" صفحة رقم 218 "
ولاية الشيخ على مرآة قلب المريد الصادق فينال به مرتبة لم يكن يصل إليها بمجرد أعماله : ( ليس عليكم جناح ( فيه أنه لا حرج على أهل الجنة أن تكون مآكلهم من درجة واحدة أو من درجات شتى. ) فإذا دخلتم بيوتاً ( أي بلغتم منزلاً من المنازل ) فسلموا ( أي استسلموا لأحكام الربوبية بمزيد العبودية حتى ترتقوا منها إلى منازل أعلى وأطيب ) إنما المؤمنون ( فيه أن المريد الصادق ينبغي أن لا يتنفس إلا بإذن شيخه فإن الشيخ في قومه كالنبي في أمته ) أن تصيبهم فتنة ( من المال أو الجاه أو قبول الخلق أو التزويج أو السفر بإذن الشيخ أو التردد غعلى أبواب الملوك ونحو ذلك ، وما العصمة إلا من واهبها وهو المستعان .(5/218)
" صفحة رقم 219 "
سورة الفرقان
( سورة الفرقان مكية غير آية نزلت بطائف ) ألم ترى إلى ربك ( حروفها 3780 كلمها 872 آياتها 77 ) ( الفرقان : ( 1 - 20 ) تبارك الذي نزل . . . .
" تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاؤون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا " ((5/219)
" صفحة رقم 220 "
القراآت : ( جنة تأكل ( بالنون : حمزة وعلي وخلف. الباقون بالياء التحتانية ) ويجعل لك ( بالرفع : ابن عامر وأبو بكر وحماد والمفضل وابن كثير. الباقون بالجزم وذلك أن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جزائه الرفع والجزم ) يحشرهم ( ) فيقول ( كلاهما بالياء : ابن كثير ويزيد وسهل ويعقوب وعباس وحفص ، وقرأ ابن عامر بالنون فيهما. الباقون بالنون في الأول وبالياء في الثاني أن يتخذر على البناء للمفعول : زيد ويزيد ) بما تقولون ( بتاء الخطاب : يعقوب وعباس وحفص والسرنديبي عن قنبل. ) تستطيعون ( على الخطاب : حفص غير الخزاز. الوقوف : ( نذيراً ( 5 لا بناء على أن ما بعده بدل من ) الذي نزل ( والتعليل من تمام الصلة ، ولو قدر رفعه أو نصبه على المدح جاز الوقف ) تقديراً ( 5 ) ولا نشوراً ( 5 ) آخرون ( ج لأجل الفاء مع اختلاف القائل أو لاحتمال أن يكون ) فقد جاؤوا ( من قول الكفار أي جاء محمد ومن أعانه بظلم وزور ) وزوراً ( 5 ج للاحتمال المذكور أو لعطف المتفقتين مع عوارض وطول الكلام ) وأصيلاً ( 5 ) والأرض ( ط ) رحيماً ( 5 ) السواق ( ط ) نذيراً ( 5 ) منها ( ط ) مسحوراً ( 5 ) سبيلاً ( 5 ) الأنهار ( ط لمن جعل رفع يجعل على الاستئناف ) قصوراً ( 5 ) سعيراً ( 5 لاحتمال كون ما بعده صفة أو استئنافاً ) وزفيراً ( 5 ) ثبوراً ( الأول 5 ط ) كثيراً ( 5 ) المتقون ( ط لانتهاء الاستفهام ) مصيراً ( 5 ) خالدين ( ط ) مسؤولاً ( 5 ) السبيل ( 5 ) الذكر ( ج لجواز أن يكون المراد وقد كانوا ولجواز أن يراد وصاروا فيتصل بقوله ) بوراً ( 5 ) تقولون ( 5 إلا لمن قرأ ) تستطيعون ( بتاء الخطاب ) نصيراً ( ج 5 للشرط مع العطف ) كبيراً ( 5 ) في السواق ( ط ) فتنة ( ط ) أتصبرون ( ج لاحتمال كون الواو للحال ) بصيراً ( 5. التفسير : إنه سبحانه تكلم في هذه السورة أولاً في التوحيد لأنه أقدم وأهم ، ثم في النبوة لأنها الواسطة ، ثم في المعاد وسيختم السورة بصفات العباد المخلصين الموقنين فما أشرف هذه المطالب وما أحسن هذا الترتيب. ومعنى ) تبارك ( كثر خيره وزاد أو تعالى عن أوصاف الممكنات وقد مر في قوله تعالى ) فتبارك الله أحسن الخالقين ) [ المؤمنون : 14 ] وفي وصفه نفسه بتنزيل الفرقان الفارق بين الحق والباطل أو المفرق في الإنزال بعد قوله ) تبارك ( دليل على أن كل البركة والخير إنما هو في القرآن ، وكانت هذه الصفة معلومة بدلائل الإعجاز فذلك صح إيقاعها صلة للذي. والضمير في ) ليكون ( لعبده أو للفرقان كقوله ) إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ( والعالمون يشمل الخلائق كلهم إلا أن الإجماع دل على خروج الملائكة وما عدا الثقلين فبقي أن يكون مبعوثاً إلى الجن والإنس إلى آخر(5/220)
" صفحة رقم 221 "
مدة التكليف. والنذير المنذر أو الإنذار كالنكير. قالت المعتزلة : لو لم يرد الغيمان من الكل لم يكن الرسول نذيراً للكل. وعورض بنحو قوله ) ولقد ذرأنا لجهنم ) [ الأعراف : 179 ] والإنذار الموجب للخوف لا ينافي وصفه تعالى بالبركة والخير لأن النظر على السعادات الأخروية التي تحصل بالإنذار على فوات بعض اللذات العاجلة. ثم وصف ذاته بصفاته الأربع أولها ) الذي له ملك السوات والأرض ( وفيه تنبيه على افتقار الكل إليه في الوجود وفي توابعه من البقاء وغيره. الثانية ولم يتخذ ولداًر وفيه رد النصارى واليهود الثالثة ) ولم يكن له شريك في الملك ( وفيه رد على سائر المشركين من الثنوية والوثنية وأرباب الشرك الخفي ايضاً ، ولكنه صرح بهذا الأخير في الصفة الرابعة وهي قوله ) وخلق كل شيء فقدره تقديراً ( قال جار الله : المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثاً مراعى فيه التقدير والتسوية والتهيئة لما يصلح له ، أو المراد بالخلق الغيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق وهو مافيه من معنى التقدير لئلا يلزم التكرار فكأنه قيل : أوجد كل شيء فقدره في غيجاده لم يوجده متفاوتاً ، أو أحدثه فقدره للبقاء إلى أمد معلوم. وعندي أن الكلام محمول على القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس أي قدره في الأزل تقديراً فخلقه في وقته موافقاً لذلك التقدير. والبحث فيه بين المعتزلة والأشاعرة كما مر في قوله ) الله خالق كل شيء ) [ الزمر : 62 ] ثم صرح بتزييف مذاهب عبدة الأوثان قائلاً ) واتخذوا ( الآية. وحاصله أن إله العالم يجب أن يكون أقدر الأشياء وأشرفها لا أعجزها وأخسها وهو الجماد بل الملائكة والمسيح لأنه لا قدرة لهم على الإيجاد والتصرف في شيء إلا بإذن الله ، فتكون الآية رداً على الكل. وإنما قال في هذه السورة ) من دونه ( لتقدم الذكر مفرداً وفي مريم ويس ) من دون الله ) [ يس : 74 ومريم : 48 ] لأن ما قبلهما بلفظ الجمع تعظيماً فلن يكن بد من التصريح. وحين فرغ من بيان التوحيد ونفي الأنداد شرع في شبهان منكري النبوة والأجوبة عنها. فالشبهة الأولى قولهم ) إن هذا إلا إفك افتراه ( أرادوا أنه كذب في نفسه أو أرادوا أنه كذب في غضافته إلى الله تعالى. وقوله ( وأعانه عليه قوم آخرون ( نظير قوله تعالى ) إنما يعلمه بشر لسان الذي ) [ النحل : 103 ] وقد مر ما قيل في سبب نزوله في النحل فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله ) فقد جاؤا ظلماً وزوراً ( اي أتوهما فانتصب بوقوع المجيء عليه. وعن الزجاج أنه انتصب بنزع الخافض اي أتوا بالظلم والزور. فالظلم هو أنهم نسبوا هذا الفعل الشنيع وهو الافتراء على الله. إلى من هو عندهم في غاية الأمانة والصدق ، والزور وهو انحرافهم عن جادة العدل والإنصاف ، فلو أنصفوا من أنفسهم لعلموا أن العربي لا(5/221)
" صفحة رقم 222 "
يتلقن من العجمي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته دهماءهم ، ولو استعان محمد في ذلك بغيره لأمكنهم ايضاً أن يستعينوا بغيرهم. قال أبو مسلم : الظلم تكذيبهم الرسول والزور كذبهم عليه. الشبهة الثانية قولهم ) أنه أساطير الأولين ( اي أحاديث سطرها المتقدمون كأخبار الأعاجم ) اكتتبها ( لنفسه كقولك ( استكب الماء ) أي سكبه لنفسه وأخذه وقد يظن أن في الكلام قلباً لأنه يقال ( أمليت عليه فهو يكتتبها ) وأجيب بأن المعنى أراد اكتتابها فهي تقرأ عليه أو كتبت له وهو أمي فهي تملى أي تلقى عليه من كتابه يتحفظها ، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب. قال الضحاك : ما يملى عليه بكرة يقرأ عليكم عشية ، وما يملى عليه عشية يقرأ عليكم بكرة ، وقال جار الله ) بكرة وأصيلاً ( أي دائماً أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس وحين يأوون إلى مساكنهم. فأجاب عن هذه الشبهة بقوله ) قل أنزله الذي يعلم السر ( الآية. والمعنى أن العالم بكل سر هو الذي يقدر على الإتيان بمثل هذا الكتاب لفصاحة مبانيه وبلاغة معانيه وبراءته من التناقض والاختلاف واشتماله على الغيوب وعلى مصالح العباد في المعاش والمعاد. قال أبومسلم : أراد أنه يعلم كل سر خفي ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد والنفاق فهو يجازيكم عليه ، ولأجل هذا الوعيد ختم الآية بذكر المغفرة والرجمة فإنه لا يوصف بهما إلا القادر على العقوبة. وقيل : هو تنبيه على أنهم استحقوا بمكابرتهم العذاب العاجل ولكنه صرفه عنهم برحمته وغفرانه. الشبهة الثالثة قولهم على سبيل الاستهانة وتصغير الشأن ) ما لهذا ( الزاعم أنه رسول أي ما باله ) يأكل الطعام ( كما نأكل ويتردد في الأسواق لطلب الكعاش كما نتردد. زعموا أنه كان يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الأكل والتعيش ، ثم نزلوا عن هذا المقام فطلبوا أن يكون إنساناً معه ملك يعضده ويساعده في باب الإنذار ، ثم نزلوا فاقترحوا أن يكون مستظهراً بكنز يلقى إليه من السماء حتى لا يحتاج إلى تحصيل المعاش ، ثم نزلوا فقالوا : لا أقل من أن يكون كواحد ن الدهاقين له بستان ينتفع هو أو ننتفع نحن بذلك على اختلاف القراءتين. وانتصب ) فيكون ( لأنه جواب ( لولا ) بمعنى ( هلا ) وحكمه حكم الاستفهام ومحل ) أنزل ( الرفع كما يقول : لولا ينزل ولهذا عطف عليه يلقى ويكون مرفوعين ) وقال الظالمون ( من وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم فيما قالوا ، وهم كفار قريش النضر بن الحرث وأمثاله. والمسحور المغلوب على عقله ، والأمثال الأقوال النادرة ، والاقتراحات الغريبة المذكورة فبقوا متحيرين لا يجدون قولاً يستقرون عليه ، أو فضلوا عن الحق ولا يجدون طريقاً غليه. وقد مر مثل هذه الآية في أواسط سورة بني إسرائيل .(5/222)
" صفحة رقم 223 "
وحين حكى شبههم ومطاعنهم مدح نفسه بما يلجمهم ويفحمهم وهو قوله ) تبارك ( أي تكاثر خبر ) الذي إن شاء ( وهب لك في الدنيا خيراً مما قالوا : ثم فسر ذلك الخبر بقوله ) جنات ( عن ابن عباس : خيراً من ذلك أي مما عيروك بفقده الجنة الواحدة. وعنه في رواية عكرمة خيراً من المشي في الأسواق لابتغاء المعاش. وفي قوله ) إن شاء ( دليل على أنه لا حق لأحد من العباد عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة وأن حصول الخيرات معلق بمحض مشيئته وعنايته. وقيل : ( إن ) بمعنى ( إذ ) أي قد جعلنا لك في الآخرة وبنينا لك قصوراً. والقصر المسكن الرفيع فيحتمل أن يكون لكل جنة قصر وأن تكون القصور مجموعة والجنات مجموعة. وقال مجاهد : إن شاء جعل لك في الآخرة جنات وفي الدنيا قصوراً. عن طاوس عن ابن عباس قال : بينما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالس وجبرائيل عنده قال جبرائيل : هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك. فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاء الملك وسلم وقال : إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء ولم يعطها احداً قبلك ولا يعطيها أحداً بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئاً. فقال صلى الله عليه سولم : بل يجمعها لي في الآخرة فنزلت هذه الآية. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : عرض عليّ جبرائيل عليه السلام بطحاء مكة ذهباً فقلت : بل شبعة وثلاث جوعات. وفي رواية أشبع يوماً وأجوع ثلاثاً فأحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت. قوله ) بل كذبوا بالساعة ( عطف على ما حكى عنهم يقول : بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة فلهذا لا ينتفعون بالدلائل ولا يتأملون فيها إذ لا يجون ثواباً ولا عقاباً. ويجوز أن يراد ليس ما تعلقوا به شبهة عالية في نفس المسألة بل إنما حملهم على ذلك تكذيبهم بالساعة استثقالاً للاستعداد لها. ) ةأعتدنا ( جعلناها عدة ومعدة لهم. وقد يستدل به على أن النار مخلوقة ويحتمل أن يقال : هو كقوله ) ونادى ) [ الأعراف : 48 ] ( وسيق ) [ الزمر : 73 ] قالت الأشاعرة : البنية ليست شرطاً في الحياة وتوابعها فأجروا قوله ) غذا رأتهم ( على ظاهره وقالوا : لا امتناع في كون النار حية رائية مغتاظة على الكفار. والمعتزلة أوّلوا فقالوا : معنى رأتهم ظهرت لهم في قولهم ( دورهم تتراءى وتتناظر ) كأن بعضها يرى بعضاً على سبيل المجاز. والمعنى إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد سمعوا صوت غليانها ، وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر. وقال الجبائي : ذكر النار واراد خزنتها والمراد إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضباً على الكفار وشهوة للانتقام منهم. قيل : التغيظ عبارة عن شدة الغضب وذلك لا يكون مسموعاً فكيف قال الله سبحانه ) سمعوا لها تغيظ ( وأجيب بأن المراد سماع ما يدل على الغيظ وهو الصوت أي سمعوا لها صوتاً يشبه صوت المتغيظ. قاله الزجاج وقال قطرب : علموا لها تغيظاً وسمعوا لها زفيراً كما قال الشاعر :(5/223)
" صفحة رقم 224 "
متقلداً سيفاً ورمحاً يروى أن جهنم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا ترعد فرائصه حتى إن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) يجثو على ركبتيه ويقول : نفسي نفسي. وحين وصف حال الكفار إذا كانوا بالبعد من جهنم وصف حالهم عندما يلقون فيها. عن ابن عباس أنه يضيق عليهم المكان كما يضيق الزج على الرمح. وسئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال : والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط. قال الكلبي : الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يخفضهم الداخلون فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة. وقال جار الله : الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض. وجاء في الأحاديث ( إن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا ). وقال الصوفية. : المكان الضيق قلب الكافر في صدره كقوله ) يجعل صدره ضيقاً حرجاً ) [ الأنعام : 125 ] ثم إن أهل جهنم مع ما هم فيه يكونون مقرنين في السلاسل والأصفاد وقد مر في آخر سورة إبراهيم. والثبور الهلاك ودعاؤه النداء بواثبوراه اي يقال يا ثبور فهذا أوانك وههنا إضمار اي يقال لهم ) لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً ( إذ هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يكن ثمة قول. ومعنى ) وادعوا ثبوراً كبيراً ( أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً إنما هو ثبور كثير. إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته ، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها فلا غاية لهلاكهم ، أو لأنهم يجدون بسبب ذلك القول خفة فإن المعذب إذا صاح وبكى وجد بسببه راحة. قال الكبي : نزل هذا كله في أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات. ثم وبخهم بقوله ) قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون ( أي وعدوها فحذف الرابط للعلم به وليس هذا الاستفهام كقول القائل ( السكر أحلى أم الصبر ) ولكن الغرض منه التقريع كلما إذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرد وأبى واستكبر فضربه ضرباً وجيعاً ويقول على سبيل التوبيخ : هذا أطيب أم ذاك ؟ والإضافة في جنة الخلد للتوضيح والتأكيد لا للتمييز فإن الجنة معلوم أن نيعمها لا ينقطع. قالت الشاعرة : في قوله ) وعد ( دلالة على أن الجنة إنما تستحق بحسب الوعد والفضل لا لأجل العمل. وقالت المعتزلة : في قوله ) المتقون ( إشارة إلى أن الجنة لا تنال إلا بالتقوى ولذلك أكد بقوله على سبيل التخصيص بسبب تقديم الجار ) كانت لهم جزاء ومصيراً ( أجابت الأشاعرة بأن كونه جزاء ثبت في الأزل ولا عمل هناك. قالت المعتزلة : لا غفران لصاحب الكبيرة لأن الجنة جاءت جزاء للمتقين خاصة فلا يعطى حقهم غيرهم. أجابت الأشاعرة بأنه لم لا يجوز أن يرضى المتقون بإدخال الله أهل العفو الجنة ؟ قال جار الله : ذكر(5/224)
" صفحة رقم 225 "
المصير مع ذكر الجزاء مدحاً للثواب مكانه كقوله ) نعم الثواب وحسنت مرتفقاً ) [ الكهف : 31 ] وفي قوله ) لهم فيها ما يشاؤن ( دلالة على أن حصول المرادات بأسرها لا تكون إلا في الجنة ، وأما في الدنيا فالراحات فيها مخلوطة بالجراحات. والضمير في ) كان ( ) لما يشاؤن ( واستدلت المعتزلة بقوله ) على ربك ( أن ذلك واجب على الله حتى إنه لو لم يفعل استحق الذم. وأجيب بأنه واجب بحكم الوعد لقوله ) وعداً مسؤلاً ( كأن المكلفين سألوا بلسان الحال من حيث تحملوا المشقة الشديدة في طاعته ، أو سألوه حقيقة بقولهم ) ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك ) [ آل عمران : 194 ] أو سألته الملائكة في قولهم ) ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ) [ غافر : 8 ] أو من حقه أن يسأل ويطلب لأنه حق واجب بحكم الاستحقاق أو بحسب الموعد على المؤمنين. قوله ) يوم نحشرهم ( رجوع إلى قوله ) واتخذوا من دونه آلهة ( وظاهر قوله ) وما يعبدون ( أنها الصنام وظاهر قوله ) أأنتم أضللتم ( أنه من عبد من العقلاء كالملائكة والمسيح فلأجل هذا اختلفوا فحمله قوم ومنهم الكلبي على الأوثان ثم قالوا : لا يبعد أن يخلق الله تعالى فيها الحية والنور والنطق ، أو أراد أنهم تكلموا بلسان الحال. وقال الأمثرةن : إنه عام للأصنام وللمعبودين العقلاء نظيره قوله ) ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) [ سبأ : 40 ] ثم قالوا : إن لفظة ( ما ) قد تستعمل في العقلاء ، أو أريد به الوصف كأنه قيل : ومعبوديهم كما إذا أردت السؤال عن فة زيد فتقول : ( ما زيد ) تريد أطويل أو قصير. والسائل الله وحده أو الملائكة بإذنه. وإنما قال أنتم وهم ولم يقل ( أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل ) ، لأن السؤال وقع عمن تولى فعل الإضلال لا عن نفس الإضلال. وفائدة هذا السؤال من علام الغيوب أن يجيب المعبودين بما أجابوا به حتى يحصل لعبدتهم الإلزام والتوبيخ كما قال لعيسى ) أأنت قلت للناس ) [ المائدة : 116 ] وكان القياس أن يقال : ضلوا عن السبيل إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق والأصل هداه إلى الطريق أو للطريق. ) قالوا سبحانك ( تعجباً مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه وأنطقوا ب ) سبحانك ( ليدلوا على أنهم المسبحون المقدسون الموسومون بذلك فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده ؟ أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد وأن يكون له ملك أو نبي أو غيرهما نداً ، أو قصدوا تنزيهه من أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفاده علم أو إيذاء من كان بريئاً من الجرم بل إنما سألهم تقريعاً للكفار وتوبيخاً لهم .(5/225)
" صفحة رقم 226 "
من قرأ ) أن نتخذ ( بفتح النون فظاهر وهو متعدٍ غلى واحد والأصل أن نتخذ أولياء من دونك فزبدت ( من ) لتأكيد معنى النفي. ومن قرأ بضم النون فهو متعدٍ إلى اثنين : الأول ضمير نحن ، والثاني من أولياء. ولا تكون ( من ) زائدة لأنها لا تزاد في المفعول الثاني تقول : ما اتخذت من أحد ولياً ولا تقول ما ااتخذت أحداً من ولي ف ( من ) للتبعيض أي لا نتخذ بعض أولياء. وتنكير أولياء من حيث إنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام ، والمعنى إنا لا نصلح لذ 1 لك فكيف ندعوهم إلى عبادتنا. وفي تفسير الآية على القراءة الأولى وجوه : الأول أن المعنى إذ كنا لا رى أن نتخذ من دونك ولياً فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك ؟ الثاني : ما كان يصح لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار. قال تعالى ) فقاتلوا أولياء الشيطان ) [ النساء : 76 ( يريد الكفرة عن أبي مسلم : الثالث تقدير مضاف محذوف أي ماكان لا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء أي لما علمنا أنك لا ترضى بهذا ما فعلنا. أو قالت الملائكة : أنا وهم عبيد ولا ينبغي لعبيدك أن يدعوا من دون إذنك ولياً. الرابع قالت الأصنام : لا يصح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادّعاء أنا من المعبودين. وفي الآية دلالة على أنه لا تجوز الولاية والعداوة إلا بإذن الله ، والولاية المبنية على ميل النفس وشهوة الطبع مذمومة شرعاً. و ) الذكر ( ذكر الله والإيمان به أو القرآن والشرائع أو ما فيه حسن ذكرهم في الدنيا والآخرة. قالت المعتزلة : في قوله ) ولكن متعتهم ( الخ. دليل بيِّن على أن الله عز وجل لا يضل عباده على الحقيقة وإلا كان جواب العبيد أن يقولوا : بل أنت أضللتهم لا أن يقولوا بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وعلى آبائهم تفضل جواد كريم ، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشر سبب الكفر ونسيان الذكر. فالحصال أنهم ضلوا بأنفسهم لا بإضلالنا. وقالت الأشاعرة : بل فيه دلالة على أن الله تعالى هو المضل حقيقة كأنهم قالوا : إلهنا أنت الذي أعطيتهم جميع مطالبهم في الدنيا حتى استغرقوا في بحر الشهوات وأعرضوا عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك فإن هي إلا فتنتك. أما قوله ) وكانوا قوماً بوراً ( فالأكثرون على أن البور جمع بائر من البوار الهلاك كعائذ وعوذ وحائل وحول. وحكى الأخفش أنه اسم جمع يقال ( رجل بور ) أي فاسد هالك لا خير فيه ( وامرأة بور ) و ( قوم بور ) كما يقال طأنت بشر ( و ) أنتم بشر (. قالت المعتزلة : صاروا إلى الهلاك بسبب اختيارهم الضلال. وقالت الأشاعرة : أراد أنهم كانوا في اللوح المحفوظ من جملة الهالكين ولو قيل : إنه فعل بالكافر ما صار معه بحيث لا يمكنه ترك الكفر صح القول بالقدر أيضاً. قوله ) فقد كذبوكم ( التفات لأجل الإلزام والفاء فيه تدل على شرط مقدر كأنه قال :(5/226)
" صفحة رقم 227 "
إن زعمتم أنهم آلهتكم فقد كذبوكم بقولكم إنهم آلهة. أو بقولهم سبحانك ما كان ينبغي لنا على اختلاف قراءتي الخطاب واليغبة. قال جار الله : الباء في الأول كقوله ) بل كذبوا بالحق ( والجار والمجرور بدل من كاف الخطاب كأنه قيل : فقد كذبوا بما تقولون. وفي الثاني كقولك ) كتبت بالقلم (. ) فما تستطيعون ( أنتم يا كفار أو فما يستطيع آلهتكم على القراءتين صرف العذاب عنكم. وقيل : الصرف التوبة لأنها تصرف العاصي عن فعله. وقيل : الحيلة من قولهم ) إنه ليتصرف ( أي يحتال. ثم ذكر وعيد كل ظالم بقوله ) ومن يظلم ( الآية. فاستدلت المعتزلة به على وعيد الفاسق وخلوده وذلك أن الفسق ظلم لقوله ) ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) [ الحجرات : 11 ] والإنصاف أنه لا دلالة في الاية على مطالبهم لأن ) من ( ليست من صيغ العموم عند بعضهم ، ولئن سلم فلعل المراد الأكثر أو أقوام بأعيانهم لقوله ) منكم ( ولئن سلم فلعله مشروط بعدم العفو كما أنه مشروط عند المعتزلة بعدم التوبة ، ولو سلم الجميع فإذاقة العذاب لا تدل على الخلود. ثم بين بقوله ) وما أرسلنا ( الآية. أنه لا وجه لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام لأن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله. قال الزجاج : الجملة بعد ) إلا ( صفة لموصوف محذوف والمعنى : وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين : إلا آكلين وماشين. وإنما حذف لأن في قوله ) من المرسلين ( دليلاً عليه نظيره ) وما مكنا إلا له مقام معلوم ) [ الصافات : 164 ] أي وما منا أحد. وقال الفراء : المحذوف هو الموصول والتقدير : إلا من انهم. وقال ابن الأنباري : المحذوف هو الواو بعد إلا فتكون الجملة حالاً كقوله ) وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ) [ الحجر : 4 ] قوله ) وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ( قال الكلبي والفراء والزجاج : إن هذا في رؤساء المشركين كأبي جهل وغيره وفي فقراء الصحابة كأنه إذا رأى الشريف الوضيع وقد اسلم قبله أنف أن يسلم فأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه دليله قوله تعالى ) لو كان خيراً ما سبقونا إليه ) [ الأحقاف : 11 ] وعن ابن عباس والحسن أنه في أصحاب البلاء والعافية يقول أحدهم : لم لم أجعل مثله في الخلق والخلق والعلم والعقل والرزق والأجل وغير ذلك يؤيده ما روي عن أبي الدرداء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وويل للشديد من الضعيف وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة وقرأ هذا الآية ( وقال آخرون : إنه احتجاج عليهم في اختصاص محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالرسالة مع مساواته إياهم في البشرية وصفاتها فابتلى المرسلين بالمرسصل غليهم وبمناصبتهم لهم العداوة وأنواع الأذى ، وابتلى المرسل إليهم بالتكليف وبذل النفس والمال وصيرورتهم تابعين خادمين بعد أن كانوا متبوعين مخدومين. قالت الأشاعرة : في هذا الجعل إشارة إلى مذهبنا في القدر. وقال الجبائي : هذا(5/227)
" صفحة رقم 228 "
الجعل بمعنى التعريف كما يقال فيمن بين أن فلاناً لص إنه جعله لصا. قال في الكشاف : موقع ) أتصبرون ( بعد ذكر الفتنة موقع أيكم بعد الابتلاء في قوله ) ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ) [ الملك : 2 ] قلت : أراد أن كلاً من الابتلاء والفتنة يستدعي التمييز فيحسن الاستفهام بعده أي بفتنكم ليظهر أنكم تصبرون على البلاء أم لا ، ولعل الأظهر أن الاستفهام غير متعلق بالفتنة وإنما هو مستأنف للوعيد كقوله ) فهل أنتم منتهون ) [ المائدة : 91 ] ويؤيده قوله ) وكان ربك بصيراً ( عالماً بمن صبر ومن لا يصبر فيجازي كلاً منهم بحب ذلك. وقيل : في الآية تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) عما عيروه به من الفقر فقد جعل الأغياء فتنة للفقراء. وقيل : جعلناك فتنة لهم حين بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله ، ولو كنت غنياً صاحب كنز كما اقترحوا لم يظهر الطائع من المخلص. وقالت الصوفية : أتصبرون يا معشر الأنبياء على ما يقولون ويا معشر الأمم عما يقولون والله أعلم. تم الجزء الثامن عشر ، ويليه الجزء التاسع عشر وأوله : ( وقال الذين لا يرجون لقاءنا. .. ( .(5/228)
" صفحة رقم 229 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء التاسع عشر من أجزاء القرآن الكريم
( الفرقان : ( 21 - 50 ) وقال الذين لا . . . .
" وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا(5/229)
" صفحة رقم 230 "
كالأنعام بل هم أضل سبيلا ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا "
( القراآت )
تشقق ( بتخفيف الشين على حذف تاء التفعل وكذلك في سورة ( ق ) : عاصم وحمزة وعلي وخلف وأبو عمرو. والآخرون بالتشديد للإدغام. ) وننزل ( من الإنزال ) الملائكة ( بالنصب : ابن كثير. الباقون ) وينزل ( ماضياً مجهولاً من التنزيل ) الملائكة ( بالرفع. ) يا ليتني اتخذت ( بفتح ياء المتكلم : أبو عمرو ) قومي اتخذوا ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. ) وثمود ( بغير تنوين في الحالين : حمزة وسهل ويعقوب وحفص. الآخرون بالتنوين للمشاكلة ، أو بتأويل الحي لا القبيلة ، أو لأنه اسم الأب الأكبر. ) الريح ( على التوحيد : ابن كثير ) بشراً ( مذكور في ( الأعراف ). ) ميتاً ( بالتشديد : يزيد ) ونسقيه ( بفتح النون : المفضل والبرجمي الباقون بضمها. الوقوف : ( ربنا ( ط ) كبيراً ( 5 ط ) محجوراً ( 5 ) منثوراً ( 5 ) مقيلاً ( 5 ) تنزيلاً ( 5 ) للرحمن ( ط ) عسيراً ( 5 ) سبيلاً ( 5 ) خليلاً ( 5 ) إذ جاءني ( ط لأن ما بعده من أخبار الله تعالى ظاهراً ، ويحتمل أن يكون من تتمة حكاية كلام الظالم. ) خذولاً ( 5 ) مهجوراً ( 5 ) المجرمين ( 5 ط ) ونصيراً ( 5 ) واحدة ( ج على تقدير فرقنا إنزاله كذلك أي كما ترى لنثبت وإن وصلت وقفت على ) كذلك ( والتقدير جملة واحدة كذلك الكتاب المنزل وهو التوراة ، ثم اضمرت فعلاً أي فرقناه لنثبت. ) ترتيلاً ( 5 ) تفسيراً ( 5 ط لأن ما بعده مبتدأ ) جهنم ( لا لأن ما بعده خبر ) سبيلاً ( 5 ) وزيراً ( 5 ج للآية ولفاء العطف ) بآياتنا ( ط للفاء الفصيحة أي فذهبا وبلغا فعصوهما ) فدمرناهم تدميراً ( 5 ط لأن ) قوم نوح ( منصوب بمحذوف أي وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم ) آية ( ط لأن ما بعده مستأنف ) أليما ( ج للآية ولاحتمال عطف عاداًر على الضمير في ) جعلناهم ( واحتمال انتصابه بمحذوف أي وأهلكنا عاداً ) كثيراً ( 5 ) الأمثال ( ز فصلاً بين الأمرين المعظمين مع عطف الجملتين المتفقتين ) تتبيراً ( 5 ) السوء ( ) يرونها ( لا للعطف مع الإضراب. ) نشوراً ((5/230)
" صفحة رقم 231 "
5 ) هزواً ( ط لحق المحذوف أي يقولون أهذا الذي ) رسولاً ( 5 ) عليها ( ط لانتهاء مقولهم ) سبيلاً ( 5 ) هواه ( ط ) وكيلاً ( 5 لا للعطف ) يعقلون ( 5 ج لابتداء النفي ) سبيلاً ( 5 ) الظل ( ج لانتهاء الاستفهام إلىالشرط مع اتحاد المقصود ) ساكناً ( ج للعدول مع العطف ) دليلاً ( 5 ) يسيراً ( 5 ) نشوراً ( 5 ) رحمته ( ج للعدول ) طهوراً ( 5 ج لتعلق اللام ) كثيراً ( 5 ) ليذكروا ( ز والوصل أولى للفاء ) كفوراً ( 5. التفسير : هذه شبهة رابعة لمنكري النبوة وإنهم في قول الكلبي أبو جهل والوليد وأضرابهما ، وتقريرها أن الحكيم لا بد أن يختار في مقصده طريقاً يكون أسهل إفضاء إليه ، ولا شك أن إنال الملائكة ليشهدوا على صدق محمد أعون على المطلوب ، فلو كان محمد صادقاً لكان مؤيداً بإنزال الملائكة الشاهدين بصدقه. قال الفراء : معنى ) لا يرجون ( لا يخافون ، والرجاء في لغة تهاتمةالخوف ، وقال غيره : الرجاء على أصله وهو الأمل إلا أن الخوف يلزمه في هذه الصورة فإن من لا يرجو الجزاء والمعاد لا يخاف العقاب أيضاً. واللقاء الوصول لا بمعنى المكان والجهة فإنه تعالى منزه عن ذلك بل معنى الرؤية عند الأشاعرة ، أو على إرادة الجزاء والسحاب عند المعتزلة ، وقد مر في أوائل البقرة في قوله ) الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ) [ البقرة : 46 ] ولعل تفسيره بلقاء الجزاء أنسب في هذا المقام لئلا يناقض قوله : ( أو نرى ربنا ( أي جهرة وعياناً فيأمرنا بتصديقه واتباعه اللهم إلا أن يراد : إن الذين لا يرجون رؤيتنا في الآخرة اقترحوا رؤيتنا في الدنيا. قال جار الله : لا يخلو إما أن يكونوا عالمين بأن الله عز وجل لا يرسل الملائكة إلى غير الأنبياء وإنه تعالى لا يصح أن يرى وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون ، وإما أن يكونوا عالمين بذلك وإنما أرادوا التعنت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت وقامت بها الحجة عليهم كما فعل قوم موسى حين قالوا ) لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) [ البقرة : 55 ]. ثم إنه سبحانه أجاب عن شبهتهم بقوله : ( لقد استكبروا في أنفسهم ( أي أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه. ثم نسبهم إلى الإفراط في الظلم بقوله ) وعتواً ( ثم وصف العتوّ بالكبر. قال جار الله : اللام جواب قسم محذوف وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية وفيها معنى التعجب كأنه قال : ما أشد استكبارهم وما أكبر عتوّهم وقال في التفسير الكبير : تحرير هذا الجواب من وجوه أحدها : أن القرآن لما ظهر كونه معجزاً فقد تمت دلالة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فبعد ذلك لا يكون اقتراح أمثال هذه الآيات إلا محض الاستكبار والاستنكار. وثانيها أن نزول الملائكة لو حصل لكان ايضاً من جملة المعجزات ولا يدل على الصدق لخصوص كونه بنزول الملك بل لعموم كونه معجزاً فيكون قبول ذلك(5/231)
" صفحة رقم 232 "
وردّالآخر ترجيحاً لأحد المثلين من غير مرجح. وثالثها أنهم بتقدير رؤية الرب وتصديقه لرسوله لا يستفيدون علماً أزيد من تصديق المعجزات ، لا فرق بين أن يقول النبي اللهم إن كنت صادقاً فأحي هذا الميت فيحييه ، وبين أن يقول إن كنت صادقاً فصدّقني فتعيين أحد الطرفين محض العناد. ورابعها أن العبد ليس له أن يعترض على فعل مولاه إما بحكم المالكية عند الأشعري أو بحكم المصلحة عند المعتزلة. وخامسها أن السائل الملح المعاند الذي لا يرضى بما ينعم عليه مذموم وإظهار المعجز من جملة الأيادي الجسيمة فرد إحداها واقتراح الأخرى ليس من الأدب في شيء. وسادسها لعل المراد أني لو علمت بأ ، هم ليسوا مستكبرين عاتين لأعطيتهم مطلوبين لكني علمت إنهم إنما سألوا لأجل المكابرة والعناد فلا جرم لا أعطيهم. وسابعا لعلهم عرفوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وأنه لا ينزل الملائكة على عوام الخلق ، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك فهم مستكبرون ساخرون. واستدلت الأشاعرة بقوله : ( لا يرجون لقاءنا ( على أن رؤية الله مرجوّة. واستجلت المعتزلة بقوله ) لقد استبروا ( ) وعتواً ( أن اقتراح الرؤية مستنكر ولا يخفى ضعف الاستدلالين : وانتصب ) يوم يرون ( بإضمار ( اذكر ) فيكون ) لا بشرى ( مستأنفاً أو بما دل عليه ) لا بشرى ( أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى بالجنة وبرؤية الحق. ) يومئذ ( للتكرير وقوله ( للمجرمين ( ظاهر في موضع الضمير أو عام فيتناول هؤلاء لعمومه ، ولأجل هذا العموم استدلت المعتزلة به على القطع بوعيد كل مجرم وإن كان من أهل القبلة ، وحمل الأشاعرة الجرم على الكفر. أما قوله : ( حجراً محجوراً ( فإنها كلمة يتلفظ بها عند لقاء عدوّ أو هجوم نازلة ، يضعونها موضع الاستعاذة يقول الرل للرجل : تفعل كذا ؟ فيقول : حجراً. وقد ذكره سيبويه في باب المصادر التي ترك إظهار فعلها نحو ( معاذ الله وعمرك الله ومعناه منعاً ) اي اسال الله أن يمنع ذلك منعاً كما أن المستعيذ طالب من الله عز وجل أن يمنع المكروه. ووصفه بالمحجور للتأكيد كما يقال طشعر شاعر وجد جده (. والأكثرون على أن القائلين هم الكفار إذا رأوا الملائكة عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون فيقولون ما كانوا يقولونه عند نزول كل شدّة. وقيل : هم الملائكة ومعناه حراماً محرّماً أي جعل الله الجنة والغفران أو البشرى حراماً عليكم. يروى أن الكفار إذا خرجوا من قبورهم قالت الحفظة لهم : حجراً محجوراً. وقال الكلبي : الملائكة على أبواب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين : حجراً محجوراً. وقال عطية : إذا كان يوم القيامة تأتي الملائكة المؤمنين بالبشرى فإذا رأى الكفار ذلك قالوا لهم : بشرونا فيقولون : حجراً محجوراً. ثم أخبر عن وعيد آخر لهم وذلك أنهم كانوا يعملون أعمالاً لها(5/232)
" صفحة رقم 233 "
صورة الخير من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف وأمثالها مع عدم ابتنائها على أساس الإيمان ، فمثلت حالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم غلى اشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فافسدها بحيث لم يترك منها أثراً وإلا فلا قدوم ولا ما يشبه القدوم ، ولتننزهه سبحانه عن الجسمية وصفاتها. قال أهل المعاني : القادم إلى لاشيء قاصد له فالقصد هو المؤثر في القدوم فأطلق اسم المسبب على السبب مجازاً. وقيل : أراد قدوم الملائكة بأمره إلا موضع الحساب في الآخرة. والهباء ما يخرج من الكوة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار. وقال مقاتل : إنه الغبار الذي يسطع من حوافر الدواب وفي أمثالهم أقل من الهباء شبه عملهم بالهباء في قلته وحقارته. وأكد المعنى بوصف الهباء بالتناثر لأنك تراه منتظماً مع الضوء حتى إذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب. والمراد : جعلناه جامعاً لحقارة الهباء والتناثر ولام العباء واو بدليل الهبوة بمعناه. ثم ميز حال الابرار عن حال الفجار بقوله : ( اصحاب الجنة يومئذ خير ( ووجه صحة التفضيل ما بين في قوله : ( قل أذلك خير أم جنة الخلد ( أو التفاوت بين المنزلتين إنما يرجع غلى الموضع والموضع منحيث إنه موضع لا شر فيه ، أو هو على سبيل الفرض اي لو كان لهم مستقر كان مستقر أهل الجنة خيراً منه. والسمتقر مكان الاستقرار والمقيل المكان الذي يأوون إليه للاسترواح غلى أزواجهم والاستمتاع بمغالتهنّ وملامستهنّ كحال المترفين في الدنيا ، ولا نوم في الجنة وإنما سمى مكان دعتهم واسترواحهم غلى الحور مقيلاً على طريق التشبيه ، وفي اختيار لفظ الأحسن دون أن يقول ) خير مقيً ( رمزاً إلى التحسنات الحاصلة في مقيلهم من حسن الوجوه وملاحة الصور وغير ذلك. قال ابن مسعود : لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل الار في النار. وعن سعيد بن جبير : إن الله تعالى إذا أخذ في فصل القضاء قضى بينهم كقدر ما بين صلاة الغداة إلى نصف النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. وقال مقاتل : يخفف الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من ايام الدنيا ثم يقولون منيومهم ذلك في الجنة. وحاصل الاية أن أصحاب الجنة من المكان في أطيب مكان ومن الزمان في أحسن زمان. ثم أراد أن يصف أهوال يوم القيامة فقال ) ويوم تشقق ( أي واذكر يوم تتفتح السماء بسبب غمام يخرج منها وفي الغمام الملائكة فينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد : قال الفراء : الباء بمعنى ) عن ( لأن السماء لا تتشقق بالغمام بل عن الغمام كما يقال : انشقت الأرض عن النبات أي ارتفع التراب عنه عند طلوعه ، وقال القاضي : لا يمتنع أن يجعل الله تعالى الغمام بحيث يشقق السماء باعتماده عليها. عن مقاتل : تشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وكذلك تتشقق سماء(5/233)
" صفحة رقم 234 "
سماء ، ثم نيزل الكروبيون وحملة العرش ، ثم ينزل الرب تعالى. قال العلماء : هذا نزول الحكم والقضاء لا نزول الذات. وأما نزول الملائكة مع كثرتهم وصغر حجم الأرض بالقياس إلى السماء فقالوا : لا يبعد أن يوسع الله الأرض عرضاً وطولاً بحيث تسع كل هؤلاء. ومن المفسرين من قال : المئكة يكونون في الغمام وهو سترة بين السماء والأرض ، والله تعالى فوق أهل القيامة. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : تتشقق كل سماء وينزل سكانها فيحيطون بالعالم ويصبرون سبع صفوف حول العالم. والظاهر أن اللام في الغمام لجنس. ومنهم من قال : هي للعهد والمعهود قوله : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ( وقيل : هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة كما كان لنبي إسرائيل في التيه. ومعنى ) تنزيلاً ( توكيد للنزول ودلالة على إسراعهم فيه. قال الزجاج ) الحق ( صفة الملك اي الملك الثابت الذي لا يزول ) للرحمن ( يومئذ ونظيره ) مالك يوم الدين ) [ الفاتحة : 4 ] ويجوز أن يكون يومئذ تكريراً لقوله ) ويوم تشقق ( وغعرابهما واحد. والفائدة في تخصيص ذلك اليوم أن يعلم أنه لا مالك فيه سواه لا بالصورة ولا في الحقيقة فيخذع له الملوك وتعنو له الوجوه وتذل رقاب الجبابرة. قالت الأشاعرة : ههنا لو وجب على الله يومئذ الثواب لاستحق الذم بتركه وكان خائفاً أن لا يفعل فلم يكن له الملك على الإطلاق. وأيضاً على أن لا يؤدي ما عليه من العوض ، أو فقيراً محتاجاً غلى أن يدفع الذم عن نفسه بأداء ما عليه ؟ وكان ذلك اليوم يوماً عسيراً على الكافرين لا على المؤمنين. واللام في ) الظالم ( ظاهر الاستغراق والشمول وكان يكثر مجالسة الرسول صلى الله عليه سولم فاتخذ ضيافة ودعا إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأبى أن يأكل من طعامه حتى يأتي بالشهادتين ففعل ، وكان أُبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال : صبأت يا عقبة ؟ قال : لا ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحيت منه فشهدت له ، والشهادة ليست في نفسي. فقال : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً فلم تطأ قفاه لو تبزق في وجهه. فوجده ساجداً في دار الندوة ففعل ذلك فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : لا ألقاك خارجاً من مكة غلا علوت رأسك بالسيف فقتل يوم بدر أمر علياً رضي الله عنه بقتله. وفي روايات الشيعة أن الظالم هو رجل بعينه وأن المسلمين غيروا اسمه وكتموه وجعلوا فلاناً بدلاً من اسمه وذكروا فاضلين من الصحابة وفيه بعدن لأن تغيير القرآن كفر .(5/234)
