً إلى قوم صالح .
و ) ناقة الله ( نصب على التحذير أي احذروا عقرها ) وسقياها ( فلا تعتدوا بها فإن لها شرباً ولكم شرب يوم ) فكذبوه ( فيام أوعدهم به من نزول العذاب إن فعلوا فعقروا الناقة ) فدمام ( أي فأطبق ) عليهم ( العذاب .
قالوا : هو مضعف من قولهم ( ناقة مدمدمة ) إذا ألبست الشحم .
واباء في ) بذنبهم ( للسببية فسوى الدمدمة بينهم بحيث لم يهرب منها أحد ) ولا يخاف عقباها ( كما يخاف ملوك الدنيا فينزجر عن استيفاء العقوبة .
وجوز أن يكون الضمير لثمود أي فسوّاها بالأرض ، أو في الهلاك ولا يخاف تبعه بهلاكها وهو تعالى أعلم .(6/509)
" صفحة رقم 510 "
سورة الليل
( سورة الليل مكية حروفها ثلثمائة وعشرة كلمها إحدى وسبعون آياتها إحدى وعشرون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الليل : ( 1 - 21 ) والليل إذا يغشى
" والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى "
( القراآت )
ناراً تلظى ( بتشديد التاء : البزي وابن فليح .
الوقوف : ( يغشى ( ه لا ) تجلى ( ه لا ) والأنثى ( ه لا ) لشتى ( ه ط ) واتقى ( ه لا ) بالحسنى ( ه لا ) لليسرى ( ه ط ) واستغنى ( ه لا ) بالحسنى ( ه لا ) للعسرى ( ط ) تردّى ( ه ط ) للهدى ( ه ز للعطف مع رعاية جانب ( أنّ ) والوصل أجوز لإتمام الكلام ) والأولى ( ه ) تظلى ( ه ج لأن ما بعده صفة أو استئناف ) الأشقى ( ه لا ) وتولى ( ه ط ) الأتقى ( ه لا ) يتزكى ( ه ج لأن ما بعده استئناف أو حال ) تجزى ( ه ) الأعلى ( ه ج لاختلاف الجملتين ) يرضى ( ه .
التفسير : هذه السورة نزلت باتفاق كثير من المفسرين في أبي بكر وفي أبي سفيان ابن حرب أو أمية بن خلف ، إلا أن المعنى على العموم لقوله تعالى ) إن سعيكم لشتى فأنذرتكم ( ومفعول ) يغشى ( محذوف وهو إما الشمس كقوله تعالى ) والليل إذا يغشاها ) [ الآية : 4 ] أو النهار أ كل شيء يمكن تواريه بالظلام .
أقسم سبحانه بالليل والنهار اللذين بتعاقبهما يتم أمر المعاش والراحة مع أنهما آيتان في أنفسهما .
ومعنى ) تجلى ( ظهر بزوال ظلمة الليل وتبين بطلوع الشمس ثم بذاته الذي خلق كل شيء ذي روح لأن الروح إما ذكر(6/510)
" صفحة رقم 511 "
أو أنثى ، والخنثى المشكل معين في علم الله وإن كان مبهماً في علمنا ولهذا قال الفقهاء : لو حلف بالطلاق أنه لم يلق يومه ذكراً ولا أنثى وقد لقي خنثى مشكلاً حنث .
وقيل : هما آدم وحواء ) شتى ( جمع شتيت وهو المتفرق المختلف .
ثم بين اختلاف الأعمال في ذاتها وفيما يرجع إليها في العاقبة من الثواب والعقاب أو التوفيق والخذلان .
عن علي رضي الله عنه أنه قال : خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جنازة فقعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقعدنا حوله فقال ( ما منكم نفس نفوسة إلا وقد علم مكانها من الجنة والنار .
فقلنا : يا رسول الله أفلا نتكل ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ ) فأمّا من أعطى ( ( يعني حقوق ما له ) واتقى ( المحارم ) وصدّق ( بالخصلة الحسنى وهي الإيمان أو كلمة الشهادة أو بالملة الحسنى أوبالمثوبة ) فسنيسره ( فسنهيئه للطريق اليسرى .
يقال يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجممها .
ومعنى استغنى أنه رغب عما عند الله كأنه مستغن ، أو استغنى باللذات العاجلة عن الآجلة .