" صفحة رقم 235 "
والعض على اليدين كناية عن الغيظ والسحرة لأنه من لوازم الغيظ والتحسر غالباً ونظيره ) سقط في يده وأكل من بنانه ( وأمثال ذلك. وقال الضحاك : يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت فلا يزال كذلك كلما أكلها نبتت. قال جار الله : تمنى أن لو صحب الرسول وسلك معه طريقاص واحداً وهو طريق الحق ولم تتشعب به طرق الضلالة والهوى ، أو اراد أني كنت ضالاً لم يكن لي سبيل قط فليتني حصلت لنفسي في صحبة الرسول سبيلاً. وفلان كناية عن الإعلام كما أن الهن كناية عن الأجناس ، فإِن أريد بالظالم عقبة فالمعنى ليتني لم اتخذ أُبياً خليلاً فكنى عن اسمه ، وإن أريد به الجنس فكل من اتخذ من المضلين خليلاً كان لخليله اسم علم فجعله كناية عن. قلت : زعم بعض أئمة اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلا حكاية. لا يقال : جاءني فلان ولكن يقال : قال زيد جاءني فلان. لأنه اسم اللفظ الذي هو علم لا اسم مدلول العلم ولذلك جاء في كلام الله تعالى : ( يقول يا ليتني ( الخ. والذكر ذكر الله والقرآن أو موعظة الرسول أو نطقه بشهادة الحق وعزمه على الإسلام والشيطان إشارة إلى خليله الذي أضله كما يضله الشيطان ، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة. أو إشارة إلى إبليس وأنه هو الذي حمله على أن صار خليلاً لذلك المضل وخالف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم خذله ، أو أراد الجنس فيدخل فيه كل من تشيطن من الجن والإنس. ثم إن الكفار لما أكثروا من الاعتراضات الفاسدة ووجوه التعنت ضاق صدر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وشكاهم إلى الله عز وجل وقال ) يا رب إن قومي ( يعني قريشاً ) اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ( أي تركوه وصدّوا عنه وعن الإيمان به. وعن أبي مسلم أنالمراد : وقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم القيامة. روي عن أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفاً لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه (. وقيل : هو من هجر إذا هذى. والجار محذوف أي جعلوه مهجوراً فيه. وعلى هذا فله معنيان : أحدهما أنهم زعموا أنه كلام لا فائدة فيه. والثاني أنهم كانوا إذا سمعوه لغوا فيه. وجوز الكشاف أن يكون المهجور مصدراً بمعنى الهجر كالميسور والمجلود أي اتخذوه هجراً. سؤال : هذا النداء بمنزلة قول نوح ) رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً ) [ نوح : 5 ] فكيف صارت شكاية نوح سبباً لحلول العذاب بأمته ولم تصر شكاية نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) سبباً لذلك ؟ الجواب أن الكلام بالتمام ، وكان من تمام كلام نوح ) رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ) [ نوح : 26 ] ولم يكن كلام رسولنا إلا مجرد الشكاية ولم يقتض الدعاء عليهم وذلك من غاية شفقته على الأمة وإن بلغ إيذاؤهم(5/235)
" صفحة رقم 236 "
إياه الغاية ) ما أوذي نبي مثل ما أوذيت ( هذا مع أنه سبحانه سلاه وعزاه وأمره بالصبر على أذاهم حين قال ) وكذلك جعلنا ( بين ذلك أن له أسوة بسائر الأنبياء فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبروا ، وتمام البحث فيه قد سلف في الأنعام في قوله ) وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدواً شياطين الإنس والجن ) [ الأنعام : 112 ] ( وكفى بربك هادياً ونصيراً ( غلى مصالح الدين والدنيا أو إلى طريق قهرهم والانتصار منهم ونصيراً لك على أعدائك. ثم حكى عنهم شبهة خامسة وهي قولهم : هلا نزل عليه القرآن حال كونه جملة واحدة أي مجتمعاً. ومعنى التنزيل ههنا التعدية فقط لقريتة قوله ) جملة ( خلاف ما تقرر في أكثر المواضع في إرادة التكثير المفيد للتدريج كما مر في قوله ) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل ) [ آل عمران : 3 ] والقائلون قريش أو اليهود فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله ) لنثبت ( الخ. وتقريره من وجوه أحدها : أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن قارئاً كاتباً بخلاف موسى وداود وعيسى فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزله الله عليه منجماً في عشرين سنة. وعن ابن جريج : في ثلاث وعشرين ليكون أقرب إلى الضبط وأبعد عن النسيان والسهو. وثانيها أن الاعتماد على الحفظ أقرب إلى التحصيل من الاعتماد على الكتابة والحفظ لا بد فيه من التدرج. وثالثها إن نزول الشرائع متدرجة أسهل على المكلف منها دفعة. ورابعها أن نزول جبريل ساعة فساعة مما يقوي قلبه ويعينه على تحمل أعباء النبوّة والرسالة. وخامسها أن نزوله مفرّقاً يوجب وقوع التحدي على أبعاض القرآن وأجزائه ونزوله جملة يقتضي وقوع التحدي على مجموعة ، ولا ريب في أن الأول أدخل في الإعجاز. وسادسها أن نزوله بحسب الوقائع والحوادث أوفق في باب التكاليف والاستبصار وأدل على الأخبار عن الحوادث في أوقاتها. وسابعها أن في تجديد منصب السفارة في كل حين مزيد شرف لجبريل. وللترتيل معان منها : أنه قدره آية بعد آية وفدعة عقيب دفعة. ومنها التأني في القراءة ومعنى ) ورتلناه ( أمرنا بترتيل قراءته ومنه حديث عائشة في قراءتك لا يسرد كسردكم. هذا لو اراد السامع أن يعدّ حروفها لعدها وهو مأخوذ من ترتيل السنان أي تفليحها. يقال : ثغر مرتل ويشبه بنور الأقحوان في تفليحه. ومنها أنه نزله في مدد متباعدة الأطراف جملتها عشرون سنة ولم يفرقه في مدد متقاربة. ثم ذكر أنهم محجوبون في كل أوان بقوله : ( ولا(5/236)
" صفحة رقم 237 "
يأتونك بمثل ( اي بسؤال عجيب من اسئلتهم الباطلة الذي كأنه مثل في البطلان إلا ونحن نأتي بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم. قال جار الله : لما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا : تفسير الكلام كيت وكيت كما قيل : معناه كذا وكذا. ووجه آخر وهو أن يراد ) ولا يأتونك ( بحال وصفة عجيبة يقولون هلا كانت صفته وحاله أن ينزل معه ملك أو يلقى غليه كنز أو ينزل عليه القرآن جملة إلا أعطيناك نحن ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا وما هو أحسن بياناً لما بعثت به ، ومن جملة ذلك تنزيل القرآن مفرقاً منجماً فإن ذلك أدخل في الإعجاز كما مرن ثم أوعد هؤلاء الجهلة بأنهم شر مكاناً من أهل الجنة والبحث عنه نظير ما مر في صفة أهل الجنة خير مستقراً. قال جار الله : كأنه قيل لهم : إن الذي يحملكم على هذه الأسئلة هو أنكم تضللون سبيله ( صلى الله عليه وسلم ) وتحتقرون مكانه ومنزلته ، ولو نظرتم بعين الإنصاف وأنتم من المسحوبين على وجوهكم إلى جهنم لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه وسبيلكم أضل من سبيله. عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث : ثلث على الدواب وثلث على وجوهم وثلث على اقدامهم ينسلون نسلاً (. ثم ذكر طرفاً من قصص الأولين على عادة افتنانه في الكلام وتنشيطاً للأذهان وتسلية لنبيه كأنه قال : لست يا محمد بأول من ارسلناه فكذب وآتيناه الآيات فردّ بل آتينا موسى التوراة وقويناه بأخيه ومع ذلك كذب ورد. ومعنى الوزير تقدم في ) طه (. والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضاً. ولاشتراكهما في النبوة قيل لهما ) اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا ( إن حملناه على تكذيب آيات الإلهية فظاهر ، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة فاللفظ ماضٍ والمعنى على الاستقبال على عادة إخبار الله تعالى. ويجوز أن يراد إلى القوم الذين آل حالهم إلى أن كذبوا فدمرناهم ، وعلى هذا فلا حذف. والتدمير الإهلاك ) وقوم نوح لما كذبوا الرسل ( بأن كذبوه وكذبوا من قبله من الرسل صريحاً كأنهم لم يروا بعثة الرسل اصلاً كالبراهمة ، أو لأن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب كلهم ) أغرقناهم وجعلناهم ( أي إغراقهم وقصتهم ) للناس آية ( محل اعتبار ) وأعتدنا للظالمين ( وهم قوم نوح أو لكل من سلك سبيلهم في التكذيب. وقصة عاد وثمود مذكورة مراراً ، وأما الرس فعن أبي عبيدة أنه البئر غير المطوية ، والقوم كانوا من عبدة الأصنام اصحاب آبار ومواش ، بعث الله عز وجل إليهم شعيباً فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ، فبيناهم حول الرس انهارت بهم فخسف بهم وبديارهم. وقيل : الرس قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود. وقيل : هم اصحاب النبي حنظلة بن صفوان ابتلاهم الله بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من(5/237)
" صفحة رقم 238 "
الطيرسميت بذلك لطول عنقها ، وكانت تسكن جبلهم وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة. ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا. وقيل : هم اصحاب الأخدود والرس عند العرب الدفن يقال : رس الميت : إذا دفن وغيب في الحفيرة. وقيل : الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيباً النجار وستجيء القصة في سورة يس. وعن علي رضي الله عنه أنهم قوم يعبدون شجرة الصنوبر رسوا نبيهم في الأرض. وقيل : هم قوم كانت لهم قرى على شاطئ نهر يقال له الرس من بلاد المشرق ، فبعث الله تعالى إليهم نبياً من ولد يهوذا بن عيقوب فكذبوه فلبث فيهم زماناً ثم حفروا بئراً فرسوه فيها قوالوا : نرجو أن يرضى عنا إلهنا ، وكان عامة قومهم يسمعون أنين نبيهم يقول : غلهي وسيدي ترى ضيق مكاني وشدة الحمرة وصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقداً وأظلتهم سحابة سوداء فذابت ابدانهم كما يذوب الرصاص. وروى ابن جرير بإسناده إلىالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن الله بعث نبياً غلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا عبد أسودن ثم عدوا على الرسول فحفروا له بئراً فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه حجراً ضخماً ، فكان ذلك العبد يحتطب فيشتري له طعاماً وشرابا ويرفع الصخرة ويدليه غليه وكان كذلك ما شاء الله فاحتطب يوماً فلما اراد أن يحملها وجد نوماً فاضطجع فضرب الله على آذانه سبع سنين. ثم انتبه وتمطى وتحول لشقه الآخر فنام سبع سنين ، ثم هب فاحتمل حزمته وظن أ ، ه نام ساعة مننهار فجاء إلى القرية فباع حزمته فاشترى طعاماً وشراباً وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحداً ، وكان قومه استخرجوه فآمنوا به وصدقوه وذلك النبي يسألهم عن الأسود فيقولون : لا ندري حاله حتى قبض الله تعالى النبي وقبض ذلك الأسود فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : إن ذلك الأسود أول من يدخل الجنة. قلت هذه الرواية إن صحت فلا مدخل لها في المقصود فإِن المقام يقتضي أن يكون قوماً كذبوا نبيهم فأهلكوا لأجل ذلك. أما قوله ) وقروناً بين ذلك ( فالمشار إليه ما ذكر من الأمم وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك ومثله قوله الحاسب ) فذلك كذا ( أي فما ذكر من الأعداد مجموعها كذا ) وكلاً ( من الأمم والقرون ) ضبنا له الأمثال ( بينا له القصص العجيبة ليعتبروا ويتعظوا ) وكلاً تبرنا ( أهلكنا أشنع الإهلاك حين لم ينجع فيهم ضرب المثل. والتتبير التفتيت والتكسير. و ) كلاً ( الأول منصوب بما دل عليه ضربنا له الأمثال وهو انذرنا أو حذرنا كلاًر الثاني منصوب ) بتبرنا ( لأنه ليس بمشتغل عنه بضميره. والضمير في ) ولقد أتوا ( لقريش ، والقرية سدوم من قرى قوم لوط وكانت خمساً ، ومطر السوء(5/238)
" صفحة رقم 239 "
الحجارة. ) افلم يكونوا ( في مرات مرورهم على تلك القرية في متاجرهم إلى الشام ) يرونها بل كانوا ( قوماً كفروا بالبعث لا يتوقعون نشوراً وعاقبة فمن ثم لم ينظروا غلى آثار عذاب الله نظر عبرة وادكار. ) و ( من جملة كفرهم وعنادهم أنهم إذا رأوك يتخذونك غلار محل هزؤ. ثم فسر ذلك الاستهزاء بأنهم يقولون مشيرين إليه على سبيل الاستحقار. هذا الذي بعثه الله حال كونه رسولاً بزعمه. ويجوز أن يكون تسميته رسولاً استهزاء آخر من حيث إنه تسليم وإقرار في معرض الجحود والإنكار. وفي هذا جهل عظيم لأنهم إن استحقروا صورته فإنه أحسنهم خلقاً وأعدلهم مزاجاً مع أنه لم يكن يدعي التميز بالصورة ، وإن استهزؤا بالمعنى فبه قد وقع التحدي بظهور المعجز عليه وقامت الحجة عليهم فهم أحق بالاستهزاء منه حين اصروا على الباطل بعد وضوح البرهان على الحق ، ولقد شهد عليهم بمضمون هذا التقرير ابن أخت خالتهم إذ قالوا ) إن كاد ( هي مخففة من الثقيلة واللام في ليضلنار هي الفارقة كأنهم سلموا أنه لقوة العقل وسطوع الحجة شارف أن يغلبهم على دينهم ويقلبهم عن طريقتهم لولا فرط لجاجهم وصبرهم على عبادة آلهتهم. أطلقوا المقاربة أوّلاً ثم قيدوها بلولا الامتناعية ثانياً ، وفيه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) بذل قصارى مجهوده في دعوتهم حتى شارفوا على الغيمان بزعمهم. وحين وصفوه بالإضلال والمضل لا بد ان يكون ضالاً في نفسه فكأنهم وصفوه بالضلال فلا جرم أوعدهم الله على ذلك بقوله ) وسوف يعلمون ( إلى آخر الآية. وإنما يرون العذاب عند كشف الغطاء عن بصر البصيرة. ثم بين إنه لا تمسك لهم فيما ذهبوا غليه سوى التقليد واتباع هوى النفس فقال معجباً لرسوله : ( أرأيت من اتخذ إلهة هواه ( قدم المفعول الثاني للعناية كما تقول : علمت منطلقاً زيداً. ثم نفى أن يكون هو حافظاً عليهم كقوله : ( وما أنت عليهم بوكيل ) [ الأنعام : 107 ] ( لست عليهم بمصيطر ) [ الغاشية : 22 ] قال الكلبي : نسختها آية القتال. عن سعيد بن جبير : كان الرجل يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخذ آخر. ثم أضرب عن ذمهم باتخاذ الهوى إلهاً إلى نوع آخر أشنع في الظاهر قائلاً : ( أم يحسب ( وهي منقطعة ومعناه ) بل ( أيحسب وخص أكثرهم بالذكر إما لصون الكلام عن المنع على عادة الفصحاء العقلاء ، وإما لأن منهم من كان يعرف الحق غلا أن حب الرياسة يحمله على الخلاف. وإنما نفى عنهم السماع والعقل لانتفاء فائدتهما وأثرهما. وباقي الآية تفسيرها مذكور في آخر الأعراف في قوله ) أولئك كالأنعام بل هم أضل ) [ الأنعام : 179 ] قال جار الله : جعلوا أضل من الأنعام لأنها تنقاد لأربابها التي تعلفها وترعف المحسن من المسيء وتجذب المنافع وتجتنب المضارّ وتهتدي للمراعي والمشارب ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان ، ولا يطلبون أعظم المنافع وهو الثواب ، ولا يتقون أشد المضارّ وهو العقاب ، ولا يهتدون للحق الذي هو(5/239)
" صفحة رقم 240 "
المرتع الهنيء والشمرب الرويّ ، قلت : ويحسن أيضاً ان يذكر في وجه التفضيل أن جهل الأنعام بسيط غير مضر وجهل هؤلاء مركب مضر. ومنهم من قال : إن الأنعام تسبح لله تعالى بخلاف الكفار. ثم ذكر طرفا من دلائل التوحيد مع ما فيها من عظيم الأنعام فأولها الاستدلال من أحوال الظل والرؤية إما بمعنى البصر فالمراد : ألم تر إلى صنع ربك أو الم تر إلى الظل كيف مده ربك. وإما بمعنى العلم وهو ظاهر وذلك أن الظل متغير ولكل متغير موجد وصانع. والخطاب لكل من له أهلية النظر والاستدلال. وللكلام في تفسير الآية مجال إلا أن ملخص الأقوال فيه اثنان : الأول أن الظل أمر متوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة كالكيفيات الحاصلة داخل السقوف الكاملة وأفنية الجدران وهو أعدل الأحوال ، لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس والضوء الكامل لقوّته يبهر الحس البصري ويؤذي بالتسخين ، ولذلك وصف الجنة به في قوله : ( وظل ممدود ) [ الواقعة : 30 ] ثم إن الناظر في الظل إلى الجسم الملون كأنه لا يشاهد شيئاً سوى الجسم واللون ، فإذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على الجسم زال ظلمه فيظهر للعقول أنه كيفية زائدة على ما شاهده أوّلاً. فمعنى الآية : ألم تر إلى عجيب صنع ربك ) كيف مدّ الظل ( أي جعله ممتداً منبسطاً على الأجسام. ) ولو شاء لجعله ساكناً ( لاصقاً بكل مظل. ) ثم جعلنا الشمس ( على وجوده ) دليلاً ( فلولا الشمس ووقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجوداً ، لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها : ( ثم قبضناه ( اي أزلنا الظل لا دفعه بل يسيراً يسيراً فإنه كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الإظلال في جانب المغرب شيئاً بعد شيء ، وفي القبض على هذا الوجه منافع جمة. الثاني أنه سبحانه لما خلق السماء والأرض ألقت السماء ظلها على الأرض ممدوداً منبسطاً ، ولو شاء لجعله ساكناً مستقراً على تلك الحالة ، ثم خلق الشمس وجعلها دليلاً على ذلك الظل ، لأن الظل يتبعها كما يتبع الدليل في الطريق من حيث إنه يزيد بها وينقص ويمتد ويتقلص ، ثم لقبض الظل معنيان : أحدهما : انتهاء الإظلال إلى غاية مّا من النقصان بالتدريج ، وثانيهما قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام النيرة. وقوله ( إلينا ( يؤكد هذا المعنى الثاني فيكون قوله ) يسيراً ( كما قال ) ذلك حشر علينا يسير ) [ ق : 44 ] الاستدلال الثاني من أحوال الليل والنهار شبه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر ، والسبات الراحة قاله أبومسلم. وذلك أن النوم سبب الراحة ومنه يوم السبت لما جرت به العادة من الاستراحة فيه عند طائفة ، وعلى هذا فالنشور بمعنى الانتشار والحركة. قال جار الله : السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة ، وعلى هذا(5/240)
" صفحة رقم 241 "
فالنشور بمعنى البعث وتكون الآية نظير قوله : ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ) [ الأنعام : 60 ] عن لقمان أنه قال لابنه : يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر. الاستدلال الثالث قوله ) وَهُوَ ( صلى الله عليه وسلم )
1649 ; لَّذِي ( صلى الله عليه وسلم )
1764 ; أَرْسَلَ ( صلى الله عليه وسلم )
1649 ; لرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ( أي قدام المطر وقد مر تفسيره في ) الأعراف ( وأنه لم قال ههنا ) أرسل ( بلفظ الماضي وهناك ) يرسل ( أما قوله ) وأنزلنا من السماء ماء طهوراً ( فهو علم بين الفقهاء في الاستدلال به على طهارة الماء في نفسه وعلى مطهريته لغيره حتى فسر الطهور بعضهم - ومنهم أحمد بن يحيى - بأنه الذي يكون طاهراً في نفسه مطهراً لغيره. واعتراض عليهم صاحب الكشاف بأن الذي قالوه إن كان شرحاً لبلاغته في الطهارة كان سديداً وإلا فليس ) فعول ( من ) التفعيل ( في شيء وأقول : إن الزمخشري سلم ان الطهور في العربية على وجهين : صفة كقولك ) ماء طهور ( اي طاهر ، واسم غير صفة ومعناه ما يتطهر به كالوضوء والوقود بفتح الواو فيهما لما يتوضأ به وتوقد به النار ، وعلى هذا فالنواع مدفوع لأن الماء مما يتطهر به هو كونه مطهراً لغيره فكأنه سبحانه قال : وأنزلنا من السماء ماء هو آلة للطهارة ويلزمه أن يكون طاهراً في نفسه. ومما يؤكد هذا التفسير أنه تعالى ذكره في معرض الأنعام فوجب حمله على الوصف الأكمل ، ولا يخفى أن المطهر أكمل من الطاهر نظيره ) وينزل عليكم ماء من السماء ماء ليطهركم به ) [ الأنفال : 11 ]. ولا ضير أن نذكر بعض أحكام المياه المستنبطة من الآية فنقول : ههنا نظران : الأول أن عين الماء هو طهور أم لا ؟ مذهب الأصم والأوزاعي أنه يجوز الوضوء بجميع المائعات ، وقال أبو حنيفة : يجوز الوضوء بنبيذ التمر في السفر وتجوز إزالة النجاسة بجميع المائعات المزيلة لأعيان النجاسات. وقال الشافعي وغيره من الأئمة : إن الطهورية مختصة بالماء لما مر في أول المائدة من إيجاب التيمم عند عدم الماء ولو شارك الماء مائع آخر لما أمر بالتيمم غلا بعد إعوازه أيضاً ودليله في الخبث قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ثم اغسليه بالماء (. النظر الثاني في الماء وفيه بحثان : الأول في الماء المستعمل وإنه طاهر عند الشافعي وليس بمطهر في قوله الجديد. أما الأول فلإطلاق الآية ) وأنزلنا من السماء ماء طهوراً ( والصل بقاؤه وللحديث ) خلق الماء طهوراً ( ولأن السلف كانوا لا يحترزون عن تقاطر ماء الوضوء على ثيابهم وابدانهم ، ولأنه ماء طاهر لقي جسماً طاهراً فأشبه ما إذا لاقى حجارة. وأما الثاني فلقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ( ولو بقي الماء كما كان طاهراً مطهراً(5/241)
" صفحة رقم 242 "
لما كان للمنع منه معنى ، وكانت الصحابة لا يعتنون بحفظه ليستعملوه ثانياً ولو كان طهوراً لحفظوا ما يغنيهم عن التيمم. وقال مالك والسدي : إنه طاهر مطهر لإطلاق الآية والحديث ، والأصل بقاء صفته على ما كان عليه. وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) توضأ فمسح رأسه بفضل ما في يده. وعن ابن عباس أنه ( صلى الله عليه وسلم ) اغتسل فرأى لمعة في جسده لم يصبها الماء فأخذ شعرة عليها بلل فأمرها على تلك اللمعة ، ولقياس ما انفصل من العضو على ما لم ينفصل منه. وقال أبو حنيفة : إنه نجس قياساً للنجاسة الحكمية على النجاسة الحقيقية. والمراد باستعمال الماء في المسألة تأدى عبادة الطهارة به أو انتقال المنع إليه فيه وجهان لأصحاب الشافعي ، ويتفرع عليه أن المستعمل في الكرة الثانية والثالثة وفي تجديد الوضوء والأغسال المسنونة ليس بطهور على الأول طهور على الثاني. والماء السمتعمل في الحدث لا يجوز استعماله في الخبث على الأصح لأنه مائع لا يرفع الحدث فلا يزيل الخبق كسائر المائعات. البحث الثاني الماء المتغير إن تغير بنفسه لطول المكث جاز الوضوء به لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يتوضأ من بئر بضاعة ، وكان ماؤها كأنه نقاعة الحناء. وإن تغير بغيره ولم يتصل به كما لو وقع بقرب الماء جيفة فأنتن الماء فهو أيضاً مطهر ، وإن اتصل به وكان طاهراً ولم يخالطه كما لو تغير بدهن أو عود أو كافور صلب فهو أيضاً مطهر ، وإن خالطه فإن لم يمكن صون الماء عنه كالمتغير بالتراب والحمأة والورق المتناثر والطحلب فلا بأس بذلك دفعاً للحرج ، وكذا لو جرى الماء في طريقه علىمعدن زرنيخ أو نورة أو كحل وإن أمكن بأن يكون الماء مستغنياً عن جنس ذلك الخليط فإن كان التغير قليلا بحيث لا يضاف الماء إليه أو لا يستحدث اسما جديدا جاز التوضوء به وإلا فلا خلافاً لأبي حنيفة. حجة الشافعي أنه صلى الله عليهوسلم توضأ ثم قال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ، فذلك الوضوء إن كان بالماء المتغير وجب أن لا يجوز إلا به وليس كذلك بالتفاق بماء غير متغير وهو المطلوب. ولقائل أن يقول : إن هذا إشارة غلى كيفية الوضوء لا غلى كيفية الماء ، والمراد أنه تعالى لا يقبل الصلاة بما دون ذلك ، وأما الكمال فلا كلام فيه. قال : وأيضاً إذا اختلط ماء الولد بالماء فتوضأ الإنسان به يحتمل أن ينغسل بعض الأعضاء بما الورد لا بالماء فيكون الحدث يقيناً والطهر مشكوكاً فيه والشك لا يرفع اليقين ، وهذا بخلاف ما إذا كان قليلاً لا يظهر اثره فإنه كالمعدوم. وأيضاً الوضوء تعبد لا يعقل معناه ولهذا لو توضأ بماء الورد لم يصح وضوءه ، ولو توضأ بالماء الكدر والمتعفن صح وضوءه وما لا يعقل معناه وجب الاعتماد فيه على مورد النص. حجة أبي حنيفة إطلاق الآية وقوله : ( فاغسلوا وجوهكم ) [ المائدة : 6 ] وقوله ( فإن لم تجدوا ماء ) [ النساء : 43 ] وهذا الشخص غسل ووجد الماء ولأنه ( صلى الله عليه وسلم ) أباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن(5/242)
" صفحة رقم 243 "
خالطهما شيء من لعابهما ، ولأنه لا خلاف في جواز الوضوء بماء السيول وإن تغير لونها إلى ألوان ما تمر عليها في الصحارى من الحشائش وغيرها. هذا كله إذا كان الخليط طاهراً ، فإن كان نجساً فمذهب الحسن البصري والنخعي ومالك وداود وإليه الغزالي في الإحياء أن الماء لا ينجس ما لم يتغير بالنجاسة ، سواء كان الماء كثيراً أو قليلاً. ومذهب أبي حنيفة أن الماء ينجس باستعماله في البدن لأداء عبادة. وتيقن مخالطة النجاسة أو غلبتها على الظن سواء تغير أحد أوصافه الثلاثة أو لم يتغير. قال أبو بكر الرازي : ولا يختلف على هذا الحد ماء البحر وماء البئر والغدير والراكد والجاري لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة وكذلك الماء الجاري. قال : وأما اعتبار أصحابنا للغدير الذي إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر فإنما هو كلام في وجه يغلب على الظن عدم بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى الطرف الآخر ، وليس كلاماً في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعماله وبعضها لا يجوز استعماله. ومن الناس من فرق بين القليل والكثير ثم اختلفوا في حد الكثير : فعن عبد الله بن عمر : إذا كان الماء اربعين قلة لم ينجسه شيء وقال سعيد بن جبير : الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال. وقال الشافعي : إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه. وقد ينصر من المذاهب قول مالك لوجوه منها : قوله ) وأنزلنا من السماء ماء طهوراً ( ترك العمل به في الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه لظهور النجاسة فيه ، ولقوله ) خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه ( فبقي ما عداه على الأصل. ومنها قوله تعالى : ( فاغسلوا ( والمتوضئ بهذا الماء قد غسل أغضاءه ولا سيما إذ 1 كانت النجاسة مستهلكة فيه لا يظهر عليه آثارهما وخواصها من الطعم أو اللون أو الريح. ومنها أن عمر توضأ من جرة نصرانية مع أن نجاسة أوانيهم غالبة على الظن ، فدل ذلك على أنه لم يعول إلا على عدم التغير. ومنها أن تقدير الماء بمقدار معلوم لو كان معتبراً كالقلتين عند الشافعي وعشر في عشر عند أبي حنيفة ، لكان أولى المواضع بذلك مكة والمدينة ولا أنهم سألوا عن كيفية حفظها ، وكانت أوانيهم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات ، وكانوا لا يمنعون الهرة من شرب الماء وقد اصغى لها الإناء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن كانوا يرون أنها تأكل الفأرة ، ولم يكن في بلادهم حياض تكرع(5/243)
" صفحة رقم 244 "
السنانير فيها. ومنها أن الشافعي نص على أن غسالة النجاسة طاهرة إذا لم تتغير بنجس ، واي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورود عليها أو بورودها عليه ، وأي معنى لقول القائل : إن قوة الورود تدفع النجاسة مع أن قوة الورود لم يتمنع المخالطة ؟ ومنها أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة. وقال الشافعي : إذا وقع بول في ماء جارٍ ولم يتغير جاز الوضوء به. وايّ فرق بين الجاري والراكد ؟ والتعويل على قوة الماء بسبب الجريان ليس أولى من التعويل على عدم التغير. ومنها أنه لو وقعت نجاسة في قلتين فكل كوز يؤخذ منه فهو طاهر عنده ، ومعلوم أن البول ينتشر فيه وهو قليل فأي فرق بينه إذا وقع ذلك البول في ذلك القدر من الماء ابتداء وبينه إذا وصل غليه عند اتصال غيره به ؟. ومنها أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ منها المتقشفون مع علمهم بأن اليدي والأواني الطاهرة والنجسة كانت تتوارد عليها ، ولو كان التقدير بالقلتين وغير ذلك معتبراً لاشتهر وتواتر. ومنها أن النصوص في التقدير متخالفة ؛ أما تقدير أبي حنيفة بالعشر في العشر فمجرد تحكم ، وأما تقدير الشافعي بالقلتين بناء على قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً ( فضعيف. لأن راوية مجهول ، فإن الشافعي لما روى هذا الخبر قال : أخبرني رجل. فيكون الحديث مرسلاً والمرسل عنده ليس بحجة. سلمناه ولكن القلة مجهولة فإنها تصلح للكوز وللجرة ولكل ما يقل باليد وهي أيضاً اسم لهامة الرجل ولقلة الجبل. سلمنا لكن في متن الخبر اضطراب ، فقد روي ) إذا بلغ الماء قلتين ( وروي ) إذا بلغ قلة ( وروي ) أربعين ( ) وإذا بلغ كرين ( سلمنا صحة المتن لكنه متروك الظاهر لأن قوله ) لم يحمل خبثاً ( لا يمكن إجراؤه على ظاهره ، فإن الخبث إذا ورد عليه فقد حمله. سلمنا إجاءه على الظاهر لكن الخبث لغوي وشرعي وحمله على اللغوي لكونه حقيقة أولى ، فمعنى الحديث أن لا يصير مستقذراً طبعاً. ونحن نقول : بموجبه لكن لم قلتم : إنه لا ينجس شرعاً ؟ سلمنا أن المراد هو الخبث الشرعي لكن لم لا يجوز أن يكون معنى قوله ) لم يحمل خبثاً ( أنه يضعف عن حمله أي يتأثر به ؟ أجاب بعض الشافعية عن هذه المنوع بأن كثيراً من المحدثين عينوا اسم الراوي في حديث القلتين ، فإن يحيى بن معين قال : إنه جيد الإسناد. فقيل له : إن ابن علية وقفه على ابن عمر. فقال : إن كان ابن علية وقفه فحماد بن سلمة رفعه. وقوله ( القلة مجهولة ( غير مسلم لأن ابن جريج قال في روايته : بقلال هجر. ثم قال : وقد شاهدت(5/244)
" صفحة رقم 245 "
قلال هجر وكانت القلة تسع قربتين وشيئاً. وإذا كانت هذه الرواية معتبرة فقط لم يكن في متن اضطراب ، وحمل الخبث على الشرعي أولى لأن المسألة شرعية وتفسير عدم حمل الخبث بالتأثر تعسف لأنه صح في بعض الروايات ) إذا كان الماء قلتين لم ينجس ( ولأنه لا يبقى لذكر القلتين حينئذ فائدة لأن ما دون القلتين ايضاً بتلك المثابة ، وزيف بأنه بعد التصحيح يوجب تخصيص عموم الكتاب والسنة الظاهرة البعيدة عن الاحتمال بمثل هذا الخبر المجمل. حجة من حكم بنجاسة الماء الذي خالطه نجاسة كيف كانت قوله تعالى : ( ويحرم عليهم الخبائث ) [ الأعراف : 157 ] وقوله ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ) [ النحل : 115 ] وقال في الخمر ) رجس من عمل الشيطان ) [ المائدة : 90 ] حرم هذه الشياء مطلقاً ولم يفرق بين حال انفرادها وحال اختلاطها بالماء ، فوجب تحريم استعمال كل ماء تيقنا فيه جزءاً من النجاسة. وأيضاً الدلائل التي ذكرتموها مبيحة ودلائلنا حاظرة والحاظر غالب على المبيح بدليل أن الجارية المشتركة لا يحل لواحد منهما وطؤها وأيضاً قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة ( أطلق من غير فرق بين القليل والكثير. أجاب مالك أنه لا نزاع في تحريم استعمال النجاسات ، لكن الكلام في أنه متى ما لم يتغير فليس للنجاسة أثر لأنها انقلبت عن صفتها فكأنها معدومة والنهي عن البول في الماء لتنفر الطبع أو للتنزيه لا للتحريم. واعلم أ ، ه سبحانه بين في سورة الأنفال أن من غاية إنزال الماء من السماء تطهير المكلفين به حين قال : ( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) [ الأنفال : 11 ] ففي وصفه ههنا بكونه طهوراً إشارة إلى ذلك. ثم رتب على الإنزال غايتين أخريين. أولاهما تتعلق بالنبات ، والثانية بالحيوان الأعجم فالناطق. وفي هذا الترتيب تنبيه على أن الكائنات تبتدئ في الرجوع من الأخس إلى الأشرف ، وفيه أن الغرض من الكل هو نوع الإنسان مع أن حياة الأناسي بحياة أرضهم وأنعامهم. قال ) ميتاً ( مع قوله ) بلدة ( بالتأنيث لأن ) فيعلاً ( غير جارٍ على الفعل فكأنه اسم جامد وصف به ، أو بتأويل البلد والمكان. والأناسيّ جمع أنسي أو جمع إنسان على أن اصله أناسين فقلبت النون ياء. و ) فعيل ( قد يستوي فيه الواحد(5/245)
" صفحة رقم 246 "
والجمع فلهذا لم يقل وأناسي كثيرين ومثله ) وقروناً بين ذلك كثيراً (. اسئلة أوردها جار الله مع أجوبتها : الأول : أن إنزال الماء موصوفاً بالطهارة وتعليله بالإحياء ولاسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة الإحياء والسقي كما تقول : حملني الأمير على فرس جواد لأصيد به الوحش. الجواب لما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصفه بالطهور إكراماً لهم وتتميماً للمنة عليهم وغشارة إلى أن من حق استعمال الماء في الباطن والظاهر أن يكون طاهراً غير مخالط لشيء من القاذورات. قلت : قد قررنا فائدة هذا الوصف بوجه آخر آنفاً. السؤال الثاني : لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان المنتفع بالماء ؟ الجواب لأن الطير والوحش تبعد في طلب لاماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام ، ولأنها قنية الإنسان وعامة منافعه متعلقة بها فسقيها إنعام عليه. الثالث : ما معنى تنكير الأنعام والأناسي ووصفهم بالكثرة ؟ الجواب لأن بعض الأنعام والأناسي الذين هم بقرب الأودية والأنهار العظام لا يحتاجون إلى ماء السماء احتياجاً بيناً ، ولمثل هذا نكر البلدة في قوله ) بلدة ميتاً ( قوله سبحانه ) ولقد صرفناه ( الأكثرون على أن الضمير عائد إلى ما ذكر من الدلائل أي كررنا أحوال الإظلال وذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر في القرآن وفي سائر الكتب السماوية ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا ، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها. وقال آخرون : إنه يرجع إلى أقرب المذكورات وهو المطر أي صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتباينة من وابل وطل وغير ذلك فأبوا إلا كفوراً وأن يقولوا : مطرنا بنوء كذا استقلالاص. فإن جعلوا الأنواء كالوسائط والأمارات فلا بأس. والنوء سقوط نجم من المنازل الثمانية والعشرين للقمر في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه وهو نجم آخر في المشرق يقابله من ساعته في كل ليلة غلى ثلاثة عشر يوماً وهو أكثر ، أو إلى أربعة عشر وهو أقل. والعرب تضيف الأمطار والحر والبرد إلى الساقط منها أو غلى الطالع. فإذا مضت مدة النوء ولم يحدث شيء من مطر وغيره يقال : خوى نجم كذا أي سقط ولم يكن عنده اثر علوي ؟ عن ابن عباس : ما من عام أقل مطراً من عام ولكن الله عز وجل قسم ذلك بين عباده على ما يشاء وتلا هذه الآية. ويؤيد هذا التفسير تنكير البلدة والأنعام والأناسي. قال الجبائي : في قوله ) ليذكروا ( دليل على أنه تعالى أراد من الكل التذكر والإيمان. وفي قوله ) فأبى أكثر الناس ( دلالة على أن المكلف له قدرة على الفعل والترك إذ لا يقال للزمن مثلاً إنه أن يسعة. وقال الكعبي : الضمير في ) بينهم ( لكل الناس فيكون الأكثر داخلا في ذلك العام إذ لا يجوز أ ، يقال : أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلا كفوراً. وعند هذا يظهر أنه أراد من جميع المكلفين أن يؤمنوا ويعتبروا ومعارضة الأشاعرة معلومة .(5/246)
" صفحة رقم 247 "
التأويل : ( ويوم تشقق السماء ( سماء القلب من غمام البشرية وهو يوم سعادة الطالبين الصادقين ، ونزل ملائكة الصفات الروحانية ) الملك ( الحقيقي ) يومئذ ( ) للرحمن ( إذ لم يبق غيره ورجع إليه وذلك مقام الوحدة والفناء في الله والبقاء به : ( وكان يوماً على الكافرين عسيراً ( إذ لم يبق من صفات النفوس الكافرة وحظوظهات أثر ولا عين : ( ويوم يعض الظالم ( نفسه وهو المشرك شركاً ظاهراً أو خفياً ) على يديه ( والآية حكمها عام في كل متحابين اجتمعا على معصية الله تعالى. وعن مالك بن دينار : إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل كل الخبيص مع الفجار. ) لنثبت به فؤادك ( بأن نخلق قلبك بقلب القرآن وكان بذر التوحيد أوقع في قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في سر ) ألم نشرح لك صدرك ) [ الشرح : 1 ] وكان يتربى بما أنزل عليه بل على قلبه منجماً ، فلما أورق كان ورقه ) الرحمن علم القرآن ) [ الرحمن : 1 ] فلما أزهر كان زهره ) فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 10 ] فلما أثمر كانت ثمرته ) فاعلم أنه لا إله إلا الله ) [ محمد : 19 ] ( يحشرون على وجوههم ( لأن توجههم إلى أسفل سافلي الطبيعة فيحشرون منكوسين إلى جهنم البعد عن الحضرة ) الم تر إلى ربك ( فيه أن نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) رآه وقد قال لموسى ) لن تراني ) [ الأعراف : 143 ] وذلك البقاء أنانيته ) كيف مدّ الظل ( عالم الأجسام ) ولو شاء لجعله ساكناً ( في كتم العدم ) ثم جعلنا ( شمس عالم الأرواح على وجود ذلك الظل دليلاً بأن كانت محركة لها غلى غاياتها المخلوقة هي لجلها ، فعرف من ذلك أنه لولا الأرواح لم تخلق الأجساد ولم تتكون بالأجسام. وفي قوله : ( ثم قبضناه إلينا ( إشارة إلى أن كل مركب فإنه سيحل إلى بسائطه إذا حصل على كماله الأخير. وبوجه آخر الظل ما سوى نور الأنوار يستدل به على صانعه الذي هو شمس عالم الوجود وهذا شأن الذاهبين من غيره إليه. ، وفي قوله ثم جعلنار إشارة إلى مرتبة أعلى من ذلك وهي الاستدلال به على غيره كقوله : ( أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) [ فصلت : 53 ] وهذه مرتبة الصديقين. وقوله ( ثم قبضناه ( كقوله ) كل شيء هالك ) [ القصص : 88 ] ( ألا إلى الله تصير الأمور ( وبوجه آخر الظل هو حجاب الذهول والغفلة والشمس شمس التجلي المعروفة من افق العناية عند صباح الهداية : ( ولو شاء لجعله ( دائماً لا يزول وإنما يستدل على الذهول بالعرفان. وفي قوله : ( ثم قبضناه ( إشارة إلى أن الكشف التام يحصل بالتدريج عند انقضاء مدة التكليف. ثم بين حكمة الإظلال بقوله : ( وهو الذي جعل لكم ( ليلة البشرية ) لباساً ( كيلا تحترقوا بدوام شمس تجلي الربوبية ، وجعل ليوم الغفلة راحة بعد سطوة التجلي ، وجعل نهار العرفان نشوراً أي حياة بنور الربوبية ) وهو الذي أرسل ( رياح الإشراق على قلوب الأحباب فتزعجها من المساكنات عند الستر فلا تستقر إلا بالكشف والتجلي ) وأنزلنا ( من سماء(5/247)
" صفحة رقم 248 "
الكرم ) ماء ( حياة العرفان الذي يطهر قلوب المشتاقين عن الجنوح إلى المساكنات وما يتداخلها في بعض الأوقات من الغفلات ) لنحيي به بلدة ( القلوب اليمتة عن نور الله بنور الله ) ونسقيه ( من جملة مخلوقاتنا من هو على طبع الأنعام لغلبة الصفات الحيوانية عليه فيسقي زرع غيمانه بماء الرحمة والذكر كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا إله إلا الله تنبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقلة ( ونسقيه من الأنس من سكن إلى رياض الأنس يفطمه به عن مراضع الإنسانية إلى المشارب الروحانية ، ويطهره عن وصمة الملاحظات ويذيقه طع المكاشفات. ) ولقد صرفنا ( الذي هو ماء حياة القلوب بينهم ) ليذكروا ( به أيام جوار الحق وأوطانهم الحقيقية ) فأبى أكثر ( الناسين تلك المعاهدة والمشاهدة ) إلا كفوراً ( بنعمة القرآن وما عرفوا قدرها والله المستعان وإليه المآب. ( الفرقان : ( 51 - 77 ) ولو شئنا لبعثنا . . . .
" ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما والذين إذا ذكروا(5/248)
" صفحة رقم 249 "
بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما "
( القراآت )
ملح ( بفتح الميم وكسر اللام كحذر أو لأنه مقصور مالح وكذلك في ( فاطر ) : قتيبة ) يأمرنا ( على الغيبة : حمزة وعلي ) سرجاً ( بضمتين : حمزة وعلي وخلف. ) أن يذكر ( من الذكر : حمزة وخلف. ) يقتروا ( بضم التاء : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى المفضل ، وبضم الياء وكسر التاء من الإقتارك أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل. الباقون بفتح الياء وكسر التاء. ) يضاعف ( ) ويخلد ( بالرفع فيهما من المضاعفة ومن الخلود : أبو بكر وحماد مثله ، ولكن يخلد مجهولاً من الإخلاد : المفضل ) يضعف ( بالتشديد والرفع ) ويخلد ( بالرفع من الخلود : ابن عامر مثله ولكن بالجزم فيهما : ابن كثير ويعقوب وزيد. الآخرون كالأول ولكن بالجزم فيهما. ) فيهي ( بإشباع الكسرة : ابن كثير وحفص : ( يبدل ( من الإبدال : البرجمي ) وذريتنا ( على التوحيد : أبو عمرو وعلي وخلف وعاصم والمفضل : ( ويلقون ( بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف من اللقاء : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من باب التفعيل. الوقوف : ( نذيراً ( 5 والوصل أولى للفاء ) كبيراً ( 5 أجاجر ج لعطف الجملتين المتفقتين مع العارض محجوراًر 5 ) وصهراً ( 5 ) قديراً ( 5 ) ولا يضرهم ( ط ) ظهيراً ( 5 ) نذيراً ( 5 ) سبيلاً ( 5 ) بحمده ( ط ) خبيراً ( 5 ج لأن الذي يصلح صفة للحي والوقف على العرش على تقدير هو الرحمن إذ لا وقف عليه ايضاً بناء على أن ) الرحمن ( بدل من المستترفي ) استوى ( ويصلح أن يكون ) الذي ( مبتدأ ) والرحمن ( خبره ) خبيراً ( 5 ) وما الرحمن ( 5 قد قيل : ولا وجه له لأن الكل مقول قالوا ) نفوراً ( 5 سجدة ) منيراً ( 5 ) شكوراً ( 5 ) سلاماً ( 5 وقياماًر 5 ) جهنم ( ق قد قيل : والوصل أولى لاتحاد القائل ) غراماً ( 5 كذلك ) ومقاماً ( 5 ) قواماً ( 5 ) ولا يزنون ( ج للشرط مع واو العطف أثاماًر 5 لمن قرأ ) يضاعف ( بالرفع على الاستئناف دون الجزم على إبدال الجملة من الجملة لتقارب معنييهما ) مهاناً ( 5 لا وقد يوقف على جعل إلا بمعنى ( لكن )(5/249)
" صفحة رقم 250 "
والوصل أولى لأن ( لطن ) تقتضي الوصل أيضاً ) حسنات ( ط ) رحيماً ( 5 ) متاباً ( 5 ) الزور ( 5 لا ) كراماً ( 5 ) عمياناً ( 5 ) إماماً ( 5 سلاماًر 5 لا لاتصال الحال ) فيها ( ط ) ومقاماً ( 5 ) دعاؤكم ( ج لاختلاف الجملتين ) لزاماً ( 5. التفسير : إنه سبحانه لما قرر سيرة القوم من كفران النعمة وإيذاء النبي أراد تهييج نبيه على استمرار الدعوة. وفي الآية لطف ممزوج بنوع تأديب وإرشاد وفحواه ولو شئنا لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى ، وبعثنا في كل قرية نبياً ، ولكن خصصناك برسالة الثقلين إجلالاً وتعظيماً ، فقابل هذا التفضل بالتشدد بالدين ففي أول الآية بيان كمال الاقتدار وأنه لا حاجة به إلى نبي محمداً كان أو غيره ، ولكن في مفهوم ( لو ) دلالة على أنه لم يفعل ذلك بل خصه بهذا المنصب الشريف لكمال العناية به وبأمته ، فعليه أن يترك طاعة الكافرين فيما يريدونه عليه مما يوافق أهواءهم. النهي كقولك للمتحرك ( لا تسكن ) لا كقولك للساكن ( لا تسكن ) فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يترك طاعة الله طرفة عين. ثم بالغ في النهي بأن أمره بضدّه قائلاً ) وجاهدهم به ( أي بالقرآن أو بترك طاعتهم أو بسبب كونك نذير القرى كلها لأنه لو بعث في كل قرية نذيراً لم يكن على كل نذير إلا مجاهدة قريته. وحين اقتصر على نذير واحد لكل القرى وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلا جرم اجتمع عليه تلك المجاهدات كلها فكبر جهاده وعظم وصار جامعاً لكل مجهدة ، ثم ذكر دليلاً رابعاً على التوحيد فقال ) وهو الذي مرج البحرين ( اي خلاهما وارسلهما متجاورين متلاصقين. يقال : مرجت الدابة أي خليتها لترعى. وسمى الماءين الكثيرين بحرين. والفرات البليغ العذوبة ، والتركيب يدل على كسره العطش بخلاف الأجاج وهو الملح فإنه يدل على الشدة والتوهج. وقوله ( هذا ( إشارة إلى ما ارتسم في الذهن بعد ذكر البحرين ولابرزخ الحائل الذي جعل الله بينهما من قدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج ) وحجراً محجوراً ( كلمة يقولها المتعوذ كما قلنا في السورة كأن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه ويقول له هذا القول ، ونظيره في سورة الرحمن ) بينهما برزخ لا يبغيان ) [ الرحمن : 20 ] فانتفاء البغي ثمة كالتعوّذ ههنا وكل منهما مجاز في غاية الحسن. سؤال : لا وجود للبحر العذب فكيف ذكره الله تعالى ؟ والجواب من وجهين : أحدهما أن في البحار مواضع فيها مياه عذبة يعرفها الملاحون يحمل منها الماء إلى حين الوصول غلى الموضع الآخر. وثانيهما لعل المراد من البحر العذب الأودية العظام كالنيل والفرات وجيحون ، ومن البحر الأجاج البحار المشهورة ، والبرزخ بينهما الحائل من الرض ووجه الاستدلال على هذا الوجه أن يقال : العذوبة والملوحة إن كانتا بسبب طبيعة(5/250)
" صفحة رقم 251 "
الأرض أو الماء فلا بد من الاستواء وغلا فلا بد من قادر مختار يخص كل واحد من الماءين بصفة مخصوصة. الاستدلال الخامس : من أحوال خلقة الإنسان والماء إما العنصر كقوله : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ( أو النطفة. ومعنى فجعله نسباً وصهراًر أنه قسم البشر قسمين ذوي نسب وذوات صهر ، والأول الذكور ينسب إليهم فيقال : فلان وفلانة بنت فلان ومنه أخذ الشاعر : بنونا بنو أبنائنا وبناتنا
بنوهن أبناء الرجال الأباعد
والثاني الإناث التي يصاهر بهن ونحوه قوله عز من قائل ) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ) [ القيامة : 39 ] والأصهار أهل بيت المرأة عن الخليل. قال : ومن العرب من يجعل الصهر من الأحماء والأختان. يقال : صاهرت إليهم إذا تزوّجت فيهم. ) وكان ربك قديراً ( حين خلق من ماء واحد صنفين مختلفين بل أشخاصً متباينة لا تكاد تنحصر. ثم عاد إلى تهجين سيرة عبدة الأوثان فقال ) ويبعدون ( الاية. يروى أنها نزلت في أبي جهل المراد بالكافر والأولى حمله على العموم. والظهير المظاهر أي المعاون أي هذا الجنس يظاهر الشيطان على ربه بالشرك والعداوة. والمظاهرات على الرب هي المظاهرة على رسوله أو على دينه ، ويجوز أن يكون الظهير جمعاص كقوله : ( والملائكة بعد ذلك ظهير ) [ التحريم : 4 ] والمعنى أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله جل وعلا. وقال أبو مسلم : هو من قولهم ( ظهر فلان بحاجتي ). إذا نبذها وراء ظهره. والمراد أن الكافر وكفره هين على ربه غير ملتفت إليه. قوله : ( وما ارسلناك ( غلى قوله ) سبيلاً ( وجه تعلقه بما قبله أن الكفار يطلبون العون على الله وعلى رسوله ولا أجهل ممن استفرغ جهده في إيذاء من يبذل وسعه في غصلاح مهماته ديناً ودنيا حتى يبشرهم على الطاعة وينذرهم على المعصية ولا يسألهم على ذلك أجراً غلا أن يشاؤوا التقرب بالإنفاق في الجهاد وغيره فيتخذوا به سبيلاً إلى رحمة ربهم ونيل ثوابه. ومعنى الاستثناء عن الأجر والتقدير إلا فعل من شاء هو معنى قولك لمن سعيت له في تحصيل مال ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه ، فيكون في تسمية حفظ المال ثواباً. فائدتان : إحداهما قلع شبهة الطمع في شيء من الثواب ، والثانية إظهار الشفقة وأنه إن حفظ ماله رضي الساعي به كما يرضى المثاب بالثواب هذا ما قاله جار الله. وقال القاضي : معناه لا أسألكم أجراً لنفسي واسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم بالإيمان والطاعة. ولما بين أن الكفار متظاهرون على إيذائه وأمره أن لا يطلب منهم ألبتة أمره بأن يتوكل عليه في دفع(5/251)
" صفحة رقم 252 "
المضارّ وجلب المنافع ويتمسك بقاعدة التنزيه والتحميد. وفي وصفه ذاته بالحي الذي لا يموت إشارة إلى أن الذي يوثق به في المصالح يجب أن يكون موصوفاً بهذه الصفة وليس إلا الله وحده. وعن بعض السلف أنه قرأها فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق وإلا صار ضائعاً إذا مات ذلك المخلوق. ثم ختم الآية بما لا مزيد عليه في الوعيد أي لا يحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مجازاتهم. ومعنى كفى به أي حسبك وهذه كلمة يراد بها المبالغة كقولك ( كفى بالعلم جمالاً وكفى بالأدب مالاً ). ثم زاد لعلمه وقدرته مبالغة وبياناً فقال : ( الذي خلق ( الخ. وقد سبق تفسيره في ( الأعراف ) وأما قوله ) فاسأل به خبيراً ( ففيه وجوه. قال الكلبي : الضمير في ) به ( يعود إلى ما ذكر من خلق السماء والأرض والاستواء على العرش. والباء من صلة الخبير قدمت لرعاية الفاصلة وذلك الخبير هو الله عز وجل لأن كيفية ذلك الخلق والاستواء لا يعلمها إلا الله سبحانه. وعن ابن عباس أن ذلك الخبير هو جبرائيل. وقال الأخفش والزجاج : الباء بمعنى ( عن ) فسأل به مثل ( اهتم به ) واشتغل به وسأل عنه كقولك ( بحث عنه وفتش عنه ). قال تعالى ) سأل سائلٍ بعذاب واقع ) [ المعارج : 1 ]. وقال ابن جرير : الباء زائدة والمعنى فاسأله حال كونه عالماً بكل شيء. وجوز جار الله أن تكون الباء تجريدية كقولك ( رأيت به اسداً ) أي برؤيته. والمراد فاسال بسؤاله خبيراً أي إن سألته وجدته عالماً به. وقيل : الباء للقسم ولعل الوجه الأول أقرب إلى المراد نظيره ) ولا ينبئك مثل خبير ) [ فاطر : 14 ]. ثم أخبر عن قوم أنهم ) قالوا وما الرحمن ( والواو عاطفة وقعت في كلام فحكى كما هو فاحتمل أ ، هم جهلوا الله سبحانه ، واحتمل أنهم عرفوه لكن جحدوه ، واحتمل أ ، هم عرفوه بغير هذا الاسم فلهذا سألوا عنه ، ومن هنا ذهب بعضهم إلى تفسير آخر لقوله ) فاسأل به خبيراً ( وهو أن الرحمن اسم من أسماء الله تعالى مذكور في الكتب المتقدمة ولم يكونوا يعرفونه فقيل : فاسال بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتناب حتى يعرف من ينكره وكانوا يقولون : ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة يعنون مسيلمة. قال القاضي : والأقرب أن المراد إنكارهم لله لا للاسم لأن هذه اللفظة عربية وهم يعلمون أنها تفيد المبالغة في ( الأنعام ). ثم إن قلنا : إنهم كانوا منكرين لله فاسؤال عن الحقيقة كقول فرعون ) وما رب العالمين ) [ الشعراء : 23 ] وإن قلنا : إنهم كانوا مقرين لكنهم جهلوا أ ، ه تعالى سمي بهذا الاسم فالسؤال عن الاسم. ومعنى ) لما تأمرنا ( للذي تأمرناه بمعنى تأمرنا بسجوده مثل ( أمرتك الخبير ) فاتسع أولاً ثم حذف ثانياً. ويجوز أن تكون ( ما ) مصدرية أي لأمرك لنا ومن قرأ على الغيبة فالضمير لمحمد أو للمسمى بالرحمن كأنهم قالوا هذا القول فيما بينهم .(5/252)
" صفحة رقم 253 "
والضمير في ) زادهم ( للمقول وهو اسجدوا للرحمن أي وزادهم أمره ) نفورا ( ومن حقه أن يكون باعثاً على الفعل والقبول. قال الضحاك : لما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئينن فمعنى الآية وزادهم سجودهم نفوراً. ومن السنة أن يقول الساجد والقارئ غذا بلغ هذا الموضع زادنا الله خضوعاً وما زاد للأعداء نفوراً. ثم ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود للرحمن فقال ) تبارك ( الخ. فالبروج هي الأقسام الاثنا عشر للفلك وأساميها مشهورة : الحمل والثور والجوزاء الخ. شبهت بالقصور العالية. واشتقاق البروج لظهوره والسراج الشمس. ومن جمع أراد الشمس والكواكب الكبار والخلفة للهيئة من الخلافة يريد الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر أي جعلهما ذوي خلفة يعقب هذا ذاك وذاك هذا ومثله قوله ) واختلاف الليل والنهار ) [ البقرة : 164 ] في أحد تفاسيره. وعن ابن عباس جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه فيما يحتاج أن يعمل ، فمن فاته شيء من وظائف العبادة في أحدهما قضاه في الآخر. وعن مجاهد وقتادة والكسائي يقال لكل مختلفين ( هما خلفتان ) فالمعنى أن أحدهما أسود والآخر أبيض أو هذا طويل وهذا قصير. ثم بين أن هذه النعمة سبب للتذكر لمن اراد ذلك أو للشكر لمن اراده. أما التذكر فلدلالة الانتقال والتغير على الناقل والمغير ، وأما الشكر فلأن الليل سبب الراحة والسكون والنهار سبب لسهولة التصرف في المعايش. قال بعضهم : معنى ( أو ) الفاصلة أنه إن كان كافرا تذكر وإن كان مؤمناً شكر. وقيل : أراد ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين من فاته في أحدهما ورده من العبادة قام به في الآخر. والشكور مصدر كالكفور. ثم أراد أن يختم السورة بوصف عباده المخلصين فقال ) وعباد الرحمن ( وهو مبتدأ خبره في آخر السورة ) أولئك جزون الغرفة ( أو خبره ) الذين يمشون ( والإضافة إلى الرحمن للتخصيص والشتريف. وقرئ ) وعبّاد ( جمع عابد وصف سيرتهم مع الخلق بالنهار أوّلاً ، ثم وصف معاملتهم مع الحق بالليل ثانياً ، ثم قسم الوصف الأول إلى نوعين : أحدهما ترك الإيذاء وهو المراد بقوله ) الذين يمشون على الأرض هوناً ( مصدر وضع للمبالغة موضع الحال أو الصفة للمي بمعنى هينين أو مشياً هيناً والمعنى أنهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم اشراً وبطراً ، ولذلك كره بعضهم الركوب في الأسواق والمشي في الأسواق دون الركوب سيرة المرسلين قال عز من قائل ) وما ارسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) [ الفرقان : 20 ] وثانيهما تحمل الإيذاء وإليه الإشارة بقوله ) وإذا خاطبهم الجاهلون ( يعني السفهاء وقليلي الأدب ) قالوا سلاماً ( يعني سلام توديع ومتاركة كسلام إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال لأبيه ) سلام عليك ) [ مريم : 47 ] ولا نسخ في الآية على ما زعم الكلبي وأبو العالية من أنها نسخت بآية القتال ، فإن الإغضاء عن السفهاء وترك(5/253)
" صفحة رقم 254 "
مقابلتهم بسوء الأدب مستحسن عقلاً وشرعاً ، والبيتوتة هي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم ، وصفهم بإحياء الليل أو أكثره. وقوله ( لربهم ( إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده أي يبيتون لله على أقدامهم ويفرشون خدودهم ويعفرون جباههم. وقيل : من قرأ شيئاً من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجداً وقائماً. وقيل : هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء قاله ابن عباس. ثم وصفهم بأنهم يقولون في سجودهم وقيامهم ) ربنا اصرف عنا ( الآية. وقال الحسن : خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل خوفاً من عذاب جهنم. وقوله : ( غراماً ( أي هلاكاً وخسراناً ملحاً لازماً ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه ، وفلان مغرم بالنساء إذا كان مولعاً بهن. وسأل ابن عباس نافع بن الأزرق عن الغرام فقال : هو الموجع. وعن محمد بن كعب في ) غراماً ( إنه سأل الكفار عن نعمة فما أدّوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النار. ) وساءت ( إما بمعنى يفسره ) مستقراً ( والمخصوص بالذم وهو الرابط ايضاً محذوف اي ساءت مستقراً ومقاماً هي. والظاهر أن الجملتين منقول الداعين. وجوز جار الله أن يكون من كلام الله ، والتعليلات يصح أن يكونا متداخلين بأن يكون قوله ) إنها ساءت ( تعليلاً لقوله ) أن عذابها كان غراماً ( وأن يكونا مترادفين كل منهما تعليل لقوله : ( ربنا اصرف ( قال المتكلمون : التعليل الأول إشارة إلى أن عقاب أهل النار مضرة خالصة ، والتعليل الثاني إشارة إلى كونها دائمة وقد يفرق بين المستقر والمقام بأن المستقر في الإنفاق والقتر. والإقتار التضييق نقيض الإسراف ، وكان أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثياباً للجمال والزينة ، ولكن ما يسد جوعتهم ويستر عورتهم ويكنهم من الحر والقر. عن عمر : كفى شرهاً أن لا يشتهي رجل شيئاً إلا اشتراه فأكله. ثم بالغ في نسبة إنفاقهم إلى الاعتدال بقوله ) وكان ( اي الإنفاق ) بين ذلك قواماً ( والمنصوبان يجوز أن يكونا خبرين وأن يكون الظرف خبراً و ) قواماً ( حالاً مؤكدة. وقال في الشاف : يجوز أن يجعل بين ذلك لغواً وقواماً مستقراً. ولعل معناه أنه يقوم مقام لفظ السمتقر إذا كان متعلقاً به في قولك الإنفاق بين ذلك. وقد ذكر مثله في أول ( الشعراء ) في قوله ) إنا معكم مستمعون ) [ الشعراء : 15 ] والقوام العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء. وقرئ بكسر القاف وهو ما يقام به الحاجة لا يفضل ولا ينقص. وأجاز الفراء أن يكون ) بين ذلك ( اسم ) كان ( على أنه مبني لإضافته إلى غير متمكن كما يقال : كان(5/254)
" صفحة رقم 255 "
دون هذا كافياً يريد اقل من ذلك ، فيكون المعنى وكان الوسط بين ذلك قواماً. وضعفه في الكشاف بأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة. واقول : إذا اريد بالقوام حاق الوسط وبقوله ) بين ذلك ( أعلم منه لم يلزم التكرار. وعن ابن مسعود قلت : يا رسول الله اي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل الله نداً وهو خلقك. قلت : ثم اي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشيه أن يأكل معك. قلت : ثم أي ؟ قالك أن تزاني حليلة جارك. فأنزل الله عز وجل تصديقه ) والذين لا يدعون ( إلى قوله ) ولا يزنون ( قال جار الله : نفى هذه الأمور الشنيعة عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين تعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم كأنه قيل : والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه. وقيل : إن الموصوف بالصفات المذكورة قد يرتكب هذه الأمور تديناً فبين الله تعالى أن المكلف لا يصير بتلك الخلال وحدها من عباد الرحمن حتى ينضاف إلى ذلك كونه مجانباً لهذه الكبائر ، والقتل بغير حق يشمل الوأد وغيره كما مر في سبب النزول ) ومن يفعل ذلك ( أي المذكور فترك المأمورات أو ارتكب المنهيات. والأثام جزاء الإثم بوزن الوبال والنكال ومعناهما. وقيل : هو الإثم والمضاف محذوف أي يلق جزاء الإثم ، وقرأ ابن مسعود ) اياماً ( بتشديد الياء التحتانية يعني ايام الشدة. ومعنى مضاعفة العذاب لمن ارتكب مخالفة المذكورات أن يعذب على الشرك وعلى المعاصي الأخر جميعاً. هذا عند من يرى تعذيب الكفار بفروع الشرائع ، والمخالف يدعي أن الشمار إليه بقوله ) ذلك ( هو قوله ) والذين لا يدعون ( قال القاضي : قوله ويخلد فيهر أي في ذلك التضعيف أو المضعف ففيه دليل على أن حال الزيادة كحال الأصل في الدوام فيكون عقاب المعصية دائماً ، وإذا كان كذلك في حق الكافر لزم أن يكون كذلك في حق المؤمن. وأجيب بأن الشيئين قد يكون كل واحد منهما قبيحاً ويكون الجمع بينهما أقبح فلا يلزم أن يكون للانفراد حكم الاجتماع. وفي قوله ) ويخلد فيه مهاناً ( إشارة إلى أن العقاب هو المضرة الخالصة الدائمة المقرونة بالإذلال والإهانة كما أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال والتعظيم. وقوله ( إلا من تاب ( لا يفهم منه إلا أن التائب لا يضاعف له العذاب ولا يلزم منه أن يكون مثاباً فلذلك قال : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ( عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة أن هذا التبديل إنما يكون في الدنيا فيبدلهم بالشرك إيماناً ، وبقتل المسلمين قتل المشركين ، وبالزنا عفة وإحصاناً ، يبشرهم الله تعالى بأنه يوقفهم لهذه الأعمال الصالحة إذا تابوا وآمنوا وعملوا سائر الأعمال الصالحة ، وإنما أفرد التوبة والإيمان بالذكر أوّلاً لعلو شأنهما. وقال الزجاج. السيئة بعينها لا تصير حسنة ولكن السيئة تمحى(5/255)
" صفحة رقم 256 "
بالتوبة ، وتكتب الحسنة مع التوبة ، والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السيئات. وذهب سعيد بن المسيب ومكحول إلى ظاهر الآية وهو أنه تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة ، وأكدوا هذا الظاهر بما روي عن أبي هريرة مرفوعاً ( ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات ). وقال القاضي والقفال : إنه تعالى يبدل بالعقاب الثواب فذكر السبب وأراد المسبب. ثم عمم الحكم فذكر أن جميع الذنوب بمنزلة الخصال المذكورة أي ومن يترك المعاصي كلها ويندم عليها وأتى بالعمل الصالح فإنه بذلك تائب غلى الله عز وجل متاباً مرضياً مكفراً للخطايا. ويجوز أن ترجع الفائدة إلى تخصيص اسم الله أي فإنه تائب متاباً إلى الله الذي هو المفيض لكل الخيرات يعرف حق التائبين ويفعل بهم ما يليق بكرمه ، ويحتمل أن ترجع الفائدة إلى تنكير متاباً. والمتاب المرجع أي يرجع إلى الله مرجعاً حسناً اي مرجع ، وقيل : هو وعد للتائبين المخلصين فيما مضى بأنه سيوفقهم للتوبة في المستقبل. ثم وصفهم بأنهم لا يشهدون الزور. فإن كان من الشهادة فالمضاف محذوف أي لا يشهدون شهادة الزور ، وإن كان من الشهود الحضور فللمفسرين أقوال : فعن قتادة : هي مجالس الباطل. وعن أب يحنيفة : اللهو والغناء. وعن مجاهد : أعياد المشركين. وعن ابن عباس : هي المجالس التي يقال فيها الزور والكذب على الله تعالى وعلى رسوله. والتحقيق أنه يدخل فيه حضور كل موضع يجري فيه ما لا ينبغي كمحاضر الكذابين ومجالس الخطائين وكالنظارة إلى ما لم تسوغه الشريعة ، لأن الحضور والنظر إلى تلك المجالس دليل الإهانة وبعث لفاعله عليه لا زجر له عنه. وفي مواعظ عيسى بن مريم ( إياكم ومجالسة الخطائين ) ) وإذا مروا باللغو ( وهو كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح ) مرّوا كراماً ( مكرمين أنفسهم عن الخوض فيه مع المشتغلين به. وأصل الكلمة من قولهم ( ناقة كريمة ) إذ كاننت لا تبالي بما يحلب منها للغزارة ، فاستعير للصفح عن الذنب. ويقال : تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عن ذلك. وقيل : إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا. وقيل : إذا ذكروا النكاح كفوا عنه. قال جار الله : قوله ) لم يخروا عليها ( ليس نفياً للخرور ولكنه إثبات له ونفي للصمم والعمى كما تقول : لا يلقاني زيد مسلماً هو نفي للسلام لا للقاء. والمراد أنهم إذا ذكروا بآيات الله أي وعظوا بها ونبهوا حرصوا على استماعها بآذان واعية وعيون باكية لا كالمنافقين الذين يظهرون الحرص الشديد على استماعها وهم كالصم والعميان لا يعونها ولا يبصرون ما فيها فهم متساقطون عليها غير منتفعين بها. قوله ) من أزواجنا ( ( من ) للبيان وتسمى في علم البيان تجريدية كأنه قيلك هب لنا قرة أعينن ثم فسرت القرة بالأزواج والذرية كقولهم ( رأيت منك(5/256)
" صفحة رقم 257 "
أسداً ) أي أنت أسد. ويجوز أن تكون ابتدائية على معنى هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا لا في الأمور الدنيوية من الجاه والمال والجمال بل في الأمور الأخروية من الطاعة والصلاح. عن محمد بن كعب : ليس شيء أقر لعين المؤمن من ان يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس : هو الولد إذا رآه يكتب الفقه. وقيل : سألوا أن يلحق الله عز وجل بهم أولادهم وأزواجهم في الجنة ليتم لهم سرورهم. وتنكير أعين إما لأنه أراد أعيناً مخصوصة هي أعين المتقين ولهذا اختير جمع القلة لأن أعين المتقين قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم ) وقليل من عبادي الشكور ) [ سبأ : 13 ] وإما لأجل تنكير القرة فإن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه أي هب لنا منهم سروراً وفرحاً. قال الزجاج : يقال أقر الله عينك اي صادف فؤادك ما يحبه. وقال المفضل : في قرة العين ثلاثة أقوال أحدها : برد دمعها لأنه دليل السرور والضحك كما أن حره دليل الحزن والغم. والثاني قرتها أن تكون مع فراغ الخاطر وذهاب الحزن. والثالث حصول الرضا. وقوله ( إماماً ( في معنى الجمع اكتفى به لدلالته على الجنس ولعدم اللبس كما قال : ( يخرجكم طفلاً ) [ غافر : 67 ] أو أريد كل واحد منا أو اجعلنا إماماً واحداً لاتحاد كلمتنا ، أو هو جمع آمّ كصائم وصيام وصاحب وصحاب. وقيل : في الاية دلالة على أن الرياسة يجب أن تطلب ويرغب فيها والأقرب أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار غليهم ويقتدي بهم. ومن هنا فسره القفال بأن المراد اجعلنا حجة للمتقين. قالت الأشاعرة : الإمامة في الدين لا تكون إلا بالعلم والعمل فدل ذلك على أن العلم والعمل بل جميع افعال الخير إلى أن يصيروا أئمة. وأجيب بأن تلك الألطاف مفعولة لا محالة فيكون سؤالها عبثاً. ثم بين جزاء عبادة العباد بقوله ) أولئك يجزون الغرفة ( أي الغرفات وهي العلاليّ في الجنة فوحد اكتفاء بالجنس. وقيل : الغرفة اسم للجنة. وقوله ( بما صبروا ( أي بصبرهم على الطاعات وعنالشهوات أو على اذى الكفار وضر الفقر وغير ذلك ولهذا أطلق إطلاقاً ليشمل كل مصبور عليه. ثم بين بقوله ) ويلقون ( أن تلك المنافع مقرونة بالتعظيم والتحية والدعاء بالتعمير ، والسلام دعاء بالسلامة من الآفات وهما من الملائكة أو من الله أو من بعضهم لبعض. ثم ذكر أنه غني عن طاعة الكل وأنه إنما كلفهم لينتفعوا بذلك. قال الخليل : ما أعبأ بفلان اي ما أصنع به كأنه يستقله ويستحقره ويدعي أن وجوده وعدمه سواء. وقال الزجاج : ( ما يعبأ بكم ربي ( يريد ايّ وزن يكون لكم عنده ؟ والعبء الثقل ، و ( ما ) استفهامية أو نافية ، والدعاء إما مضاف إلى المفعول أي لولا دعاؤه إياكم إلى الدين والطاعة ، وإما إلى(5/257)
" صفحة رقم 258 "
الفاعل أي لولا إيمانكم أو لولا عبادتكم أو لولا دعاؤكم إياه في الشدائد كقوله ) فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله ) [ العنكبوت : 65 ] أو لولا شكركم له على إحسانه كقوله ) ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم ) [ النساء : 147 ] أو ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة ، أو ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم أو تستغفروني فأغفر لكم. قوله : ( فقد كذبتم ( أي أعلمتكم أني لا أعتد بعبادي غلا لعبادتهم فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي. ) فسوف يكون لزاماً ( وهو عقاب الآخرة نظيره قول الملك لمن استعصى عليه : إن من عادتي أن أحسن غلى من يطيعني فقد عصيت فسوف ترى عقوبتي. والخطاب لجنس الإنس وإذا وجد في جنسهم التكذيب فقد صح الخطاب ، والأوجه أن يترك اسم ( كان ) غير منطوق به ليذهب الوهم كل مذهب من أنواع الإبعاد. وقيل : يكون العقاب لزاماً. وعن مجاهد : هو القتل يوم بدر وقد لوزم إذ ذاك بين القتلى لزاماً والله تعالى أعلم. التأويل : ( ولو شئنا لبعثنا ( فيه كمال القدرة وإن أمر النبوة ليس يتعلق بالقربات والمزاجات بل بمحض المشيئة الأزلية. ويروى أن موسى عليه السلام سئم الرسالة وتبرك في بعض الأيام فأوحى الله تعالى : في ليلة واحدة إلى ألف من بني إسرائيل فاصبحوا أنبياء ، فضاق قلب موسى وغار وقال : يا رب إني لا أطيق ذلك. فقبض الله ارواحهم في ذلك اليوم. وفيه كمال الحكمة فإن العزة في القلة ومنه تظهر فائدة الخاتمة وعموم رسالته ، وفيه تأديب الخواص وعصمتهم عن رؤية الأعمال. فلا تطع كفار النفس وسائر القوى البدنية ) وجاهدهم ( بهذا الخلاق ) جهاداً كبيراً ( لا تواسيهم بالرخص ولكن يحملهم على العزائم ) وهو الذي مرج ( بحر الروح وبحر النفس ) هذا عذب فرات ( من الأخلاق الحميدة الربانية ) وهذا ملح أجاج ( من الصفات الذميمة لدفع المضرات الدنيوية والأخروية في مقامها. وحرام على الروح أن تكون منشأ الأخلاق الذميمة ، وعلى النفس أن تكون معدن الأخلاق الحميدة ) فجعله نسباً وصهراً ( أهل النسب هم الذين صحت نسبتهم إلى عالم الأمر وهو قوله ) ونفخت فيه من روحي ) [ ص : 72 ] وأهل الصهرهم الذين بقوا في عالم الخلق واختلطوا بالصفات البشرية من الحرص والشهوة والغضب ، وأشار إلى هذا الصنف بقوله : ( ويعبدون من دون الله ) [ يونس : 18 ] الآية وكان كافر النفس على ربه ظهيراً في إظهار صفة قهره لأنه مظهرها ) وما أرسلناك إلا مبشراً ( لأهل النسب ) ونذيراً ( لأهل الصهر إلا من شاء إلا أجر من شاء أن يتوسل إلى الرب بطاعته إياي وبخدمته لي. ومن ههنا قال المشايخ : يصل المريد بالطاعة إلى الجنة وبتعظيم الشيخ وإجلاله إلى الله. ) وتوكل ( اصل التوكل أن(5/258)
" صفحة رقم 259 "
يعلم العبد أن الحادثات بأسرها مستندة إلى تكوين الله وتخليقه وهذا القدر من أصول الإيمان ) وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) [ المائدة : 23 ] وما زاد على هذا القدر من سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطراب فإنه مقام أرباب الأحوال وأصحاب الكمال. وسبح بحمدهر أي بما حمد به نفسه كقوله ( أنت أثنيت على نفسك ) والقديم لا يليق به غلا الحمد القديم ) وزادهم نفوراً ( لأن الرحمن أقبل عليهم بقهره ولو كان أقبل عليهم بلطفه لخضعوا وساتكانوات. ) تبارك الذي جعل ( في سماء القلوب بروج المنازل والمقامات وهي اثنا عشر : التوبة والزهد والخوف والرجاء والتوكل والصبر والشكر واليقين والإخلاص والتسليم والتفويض والرضا وهي منازل الأحوال السيارة شمس التجلي وقمر المشاهدة وزهرة الشوق ومشتري المحبة وعطارد الكشوف ومريخ الفناء وزحل البقاء. وهو الذي جعل ليل السر ونهار التجلي خلقة رعاية لحقوق القلب وحظوظ النفس ، إن اراد أن يتعظ عند السر أو اراد شكوراً عند التجلي ) وعباد الرحمن ( دون الشيطان والدنيا والهوى والنفس يمشون في أرض الوجود عند السير إلى الله هوناً لئلا يتاذى بإثارة غبار صفات بشريتهم أحد وإذا خاطبهم الجاهلونر وهم كل ما سوى الله من الدنيا والآخرة وما فيهما من اللذة والنعيم ) قالوا سلاما ( سلام مودّع ) والذين يبيتون لربهم ( لا لحظ أنفسهم في الرواح ساجدون وفي الصباح واجدون. وأحسن الأشياء ظاهر بالسجود وباطن في الوجود مزين ، ومع هذه الأحوال والمقامات يقفون في موقف الاعتذار والتذلل قائلين ) ربنا اصرف عنا عذاب جهنم ( القطيعة والبعد إذا أفنوا وجودهم في ذات الله وصفاته لم يبالغوا في الرياضة غلى حد تلف البدن ) ولم يقتروا ( في بذل الوجود بالركون إلى الشهوات ) لا يدعون مع الله إلهاً آخر ( بأن لا يرفعوا حوائجهم غلى الأغيار ، ولا يشوبون أعمالهم بالرياء والسمعة ولا يحبون مع الله غيره ) ولا يقتلون النفس التي حرم الله ( قتلها بكثرة المجاهدة إلا بسطوات تجلي صفات الحق في مثل هذا القتل حياة أبدية ) ولا يزنون ( بالتصرف في عجوز الدنيا بغير إذن الله ) يضاعف له العذاب ( وهو عذاب النيران وعذاب الحرمان عن نعيم الجنان ومن قرب الرحمن ) إلا من تاب ( من عبادة الدنيا وهوى النفس. ) وآمن ( بكرامات الأولياء ومقامات الأصفياء ) وعمل عملاً صالحاً ( هو الإعراض عن غير الله وهو الإكسير الأعظم الذي لو طرح ذرة منه على ملء الأرض سيئة يبدلها إبريز الحسنات. ) ومن تاب ((5/259)
" صفحة رقم 260 "
رجع عن أنانيته غلى هوية الحق ) وعمل صالحاً ( بالدوام على هذه الحالة ) فإنه يتوب ( يرجع ) إلى الله متاباً ( لا مزيد عليه وهو جذبة ) ارجعي ) [ الفجر : 28 ] وحينئذ لا يشهد الزور اي لا يساكن غير الحق. ) وإذا مرّوا باللغو ( وهو ما سوى الحق لا يلتفت غليه. وإذا ذكر بىيات ربه تأمل فيها حق التأمل ودعا الله بأن يهب له من ازدواج الروح والجسد ومتولداتهما من القلب والنفس وملكات الأعمال الصالحة ما تقر به عين القلب وعين السر وعينالروح اي يتنور بنورها ، ويصير إذ ذاك مقتدى للمتقين لمتقي الجسد من مخالفات الشريعة ، ولمتقي النفس من الأوصاف الذميمة ولمتقي الروح عما سوى الله ، فيجزى الغرفة في مقام العندية بما صبر في البداية على التكاليف الشرعية ، وفي الوسط على تبديل الأخلاق الحميدة بالذميمة ، وفي النهاية بإفناء الوجود. ثم أخبر عن استغنائه عن وجود الخلق وعدمهم لولا دعاؤهم إياه بلسان الحاجة في حس العدم ، أو لولا دعاؤه إياهم في الأزل بلسان القدرة ) فقد كذبتم ( حين ادعيتم الغنى عن الصانع ) فسوف يكون ( خسران السعادة الأبدية لازماً لكم أعاذنا الله منه .(5/260)
" صفحة رقم 261 "
سورة الشعراء
( سورة الشعراء مكية إلا قوله ) والشعراء ( إلى آخرها حروفها 4542 كلمها 1299 آياتها مائتان وسبع وعشرون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الشعراء : ( 1 - 68 ) طسم
" طسم تلك آيات الكتاب المبين لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين فلما جاء السحرة قالوا لفرعون(5/261)
" صفحة رقم 262 "
أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم "
( القراآت )
طسم ( وما بعده بالإمالة : حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد. وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقربن وقرأ حمزة ويزيد مظهرة النون عند الميم ) إني أخاف ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ) ويضيق ولا ينطلق ( بالنصب فيهما : يعقوب. ) أرجه ( مثل ما في ( الأعراف ) ) أين لنا ( بالمد وبالياء. يزيد وأبو عمرو وزيد وقالون. وقرأ ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد بهمزة ثم ياء ، وعن قنبل ) إن لنا ( على الخبر. الباقون بهمزتين. هشام يدخل بينهما مدة. ) آمنتم ( بالمد : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب آمنتمر على الخير : حفص غير الخزاز. الأخرون ) أامنتم ( بهمزتين. ) بعبادي إنكم ( بفتح الياء : نافع وأبو جعفر ) حاذرون ( بالألف : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. الباقون بغير الألف ) فاتبعوهم ( بالتشديد : زيد عن يعقوب. الباقون بقطع الهمزة وسكون التاء ) تراءى الجمعات ( بكسر الراء والهمزة في الوصل : حمزة ونصير وهبيرة في طريق الخزاز. واختلفوا في الوقف ؛ فعن الكسائي بكسر الراء والهمزة على وزن ( تريعى ) وفي رواية أخرى عنه ( ترائى ) اي تراعى ، والمشهور عنه ( ترأ ) بكسر الراء وفتح الهمزة ، وأما حمزة فإنه يقف ( ترى ) بترك الهمزة وكسر الراء ويمد ويشير غلى موضع الهمزة وهو المصدر. وأما هبيرة فإنه يقف ( تريا ) بكسر الراء ويشير إلى فتح الهمزة. الباقون(5/262)
" صفحة رقم 263 "
يقفون ( تراءى ) على وزن ( تراعى ) ) معي ربي ( بفتح الياء : حفص. الوقوف : ( طسم ( 5 ) المبين ( 5 ) مؤمنين ( 5 ) خاضعين ( 5 ) معرضين ( 5 ) يستهزؤن ( 5 ) كريم ( 5 ) لآية ( ط ) مؤمنين ( 5 ) الرحيم ( 5 ) الظالمين ( 5 لا للابدال أو البيان تسجيلاً عليهم بالظلم ) فرعون ( ط للعدول عن الأمر إلى الاستفهام ) يتقون ( 5 ) يكذبون ( 5 لمن قرأ ) ويضيق ( بالرفع على الاستئناف ) هرون ( ط ) يقتلون ( 5 ) قال كلا ( لا للعطف معنى لا لفظاً ) مستمعون ( 5 ) العالمين ( 5 لا لتعلق ( أن ) ) بني إسرائيل ( ط ) سنين ( 5 ) الكافرين ( 5 ) الضالين ( 5 ) المرسلين ( 5 ) إسرائيل ( ط ) العالمين ( 5 ) وما بينهما ( ط لأن جواب الشرط محذوف اي إن كنتم موقنين فلا تكذبوني ) موقنين ( 5 ) تستمعون ( 5 ) الأولين ( 5 ) لمجنون ( 5 ) وما بينهما ( ط ) تعقلون ( 5 ) المسجونين ( 5 ) مبين ( 5 ) الصادقين ( 5 ) مبين ( 5 ج للىية مع العطف ) للناظرين ( 5 ) عليم ( 5 لا لأن ما بعده صفة بسحرهر ق قد قيل : بناء على أن ما بعده قول الملأ لفرعون والجمع للتعظيم ، والأصح أنه من تتمة قول فرعون. ) تأمرون ( 5 ) حاشرين ( 5 لا لأن ما يتلوه جواب. ) عليم ( 5 ) معلوم ( 5 لا للعطف ) مجتمعون ( لا لاتصال المعنى ) الغالبين ( 5 ) لمن المقربين ( 5 ) ملقون ( 5 ) الغالبون ( 5 ) ما يأفكون ( 5 للآية وللدلالة على غسراعهم في السجود ) ساجدين ( 5 ) العالمين ( 5 ) وهرون ( ط ) لكم ( 5 ) لكم ( 5 للابتداء بأن مع اتحاد القول ) السحر ( ط للفاء ولام الابتداء ) فلسوف تعلمون ( 5 لتقدير القسم أجميعنر 5 ) لا ضير ( ط توقية لحق ( إن ) وإلا فالأصل هو الوصل لأن ما بعده هو القول في الحقيقة كما في ( الأعراف ) ) منقلبون ( 5 ج للآية مع اتحاد المقول ) المؤمنين ( 5 ) متبعون ( 5 ) حاشرين ( 5 للآية مع أن التقدير بأن هؤلاء ) قليلون ( 5 ) لغائظون ( 5 ) حاذرون ( 5 ط لابتداء الخبر من الله ) وعيون ( 5 لا ) كريم ( 5 لا لتعلق الكاف ) كذلك ( ط أي كما وعدنا بني إسرائيل إيراثها ثم أخبر عن وقوع الموعود لبني إسرائيل ) مشرقين ( 5 ) لمدركون ( 5 ووجه الوصل الإسراع في تداركهم عن خوف الإدراك ) كلا ( ج لاحتمال أن يكون للردع وأن يكون بمعنى حقاً ) سيهدين ( 5 ) البحر ( ط لأجل الفاء الفصيحة أي فضرب فانفلق ) العظيم ( 5 ) الآخرين ( 5 ) أجمعين ( 5 ) الآخرين ( 5 الآية ط ) مأمنين ( 5 ) الرحيم ( 5. التفسير : قال جار الله : معنى طسم إن آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين وقد مر مثله في أول ( يوسف ). والبخع الإهلاك وقد مر في اول ( الكهف ). عزاه وعرفه أن غمه وحزنه لا ينفع كما أن وجود الكتاب على بيانه ووضوحه ل(5/263)
" صفحة رقم 264 "
ا ينفع. ثم بين أنه قادر على تنزيل آية ملجئة إلى الإيمان ولكن المشيئة والحكمة تقتضيان بناء الأمر على صورة الاختبار. قال صاحب الكشاف : وجه عطف ) فظلت ( على ) ننزل ( كما قيل في قوله ) فاصدق وأكن ) [ المنافقون : 10 ] كأنه قيل : أنزلنا فظلت. وأقول : الظاهر أن الفاء في ) فظلت ( لسببيبة بدليل عدم المستتر فيه كما في ) ننزل (. ووجه العدول إلى الماضي كما قيل في ) ونادى ) [ الأعراف : 48 ] ( وسبق ) [ الزمر : 73 ] وجه مجيء ) خاضعين ( خبراً عن الأعناق إذ الأعناق تكون مقحماً لبيان موضع الخضوع. واصل الكلام : فظلوا لها خاضعين أي حين وصفت الأعناق بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل ) خاضعين ( كقوله ) والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين ) [ يوسف : 4 ] وقيل : أعناقهم رؤساؤهم كما يقال لهم الرؤوس والصدور. وقيل : اراد جماعاتهم. يقال : جاءنا عنق من الناس لفوج منهم. عن ابن عباس : نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية. قال : ستكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزة. ومعنى ) ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث ( قد مر في سورة الأنبياء. نبه سبحانه بذلك على أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين غلى الإيمان حكيم يأتيهم بالقرآن حالاً بعد حال رعاية لقاعدة التكليف. ثم ذكر أنه تعالى لا يحدد لهم توجيه موعظة وتذكير غلا جددوا ما هو نقيض المقصود ، وذلك النقيض هو الإعراض والتكذيب والاستهزاء وهذا ترتيب في غاية الحسن كأنه قيل حين أعرضوا عن الذكر : فقد كذبوا به وحين كذبوا به فقد خف عندهم قدره حتى صار عرضة للاستهزاء. وهذه درجات من أخذ في الشقاء فإنه يعرض أوّلاً ، ثم يصرح بالتكذيب ثانياً ، ثم يبلغ في التكذيب والإنكار إلى حيث يستهزئ. وفي قوله ) فسيأتيهم ( وعيد لهم بعذاب بدر أو يوم القيامة وقد مر مثله في أول ( الأنعام ). ثم بين أنه مع حكمته في إنزال القرآن حالاً بعد حال رحيم يظهر من الدلائل الحسية ما يكفي للمتأمل في باب النظر والاستدلال. والزوج الصنف والكريم نعت لكل ما يرضى ويحمد في بابه منه ( وجه كريم ) غذا رضي في حسنه وجماله ، و ( كتاب كريم ) مرضي في مبانيه ، و ( نبات كريم ) مرضي فيما يتعلق به من المنافع ، فما من نبت إلا وفيه نفع وفائدة من جهة وإن كانت فيه مضرة من جهة أخرى. ويحتمل أن يراد بالكريم النافع منه وتكون المضارّ مسلوبة عنه. قال جار الله : معنى الجمع بين ( كم ) و ( كل ) دون أن يقول ( كم أنبتنا فيها من زوج كريم ) هو أن ( كلا ) قد دل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل ، و ( كم ) دل على أن هذا محيط مفرط الكثرة. قلت : فالحاصل أن خلق النوع يصدق بخلق فرد واحد منه كما يصدق بخلق أفراد كثيرة. فقوله ) كل زوج ( إشارة إلى خلق كل نوع من أنواع النبات ، وقوله ( كم أنبتنا ( إشارة إلى كثرة افراد كل نوع منه وفيه تنبيه على كمال القدرة ونهاية الجود والرحمة ولهذا(5/264)
" صفحة رقم 265 "
ختم الكلام بقوله ) إن في ذلك ( الإنبات أو في كل واحد من تلك الأزواج ) الآية ( على الإبداء والإعادة ) وما كان أكثرهم مؤمنين ( لأن الله تعالى طبع على قلوبهم ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( فمن عزته قدر على عقوبتهم ومن رحمته بين لهم الدلائل ليتفكروا ويعتبروا ، والرحمة إذا صدرت عن القدرة كانت أعظم موقعاً ، واعلم أنه سبحانه كرر بعض الآيات في هذه السورة لأجل التأكيد و ( التقرير ) ؛ فمن ذلك أنه كرر قوله ) إن في ذلك لآية ( إلى قوله ) الرحيم ( في ثمانية مواضع : أولها في ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، والثانية في قصة موسى ، ثم إبراهيم ، ثم نوح ، ثم هود ، ثم صالح ، ثم لوط ، ثم شعيب. ومن ذلك قوله ) ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ( وهو مذكور في خمسة مواضع : في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. ومن ذلك أنه كرر ) فاتقوا الله وأطيعون ( في قصة نوح وهود وصالح وليس في ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاَّ على رب العالمين ) [ الشعراء : 109 ] لذكرها في مواضع من غير هذه السورة. وليس في قصة موسى لأنه رباه فرعون حيث قال ) ألم نربك فينا وليداً ( ولا في قصة إبراهيم لأن اباه في المخاطبين حيث يقول : ( إذ قال لأبيه وقومه ) [ الأنبياء : 52 ] وهو قد ربَّاه فاستحيا موسى وإبراهيم أن يقولا ) وما أسألكم عليه من أجر ( وإن كانا منزهين من طلب الأجر. ثم إنه تعالى أعاد في هذه السورة قصص الأنبياء المشهورين مع أممهم اعتباراً لهذه الأمة ، وبدأ بقصة موسى لما فيها من غرائب الأحوال وعجائب الأمور. والنداء المسموع عند الأشعري هو الكلام القديم الذي لا يشبه الحروف والصوات ، وعند المعتزلة وإليه ميل أبي منصور الماتريدي أنه من جنس الحروف والأصوات وأنه وقع على وجه علم به موسى أنه من قبل الله تعالى وقد عرفه أنه سيظهر عليه المعجزات إذا طولب بذلك. قال جار الله : قوله ) الا يتقون ( كلام مستأنف فيه تعجيب لموسى من حالهم الشنعاء في قلة خوفهم وكثرة ظلمهم ، أو حال أدخلت عليه همزة الإنكار. ثم إن موسى خاف أن يذكب عند أداء الرسالة فاستظهر بهارون. وفي قراءة النصب خاف التكذيب المستتبع لضيق الصدر المستلزم لاحتباس اللسان عن الجريان في الكلام ، ولعله اراد بهذه الحبسة عقدة في لسانه قبل إجابة دعوته أو بقية يروى أنها بقيت بعد الإجابة كما مر في ( طه ). ومعنى ) فأرسل إلى هارون ( أرسل إليه جبريل واجعله نبياً يصدقني في أمري فاختصر الكلام اختصاراً. ثم ذكر أن لهم عليه ذنباً فسمى جزاء الذنب ذنباً ، أو المضاف محذوف اي تبعه ذنب وهو قود قتل القبطي كما سيجيء تفصيله في سورة القصص. فيمكن أن يقتل قبل أداء الرسالة فلا يتمكن من(5/265)
" صفحة رقم 266 "
المقصود ، وهذا قد جوزه الكعبي وغيره من البغداديين. وقال الأكثرون : الأقرب من حال الأنبياء أنهم يعلمون إذا حملهم الله تعالى الرسالة أ ، ه يمكنهم من أدائها فلا معنى للخوف من القتل قبل الأداء. نعم لو خاف بعد الأداء جاز وذلك لما جبل عليه طبع الإنسان من التنفر عن القتل فيسأل الله الأن من ذلك وقد جمع الله له بقوله ) كلا ( الكلاءة وبقوله ) فاذهبا ( استنباء أخيه كأنه قيل : ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهارون ) ومعكم ومستمعون ( خبران لأن أو الخبر ) مستمعون ( و ) معكم ( متعلق به. ولا يخفى ما في المعية من المجاز لأن المصاحبة من صفات الأجسام ، فالمراد معية النصرة والمعونة ، وأما الاستماع فمجاز أيضاً وإن كان إطلاق السمع على الله حقيقة لأن الاستماع جار مجرى الإصغاء ولا بد فيه من الجارحة. فحاصل الآية إنا لكما ولعدوّكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه. وإنما وحد الرسول في قوله أنا رسول رب العالمينر لأنه أراد كل واحد أو أراد الرسول بمعنى المصدر أي ذو رسالة رب العالمين. يقال : أرسلتهم برسول اي برسالة أو جعلا لاتفاقهما واتحاد مطلبهما كرسول واحد. وههنا إضمار دل عليه سياق برسالة أي فأتيا فرعون فقالا له ذلك. يروى أنهما انطلقا غلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب : إن ههنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال : ائذن له لعلنا نضحك منه. فأديا إليه الرسالة فعرف أنه موسى فعند ذلك قال ) ألم نربك فينا وليداً ( أي صبياً وذلك لقرب عهده من الولادة. قيل : مكث فيهم ثلاثين سنة من أول عمره. وقيل : وكز القبطي وهو ابن اثنتي عشرة سنة ففر منهم. والفعلة الوكزة عدد عليه نعمه ، ثم وبخه بقتل نفس منهم وسماه كافراً لنعمه بسبب ذلك. وجوز جار الله أن يراد وأنت إذ ذاك ممن يكفر بالساعة فيكون قد افترى على موسى أو جهل أمره لأنه كان يعايشهم بالتقية. وإنما قلنا إنه افتراء أو جهل لأن الكفر غير جائز على الأنبياء ولو قبل النبوة ، ويجوز أن يراد أنه من الكافرين بفرعون وإلهيته أو بآلهة كانوا يعبدونها. قال تعالى : ( ويذرك وآلهتك ) [ الأعراف : 127 ] ثم إن موسى ما أنكر تربيته ولكن أنكر الكفر فلم ينسب نفسه إلا إلى الضلال وأراد به الذهاب عن الصواب ، أو أراد النسيان أو الخطأ وعدم التدبر في أدبار الأمور. ثم ذكر موهبة ربه في حقه حين فر من فرعون وملئه المؤتمرين بقتله. والحكم العلم بالتوحيد وكمال العقل والرأي ، ولا تدخل فيه النبوة ظاهراً لئلا يلزم شبه التكرار بقوله : ( وجعلني من المرسلين ( قال جار الله ) وتلك ( إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدري ما هي إلا بعد أن فسرت بقوله ) أن عبدت ( نظيره قوله ) وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع ) [ الحجر : 66 ] والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ كأنه أبى أن يسمي نعمته إلا نقمة لأن تعبيدهم أي تذليلهم واتخاذهم عبيداً وقصدهم. بذبح أبنائهم صار(5/266)
" صفحة رقم 267 "
هو السبب في حصوله عنده وفي تربيته فلهذا قال الزجاج : ( أن ) مع ما بعده في موضع نصب أي إنما صارت نعمة عليّ لأن عبدت بني إسرائيل إذ لو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم ومن هنا قال جار الله : إن قول موسى ) فعلتها إذن ( جواب لقول فرعون ) وفعلت فعلتك ( وجزاء له كأنه فرعون قال : جازيت نعمتي بما فعلت. فقال موسى : فعلتها مجازياً لك وإن نعمتك جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. وقال الحسن : أراد أنك استعبدتهم وأخذت أموالهم ومنها أنفقت عليّ فلا نعمة لك بالتربية على أن التربية كانت من قبل أمي وعشيرتي ولم يكن منك إلا أنك لم تقتلني. وقيل : اراد أنك كنت تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في الإطعام والكسوة. واعلم أن للعلماء خلافاً في نعمة الكافر فقيل : إنها لا تستحق الشكر لأن الكافر يستحق الإهانة بكفره فلو استحق الشكر لإنعامه لزم الجمع بين الإهانة والتعظيم في حق شخص واحد في وقت واحد. وقيل : لا يبطل بالكفر غلا الثواب والمدح الذي يستحقه على الإيمان ، وفي الآية نوع دلالة على كل من القولين. ثم إن موسى حين أدى رسالته من قوله ) إنا رسول رب العالمين ( ) قال فرعون وما رب العالمين ( وقد سبق مراراً أ ، كفره احتمل أن يكون كفر عناد وأ ، يكون كفر جهالة ، والذي يختص بالمقام هو أن ما يطلب به حقيقة الشيء وماهيته ، وهذا هو الذي قصده فرعون بسؤاله ولم يعرف أن الماهية لا تطلق على ذاته تعالى إذ لا أجزاء لها حدية ولا تقديريه ولا بأي وجه فرض ضرورة انتهاء الكل غليه واستغنائه عن الكل من كل الوجوه ، فلا يصح أن يسأل عنه بما هو ولا بكيف هو ولا بأي شيء هو ولا بهل هو ، غاية ذلك أن ينبه على وجوده الذي هو أظهر الأشياء بلوازمه وآثاره على وجه يعم الكل كما يقال : إنه رب السموات والأرض وما بينهما ، أو بأخص من ذلك بأن يقال مثلاً : ( ربكم ورب آبائكم الأولين ( وهو الاستدلال بالأنفس أو يقال ) رب المشرق والمغرب وما بينهما ( من الجهات المفروضة على السماء من لدن طلوع الكواكب إلى غروبها وبالعكس وهو الاستدلال بالآفاق. وقد راعى في الجواب الأول طريقة اللطف فختم بقوله ) إن كنتم موقنين ( أي إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وجلائه. وخاشنهم في الأخير بقوله ) إن كنتم تعقلون ( حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله : ( إن كنتم تعقلون ( حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله ) إن رسولكم ( ويمكن أن يراد بقوله ) وما بينهما ( ثانياً ما بين المشرق والمغرب من المخلوقات فيكون الفرق بين هذا الاستدلال وبين الأول أن الأول هو الاستدلال بالإمكان على طريقة الحكيم ، والثاني هو الاستدلال بالحدوث على طريقة المتكلمين ، والأول أقرب إلى اليقين(5/267)
" صفحة رقم 268 "
فلهذا قال ) إن كنتم موقنين ( والثاني أقرب إلى الحس فلهذا قال ) إن كنتم تعقلون ( ولما انجر الكلام إلى حد العناد والمخاشنة هدده فرعون بقوله : ( إن اتخذت إلهاً غيري لاجعلنك من المسجونين ( وهذا أبلغ من أن لو قال : ( لأسجننك ) والمعنى لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه يطرحه في هوة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فرداً لا يبصر فيها ولا يسمع ، وحينئذ عدل موسى إلى الحجة الأصلية في الباب وهو ادعاء المعجز المنبئ عن صدقه فقال ) أولو جئتك ( أي أتفعل فيَّ ذلك ولو جئتك بشيء أي جائياً بالمعجزة. وفي قوله ) إن كنت من لاصادقين ( إن سلم أنه قاله جداً لا هزلاً وجدالاً دلالة على ما ركز في العقول من أن دعوى الرسالة إن اقترنت بظهور المعجزة على يده تحقق صدقها. وقد شنع في الكشاف ههنا أن في أهل القبلة من خفي عليهم ما لم يخف على فرعون حتى جوزوا القبيح عليه سبحانه ولزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. وفي التخطئة سهو من وجهين : أحدهما : أنه لا قبيح عند الأشاعرة عقلاً. والثاني أنه على تقدير التسليم لا يلزم تجويز كل قبيح وهذا من ذلك للزوم الاشتباه. وباقي القصة سبق نظيرها في ( الأعراف ) فلنقتصر في التفسير على ما يختص بالسورة. قوله ) قال للملأ حوله ( قال في الكشاف : الظرف في محل النصب على الحال. وأقول : الأصوب أن يجعل نعتاً للملأ أي الأشراف حوله على طريقة قوله : ولقد أمرّ على اللئيم يسبني قوله ) لمقيات يوم معلوم ( اليوم يوم الزينة وميقاته وقت الضحى كما مر في ( طه ). قوله ) هل أنتم مجتمعون ( استبطاء لهم في الاجتماع وحث عليه كقول الرجل لغلامه : هل أنت منطلق إذا أراد أن يحثه على الانطلاق. قوله ) لعلنا نتبع السحرة ( لم يكن غرضهم اتباع السحرة في دينهم وإنما غرضهم الأصلي أن لا تتبعوا موسى ، فساقوا الكلام مساق المجاز لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى. قوله ) بعزة فرعون ( هي من أيمان الجاهلية ولا يصح الحلف في الإسلام إلا بالله تعالى وبصفاته كما مر في ( البقرة ) و ( المائدة ). وقوله ( فألقى السحرة ( لم يسم فاعله وهو الله تعالى في الحقيقة حين ألقى دايعة الإيمان في قلوبهم ويجوز أن ينسب إلى ما عاينوا من المعجزات الباهرة ولك أن لا تقدر فاعلاً أي خروا. قوله ) لا ضير ( أي لا ضير علينا فيما يتوعدنا به من القتل. قوله ) إنا نطمع ( الطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين كقوله إبراهيم ) والذي أطمع(5/268)
" صفحة رقم 269 "
أن يغفر لي ( ويحتمل الظن بناء على أن المرء لا يعلم ما يختاره أو يؤل غليه عند الوفاة. ومعنى ) أن كنا ( لأن كنا وكانوا أوّل طائفة مؤمنين من أهل زمانهم أو من قوم فرعون أو من أهل المشهد. قوله : ( أنكم متبعون ( تعليل للإسراء أي بنيت تدبير أمركم على أن تتقدموا لو يتبعكم فرعون وجنوده إلى أن يغشاهم من اليم ما يغشاهم. قوله : ( لشرذمة ( هي الطائفة القليلة. ثم وصفهم بالقلة واختار جمع السلامة ليدل على أن كل حزب منهم في غاية القلة ، وذلك بالنسبة إلى عسكره وإلا فهم كثير في أنفسهم. يروى أن فرعون أرسل في اثرهم الف ألف وخمسمائة الف ملك مسور مع كل ملك الف وخرج فرعون في جمع عظيم ، وكانت على مقدّمته سبعمائة ألف كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة ، وكان قوم موسى إذ ذاك ستمائة ألف وسبعين ألفاً. ويجوز أن يريد بالقلة الذلة والحقارة لا قلة العدد. قوله : ( وإنهم لنا لغائطون ( معناه أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم ولكنهم يفعلون أفعالاً لغيظنا كأخذ الحلي وادّعاء الاستقلال والاستخلاص عن ذل الاستخدام ونحن قوم مجموعون كلمة وائتلافاً ، ومن عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور. فالحذر المتيقظ وهو يفيد الثبات والحاذر الذي يجدد حذره. وقيل : هو تام السلاح لأنه فعل ذلك حذراً واحتياطاً لنفسه ، وكل هذه المعاذير لأجل أن لا يظن به العجز وخلاف ما ادّعاه من القهر والتسلط. وقرئ ) حادرون ( بالدال غير المعجمة ، والحادر السمين القوي أراد أنهم أقوياء أشدّاء. ) فأخرجناهم من جنات ( أي بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوزر الذهب والفضة. قال مجاهد : سماها كنوزاً لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله تعالى. والمقام الكريم المنازل الحسنة والمجالس البهية. وقال الضحاك : المنابر. وقيل : السرر في الحجال. ) كذلك ( يحتمل النصب أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا ، والجر على الوصف أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، ولارفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك ، وعلى هذا فيوقف على ) كريم (. ) فأتبعوهم ( اي فلحقوهم. ومن قرأ بالتشديد فظاهر. والإشراق الدخول في وقت الشروق ) فلما تراءى الجمعان ( أي رأى قوم موسى قوم فرعون وحصل كل من الفريقين بمرأى للآخر ) قال أصحاب موسى ( خوفاً وفزعاً ) إنا لمدركون ( لملحقون. قال موسى تثبيتاً لهم وردعاً عماهم عليه من الجزع والفزع ) كلا إن معي ربي ( بالنصرة والمعونة ) سيهدين ( سبيل النجاة والخلاص كما وعدني. ثم بين أنه كيف هداه بقوله ) فأوحينا ( الآية. ومعنى فانفلقر فضرب فانفلق ) فكان كل فرق ( اي كل جزء متفرق منفلق منه ) كالطود ( وهو الجبل العظيم ومع ذلك وصفه بالعظيم ) وأزلقنا ثم ( اي قربنا حيث انفلق البحر ) الآخرين ( وهم قوم فرعون والمقرب منه بنو إسرائيل أو قوم(5/269)
" صفحة رقم 270 "
فرعون أيضاً أي أذنبينا بعضهم من بعض وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد ، ويجوز أ ، يراد قدمانهم غلى البحر. وقرئ ) وأزلقنا ( بالقاف أي أزللنا أقدامهم حساً بأن لم يكن لهم البحر يبساً كما كان لبني إسرائيل ، أو عقلاً أي أذهبنا عزعهم. والبحر بحر القلزم أو بحر من وراء مصر يقال له اساف. قالت الأشاعرة : إنه تعالى أضاف الإزلاف غلى نفسه مع أن اجتماعهم في طلب موسى كفر. أجاب الجبائي بأن قوم فرعون تبعوا بني إسرائيل وبنو إسرائيل إنما فعلوا ذلك بأمر الله تعالى ، فلما كان مسيرهم بتدبير الله وهؤلاء تبعوهم اضافه إلى نفسه توسعاً ، وهذا كما يتعب أحدنا في طلب غلام له فيجوز أن يقول : أتعبني الغلام لما حدث ذلك عند فعله. أو المراد أزلفناهم إلى الموت والأجل. وقال الكعبي ( أراد أنه جمع تفرقهم كيلا يصلوا إلى موسى وقومه ، أو اراد أنه حلم عنهم وترك لهم لابحر يابساً حتى طمعوا في دخوله. واعترض بأن كل ذلك لا بد أن يكون له أثر في استجلالب دايعة قوم فرعون إلى الذهاب خلفهم فيعود المحذور. ) إن في ذلك ( الذي حدث في البحر من إنجاء البعض وإغراق البعض أو في ذلك أي ذكر من القصة بطولها ) الآية ( عجيبة للمتدبر المتفكر في الأمور الإلهية ) وما كان أكثرهم مؤمنين ( حين سألوا بعد النجاة أن يجعل لهم موسى غلهاً غير الله ، واتخذوا العجل ، واقترحوا اقتراحات خارجة عن قانون الأدب. ويحتمل أن يعود الضمير إلى هذه الأمة بدليل ) واتل عليهم ) [ الشعراء : 69 ] وفيه تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقد كان يغتم بتكذيب قومه بعد ظهور المعجزات ونزول الآيات. التأويل : الطاء طوله في كمال عظمته ، والسين سلامته عن كل عيب ونقص ، والميم مجده الذي لا نهاية له. أو الطاء طهارة قلب نبيه عن تعلقات الكونين ، والسين سيادته على الأنبياء والمرسلين ، واليمم مشاهدته جمال رب العالمين. أو الطاء طيران الطائرين بالله ، والسين سير السائرين إلى الله ، والميم مشي الماشين لله الذين يمشون على الأرض هوناً. ) إن نشأ ننزل ( من سماء قلوبهم ) آية ( من واردات الحق ) فظلت ( أعناق نفوسهم ) لها خاضعين ( ) فسيأتيهم ( بعد مفارقة الأرواح الأجساد ) أنباء ما كانوا به يستهزؤون ( لظهور نتائج معاملاتهم الخبيثة على أرواحهم ) أو لم يروا إلى ( أرض قلوب العارفين ) كما أنبتنا فيها ( من اشجار أصناف الإيمان والتوكل واليقين والإخلاص وسائر الأخلاق الكريمة ) وما كان أكثرهم مؤمنين ( لأن جناب الحق لعزته يجل عن أن يكون شرعة لكل وارد ) وإن ربك لهو العزيز ( الذي لا يوجد بالسعي ) الرحيم ( حين أدرك أولياءه بجذبات العناية كما أدرك موسى حين ناداه من الشجرة ، وذلك أنه جعله مظهر لطفه كما أ نه جعل فرعون مظهر قهره فصار من العتوّ والاستكبار في غاية الكمال. ويعلم منه أن الإنسان له استعداد في مظهرية(5/270)
" صفحة رقم 271 "
صفة القهر ليس لإبليس فلذلك عاند إبليس آدم وقال أنا خير منه وعاند فرعون الرب وقال أنا ربكم الأعلى. وأن له استعداداً في مظهرية صفة اللطف ليس للملك ولهذا صار الإنسان مسجوداً للملائكة. ) أن أرسل معنا بني إسرائيل ( فيه أن موسى القلب استيلاء على موسى القلب والصفات الروحانية فاستعملهم في قضاء حوائجه وتحصيل مقاصده فعرفه فرعون النفس وقال ) ألم نربك فينا وليداً ( فإن موسى القلب كان في حجر فرعون النفس إلى أن بلغ أوان الحلم وهي خمس عشرة سنة ، فقتل قبطي الشهوة حين كفر بإله الهوى وكان قبل القتل ضالاً عن حضرة الربوبية ) ففرت منكم ( غلى الله لما خفت أن تقطعوا عليّ الطريق إلى الله. رب سموات القلوب وأرض البشرية وما بينهما من المنازل ) قال لمن حوله ( من صفات النفس ) الا تستمعون ( ) قال موسى ( القلب لتعارفه بربه ) ربكم ورب آبائكم الأوّلين ( يعني الآباء العلوية الرحانية. وفي قوله ) إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ( إشارة إلى كمال ضدية القلب والنفس فما يصدر عن القلب تعده النفس من الجنون وبالعكس. ) رب ( مشرق الروح من أفق البدن ) ورب ( مغربه فيه ) وما بينهما ( من مدة التعلق وقد مر نظيره في محاجة إبراهيم في ) البقرة ( ) لأجعلنك من السمجونين ( في سجن حب الدنيا فإن القلب إذا توجه إلى الله فلا استيلاء للنفس عليه إلا بشبكة حب النجاة والرياسة فإنها آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين. فقال موسى القلب : لا تقدر على أن تسجنني فإن معي عصا الذكر واليد المنزعة عما سوى الله. وباقي التأويل قد سبق قوله : ( فأخرجناهم ( أي ) من جنات ( صفات الأوصاف الروحانية ) وعيون ( الحكمة ) وكنوز ( المعارف ) ومقام كريم ( في حضرة أكرم الأكرمين ) وأورثاها بني إسرائيل ( فيه أن النفس إذا فنيت ورث القلب منها صفاتها وبقوتها تصير إلى مقامات لم يمكنه الوصول إليها بقوة صفاته ، ولو مات القلب ورثت النفس منه صفاته وبقوتها تتنزل إلى دركات لم يمكنها الوصول إليها بمجرد صفاتها ) فأتبعوهم ( أي لحق أوصاف النفس أوصاف القلب عند إشراق شمس الروح ) فكان كل فرق ( أي قربنا صفات النفس بتبعية صفات القلب إلى بحر العبور عنه. ) وأزلقنا ثم الآخرين ( أي قربنا صفات النفس بتبعية صفات القلب إلى بحر الروح. ) وأنجينا موسى ومن معه ( من الأوصاف في بحر الروح بالوصول إلى الحضرة ) ثم أغرقنا ( أوصاف النفس في بحر الروحانية فإن الوصول إلى الحضرة من خواص القلب وغاية سير النفس هو الاستغراق في بحر الروحانية ) إن في ذلك لآية ( لأرباب العرفان ) وما كان أكثرهم مؤمنين ( بهذه المنازل فإنه لا يصير إليها إلا الشاذ من المجذوبين بجذبة ) ارجعي إلى ربك ) [ الفجر : 28 ] جعلنا الله من المستعدين لها والله أعلم .(5/271)
" صفحة رقم 272 "
( الشعراء : ( 69 - 122 ) واتل عليهم نبأ . . . .
" واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين ولا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم "
( القراآت )
لي غلا ( ) واغفر لأبي إنه ( بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع ) وأجري إلا ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص : ( وأتباعك ( على أنه جمع تابع أو تبع : يعقوب ) أنا إلا ( بالمد : أبو نشيط عن قالون ) معي من المؤمنين ( بفتح ياء المتكلم : حفص وورش. الوقوف : ( إبراهيم ( لئلا يوهم أن ( إذ ) طرف ) اتل ( وإنما هو منصوب باذكر ) ما تعبدون ( 5 ) عاكفين ( 5 ) تدعون ( 5 ) يضرون ( 5 ) يفعلون ( 5 ) تعبدون ( 5 لا لأن(5/272)
" صفحة رقم 273 "
الضمير بعده توكيد ) الأقدمون ( 5 والوصل أولى للفاء ) العالمين ( 5 لا لأن ) الذي ( صفة الرب ) يهدين ( 5 لا ) يشفين ( 5 ) ويسقين ( 5 ) يحيين ( 5 لا ) الدين ( 5 ) بالصالحين ( 5 لا ) الآخرين ( 5 لا ) النعيم ( 5 لا ) الضالين ( 5 لا ) يبعثون ( 5 ) ولا بنون ( 5 لا ) سليم ( 5 ط بناء على أن ما بعده إلى آخر أحوال الجنة والنار هو من كلام الله تعالى وهو الظاهر. وقيل : هو من تتمة كلام إبراهيم ) العالمين ( 5 ) المجرمون ( 5 ) شافعين ( 5 ) حميم ( 5 ط ) المؤمنين ( 5 ) الاية ( ط ) مؤمنين ( 5 ) الرحيم ( 5 ) المرسلين ( ج لأن ( إذ ) تصلح ظرفاً للتكذيب مفعولاً لا ذكر ) تتقون ( ج 5 لأن ما بعده من تمام المقول ) أمين ( 5 لا للفاء ) وأطيعون ( ج 5 ) من أجر ( ج ) العالمين ( ج 5 ) وأطيعون ( 5 لا ) الأرذلون ( 5 ط ) يعملون ( ج 5 لأن ما بعدعه من تمام المقول ) تشعرون ( 5 لذلك ) المؤمنين ( ج 5 ) مبين ( 5 ) المرجومين ( 5 ط ) كذبون ( 5 ج ) المؤمنين ( 5 ) المشحون ( ج 5 ) الباقين ( 5 ) الآية ( ط ) مؤمنين ( 5 ط ) الرحيم ( 5. التفسير : القصة الثانية قصة إبراهيم عليه السلام وكان يعلم عبدة أصنام ولكنه سألهم للإلزام والتبكيت. ومثله أهل المعاني بأن يقول أحد للتاجر : ما مالك ؟ وهو يعلم أن ماله الرقيق ثم يقول له الرقيق : جمال وليس بمال. وإنما قال في سورة الصافات ) ماذا تعبدون ) [ الصافات : 85 ] بزيادة ( ذا ) لأنه أراد هناك مزيد التوبيخ ولذلك بنى الكلام على الزيادة ثم اردفه بقوله ) ائفكا آلهة دون الله تريدون ) [ الصافات : 86 ] وحين صرح هنالك بالتوبيخ لم يجيبوه وههنا ظنوا أنه يريد الاستفهام حقيقة فأجابوه ولكنهم بسطوا الكلام بسطاً ولم يقتصروا على ) أصناماً ( بل زادوا ناصبه وعقبوه بقولهم ) فنظل لها عاكفين ( إظهاراً للابتهاج والافتخار. قال في الكشاف : وإنما قالوا ) فنظل ( لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل. قلت : وهذا مبني على النقل الصحيح والظن به حسن. قال : لا بد في ) يسمعونكم ( من تقدير حذف المضاف معناه هل يسمعون دعاءكم ؟ قلت : ويحتمل أن يكون المحذوف مفعولاً ثانياً أي هل يسمعونكم تدعون إذ تدعون وهو حكاية حال ماضية لأن ( إذ ) للمضي ومعناه استحضار الأحوال الماضية التي كانوا يدعونها فيها. وحين تمسكوا في الجواب بطريقة التقليد قائلين على سبيل الإضراب بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلونر نبههم إبراهيم بقوله ) أفرأيتم ( على أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديماً أو حديثاً ولا بأن يكون في مرتكبيه كثرة أو قلة ، وصرح بأن معبوديه أعداء لقوله تعالى ) كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً ) [ مريم : 82 ] أو لأن الذي يغري على عبادتها هو الشيطان وهو أعدى عدو للإنسان ، وإنما لم يقل عدوّ لكم لأنه أراد تصوير المسألة في نفسه ليكون(5/273)
" صفحة رقم 274 "
أدل على النصح وأقرب إلى القبول كأنه قال : إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ. ويحكى عن الشافعي أن رجلاً واجهه بشيء فقال : لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب. وقوله ( إلا رب العالمين ( استثناء منقطع أي لكن رب العالمين حبيب لي. ثم وصف لهم الرب بأنه ) الذي خلقني فهو يهدين ( أي خلق بدني على كماله الممكن له ثم يهدين في الاستقبال إلى ضروب مصالح الدين والدنيا كامتصاص الدم في البطن والثدي بعد الولادة نظيره ما مر في ( طه ) ) الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) [ طه : 50 ]. ثم نبه بقوله ) والذي هو يطعمني ويسقين ( أن الذي يتعلق به قوام البدن من الاغتذاء بالطعام والإساغة بالشراب هو من جملة إنعام الله تعالى لأنه خلق هناك قوى جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة وغيرها ، ولولاها لما تم أمر الاتفاع بالغذاء بل نفس الغذاء من جملة نعمه الشاملة ، ثم قال ) وإذا مرضت فهو يشفين ( وذلك أن البدن ليس دائماً على النهج الطبيعي بحيث تصدر عنه الأفعال الموضوع هو لها سليمة فاسترداد الصحة بعد زوالها ليس غلا بإذن الله وبما خلق لكل داء دواء وإنما لم يقل أمرضني لأن كثيراً من اسباب المرض يحدث بإسراف الإنسان في المطعم والمشرب. وأيضاً الصحة تحتاج إلى سبب قاهر يقسر الأخلاط والقوى على النسبة المطلوبة ، أما المرض فإنه بسبب تنافر الأخلاط وطلب كل منها مركزه الصلي. وأيضاً فيه رعاية الأدب في مقام المدح وتعداد النعم وإنما لم يراع هذه النكتة في قوله ) والذي يميتني ( لأن الإماتة ليست بضر كالمرض. إما بعدم الإحساس وقتئذ ، وإما لأنها مقدمة الوصول غلى عالم الخير والراحة. وإنما زاد لفظة ( هو ) في الإطعام والشفاء لأنهما قد ينسبان إلى الإنسان فيقال : زيد يطعم وعمرو يداوي. فأكد إعلاماً بأن ذلك في الحقيقة من الله ، واما الإماتة والإحياء فلا يدعيهما مدع فأطلق : ثم اشار إلى ما بعد الإحياء من المجازاة بقوله ) والذي أطمع ( فحمل الأشاعرة الطمع على مجرد الظن والرجاء بناء على أنه لا يجب لأحد على الله شيء. وحمله المعتزلة على اليقين تارة وعلى هضم النفس والتواضع وتعليم الأمة أخرى ، كما أنه أضاف الخطيئة إلى نفسه لمثل ذلك. وقد تحمل الخطيئة على المعاريض المنسوبة إليه من قوله ) إني سقيم ) [ الصافات : 89 ] وقوله ( بل فعله كبيرهم ) [ الأنبياء : 63 ] وقوله لسارة ( هي أختي ) وإنما علق المغفرة بيوم الدين لأن أثرها يتبين يومئذ وهو في الدنيا خفي. قال بعضهم : فائدة زيادة ( لي ) هي أن يعلم أن المغفرة فائدتها تعود إليه والله سبحانه لا يستفيد بذلك كمالاً لم يكن له. والمراد : أطمع أن يغفر لي لمجرد عبوديتي له واحتياجي غليه لا بواسطة شفيع كما قال لجبرائيل : أما إليك فلا. وحين قدم الثناء شرع في الدعاء تعليماً لأمته غذا أرادوا مسألة فقال ) رب هب لي(5/274)
" صفحة رقم 275 "
حكماً ( وهو إشارة إلى كمال القوة النظرية ) وألحقني بالصالحين ( وهو إشارة إلى كمال القوة العملية. ولقد اجابه حيث قال ) وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( وقيل : الحكم النبوة إذ النبي ذو حكمة وذو حكم. بين عباد الله تعالى وزيف بأنه كان حاصلاً فكيف يطلبه ؟ والظاهر أنه اراد بالحكم النسب الذهنية المطابقة للخارجية أعني العلوم النظرية كما بينا. قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على مسألة خلق الأعمال ، إنه طلب العلم من الله فلولا أن العلم بخلقه وإلا كان السؤال عبثاً. وحمله المعتزلة على منح الألطاف. قيل : الحكم المطلوب بالدعاء إن كان هو العلم بغير الله لزم أن يكون سائلاً لما يشغله عن الله وهو باطل ، وإن كان العلم بالله بقدر ما هو شرط صحة الإيمان لزم طلب ما هو حاصل لأدنى المؤمنين فضلاً عن إبراهيم ، فإذن هو العلم الزائد على ما هو ضروري في الإيمان وهو الوقوف على حقيقة الذات والصفات ، ثم لا يكشف المقال عنها غير الخيال وبه يصير المؤمن من الواصلين إلى العين دون السامعين إلى الأثر. ثم طلب الذكر الجميل بقوله ) واجعل لي لسان صدق ( والإضافة فيه كقوله ) قدم صدق ) [ يونس : 2 ] وقال ابن عباس : وقد أعطاه الله ذلك لقوله ) وتركنا عليه في الآخرين ) [ الصافات : 78 ] ولهذا اتفق أهل الأديان قاطبة على حبه وادعاء متابعته. ومدح الكافر ليس مقصوداً لذاته من حيث هو كافر وإنما المقصود أن يكون ممدوح كل إنسان ومحموداً بكل لسان. وفائدة الثناء على الشخص بعد وفاته هو انصراف الهمم غلى ما به يحصل له عند الله زلفى وقد يصبر ذلك المدح داعياً للمادح أو لمن يسمعه غلى اكتساب مثل تلك الفضائل. وقيل : سأل ربه أن يجعل من ذريته في آخر الزمان من يكون داعياً إلى ملته وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . ثم سأل ما هو غاية كل سعادة فقال ) واجعلني من ورثة جنة النعيم ( وقد مر معنى هذه الوراثة في قوله ) وتلك الجنة التي أورثتموها ) [ الأعراف : 43 ] وكذلك في سورة مريم ) تلك الجنة التي نورث من عبادنا ) [ مريم : 63 ] ثم طلب السعادة الحقيقية لأشد الناس التصاقاً به وهو ابوه قائلاً ) واغفر لأبي ( وقد سبق في آخر التوبة وفي مريم ( ما يتعلق به من المباحث. وههنا سؤال : وهو أنه متى حصلت الجنة بدعائه امتنع حصول الخزي فكيف قال بعده ولا تخزنير وايضاً قال تعالى ) إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ) [ النحل : 27 ] وما كان نصيب الكافر كيف يستجير منه المعصوم ؟ أجاب عنه في التفسير الكبير كما أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فكذلك درجات الأبرار دركات المقربين ، وخزي كل واحد ما يليق بحاله فكأنه سأل الشركة أوّلاً ثم الخصوصية ثانياً. وأقول : يحتمل أن يكون هذا الدعاء من تتمة دعائه لأبيه أي لا تخزني ولا تفضحني بسبب تعذيب أبي يوم يبعث الضالون أو العباد كلهم ، ومثل هذا الضمير مما يعلم عوده بالقرينة. ويجوز أن يكون سأل الجنة بشرط التعظيم والإجلال ، ويجوز أن يكون أخر(5/275)
" صفحة رقم 276 "
هذا الدعاء لما يعقبه من حديث يوم القيامة وأهوالها وأحوالها فاراد أن لا ينقطع نظم الكلام. وفي قوله ) إلا من أتى الله بقلب سليم ( إشارة إلى ما وصفه الله به في قوله تعالى ) وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم ) [ الصافات : 84 ] وفي هذا الاستثناء وجوه منها : أنه منقطع والمضاف محذوف أي إلا حال من أتى الله بقلب سليم والمراد بالحال سلامة القلب والمعنى : أن المال والبنين لا ينفعان وإنما ينفع سلامة القلب عن الأمراض الروحانية كالجهل وسائر الأخلاق الذميمة ، ويندرج في سلامة القلب سلامة سائر الجوارح لأنه رئيسه. ولا شك أن المال والبنين ليسا من جنس سلامة القلب فيكون الاستثناء منقطعاً. ومنها أنه متصل وذلك على وجهين : أحدهما لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه. وثانيهما أن يجعل من باب قولهم : تحية بينهم ضرب وجيع والمضاف المحذوف الحال أو السلامة نظيره أن يقال لك : هل لزيد مال وبنون ؟ فتقول : ماله وبنوه سلامة قلبه تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك. ومنها أن يكون الموصول مفعولاً لينفع والاستثناء مفرغ أي لا ينفع مال ولا بنون أحداً إلا رجلاً سلم قلبه مع ماله وبنيه حيث أنفقه في طاعة الله وما قصر في باب تأديبهم وإرشادهم ، أو سلم قلبه من فتنة المال والبنين فلم يكفر ولم يعص. وقد يفسر السليم بالذائب من خشية الله تعالى. وحين أنجرّ الكلام إلى ذكر يوم القيامة وصف الله تعالى أو إبراهيم أحواله وأهواله فقال ) وأزلقت الجنة للمتقين ( قال المفسرون : الجنة تقرب من موقف السعداء ليكون لهم فرجاً معجلاً ، وتجعل النار بارزة مكشوفة للأشقياء ليزدادوا غماً وحسرة ، ولمثل هذا اليوم وبخهم بقوله ) إينما كنتم تعبدون ( يعني الآلهة التي كنتم تعبدونها ) من دون الله هل ينفعونكم ( بنصرتهم لكم أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنهم وآلهتهم وقود النار وذلك قوله ) فكبكبوا فيها هم ( أي الآلهة ) والغاوون ( الذين عبدوهم قال جار الله : الكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقى في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها أعاذنا الله منها. والمراد بجنود إبليس شياطينهم أو متبعوه من عصاة الجن والإنس. ) قالوا ( يعني الغاوين وجنود إبليس ) وهم ( يعني والحال أن الأصنام وعبدتهم ) فيها يختصمون ( قال أكثر المفسرين : يجوز أن ينطق الله الأصنام بحيث(5/276)
" صفحة رقم 277 "
يصح منها التخاصم. وقيل : إن هذا التخاطب بين العصاة والشياطين إذ سووهم برب العالمين. والمراد بالمجرمين على التفسيرين الرؤساء والكبراء. وعن السدي : الأولن الذين سنوا الشرك. وعن ابن جريج : إبليس وقابيل لأنه سن القتل وأنواع المعاصي : ( فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ( خالص يهمه ما يهمنا وفيه نفي الشفعاء والصديق راساً أو نفي للذين كانوا عدّوهم شفعاء واصدقاء من الأصنام والرؤساء ، أو نفي للانتفاع بهم قصدوا بنفيهم ما يتعلق بهم من الفائدة ، فكل عديم النفع حكمه حكم المعدوم. قال جار الله : إنما جمع الشافع ووحد الصديق لكثرة الشفعاء لأجل الخشية عادة ، ولكن الصديق الصادق أعز من الكبريت الأحمر حتى زعم بعض الحكماء أنه اسم لا معنى له. وجوز أن يكون الصديق في معنى الجمع والكرة الرجعة إلى الدنيا ) ولو ( في معنى التمني. وقوله ( فنكون ( جواب التمني أو عطف في المعنى على ) كرة ( أي ليت لنا كرة فإن نكون ، وعلى هذا جاز أن تكون ) لو ( على أصل الشرط والجواب محذوف وهو لفعلنا كيت وكيت. ثم بين أن فيما كره من قصة إبراهيم عليه السلام لآية لمن يريد أن يستدل بذلك وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين. القصة الثالثة قصة نوح : ولا ريب أن نبأه عظيم فقد كان يدعوهم الف سنة غلا خمسين عاماً ، ومع ذلك لم يزد قومه إلا التكذيب. والقوم مؤنث بدليل قوله ) كذبت ( وكان أميناً فيهم مشهوراً كمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) في قريش. وكرر قوله ) فاتقوا الله وأطيعون ( تأكيداً وتقريراً في النفوس مع أنه علق كل واحد بسبب وهو الأمانة في الأول وقطع الطمع في الثاني نظيره قول الرجل لغيره : ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً ؟ ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيراً ؟ وقدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة طاعته. قوله ) وما علمي ( يريد ايّ شيء علمي ومعناه انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم لله عز وجل واطلاعه على باطنهم ومكنون ضميرهم كأنهم طعنوا في إيمانهم ايضاً فذكر أن حسابهم على الله وأنه لم يبعث إلا للنذارة. ويجوز أن يكون فسر لهم الرذالة بما هو الرذالة عنده من سوء الأعمال وفساد العقائد فبنى جوابه على ذلك وقال : ما لعمي إلا اعتبار الظاهر والله يتولى السرائر. وفي قوله ) لو تشعرون ( إشارة إلى أنهم لا يصدقون بالحساب والجزاء ، وفيه إنكار أن يسمى المؤمن رذلاً وإن كان أفقر الناس وأوضعهم فالغني غني الدين والنسب نسب التقوى. ) رب أن قومي كذبون ( ليس إخباراً لأنه علام الغيوب وإنما هو تمهيد مقدمة لطلب الفتح والحكومة. والفلك المشحون المملوء من كل زوجين اثنين مع نوح وأهله. التأويل : ( واتل عليهم نبأ إبراهيم ( القلب ) إذ قال لأبيه وقومه ( وهو الروح وما يتولد(5/277)
" صفحة رقم 278 "
منه ) نعبد أصناماً ( وهو ما سوى الله ) فنظل لها عاكفين ( غلا أن أدركتنا العناية فنعرض عنها : ( بل وجدنا آباءنا ( وهم الأرواح والآباء العلوية كذلك يتعلق بعضهم ببعض ) فإنهم عدوّ لي ( إن تعلقت فصرت محجوباً بهم عن الله ) خلقني فهو يهدين ( غلى حضرته و ) يطعمني ( من طعام العبودية الذي يعيش القلوب ، ويسقيني منشراب طهور التجلي ) وإذا مرضت ( بتعلقات الكونين ) فهو يشفين ( بالجذبة الإلهية ) والذي يميتني ( عن أوصاف البشرية ) ثم يحيين ( بأوصاف الروحانية ويميتني عن أوصاف الروحانية ثم يحيين بالأوصاف الربانية ثم يميتني عن أنانيتي ثم يحيين بهويته ) والذي أطمع أن ( يستر ظلمة خطيئة وجودي بطلوع شمس نهار الدين ) رب هب لي ( من ربوبيتك ) حكماً ( على بذل وجودي فيهويتك ) وألحقني ( بالذين صلحوا لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة. ) واجعل لي لسان صدق في الآخرين ( من النفس وصفاتها ليعرضوا عما سوى الله ) واغفر لأبي ( الروح ) إنه كان من الضالين ( حين رد من العالم العلوي إلى السفلي من قولهم ) ضل الماء في اللبن ( ) ولا تخزني ( بتعلقات الكونين ) قال نوح ( القلب ) وما علمي بما كانوا يعملون ( يعني أراذل الجسد والأعضاء لأنهم عملة عالم الشهادة وأنا من عملة عالم الغيب ) إن حسابهم إلا على ربي ( فيما يعملون من الأعمال الحيوانية لحاجة ضرورية يعفو عنها والشهوة حيوانية يؤاخذهم بها لو تشعرونر الفرق بينهما ) قالوا ( أي النفس وصفاتها ) لئن لم تنته يا نوح ( القلب عما تدعونا إليه على خلاف إرادتنا ) لنكونن من المرجومين ( بأحجار الوساوس والهواجس في الفلك المشحونر أي في فلك الشريعة المملوء بالأوامر والنواهي والحكم والمواعظ والأسرار والحقائق ) ثم أغرقنا الباقين ( بطوفان استيلاء الأخلاق الذميمة وآفات الدنيا الدنية ، وباقي القصقص إشارات إلى رسول القلب المسلم من الله وقومه النفس وصفاتها وإليه المرجع والمآب لما قررناه. ( الشعراء : ( 123 - 175 ) كذبت عاد المرسلين
" كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم(5/278)
" صفحة رقم 279 "
رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتتركون في ما ها هنا آمنين في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا إنما أنت من المسحرين ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين قال إني لعملكم من القالين رب نجني وأهلي مما يعملون فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم "
( القراآت )
أوعظت ( مدغماً : عباس ونصير ) خلق الأولين ( بفتح الخاء وسكون اللام : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وعليّ ) كذبت ثمود ( مثل ) بعدت ثمود ) [ هود : 95 ] ( فارهين ( بالألف : ابن عامر وعاصم وحمزة وعليّ وخلف. الوقوف : ( المرسلين ( 5 ) تتقون ( 5 ) أمين ( 5 ) وأطيعون ( 5 ) أجر ( 5 ) العالمين ( 5 ) تعبثون ( 5 لا ) تخلدون ( 5 ج ) جبارين ( 5 ) وأطيعون ( 5 ج ) تعلمون ( 5 ج ) وبنين ( 5 لا ) وعيون ( 5 ج ) عظيم ( 5 ط ) الواعظين ( 5 لا للحتراز عن الابتداء بمقولهم ) الأولين ( 5 لا لذلك ) بمعذبين ( 5 ج ) فأهلكناهم ( ط ) لآية ( ط ) مؤمنين ( 5 ) الرحيم ( 5 ) المرسلين ( 5 ط ) تتقون ( 5 ) أمين ( 5 لا ) وأطيعون ( 5 ) أجر ( 5 ) العالمين ( 5 ) آمنين ( 5 لا لتعلق الظرف ) وعيون ( 5 لا ) هضيم ( 5 ) فارهين ( 5 ج للآية مع العطف ) وأطيعون ( 5 ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول ) مثلنا ( ز ) من الصادقين ( 5 ) معلوم ( 5 ج ) عظيم ( 5 ) نادمين ( 5 لا ) العذاب ((5/279)
" صفحة رقم 280 "
ط ) لآية ( ط ) مؤمنين ( 5 ) الرحيم ( 5 المرسلينر 5 لا ) ألا تتقون ( 5 ج ) أمين ( 5 لا ) وأطيعون ( 5 ج ) أجر ( ج ) العالمين ( 5 ط ) من العالمين ( 5 لا للعطف ) من أزواجكم ( 5 ) عادون ( ط ) المخرجين ( 5 ) القالين ( 5 ) يعملون ( 5 ) أجميعن ( 5 ) الغابرين ( 5 ) الآخرين ( 5 ج ) مطر المنذرين ( 5 ) لآية ( ط ) مؤمنين ( 5 ) الرحيم ( 5. التفسير : القصة الرابعة قصة هود ولنذكر منتفسيرها ما هو غير مكرر. الريع بالكسر وقرئ بالفتح المكان المرتفع ومنه الغلة لارتفاعها. والآية العلم وفي هذا البناء وجوه : فعن ابن عباس أنهم كانوا يبنون بكل موضع مرتفع علماً يعبثون فيه بمن يمر بالطريق غلى هود. وقيل : كانوا يبنون ذلك ليعرف به فخرهم وغناهم فنهوا عنه ونسبوا إلى العبث وقيل : كانوا يقتنون الحمام قاله مجاهد. والمصانع مآخذ الماء. وقيل : القصور المشيدة والحصون. ومعنى ) لعلكم تخلدون ( ترجون الخلود في الدنيا أو ظلماً وعلواً فوصفوا بكونهم إذ ذاك جبارين. وقيل : الجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب. وعن الحسن : اراد أنهم يبادرون العذاب من غير تفكر في العواقب. والحاصل أن اتخاذ الأبنية الرفيعة يدل على حب العلوّ ، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء ، والبطش الشديد يدل على حب التفرد بالعلوّ فكأنهم أحبوا العلوّ وبقاء العلوّ والتفرد بالعلوّ وكل هذه لمن له الصفات الإلهية لا العبدية. ثم بالغ في تنبيههم على نعم الله حيث أجملها بقوله ) واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون ( إيقاظاً لهم عن سنة الغفلة مستشهداً بعلمهم ثم فصلها بقوله ) أمدكم بأنعام ( عليها تدور معايشكم ) وبنين ( بهم يتم أمر حفظها والقيام بها وجناتر يحصل بها التفكه والتنزه ) وعيون ( بمائهايكمل النماء. ثم ختم الكلام بتخويفهم تنبيهاً على أنه كما قدر أن يتفضل عليهم بهذه النعم الجسام فهو قادر على العذاب فيكون فيه مزيد حث على التقوى وكمال تنفر عن العصيان. ثم شرع في حكاية جواب القوم وأنهم قالوا : إن وعظه وعدم وعظه بالنسبة إليهم سيان. وإنما لم يقل ( أوعظت أم لم تعظ ) مع كونه أخصر لأن المراد سواء علينا افعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أو لم تكن من مباشريه وذويه راساً وهذا أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه. منقرأ ) خلق الأولين ( بفتح الخاء فمعناه أن هذا إلا اختلاق الأولين وأكاذيبهم ، أو ما هذا إلا خلق الأقدمين نحيا ونموت ولا بعث ولا جزاء. والقراءة الأخرى معناها لسنا نحن إلا على دين الأولين من آبائنا ، أو ليس ما نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة جارية لا خرق لها ، أو ما خذا الذي جئت به من تلفيق الأكاذيب. إلا عادة مستمرة من المتنبين. ثم أكدوا إنكارهم المعاد بقولهم وما نحن بمعذبينر فأظهروا بذلك جلادتهم وقوة نفوسهم فأخبر الله تعالى عن إهلاكهم وقد سبقت كيفية ذلك مراراً .(5/280)
" صفحة رقم 281 "
القصة الخامسة قصة صالح. قال جار الله : الهمزة في ) أتتركون ( يجوز أن تكون للإنكار اي لا تتركون مخلدين في الأمن والراحة ولكل نغمة زوال ، ويجوز أن تكون للتقرير أي قد تركتم في أسباب الأمن والفراغ ، أجمل أولاً بقوله ) فيما ههنا ( أي في الذي استقر في هذا المكان من النعيم ، ثم فسره بقوله ) في جنات وعيون ( وذكر النخل بعد ذكر الجنات إما تخصيص للجنات بغير النخل ، وإما تخصيص للنخل بالذكر تنبيهاً على فضله ومزيته. وطلع النخلة ما يبدو منها كنصل السيف وقد مر في ( الأنعام ). والهضيم اللطيف الضامر من قولهم ( كشح هضيم ) أراد أنه وهب لهم أجود النخل وألطفه كالبرني مثلاً. وقيل : وصف نخيلهم بالحمل الكثير فإنه إذا كثر الحمل هضم أي لطف. وقيل : الهضيم اللين النضيج كأنه قال : ونخل قد ارطب ثمره. والفراهة الكيس والنشاط ومنه ( خيل فرهة ) و ) فارهين ( حال من الناحتين. قال علماء المعاني : جعل الأمر مطاعاً مجاز حكمي وإنما المطاع بالحقيقة هو الآمر. وفي قوله ولا يصلحونر إشارة إلى أن إفسادهم في الأرض غير مقترن بالإصلاح راساً. والمسحر الذي سحر كثيراً حتى غلب على عقله. وقيل : هو من السحر الرئة. أرادوا أنه بشر ذو سحر وهو ضعيف لأنه يلزم التكرار بقوله : ( ما أنت إلا بشر مثلنا ( إلا أن يقال : إنه بيان. والشرب النصيب من الماء كالسقي للحظ من السقي. وقرئ بالضم عن قتادة إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله ولهم شرب يوم لا تشرب فيه الماء. سؤال : لم أخذهم العذاب وقد ندموا والندم توبة ؟ جوابه كان ندمهم ندم خوف من العقاب العاجل أو ندموا ندم توبة في غير أوانها وذلك عند عيان العذاب. وقيل : ندموا على ترك عقر ولدها وفيه بعد. واللام في العذاب إشارة إلى عذاب يوم عظيم. القصة السادسة : قصة لوط : أنكر على قومه إتيانهم الذكور من الناس لا الإناث على كثرتهن ، أو أنكر عليهم كونهم مختصين من العالمين بهذه الفاحشةز فقوله : ( من العالمين ( يعود على الأول إلى المأتي ، وعلى الثاني إلى الآتي. والعالمون على هذا كل ما ينكح من الحيوان ولا شيء منالحيوان يرتكب هذه الفعلة إلا الإنسان. قوله من أزواجكمر إما بيان لما خلق وإما للتبعيض فيراد بما خلق العضو المباح منهن فلعلهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم. والعادي المتجاوز الحد في ظلم اي ) بل أنتم قوم عادون ( في جميع المعاصي وهذه واحدة منها ، أو بل أنتم قوم أحقاء بأن تنسبوا إلى العدوان حيث فعلتم هذه الجريمة العظيمة. ) قالوا لئن لم تنته يا لوط ( عن نهينا ) لتكونن ( من جملة من أخرجناه من بلدنا ولعلهم كانوا يطردون من خالف أراد أنه كامل في قلاهم عصبية للدين ، أو أنه معدود في زمرة مبغضيهم كما تقول : فلان من العلماء. فيكون أبلغ من قولك ( هو(5/281)
" صفحة رقم 282 "
عالم ). ثم طلب النجاة من عقوبة عملهم أو سأل العصمة عن مثل عملهم ولقد عصمهم الله ) إلا عجوزاً ( رضيت بفعلهم وأعانت على ذلك وكانت من أهله بحث الزواج وإن لم تشاركهم في الإيمان. ومعنى ) في الغابرين ( إلا عجوزاص مقدراً غبورها أي بقاؤها في الهلاك. واللام في ) المنذرين ( للجنس لتصلح الفاء علة فعل الذم والمخصوص محذوف أي ساء مطر جنس المنذرين مطر أولئك المعهودين والله أعلم. ( الشعراء : ( 176 - 227 ) كذب أصحاب الأيكة . . . .
" كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا(5/282)
" صفحة رقم 283 "
وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون "
( القراآت )
ليكة ( بلام مفتوحة بعدها ياء ساكنة وبفتح التاء على أنها ممتنعة من الصرف للعلمية والتأنيث ، وكذلك في ( صاد ) : اي جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر. الآخرون ) الأيكة ( معرفاً مجروراً. ) كسفاً ( بفتح السين : حفص غير الخزاز. اآخرون بسكونها ) ربي أعلم ( بفتح الياء : نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ) ونزل به ( مخففاً ) الروح الأمين ( مرفوعين : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وابو زيد عن المفضل وزيد عن يعقوب. الباقون ) نزل ( مششداً ) الروح الأمين ( منصوبين أو لم تكنر بتاء التأنيث ) آية ( بالرفع : ابن عامر. الباقون بالياء التحتانية ) آية ( بالنصب : ( فتوكل ( بالفاء : أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون بالواو ) من تنزل الشياطين ( بتشديد التاء وكذلك ) تنزل ( البزي وابن فليح ) يتبعهم ( بالتخفيف : نافع ) وادي ( بالياء في الوقف : يعقوب والسرنديبي عن قنبل وقرأ قتيبة بالإمالة. الوقوف : ( المرسلين ( ج 5 ) تتقون ( 5 ) أمين ( 5 لا ) وأطيعون ( 5 ج ) أجر ( ج ) العالمين ( 5 ط ) المخسرين ( ج 5 ) المستقيم ( ج 5 ) مفسدين ( ج 5 ) الأوّلين ( 5 ط ) المسحرين ( 5 لا ) الكاذبين ( 5 ج ) نصف آي القرآن ( ) الصادقين ( 5 ط ) تعملون ( 5 ) الظلة ( ط ) عظيم ( 5 ) لآية ( ط ) مؤمنين ( 5 ) الرحيم ( 5 ) العالمين ( 5 ) الأمين ( 5 لا ) المنذرين ( 5 لا ) مبين ( 5 ) الأولين ( 5 ) إسرائيل ( ط 5 ) الأعجمين ( 5 لا ) مؤمنين ( 5 ط ) المجرمين ( 5 ط بناء على أن ) لا يؤمنون ( مستأنف للبيان ولو جعل حالاً فلا وقف ) الأليم ( 5 لا ) لا يشعرون ( 5 لا ) منظرون ( 5 ط يستعجلونر 5 ) سنين ( 5 لا للعطف ) يوعدون ( 5 لا لأن قوله ما أغنى جملة نفي أو استفهام قامت مقام الشرط ) يمتعون ( 5 ط ) منذرون ( 5 وقد يوقف عليها بناء على أن ) ذكرى ( ليس بمفعول له والمراد ذكرناهم والوقف على ) ذكرى ( جائز ) ظالمين ( 5 ) الشياطين ( 5 ) يستطيعون ( 5 ط ) المعزولون ( 5 ط ) المعذبين ( ج 5 ) الأقربين ( ج 5 للعطف ) المؤمنين ( 5 ) تعملون ( 5 ج ) الرحيم ( 5 لا ) تقوم ( 5 لا ) الساجدين ( 5 ) العليم ( 5 ) الشياطين ( 5 ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار ) أثيم ( ج 5 بناء على أن ) يلقون ( حال من ضمير ) الشياطين ( اي تنزل ملقين السمع أو صفة ) لكل افاك ( وإن جعل مستأنفاً كأن قائلاً قال : لم تنزل ؟ فقيل : يفعلون كيت وكيت فلك الوقف. ) كاذبون ((5/283)
" صفحة رقم 284 "
5 ط ) الغاوون ( 5 ط ) يهيمون ( 5 لا ) لا يفعلون ( 5 ظلموار ط ) ينقلبون ( 5. التفسير : القصة السابعة قصة شعيب وأنه كان أخاً مدين دون أصحاب الأيكة ولهذا لم يقل ( أخوهم شعيب ). يروى أن اصحاب الأيكة كانوا اصحاب شجر ملتف وكان شجرهم الدوم وهي التي حملها المقل. قال في الكشاف : قرئ ) أصحاب ليكة ( بتخفيف الهمزة وبالجر على الإضافة وهو الوجه ، ومن قرأ بالنصب وزعم أن ) ليكة ( بوزن ليلة اسم بلد فتوهم قاد غليه خط المصحف في هذه السورة وفي سورة ص ، ثم اعترض عليه بأن ) ليكة ( اسم لا يعرف. قلت : إنه لا يلزم من عدم العلم بالشيء عدم ذلك الشيء ، والظن بالمتواتر يجب أن يكون أحسن من ذلك. أمرهم شعيب بإيفاء الكيل ونهاهم عن الإخسار وهو التطفيف وأن يجعل الشخص خاسراً فكأنه أمره بالإيفاء مرتين توكيداً ثم زاد في البيان بقوله ) وزنوا بالقسطاطس المستقيم ( وقد مر في سورة سبحان. قال في الكشاف : إن كان من القسط وهو العدل وجعلت السين مكررة فوزنه ( فعلاس ) وغلا فهو رباعي. قلت : إن كان مكرراً فوزنه ( فعلال ) أيضاً. وقوله ( ولا تبخسوا ( تأكيداً آخر وقد سبق في ( هود ). والجبلة الخليقة حذرهم الله الذي تفضل عليهم بخلقهم وخلق من تقدمهم ممن لولا خلقهم لما كانوا مخلوقين. قال في الكشاف : الفرق بين إدخال الواو ههنا في قوله ) وما أنت إلا بشر ( وبين تركها في قصة ثمود هو أنه قصد ههنا معنيان منافيان عندهم للرسالة : كونه مسحراً وكونه بشراً وهناك جعل المعنى الثاني مقرراً للأول. قلت : الفرق بين والإشكال في تخصصيص كل من القصتين بما خصت به ، ولعل السبب فيه هو أن صالحاً قلل في الخطاب فقللوا في الجواب ، وأكثر شعيب في الخطاب ولهذا قيل له خطيب الأنبياء فأكثروا في الجواب. ( وإن ) في قولهم ) وإن نظنك ( هي المخففة من الثقيلة عملت في ضمير شأن مقدر. واللام في قوله ) لمن الكاذبين ( هي الفارقة. والكسف بالسكون والحركة جمع كسفة وهي القطعة وقد مر في سبحان في اقتراحات قريش. والمعنى إن كنت صادقاً في دعوة النبوة فادع الله أن يسقط علينا قطع السماء. وإنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه فأرادوا بذلك إظهار كذبه فحلم عنهم شعيب ولم يدع عليهم بل فوض الأمر إلى الله بقوله : ( ربي أعلم بما تعملون ( يروى أن شعيباً بعث غلى أمتين : اصحاب مدين وأصحاب الأيكة. فأهلكت مدين بصيحة جبرائيل ، وأهلكت اصحاب اليكة بعذاب يوم الظلة وذلك إنه حبس عنهم الريح سبعاً وسلط عليهم الحرّ فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظلٍ ولا ماء ولا شراب ، فاضطروا غلى أن خرجوا إلى الصحراء فأظلتهم سحابة وجدوا لها برداً ونسيماً فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا .(5/284)
" صفحة رقم 285 "
وحين سلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه القصص المؤكدة بالمكررات المختتمة بالمقررات عاد غلى مخاطبته قائلاً ) وإنه ( اي وإن الذي نزل عليك من الأخبار ) لتنزيل رب العالمين ( أي منزله. والباء في ) نزل به ( علىالقراءتين للتعدية ولكنها في قراءة التشديد تقتضي مفعولاً آخر هو الروح أي جعل الله تعالى الروح الأمين نازلاً به على قلبك محفوظاً مفهوماً ) لتكون من المنذرين ( من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة : هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) . ويجوز أن يكون قوله ) لسان ( متعلقاً ) بنزل ( أي نزله ) بلسان عربي ( لتنذر به فإنه لو نزله بالأعجمي لقالوا : ما نصنع بما لا نفهمه. ومن هذا الوجه ينشأ فائدة أخرى لقوله ) على قلبك ( أي نزلناه بحيث تفهمه ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك دون قلبك. والظاهر أن القلب هو العلقة السوداء في جوف الفؤاد وذكر كلاماً طويلاً في أن محل العقل هو القلب دون الدماغ وهو المخاطب في الحقيقة فلهذا قال ) نزله على قلبك ( ونحن قد تركناه لقلة تعلقه بالمقام ولضعف دلائله مع مخالفته لما عليه معظم أرباب المعقول. قوله ) وإنه لفي زبر الأولين ( يعني أن ذكر القرآن مثبت في الكتب السماوية للأمم المتقدمة ، وإن معاني القرآن في تلك الزبر. وقد يحتج به لأبي حنيفة في جواز اقراءة بالفارسية في الصلاة. وقيل : الضمير فيه وفي ) أن يعلمه ( للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأنه حجة ثابتة على نبوته قد شهد بها علماء بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره من الذين أسلموا منهم واعترفوا أن نعته وصفته في كتبهم مذكور ، وكان مشركو قريش يذهبون إلى اليهود يتعرفون منهم هذا الخبر. من قرأ ) يكن ( بالتذكير و ) آية ( بالنصب على الخبر والاسم أن يعلمهر فظاهر ، ومن قرأ ) تكن ( بالتأنيث و ) ىية ( بالرفع على الاسم والخبر ) أن يعلمه ( فقيل : ليست بقوية لوقوع النكرة اسماً والمعرفة خبراً. ويمكن أن يجاب بأن الفعل المضارع مع أن ليس من المعارف الصريحة ، وقد توجه هذه القراءة بتقدير ضمير القصة في ) تكن ( وجملته ) آية أن يعلمه ( و ) لهم ( لغعواً أو ) لهم آية ( ) وأن يعلمه ( بدل من ىية. قال جار الله : إنما كتب علموء بالواو على لغة من يميل الألف إلى الواو ولذلك كتبت الصلوة والزموة بالواو. ثم أكد بقوله ) ولو نزلناه ( ما مر من آية لو نزله بالأعجمي فقرأه عليهم بعض الأعجمين لم يؤمنوا به لأنهم لم يكونوا يفهمونه. وقال جار الله : معناه ولو نزلناه على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية فضلاً أن يقدر على نظم مثله فقرأه عليهم هكذا فصيحاً معجزاً متحدّى به لكفروا به كما كفروا ولتمحلوا لجحودهم عذراً ولسموه سحراً. ثم قال ) كذلك ( أي مثل هذا السلك ) سلكناه ( في قلوبهم وقررناه فيها فعلى أيّ وجه دبر أمرهم فلا سبيل إلى تغييرهم عما هم(5/285)
" صفحة رقم 286 "
عليه من الإنكار والإصرار ، وقد سبق مثل هذه الآية في أول ( لالحجر ). والحاصل أ ، هم لا يزالون على التكذيب حتى يعاينوا الوعيد ، وفيه تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإن اليأس إحدى الراحتين. قال في الكشاف : ليس الفاء في قوله ) فيأتيهم بغتة فيقولوا ( لأجل ترادف العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة ، وإنما المعنى ترتيبها في الشدة كأنه قيل : لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب فما هو أشد منها وهو لحوقه بهم مفاجأة. فما هو أشد منه وهو سؤالهم النظرة. نظيره قولك : : إن أسأت مقتك الصالحون فمقتك الله ، لا تريد الترتيب في الوجود ولكن في الشدة. قلت : هذا معنى صحيح ولكن لا مانع من إرادة الترتيب والتعذيب في الوجود يظهر بالتأمل إن شاء الله العزيز. ثم نكرهم بقوله ) أفبعذابنا يستعجلون ( وفيه إنكار وتهكم أي كيف يستعجل العذاب من لا طاقة له به حتى استمهل بعد أن كان من العمر في مهلة ؟ وجوز في الكشاف أن يكون ) يستعجلون ( حكاية حال ماضية يوبخون بها عند استتنظارهم ، أو يكون متصلاً بما بعده وذلك أنهم اعتقدوا العذاب غير كائن فلذلك استعجلوه وظنوا أنهم يمتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن ، فأنكر الله عليهم استعجالهم الصادر عن الأشر والبطر والاستهزاء والاتكال على طول الأمل. ثم قال : هب أن الأمر كما ظنوه من التمتع والتعمير فإذا لحقهم الوعيد أو الأجل أو القيامة هل ينفعهم ذلك ؟. عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له : عظني فتلا عليه هذه الآية فقال له ميمون : لقد وعظت فأبلغت. ثم بين أنه ما أهلك قرية إلا بعد إلزام الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم ، وعلى هذا يكون ) ذكرى ( متعلقة ) بأهلكنا ( مفعولاً له. ويجوز أن يكون مفعولاً مطلقاً ) لأنذر ( بمعنى التذكرة فإن ) أنذر ( وذكر متقاربان ، أو حالاً من الضمير في ) منذرون ( أو مفعولاً له متعلقاً به أي ينذرونهم ذوي تذكرة أو لأجل الموعظة والتذكير ، أو التقدير : هذه ذكرى فالجملة اعتراض. ويجوز أن يكون صفة ) لمنذرون ( على حذف المضاف أي ذوو ذكرى ، أو جعلوا ذكرى لبلوغهم في التذكرة أقصى غاياتها. والبحث عن وجود الواو وعدمه في مثل هذا التركيب قد مر في أول الحجر في قوله ) وما أهلكنا من قرية إلا ولها طتاب معلوم ) [ الحجر : 4 ] إلا أنا نذكر ههنا سبب تخصيص تلك الآية بالواو وهذه بعدم الواو فنقول : لا ريب أن الواو تفيد مزيد الربط والاجتماع في الحال وفي الوصف إن جوزتا : فسواء قدرنا الجملتين أعني قوله ) ولها كتاب معلوم ) [ الحجر : 4 ] وقوله ( لها منذرون ( حالاً أو وصفاً فالمقام يقتضي ورود النسق على ما ورد ، وذلك أن قوله ) ولها كتاب ( صفة لازمة للقرية فإن الكتب في اللوح وصف أزلي فناسب أن يكون في(5/286)
" صفحة رقم 287 "
اللفظ ما يدل على اللزوم واللصوق وهو الواو ، ثم زيد في التأكيد بقوله ) معلوم ( وبقوله ) ما تسبق ( وهذا بخلاف قوله ) لها منذرون ( فإنها صفة حادثة فأطلقت وجود صدر الجملة عن الواو لذلك والله أعلم. ثم إنه لما احتج على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بكون القرآن معجزاً منزلاً من رب العالمين مشتملاً على معاني كتب الأولين وكان الكفار يقولون إنه من إلقاء الجن كحال الكهنة أراد أن يزيل شبهتهم بقوله : ( وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم ( التنزل بالوحي ) وما يستطيعون (. ثم بين عدم اقتدارهم بقوله ) إنهم عن السمع ( أي عن سماع كلام أهل السماء ) لمعزولون ( وذلك بواسطة رجم الشهب كما أخبر عنه الصادق والمعجزات يتساند بعضها ببعض ، ولو فرض أنهم غير مرجومين بالشهب فالعقل يدل على أن الاهتمام بشأن الصديق أقوى منه بشأن العدو ، وكان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يلعن الشياطين ويأمر الناس بلعنهم فلو كان الغيب بإلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم ذلك. وحين أثبت حقية القرآن أمر نبيه بجوامع مكارم الأخلاق ومحاسن العادات قائلاً ) فلا تدع ( والمراد أمته كما مر في نظائره من قوله ) ولئن اتبعت أهواءهم ) [ البقرة : 120 ] وغير ذلك ) وأنذر عشيرتك الأقربين ( فيه أن الاهتمام بشأن من هو أقرب إلى المرء أولى. وفيه أنه يجب أن لا يأخذه في باب التبليغ ما يأخذ القريب للقرب من المساهلة ولين الجانب. يروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما نزلت الآية صعد الصفا فنادى الأقرب فالأقرب فخذاً فخذاً وقال : يا بني عبد المطلب يا بني هاشم يا بني عبد مناف يا عباس عم النبي يا صفية عمة رسول الله : إني لا أملك لكم من الله شيئاً سلوني من المال ما شئتم. وروي أنه جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً ، الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس على رجل شاة ، فأكلوا وشربوا حتى شبعوا ثم أنذرهم فقال : يا بني عبد المطلب لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقي ؟ قالوا : نعم. قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قوله ) واخفض جناحك ( قد مر تفسيره في آخر ( الحجر ) وفي ( سبحان ) وزاد ههنا ) لمن اتبعك ( كيلا يذهب الوهم إلى أن خفض الجناح وهو التواضع ولين الجانب مختص بالمؤمنين من عشيرته. وإنما لم يقتصر على قوله ) لمن اتبعك ( لأن كثيراً منهم كانوا يتبعونه للقرابة والنسب لا للدين. وقال في الكشاف : سبب الجمع بين اللفظين هو أنه سماهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك ، أو أراد بالمؤمنين المصدّقين بالألسنة فزاد قوله ) لمن اتبعك ( ليخرج من صدّق باللسان دون الجنان ، أو صدق بهما ولم يتبعه في العمل. وحين أمره بالتواضع لأهل الإخلاص في الإيمان أمره بالتبرئة من ارباب العصيان. فاستدل الجبائي به على أن الله تعالى أيضاً بريء من عملهم فكيف يكون فاعلاً له ؟ وأجيب بأنه إن أراد ببراءة الله أنه ما أمر بها فمسلم ، وإن أراد أنه لا(5/287)
" صفحة رقم 288 "
يريدها فممنوع لانتهاء جميع الحوادث إلى إرادته ضرورة قوله ) وتوكل ( معطوف على قوله ) فلا تدع ( أو على قوله ) فقل ( أمره بتفويض الأمر في دفع أعاديه إلى العزيز الذي يقهر من ناوأ أولياءه الرحيم الذي لا يخذل من ينصر دينه. قال بعض العلماء : المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما فيه معصية الله عز وجل ، ولو وقع في محنة واستعان في دفعها ببعض المخلوقين لم يخرج من حد المتوكلين ، ثم عدد مواجب الرحمة وهي رؤيته قيامه وتقلبه في الساجدين أي في المصلين. وللمفسرين فيه وجوه منها : ما روي أنه حين نسخ فرض التهجد طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه حرصاً عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات فوجدها كبيوت الزنانير ذكراً وتلاوة. فالمراد بتقلبه في لاساجدين تفصح أحوال المتهجدين من اصحابه ليطلع عليهم كيف يعملون لآخرتهم. ومنها أن المراد تصرفه فما بين المؤمنين به بالقيام والركوع والسجود والقعود. ويروى عن مقاتل أنه استدل به على وجود فضلا صلاة الجماعة في القرآن. ومنها أنه إشارة إلى ما جاء في الحديث ( أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلف ظهري ) فالتقلب تقلب بصره فيمن يصلي خلفه. وقيل : أراد أنه لا يخفى علينا كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين. وقد احتج بالآية علماء الشيعة على مذهبهم أن آباء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يكونون كفاراً. قالوا : أراد تقلب روحه من ساجد إلى ساجد كما في الحديث المعتمد عليه عندهم ( لم أزل أنتقل من اصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ) وناقشهم أهل السنة في التأويل المذكور وفي صحة الحديث. والأصوب عندي أن لا نشتغل بمنع أمثال هذه الدعوى ونسرح إلى بقعة الإمكان على أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلوم. ثم أكد قوله وما تنزلت به الشياطين بقوله هل أنبئكم على من تنزلر قال في الكشاف : تقديره أعلى من تنزل ؟ ليكون الاستفهام في صدر الكلام كقولك : أعلى زيد مررت ؟ قلت : هذا تكلف بارد لأن لااستفهام في ( من ) ضمني لا يصرح به قط. والفاك الكثير الإفك ، والأثين مبالغة آثم وهم الكهنة والمتنبئة كسطيح ومسيلمة وأمثالهما. والضمير في ) يلقون ( عائد إلى الشياطين كانوا قبل الرجم بالشهب يختطفون بعض الغيوب من الملأ الأعلى بإلقاء ) السمع ( أي بالإصغاء ثم يرجعون به إلى أوليائهم ) وأكثرهم كاذبون ( لأنهم يخلطون الحق المسموع بكلامهم الباطل كما جاء في الحديث ( الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة ). والقر الصب. وقيل : السمع بمعنى السمموع أي يلقي الشياطين إلى أوليائهم ما يسمعونه من الملائكة. ويحتمل أن يكون الضمير في : ( يلقون ( للأفاكين والسمع الأذن أو المسموع أي يلقونه السمع إلى لاشياطين فيتلقون(5/288)
" صفحة رقم 289 "
وحيهم ، أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس. وإنمالم يقل ( وكلهم كاذبون ) لأن الكذوب قد يصدق فيصدق عليه انه صادق في الجملة لأن هذه عبارة الفصحاء لا يحكمون حكماً كلياً ما لم تدع إليه ضرورة. والحاصل أنهم كانوا يقيسون حال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على حال الكهنة فقيل لهم : إن الأغلب على الكهنة الكذب ولم يظهر من أحوال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلا الصدق ، فكيف يكون كاهناً ؟ ثم بين ما يعرف منه أن النبي ليس بشاعر كما أنه ليس بكاهن فقال ) والشعراء يبعهم الغاوون ( قيل : أي الشياطين. والأظهر أنهم الذين يروون أشعارهم وكان شعراء قريش مثل عبد الله بن الزبعري وأمية بن أبي الصلت يهجون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أهاجيهم فنزلت. ثم بين غوايتهم بقوله ) ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ( وهو تمثيل لذهابهم في كل شعب منالقول يمدحون إنساناً معيناً تارة ويذمونه أخرى غالين في كلا الطرفين مستعملين التخيل في كل ما يرومونه. وذكر من قبائح خصالهم ) أنهم يقولون ( عند الطلب والدعاوي ) مالا يفعلون ( ولعمري إنها خصلة شنعاء تدل على الدناءة واللؤم. قالوا وما فعلوا وأين هم
من معشر فعلوا وما قلوا
وعن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله : فبتن بجانبيّ مصرعات
وبت أفض أغلاق الختام
فقال : وجب عليك الحد : قال : قد درأ الله عني الحد يا أمير المؤمنين وتلا الآية. ثم استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم الذكر والفكر فيما لا بأس به من المواعظ والنصائح ، ومدح الحق وذويه ، ويكون هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم مثل عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن زهير كانوا ينافحون عن رسول الله صلى الله عليه سولم. وعن كعب بن مالك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال له : اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل. وكان يقول لحسان : هاجهم وروح القدس معك. والحاصل أن النظر في الشعر إلى المعنى لا على مجرد النظم والروي. فإن كان المعنى صحيحاً مطابقاً للحق والصدق فلا بأس بإِدخاله في سلك النظم والقافية بل لعل النظم يروجه ويهيج الطبع على قبوله وهو الذي عناه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن من الشعر لحكماً ). وإن كان المعنى فاسداً والغرض غير صحيح فهو(5/289)
" صفحة رقم 290 "
الذي توجه الذم غليه. وللانتصار حد معلوم وهو أن لا يزيد على الجواب لقوله تعالى : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) [ البقرة : 194 ] وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يتعدى المظلوم ) ثم ختم السورة بآية جامعة للوعيد كله فقال ) وسيعلم الذين ظلموا ( خصصه بعضهم بالشعراء إذا خرجوا عن حد الإنصاف ، ومالوا إلى الجور والاعتساف ، ولعله عام يتناول لكل من ظلم نفسه بالإعراض عن تدبر ما في السورة بل القرآن كله. وقوله ( أيّ منقلب ( صفة لمصدر محذوف والعامل ) ينقلبون ( أي ينقلبون في الدركات السفلى انقلاباً أيّ منقلب ولا يعمل فيه ) يعلم ( لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وعن ابن عباس أنه قرأه بالفاء والتاء والمراد سيعلمون أنه ليس لهم وجه من وجوه الانفلات وهو النجاة. التأويل : ( ولو نزلناه على بعض الأعجميين ( فيه إظهار القدرة من وجهين : الأول جعل الأعجمي بحيث يقرا العربي عليهم كقول القائل : أمسيت كردياً واصبحت عربياً. والثاني أن أهل الإنكار لا يصيرون أهل الإقرار ولو أتاهم مثل هذا الإعجاز البين ، وذلك لأن الله كذلك يسلكه في قلوبهم فيأتيهم عذاب البعد والطرد في الدنيا ) بغتة وهم لا يشعرون ( لأنهم نيام فإذا ماتوا انتبهوا فيقولون هل نحن منظرون. ) زما ينبغي لهم وما يستطيعون ( لأنهم خلقوا من النار والقرآن نور قديم فلا يكون للنار المخلوقة قوة حمل النور القديم ، ولهذا تستغيث النار من نور المؤمن وتقول : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي. ) فتكون من المعذبين ( لأن كل من طلب مع الله شيئاً آخر حتى الجنة فله عذاب البعد والحرمان من الله. ) وأنذر عشيرتك ( فيه أن النسب نسب النفوس فإن أكل المرء يشبعه ولا يشبع ولده. إلا إذا أكل الطعام كما أكل والده وهذا معنى المتابعة. ) إني بريء مما تعملون ( لم يقل ( إني بريء منكم ) لأن المراد لا تبرأ منهم وقل لهم قولاً جميلاً بالصنح والموعظة الحسنة حتى يرجعوا ببركة دعوتك إلى القول الحق ، أو ينالوا الجنة بواسطة شفاعتك. ) وتقلبك في الساجدين ( بأن خلق روح كل ساجد من روحك. ) إنه هو السميع ( في الأزل مقالتك ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) لأن أرواحهم خلقت من روحك ) العليم ( باستحقاقك لهذه الكرامة الله تعالى حسبي .(5/290)
" صفحة رقم 291 "
سورة النمل
( سورة النمل مكية حروفها أربعة آلاف وستمائة وتسعة وتسعون كلمها ألف وتسعة آياتها ثلاث وتسعون ) بسم الله الرحمن الرحيم ( النمل : ( 1 - 14 ) طس تلك آيات . . . .
" طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين "
( القراآت )
إني آنست ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ) بشهاب ( منوناً على أن قبساً وهو بمعنى مقبوس بدل أو صفة : عاصم وحمزة وعلي وخلف ورويس. الباقون بالإضافة ) من في النار ( ممالة : عليّ غير ليث وابي حمدون وحمدويه وحمزة وفي رواية ابن سعدان والنجاري عن ورش وأبو عمرو غير إبراهيم بن حماد وكذلك في ( القصص ). الوقوف : ( طس ( 5 ) مبين ( 5 لا بناء على أن ) هدى ( حال والعامل معنى الإشارة(5/291)
" صفحة رقم 292 "
في ) تلك ( أو هو مرفوع بدلاً من ) الآيات ( أو خبراً بعد خبر وإن كان التقدير هي هدى به فلك الوقف ) للمؤمنين ( 5 لا لأن ) الذين ( صفتهم ) يوقنون ( 5 ) يعمهون ( 5 ط تنصيصاً على أن ) أولئك ( مبتدأ مستأنف ) الأخسرون ( 5 ) عليم ( 5 ) ناراً ( 5 ) تصطلون ( ) حولها ( ط ) العالمين ( 5 ) الحكيم ( 5 لا للعطف الجملتين الداخلتين تحت النداء ) عصاك ( ط للعدول عن بيان حال الخطاب إلى ذكر حال المخاطب مع حذف أي فألقاها فحييت ) ولم يعقب ( ط لابتداء النداء ) المرسلون ( 5 لا لأن ( إلاّ ) إن كان بمعنى ( لكن ) فالاستدراك يوجب الوصل أيضاً. ) رحيم ( 5 ) وقومه ( ط ) فاسقين ( 5 ) مبين ( ج 5 للآية والعطف ) وعلواً ( ط لاختلاف الجملتين وتعظيم الأمر بالاعتبار بعد حذف أي فأغرقناهم ) المفسدين ( 5. التفسير : تلك الآيات التي تضمنتها هذه السورة آيات القرآن الذي علم أ ، ه منزل مبارك مصدق لما بين يديه وكتاب مبين. فإن أريد به اللوح فآياته أنه أثبت فيه كل كائن ، وإن أريد به لاسورة أو القرآن فالغرض تفخيم شأنهما من قبل التنكير. فآياتهما أن إعجازهما ظاهر مكشوف وفيهما من العلوم والحكم ما لا يفخى ، ولأن الواو لا تفيد الترتيب فلا حكمة ظاهرة في عكس الترتيب بين ما ههنا وبين ما في أول ( الحجر ). ومعنى كون الآيات هدى وبشرى أنها تزيد في إيمانهم وتبشرهم بالثواب. قال جار الله : يحتمل أن يكون قوله ) وبالآخرة هم يوقنون ( من تتمة الموصول إلا أن الأوجه أن يكون جملة مستقلة ابتدائية شبيهة بالمعترضة بدليل تكرير المبتدأ الذي هو هم فكأنه قيل : وما يؤمن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح ، لأن خوف العاقبة هو الذي يسهل عليهم متاعب التكاليف. وأقول : إنه وصفهم بالإيمان ليكون إشارة إلى معرفتهم المبتدأ ، ثم وصفهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهما الطاعة بالنفس والمال ، وهذه إشارة إلى وسط. ثم وصفهم بمعرفة المعاد فلا أحسن من هذا النسق. وفيه أن المهتدي بالقرآن حقيقة هو الذي يكون موقناً بأحوال المعاد لا شاكاً فيها ، آتياً بالطاعات للاحتياط قائلاً : إن كنت مصيباً فيها فقد نلت السعادة وإن كنت مخطئاً فلم تفتني إلا لذات يسيرة زائلة. ثم أورد وعيد المنكرين للمعاد وإسناد تزيين الأعمال إلى الله ظاهر على قول الأشاعرة ، وأما المعتزلة فتأولوه بوجوه منها : أنه استعارة فكأنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق وجعلوا ذلك التمتع ذريعة إلى اتباع الشهوات وإيثار اللذات فقد زين لهم بذلك أعمالهم. ومنها أنه مجاز حكمي وهو الذي يصححه بعض الملابسات. ولا ريب أن إمهال الشيطان وتخليته حتى زين لهم أعمالهم كما قال ) وزين لهم الشيطان أعمالهم ) [ النمل : 24 ] ملابسة ظاهرة للتزيين. ومنها أنه أراد زيناً(5/292)
" صفحة رقم 293 "
لهم أمر الدين ولا يلزمهم أن يتمسكوا به وذلك أن بينا لهم حسنه وما لهم فيه من الثواب ) فهم يعمهون ( يعدلون ويتحيرون عما زينا لهم قاله الحسن لهم سوء العذابر أي القتل والأسر كيوم بدر. ثم مهد مقدمة لما سيذكر في السورة من الأخبار العجيبة فقال ) وإنك لتلقى القرآن ( لتؤتاه وتلقنه من عند أيّ حكيم وأيّ عليم. و ) إذ قال ( منصوب ب ) عليم ( أو باذكر كأنه قيل : خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى العجيبة الشأن. والخبر خبر الطريق لأنه كان قد ضله. وفي قوله سآتيكمر مع قوله في ( طه ) و ( القصص ) ) لعلي آتيكم ) [ طه : 10 ] دليل على أنه كان قوي الرجاء إلا أنه كان يجوّز النقيض ، وعد أهله بأنه يأتيهم بأحد الأمرين وإن أبطأ لبعد المسافة أوة غيره. قالوا : في ( أو ) دليل على أنه جزم بوجدان أحد الأمرين ثقة بعناية الله تعالى أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده والاصطلاء بالنار الاستدفاء بها والاجتماع عليها وإنما خصت هذه السورة بقوله فلما ) جاءها ( وقد قال في ( طه ) و ( القصص ) ) فلما أتاها ) [ طه : 11 ] ( نودي ( لأنه كرر لفظ ) آتيكم ( ههنا بخلاف السورتين فاحترز من تكرار ما يقاربه في الاشتقاق مرة أخرى. و ) أن ( مفسرة لأن النداء فيه معنى القول لا مخففة من الثقيلة بدليل فقدان ( قد ) في فعلها. قال جار الله : معنى ) بورك من في النار ( بورك من في مكان النار ، ومن حول مكانها ، ومكانها البقعة التي حصلت النار فيها كما قال في القصص ) نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة ) [ القصص : 30 ] وسبب البركة حدوث أمر ديني فيها وهو تكليم الله إياه وإظهار المعجزات عليه. وقيل : معنى بورك تبارك ، والنار بمعنى النور أي تبارك من في النار وهو الله سبحانه مروي عن ابن عباس. وعن قتادة والزجاج أن منفي النار هو نور الله ، ومن حولها الملائكة. وقال الجبائي : ناداه بكلام سمعه من الشجرة في البقعة المباركة وهي الشأم فكانت الشجرة محلاً ببكلام والمتكلم هو الله بأن خلقه فيها ، ثم إن الشجرة كانت في النار ومن حولها الملائكة. وقيل : من في النار هو موسى لقربه منها ، ومن حولها الملائكة. وفي الابتداء بهذا الخطاب عند مجيء موسى بشارة له بأنه قد قضي أمر عظيم تنتشر منه البركة في أرض الشأم. وفي قوله ) وسبحان الله رب العالمين ( تنزيه له عما لا يليق بذاته من الحدوث والحلول ونحوهما مما هو من خواص المحدثات ، وتنبيه على أن الكائن من جلائل الأمور التي لا يقدر عليها إلا رب العالمين. والهاء في ) إنه ( إما للشأن وإما راجع إلى ما دل عليه سياق الكلام أي أن المتكلم ) انا ( وعلى هذا فالله مع وصفيه بيان لانا وفيه تلويح إلى ما أراد إظهاره عليه ، يريد أنا القادر القوي على إظهار الخوارق الحكيم الذي لا يفعل جزافاً(5/293)
" صفحة رقم 294 "
ولا عبثاً. وقوله ( وألق عصاك ( معطوف على ) بورك ( وكلاهما تفسير ) نودي ( والمعنى : قيل له بورك وألق : ومعنى ) لم يعقب ( لم يرجع يقال : عقب المقاتل إذا كر بعد الفر. وإنما اقتصر ههنا على قوله ) ى تخف ( ولم يضف إليه أقبل كما في ( القصص ) لأنه أراد أن يبني عليه قوله ) إني لا يخاف لدي المرسلون ( وسبب نفي الخوف عن الرسل مشاهدة مزيد فضل الله وعنايته في حقهم. ثم استثنى من ظلم منهم بترك ما هو أولى به ، وقد مر بحث عصمة الأنبياء في أول ( البقرة ). وفي الآية لطائف وإشارات منها : أنه أشار بقوله ) أني لا يخاف لديّ المرسلون ( إلى أن موسى قد جعل رسولاً. ومنها أنه أشار بقوله ) إلا من ظلم ( إلى ما وجد من موسى في حق القبطي ، وبقوله ) ثم بدل حسناً بعد سوء ( أي توبة بعد ذنب إلى قول موسى ) رب إن يظلمت نفسي فاغفر لي ) [ القصص : 16 ] وقرئ ( الا ) بحرف التنبيه. ومنها أنه أشار بقوله ) ثم بدل ( معطوفاً على ) ظلم ( إلى أن النبي المرسل بدّل النية ولم يصر على فعله وإلا كان هذا العطف مقطوعاً عن الكلام ضائعاً ، فإنه إذا ظلم ولم يبدل كان خائفاً أيضاً. ومنها أنه أشار بقوله ) فإني غفور رحيم ( إلى أن الخوف وإن لحق المستثنى إلا أنه منفي عنه أيضاً بسبب غفرانه ورحمته ، فنفي الخوف ثابت على كل حال فهذا الاستثناء قريب من تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله : هو البدر إلا أنه البحر زاخر وكقوله : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
وهذه اللطائف مما سمح بها الخاطر أوان الكتابة أرجو أن تكون صواباً إن شاء العزيز قوله وأدخل يدكر وفي ( القصص ) ) اسلك يدك ) [ القصص : 32 ] موافقة لأضمم ولأن المبالغة في ) أدخل ( أكثر منها في ) أسلك ( لأن سلك لازم ومتعد. وهناك قال ) فذانك برهانان ) [ القصص : 32 ] وههنا قال ) في تسع آيات ( وكان أبلغ في العدد فناسب الأبلغ في اللفظ. قال النحويون : متعلق الجار محذوف مستأنف أي أذهب في تسع آيات. أو المراد وأدخل يدك في تسع أي في جملتهن وعدادهن ، اذهب إلى فرعون. وتفسير التسع قد مر في آخر ( سبحان ) وإنما قال ههنا ) إلى فرعون وقومه ( دون أن يقول ) وملئه ) [ الآية : 32 ] كما في القصص لأن الملأ أشراف القوم وقد وصفهم ههنا بقوله ) فلما جاءتهم ( إلى قوله ) ظلماً وعلواً ( فلم يناسب أن يطلق عليهم لفظ ينبئ عن المدح. ومعنى ) مبصرة ( ظاهرة بينة كأنها تبصر بطباق العين فتهدي ، ويجوز أن يكون الإِبصار مجازاً باعتبار إبصار صاحبها وهو(5/294)
" صفحة رقم 295 "
كل ذي عقل أو فرعون وقومه. والواو في ) واستيقنتها ( للحال وقد مضمرة وفي زيادة ) انفسهم ( إشارة إلى أنهم أظهروا خلاف ما أبطنوا والاستيقان أبلغ من الإيقان. وقوله ( ظلماً وعلواً ( أي كبراً وترفعاً مفعول لأجلهما. وقرئ ) مبصرة ( بفتح الميم نحو ( مبخلة ) قرأها علي بن السحين وقتادة والله أعلم. التأويل : طا طلب الطالبين ، وسين سلامة قلوبهم من تعلقات غير الله ، تلك دلالات القرآن وشواهد أنواره ) وكتاب مبين ( فيه بيان كيفية السلوك ولذلك قال ) هدى وبشرى للمؤمنين ( بالوصول إلى الله الذين يستقيمون في المعارج لحقائق الصلوات ويؤتون الزكاة أموالهم وأحوالهم بالإضافة على المستحقين ) زيناً لهم أعمالهم ( الدنيوية النفسانية ) فهم يعمهون ( لعمي قلوبهم عن رؤية الآخرة ونعيمها ، ولا يكون في عالم الآخرة أعمى إلا كان اصم وأبكم ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( حبك للشيء يعمي ويصم ) فبحب الدنيا صمت عين القلب وصمت أذنه وصار أبكم عن العلم اللداني والنطق به ، وهو سوء العذاب ، وهو الموجب لخسران الدارين مع خسران المولى ، وإنما يكون خسران الدارين ممدوحاً إذا ربح المولى. وجد أبو زيد في البادية قحفاً مكتوباً عليه خسر الدنيا والآخرة فبكى وقبله وقال : هذا رأس صوفى. وحين أخبر عن مقامات المؤمنين ودركات الكافرين أخبر عن مقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ) وإنك لتلقى القرآن ( لا من عند جبريل بل ) من لدن حكيم ( تجلى لقلبك بحكمة القرآن ) عليم ( يعلم حيث يجعل رسالته. ثم ضرب مثالاً لذلك وهو أن موسى القلب لما كشف له أنوار شواهد الحق في ليلة الهوى وظلمة الطبيعة قال لأهلهر وهم النفس وصفاتها ) إني آنست ناراً ( بوادي أيمن السر ) لعلكم تصطلون ( بتلك النار عن جمود الطبيعة ) فلما جاءها ( على قدمي الشوق وصدق الطلب ) نودي ( من الشجرة الروحانية ) أن بورك من في ( نار المحبة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ) ومن حولها ( كالفراش يريد أن يقع فيها و ) ألق ( عن يد همتك كل ما تعتمد عليه سوى فضل الله فإنه جان في الحقيقة ) ولى مدبراً ( هارباً إلى الله ) ولم يعقب ( لم يرجع إلى غيره فلذلك نودي ب ) لا تخف ( فإن القلوب الملهمة الموصلة إليها الهدايا والتحف والالطاف لا تخاف سوى الله ) إلاَّ من ظلم نفسه ( بالرجوع إلى الغير ) وأدخل ( يد همتك في جيب قناعتك ) تخرج بيضاء ( نقية من لوث الدارين ) في تسع آيات ( من أسباب هلاك النفس وصفاتها ) فانظر كيف كان عاقبة ( الذين أفسدوا الاستعداد الفطري والله أعلم .(5/295)
" صفحة رقم 296 "
( النمل : ( 15 - 44 ) ولقد آتينا داود . . . .
" ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون قالوا نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني(5/296)
" صفحة رقم 297 "
ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين "
( القراآت )
وادي النمل ( ممالة : عباس وقتيبة. وقرأ يعقوب وعلي والسرنديبي عن قنبل بالياء في الوقف. ) لا يحطمنكم ( بالنون الخفيفة : عباس ورويس. ) أوزعني ( بفتح الياء : ابن كثير وكذلك في ( الأحقاف ) ) ما لي لا ( بفتح ياء المتكلم : ابن كثير وعلي وعاصم ) ليأتيني ( بنون الوقاية بعد الثقيلة : ابن كثير. ) فمكث ( بفتح الكاف : عاصم وسهل ويعقوب غير رويس. الآخرون بضمها ) من سبأ ( بفتح الهمزة لامتناع الصرف : البزي وأبو عمرو وعن قنبل بهمزة ساكنة. وفي رواية أخرى عنه وعن ابن فليح وزمعة بغير همز. الباقون بهمزة منونة مكسورة ، وكذلك في سورة سبأ. ) ألا يسجدوا ( مخففاً : يزيد وعلي ورويس. الآخرون بالتشديد. وقال ابن مجاهد : إذا وقفوا على ) إلا ( وقفوا على ( ألا ياء ) والابتداء ) اسجدوا ( ) تخفون ( و ) تعلنون ( بتاء الخطاب فيهما : علي وحفص والباقون على الغيبة ) فألقه ( بسكون الهاء : حمزة وعاصم غير المفضل وأبو عمرو غير عباس ، وقرأ باختلاس حركة الهاء : يزيد وقالون ويعقوب غير زيد وأبو عمرو من طريق الهاشمي عن اليزيدي الباقون بالإشباع ) إني القي ( بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع ) أتمدونني ( بالياء في الحالينك ابن كثير وسهل وافق به أبو جعفر ونافع وأبو عمرو في الصول ) اتمدوني ( بتشديد النون وبالياء في الحالين : حمزة ويعقوب. الآخرون بإظهار النونين وحذف الياء ) أتاني الله ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن فليح وحفص. فمن فتح الياء فالوقف بالياء لا يغر ، من حذف الياء فإنه يقف بغير الياء إلا سهلاً ويعقوب فإنهما يقفان بالياء. وقرأ علي ) آتاني الله ( بالإمالة ) أنا آتيك ( بالإمالة وكذلك ما بعده : حمزة في رواية خلف وابن سعدان والعجلي وأبي عمرو وخلف لنفسه ) فلما رايه ( بكسر الراء : نصير ) ليبلوني ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع. ) ساقيها ( وبابه بالهمز : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل والأحسن تركها. قال في الكشاف : من همز فوجهه أنه سمع سؤقاً فأجرى عليه الواحد. الوقوف : ( علماً ( ج للعدول المبينعن بيان إيتاء الفضل ابتداء إلى ذكر قول المنعم عليهما شكراً ووفاء ) المؤمنين ( 5 ) شيء ( ط ) المبين ( 5 ) يوزعون ( 5 ) النمل ( لا لأن ما بعده جواب ( إذا ) ) مساكنكم ( ج لانقطاع النظم لنهي الغائب مع اتحاد القائل ) وجنوده ( لا لآن الواو للحال ) لا يشعرون ( 5 ) الصالحين ( 5 ) الهدهد ( ز على معنى بل أكان من الغائبين على معنى التهديد والأصح أن ( أم ) متصل بمعنى الاستفهام في ) مالي ( أي أنا لا اراه أو هو غائب ) الغائبين ( 5 ) مبين ( 5 ) يقيم ( 5 عظيمر 5 ) لا يهتدون ( 5 لا ومن خفف(5/297)
" صفحة رقم 298 "
) ألا ( وقف مطلقاً ) تلعنون ( 5 ) العظيم ( 5 سجدة ) الكاذبين ( 5 ) يرجعون ( 5 ) كريم ( 5 ) الرحيم ( 5 لا لتعلق ( أن ) ) مسلمين ( 5 ) أمري ( ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل ) تشهدون ( 5 ) تأمرين ( 5 ) أذلة ( ج لأن قوله ) وكذلك ( يحتمل أن يكون من تتمة قولها أو هو تصديق من الله لما قالت ) يفعلون ( 5 ) المرسلون ( 5 ) بمال ( ز لانتهاء الساتفهام مع فاء التعقيب وبيان الاستغناء على التعجيل ) آتاكم ( ج لاختلاف الجملتين على أن ( بل ) ترجح جانب الوقف ) تفرحون ( 5 ) صاغرون ( 5 ) مسلمين ( 5 ) مقامك ( ج للابتداء بإن مع اتحاد القائل ) أمين ( 5 ) طرفك ( ط للعدول ) أم أكفر ( 5 ) لنفسه ( ج ) كريم ( 5 ) لا يهتدون ( 5 ) عرشك ( ط ) هو ( ج لاحتمال أن يكون ما بعده من كلامها أو من كلام سليمان ) مسلمين ( 5 ) من دون الله ( ط ) كافرين ( 5 ) الصرح ( ج ) ساقيها ( ط ) قوارير ( 5 ) العالمين ( 5. التفسير : لما فرغ من قصة موسى شرع في قصة ثانية وهي قصة داود وابنه سليمان. والتنوين في ) علماً ( إما للنوع أي طائفة من العلم أو للتعظيم أي علماً غزيراً. قال علماء المعاني : الواو في ) وقالا ( للعطف على محذوف لأن هذا مقام الفاء كقولك : أعطيته فكشر. فالتقدي : ولقد آتيناهما علماً فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة والفضيلة فيه ) وقالا الحمد لله ( وبيانه أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان مسبوقاً بعمل القلب وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية ، وبعمل الجوارح وهو الاشتغال بالطاعات فكأنه قال : ولقد آتيناهما علماً فعملاَ به قلباً وقالباً ) وقالا ( باللسان ) الحمد لله ( قلت : لقائل أن يقول : الصل عدم الإضمار وقوله هذا مقام الفاء ممنوع ، وإنما يكون كذلك إذا أريد التعقيب ولاتسبيب فإن كان المراد مجرد الإخبار عما فعل بهما وعما فعلا فالواو كقولك ( أعطيته وشكر ). وقوله ( على كثير من عباده ( يجوز أن يكون وارداص على سبيل التواضع وإن كانا مفضلين على جميع أهل زمانهما. ويجوز أن يكون وارداً على الحقيقة بالنسبة إلى زمانهما أو بالنسبة إلىس ائر الأزمنة وهذا أظهر ، وإنما وصف العباد بالمؤمنين لئلا يظن أن سبب الفضيلة هو مجرد الإيمان ولكن ما يزيد عليه من الاستغراق في بحر العبودية والعرفان. وفي الآية دليل على شرف العلم وأن العالم يجب أن يتلقى علمه بشكر الله تعالى قلباً وقالباً وما التوفيق غلا منه. قوله وورث سليمان داودر عن الحسن أنه المال لأن النبوة عطية مبتدأة ، وزيف بأن المال أيضاً عطية مبتدأة ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمنماً ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً. ومات المانع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام بها عند موته كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته. والظاهر أنه أراد وراثة النبوة والملك معاً دليله قوله تشهيراً لنعمة الله(5/298)
" صفحة رقم 299 "
ودعاء للناس إلى تصديق المعجزة ) يا أيها الناس علمنا منطق الطير ( والمنطق يشمل كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف مفيداص وغير مفيد ، ومنه قولهم ( نطقت الحمامة ). قال المفسرون : إنه تعالى جعل الطير في ايامه مما له عقل وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها. يحكى أنه مر على بلبل في شجرة فقال لأصحابهك إنه يقول : إني أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفا أي التراب. وصاحت فاخته فأخبر أنها تقول : ليت الخق لم يخلقوا. وصاح طاوس فقال : يقول : كما تدين تدان. وأخبر أن الهدهد يقول : استغفروا الله يا مذنبون. والخطاف يقول : قدموا خيراً تجدوه. والرخمة تقول : سبحان ربي الأعلى من سمائه وارضه. والقمريّ يقول : سبحان ربي الأعلى. والقطاة تقول : من سكت سلم. والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه. والديك يقول : اذكروا الله يا غافلون. والنسر يقول : يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول : في البعد من الناس أنس. ومعنى من كل شيء بعض كل شيء. وقال في الكشاف : أراد كثرة ما أوتي كما تقول ( فلان يقصده كل أحد ) تريد كثرة قاصديه. وإنما قال ) علمنا ( ) وأوتينا ( لأنه أراد نفسه واباه ، ويجوز أن يريد نفسه فقط لا على طريق التكبر بل على عادة الملوك يعظمون أنفسهم لمصلحة التهييب. وقوله ( إن هذا لهو الفضل المبين ( قول وارد على سبيل الشكر والتحدث بالنعم كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) أي أقول هذا شكراً لا فخراً. يروى أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة فرسخ. خمسة وعشرون للجن ومثله للإنس ومثله للطير ومثله للوحش ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلثمائة منكوحة وسبعمائة سرية ، وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسم فرسخاً في فرسخ ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، فتقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسيّ الذهب والعلماء على كراسيّ الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر ، وإن كان يقول مع ذلك : لتسبيحه واحدة يقبلها الله خير مما أوتي آل داود. ومعنى يوزعونر يحبسون. قيل : كانوا يمنعون من يتقدم من عسكره ليكون مسيره مع جنوده على ترتيب ، ومنه يعلم أنه كان في كل قبيلة منها وازع يكون له تسلط على الباقين يكفهم ويصرفهم. ومعنى ) أتوا على واد النمل ( قطعوه وبلغوا آخره من قولهم ( أتى على الشيء ) إذا أنفذه(5/299)
" صفحة رقم 300 "
وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي. ويجوز أن يقصد إتيانهم من فوق لأن الريح كانت تحلهم في الهواء فلذلك عدي ب ( على ) عن قتادة أنه دخل الكوفة فاجتمع عليه الناس فقال : سلوا عما شئتم وكان أبو حنيفة حاضراً وهو غلام حدث فقال : سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى ؟ فسألوه فأفحم فقال أبو حنيفة : كانت أنثى لقوله تعالى ) قالت نملة ( لو كان ذكراً لم تجز التاء لأن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فلا بد التمييز بالعلامة. وحين عبر عن تفاهم النمل بلفظ التقاول جعل خطابهم أولي العقل فحكى أنها ) قالت يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم ( أما جواب للأمر وإما نهي بدلاً من الأمر أي لا تكونوا بحيث يحطمكم أي يكسركم سليمان وجنوده على طريقة ( لا أرينك ههنا ). وفي قوله ) سليمان وجنوده ( دون أن يقول جنود سليمان مبالغة أخرى كما تقول : أعجبني زيد وكرمه. وفي الآية دلالة على أن من يسير في الطريق لا يلزمه التحرز وإنما يلزم من ي الطريق التحرز. وفي قوله ) وهم لا يشعرون ( تنبيه على وجود الجزم بعصمة الأنبياء كأنها عرفت أن النبي لعصمته لا يقع منه قتل هذه الحيوانات إلا على سبيل السهو. وعن بعضهم أنها خافت على قومها أن يقعوا في كفران نعمة الله تعالى إذا رأوا جلالة سليمان ، وهذا معنى الحطم فلذلك أمرتهم بدخول السماكن. وفيه تنيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محذورة. قيل : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال ) فتبسم ضاحكاً ( أي شارعاً في الضحط آخذاً فيه ولكن لم يبلغ حدّ القهقهة وكمال الضحك. وما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ضحك حتى بدت نواجذه فعلى وجه المبالغة في الضحك النبوي. وإنما أضحكه من قولها شفقتها على قومها وسروره بما آتاه الله من إدراك الهمس واشتهاره بالتحرز والتقوى ولذلك مال غلى الدعاء قائلاً : ( رب أوزعني ( قال جار الله : حقيقته اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأربطه لا ينفلت عني فلا أزال شاكراً لك. وإنما أرج ذكر الوالدين لأن النعمة على الولد نعمة عليهما وبالعكس. ثم طلب أن يضيف لواحق نعمه إلى سوابقها ولا سيما النعم الدينية فقال : ( وأن أعمل صالحاً ترضاه ( ثم دعا أن يجعله في الآخرة من زمرة الصالحين لأن ذلك غاية كل مقصود. يروى أن النملة أحسن بصوت الجنود ولم تعلم أنها في الهواء فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرون حتى دخلن مساكنهن ، ثم دعا بالدعوة. القصة الثالثة قصة بلقيس وما جرى بينها وبين سليمان وذلك بدلالة الهدهد ، يروى أن سليمان حيث تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج مع حشمه فأتى الحرم ومكث به أياماً يقرب كل يوم خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة. ثم عزم على السير(5/300)