والتحقيق فيه أن الأعمال الفاضلة إذا واظب المكلف عليها حصلت في نفسه ملكة نورانية تسهل عليه سلوك سبيل الخيرات حتى يصير التكليف طبعاً .
والتعب راحة والتكليف عادة ، ولأن هذه الملكة تحصل بالتدريج فلا جرم أدخل الفاء في ) فسنيسيره ( ومن فسر اليسرى بالجنة فمعنى الاستقبال عنده واضح .
والرذائل بالضد حتى تصير النفس من الكسل بحيث لا تواتي صاحبها إلا في مواجب الكسل وجذب الراحات العاجلة كقوله ) وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) [ البقرة : 45 ] ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ) [ النساء : 148 ] ويقرب مما ذكرنا قول القفال : كل ما أدت عاقبته إلى يسر وراحة وأمور محمودة فإن ذلك من اليسرى وذلك وصف كل الطاعات ، وكل ما أدّت عاقبته إلى عسر وتعب فهو من العسرى وذلك وصف كل المعاصي ، ومن جملة اليسرى الجنة ومن جملة العسرى النار .
استدل بعض الأشاعرة بقوله ) فسنيسره للعسرى ( على أنه تعالى قد يخلق القبائح في المكلف ويقوي دواعيه على فعلها .
والمعتزلة عبروا عن هذا التيسير بالخذلان وعن الأول بمنح الألطاف والتوفيق .
ثم وبخ هذا الكافر بقوله ) وما يغني عنه ماله ( وهو استفهام في معنى النفي أي لا ينفعه ماله الذي بخل به ) إذا تردّىْ أي مات من الردى وهو الهلاك .
ويجوز أن يكون من قولهم ) تردّى من الجبل ( أي تردّى من الحفرة في القبر أو في قعر جهنم .
استدل المعتزلة بقوله ) إن علينا للهدى ( على أنه تعالى أزاح الأعذار وما كلف المكلف إلا ما في سعته وطاقته ، وعلى أنه يجب على الله الهداية ، وعلى أن العبد لو لم يكن مستقلاً بالإيجاد(6/511)
" صفحة رقم 512 "
لما كان في وضع الدلائل فائدة .
وأجوبة أهل السنة عن المسائل الثلاث معلومو .
ونقل الواحدي عن الفراء وجهاً آخر وهو أن المراد إن علينا للهدى والإضلال فاقتصر كقوله ) سرابيل تقيكم الحر ) [ النحل : 81 ] وأكدوا ذلك بما روي عن ابن عباس في رواية عطاء أن معنى الآية أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي .
ثم بين بقوله ) وإن لنا للآخرة والأولى ( أن لله كل ما في الدنيا والآخرة فلا يضره عصيان العاصين ولا ينفعه طاعة المطيعين ، وإنما يعود ضره أو نفعه إليهم .
ويمكن أن يراد أن سعادة الدارين تتعلق بمشيئته وإرادته فيعطي الهداية من يشاء ويمنعها من يشاء .
والأول أوفق للمعتزلة والثاني للأشاعرة .
ثم ذكر نتيجة المواعظ المذكورة قائلاً ) فأنذرتكم ناراً تلظى ( يعني إذا عرفتم هذه اليبانات الوافقية والتقريرات الشافية فقد صح إني أنذرتكم ، ويجوز أن يراد بالمضيّ تحقق الوقوع .
والمعنى على الاستقبال أي إذا تقررت مراتب النفوس الإنسانية وعرفتم درجاتها ودركاتها فإني أنذرتكم ناراً تلظى تتلهب وتتوقد وأصله تتلظى حذف إحدى التاءين .
ثم إن كان المراد بالأشقى هو أبو سفيان أو أمية وبالأتقى هو أبو بكر فلا إشكال وتتناول الآية غيرهما من الأشقياء والأتقياء بالتبعية إذ لا عبرة بخصوص السبب ، وإن كان المراد أعم فإن أريد بهم الشقي والتقي فلا إشكال ايضاً ، وإن أريد حقيقة أفعل التفضيل فإما أن يراد نار مخصوصة بدلالة التنكير ، وإما أن يراد بالأشقى الكافر على الإطلاق لأنه أشقى من الفاسق .
وأما الكلام في الأتقى فنقول : إنه لا يلزم من تخصيصه بالذكر نفي ما عداه .
قال جار الله : هذا الكلام وارد على سبيل المبالغة فجعل الأشقى مختصاً بالصلى كأن النار لم تخلق إلا له ، وجعل الأتقى مختصاً بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له .
وقوله ( يتزكى ( أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً ، أو هو من الزكاة لا محل له لأنه بدل من ) يؤتى ( والصلة لا محل لها لأنها كبعض الكلمة ، أو هو منصوب المحل على الحال. قال بعض المفرين : إن بلالاً كان يعذب في الله وهو يقول أحد أحد ، فسمع بذلك أبو بكر فحمل رطلاً من ذهب فابتاعه به فقال المشركون : ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده فنزل ) وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء ( قال أكثر النحويين : هذا الاستثناء منقطع لأن الابتغاء ليس من جنس النعمة .
وقال الفراء : وهو مفعول له من ) يؤتى ( على المعنى أي لا ينفق ماله إلا ابتغاء مرضياً .
واعلم أن بعض الشيعة زعموا أن السورة نزلت في عليّ رضي الله عنه لقوله ) يتزكى ( لأنه قال في موضع آخر ) ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) [ المائدة : 55 ] وقال بعض أهل السنة : إنها تدل على أفضلية أبي بكر لأنه قال في وصف عليّ وسائر أهل البيت(6/512)
" صفحة رقم 513 "
رضي الله عنهم ) ويطعمون الطعام ( إلى قوله ) إنا نخاف ) [ الدهر : 108 ] وذكر في صفة أبي بكر أنه لا ينفق إلا لوجه الله من غير شائبة رغبة أو رهبة ، وهذا المقام أعلى وأجل وعندي أن أمثال هذه الدلائل لا تصلح لترجيح أكابر الصحابة بعضهم على بعض ، وأن نزول هذه السورة في الشخص الفلاني مبني على الرواية فلا سبيل للاستدلال إليه ، وإليه المرجع والمآب والله أعلم .(6/513)
" صفحة رقم 514 "
سورة الضحى
( سورة الضحى وهي مكية حروفها مائة واثنان وسبعون كلمها أربعون آياتها إحدى عشرة ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الضحى : ( 1 - 11 ) والضحى
" والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث "
( القراآت )
سجى ( مثل ) دحاها ) [ الآية : 30 ] في ( النازعات ) الوقوف : ( والضحى ( ه لا ) سجى ( ه لا ) قلى ( ه لا ) الأولى ( ه لا ) فترضى ( ه ط ) فآوى ( ه ص ) فهدى ( ه ك ) فأغنى ( ط ) فلا تقهر ( ه ط ) فلا تنهر ( ه ط ) فحدّث ( ه .
التفسير : الأكثرون على أن المراد بالضحى وقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس ويظهر سلطانها .
وقيل : هو النهار كله لإقرانه بالليل في القسم وهو ضعيف ، لأن معنى سجى سكن واستقر ظلامه ، أو سكون الناس فيه فيكون الإسناد مجازياً .
يقال : سجا البحر إذا سكنت أمواجه ، وطرف ساج أي ساكن فاتر .
ولا ريب أن سجوّ الليل وقت استيلاء الظلام منه لا كله فهو بمنزلة الضحى من النهار .
وههنا لطائف : الأولى : قدم ذكر الليل في السورة المتقدمة وعكس ههنا لانفراد كل منهما بفضيلة مخصوصة ، فالليل للراحة والنهار لانتظام أمر المعاش فقدّم هذا على ذلك تارة وبالعكس أخرى لئلا يخلو شيء من النوعين عن فضيلة التقديم .
وأيضاً تلك تارة وبالعكس أخرى لئلا يخلو شيء من النوعين سورة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يسبقه كفر طرفة عين ولا أقل من ذلك ، فبدأ النهار الذي هو يشابه الإيمان .
فإن ذكرت الليل أولاً وهو أبو بكر ثم صعدت وجدت بعده النهار وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإن ذكرت الضحى أولاً وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم نزلت وجدت بعده الليل وهو أبو بكر من غير واسطة بينهما كما وقع في نفس الأمر ، وكما ثبت من قصة الغار .
الثانية : ما الحكمة(6/514)
" صفحة رقم 515 "
في تخصيص القسم في أول هذه السورة بالضحى والليل ؟ والجواب لأن ساعات النهار كلما تنقص فإن ساعات الليل تزداد وبالعكس ، فلا تلك الزيادة للهوى ولا ذاك النقصان للقلى بلى للحكمة ، فكذا الرسالة ولإإنزال الوحي بحسب المصالح فمرة إنزال ومرة حبس لاعن الهوى ولا عن القلى .
وأما السبب في الأقسام نفسه فلأن الكفار لما ادّعوا أن ربه ودعه وقلاه وقد ثبت أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر قال لهم : هاتوا الحجة فعجزوا فلزمه اليمين بأنه ما ودعه ربه وما قلاه .
وفيه أن الليل والنهار لا يسلمان من الزيادة والنقصان فيكف تطمع أن تسلم عن الخلق ؟ وفيه أن الليل زمان الاستيحاش والنهار وقت الاجتماع والمعاش فكأنه قال : استبشر فإن بعد الاستيحاش بسبب انقطاع الوحي يظهر ضحى نزول الوحي .
وفيه أن الضحى لما كان وقت موعد موسى لمعارضة السحرة كما قال ) موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ) [ طه : 59 ] شرفه الله بأن أقسم به فعلم منه أن فضيلة الإنسان لا تضيع ثمرتها .
وفيه بشارة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن الذي قلب قلوب السحرة حتى سجدوا يقلب قلوب أعدائك حتى يسلموا .
وفيه أن الضحى وهو ساعة من النهار يوازي جميع الليل كما أ ، محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أمته يوازي جميع الأنبياء وأممهم .
وفيه أن النهار وقت السرور والاجتماع والليل وقت الغموم والوحشة ، ففي الاقتصار على ذكر الضحى إشارة إلى أن غموم الدنيا أدوم من سرورها .
يروى أن الله تعالى حين خلق العرش أظلت غمامة سوداء عن يساره ونادت : ماذا أمطر ؟ فأجيبت أن أمطري الهموم والأحزان مائة سنة .
ثم انكشف فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى تمام ثلثمائة سنة ، ثم بعد ذلك أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء ونادت : ماذا أمطر ؟ فأجيبت أن أمطري السرور ساعة فلهذا السبب ترى الهموم دائمة والأفراح نادرة .
وفي تقديم الضحى على الليل إشارة إلى أن الحياة أولى للمؤمن من الموت إلى أن تحل كمالاته الممكنة له .
وأيضاً إنه ذكر الضحى حتى لا يحصل اليأس من روحه ، ثم عقبه بالليل حتى لا يحصل الأمن من مكره .
الثالثة : لا استعباد فيام يذكره الواعظ من تشبيه وجه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالضحى وشعره بالليل .
ومنهم من قال : الضحى ذكور أهل بيته ، والليل إناثهم .
أو الضحى رسالته ، والليل زمان احتباس الوحي كما مرّ. ويحتمل أن يقال : الضحى نور علمه الذي به يعرف المستور من الغيوب والليل عفوه الذي به يستر جميع العيوب .
أو الضحى إقبال الإسلام بعد أن كان غيريباً ، والليل إشارة إلى أنه سيعود غريباً .
أو الضحى كمال العقل ، والليل وقت السكون في القبور .
أو أراد أقسم بعلانيتك التي لا يرى عليها الخلق عيباً وبسرك الذي لا يعلم عليه عالم الغيب عيباً .
قال المفسرون : أبطأ جبريل عليه السلام عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اثني عشر يوماً عن ابن جريج ، أو خمسة عشر عن الكلبي ، أو(6/515)
" صفحة رقم 516 "
خمسة وعشرين يوماً عن ابن عباس ، أو أربعين عن السدّي ومقاتل .
والسبب فيه أن اليهود سألوه عن ثلاث مسائل كما مرّ في ( الكهف ) فقال ؛ سأخبركم غداً ولم يقل ( إن شاء الله ) أو لأنّ جرواً للحسن والحسين كان في بيته أو لأنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار ، فزعم المشركون أن ربه ودعه وقلاه .
وروي أن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له : يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فنزلت السورة .
والتوديع مبالغة في الوداع لأن من ودعك فقد بالغ في تركك .
والقلى البغض وحذف المفعول من ( قلاك ) و ( آواك ) و ( هداك ) و ( أغناك ) للفاصلة مع دلالة قرينة الحال أو المقال .
والذي يقال إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شكا إلى خديجة إن ربي ودعني وقلاني .
إن ثبت فمحمول على أنه أراد امتحان خديجة ليعلم بعد غورها في المعرفة والعلم كما روي أنها قالت : والذي بعثك بالحق ما أهداك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد إن ربي ودعني وقلاني .
إن ثبت فمحمول على أنه أراد امتحان خديجى ليعلم بعد غورها في المعرفة والعلم كما روي أنها قالت : والذي بعثك بالحق ما أهداك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك .
ثم زاده تشريفاً بقوله ) وللآخرة خير لك من الأولى ( يعني هذا التشريف وهو إعلام أن ما ألقاه الحساد فيما بينهم من التوديع والقلى بهت محض وإن كان تشريفاً عظيماً إلا أن الذي أعدّ لأجلك يف الآخرة أشرف وأسنى .
وعلى تقدير انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون ذلك للعزل عن النبوة فإنه غير جائز لكنه يدل على قرب الوفاة المستتبعة للقرب من الله فلا يكون كما ظنه الأعداء .
ويحتمل أن يراد : وللأحوال الآتية خير لك من الماضية فيكون وعداً بإتمام نوره وإعلاء أمره .
وفي تخصيص الخطاب إشارة إلى أن في أمته من كانت الآخرة شر إليه إلا أن الله ستره عليهم ونظر قول موسى ) إن معي ربي سهيدين ) [ الصافات : 99 ] لأنه كان في قومه من لم يكن لائقاً بهذا المنصب ، وحين لم يكن في الغار إلا نبي أو صدّيق قال نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا تحزن إن الله معنا ) [ التوبة : 40 ] يروى أن موسى خرج للاستسقاء ومعه الألوف ثلاثة أيام فلم يجدوا الإجابة فسأل موسى عليه السلام عن سبب ذلك فقال : إن في قومك نماماً فقال موسى : من هو ؟ فقال الله تعالى : إني أبغضه فكيف أعمل عمله ؟ فما مضت مدة حتى نزل الوحي بأن ذلك النمام قد مات وهذه جنازته في الموضع الفلاني فذهب موسى إلى ذلك الموضع فإذا فيه سبعون من الجنائز فهذا ستره على أعدائه فكيف على أوليائه .
وههنا لطيفة وهي أنه تعالى ردّ ألوفاً من المطيعين لمذنب واحد ههنا يرحم ألوفاً من المذنبين لمطيع واحد ودليله قوله ) ولسوف يعطيك ربك فترضى ( فلعله حين بين أن الآخرة خير له عقبه ببيان تلك الخيرية وهي رتبة الشفاعة .
يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال : قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار ) .
وعن جعفر الصادق(6/516)
" صفحة رقم 517 "
رضي الله عنه رضا جدّي ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا يدخل النار موّحد .
وقال ابن عباس : هو ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك وفيها ما يليق بها ، واللام في و ) لسوف ( خالصة للتأكيد دون الحال كأنه قيل : الموعود كائن لا محالة وإن تأخر زمانه بحسب المصلحة .
وقال جار الله : تقديره ولأنت سوف يعطيك لأن اللام لا تدخل على المضارع إلا مع نون التأكيد وفيه نظر .
ثم عدد بعض نهمه التي أنعم بها عليه قبل إرساله وكأنه قال : ما تركناك وما قليناك قبل أن اخترناك واصطفيناك فتظن أنا بعد الرسالة نهجرك ونخذلك .
قال أهل الأخبار : إن عبد الله بن المطلب توفي وأم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حامل به ، ثم ولد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكان مع جده عبد المطلب ومع أمه آمنة ، فهلكت وهو ابن ست سنين فكان مع جده ، ثم هلك جده بعد سنتين فكفل أبو طالب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أن ابتعثه الله للرسالة فقام بنصرته مدة مديدة ، وعطفه الله عليه فأحسن تربيته وذلك قوله ( فآواك ) أي جعل لك من تأوي إليه وهو أبو طالب .
وفي تفسير تأويل الضلال قولان : الأول أنه الضلال عن الدين .
فقال السدي والكلبي : كان على دين قومه أربعين سنة .
الثاني وعليه الجمهور أنه ما كفر بالله طرفة عين والمراد عن معالم الشريعة الحنيفية كقوله ) ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) [ الشورى : 52 ] وقيل : ضل في صباه في بعض شعاب مكة فأتى أبو جهل على ناقة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بين يديه وهو يقول : لا تدري ماذا نرى من ابنك .
فقال عبد المطلب : ولم .
قال : لأني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم فلما أركبته أمامي قامت الناقة فكانت الناقة تقول : يا أحمق هو الإمام فكيف يكون خلف المقتدي ؟ قال ابن عباس : ردّه الله إلى جده بيد عدوّه كما فعل بموسى حين رباه بيد عدوّه .
وقيل : أضلته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لتردّه على عبد المطلب حتى دخلت هبل وشكت ذلك إليه فتساقطت الأصنام وسمعت صوتاً إنما هلاكنا بيد هذا الصبي .
وروي مرفوعاً أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع كاد الجوع يقتلني فهادني الله يعني حديث أبي جهل المذكور .
وقيل : ضالاً أي مغموراً بين الكفار من ضل الماء في اللبن .
وقيل : مجاز في الإسناد والمعنى وجد قومك ضلالاً فهداهم بك .
وقيل : كنت منفرداً عن اختلاط أهل الضلال فهداك إلى الاختلاط بهم وإلى دعوتهم .
قيل : وعن الهجرة أو القبلة أو عن معرفة جبيرائيل أول مرة ، أو عن أمور الدنيا أو عن طريق السموات فهداك ليلة المعراج .
وقيل : الضلال المحبة لفي ضلالك القديم فهداك إلى وجه الوصول إلى المحبوب والمراد بالسلوك .
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : بيني وبين ما أريد .
قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة : لو حفظت لي(6/517)
" صفحة رقم 518 "
غنمتي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشبان .
فلما أتيت أول دار من دور مكة سمعت الدفوف والمزامير فقالوا : فلان تزوّج بفلانة .
فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مسّ الشمس .
ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك .
فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مسّ الشمس .
ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله براسالته .
والعائل في الأصل كثير العيال ثم طلق على الفقير وإن لم يكن له عيال لأن الفقر من لوازم العول .
أغناه الله بتربية أبي طالب أوّلاً ، ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه بمال خديجة .
يروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) دخل على خديجة وهو مغموم فقالت له : ما لط ؟ فقال : الزمان زمان قحط فإن أنا بذلت المال ينفذ مالك فأستحيي منك ، وإن أنا لم أبذل أخاف الله .
فدعت قريشاً وفيهم الصدّيق .
قال الصدّيق : فأخرجت دنانير حتى وصبتها أبلغت مبلغاً لم يقع بصري على من كان جالساً قدامي ثم قالت : اشهدوا أن هذا المال ماله إن شاء فرقه وإن شاء أمسكه .
وأما في زمان الرسالة فأغناه لمال أبي بكر ثم أمره بالهجرة وأعانه بإعانة الأنصار حسبك الله ومن أتبعك من المؤمنين .
ثم أغناه بما أفاء عليه من الغنائم .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( جعل رزقي تحت ظل رمحي ) وبعض هذه الأمور وإن كان بعد نزول السورة إلا أن معلوم الله كالواقع فيكون من قبيل الإخبار بالغيب وقد وقع فيكون معجزاً .
وقيل : الغنى هو القناعة وغنى القلب كان ( صلى الله عليه وسلم ) يستوي عنده الحجر والذهب .
قال أهل التحقيق : الحكمة في يتم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعرف قدر الأيتام فيقوم بأمرهم .
وأن يكرم اليتيم المشارك له في الاسم كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا سميتم الولد محمداً فأكرموه وسعوا له في المجلس ) وفيه أنه لا يعتمد من أول عمره إلى آخره على أحد سوى الله فيحصل له فضيلة التوكل كما قال جده إبراهيم ( حسبي من سؤالي علمه بحالي ) وفيه أن اليتيم منقصة ومذلة فإذا صار أكرم الخلق كان من جنس المعجزات .
يروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( سألت ربي مسألة لوددت أني لم أسألها قلت : اتخذت إبراهيم خليلاً ، وكلمت موسى تكليماً ، وسخرت مع داود الجبال ، واعطيبت سليمان كذا وكذا .
يقال : ألم أحدك يتيماً فآويتك ، ألم أجدك ضالاُ فهديتك ، ألم أجدك عائلاً فأغنيتك ؟ قلت : بلى. قال ) ) ألم نشرح لك صدرك ) [ الشرح : 1 ] إلى آخره ؟ قلت : بلى. أقول : إن صح إسناد هذا الحديث وجب حمله على الشكاية مع الله أن إلى الله لا من الله ، فإن الأول قد يتفق للعارفين في مقام الإنبساط والقبض دون لاثاني .
وحين أذكره الله تعالى نعمه حتى لا ينسى نفسه أوصاه بأن يتعامل مع الخلق مثل معاملة الله معه فقال ) فأما اليتيم فلا تقهر ( أي فلا تغلبه على ماله وحقه لضعف حاله .
وانتصب اليتيم بالفعل بعده .
والفاء لتلازم ما بعدها لما قبلها .
وقرىء ( فلا تكهر ) أي فلا تعبس في وجهه .
يروى أنها نزلت حين صاح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ولد(6/518)
" صفحة رقم 519 "
خديجة .
وإذا كان هذا العتاب لمجرد الصياح أو العبوس فكيف إذا آذاه أو أكل ماله .
عن أنس مرفوعاً ( إذا بكى التيم وقعت دموعه في كف الرحمن فيقول الله تعال : من أبكى هذا التيم الذي واريتُ والده في التراب ؟ من أسكته فله الجنة ) ويروى أنه صلى الله عليه سولم كان جالساً فجاءه عثمان بعذق من تمر فوضعه بين يديه فأراد أن يأكل فوقف سائل بالباب فقال : يرحم الله عبداً يرحمنا .
فأمر بدفعه إلى السائل فكره عثمان ذلك وأراد أن يأكله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فخرج واشتراه من السائل ، ثم رجع السائل ففعل ذلك ثلاث مرات إلى أن قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أسائل أنت أم بائع ؟ فنزل ) وأما السائل فلا تنهر ( أي فلا تزجر .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا رددت السائل فلم يرجع فلا عليك أن تزجره ) قال العلماء : أما إنه ليس بالسائل المستجدي ولكن طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره .
ثم أمره بأن يحدث الناس بما أنعم به عليه من الإيواء والهداية والإغناء وغيره .
واعلم أنه تعالى نهاه عن شيئين وأمره بواحد ، نهاه عن نهر السائل في مقابلة قوله ) ووجدك عائلاً فأغنى ( وأمره بتحديث نعمه ربه وهو في مقابلة قوله ) ووجدك ضالاً فهدى ( فالأنسب أن يكون المراد به التبليغ وأداء الرسالة وتكميل الناقصين بالدعاء إلى الدين كما قال مجاهد .
ولقد روعي في الترتيب نكتة لطيفة فقدّم في معرض المنة النعمة الدينية وهي الهداية على النعمة الدنيوية وهي الإغناء وإما في معرض الإرشاد فقدّم الإشفاق على الخلق ، وأخر التحديث ليكون أدخل في الاستمالة وأجلب للدواعي فإنه ما لم ينتظم أمر المعاش لم تفرغ الخواطر لقبول التكاليف والتزام أمر المعاد .
قال المحققون : التحديث بنعم الله تعالى جائز مطلقاً بل مندوب إليه إذا كان الغرض أن يقتدي غيره به أو أن يشيع التحديث تقديماً لحظ الخلق على حظ نفسه لأنه غني وهم المحتاجون ولهذا رضي نفسه بالقول فقط ، ولأن الاستغراق في بحر الشكر ومعرفة المنعم غاية الغايات ونهاية الطاعات .
تنبيه : روي عن البزي أنه قال : قرأت على عكرمة بن سليمان قال : قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين فلما بلغت ) والضحى ( قال : كبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة فإني قرأت على عبد الله بن كثير فأمرني بذلك ، وأخبرني ابن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك ، وأخبره مجاهد أنه قأ على عبد الله بن عباس تسع عشرة ختمة فأمره بذلك في كلها ، وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أبيّ بن كعب فأمره بذلك ، وأخبره أبيّ أنه قرأ على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأمره بذلك .
وروي عن الشافعي أنه رأى التكبير سنة في خاتمة ) والضحى ( إلى آخر القرآن .
وهكذا روي عن قنبل .
والسبب فيه أنه حين انقطع الوحي على ما سبق(6/519)