" صفحة رقم 301 "
إلى اليمن فخرج من مكة صباحاً فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضاً أعجبته بهجتها إلا أنهم لم يجدوا الماء فطلب الهدهد لأنه يرى الماء من تحت الأرض وعن وهب أنه أخل بالنوبة التي كانت تنويه فلذلك تفقده. وقيل : إنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خالٍ فدعا عفريت الطير - وهو النسر - فسأله عنه فلم يجد عنده علمه. ثم قال لسيد الطير - وهو العقاب - عليّ به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فأقسم عليها بالله لتتركنه فتركته. وقالت : إن نبي الله قد حلف ليعذبنك قال : وما استثنى ؟ قالت : بلى قال : ( أو ليأتيني بسلطان مبين ( أي بعذر واضح. فلما قرب من سليمان ارخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعاً له ، فلما دنا منه أخذ سليمان براسه فمده إليه فقال : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل فارتعد سليمان وعفا عنه ثم سأله عما لقي في غيبته. وفي تفقد الهدهد إشارة إلى أن الملوك يجب عليهم التيقظ وعدم الغفلة عن اصغر رعيتهم. وأرجع إلى التفسير. قوله ) مالي لا أرى ( استبعاد منه أنه لا يراه وهو حاضر في الجند كأن ساتراً ستره ثم لاح له أنه غائب فقال ) أمم كان من الغائبين ( وقد مر في الوقوف قوله ) لأعذبنه ( لا شك أن تعذيبه إنما يكون بما يحتمله حاله. فقيل : أراد أن ينتف ريشه ويشمسه وكان هذا عذابه للطير. وقيل : كان يطلي بالقطران ويشمس. وقيل : هو أن يلقيه للنمل لتأكله. وقيل : إيداعه القفص. وقيل : التفريق بينه وبين إلفه. وقييل : أراد لألزمنه صحبة الأضداد كما قيل : أضيق السجون مجالسة الأضداد. وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه. ولعل تعذيب الهدهد وذبحه في عصره جائز لمصلحة السياسة كما أباح لنا ذبح كل مأكول لحمه لمصلحة التغذي. وحاصل القسم يرجع إلى قوله ليكونن أحد هذه الأمور الثلاثة : التعذيب أو الذبح أو الإتيان بعذر بين وحجة واضحة. ويحتمل أن يكون قد عرف إتيانه بالعذر بطريق الوحي فلذلك أدرجه في سلك ما هو قادر على فعله فأقسم عليه. ثم أخبر الله سبحانه أنه أتى بسلطان مبين وذلك قوله ) فمكث غير بعيد ( اي غير زمان بعيد ) فقال ( مخاطباً لسليمان ) أحطت بما لم تحط به ( قالواك فيه إبطال قول من زعم أن إمام الزمان لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه. وفيه دليل على شرف العلم وأ ، صاحبه له أن يكافح به من هو أعلى حالاً منه. والإحاطة بالشيء علماً هو أن يعلمه من جميع جهاته. وقوله ( من سبأ بنبأ ( من جملة صنائع البديع على أن النبأ خبر له شأن فذكره في هذا الموضع دون أن يقول ( من سبأ بخبر ) حسن على حسن. وسبأ اسم للقبيلة فلا ينصرف أو اسم للحي أو الأب الأكبر فينصرف ، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ثم سميت مدينة مارب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث. ويحتمل أن يراد بسبأ المدينة أو القوم. ثم شرع في النبأ وهو قوله ) إني وجدت امرأة ((5/301)
" صفحة رقم 302 "
واسمها بلقيس بنت شراحيل ملك اليمن كابراً عن كابر إلى تبع الأول ، ولم يكن له ولد غيرها فورثت الملك وكانت هي وقومها مجوساً عبدة الشمس. والضمير في ) تملكهم ( يعود غلى سبأ إن أريد به القوم وإلى الأهل المحذوف إن أريد به المدينة. ) وأوتيت من كل شيء ( اي بعض كل ما يتعلق بالدنيا من السباب. ) ولها عرش عظيم ( كأنه استعظم لها ذلك مع صغر حالها إلى حال سليمان ، أو استعظمه في نفسه لأنه لم يكن لسليمان مثله مع علو شأنه ، وقد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله لمن فوقه في الملك ، وقد يطلع بعض الأصاغر على مسألة لم يطلع عليها أحد كما اطلع الهدهد على حال بلقيس دون سليمان. ووصف عرش الله بالعظم إنما هو بالإضافة إلى سائر ما خلق من لاسموات والأرض. يحكى من عظم شأنه إنما كان مكعباً ثلاثين في ثلاثين أو ثمانين وكان من ذهب وفضة مكللاً بأنواع الجواهر وكذا قوائمه ، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق ، قال بعض المعتزلة : في قوله ) وزين لهم الشيطان أعمالهم ( دليل على أن المزين للكفر والمعاصي هو الشيطان. وأجيب بأن قول الهدهد لا يصلح للحجة والتحقيق فيه قد مر ولا يبعد أن يلهم الله الهدهد وجوب معرفته والإنكار على من يعبد غيره خصوصاً في زمن سليمان عليه السلام. قوله ) الا يسجدوا ( من قرأ بالتشديد على أن الجار محذوف فإن كان متعلقاً بالصد فالتقدير صدهم لأن ) لا يسجدوا ( وإن كان متعلقاً ب ) لا يهتدون ( ف ) لا ( مزيدة أي لا يهتدون إلى أن يسجدوا. ومن قرأ بالتخفيف فقوله ) ألا ( حرف تنبيه و ) يا ( حرف النداء والمنادى محذوف والتقدير : ألا يا قوم اسجدوا كقوله : ألا يا أسلمي يا دارميّ على البلى
ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
قال الزجاج : السجدة في الآية على قراءة التخفيف دون التشديد. والحق عدم الفرق لأن الذم على الترك كالأمر بالسجود في الاقتضاء. والخبء مصدر بمعنى المخبوء وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأه الله عز وجل من غيوبه ، ومن جملة ذلك اطلاع الكواكب من أفق الشرف بعد اختفائها في أفق الغرب ، ومنها الأقضية والأحكام والوحي والإلهام ، ومنها إنزال الملك وكل أثر علوي. وفي تخصيص وصف الله تعالى في هذا المقام بإخراج الخبء إشارة إلى ما عهده الهدهد من قدرة الله تعالى في إخراج الماء من الأرض ، ألهمه هذا التخصيص كما ألهمه تلك المعفرة. ولما انجر كلام الهدهد إلى هذه الغاية ) قال ( سليمان ) سننظر ( أي نتأمل في صفحات حالك ) أصدقت أم كنت من الكاذبين ( وهذا أبلغ من أن لو قال له(5/302)
" صفحة رقم 303 "
( كذبت ) لأنه إذا كان معروفاً بالكذب كان متهماً في كل ما أخبر به. ثم ذكر كيفية النظر في أمره فقال ) أذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ( لم يقل إليها لأنه كان قد قال ) وجدتها وقومها ( فكأن سليمان قال : فألقه إلى الذين هذا دينهم اهتماماً فيه بأمر الدين. ولمثل هذا قال في الكتاب ) ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين ( ومعنى ) ثم تول عنهم ( تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه وتسمع ما يقولون ) يرجعون ( من رجع القول كقوله ) يرجع بعضهم إلى بعض القول ) [ سبأ : 31 ] يروى أنها كانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها ، فدخل من كوة وطرح الكتاب على حجرها وهي مستلقية نائمة. وقيل : نقرها فانتبهت فزعة. وقيل : أتاها والجنود حواليها من فوق والناس ينظرون حتى رفعت رأسها فألقى الكتاب في حجرها. وقيل : كان في البيت كوة تقع الشمس فيها كل يوم فإذا نظرت إليها سجدت فجاء الهدهد فسد تلك الكوة بجناحه ، فلما رأت ذلك قامت إليه فألقى الكتاب إليها. وههنا إضمار أي فذهب فألقى ثم توارى ثم كأن سائلاً سأل فماذا قالت بلقيس ؟ فقيل ) قالت يا أيها الملأ إني ألقي إليّ كتاب كريم ( مصدر بالتسمية أو حسن مضمونه أو هو من عند ملك كريم أو هو مختوم. يروى أنه طبع الكتاب بالمسك وختمه بخاتمه وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( كرم الكتاب ختمه ). وعن ابن المقفع : من كتب إلى أخيه كتاباً ولم يختمه فقد استخف به. ثم إن سائلاً كأنه قال لها ممن الكتاب وما هو ؟ فقالت ) إنه من سليمان وإنه ( كيت وكيت. سؤال : لم قدم سليمان اسمه على اسم الله ؟ والجواب أنها لم وجدت الكتاب على وسادتها ولم يكن لأحد إليها طريق ورأت الهدهد علمت أنه من سليمان وحين فتحت الكتاب رأت التسمية ، ولذلك قالت ما قالت ، أو لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب ) إنه من سليمان ( فقرأت عنوانه أوّلاً ثم أخبرت بما في الكتاب. أو لعل سليمان قصد بذلك أنها لو شتمت لأجل كفرها حصل الشتم لسليمان لا لله تعالى. و ( أن ) في ) أن لا تعلوا ( مفسرة لما ألقي إليها أي لا تتكبروا كما تفعل الملوك. يروى أن نسخة الكتاب : من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : السلام على من اتبع الهدى. أما بعد ، فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين. وكان كتب الأنبياء عليهم السلام جملاً وأنه مع وجازته مشتمل على تمام المقصود لأن قوله ) بسم الله الرحمن الرحيم ( مشتمل على إثبات الصانع وصفاته ، والباقي نهي عن الترفع والتكبر وأمر بالانقياد للتكاليف ، كل ذلك بعد إظهار المعجز برسالة الهدهد. قوله ) قالت يا ايها الملأ ( استئناف آخر وهكذا إلى تمام القصة. ومعنى ) أفتوني ( أشيروا عليّ بما يحدث لكم من الرأي. والفتوى الجواب في الحادثة وأصلها من الفتاء في(5/303)
" صفحة رقم 304 "
السن وقطع الأمر فصله والقضاء فيه ، أرادت بذلك استعطافهم وتطييب نفوسهم واستطلاع آرائهم ، فأجابوا بأنهم اصحاب القوى الجسداينة والخارجية ، ولهم النجدة والبلاء في الحرب ، ومع ذلك فوضوا الأمر إليها فما أحسن هذا الأدب. ويحتمل أن يراد نحن من أبناء الحرب لا منارباب الرأي والشمروة وإنما الرأي غليكن وحيث كان يلوح من وصفهم أنفسهم بالشجاعة والعلم بأمور الحرب أهم مائلون غلى المحاربة ، ارادت أن تنبههم إلى الأمر الأصوب وهو الميل إلى الصلح فلذلك ) قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية افسدوها ( وذلك إذا أرادوا قهرها والتسلط عليها ابتداء وإلا فالإفساد غير لازم ، بل لعل الإصلاح ألزم إذا سلكت سبيل العدل والإنصاف فليس للظلمة في الآية حجة. ومفعول ) مرسلة ( محذوف اي مرسلة رسلاً مع هدية وهي اسم المهدي كالعطية اسم المعطي. وإنما رأت الإهداء أوّلاً لأن الهدية سبب استمالة القلوب. قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( تهادوا تحابوا ) قال في الكشاف : روي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن الأساور والأطواق والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج مرصعة اللجم والسروج بالجواهر ، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان ، وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت ، وحقاً فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب : وبعثت رجلين من أشراف قومها - المنذر بن عمرو وآخر ذا رأي وعقل - وقالت : إن كان نبياً ميز بين اللمان والجواري وثقب الدرة ثقباً مستوياً وسلك في الخرزة خيكاً. ثم قالت : للمنذر : إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهونلك ، وإن رأيته بشاً لطيفاً فهو نبي. فأقبل الهدهد فأخبر سليمان فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ وجعلوا حول الميدان حائطاً شرفه من الذهب والفضة ، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان وعن يساره على اللبنات ، وأمر بلأأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين وعن اليسار ، ثم قعد على سريره والكراسي من جانبيه ، واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ والأنس كذلك ، ولاوحش والطير كذلك. فلما دنا القوم ونظروا بهتوا ورأوا الدواب على اللبنات فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم ، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال : ما وراءكم ؟ وقال : أين الحق ؟ وأخبرهم بما فيه. ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة فجعل رزقها في الشجر ، وأخذت دودة بيضاء الخيط فأدخلته في الجزعة ، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها ، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ، ثم رد الهدية وذلك قوله على سبيل الإنكار أتمدونني بمالر ثم قال على سبيل الإعلام وتعليل الإنكار ) فما آتاني الله ( من الكمالات والقربات والدرجات خير مما آتاكمر ثم أضرب(5/304)
" صفحة رقم 305 "
عن ذلك غلى بيان السبب الذي حملهم عليه وهو أنهم لا يعرفون الفرح إلا في أن يهدي إليهم حظ من الدنيا ، فعلى هذا تكون الهدية مضافة إلى المهدي إليه. والمعنى ) بل أنتم بهديتكم ( هذه التي أهديتموها ) تفرحون ( فرح افتخار على الملوك. ويحتمل أن يكون الكلام عبارة عن الرد كأنه قال. بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها ثم قال للرسول أو للهدهد معه كتاب آخر ) ارجع إليهم ( ومعنى ) لا قبل ( لا طاقة ولا مقابلة. والذل أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك ، والصغار أن يقعوا مع ذلك في أسر واستعباد يروى أنه لما رجعت إليها الرسل عرفت أن سليمان نبي وليس لهم به طاقة ، فشخصت غليه في اثني عشر الف قيل. مع كل قيل ألوف. وأمرت عند خروجها أن يجعل عرشها في آخر سبعة أبيات في آخر قصر من قصور سبعة ، وغلقت الأبواب ووكلت به حرساً فلعل سليمن أوحي غليه ذلك فاراد أن يريها بعض ما خصه الله به من المعجزات فلذلك ) يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها ( وعن قتادة : اراد أن يأخذه قبل أن تسلم لعلمه أنها إذا اسلمت لم يحل له أخذ مالها. وقيل : أراد بذلك اختبار عقلها كما يجيء. وقيل : اراد أن يعرف تجملها ومقدار مملكتها قبل وصولها إليه ، والعفريت من الرجال الخبيث المنكر الذي يعفر اقرانه ، ومن الشياطين الخبيث المارد ، ووزنه ( فعليت ). قالوا : كان اسمه ذكوان. و ) آتيك به ( في الموضعين يجوز أن يكون فعلاً مضارعاً وأن يكون اسم فاعل. ومعنى. ) أن تقوم من مقامك ( إما على ظاهره وهو أن يقوم فيقعد ، وإما أن يكون المقام هو المجلس ولا بد فيه من عادة معلومة حتى يصح أن يؤقت به. وعلى هذا فقيل : المراد مجلس الحكم. وقيل : مقدار فراغه من الخطبة. وقيل : غلى انتصاف النهار. ) وإني عليه ( أي على حمله ) لقوي أمين ( آتي به على حاله لا أتصرف فيه بشيء. واختلفوا في الذي عنده علم من الكتاب فقيل : هو الخضر عليه السلام. وقيل : جبرائيل. وقيل : ملك أيد الله به سليمان. وقيل : ىصف بن برخيا وزيره أو كاتبه. وقيل : هو سليمان نفسه استبطأ العفريت فقال له : أنا اريك ما هو أسرع مما تقول. وقد يرجح هذا القول بوجوه منها : أن الشخص المشار غليه بالذي يجب أن يكون معلوماً للمخاطب وليس سوى سليمان ، ولو سلم أن آصف أيضاً كان كذلك فسليمان أولى بإحضار العرش في تلك اللمحة والإلزام تفضيل آصف عليه من هذا الوجه. ومنها قول سليمان. ) هذا من فضل ربي ( ويمكن أن يقال : الضمير راجع إلى استقرار العرش عنده ، ولو سلم رجوعه غلى الإتيان بالعرش فلا يخفى أن كمال حال التابع والخادم من جملة كمالات المتبوع والمخدوم ، ولا يلزم من أن يأمر الإنسان غيره بشيء أن يكون الآمر عاجزاً عن الإتيان بذلك الشيء. واختلفوا ايضاً في الكتاب فقيل : هو(5/305)
" صفحة رقم 306 "
اللوح. وقيل : الكتاب المنزل الذي فيه الوحي والشرائع. وقيل : كتاب سليمان أو كتاب بعض الأنبياء. وما ذلك العلم ؟ قيل : نوع من العلم لا يعرف الآن. والأكثرون على أنه العلم باسم الله الأعظم وقد مر في تفسير البسملة كثير مما قيل فيه. ومما وقفت عليه بعد ذلك أن غالب بن قطان مكث عشرين سنة يسأل الله الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى فأري في منامه ثلاث ليال متواليات : قل يا غالب يا فارج الهم يا كاشف الغم يا صادق الوعد يا موفياً بالعهد يا منجز الوعد يا حي يا لا إله إلا أنت صل اللهم على محمد وآل محمد وسلم. والطرف تحريك الأجفان عند النظر فوضع موضع النظر فإِذا فتحت العين توهمت أن نور العين يمتد غلى المرئي وإذا غمضت توهمت أن ذلك النور قد اراتدّ ، فمعنى الآية أنك ترسل طرفك غلى شيء فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك. يروى أن آصف قال له : مدّ عينك حتى ينتهي طرفك فمدّ عينه فنظر نحو المين ودعا آصف فغاص العرش في مكانه ثم ظهر عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله قبل أن يرتدّ طرفه. ومن استبعد هذا في قدرة الله فليتأمل في الحركات السماوية على ما يشهد به علم الهيئة حتى يزول في لحظة أو لمحة. وحين عرف سليمان نعمة الله في شأنه وأن ذلك صورة الابتلاء بين أن شكر الشاكر إنما يعود إلى نفس الشاكر لأنه يرتبط به العتيد ويطلب المزيد كما قيل : الشمر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة. وروي في الكشاف عن بعضهم أن كفران النعمة بوار وقلما أقشعت نافرة فرجعت في نصابها ، فاستدع شاردها بالشكر واستدم راهنها بكرم الجوار. قوله ( أقشعت نافرة ) أي ذهبت في حال نفارها وراهنها أي ثابتها. ) ومن كفرفان ربي غني ( عن عبادة كل عابد فضلاً عن شكر شاكر كريمر لا يقطع إمداد نعمه عنه لعله يتوب ويصلح حاله. زعم المفسرون أن الجن كرهوا أن يتزوّجها سليمان فتفضي إليه بإسرارهم لأنها كانت بنت جنية ، أو خافوا أن يولد له منها ولد تجمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد فقالوا له : إن في عقلها شيئاً وهي شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش وذلك قوله ) نكروا لها عرشها ( أي اجعلوه متنكراً متغيراً عن هيئته وشكله كما يتنكر الرجل لغيره لئلا يعرفه. قالوا : وسعوه وجعلوا مقدمه مؤخره وأعلاه اسفله. وقوله ( ننظر ( بالجزم جواب للأمر وقرئ بالرفع على الاستئناف. ) أتهتدي ( لمعرفة العرش أو للجواب الصائب إذا سئلت عنه أو للدين والإيمان بنبوة سليمان إذا رأت تلك الخوارق. وقوله ( أم تكون من الذين لا يهتدون ( أبلغ من أن لو قال ( أم لا تهتدي ) كما مر في قوله ) أم كنت من الكاذبين ( ) فلما جاءت قيل(5/306)
" صفحة رقم 307 "
أهكذا ( أي مثل ذا ) عرشك ( لئلا يكون شبه تلقين فقالت ) كأنه هو ( ولم تقل : هو هو مع أ ، ها عرفته ليكون دليلاً على وفور عقلها حيث لم تقطع في المحتمل وتوقفت في مقام التوقف. أما قوله ) وأوتينا العلم ( فمعطوف على مقدر كأنهم قالوا عند قولها كأنه هو قد اصابت في جوابها وطابقت المفصل وهي عاقلة لبيبة وقد رزقتالإسلام وعلمت قدرة الله وصحة نبوة سليمان بهذه الخوارق. ) وأوتينا ( نحن ) العلم ( بالله وبقدرته قبل علمها ولم نزل على دين الإسلام ) وصدّها ( عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس وكونها بين ظهراني الكفرة. والغرض تلقي نعمة الله بالشكر على سابقة الإسلام. وقيل : هو موصول بكلام بلقيس. والمعنى وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة أو الحالة وذلك عند وفدة المنذر. ثم قال سبحانه ) وصدها ( قبل ذلك عما دخلت فيه ) ما كانت تعبد من دون الله ( وقيل : الجار محذوف أي وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد ، واختبر ساقها بأن أمر أن يبني على طريقها قصر من زجاج أبيض فأجرى من تحته الماء والقى فيه من دواب البحر السمك وغيره ، ووضع سريره في آخر فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس. ثم ) قيل لها ادخلي الصرح ( أي القصر أو صحن الدار ) فلما رأته حسبته لجة ( أي ماء غامراً ) وكشفت عن ساقيها ( لتخوض في الماء فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً إلا أنها شعراء ، فصرف سليمان بصره وناداها ) إنه صرح ممرد ( أي مملس ) من قوارير ( هذا عند من يقول : تزوجها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا له همدان وكان يزورها في الشهر مرّة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له. قالوا : كون ساقها شعراء هو السبب في اتخاذ النورة ، أمر به الشياطين فاتخذوها. وقال آخرون : المقصود من الصرح تهويل المجلس ، وحصل كشف الساق على سبيل التبع. عن ابن عباس : لما اسلمت قال لها : اختاري من أزوّجكه ؟ فقالت : مثلي لا ينكح الرجال مع سلطان. فقال : النكاح من الإسلام. فقالت : إن كان كذلك فزوّجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن ولم يزل بها ملكاً ) قالت رب إني ظلمت نفسي ( أي بالكفر في الزمن السالف أو بسوء ظني بسليمان إذ حسبت أنه يغرقني في الماء. وهذا التفسير أنسب بما قبله ولعل في قولها ) مع سليمان ( أي مصاحبة له غشارة إلى إسلامها تبع لإسلام سليمان وأنها تريد أن تكون معه في الدارين جميعاً والله أعلم. التأويل : ( ولقد آتينا داود ( الروح ) وسليمان ( القلب ) علماً ( لدنيا ) على كثير من عباده ( وهم الأعضاء والجوارح المستعملة في العبودية. ) وورث سليمان داود ( لأن كل إلهام وفيض يصدر من الحضرة الإلهية يكون عبوره على داود الروح إلا أنه للطافته لا(5/307)
" صفحة رقم 308 "
يحفظها وإنما يحفظها القلب لكثافته ، ولذلك كان سليمان اقضى من داود. قوله ) منطق الطير ( يعني الرموز والإشارات التي يحفظها بلسان الحال أرباب الأحوال الطائرين في سماء سناء الفناء. وقيل : أراد الخواطر الملكية الورحانية. قوله ) من الجن والإِنس والطير ( أي من الصفات الشيطانية والإنسانية والملكية ) فهم يوزعون ( على طبيعتهم بالشريعة وادي النمل هوى النفس الحريصة على الدنيا وشهواتها ) قالت نملة ( هي النفس اللوامة يا أيها النملر هي الصفات النفسانية ) ادخلوا مساكنكم ( محالكم المختلفة وهي الحواس الخمس ) وهم لا يشعرون ( أنهم على الحق وأنتم على الباطل لأن الشمس لا حس عندها من نورها ولا من الظلمة التي تزيلها نعمتك التي أنعمت عليّر بتسخير جنودي لي وعلى والديّ وهما الروح والجسد. أنعم على الروح بإفاضة الفيوض ، وعلى الجسد باستعماله في أركان الشريعة. وفي قوله ) بنبأ يقين ( إشارة إلى أن من أدب المخبر أن لا يخبر إلا عن يقين وبصيرة ولا سيما عند الملوك. وفي قول سليمان ) سننظر أصدقت ( إشارة إلى أن خبر الواحد وإن زعم اليقين لا يعوّل عليه إلا بأمارات أخر. ) كتاب كريم ( كأ ، ها عرفت أنها بكرامته تهتدي إلى حضرة الكريم : إن ملوك الصفات الربانية ) إذا دخلوا قرية ( الشخص الإنساني ) أفسدوها ( بإفساد الطبيعة الحيوانية ) وجعلوا أعزة أهلها ( وهم النفس الأمارة وصفاتها ) أذلة ( بسطوات التجلي ) وكذلك يفعلون ( مع الأنبياء والأولياء. وفي قوله ) أيكم يأتيني بعرشها ( غشارة إلى أن سليمان كان واقفاً على أن في قومه من هو أهل لهذه الكرامة وكرامات الأولياء من قوة إعجاز الأنبياء ) قيل لها ادخلي الصرح ( فيه دليل على أن سليمان أراد أن ينكحها وغلا لم يجوّز النظر غلى ساقيها. ) وأسلمت نفسي ( للنكاح ) مع سليمان لله ( وفي الله. تأويل آخر : ( وتفقد الطير ( هم أهل العشق الطيارة في فضاء سماء القدس وجوّ عالم الإنس. والهدهد الرجل العلمي الذي عول على فكره وإعمال قريحته في استنباط خبايا الأسرار وكوامن الأستار. ) عذاباً شديداً ( بالرياضة والمجاهدة. ) أو لأذبحنه ( بسكين مخالفات الإرادة. سبأ مدينة الاختلاط والإنس بالإنس والمرأة الدنيا وبهجتها ، وعرشها العظيم حب الجاه والمناصب يسجدون لشمس عالم الطبيعة وهو الهوى ، والهدية عرض الدنيا وزينتها ، والإتيان بالعرش قبل إتيانهم هو إخراج حب الجاه من الباطن حتى تنقاد الأعضاء والجوارح بالكلية لاشتغال العبودية. آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الجاه. والعفرين الرياضة الشديدة والذي عنده علم من الكتاب هو الجذبة التي توازي عمل الثقلين ، وتنكير العرش تغيير حب الجاه للهوى بحبه للحق ، والقصر قصر التصرف في(5/308)
" صفحة رقم 309 "
الدنيا للحق بالحق ، وكشف الساق كنايةعن اشتداد الأمر عليه ، والقوارير عبارة عن رؤية بواطن الأمور مع الاشتغال بظواهرها ، وهذه من جملة منطق يفهم إن شاء العزيز وحده والله أعلم. تم الجزء التاسع عشر ، ويليه الجزء العشرون وأوله : ( ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً ((5/309)
" صفحة رقم 310 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء العشرون من أجزاء القرآن الكريم
( النمل : ( 45 - 66 ) ولقد أرسلنا إلى . . . .
" ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون أم من جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون أم من يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون " ((5/310)
" صفحة رقم 311 "
القراآت : ( لتنبيه ( على الجمع المخاطب وهكذا ) لتقولن ( : حمزة وعلي وخلف. الباقون بالنون فيهما على التكلم ) مهلك ( بفتح الميم واللام : أبو بكر غير البرجمي وحماد والمفضل. وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام. الباقون بضم الميم وفتح اللام والكل يحتمل المصدر والمكان والزمان ) أنا دمرناهم ( و ) أن الناس ( بالفتح فيهما : عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ورويس ) أئنكم ( مذكور في ( الأنعام ) ) يشكرون ( بياء الغيبة : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم ) أءله ( مثل ) أئنكم ( ) الريح ( على التوحيد : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف ) يذكرون ( بياء الغيبة : أبو عمرو وهشام. الآخرون بتاء الخطاب بل أدركر بقطع الهمزة وسكون الدال : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد المفضل ) بل ادّرك ( بهمزة موصولة ودال مشددة : الشموني. الباقون مثله ولكن بألف بعد الدال. الوقوف : ( يختصمون ( 5 ) الحسنة ( ج لابتداء استفهام آخر مع اتحاد القائل. ) ترحمون ( 5 ) معك ( ط ) تفتنون ( 5 ) ولا يصلحون ( 5 ) لصادقون ( 5 ) لا يشعرون ( 5 ) مكرهم ( ط لمن قرأ. ( إنا ) بكسر الألف على الاستئناف. ) أجمعين ( 5 ) ظلموا ( ط ) يعلمون ( 5 ) يتقون ( 5 ) تبصرون ( 5 ) النساء ( ط ) تجهلون ( 5 ) قريتكم ( ج لاحتمال تقدير لام التعليل ) يتطهرون ( 5 ) إلا أمرأته ( ز لاحتمال أن ما بعده مستأنف والأظهر أنه حال تقديره استثناء امرأته مقدرة ) في الغابرين ( 5 ) مطر المنذرين ( 5 ) اصطفى ( ط ) يشكرون ( 5 ط لأن ما بعده استفهام متسأنف و ( أم ) منقطعة تقديره بل أمن خلق السموات خير أمّا يشركون وكذلك نظائره ) ماء ( ج للعدول مع اتحاد المقول ) بهجة ( ط ولاحتمال الحال أي وقد ورد خيراًر ط القتالر ط ) عزيزاً ( 5 ج للآية والعطف ) فريقاً ( 5 ج لاحتمال أن يكون ما بعده استئنافاً أو حالاً ) تطؤها ( ط ) قديراً ( 5 ) جميلاً ( 5 ) عظيماً ( 5 ) ضعفين ( ط ) يسيراً ( 5 مرتين لا لأن التقدير وقد أعتدنا ) كريماً ( 5 ) معروفاً ( ج للعطف ) ورسوله ( ط ) تطهيراً ( 5 لوقوع العوارض بين المعطوفين ) والحكمة ( ط ) خبيراً ( 5 ) عظيماً ( 5 ) من أمرهم ( ط ) مبيناً ( 5 ) الناس ( ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال ) تخشاه ( ط ) منهن وطراً ( ط ) مفعولاً ( 5 ) له ( ط ) من قبل ( لا ) مقدوراً ( 5 ل بناء على أن ) الذين ( وصف أو بدل ) إلا الله ( ط ) حسيباً ( 5 ) النبيين ( ط ) عليماً ( 5. التفسير : لما فرغ منتوبيخ المنافقين حث جمع المكلفين على مواساة الرسول وموازرته كما واساهم بنفسه في الصبر على الجهاد والثبات في مداحض الأقدام. والأوسة القدرة وهو المؤتسى به أي المقتدى به ، فالمراد أنه في نفسه كما تقول في البيضة(5/311)
" صفحة رقم 312 "
عشرون منا حديداً اي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. والمراد أن فيه خصلة هي المواساة بنفسه فمن حقها أن يؤتسى بها وتتبع. قال في الكشاف : قوله ) لمن كان ( بدل من قوله ) لكم ( وضعف بأن بدل الكل لا يقع من ضمير المخاطب فالأظهر أنه وصفة الأسوة. والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف. وقوله ( يرجو الله واليوم الآخر ( كقولك : رجوت زيداً وفضله أي رجوت فضل زيد ، أو اريد يرجو ايام الله واليوم الآخر خصوصاً. وقوله ( وذكر معطوف على ) كان ( ( وفيه أن المقتدي برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي واظب على ذكر الله وعمل ما يصلح لزاد المعاد. ثم حكى أن ما ظهر من المؤمنين وقت لقاء الأحزاب خلاف حال المنافقين. وقوله ( هذا ( إشارة إلى الخطب أو البلاء. عن ابن عباس : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأصحابه : إن الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً اي في آخر تسع ليال أو عشر ، فلما رأوهم قد اقبلوا للميعاد قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وقد وقع. ) وصدق اللهورسوله ( في كل وعد ) وما زادهم إلا إيماناً ( بمواعيده إلا فساد همهم بقتل نبيهم. والتقاسم التحالف فإن كان أمراً فظاهر وإن كان خبراً فمحله نصب بإضمار ( قد ) اي قالوا متقاسمين : والتبييت العزم على إهلاك العدوّ ليلاً. وأشير على الإسكندر بالبيات فقال : ليس من آيين الملوك استراق الظفر. قال في الكشاف ( كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحاً وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين. ثم قالوا لولاة دمه. : ما شهدنا مهلك أهله فإذا ذكروا أحدهما كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعاً لا أحدهما. قلت : إنما ارتكب هذا التكليف لأنه استقبح أن يأتي العاقل بالخبر على خلاف المخبر عنه. يروى أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث ، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث ، فخرجوا إلى لاشعب مبادرين وقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فهذا مكرهم ، فبعث الله صخرة فطبقت عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم ، وعذب الله كلاً في مكانه ونجى صالحاً ومن معه وهذا مكر الله. وقيل : جاؤا بالليل شاهري سيوفهم وقد أرسل الله الملائكة فدمغوهم بالحجارة يرون الحجارة ولا يرون رامياً. من قرأ ) أنا دمرناهم ( بالفتح فمرفوع المحل بدلاً من العاقبة أو خبراً لمحذوف أي هي تدميرهم ، أو منصوب على أنه خبر ) كان ( أي كان عاقبة مكرهم الدمار ، أو مجرور تقديره : لأنا وجوز في الكشاف على هذا التقدير أن يكون منصوباً بنزع الخافض. وانتصب ) خاوية ( على الحال والعامل معنى الإشارة في تلك. وإنما قال في هذه السورة ) وأنجينا الذين آمنوا ( موافقة لما بعده ) فأنجيناه وأهله ( ) وأمطرنا ( وكله على ) أفعل (. وقال في ) حم السجدة ( ) ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ) [ فصلت : 18 ] موافقة لما قبله وما بعده وزينا وقيضنا والله أعلم .(5/312)
" صفحة رقم 313 "
القصة الخامسة قصة لوط ) و ( انتصب ) لوطاً ( بإضمار ) اذكر ( أو بما دل عليه ) ولقد أرسلنا ( و ) إذ ( بدل على الأول بمعنى مجرد الوقت ظرف على الثاني ، و ) يبصرون ( إما من بصر الحاسة فكأنهم كانوا معلنين بتلك المعصية في ناديهم ، أو أراد ترون آثار العصاة قبلكم ، أو من بصر القلب والمراد تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا بمثلها ، وعلى هذا فمعنى قوله ) بل أنتم قوم تجهلون ( أنكم تفعلون فعل الجاهلية بأنها فاحشة مع علمكم بذلك ، أو اراد جهلهم بالعاقبة ، أو اراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها. أو الخطاب في قوله ) تجهلون ( تغليب ولو قرئ بياء الغيبة نظراً إلى الموصوف وهو قوم لجاز من حيث العربية ، وباقي القصة مذكور في ) الأعراف ( ) قل الحمد لله ( قيل : هو خطاب للوط عليه السلام أن يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة من الذنوب وبالنجاة من العذاب. وقيل : أمر لنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم وبالتسليم على الأنبياء وأشياعهم الناجين ، والأكثرون على أنه خطاب مستأنف لأنه صلى الله عيله وسلم كان كالمخالف لمن تقدمه من الأنبياء من حيث إن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه ، فأمره الله سبحانه بأن يشكر ربه على هذه النعمة ويسلم على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة. ثم شرع في الدلالة على الوحدانية والرد على عبدة الأوثان ، وفيه توقيف على أدب حسن وبعث على التيمن بالحمد والصلاة قبل الشروع في كل كلام يعتد به ، ولذا توارثه العلماء خلفاً عن سلف فافتتحوا بهما أمام كل كتاب وخطبة ، وعند التكلم بكل أمر له شأن. قال جار الله : معنى الاستفهام ) وأم ( المتصلة في قوله ) الله خير أمّا يشركون ( إلزام وتبكيت وتهكم بحالهم وتنبيه على الخطأ المفرط والجهل المفرط ؛ فمن المعلوم أنه لا خير فيما اشركوه أصلاً حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه. قلت : يحمل أن يكون هذا من قبيل الكلام المنصف. عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان إذا قرأها قال : بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم. ثم عدل عن الاستفهام بذكر الذات غلى الاستفهام بذكر الصفات مبتدئاً بما هو أبين الحسيات فقال : ( أمن خلق السموات ( وإنما قال ههنا ) وأنزل لكم ( واقتصر في إبراهيم على قوله ) وأنزل ) [ إبراهيم : 32 ] لأن لفظة ) لكم ( وردت هناك بالآخرة ، وليس قوله ) ما كان لكم ( مغنياً عن ذكره لأنه نفي لا يفيد معنى الأول. ومعنى الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله ) فأنبتنا ( تأكيد معنى اختصاص الإنبات بذاته لأن الإنسان قد يتوهم أن له مدخلاً في ذلك من حيث الغرس والسقي. وزالحدائق جمع حديقة البستان عليه حائط من الإحداق والإحاطة. والبهجة الحسن والنضارة لأن الناظر يبتهج به. وإنما لم يقل ذوات بهجة على الجمع لأن المعنى جماعة حدائق كما يقال : النساء ذهبت. ومعنى ) أءله مع الله ( أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له. قال في الكشاف : قوله ) بل هم ( بعد الخطاب أبلغ في(5/313)
" صفحة رقم 314 "
تخطئة رأيهم. قلت : إنما تعين الغيبة ههنا لأن الخطاب في قوله ) ما كان لكم ( إنما هو لجميع الناس أي ما صح وما ينبغي للإنسان أن يتأتى منه الإنبات. ولو قال بعد ذلك بل أنتم لزم أن يكون كل الناس مشركين وليس كذلك. وقوله ( يعدلون ( من العدل أو من العدول اي يعدلون به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد. ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها. والقرار المستقر اي دحاها وسواها بحيث يمكن الاستقرار عليها. والحاجز البرزخ كما في ) الفرقان (. ثم استدل بحاجة الإنسان إليه على العموم. والمضطر الذي عراه ضر من فقر أو مرض فألجأه إلى التضرع غلى الله سبحانه ، وإنه افتعال من الضر. وعن ابن عباس : هو المجهود. وعن السدي : الذي لا حول له ولا قوة. وقيل : هو المذنب ودعاؤه استغفاره. والمضطر اسم جنس يصلح للكل وللبعض فلا يلزم من الآية إجابة جميع المضطرين ، نعم يلزم الإجابة بشرائط الدعاء كما مر في ) البقرة ( وفي ادعوني وقوله ( ويكشف السوء ( كالبيان لقوله ) يجيب المضطر ( والخلافة في الأرض إما بتوارث السكنى وإما بالملك والتسلط وقد مر في آخر ) الأنعام (. وقوله ( قليلاً ما ذتكرون ( معناه تذكرون تذكراً قليلاً ، ويجوز أن يراد بالقلة العدم. ثم استدل لحاجة الناس وخصوصاً الهداية في البر والبحر بالعلامات وبالنجوم ، ثم استدل باحوال المبدأ والمعاد وما بينهما وذلك أنهم كانوا معترفين بالإبداء ودلالة الإبداء على الإعادة دلالة ظاهرة فكأنهم كانوا مقرنين بالإعادة أيضاً ، فاحتج عليهم بذلك لذلك. والرزق من السماء الماء ومن الأرض النبات. واعلم أن الله سبحانه ذكر قوله ) أءله مع الله ( في خمس آيات على التوالي وختم الأولى بقوله ) بل هم قوم يعدلون ( ثم بقوله ) بل أكثرهم لا يعلمون ( ثم بقوله ) قليلاً ما تذكرون ( ثم بقوله ) تعالى الله عما يشركون ( ثم ) هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( والسر فيه أن أول الذنوب العدول عن الحق ، ثم لم يعلموا ولو علموا ما عدلوا ، ثم لم يتذكروا فيعلموا بالنظر والاستدلال فاشركوا من غير حجة وبرهان. قل لهم يا محمد : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين أن مع الله إلهاً آخر. وحين بين اختصاصه بكمال القدرة أراد أن يبين اختصاصه بعلم الغيب. قال في الكشاف : هذا على لغة بني تميم يرفعون المستثنى المنقطع على البدل إذا كان المبدل منه مرفوعاً يقولون : ما في الدار أحد إلا حمار كأن أحداً لم يذكر كقوله : وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس
والمعنى إن كان الله من في السموات والأرض فهم يعلمون الغيب كما أن معنى البيت إن كانت اليعافير أنيساً ففيها أنيس بتاً للقول بخلوها عن الأنيس. قلت : لقائل أن يقول : إن(5/314)
" صفحة رقم 315 "
استثناء نقيض القمدم غير منتج فلا يلزم من استحالة كون الله سبحانه في كل مكان ممن في السموات والأرض أنهم لا يعلمون الغيب ، ولا من امتناع مون اليعافير أنيساً القطع بخلوّ البلدة عن الأنيس. وقال غيره : إن الاستثناء متصل لأن الله سبحانه في كل مكان بالعلم فيصح الرفع عند الحجازيين ايضاً. وزيفه في الكشاف بأن كونه في السموات والأرض بالعلم مجاز ، وكون الخلق فيهن حقيقة من حيث حصول ذواتهم في تلك الأحياز ، ولا يصح أن يريد المتكلم بلفظ واحد حقيقة ومجازاً معاً. وأجيب بأنا نحمل كون الخلق فيهن على المعنى المجازي أيضاً لأنهم أيضاً عالمون بتلك الأماكن لا أقل من العلم الإجمالي. وضعفه في الكشاف بأن فيه إيهام تسوية بين الله وبين العبد في العلم وهو خروج عن الأدب. ومن هنا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : بئس خطيب القوم أنت. لمن قال : ومن يعصهما فقد غوى. والحق أن وقوع اللفظ على الواجب وعلى الممكن بمعنى واحد لا بد أن يكون بالتشكيك إذ هو في الواجب أدل وأولى لا محالة ، فهذا الوهم مدفوع عند العاقل ولا يلزم منه سوء الأدب ، ولهذا جاز إطلاق العالم والرحيم والكريم ونحوهما على الواجب وعلى الممكن معاً من غير محذور شرعي ولا عقلي ، وليس هذا كالجمع بين الضميرين إذا كان يمكن للقائل أن يفرق بينهما فيزداد الكلام جزالة وفخامة. عن عائشة : من زعم أ ، ه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول ) قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ( وعن بعضهم : أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحداً لئلا يأمن الخلق مكره. قال المفسرون : سال المشركون رسول الله صلى الله عليه سولم عن وقت الساعة فنزلت. وأيان بمعنى متى. إلا أنه لا يسأل به إلا عن أمر ذي بال وهو ) فعال ( منأن يئين فلو سمي به لانصرف ، وحين ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب ولا يشعرون البعث الكائن ووقته بين أن عندهم عجزاً آخر أبلغ منه وهو أنهم ينكرون الأمر الكائن مع أن عندهم أسباب معرفته فقال ) بل ادّارك ( أي تدارك. ومن قرأ بغير الألف فهو ) افتعل ( من الدرك أي تتابع واستحكم. ومعنى أدرك بقطع الهمزة انتهى وتكامل علمهم في الآخرة أي في شأنها ومعناها ، ويمكن أ ، يكون وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكماً بهم كما يقول لأجل الناس : ما أعلمك. وإذا لم يعرفوا نفس البعث يقيناً فلأن لا يعرفوا وقته أول. ويحتمل أن تكون أدرك بمعنى انتهى وفني من قولهم ) أدركت الثمرة ( لأن تلك غايتها التي عندها تعدم. وقد فسره الحسن باضمحل علمهم وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك ، وصفهم أوّلاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ثم أضرب عن ذلك قائلاً إنهم لا يعلمون القيامة فضلاً عن وقتها ثم إن عدم العلم قد يكون مع الغفلة الكلية فأضرب عن ذلك قائلاً إنهم ليسوا غافلين بالكلية ولكنهم في شك ومرية ، ثم إن الشك قد يكون بسبب عدم الدليل فأضرب عن ذلك قائلاً إنهم عمون(5/315)
" صفحة رقم 316 "
عن إدراك الدليل مع وضوحه ، وقد جعل الآخرة مبدأ أعمالهم ومنشأه فلهذا عداه بمن دون ) عن ( والضمائر تعود إلى من في السموات والأرض. وذلك أن المشركين كانوا في جملتهم فنسب فعلهم إلى الجميع كملا يقال : بنو فلان فعلوا. وإنما فعله ناس منهم قاله في الكشاف. قلت : قد تقدّم ذكر المشركين في قوله ) بل هم قوم يعدلون ( وغيره فلا حاجة إلى هذا التكلف ولو لم يتقدّم جاز للقرينة. التأويل : ( ولقد أرسلنا ( صالح القلب بالإلهام الرباني إلى صفات القلب وهو الفريق المؤمن ، وإلى النفس وصفاتها وهو الفريق الكافر. والسيئة طلب الشهوات واللذات الفانية ، والحسنة طلب السعادات الباقية. وكان في مدينة القالب الإنساني ) تسعة رهط ( هم خواص العناصر الأربعة والحواس الخمس ) يفسدون ( في ارض القلب بإفساد الاستعداد الفطري ) تقاسموا ( بالموافقة على السعي في إهلاك القلب وصفاته وأن يقولوا لوليه وهو الحق سبحانه. ما أهلكناهم وما حضرنا مع النفس الأمَّارة حين قصدت هلاكهم ومكروا مكراًر في هلاك القلب بالهواجس النفسانية والوساوس الشيطانية ) ومكرنا مكراً ( بتوارد الواردات الرابنية وتجلي صفات الجمال والجلال ) وهم لا يشعرون ( أن صلاحهم في هلاكهم. فمن قتلته فأنا ديته فانظر كيف كان عاقبة مكرهمر أنا أفنينا خواص التسعة وىفاتها وأفنينا قومهم أجميعن وهم النفس وصفاتها ) فتلك بيوتهم ( وهي القالب والأعضاء التي هي مساكن الحواس خالية عن الحواس المهلكة وألآفات الغالبة ) بما ظلموا ( أي وضعوا من نتائج خواص العناصر وآفات الحواس في غير موضعها وهو القلب ، وكان موضعها النفس بأمر الشارع لا بالطبع لصلاح القالب وبقائه ) وأنجينا الذين آمنوا ( وهم القلب وصفاته من شر النفس وصفاتها. ولوط الروح ) إذ قال لقومه ( وهم القلب والسر والعقل عند تبدل أوصافهم بمجاورة النفس ) أتأتون الفاحشة ( وهي كل ما زلت به اقدامهم عن الصراط المستيم وأمارتها في الظاهر إتيان المناهي على وفق الطبع ، وفي الباطن حب الدنيا وشهواتها ) وأنتم تبصرون ( تميزون الخير من الشر. وإتيان الرجال دون النساء عبارة عن صرف الاستعداد فيما يبعد عن الحق لا فيما يقرب منه ) فما كان جواب قومه ( وهم القلب المريض بتعلق حب الدنيا والسر المكدر بكدورات الرياء والنفاق والعقل المشوب بآفة الوهم والخيال أخرجوار الصفات الروحاينة من قرية الشخص الإنساني ) إنهم أناس يتطهرون ( من لوث الدنيا وشهواتها ) فأنجينا وأهله ( وهم السر والعقل وصفاتهما من عذاب تعلق الدنيا ) إلا امرأته ( وهي النفس الأمارة بالسوء ) وأمطرنا ( على النفس وصفاتها مطراً بترك الشهوات ) فساء مطر المنذرين ( أي صعب فإِن الفطام من المألوفات شديد وهذه(5/316)
" صفحة رقم 317 "
حالة مستدعية للحمد والشكر فلهذا قال ) قل الحمد لله وسلام ( من تعلقات الكونين وآفات الوجود المجازي ) على عباده ( ) أمن خلق ( سموات القلوب وأرض النفوس وأنزل من سماء القلب ماء نظر الرحمة ) فأنبتنا به حدائق ( من العلوم والمعاني والأسرار ) أءله مع الله ( من الهوى ) أمن جعل ( أرض النفس ) قراراُ ( في الجسد ) وجعل خلالها أنهاراً ( من دواعي البشرية وجعل لها رواسير من القوى والحواس ) وجعل بين ( بحر الروح وبحر النفس حاجزاًر القلب فإن في اختلاطهما فساد حالهما أءله مع اللهر كما زعمت الطبائعية ) أمن يجيب المضطر إذا دعاه ( في العدم بلسان الحال ) ويجعلكم ( مستعدين لخلافته في الأرض ) أءله مع الله ( كما يزعم أرباب الحلول والاتحاد ) أمن يهديكم في ظلمات ( بر البشرية وبحر الروحانية وإن كانت الروحانية نورانية بالنسبة إلى ظلمة البشرية والمراد يهديكم بإخراجكم من ظلمات البشرية إلى نور الروحانية ، ومن ظلمات خلقته الروحانية إلى نور الربوبية وذلك حين يرسل رياح العناية بين يدي سحاب الهداية ) أءله مع الله ( كما يقول المنجمون : مطرنا بنوء كذا. وكما يقوله قاصروا النظر : هدانا الشيخ والمعلم إلى كذا ) من يبدأ الخلق ( بالوجود المجازي ) ثم يعيده ( بالوجود الحقيقي إلى عالم الوحدة ) ومن يرزقكم ( من سماء الربوبية لتربية الأرواح ومن أرض بشرية الأشباح ) أءله مع الله ( كائناً من كان دليله أنه لا يعلم الغيب إلا هو ومن جملته علم قيام الساعة والله أعلم. ( النمل : ( 67 - 93 ) وقال الذين كفروا . . . .
" وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاؤوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا(5/317)
" صفحة رقم 318 "
بها علما أم ماذا كنتم تعملون ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون "
( القراآت )
أيذا ( ) أينا ( بياء مكسورة بعد همزة مفتوحة : ابن كثير ويعقوب غير زيد. مثله ولكن بالمد : أبو عمرو وزيد ايذار بهمزة مفتوحة ثم ياء مكسورة ) إنا ( بكسر الهمزة وبعدها نون مشددة : سهل ) إذا ( من غير همزة الاستفهام ) آينا ( بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة : يزيد وقالون ، مثله ولكن من غير مد : نافع غير قالون ) أئذا ( بهمزتين مفتوحة ثم مكسورة ) إنا ( بهمزة مكسورة بعدها نون مشددة : علي وابن عامر هشام يدخل بينهما مدة ) أئذا ( ) أئنا ( بهمزتين مفتوحة ثم مكسورة فيهما : حمزة وخلف وعاصم. ) ولا يسمع ( بفتح الياء التحتانية ) الصم ( بالرفع : ابن كثير وعباس وكذلك في ( الروم ). الآخرون بضم التاء الفوقانية وكسر الميم ونصب الصمّ ) وما أنت تهدي ( على أنه فعل العمى بالنصب وكذلك في ( الروم ) حمزة. الباقون ) بهادي ( على أنه اسم فاعل العمى بالجر أتوه مقصوراً على أنه فعل ماض : حمزة وخلف وحفص والمفضل. الآخرون بالمد على أنه اسم فاعل بما يفعلون على اليغبة : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحماد والأعشى والبرجمي والحلواني عن هشام. ) فزع ( بالتنوين : عاصم وحمزة وعلي وخلف ) يومئذ ( بفتح الميم : حمزة وأبو جعفر ونافع ، الباقون بكسرها ) تعملون ( بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب وحفص. الوقوف : ( لمخرجون ( 5 ) من قبل ( لا تحرزاً عن الابتداء بمقول الكفار ) الأولين ( 5 ) المجرمين ( 5 ) يمكرون ( 5 ) صادقين ( 5 ) تستعجلون ( 5 ) لا يشكرون ( 5 ) وما يعلنون ( 5 ) مبين ( 5 ) يختلفون ( 5 ) للمؤمنين ( 5 ) بحكمه ( ج تعظيماً للابتداء بالصفتين مع اتفاق الجملتين ) العليم ( 5 ج للآية واختلاف الجملتين وللفاء واتصال المعنى(5/318)
" صفحة رقم 319 "
اي إذا كان الحكم لله فأسرع اتوكل ) على الله ( ط ) المبين ( 5 ) مدبرين ( 5 ) ضلالتهم ( ط ) مسلمون ( 5 ) تكلمهم ( ج لمن قرأ بكسر الألف فإنه يحتمل أن يكون الكسر للابتداء ولكونها بعد التكليم لأنه في معنى القول ، ومن فتح فلا وقف إذ التقدير تكلمهم بأن ) لا يوقنون ( 5 ) يوزعون ( 5 ) تعملون ( 5 ) لا ينطقون ( 5 ) مبصراً ( ط ) يؤمنون ( 5 ) من شاء الله ( ط ) داخرين ( 5 ) السحاب ( ط ) كل شيء ( ط ) تفعلون ( 5 ) خير منها ( لا لأن ما بعده من تتمة الجزاء ) آمنون ( 5 لا لعطف جملتي الشرط ) في النار ( 5 ) تعملون ( 5 ) شيء ( ز للعارض وطول الكلام مع العطف ) المسلمين ( 5 لا للعطف ) القرآن ( ج ) لنفسه ( ج ) المنذرين ( 5 ) فتعرفونها ( ط ) تعملون ( 5. التفسير : لما ذكر أن المشركي في شك من أمر البعث عمون عن النظر في دلائله اراد أن يبين عامة شبهتهم وهي مجرد استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم تراباً عند الحس. قال النحويون : العامل في ( إذا ) ما دل عليه ) أئنا لمخرجون ( وهو نخرج والمراد الإخراج من الأرض أو من حال الفناء إلى حال الحياة. وإنما ذهبوا إلى هذا التكلف بناء على أن ما بعد همزة الاستفهام وكذا ما بعد ( أن ) واللام لا يعمل فيما قبلها لأن هذه الأشياء تقتضي صدر الكلام ، وتكرير حرف الاستفهام في ( إذا ) و ( أن ) جميعاً إنكار على إنكار. والضمير في ( أنا ) لهم ولآبائهم جميعاً وقد مر في سورة المؤمنين تفسير قوله ) لقد وعدنا ( وبيان المتشابه فليدّكر. ثم أوعدهم على عدم قبول قول الأنبياء بالنظر في حال الأمم السالفة المكذبة. ولم تؤنث ( كان ) لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي ، أو لأن المراد كيف كان عاقبة أمرهم. والمراد بالمجرمين الكافرون لأن الكفر جرم مخصوص وفيه تنبيه على قبح موقع الجرم اياماً كان ؛ فعلى المؤمن أن يتخوّف عاقبتها ويترك الجرائم كلها كيلا يشارك الكفرة في هذا الاسم الشنيع. ومعنى قوله ) ولا تحزن عليهم ( الآية. قد مر في آخر ( النحل ). وفي هذه الآي تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ما كان يناله من قومه. ثم إنهم استعجلوا العذاب الموعود على سبيل السخرية فأمره أن يقول لهم ) عسى أن يكون ( وهذه على قاعدة وعد الملوك ووعيدهم يعنون بذلك القطع بوقوع ذلك الأمر مع إظهار الوقار والوثوق بما يتكلمون. وإن كان على سبيل الرجاء والطمع ولمثل هذا قال ) ردف لكم بعض الذي ( دون أن يقول ( ردف لكم الذي ). واللام زائدة للتأكيد كالباء في ) ولا تلقوا بأيديكم ) [ البقرة : 195 ] أو أريد أزف لكم ودنا لكم يتضمن فعل يتعدى بالام ومعناه تبعكم ولحقكم. وقال بعضهم : المقتضي للعذاب والمؤثر فيه حاصل في الدنيا إلا أن الشعور به غير حاصل كما للسكران أو النائم ، فتمام العذاب إنما يحصل بعد الموت وإن كان طرف منه حاصلاً في(5/319)
" صفحة رقم 320 "
الدنيا فلهذاذكر البعض. ثم ذكر أنه متفضل عليهم بتأخير العقوبة في الدنيا ولكنهم لا يشكرون هذه النعمة فيتسعجلون وقوع العقاب بجهلهم ، وفيه دليل على أن نعمة الله نعم الكافر والمؤمن. ثم بين أنه مطلع على ما في صدورهم مما يخفون كالقصود والدواعي وعلى ما يظهرون من أفعال الجوارح وغيرها ، ولعل الغرض أنه يعلم مايخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومكايدهم وهو معاقبهم على ذلك. ثم أكد ذلك بأن المغيبات كلها ثابتة في اللوح المحفوظ ، والعاقبة إما مصدر كالعافية ، وإما اسم غير صفة كالذبيحة والربيئة ، وإما صفة والتاء للمبالغة كالرواية في قولهم ( ويل للشاعر من راوية السوء ) كأنه قيل : وما من شيء شديد الغيبوبة إلا وهو مثبت في الكتاب الظاهر المبين لمن ينظر فيه من الملائكة. ثم بين لدفع شبه القوم إعجاز القرآن المطابق قصصه لما في التوراة والإنجيل مع كونه ( صلى الله عليه وسلم ) أمياً ، والمطابق غرضه لما هو الحق في نفس الأمر ، وقد حرفه بنوا إسرائيل وجهه كاختلافهم في شأن المسيح في كثير من الشرائع والأحكام ، وذكر أنه هدى ورحمة لمن آمن منهم وأنصف أو منهم ومن غيرهم. ثم ذكر أن من لم ينصف منهم فالله يقضي بينهم بحكمة أي بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكماً ) وهو العزيز ( الذي لا يغالب فيما يريد ) العليم ( بما يحكم وبمن يحكم لهم أو عليهم. ثم أمره بالتوكل وقلة المبالاة بأعداء الدين وعلل ذلك بأمرين : أحدهما أنه على الحق الأبلج وفيه أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بنصرة الله ، وثانيهما قوله ) إنك لا تسمع الموتى ( لأنه إذا علم أن حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى أو كحال الصم الذين لا يسمعون ولا يفهمون والعمي الذين لا يبصرون ولا يهتدون ، صار ذلك سبباً قوياً في إظهار مخالفتهم وعدم الاعتداد بهم. وقوله ( إذا ولوا مدبرين ( تأكيد لأن الأصم إذا توجه إلى الداعي لم يرج منه سماع فكيف إذا ولى مدبراً وهداه عن الضلالة كقولك ( سقاه عن العيمة ). ثم بين أن إسماعه لا يجدي إلا على الذين علم الله أنهم يصدقون بآياته ) فهم مسلمون ( أي مخلصون منقادون لأمر الله بالكلية. ثم هدد المكلفين بذكر طرف من اشارط الساعة وما بعدها فقال ) وإذا وقع القول ( اي دنا وشارف أن يحصل مؤاده ومفهومه ) عليهم ( وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب ) أخرجنا لهم دابة من الأرض ( وهي الجساسة. وقد تكلم علماء الحديث فيها من وجوه : أحدها في مقدار جسمها. فقيل : إن طولها ستون ذراعاً. وقيل : إن راسها يبلغ السحاب. وعن أبي هريرة : ما بين قرنيها فرسخ للراكب. وثانيها في كيفية خلقتها فروي لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن(5/320)
" صفحة رقم 321 "
أيل وعنق نعامة وصدر أسد ولون نمر وخاصرة هر وذنب كبش وخف بعير وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً. وثالثها في كيفية خروجها ؛ عن علي رضي الله عنه أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها. وعن الحسن : لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام. ورابعها مكان خروجها ، سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من اين تخرج الدابة ؟ فقال : من أعظم المساجد حرمة على الله يعني المسجد الحرام. وقيل : تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية. وخامسها في عدد خروجها ؛ روي أنها تخرج ثلاث مرات تخرج بأقصى اليمن ثم تكمن ثم تخرج بالادية ، ثم تكمن دهراً طويلاً فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد ، فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة. وسادسها فيما يصدر عنها من الآثار والعجائب فظاهر الآية أنها تكلم الناس ، وفحوى الكلام ) أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ( قال جار الله : معناه أن الناس كانوا لا يوقنون بخروجي لأن خروجها من الآيات. ومن قرأ ( إن ) مكسورة فقولها حكاية قول الله فلذلك قالت ) بآياتنا ( أو المعنى بآيات ربنا فحذف المضاف أو سبب الإضافة اختصاصها بالله كما يقول بعض خاصة الملك : خيلنا وبلادنا. وإنما هي خيل مولاه وبلاده. عن السدي : تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام. وعن ابن عمر : تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ثم تستقبل المشرق ثم الشأم ثم اليمن فتفعل مثل ذلك. روي بينا عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون وإذ تضطرب الرض تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسعى فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتضرب المؤمن في مسجده أو فيما بين عينيه بعصا موسى فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه ويكتب بين عينيه ( مؤمن ) وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه ويكتب بين عينيه ( كافر ). وروي أنها تقول لهم : يا فلان أنت من أهل الجنة ويا فلان أنت من أهل النار. وقيل : تكلمهم من الكلم على معنى التبكيت والمراد به الجرح وهو الوسم بالعصا والخاتم. ثم ذكر طرفاً مجملاً من أهوال يوم القيامة قائلاً ) ويوم ( أي واذكر يوم ) نحشر من كل أمة فوجاً ( أي جماعة كثيرة ) ممن يكذب ( هذه للتبيين والأولى للتبعيض وقوله ( بآياتنا ( يحتمل معجزات جميع الرسل أو القرآن خاصة. وقد مر معنى قوله ) فهم يوزعون ( في وصف جنود سليمان أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وعن ابن عباس : الفوج أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة ، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار. والواو في قوله ) ولم(5/321)
" صفحة رقم 322 "
تحيطوا ( للحال كأنه قيل : أكذبتم بآياتي بادي الرأي من غير الوقوف على حقيقتها وأ ، ها جديرة بالتصديق أو بالتكذيب. ويجوز أن تكون الواو للعطف والمعنى أجحدتموها ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتفهمها ، فقد يجحد المكتوب إليه كون الكتاب من عند من كتبه ومع ذلك لا يدع تفهم مضمونه وأن يحيط بمعانيه. قال جار الله : ( أمّاذا كنتم تعملون ( للتبكيت لا غير لأنهم لم يعملوا إلا التكذيب ولم يشتهر من حالهم إلا ذلك. وجوّز أن يراد ما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك كأنكم لم تخلقوا غلا لأجله. وقال غيره : أراد لما لم يشتغلوا بذلك العمل المهم وهو التصديق فأيّ شيء يعملونه بعد ذلك ؟ لأن كل عمل سواه فكأنه ليس بعمل. قال المفسرون : يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها وذلك قوله ) ووقع القول عليهم ( أي العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار. ثم بعد أن خوّفهم بأهوال القيامة وأحوالهاغ ذكر ما يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوّة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال ) ألم يروا ( الآية. ووجه دلالته على التوحيد أن التقليب من النور إلى الظلمة وبالعكس لا يتم غلا بقدرة قاهرة ، ودلالته على الشحر أن النوم يشبه الموت والانتباه يشبه الحياة ، ودلالته على النبوّة أن كل هذا لمنافع المكلفين وفي بعثة الرسل إلى الخلق ايضاً منافع جمة ، فما المانع لمفيض الخيرات من إيصال بعض المنافع دون البعض ، أو من رعاية بعض المصالح دون البعض ؟ ووصف النهار بالإبصار إنما هو باعتبار صاحبه وقد مر في ( يونس ). والتقابل مراعى في الآية من حيث المعنى كأنه قيل : ليسكنوا فيه وليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب. ثم عاد إلى ذكر علامة أخرى للقيامة فقال ) ويوم ينفخ في الصور ( وقد تقدم تفسيره في ( طه ) و ( المؤمنين ). وقوله ( ففزع ( كقوله ) ونادى ) [ الأعراف : 48 ] ( وسيق ) [ الزمر : 73 ] والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون ) إلا من شاء الله ( قال أهل التفسير : إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة. وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. وقيل : هم الشهداء. وعن الضحاك : الحور وخزنة النار وحملة العرش. وعن جابر أن منهم موسى لأنه صعق مرة. قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة ) ففزع ( موافقة لقوله ) وهم من فزع يومئذ آمنون ( وفي ( الزمر ) قال ) فصعق ) [ الزمر : 68 ] لأن معناه فمات وقد سبق ) إنك ميت وإنهم ميتون ) [ الزمر : 30 ]. ومعنى ) داخرين ( صاغرين أذلاء. وقيل : معنى الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية. وجوّز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له. قال أهل المناظرة : إن الأجسام(5/322)
" صفحة رقم 323 "
الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت والكيفية ظن الناظر أنها واقفة مع أنها تمر مراً حثيثاً ، فأخبر الله سبحانه أن حال الجبال يوم القيامة كذلك تجمع فتسير كما تسير الريح السحاب ، فإذا نظر الناظر حسبها جامدة أي واقفة في مكان واحد. ) وهي تمرّ مرّ السحاب ( قال جار الله ) صنع الله ( من المصادر المؤكدة كقوله ( وعد الله ) إلا أن مؤكدة محذوف وهو الناصب ل ) يوم ينفخ ( والمعنى يوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت ، أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين صنع اله ، فجعل الإثابة والمعاقبة من جملة الشياء التي أتقنها وأتى بها على وجه الحكمة والصواب. قلت : لا يبعد أن يكون الناصب ل ) يوم ينفخ ( هو ( اذكر ) مقدراً ، ويكون ) صنع الله ( مصدراً مؤكداً لنفسه أي صنع تسيير الجبال ومرها صنع الله. قال القاضي عبد الجبار : في قوله ) أتقن كل شيء ( دلالة على أن القبائح ليست من خلقه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة ولكن الإجماع مانع منه. وأجيب بأن الاية مخصوصة بغير الأعراض فإن الأعراض لا يمكن وصفها بالإتقان وهو الإحكام لأنه من أوصاف المركبات. قلت : ولو سلم وصف الأعراض بالإتقان فوصف كل الأعراض به ممنوع فما من عام إلا وقد خص ، ولو سلم فالإجماع المذكور لعله ممنوع يؤيده قوله ) إنه خبير بما تفعلون ( وإذا كان خبيراً بكل أفعال العباد على كل نحو يصدر عنهم وخلاف معلومه يمتنع أن يقع فقد صحت معارضة الشعري ، وعلى مذهب الحكيم وقاعدته صدور الشر القليل من الحكيم لأجل الخير الكثير لا ينافي الإتقان والله أعلم. ثم فصل أعمال العباد وجزاءها بقوله ) من جاء بالحسنة فله خير منها ( إلى آخر الآيتين. وبيان الخيرية بالأضعاف وبأن العمل منقض والثواب دائم ، وبأن فعل السيد بينه وبين فعل العبد بون بعيد على أن الأكل والشرب إنما هو جزاء الأعمال البدنية ، وأما الأعمال القلبية من المرعفة والإخلاص فلا جزاء لها سوء الالتذاذ بلقاء الله والاستغراق في بحار الجمال والجلال جعلنا الله أهلاً لذلك. وقيل : المراد فله خير حاصل منها. وعن ابن عباس : أن الحسنة كلمة الشهادة التني هي أعلى درحات الإيمان. واعترض عليه بأنه يلزم منه أن لا يعاقب مسلم. وأجيب بأنه يكفي في الخيرية أن لا يكون عقابه مخلداً. ثم وعد المحسنين أمراً آخر وهو قوله ) وهم من فزع يومئذ آمنون ( وآمن يعدّى بالجار وبنفسه. والتنوين في فزع في إحدى القراءتين إما للنوع وهو فزع نوع العقاب فإن فزع الهيبة والجلال يلحق كل مكلف وهو الذي أثبته في قوله ) ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ( وإما للتعظيم أي من فزع شديد لا يكتنهه الواصف وهو خوف النار آمنون. وأما حال العصاة فأن تكب في النار فعبر عن الجملة بالوجه لأنه أشرف أو لأنهم يلقون في الجحيم منكوسين. وقوله ( هل(5/323)
" صفحة رقم 324 "
تجزون ( الخطاب فيه إما على طريقة الالتفات وإما على سبيل الحكاية بإضمار القول أي يقال لهم عند الكب هذا القول. ثم ختم السورة بخلاصة ما أمر به رسوله وذلك أشياء منها : عبادة الرب سبحانه. ثم وصف الرب بأمرين احترازاً من ارباب أهل الشرك أولهما كونه رباً لما هو أقرب في نظر قريش وهو بلدة مكة حرسها الله. وفيه نوع منة عليهم كقوله ) حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم ) [ العنكبوت : 67 ] وثانيهما عام وهو قوله ) وله كل شيء ( ومنها أمره بالإسلام وهو الإذعان الكلي لأوامر الله بجميع أعضائه وجوارحه. ومنها أمره بتلاوة القرآن أي بتلوّه اي أتباعه وقد قام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكل ما أمر به أتم قيام حتى خوطب بقوله ) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) [ طه : 2 ] ثم لما بين سيرته ذكر أن نفع الاهتداء وبال الضلال لا يعود إلا إلى المكلف أو عليه وليس على الرسول إلا البلاغ والإنذار. ثم جعل ختم الخاتمة الأمر بالحمد كما هو صفة أهل الجنة وبعد أمره بالحمد على نعمة النبوة والرسالة هدّد أعداءه بما سيريهم في الآخرة من الآيات الملجئة إلى الإقرار وذلك حين لا ينفعهم الإيمان. قاله الحسن. وعن الكلبي : هي الدخان وانشقاق القمر وما حل بهم من العقوبات في الدنيا. ) وما ربك بغافل عما تعملون ( ولكنه من وراء جزاء العاملين. التأويل : ( قل سيروا ( في أرض البشرية ) فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ( لأن خواص نفوسهم انموذج من جهنم كما أن خواص أهل القلوب انموذج من الجنة ) وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم ( لأنه خمر طينة آدم بيديه اربعين صباحاً ونفخ فيه من روحه فهو مطلع على قالبه وعلى قلبه ولهذا قال ) وما من غائبة ( من الخواص في سماء القلب وأرض القالب ) إلا في كتاب مبين ( وهو علم الله تعالى أن هذا القرآن يقص لأن كل كتاب كان مشتملاً على شرح مقام ذلك النيب ولم يكن لنبي مقام في القرب مثل نبينا ، فلا جرم لم يكن في كتبهم من الحقائق مثل ما في القرآن ولهذا قال ) إن ربك يقضي بينهم ( اي بين هذه الأمة وبين أمة كل نبي بحكمه أي بحكمته بأن يبلغ متابعي كل نبي إلى مقام نبيهم ويبلغ متابعي نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) إلى مقام المحبة. فاتبعوني يحببكم الله ) وهو العزيز ( الذي لعزته لا يهدي كل مثمن إلى مقام حبيبه ) العليم ( بمن يستحق هذا المقام. ) فتوكل على الله إنك على الحق المبين ( في دعوة الخلق إلى الله ) وإذا وقع القول عليهم ( وذلك بعد البلوغ ومضى زمان الرعي في مراتع البهيمية ) أخرجنا لهم ( من تحت أرض البشرية ) دابة تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ( وهي النفس الناطقة فإنها إلى الآن كانت موصوفة بصفة الصمم والبكم بتبعية النفس الأمارة التي لا توقن هي وصفاتها بالدلائل. ) ويوم نحشر من(5/324)
" صفحة رقم 325 "
كل أمة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون ( من كلامه وهي صفات الروح والقلب وذلك بعد التصفية والمداومة على الذكر والفكر ، حتى إذا رجعوا إلى الحضرة ) قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً أماذا كنتم تعملون ( بعد أن كنتم مصدقيها عند خطاب ) ألست بربكم ) [ الأعراف : 172 ] وهذا خطاب فيه استبطاء وعتاب وقع القول يحبهم عليه بدل ما ظلموا فهم لا ينطقون كقوله ( من عرف الله كل لسانه ) ) ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً ( جعلنا ليل البشرية سبباً لاستجمام القلب ونهار الروحانية بتجلي شمس الربوبية مبصراً يبصر به الحق من الباطل. ) ويوم ينفخ ( غسرافيل المحبة في صور القلب ) ففزع ( من في سموات الروح من الصفات الروحانية ومن في أرض البشرية من الصفات النفسانية ) إلا من شاء الله ( من أهل البقاء الذين أحيوا بحياته وأفاقوا بعد صعقة الفناء وهي النفخة الأولى في بداية تأثير العناية للهداية وإلقاء المحبة التي تظهر القيامة في شخص المحب. وفزع الصفات هيجانها للطلب بتهييج أنوار المحبة ) إلا من شاء الله ( وهو الخفي وهي لطيفة في الروح بالقوة وإنما تصير بالفعل عند طلوع شموع الشواهد وآثار التجلي فلا يصيبه الفزع بالنفخة الأولى ولا تدركه الصعقة بالنفخة الثانية ) وترى ( جبال الأشخاص ) جامدة ( على حالها ) وهي تمر ( بالسير في الصفات وتبديل الأخلاق ) مر السحاب ( ) رب هذه البلدة ( وهي القلب والرب هو الله كما أن رب بلدة القالب هو النفس الأمارة وأنه تعالى حرم بلدة القلب على الشيطان كما قال ) يوسوس في صدور الناس ) [ الناس : 5 ] دون أن يقول طفي قلوب الناس ( ) سيريكم آياته فتعرفونها ( فيه إذا لم ير الآيات لم يمكن عرفانها اللهم اجعلنا من العارفين واكشف عنا غطاءنا بحق محمد وآله صلى الله وسلم عليهم .(5/325)
" صفحة رقم 326 "
سورة القصص
( سورة القصص مكية سوى آية نزلت بجحفة ) إن الذي فرض ( الخ حروفها 5800 كلمها 1441 آياتها 88 ) بسم الله الرحمن الرحيم ( القصص : ( 1 - 21 ) طسم
" طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين فأصبح في المدينة خائفا يترقب(5/326)
" صفحة رقم 327 "
فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين "
( القراآت )
ويرى ( بفتح الياء وإمالة الراء ) فرعون وهامان وجنودهما ( مرفوعات : حمزة وعلي وخلف وهكذا قرؤوا قوله ) وحزناً ( بضم الحاء وسكون الزاي الباقون بفتحها. الوقوف : ( طسم ( كوفي. ) المبين ( 5 ) يؤمنون ( 5 ) نساءهم ( ط ) المفسدين ( 5 ) الوارثين ( 5 لا للعطف يحذرونر 5 أرضعيهر ج للفاء مع احتمال الابتداء بإذا الشرطية ) ولا تحزني ( ج للابتداء بإن مع أن التقدير فإنا. ) من المرسلين ( 5 ) وحزنا ( ط ) خاطئين ( 5 ) ولك ( ط لا تقتلوهر ق والوجه الوصل لأن الرجاء بعده تعليل للنهي. ) لا يشعرون ( 5 ) فارغاً ( ط ) المؤمنين ( 5 ) قصيه ( ز بناء على أن التقدير فتبعته فبصرت ) لا يشعرون ( 5 لا بناء على أن الواو للحال أي وقد حرمنا وقوله ( فقالت ( عطف على قوله ) فبصرت ( والحال معترض ) ناصحون ( 5 ) لا يعلمون ( 5 ) وعلماً ( 5 ) المحسنين ( 5 ) يقتتلان ( لا لأن ما بعده صفة الرجلين ظاهراً ولكن مع إضمار أي يقال لهما هذا من شيعته وهذا من عدوّه ، وليس ببعيد أن يكون مستأنفاً من ) عدوّه ( الأول ج لأن ما يتلوه معطوف على قوله فوجد مع اعتراض عارض من ) عدوّه ( الثاني لا للعطف عليه مع عدم اتحاد القائل ) الشيطان ( ط مبينر 5 ) فغفر له ( ط ) الرحيم ( 5 ) للمجرمين ( 5 ) يستصرخه ( ط مبينر ط ) لهما ( لا لأن ما بعده جواب ( لما ) بالأمسر ط للابتداء بالنفي والوصل أوجه لاتحاد القائل ) المصلحين ( 5 ) يسعى ( ز لعدم العاطف مع اتحاد القول ) من الناصحين ( 5 ) يترقب ( ز لما قلنا في ) يسعى ( ) الظالمين ( 5. التفسير : فاتحة هذه السورة كفاتحة سورة الشعراء. ) نتلو عليك ( على لسان جبرائيل ) من نبأ موسى وفرعون ( أي طرفاً من خبرها متلبساً بالحقر أو محقين ) لقوم يؤمنون ( د لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء. ثم شرع في تفصيل هذا المجمل وفي تفسيره كأن سائلاً سال : وكيف كان نبؤهما ؟ فقال مستأنفاً ) إن فرعون علا في الأرض ( أي طغى وتكبر في أرض مملكته ) وجعل أهلها شيعاً ( فرقاً يشيعونه على ما يريد ويطيعونه أو جعلهم أصنافاً في استخدامه فمن بان وحارث وغير ذلك ، أو فرقاً مختلفة بينهم عداوة ليكونوا له أطوع وهم(5/327)
" صفحة رقم 328 "
بنو إسرائيل والقبط. وقوله ( يستضعف ( حال من الضمير في ) جعل ( أو صفة ) شيعاً ( أو مستأنف. و ) بذبح ( بدل منه. وقوله ( إنه كان من المفسدين ( بيان أن القتل من فعل أهل الفساد لا غير لأن الكهنة إن صدقوا فلا فائدة في القتل ، وإن كذبوا فلا وجه للقتل اللهم إلا أن يقال : إن النجوم دلت على أنه يولد ولد لو لم يقتل لصار كذا وكذا ، وضعفه ظاهر لأن المقدر كائن ألبتة ونريدر حكاية حال ماضية معطوفة على قوله ) إن فرعون علا ( فهذه أيضاً تفسير للنبأ. وجوز أن يكون حالاً من الضمير في ) يستضعف ( اي يستضعفهم هو ونحن نريد أن نمنّ عليهم في المآل ، فجعلت غرادة الوقوع كالوقوع. ) ونجعلهم أئمة ( مقدمين في أمور الدين والدنيا. وعن ابن عباس : قادة يقتدى بهم في الخير. وعن مجاهد : دعاة إلى الخير وعن قتادة : ولاة أي ملوكاً. ومعنى الوراثة والتمكين في ارض مصر والشأم هو أن يرثوا ملك فرعون وينفذ فيه أمرهم ، والذي كانوا يحذرون منه هو ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم. يروى أنه ذبح في طلب موسى تسعون ألف وليد. قال ابن عباس : إن أم موسى لما قربت ولادتها أرسلت إلى قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بالحبالى وكانت مصافية لأم موسى وقالت لها : قد نزل بي ما نزل ولينفعني حبك ، فعالجتها فلما وقع على الأرض هالها نور بين عينيه ، وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها ، ثم قالت : ما جئتك إلا لأخبر فرعون ولكن وجدت لابنك هذا حباً شديداً فاحفظيه. فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها نفر من بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل على أم موسى فقالت أخته : يا أماه هذا الحرس فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور لم تعقل ما تصنع لما طاش من عقلها. فدخلوا فإذا التنور مسجور وإذا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقالوا : لم دخلت القابلة عليك ؟ قالت : إنها حبيبة لي دخلت للزيارة. فخرجوا من عندها ورجع إليها عقلها فقالت : يا أخت موسى اي الصبي ؟ فقالت : لا أدري سمعت بكاءه في التنور ، فانطلقت غليه وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً. فلما ألح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها أن يذبح فألهمها الله تعالى أن تتخذ له تابوتاً ثم تقذف التابوت في النيل. فجاءت إلى النجار وأمرته بنجر تابوت طوله خمسة أشبار في عرض خمسة فعلم النجار بذلك فجاء إلى موكل بذبح الأبناء فاعتقل لسانه فرجع ثم عاد مرات فعلم أنه من الله فأقبل على النجر. وقيل : لما فرغ من صنعة التابوت ثم أتى فرعون يخبره فبعث معه من يأخذه فطمس الله على عينيه وقلبه بألم فلم يعرف الطريق ، وأيقن أنه من الله وأنه هو المولود الذي يخافه فرعون فآمن في القوت وهو مؤمن آل فرعون. وانطلقت أم موسى وألقته في النيل ، وكانت لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها ، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها ، وكان بها برص شديد وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها فقالوا : يا أيها الملك لا تبرأ(5/328)
" صفحة رقم 329 "
هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبيه الإنس فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك في يوم كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس. فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون في مجلس له على شفير النيل ومع ىسية زوجته ، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على الشاطئ إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأرياح والأمواج وتعلق بشجرة فقال فرعون : ائتوني به ، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه ، فنظرت آسية فرأت نوراً في جوف التابوت لم يره غيرها فعالجته ففتحته فإذا هو صبي صغير في مهده يمص إبهامه لبناً ، وإذا نور بين عينيه فألقى الله محبته في قلوب القوم ، وعمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت وضمته غلى صدرها. فقال الأعزة من قوم فرعون : إنا نظن أن هذا هو لاذي تحذر منه ، فهمّ فرعون بقتله فاستوهبته امرأة فرعون وتبنته فترك قتله. قال علماء البيان : اللام في قوله ) ليكون لهم عدوّاً ( لام العاقبة وأصلها التعليل إلا أنه وارد ههنا على سبيل المجاز استعيرت لما يشبه التعليل من حيث إن العداوة والحزن كان نتيجة التقاطهم كما أن الإكرام مثلاً نتيجة المجيء في قولك ( جئتك لتكرمني ) وبعبارة أخرى ، إن مقصود الشيء والغرض منه هو الذي يؤل إليه أمره فاستعملوا هذه الام فيما يؤل إليه الأمر على سبيل التشبيه وإن لم يكن غرضاً. ومعنى كونهم خاطئين هو أنهم أخطؤا في التدبير حيث ربوا عدوّهم في حجرهم أو أنهم اذنبوا وأجرموا ، وكان عاقبة ذلك أن يجعل الله في تربيتهم من على يديه هلاكهم. قال النحويون ) قرة عين ( خبر مبتدأ محذوف أي هو قرة عين ولا يقوى أن يجعل مبتدأ و ) لا تقتلوه ( خبراً لأن الطلب لا يقع خبراً غلا بتأويل ، ولو نصب لكان أقوى لأن الطلب من مظان النصب. روي في حديث أن ىسية حين قالت ) قرة عين لي ولك ( قال فرعون : لك لا لي ، ولو قال هو قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها. ثم إنها رأت فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وتوسمت فيه أمارات النجابة فقالت ) عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ( فإنه أهل للتبني وذلك لما عاينت من النور وارتضاع الإبهام وبرء البرصاء. قال في الكشاف ) وهم لا يشعرون ( حال من ىل فرعون. وقوله ( إن فرعون ( الآية. جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم والتقدير : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً. وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه. قلت : لا يبعد أن تكون الجملة حالاً من فاعل ) قالت ( أي قالت كذا وكذا في حال عدم شعورهم بالمآل وهو أن هلاكهم على يده وبسببه. وقال الكلبي : اي لا يشعرون بنو إسرائيل وأهل مصر أنا التقطناه .(5/329)
" صفحة رقم 330 "
قوله سبحانه ) وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً ( قال الحسن : اي فارغاً من كل هم إلا من هم موسى. وقال أبو مسلم : فراغ الفؤاد هو الخوف والإشفاق كقوله ) وأفئدتهم هواء ) [ إبراهيم : 43 ] أي جوف لا عقول فيها وذلك أنها حين سمعت بوقوعه عند فرعون طار عقلها جزعاً ودهشاً. وقال محمد بن إسحاق والحسن في رواية : أي فارغاً من الوحي الذي أوحينا إليها وذلك قولنا ) فألقيه في اليم ولا تخافي ( الغرق وسائر المخاوف ) ولا تحزني ( والخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع ، والحزن غم يلحقه لواقع فنهيت عنهما جميعاً ، فجاءها الشيطان وقال لها : كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجر فتوليت هلاكه. ولما أتاها خبر موسى أنه وقع إلى يد فرعون أنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها. وقال أبو عبيدة : فارغاً من الخوف فالله تعالى يقول ) لولا أن ربطنا على قلبها ( وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون ؟ أما من فسر الفراغ بحصول الخوف فعنده معنى قوله ) إن كادت لتبدي به ( هو أنها كادت تحدث بأن الذي وجدتموه ابني قاله ابن عباس. وفي رواية عكرمة كادت تقول واإبناه من شدة وجدها به ، وذلك حين رأت الموج يرفع ويضع. وقال الكلبي : ذلك حين سمعت الناس يقولون إنه ابن فرعون. ثم قال ) لولا أن ربطنا على قلبها ( بإلهام الصبر كما يربط على الشيء المتفلت ليستقر ويطمئن ) لتكون من المؤمنين ( المصدّقين بوعد الله وهو قوله ) إنا رادوه إليك (. وأما من فسره بعدم الخوف فالمعنى عنده أنها صارت مبتهجة مسرورة حين سمعت أن فرعون تبناه وعطف عليه ، وأن الشأن أنها قاربت أن تظهر أنه ولدها لولا أن ألهمناها الصبر لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لتبني فرعون وتعطفه. والأول أظهر بدليل قوله ) وقالت لأخته قصيه ( اي اقتفي اثره وانظري أين وقع وغلى من صار ، وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم ) فبصرت به ( أي أبصرته ) عن جنب ( عن بعد أي نظرت إليه مزورّة متجانفة ) وهم لا يشعرون ( بحالها وغرضها. والتحريم ههنا لا يمكن حمله على النهي والتعبد ظاهراً فلذلك قيل : إنه مستعار للمنع لأن من حرم عليه شيء فقد منعه. وكان لا يقبل ثدي مرضع إما لأنه تعالى منع حاجته إلى اللبن وأحدث فيه نفار الطبع عن لبن سائر النساء ، وإما لأنه أحدث في ألبانهن من الطعم ما ينفر عنه طبعه. وعن الضحاك : أن أمه أرضعته ثلاثة اشهر فعرف ريحها. و ) المراضع ( جمع مرضعة وهي المرأة التي تصلح للإرضاع ، أو جمع مرضع وهو الثدي ، أو الرضاع ، فالأول مكان والثاني مصدر و ) من قبل ( أي من قبل قصصها أثره ، أو من قبل أن رددناه إلى أمه ، أو من قبل ولادته في حكمنا وقضائنا. روي أنها لما قالت ) وهم له ناصحون ( قال هامان : إنها لتعرفه وتعرف أهله ، فقالت : إنما أردت وهم للملك ناصحون. والنصح إخلاص العمل من شائبة(5/330)
" صفحة رقم 331 "
الفساد. والمراد أنهم يضمنون رضاعه والقيام بمصالحه ولا يمنعون ما ينفعه في تربيته وغذائه. فانطلقت إلى أمها بأمرهم فجاءت بها والصبي يعلله فرعون شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع ، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها. فقال لها فرعون : ومن أنت منه فقد ابى كل ثدي إلا ثديك ؟ قالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها وعين أجرها. قال في الكشاف : إنما أخذت الأجر على إرضاع ولدها لأنه مال حربي استطابته على وجه الاستباحة. قلت : ولعل ذلك لدفع التهمة فإن مال الحربي لم يكن مستطاباً بدليل قوله ) وأحلت لي الغنائم ( قالوا : كانت عالمة بأن الله تعالىة سينجز وعده ولكن ليس الخبر كالعيان فلهذا قال سبحانه ) ولتلعم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم ( أي أكثر الناس ) لا يعلمون ( حقية وعده في ذلك العهد وبعده لإعراضهم عن النظر في ىيات الله. وقال الضحاك ومقاتل : يعني أهل مصر لا يعلمون أن الله وعد رده إليها. قلت : ويؤيد هذا القول أنه اقتصر على الضمير دون أن يقول ( ولكن أكثر الناس ) كما قال في سورة يوسف ) والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) [ يوسف : 21 ] وقيل : هذا تعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى فجزعت وأصبح فؤادها فارغاً. وعلى هذا يحتمل أن يكون قوله ) ولكن أكثرهم لا يعلمون ( من جملة ما يعلمها أي ولتعلم حقية وعد الله وهذا الاستدراك. وجوز في الكشاف أن يتعلق الاستدراك بقوله ) ولتعلم ( المقصود أن الرد به إنما كان لهذا الغرض الديني وهو العلم بصدق وعد الله ) ولكن أكثرهم لا يعلمون ( أن هذا هو الغرض الأصلي الذي ما سواه تبع له من قرة العين وذهاب الحزن. ثم بين سبحانه كمال عنايته في حقه كما بين في قصة يوسف قائلاً : ( ولما بلغ أشده ( وزاد ههنا قوله ) واستوى ( فقيل : بلوغ الأشد والاستواء بمعنى واحد. والأصح أنهما متغايران. والأشد عبارة عن البلوغ ، والاستواء إشارة إلى كمال الخلقة. وعن ابن عباس : الأشد ما بين الثمانية عشر إلى ثلاثين ، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين. وهو عند الأطباء سن الوقوف. فلعل يوسف أعطى النبوة في سن النمو وأعطى موسى إياها في سن الوقوف. والعلم التوراة ، والحكم السنة ، وحكمة الأنبياء سنتهم - قيل : ليس في الآية دلالة على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القبطي أو بعده لأن الواو في قوله ) ودخل المدينة ( لا تفيد الترتيب. قلت : يشبه أن يستدل على أن النبوة كانت بعد قتل القبطي بأنها كانت بعد تزوجه بنت شعيب ، والتزوج كان بعد فراره منهم إلى مدين كما قرره تعالى في هذه السورة. وقد أجمل ذلك في الشعراء حيث قال حكاية عن موسى ) فعلتها إذا وأنا من الضالين ففرت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً ) [ الشعراء : 21 ] وعلى هذا يمكن أن يراد بالواو(5/331)
" صفحة رقم 332 "
الترتيب ويكون المعنى : آتيناه سيرة الحكماء والعلماء قبل البعث فكان لا يفعل فعلاً يستجهل فيه. أما المدينة فالجمهور على أنها القرية التي كان يسكنها فرعون عن فرسخين من مصر. وقال الضحا : هي عين شمس. وقيل : هي مصر. وحين غفلتهم بين العشاءين أو وقت القائلة أو يوم عيد اشتغلوا فيه باللهو. وقيل : أراد غفلتهم عن ذكر موسى وأمره ، وذلك أنه حين ضرب رأس فرعون بالعصا ونتف لحيته في الصغر أمر فرعون بقتله فجيء بجمر فأخذه في فيه فقال فرعون لا أقتله ولكن أخرجوه عن الدار والبلد فخرج ولم يدخل عليهم حتى كبر والقوم نسوا ذكره. قاله السدي. وقيل : إن الغفلة لموسى من اهلها وذلك أنه لما بلغ أشده وآتاه الله الرشد علم أن فرعون وقومه على الباطل فكان يتكلم بالحق ويعيب دينهم وينكر عليهم ، فأخافوه فلا يدخل قرية غلا على تغفل وتستر. قال الزجاج : قوله ) هذا ( ) وهذا ( وهما غائبان على جهة الحكاية أي وجد فيها رجلين يقتتلان إذا نظر الناظر إليهما قال : هذا من شيعته وهذا من عدوه. عن مقاتل : أن الرجلين كان كافرين إلا أن أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط. واحتج عليه بأن موسى قال له ) إنك لغويّ مبين ( والمشهور أن الذي من شيعته كان مسلماً كأنه قال ممن شايعه على دينه. وإنما وصفه بالغي لأنه كان سبب قتل رجل وهو يقاتل آخر على أن نبي إسرائيل فيهم غلظة الطباع فيمكن أن ينسبوا إلى الغواية بذلك الاعتبار ، ألا ترى أنهم قالوا بعد مشاهدة الآيات : اجعل لنا إلهاً. يروى أن القبطي أراد أن يتسخر الإسرائيلي في حمل الحطب إلى مطبخ فرعون. وقيل : إن الإسرائيلي هو السامري ) فاستغاثه ( سأله أن يخلصه منه ) فوكزه ( أي دفعه بأطراف الصابع أو بجمع الكف ) فقضى عليه ( أي أماته وقتله. الطاعنون في عصمة الأنبياء قالوا : إن كان القبطي مستحق القتل فلم قال ) هذا من عمل الشيطان ( وقال ) رب إني ظلمت نفسي ( وإن لم يكن مستحق القتل كان قتله معصية وذنباً ؟ وأيضاً قوله ) هذا من عدوّه ( يدل على أنه كان كافراً حربياً وكان دمه مباحاً والاستغفار من القتل المباح غير جائز. وأجيب أنا نختار أنه للكفرة كان مباح الدم إلا أن الأولى تأخير قتله إلى زمان آخر. فقوله ) هذا من عمل الشيطان ( معناه إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان ، أو هذا إشارة غلى عمل المقتول وهو كونه مخالفاً الله ، أو هو إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان هذا الكافر ولو عرف ذلك فرعون لقتلني به ) فاغفر لي ( فاستره على هذا كله. إذا سلم أنه كان نبياً في ذلك الوقت وفيه ما فيه قالت المعتزلة : في قوله ) هذا من عمل الشيطان ( دليل على أن المعاصي ليست بخلق الله. ولقائل أن يقول : الشيطان من خلق الله فضلاً عما يصدر عن الشيطان على أن المشار إليه يحتمل أن يكون شيئاً آخر كما قررنا .(5/332)
" صفحة رقم 333 "
قوله ) بما أنعمت عليّ ( قيل : أراد به القوة وأنه لن يستعملها إلا في مظاهرة أولياء الله وعلى هذا يكون ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي طاعة ، إذ لو كانت معصية لصار حاصل الكلام بما أنعمت عليّ بقبول توبتي فإني أكون مواظباً على مثل تلك المعصية. وقال القفال : الباء للقسم كأنه أقسم بما أنعم الله عليه من المغفرة أن لا يظاهر مجرماً. وأراد بمعاونة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون ، وإما مظاهرة من تؤدي مظاهرته إلى ترك الأولى. وقال الكسائي والفراء : إنه خبر ومعناه الدعاء كأ ، ه قال : فلا تجعلني ظهيراً والفاء للدلالة على تلازم ما قبلها وما بعدها. وفي الآية دلالة على عدم جواز إعانة الظلمة والفسقة حتى بري القلم وليق الدواة. عن ابن عباس : أنه لم يستثن أي لم يقل. فلن أكون إن شاء الله فابتلي به مرة أخرى. وفي هذه الرواية نوع ضعف فإنه ترك الإعانة في المرة الثانية ، ولئن صحت فلعله اراد أن جرت صورة تلك القضية عليه إلا أن الله عصمه ، وبعد موت القبطي من الوكز ) أصبح ( موسى من غد ذلك اليوم ) خائفاً يترقب ( الأخبار وما يقال فيه ) فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ( يطلب نصرته بصياح وصراخ فنسبه موسى لذلك إلى الغواية ، فإن كثرة المخاصمة على وجه يؤدّي إلى الاستنصار خلاف طريقة الرشد. فغويّ بمعنى غاوٍ. وجوز بعض أهل اللغة أن يكون بمعنى مغوٍ لأنه أوقع موسى فيما أوقع ثم طلب منه مثل ذلك وهو نوع من الإغواء. قال بعضهم : لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غويّ ورأى فيه الغضب ظن لما هم بالبطش أنه يريده فقال أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمسر وزعموا أنه لم يعرف قتله بالأمس إلا هو وصار ذلك سبباً لظهور القتل ومزيد الخوف. وقال آخرون : بل هو قول القبطي وقد كان عرف القضية من الإسرائيلي وهذا القول أظهر لأن قوله ) إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض ( لا يليق إلا أن يكون قولاً للكافر. قال جار الله : الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن. وقيل : هو العظيم الذي لا يتواضع لأمر الله عز وجل. وحين وقعت هذه الواقعة انتشر الحديث في المدينة وهموا بقتل موسى فأخبره بذلك رجل وهو قوله ) وجاء رجل من أقصى المدينة ( أي من ابعد مسافاتها إليه. وقوله ( يسعى ( صفة أخرى لرجل أو حال لأنه قد تخصص بالوصف ، وإن جعل الظرف صلة لجاء حتى يكون المجيء من هنالك تعين أن يكون يسعى وصفاً. قال العلماء : الأظهر في هذه السورة أن يكون الظرف وصفاً وفي ( يس ) أن يكون صلة ، ولذلك خصت بالتقدم ويؤيده ما جاء في التفسير أنه كان يعبد الله في جبل ، فلما سمع خبر الرسل سعى مستعجلاً. والائتمار التشاور لأن كل واحد من المتشاورين يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بامره ومعنى ) يأتمرون بك ( يتشاورون بسببك. وقوله ( لك من(5/333)
" صفحة رقم 334 "
الناصحين ( كقوله ) فيه من الزاهدين ) [ يوسف : 20 ] وقد مر أن الجار في مثل هذه الصورة بيان لا صلة. ) فخرج منها خائفاً يترقب ( المكروه من جهتهم وأن يلحق به ) قال ( ملتجئاً إلى الله ) رب نجني من القوم الظالمين ( وفيه دليل على أن قتله القبطي لم يكن ذنباً وإلا لم يكونوا ظالمين بطلب القصاص. التأويل : ( إن فرعون ( النفس الأمارة استولى على من في الأرض الإنسانية ) وجعل أهلها ( وهم الروح والسر والعقل أصنافاً في الاستخدام لاستيفاء الشهوات ) يستضعف طائفة ( وهم صفات القلب ، الأبناء الصفات الحميدة المتولدة من ازدواج الروح والقلب ، والنساء الصفات الذميمة المتولدة من ازدواج النفس والبدن ) إنه كان من المفسدين ( للاستعداد الفطري. ) ونرى فرعون ( النفس ) وهامان ( الهوى ) وجنودهما ( من الصفات البهيمية والسبعية ولاشيطانية ) أم موسى ( السر لأن القلب تولد من ازدواج الروح والسر ) أن أرضعيه ( من لبن الروحانية فقد حرم عليه مراضع الحيوانية أو الدنيوية. ) فألقيه في اليم ( في الدنيا في تابوت القالب ) وجاعلوه من المرسلين ( أي من القلوب المحدّثين كما قال بعضهم : حدثني قلبي عن ربي ) فالتقطه آل فرعون ( وهم صفات النفس والقوى البشرية من الجاذبة والماسكة والهاضمة وغيرها فإنها أسباب لتربية الطفل ) ليكون لهم ( في العاقبة ) عدوّاً ( يجادلهم بطريق الرياضات والمخالفات. ) وحزناً ( بترك اللشهوات واللذات وبالدعوة إلى ما لا يلائم هواهم من طاعة الله. ) وقالت امرأة فرعون ( النفس وهي الجثة لا تقتلوا القلب بسيف الشهوات والانهماك في اسباب اللذات الحسيات. ) عسى أن ينفعنا ( بأن ينجينا من النار. قال أهل التحقيق : لما كان اعتقاد الجثة في تربية موسى القلب أنه يكون قرة عينها وولدها فلا جرم نفعها الله بالنجاة ورفع الدرجات ، وحين لم يكن لفرعون النفس في حقه هذا الإعتقاد بل كان يتوقع الهلاك منه كان هلاكه على يده بسيف الصدق وسم الذكر. ) وهم لا يشعرون ( أنه لو لم يوفق لإهلاكهم لكان هلاكه على أيديهم. ) فؤاد أم موسى ( هو سر السر ، أخت موسى القلب هو العقل. ودخل مدينة القالب ) على حين غفلة من أهلها ( وهم الصفات النفسانية ) فوجد فيها رجلين ( صفتين. إحداهما من صفات القلب والأخرى من صفات النفس. وفي قوله ) هذا من عمل الشيطان ( إشارة إلى أن قتل كافر صفات النفس بالجهاد معها إن لم يكن بأمر الحق وعلى سبيل المتابعة لم يعتدّ به ) فلن أكون ظهيراً للمجرمين ( الذين أجرموا بأن جاهدوا كفار صفات النفس بالطبع والهوى لا بالشرع كالفلاسفة والبراهمة ) إنك لغويّ مبين ( لآنك تنازع ذا سلطان قويّ قبل أوانه وهو فرعون النفس. ) وجاء رجل ( هو العقل ) من أقصى ( مدينة الإنسانية أي من أعلى مرتبة(5/334)
" صفحة رقم 335 "
الروحانية ) يسعى ( في طلب نجاة موسى القلب فأخرج من مدينة البشرية إلى صحراء الروحانية ) خائفاً ( من سطوات فرعون النفس ) يترقب ( مكايدهم. ( القصص : ( 22 - 42 ) ولما توجه تلقاء . . . .
" ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان(5/335)
" صفحة رقم 336 "
عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين "
( القراآت )
ربي أن ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. و ) يصدر ( بفتح الياء وضم الدال : ابن عامر ويزيد وأبو عمرو وأبو أيوب. الآخرون بضم الياء وكسر الدال ) إني أريد ( ) ستجدني ( بفتح ياء المتكلم فيهما : أبو جعفر ونافع إني آنستر ) إني أنا الله ( و ) إني أخاف ( بفتح ياء المتكلم في الكل : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو و ) لعلي آتيكم ( بفتح الياء : هم وابن عامر ) جذوة ( بفتح الجيم : عاصم وبضمها حمزة وخلف. الباقون بكسرها. ) من الرهب ( بفتح الراء وسكون الهاء : حفص ، وبفتحهما أبو عمرو وسهل ويعقوب وابو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بضم الراء وسكون الهاء ) فذاناك ( بتشديد النون : ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو ) معي ( بالفتح : حفص ) ردا ( بغير همز : أبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بضم الراء وهمزة في الوقف ) يصدقني ( بالرفع : حمزة وعاصم ) يكذبون ( بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل ) قال موسى ( بغير واو : ابن كثير ) ربي أعلم ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. و ) من يكون ( على التذكير : حمزة وعلي وخلف والمفضل ) لا يرجعون ( بفتح الياء وكسر الجيم : نافع ويعقوب وعلي وخلف. الوقوف : ( السبيل ( 5 ) يسقون ( لأنه رأس ىية عند الأكثرين مع عطف المتفقين ) تذودان ( ج لعدم العاطف وطول الكلام مع اتحاد الفاعل ) خطبكما ( ط ) الرعاء ( ز لأن ما بعده منقطع لفظاً ومعنى كأنه قال : فلم خرجتما فقالتا تعريضاً بالاستقامة وأبونا شيخ ) كبير ( ط ) فقير ( 5 ) على استحياء ( ز لعدم العاطف مع اتحاد القائل ، ومن وقف على ) تمشي ( ويجعل على استحياء حالاً مقدماً اي قالت مستحيية فلا وجه له في الوقف ) لنا ( ط لأن جواب ( لما ) منتظر وقبله حذف أي فذهب معها فلما جاءه فكأن الفاء لاستئناف القصص لأن قال جواب ( لما ). ) لا تخف ( ز لأن قوله ) نجوت ( غير متصل به نظماً وليفصل بين البشارتين أي لا تخف ضيماً وقد نجوت من ظلم فرعون ) الظالمين ( 5 ) استأجره ( ج للابتداء بأن مع اتحاد القول واحتمال التعليل ) الأمين ( 5 ) حجج ( ج للشرط مع الفاء ) عندك ( ج لابتداء النفي مع الواو ) عليك ( ج ) الصالحين ( 5 ) وبينك ( ج لابتداء الشرط ) عليّ ( ط ) وكيل ( 5 ) ناراً ( 5 لعدم العاطف وطول الكلام مع اتحاد القائل ) تصطلون ( 5 ) العالمين ( 5 لا ) عصاك ( ط لحق الحذف أي فألقاها(5/336)
" صفحة رقم 337 "
فحييت فلما رآها ) ولم يعقب ( ط ) لا تخف ( ج لمثل ما مر أي لا تخف باس العصا إنك أمنت بها بأس فرعون ) الآمنين ( 5 ) سوء ( ز لعطف الجملتين المتفقتين مع طول الكلام 5 ) وملئه ( ط ) فاسقين ( 5 ) يقتلون ( 5 ) يصدقني ( ز للابتداء بأن مع اتحاد القول واحتمال التعليل ) يكذبون ( 5 ) بآياتنا ( ج أي لا يصلون إليكما بسبب آياتنا وعلى ) إليكما ( أوجه أي أنتم الغالبون بآياتنا ) الغالبون ( 5 الأولينر 5 ) الدار ( ط ) الظالمون ( 5 ) غيري ( ج لتنويع الكلام ) إلى إله موسى ( لا لأن ما بعده مقوله ايضاً ) الكاذبين ( 5 لا ) يرجعون ( 5 ) في اليم ( ج للابتداء بأمر الاعتبار واختلاف الجملتين مع فاء التعقيب ) الظالمين ( 5 ) إلى النار ( ج لعطف الجملتين المختلفتين ) لا ينصرون ( 5 ) لعنة ( ط لمثل ذلك ) المقبوحين ( 5. التفسير : ذهب بعض المفسرين غلى أن موسى خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة طريق فأوصله الله غلى مدين. وقد يؤيد هذا التفسير ما روي عن ابن عباس أنه خرج وليس له علم بالطريق غلا حسن ظنه بربه ، ويحتمل أن يكون معنى قول ابن عباس أنه لما خرج قصد مدين لأنه وقع في نفسه أن بينه وبينهم قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وهو كان من بني غسرائيل لكن لم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى. أما أنه قصد مدين فلقوله سبحانه ) ولما توجه تلقاء مدين ( اي قصد نحو هذه القرية ولم تكن في سلطان فرعون وبينها وبين مصر مسيرة ثمان. وأما أ ، ه اعتمد على فضل الله فلقوله. ) عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ( اي وسطه وجادّته نظيره قول جاء إبراهيم عليه السلام ) إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) [ الصافات : 99 ] وكذا الخلف الصدق يقتدي بالسلف الصالح فيهتدي. قال السدي : لما أخذ في المسير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح فقال : لا تفعل واتبعني فاتبعه نحو مدين. عن ابن جريج أنه خرج بغير زاد ولا ظهر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر. ) ولما ورد ماء مدين ( وكان بئراً فيما روي وورود الماء مجيئه والوصول إليه ضدّ الصدور. ) وجد عليه ( اي على شفيره ومستقاه ) أمة من الناس ( جماعة كثيرة العدد أصنافاً ) يسقون ( مواشيهم ) ووجد من دونهم ( اي في مكان اسفل من مكانهم ) امرأتين تذودان ( أي تدفعان وتطردان أغنامهما لأن على الماء من هو أقوى منهما فلم يتمكنا من السقي ، وكانتا تكرهان المزاحمة على الماء واختلاط أغنامهما بأغنامهم أو اختلاطهما بالرجال. وقيل : تذودان الناس عن غنمهما. وقيل : تذودان عن وجوهما نظر الناظر. وبالجملة حذف مفعول ) تذودان ( لأن الغرض تقرير الذود لا المذود. وكذا في ) يسقون ( و ) لا نسقي ( المقصود هو ذكر السقي لا المسقي ، وكذا في قراءة من(5/337)
" صفحة رقم 338 "
قرأ ) حتى يصدر ( من لاإصدار أي حتى يصدر الرعاء مواشيهم الغرض بيان الإصدار. ) قال ما خطبكما ( هو مصدر بمعنى المفعول أي ما خطبكما من الذياد ) قالتا لا نسقي ( الآية. سألهما عن سبب الذود فذكرتا أنا ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا وما لنا رجل يقوم بذلك. ) وابونا شيخ ( قد أضعفه الكبر فلا يصلح للقيام به ، وهذه الضرورة هي التي سوغت لنبي الله شعيب أن رضي لابنتيه بسقي الماشية على أن الأمر في نفسه ليس بمحظور ، ولعل العرب وخصوصاً أهل البدو منهم لا يعدّونه قادحاً للمروءة. وزعم بعضهم أن أباهما هو ثيرون ابن أخي شعيب وشعيب مات بعدما عمي وهو اختيار أبي عبيد ينميه إلى ابن عباس. وعن الحسن أنه رجل مسلم قبل الدين من شعيب. أما قوله ) فسقى لهما ( فمعناه فسقى غنمهما لأجلهما وفيه قولان : أحدهما أنه سأل القوم فسمحوا وكان لهم دلو يجتمع عليها أربعون رجلاً فيخرجونها من البئر فاستقى موسى بها وحده وصب الماء في الحوض ودعا بالبركة ، ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت ثم سرحهما مع غنمهما. والثاني أنه عمد إلى البئر وعليها صخرة لا يقلها إلا سبعة رجال أو عشرة أو أربعون أو مائة - أقوال - فأقلها وحده وسقى أغنامهما ، كل ذلك في شمس وحر. ) ثم تولى إلى الظل ( ظل شجرة ) فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ( ذهب أكثر المفسرين الظاهريين ومنهم ابن عباس إلى أنه طلب من الله طعاماً يأكله. وعدي ) فقير ( بالام لأنه ضمن معنى سائل وطالب. وعن الضحاك أنه مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاماً إلا بقل الأرض وإن خضرته تتراءى في بطنه من الهزال ، ويه دليل على أنه نزع الدلو وأقل الصخرة بقوة ربانية. وقال بعض أهل التحقيق : أراد إني فقير من الدنيا لجل ما أنزلت إليّ من خير الدين ، وذلك أنه كان عند فرعون في ملك وثروة فأظهر الرضا بهذا الذل شكراً لله. يروى أنهما لما رجعتا غلى ابيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما : ما أعجلكما ؟ قالتا : وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي وذلك قوله سبحانه ) فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ( قيل : من جملة حيائها أنها قد استترت بكم درعها ثم ) قالت إن أبي يدعوك ( عن عطاء بن السائب أنه حين قال ) رب إني لما أنزلت غلي من خير فقير ( رفع صوته بدعائه ليسمعهما فلذلك قيل له ) ليجزيك أجر ما سقيت لنا ( وضعفت الرواية بأن هذا نوع من الدناءة وضعف اليقين بالله فلا يليق بالنبي. وقد روي أنها حين قالت : ليجزيك كره ذلك. ولما قدم إليه الطعام امتنع وقال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ على المعروف ثمناً حتى قال شعيب هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا .(5/338)
" صفحة رقم 339 "
سؤال : كيف ساغ لموسى أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية ؟ الجواب : العمل بقول الواحد حراً أو عبداً ذكراً كان أو أنثى سائغ في الأخبار ، والمشي مع الأجنبية لا بأس به في حال الاضطرار مع التورع والعفاف ، ويؤيده ما روي أن موسى تبعها فأزلقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لهاك امشي خلفي وانعتي لي الطريق. قال الضحاك : لما ده خل عليه قال له : من أنت يا عبد الله ؟ قال : أنا موسى بن عمران بن يصهر ابن قاهث بن لاوى بن يعقوب. ) وقص عليه القصص ( أي المقصوص من لدن ولادته إلى قتل القبطيّ وفراره خوفاً من فرعون وملئه ف ) قال ( له شعيب لا تخفر من فرعون أو ضيماً ) نجوت من القوم الظالمين ( فلا سلطان لفرعون بأرضنا ) قالت إحداهما ( وهي كبراهما اسمها صفراء وكانت الصغرى صفيراء ) يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القويّ الأمين ( قال النحويون : جعل القوي الأمين اسماً لكونه معرفة صريحة أولى من جعل ( أفعل ) التفضيل المضاف اسماً لكونه قريباً من المعرفة ، ولكن كمال العناية صار سبباً للتقديم. وورود الفعل وهو ) استأجرت ( بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف. وقال المحققون : إن قولها هذا كلام حكيم جامع لا مزيد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان أعني الكفاية والأمانة اللتين هما ثمرتا الكياسة والديانة في الذين يقوم بأمرك ، فقد حصل مرادك وكمل فراغك. عن ابن عباس أن شعيباً أحفظته الغيرة فقال : وما علمك بقوّته وأمانته ؟ فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو وأنه صوّب راسه اي خفضه حين بلغته رسالته ، وأنه أمرها بالمشي خلفه فلذلك قال ) أريد أن أنكحك إحدى ابنتي ( وليس هذا عقداً حتى تلزم الجهالة في المعقود عليها ولكنه حكاية عزم وتقرير وعد ولو كان عقداً لقال أنكحتك ابنتي فلانة. وفي قوله ) هاتين ( دليل على أنه كانت له غيرهما. قال أهل اللغة : ( تأجرني ( من أجرته إذا كنت له أجيراً فيكون ثمانير حجج ظرفه أو من اجرته كذا إذا أثبته إياه فيكون المثاني مفعولاً به ثانياً ومعناه رعية ثماني حجج ) فإن أتممت عشراً ( اي عمل عشر حجج ) فمن عندك ( أي فإتمامه من عندك لا من عندي إذ هو تفضل منك وتبرع ) وما أريد أن أشق عليك ( الزام أتم الأجلين أو بالتكاليف الشاقة في مدة الرعي ، وإنما أعامل معك معاملة الأنبياء يأخذون بالأسمح - بالحاء لا بالجيم - قال أهل الاشتقاق : حقيقة قولهم شققت عليه وشق عليه الأمر أنه إذا صعب الأمر فكأنه شق عليه ظنه باثنين يقول تارة أطيقة وتارة لا أطيقه. ثم أكد وعد المسامحة بقوله ) ستجدني إن شاء الله من الصالحين ( عموماً أو في باب حسن المعاملة. وقوله ( إن شاء الله ( أدب جميل كقول إسماعيل ) ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) [ الصافات : 102 ] أي على الذبح. وفيه أن الاعتماد في جميع الأمور على معونة الله والأمر موكول إلى مشيئته. استدل الفقهاء بالآية على أن العمل قد يكون مهراً كالمال ،(5/339)
" صفحة رقم 340 "
وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمن جائز ، وعلى أن عقد النكاح لا يفسده الشروط التي لا يوجبها العقد. ويمكن أن يقال : إنه شرع من قبلنا فلا يلزمنا. وجوّز في الكشاف أن يكون استأجره لرعية ثماني سنين بمبلغ معلوم ووفاه إياه ثم أنكحه ابنته. وجعل قوله ) على أن تأجرني ( عبارة عما جرى بينهما ) قال ( موسى ) ذلك ( الذي شارطتني عليه قائم ) بيني وبينك أيما الأجلين قضيت ( و ( ما ) مؤكدة لإبهام أيّ زائدة في شيوعها ) فلا عدوان عليّ ( اي لا يعتدي عليّ في طلب الزيادة فإن قضيت الثماني فلا أطالب بالزيادة وإن قضيت العشر باختياري فلم أطالب بالزيادة أيضاً. وقيل : أراد أيهما قضيت فلا أكون متعدياً. روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه تزوّج كبراهما وقيل صغراهما ولا خلاف في أنه قضى أوفى الأجلين. قال القاضي في قوله ) فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس ( دليل على أنه لم يزد على العشرة وفيه نظر لأنه لا يفهم من هذا التركيب إلا أن الإيناس حاصل على عقيب مجموع الأمرين ، ولا يدل على أن ذلك حصل عقيب أحدهما وهو قضاء الأجل ويؤيده ما روي عن مجاهد أنه بعد العشر المشروط مكث عشر سنين أخر. قال أهل اللغة : الجذوة بحركات الجم العود الغليظ كانت في راسه نار أو لم تكن ، وشاطئ الوادي من قبل الشجرة ، فالثانية بدل من الأولى وبدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ ، ووصفت البقعة بالمباركة لأن فيها ابتداء الرسالة والتكلم. احتجت المعتزلة على مذهبهم أن الله تعالى يتكلم بكلام يخلقه في جسم بقوله ) من شجرة ( وقال أهل السنة : مما وراء النهران الكلام القديم القائم بذات الله غير مسموع والمسموع من الشجرة وهو اصلوت يمكن أن يون مسموعاً كما أن الذات التي ليست بجسم ولا عرض يمكن أن تكون مرئية. روي أن شعيباً كانت عنده عصيّ الأنبياء فقال لموسى بالليل : ادخل البيت فخذ عصا من تلك العصيّ فأخذ عصاً هبد بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فمسها وكان مكفوفاً فشعر بها فقال : غيرها ، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأناً. وعن الكلبي : الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ومنها كانت عصاه ، ولما أصبح قال له شعيب : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك وإن كان الكلأ هناك أكثر لأن فيها تنيناً أخشاه عليك وعلى الغنم. فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على منعها فمشى على اثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد اقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى موسى دامية فارتاح لذلك. وحين رجع إلى شعيب مس الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة(5/340)
" صفحة رقم 341 "
اللبن فأخبره موسى ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأناً. قيل : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو فإن موسى ذهب ليقتبس النار فكلمه الملك الجبار وقد مر في النمل تفسير قوله ) فلما رآها تهتز ( إلى قوله ) من غير سوء ) [ الآية : 10 ] أما قوله ) واضمم إليك جناحك من الرهب ( فذكر جار الله له معنيين : أحدهما حقيقة وهو أنه لما قلب الله العصا حية فزع واضطراب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له : إن اتقاءك بيدك فيه نقصان قدرك عند الأعداء فإن ألقيتها ، فكما تنقلب حية فادخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب النقص وإظهار معجزة أخرى. وثانيهما مجاز وهو أن يراد بضم الجناح التجلد وضبط النفس حتى لا يضطرب فيكون استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف أرخى جناحيه وإلا ضمهما. ومعنى ) من الرهب ( من أجل الخوف. والفرق بين هذه العبارة وبين قوله ) اسلك يدك في جيبك ( أن الغرض هناك خروج اليد بيضاء وههنا الغرض إخفاء الخوف أو اراد بالجناح المضموم ههنا اليد اليمنى وبالجناح المضموم إليه في قوله ) واضمم يدك إلى جناحك ( اليد اليسرى ، وقيل : إن الرهب هو الكم بلغة حمير وزيفه النقاد. من قرأ ) فذانك ( بالتخفيف فمثنى ذاك ، ومن قرأ بالتشديد فمثنى ذلك وأصله ذان لك قلبت اللام نوناً وأدغمت. وسميت الحجة برهاناً لبياضها وإنارتها من قولهم ( امرأة برهرهة ) أي بيضاء ، واليعن واللام مكررتان. والدليل على زيادة النون قولهم ( أبره الرجل ) إذا جاء بالبرهان ونظيره ( السلطان ) من السليط الزيت ، لإنارتها. وظاهر الكلام يقتضي أنه تعالى أمره بذلك قبل لقاء فرعون ، والسر فيه أن يكون على بصيرة من أمره عند لقاء المعاند اللجوج ، وزعم القاضي أنه في حال أداء الرسالة لأن المعجز إنما يظهر ليستدل المرسل إليه على الرسالة ولا يخفى ضعف هذا الكلام لأن الحكمة في الإظهار لا تنحصر في الاستدلال بل لعل هناك أنواعاً أخر من الحكم والمقاصد قد ذكرنا واحداً منها. ومما يؤكد أن هذا الكلام قد جرى ولم يكن هناك أحد غير موسى قوله معتذراً ) رب إني قتلت منهم نفساً ( الآية. والردء اسم ما يعان به من ردأته أي أعنته فعل بمعنى مفعول به و ) يصدقني ( بالرفع صفة وبالجزم جواب كما مر في قوله ) ولياً يرثني ) [ مريم : 6 ] والمراد بتصديق أخيه أن يذب ويجادل عنه لا أن يقول : صدقت فإن هذا القدر لا يفتقر إلى البيان والفصاحة لأن سحبان وباقلاً يستويان فيه. ويجوز أن يكون الضمير في ) يصدقني ( لفرعون. وجوّز جار الله أن يكون من الإسناد المجازي بناء على أن يصدق مسند إلى هارون وهو بيانه وبلاغته سبب تصديق فرعون يؤيده قوله ) إني أخاف أن يكذبون ( قال الجبائي : إنما سأل موسى أن يرسل هارون بأمر الله تعالى ولم يكن ليسأل مالا يأمن أن يجاب أولا يكون حكمة. ولقائل أن يقول : لعله ساله مشروطاً على معنى إن اقتضت الحكمة ذلك كما(5/341)
" صفحة رقم 342 "
يقول الداعي في دعائه. وقال السدي : علم أن الاثنين أقوى من الواحد فلهذا سأل اعترض القاضي بأن هذا ن حيث العادة وأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين ، لأن المبعوث إليه في أيهما نظر علم وإن لم ينظر فالحال واحدة. هذا إذا كانت طريقة الدلالة بين المعجزتين واحدة ، فأما إذا اختلف وأمكن في إحداهما من إزالة الشبهة مالا يمكن في الأخرى فغير ممتنع أن يقال : إنهما بمجموعهما أقوى من واحدة كما قال السدي ، لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهارون لأن معجزتهما كانت واحدة. قال جار الله معنى ) سنشد عضدك ( سنقوّيك بأخيك إما لأن اليد تشتد بشدة العضد وجملة البدن يقوى على مزاولة الأمور بشدة اليد ، وإما لأن الرجل واشتداده بالأخ شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد. والسلطان التسلط والغلبة والحجة الواضحة. وقوله ( بآياتنا ( إما متعلق بمقدر أي اذهبا بآياتنا ، أو متعلق بظاهر وهو نجعلر أو ) لا يصلون (. ويجوز أن يكون بياناً ل ) لغالبون ( كأنه قيل : بماذا نغلب ؟ فقيل : بآياتنا. وامتنع أن تكون صلة ل ) لغالبون ( لتقدمه ، ويجوز أن تكون قسماً جوابه ) لا يصلون ( مقدماً عليه مثله. ويجوز أن يكون من لغو القسم الذي لا جواب له كقولك ( زيد وأبيك منطلق ) والمراد الغلبة بالحجة والبرهان في الحال أو بالدولة والمملكة في المآل ، وصلب السحرة بعد تسليم ثبوته لا يقدح في قوله ) ومن اتبعكما الغالبون ( لأن الدولة الباقية أعلى شأنا و ) سحر مفترى ( أي سحر تعمله أنت ثم تنسبه إلى الله فهو كذب من هذا الوجه ، أو سحر ظاهر افتراؤه لا سحر يخفى افتراؤه ، أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر فإن كل سحر ففاعله يوهم خلافه فهو المفترى. ومعنى ) ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين ( قد مر في سورة المؤمنين. قال جار الله ) في آبائنا ( حال عن ) هذا ( اي كائناً في زمانهم وأيامهم قلت : لا مانع من أن يكون الظرف لغواً ولا خلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك وقد سمعوا بنحوه ، أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته ، أو ارادوا أن الكهان لم يخبروا بمجيء ما جاء به موسى. وكل هذه المقالات لا تصدر إلا عن المحجوج اللجوج الذي قصارى أمره التمسك بحبل التقليد. من قرأ ) قال موسى ( بغير واو فعلى طريقة السؤال والجواب. ووجه قراءة الأكثرين أنهم قالوا ذلك وقال موسىر هذا ليوازن العاقل الناظر بين القولين فيتبين له الغث من السمين. وقوله ( ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ( إفحام لخصم المعاند إذ لا سبيل إلى دفاعه بالحجة أي يعلم أني محق وأنهم مبطلون. وقوله ( ومن تكون له عاقبة الدار ( يعني العاقبة الحميدة كأن المذمومة غير معتدّ بها ضم طريقة الوعيد إلى الإفحام المذكور. وقيل : معناه ربي أعلم بالأنبياء السالفة فهو جواب لقولهم ) ما سمعنا بهذا ( وقال جار الله : ( ربي أعلم ((5/342)
" صفحة رقم 343 "
بحال من أهله للفلاح حيث جعله نبياً ووعده حسنى العقبى ، ولو كان كاذباً كما يزعمون لم يؤهله لذلك لأنه لا يفلح عنده الظالمون ، واعلم أن فرعون كان من عادته عند ظهور حجة لموسى أن يتعلق في دفع تلك الحجة بشبهة يروّجها على أغمار قومه فذكر ههنا أمرين : الأوّل قوله ) ما علمت لكم من إله غيري ( فكأنه استدل بعدم الدليل على عدم المدلول وهو خطأ من جهة أن الدليل على المدلول وهو وجود الصانع أكثر من أن يحصى ، ومن جهة أن عدم الدليل لا يستلزم عدم المدلول. وأما قوله ) غيري ( فقد تكلف له بعضهم أ ، ه لم يرد به أ ، ه خالق السموات والأرض وما فيهما فإن امتناع ذلك بديهي ، وإنما أراد به نفي الصانع والاقتصار على الطبائع وأنه لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره. الثاني قوله ) فأوقد لي يا هامان على الطين ( وقد تكلفوا له ههنا أيضاً فقيل : إنه يبعد من العاقل أن يروم صعود السماء بآلة ، ولكنه أراد أنه لا سبيل إلى إثبات الصانع من حيث العقل كما مر ، ولا من حيث الحس فإن الإحساس به يتوقف على الصعود وهو معتذر ، وإلا فابن يا هامان مثل هذا البناء وإنما قال ذلك تهكماً. فبمجموع هذه الشياء قرر أنه لا دليل على الصانع ، ثم رتب النتيجة عليه وهو قوله وإني لأظنه من الكاذبينر يحتمل أن يريد لأعلمه من الكاذبين. والأكثرون من المفسرين على أنه بنى مثل هذا البناء جهلاً منه أو تلبيساً على ملئة حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن. يروى أن هامان جمع العمال حتى اجتمع منهم خمسون ألف بناء سوى الأجراء ، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير فشيدوه حتى بلغ مبلغاً لا يقدر الباني أن يقوم عليه ، فبعث الله جبريل عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعت ثلاث قطع ، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل. ووقعت قطعة في البحر ، و قطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله غلا قد هلك. وروي في القصة أن فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء فأراد الله أن يفتنهم فردّت غليه وهي ملطوخة بالدم فقال : قد قتلت إله موسى ، فعند ذلك بعث الله جبرائيل لهدمه. قال أهل البيان : إن صح الحديث ردّ النشابة ملطوخة فقد تهكم به بالفعل كما ثبت التهكم بالقول في غير موضع. وإنما قال ) فأوقد لي يا هامان على الطين ( ولم يقل : اطبخ لي الآجر. لأن هذه العبارة أحسن ، ولأن هذه العبارة أحسن ، ولأن فيه تعليم الصنعة ، وقد كان أوّل من عمل الآجر فرعون. عن عمر أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر قال : ما علمت أن أحداً بنى الآجر غير فرعون. والطلوع والأطلاع الصعود يقال : طلع الجبل واطلع. وفي قوله سبحانه ) واستكبر هو وجنوده في الأرض ( يعني أرض مصر ) بغير الحق ( إشارة إلى أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى كما جاء في الحديث القدسي ( الكبرياء(5/343)
" صفحة رقم 344 "
ردائي ةالعظمة إزاري ) فهو كقوله ) ويقتلون النبيين بغير الحق ) [ البقرة : 61 ] وفي قوله ) وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ( دليل على أنهم كانوا منكري البعث كالطبائعيين. وفي قوله ) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ( دلالة على علو شأنه تعالى وعظمة سلطانه وإشارة إلى استحقار فرعون وجنوده وعدده وإن كانوا أكثر من رمال الدهناء كأنه شبههم بحصيات أخذهن أحد في كفه فطرحهن في البحر. استدلت الأشاعرة بقوله ) وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ( أن خالق الشر وجاعل الكفر هو الله سبحانه. وقالت المعتزلة : معنى الجعل التسمية والحكم بذلك كما يقال : جعله بخيلاً وفاسقاً إذا حكم بالبخل والفسق عليه وسماه بالبخيل والفاسق ، أو أراد خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى كانوا أئمة الكفر داعين إلى النار أي إلى موجباتها من الكفر والمعاصي. وقال أبو مسلم : معنى الإمامة التقدم وذلك أنه تعالى عجل لهم العذاب فصاروا متقدمين لمن وراءهم من الكفرة إلى النار. وقال بعضهم : أراد بالإمامة أنهم بلغوا في ذلك الباب أقصى النهايات حتى أستحقوا أن يقتدى بهم. ثم بين بقوله ) ويوم القيامة لا ينصرون ( أن عقاب الآخرة سينزل بهم على وجه لا يمكن التخلص منه. وقال في الشكاف : اراد وخذلناهم في الدنيا ويوم القيامة هم مخذولون كما قال ) وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ( اي طرداً وإبعاداً عن الرحمة ) ويوم القيامة هم من المقبوحين ( أي من المطرودين المبعدين : وقالت الليث : قبحه الله قبحاً بالفتح وقبحاً بالضم أي نجاه عن كل خير. وقال ابن عباس : من المشهورين بسواد الوجه وزرقة العين. وعن بعضهم أنه تعالى يقبح صورهم ويقبح عليهم عملهم فيجمع لهم بين الفضيحتين. التأويل : وحين توجه تلقاء مدين عالم الروحانية ) وجد عليه أمة ( من أوصاف الروح ) يسقون ( مواشي أخلاقهم من ماء فيض الإلهي. ) ووجد من دونهم امرأتين ( السر والخفي ابنتا شعيب الروح يمنعان من استقاء ماء الفيض الإلهي. قال الشيخ الإمام الرباني نجم الدين المعروف بداية : وذلك لأن لمعان أنوار الفيض يرد على الروح في البداية بالتدريج فينشا منه الخفي ، وهو لطيفه ربانية مودعة في الروح بالقوة فلا يحصل بالفعل غلا بعد غلبة الواردات الربانية ليكون واسطة بين الحضرة والروح في قبول تجليات صفات الربوبية والفيوض الإلهية ، فيكون في هذه المدة بمعزل عن الاستقاء. وكذا السر وهو لطيفة روحانية متسوطة بين القلب والروح قابلة لفيض الروح ، مؤدية غلى القلب وهو أيضاً بمعزل عن استقاء ماء فيض الروح عند اشتغال القلب بمعالجات النفس وإصلاح القالب إلى حين توجه موسى القلب إلى مدين عالم الروحانية وذلك قولهما ) لا نسقي حتى يصدر الرعاء ( وهم صفات الروح ويصرفوا مواشيهم وهي الصفات الإنسانية عن ماء الفيض الإِلهي ، فإذا صدروا استقينا(5/344)
" صفحة رقم 345 "
مواشينا من الأوصاف والأخلاق من أفضله مواشيهم في حوض القوى وأبونار وهو شعيب الروح لا يقدر على سقيه من الأوصاف الإنسانية إلا بالأجر والوسائط ، وإنا لا نطيق أن نسقي لضعف حالنا ، فسقي موسى القلب مواشيهما بقوّة استفادها من الجسد وقوّة استفادها من الروح لأنه متوسط بين العالمين ولهذا سمي قلباً ) ثم تولى إلى الظل ( إلى العناية فطلب الفيض الإلهي بلا وساطة وهكذا ينبغي أن يكون السالك لا يقنع بما وجد من المعارف أبداً. ) فجاءته إحداهما ( فيه أن القلب يحتاج في الوصول إلى حضرة شعيب الروح أن يستمد من الخفي أو السر. ) لا تخف نجوث ( فيه أن القلب إذا وصل إلى مقام الروح نجا من ظلمات النفس وصفاتها ) إن خير من استأجرت ( من النفس والجسد ) القوي الأمين ( لأن القلب استقاد القوّة من الجسد والأمانة من الروح ) ثماني حجج ( فيه أن الروح في تبليغ القلب غلى مقام الخفي يحتاج إلىتسييره في مقامات صفاته الثمانية المخصوصة به في خلافة الحق وهي : الحياة والإرادة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والبقاء. وتماتم ذلك غلى العشرة راجع إلى خصوصيته وهما المحبة والأنس مع الله ) أيما الأجلين قضيت ( في التخلق بأخلاقك اليمانية وفي المحبة والأنس مع الله ) فلا عدوان عليّ ( اي ليس لك أن تمنعني العبور عن المحبة والأنس مع الله فصفتان مخصوصتان بالحضرة. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ( ولهذا كل إنسان من المؤمن والكافر فإنه مجبول على تلك الأوصاف وليس من زمرة ) يحبهم ويحبونه ) [ المائدة : 54 ] إلا مؤمن موحد. فلما اتصف مسى القلب بالأوصاف الثمانية وغلبت عليه محبة الله واستأنس به وصار بجميع صفاته متوجهاً إلى حضرة القدس ) آنس ( من طور الحضرة نار الإلوهية. وفي قوله ) لأهله امكثوا ( إشارة إلى أن السالك لا بد له من تجريد الظاهر عن الأهل والمال وتفريد الباطن عن تعلقات الكونين. نو يبدو وإذا بدا استمكن شمس طلعت ومن رآها آمن. وفي قوله ) لعلكم تصطلون ( غشارة إلى أن الأوصاف الإنسانية جامدة من برودة الطبيعة لا تتسخن إلا بجذوة نار المحبة بل بنار الجذبة الإلهية من شاطئ الواد الأيمنر وهو السر في بقعة البدن من شجرة وجود الإنسان ) من الرهب ( أي رهبة من فوات وصال الحضرة ) وأخي هرون ( هو العقل فمن خصوصيته تصديق الناطق بالحق ) قالوا ماهذا إلا سحر مفترى ( لأن النفس خلقت من اسفل عالم الملكوت ومنكسة ، والقلب خلق وسط عالم الملكوت متوجهاً إلى الحضرة فلهذا ) ما كذب الفؤاد ما رأى ) [ النجم : 11 ] وما صدقت النفس ما رأت ) في آبائنا الأولين ( اي في طبائع الكواكب فإنها آباء النفس وأمهاتها العناصر والطبائع منكوسة إلىعالم السفل لا يعرفون مقام الوحدة فلا يعرفون بالتوحيد. ) فأوقد لي يا هامان ( الشيطان ) على الطين ( البشرية(5/345)
" صفحة رقم 346 "
بنفخ الوساوس والغرور ) فاجعل لي صرحاً ( من المقدمات الخيالية والوهمية ) فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ( أغرقوا في ماء شهوات الدنيا ويم هممها فأدخلوا نار الحسرة والندامة. ( القصص : ( 43 - 70 ) ولقد آتينا موسى . . . .
" ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب(5/346)
" صفحة رقم 347 "
لو أنهم كانوا يهتدون ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون "
( القراآت )
سحران ( عاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون ) ساحران تظاهرا ( بالتخفيفق اتفاقاً ) تجبي إليه ( بتاء التأنيث : أبو جحعفر ونافع وسهل ويعقوب. الباقون على التذكير ) يعقلون ( بياء الغيبة ، شجاع واليزيدي الباقون بتاء الخطاب إلا أبا عمرو فإنه مخير ) ثم هو ( بسكون الهاء علي والحلواني عن قالون ) تبرأنا ( مثل ) أنشأنا (. الوقوف : ( يتذكرون ( 5 ) الشاهدين ( 5 لا للاستدراك ) العمر ( ج لاختلاف الجملتين مع العطف ) آياتنا ( ج لما مر ) مرسلين ( 5 ) يتذكرون ( 5 ) المؤمنين ( 5 ) ما أوتي موسى ( ط ) من قبل ( ج للفصل بين الخبر والطلب مع اتحاد القائل ) تظاهرا ( ج للتعجب من عنادهم ) كافرون ( 5 ) صادقين ( 5 ) أهواهم ( ط ) من الله ( ط ) الظالمين ( 5 ) يتذكرون ( 5 لأن ) الذين ( مبتدأ ) يؤمنون ( 5 ) مسلمين ( 5 ) ينفقون ( 5 ) أعمالكم ( ط لابتداء الكلام مع اتحاد المقول ) عليكم ( ط لذلك ) الجاهلين ( 5 ) من يشاء ( ط لعطف الجملتين المتفقتين ) بالمهتدين ( 5 ) أرضنا ( ط ) لا يعلمون ( 5 ) معيشتها ( ج للفصل بين الاستفهام والإخبار مع فاء التعقيب ) قليلاً ( ط ) الوارثين ( 5 ) آياتنا ( ج للعدول مع اتفاق الجملتين ) ظالمون ( 5 ) وزينتها ( ج فصلاً بين المعنيين المتضادّين ) وأبقى ( ط ) تعقلون ( 5 ) المحضرون ( 5 ) تزعومن ( 5 ) أغوينا ( ج ) غوينا ( ج لعدم العاطف مع اتحاد القائل ) إليك ( ج لما قلنا مع زيادة النفي المقتضى للفصل ) يعبدون ( 5 ) العذاب ( ج لجواز تعلق ( لو ) بمحذوف أي لو اهتدوا لما لقوا ما لقوا ، ويجوز تعلقها ب ) يهتدون ( والوقف على ) لهم ( أي لو كانوا يهتدون لرأوا العذاب بقلوبهم ) يهتدون ( 5 ) المرسلين ( 5 ) لا يتساءلون ( 5 ) المفلحين ( 5 ) ويختار ( ز وقد يوصل على معنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة وفيه بعد ) الخيرة ( 5 ) يشركون ( 5 ) يعلنون ( 5 ) إلا هو ( ط ) والآخرة ( ز لعطف الجمل ) ترجعون ( 5. التفسير : إنه سبحانه بعد تتميم قصة موسى أراد أن يبين إعجاز نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر أوّلاً أنه أعطى موسى الكتاب بعد إهلاك فرعون وقومه حال كون الكتاب أنواراً للقلوب وإرشاداً(5/347)
" صفحة رقم 348 "
لأهل الضلال وسبباً لنيل الرحمة إرادة أن يتذكروا ، يوجوز أن يعود ترجي التذكر إلى موسى. ثم أجمل عظائم أحوال موسى وبين أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن هناك فقال ) وما كنت بجانب الغربي ( اي بجانب المكان الواقع في شق الغرب وهو ناحية الشأم التي فيها قضى إلى موسى أمر الوحي والاستنباء. ) وما كنت من الشاهدين ( على ذلك فقد يكون الشخص حاضراً ولا يكون شاهداً ولا مشاهداً. قال ابن عباس : التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى. ثم قال ) ولكنا أنشأنا ( بعد عهد موسى إلى عهدك ) قروناً فتطاول عليهم العمر ( فاندرست العلوم والشرائع ووجب إرسالك إلى خرهم قرناً وهو القرن الذي أنت فيه ، فأرسلناك وعرّفناك أحوال الأنبياء. وحاصل الآية أ ، ه ذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب والغرض بيان إعجازه كأنه قال : إن في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله ، دلالة ظاهرة على نبوّتك. ثم فصل ما أجمل فذكر أوّل أمر موسى وبين أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن هناك وهو قوله ) وما كنت ثاوياً ( مقيماً ) في أهل مدين ( وهم شعيب والمؤمنون به ) تتلوا عليهم آياتنا ( قال مقاتل : أي لم تشهد أهل مدين وأنت تقرأ على أهل مكة خبرهم ، ولكنا ارسنلاك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك ما علمتها. وقال الضحاك : يقول يا محمد : إنك لم تكن رسولاً إلى أهل مدين تتلو عليهم الكتاب وإنما الرسول غيرك ) ولكنا كنا مرسلين ( في كل زمان رسولاً فأرسلنا إلى أهل مدين شعيباً وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء. ثم ذكر أوسط أمر موسى وأشرف أحواله وبين أنه لم يكن هناك فقال ) وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ( الأظهر أنه يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه. وعن بعض المفسرين أنه اراد قوله ) ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها ( إلى قوله ) المفلحون ) [ الأعراف : 156 ] وقال ابن عباس : إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم يا أمة محمد أجيبكم قبل أن تدعوني وأعطيكم قبل أن تسألوني وأغفر لكم قبل أن تستغفروني. قال : وإنما قال الله تعالى ذلك حين اختار موسى سبعين رجلاً لميقات ربه. وقال وهب : لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال : يا رب أرنيهم. قال : إنك لن تردكهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم. قال : بلى يا رب. فقال : يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم فقال سبحانه : أجبتكم قبل أن تدعوني الحديث كما ذكر ابن عباس. وروى سهل بن سعد أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال في قوله ) وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ( قال : ( كتب الله كتاباً قبل أن يخلق بألفي عام ثم وضعه على العرش ثم نادى يا أمة محمد : إن رحمتي سبقت غضبي ، أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ، من(5/348)
" صفحة رقم 349 "
لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله أدخله الجنة ). قوله ) ولكن رحمة ( أي ولكنا علمناك ) رحمة من ربك ( ثم فسر الرحمة بقوله ) لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك ( أي في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهو خمسمائة وخمسون سنة. وقيل : كانت حجة الأنبياء قائمة عليهم ولكنه ما بعث إليهم من يجدد تلك الحجة عليهم ، فبعثه الله تعالى تقريراً لتلك التكاليف وإزالة لتلك الفترة. قوله ) ولولا أن تصيبهم ( هي امتناعية وجوابها مح 1 ذوف. والفاء في قوله ) فيقولوا ( للعطف على أن تصيبهم ، وقوله ( لولا أرسلت ( هي تحضيضية. والفاء في ) فنتبع ( جواب ( لولا ) ، وذلك أن التحضيض في حكم الأمر لأن كلاً منهما بعث على الفعل. والمعنى : ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا على ما قدّموا من الشرك والمعاصي هلا أرسلت إلينا رسولاً محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم. والحاصل أن إرسال الرسول لجل إزالة هذا العذر. قال اصحاب البيان : القول هو المقصود بأن يكون سبباً لإرسال الرسل ، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول أدخلت عليها ( لولا ) وجيء بالقول معطوفاً عليها بفاء السببية تنبيهاً على أنهم لو لم يعاقبوا على كفرهم ولم يعاينوا العذاب لم يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولاً ، فالسبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان ، وفي هذا يبان استحكام كفرهم وتصميمهم. قال الجبائي : في الآية دلالة على وجوب اللطف وإلا لم يكن لهم أن يقولوا لولا أرسلت. وقال الكعبي : فيه دليل على أنه تعالى يقبل حجة العباد فلا يكون فعل العبد بخلق الله وإلا لكان للكافر أعظم حجة على الله تعالى. وقال القاضي : فيه إبطال الجبر لأن اتباع الآيات لو كان موقوفاً على خلق الله فأيّ فائدة في قولهم هذا. ومعارضة الأشاعرة بالعلم والداعي معلومة. ثم بين أنهم قبل البعثة يتعلقون بشبهة وبعد البعثة يتعلقون بأخرى فلا مقصود لهم غلا العناد فقال ) فلما جاءهم الحق ( اي الرسول المصدّق بالكتاب المعجز ) قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ( من الكتاب المنزل جملة ومن سائر المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر ، فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله ) أولم يكفروا ( وفيه وجوه : أحدها أن اليهود أمروا قريشاً أن يسألوا محمداً مثل ما أوتي موسى فقال تعالى : ( أولم يكفروا ( هؤلاء اليهود الذين اقترحوا هذا السؤال بموسى مع تلك الآيات الباهرة. والذين أوردوا هذا الاقتراح يهود مكة ، والذين كفروا بموسى من قبل أو بما أوتي موسى من قبل هم الذين كانوا(5/349)
" صفحة رقم 350 "
في زمن موسى إلا أنه تعالى جعلهم كالشيء الواحد لتجانسهم في الكفر والعنت. وقال الكلبي : إن مشركي مكة بعثوا رهطاً غلى يهود المدينة يسألهم عن محمد وشأنه فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعتهوصفته ، فلما رجه الرهط إليهم فأخبروهم بقول اليهود قالوا : إنهه كان ساحراً كما أن محمداً ساحر فقال الله تعالى في حقهم ) أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل (. وقال الحسن : قد كان للعرب أصل في أيام موسى فالتقدير : أولم يكفر آباؤهم بأن قالوا في موسى وهارون ساحران تظاهرا أي تعاونا. وقال قتادة : أولم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد عليه السلام ف ) قالوا ساحران ( والأظهر أ ، كفار مكة وقريش كانوا منكرين لجميع النبوات. ثم إنهم طلبوا من محمد معجزات موسى فقال الله تعالى : ( أولم يكفروا بما أوتي موسى ( بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل ؟ فعلم أنه لا غرض لهم في هذا الاقتراح إلا التعنت. من قرأ ) ساحران ( بالألف فظاهر ، وأما من قرأ ) سحران ( فإما بمعنى ذوي سحر أو على جعلهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر ، أو على إرادة نوعين من لاسحر ، أو على أن المراد هو القرآن والتوراة. وضعفه أبو عبيدة بأن المظاهرة بالناس وأفعالهم اشبه منها بالكتب. وأجيب بأن الكتابين لما كان كل واحد منهما يقوّي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا كما يقال تظاهرت الأخبار. وفي تكرار ) قالوا ( وجهان : أحدهما قالوا ساحران مرة ) وقالوا إنا بكل ( من موسى ومحمد أو بكل من الكتابين ) كافرون ( مرة. وثانيهما أن يكون قوله ) وقالوا ( معطوفاً على ) أولم يكفروا ( ثم عجزهم بقوله ) قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما ( اي مما أنزل على موسى ومما أنزل عليّ. قال ابن عباس ) فإِن لم يستجيبوا لك ( معناه فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج. وقال مقاتل : فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما. وهذا اشبه بالآية ، وهذا الشرط شرط يدل بالأمر المتحقق لصحته وإلا فالظاهر أن لو قيل فإذا لم يستجيبوا. ويجوز أن يقصد بحرف الشك التهكم. وإنما لم يقل ( فإن لم يأتوا ) لأن قوله فأتوار أمر والأمر دعاء إلى الفعل فناسب الاستجابة والتقدير : فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فاعلم أنهم صاروا محجوبين ولم يق لهم شيء إلا اتباع الهوى. وفي قوله ) ومن أضل ممن اتبع هواه ( حال كونه ) بغير هدى من الله ( إشارة إلى فساد طريقة التقليد. استدلت الأشاعرة بقوله ) إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( اي الذين وضعوا الهوى مكان الهدى على أن هداية الله تعالى خاصة بالمؤمن. وقالت المعتزلة : الألطاف منها ما يحسن فعلها مطلقاً ومنها مالا يحسن إلا بعد الإيمان وإليه الإشارة بقوله ) والذين اهتدوا زادهم هدى ) [ محمد : 17 ] والآية محمولة على القسم الثاني دون الأول وإلا كان عدم الهداية عذراً لهم. ثم أجاب عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة بقوله ) ولقد(5/350)
" صفحة رقم 351 "
وصلنا ( أي أنلزنا عليهم القرآن إنزالاً متصلاً بعضه في أثر بعض ليكون ذلك اقرب إلى التذكر والتذكير والتنبيه فإِنهم يطلعون في كل يوم على فائدة زائدة وحكمة جديدة. ويجوز أن يراد بتوصيل القول جعل بيان على إثر بيان والمعنى أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً ووعداً ووعيداً وقصصاً وعبراً إلى غير ذلك من معاني القرآن إرادة أن يتعظوا فيفلحوا. ويحتمل أن يكون المراد : بينا الدلالة على كون هذا القرآن معجزاً مرة بعد أخرى. وحين أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بقوله ) الذين آتيناهم الكتاب من قبله ( أي من قبل القرآن ) هم به يؤمنون ( قال قتادة : إنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة حقة يتمسكون بها ، فلما بعث الله محمداً آمنوا به من جملتهم سلمان وعبد الله بن سلام. وقال مقاتل : نزلت في أربعين من سملمي أهل الإنجيل اثنان وثلاثون جاؤا مع جعفر من ارض الحبشة في السفينة ، وثمانية جاؤا من الشام. وعن رفاعة بن قرظة : نزلت في عشرة أنا أحدهم. والتحقق \ يق أن كل من حصل في حقه هذه الصفة يكون داخلاً في الآية لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم حكى عنهم ما يدل على تأكد إيمانهم وقوله ( إنه الحق من ربنا ( تعليل للإٍيمان به لأن كونه حقاً من الله يوجب الإيمان به. وقوله ( إنا كنا من قبله مسلمين ( بيان لقولهم آمنا به لأن إيمانهم احتمل أن يكون قريب العهد وأن يكون بعيده فأخبروا أن إيمانهم به متقادم / \ ، وذلك لما وجدوا فيك تب الأنبياء من البشارة بمقدمه فأذعنوا له وتلقوه بالقبول كما هو شأن كل مسلم ، ومعنى من قبلهر أي من قبل وجوده ونزوله. وفي قوله ) يؤتون أجرهم مرتين ( أقوال بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن أو بصبرهم على أذى المشركين وعلى أذى أهل الكتاب ، أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وعلى الإيمان به بعد نزوله وهذا أقرب ، لأنه لما بين أنهم آمنوا بعد البعثة وبين أنهم كانوا مؤمنين به قبل البعث ثم اثبت لهم الأجر مرتين وجب أن ينصرف غلى ذلك. ) ويدرؤن بالحسنة ( وهي الطاعة ) السيئة ( وهي المعاصي المتقدمة أي يدفعون بالحلم الأذى. يروى أنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه. وقال السدي : عاب اليهود عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول : سلام عليكم. مدحهم بالإيمان ثم بالطاعات البدنية ومكارم الأخلاق ، ثم بالطاعات المالية وهو الإنفاق مما رزقهم ، ثم بالتحمل والتواضع. وإنما يجب أن يقوله الحليم في معارضة السفيه وهو قوله ) وإذا سمعوا اللغو ( وهو كل ما ينبغي أن يلقى ويترك ) أعرضوا عنه وقالوا ( لأهل ذلك الغلو ) لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم ( سلام توديع ومتاركة ) لا نبتغي الجاهلين ( لا نطلب مخالطتهم وعشرتهم ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم وهذا خلق مندوب إليه ولو بعد الأمر بالقتال فلا(5/351)
" صفحة رقم 352 "
نسخ. ثم ذكر أن الهداية إنما تتعلق بمشيئة الله. قال الزجاج : أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب وذلك أنه قال عند موته : يا معشر بني هاشم أطيعوا محمداً وصدّقوه تفلحوا وترشدوا فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : يا عم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك ؟ قال : فما تريد يا ابن أخي ؟ قال : أريد منك كلمة واحدة أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله. قال : قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جبن عند الموت. وقد مر مثل هذا النقل في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى ) وهم ينهون وينأون عنه ) [ الأنعام : 26 ] واعلم أنه لا منافاة بين هذه الآية وبين قوله ) وانك لتهدي إلى صراط مستقيم ) [ الشورى : 52 ] لأن الذي نفاه هداية التوفيق وشرح الصدر والتي أثبتها هداية الدعوة والبيان ، وبحث الأشاعرة والمعتزلة ههنا معلوم. وحيث بين أن وضوح الدلائل لا يكفي ما لم ينضم إليه هداية الله سبحانه حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بالدنيا وذلك أنهم قالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من ) أرضنا ( يروى أن الحرث بنعثمان بننوفل بن عبد مناف قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكن يمنعنا من ذلك أن تسلبنا العرب بسرعة أي يجتمعون على محاربتنا ويخرجوننا ، فأجاب الله سبحانه عن شبهتهم بقوله ) أولم نمكن لهم حرماً آمناً ( يروى أن العرب كانوا يشتغلون بالنهب والغارة خارج الحرم وما كانوا يتعرضون ألبتة لسكان الحرم وقد زاد الله حرمته بقوله ) ومن دخله كان آمناً ) [ عمران : 97 ] وبين مزيته بقوله ) يحيى إليه ثمرات كل شيء ( قالوا : الكل ههنا بمعنى الأكثر. قلت : يحتمل أن يكون على أصله. وانتصب ) رزقاً ( على أنه مصدر لأن ) يجبى ( بمعنى يرزق ، أو على أنه مفعول لأجله. وإن جعلته بمعنى مرزوق كان حالاً من الثمرات لتخصصها بالإضافة. وحاصل الجواب أنه لما جعل الحرم آمناً وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى مقبلين على عبادة الأوثان ، فبقاء هذه الحالة مع الإيمان أولى. ولا يخفى أن التخطف على تقدير وقوعه لا يصلح عذراً لعدم الغيما ، فإن درجة الشهادة أعلى وأجل ، ومضرة التخطف أهون من العقاب الدائم إلا أنه تعالى احتج عليهم بما هو معلوم من عادة العرب وهو أنهم كانوا لا يتعرضون لقطان الحرم والأمر البين للحس أولى بأن يفحم به الخصم فلذلك قدمه الله تعالى. وفي الآية دلالة على صحة المحاجة. لإزالة شبهة المبطلين. قالت الشاعرة : الأرزاق إنما تصل إليهم على ايدي الناس وقد اضاف الرزق إلى نفسه فدل ذلك على أن افعال العباد مستندة إلى الله. ومن تأمل في الآية علم أن العبد يجب أن لا يخاف ولا يرجو إلا من الله. ثم أجاب عن شبهتهم بحديث آخر مخلوط بالوعيد. وانتصب ) معيشتها ( بنزع(5/352)
" صفحة رقم 353 "
الخافض كقوله ) واختار موسى قومه ) [ الأعراف : 155 ] أو على أنه ظرف مكان مجازاً كأن النظر استقر في المعيشة ، أو على حذف المضاف أي بطرت أيام معيشتها كخفوق النجم ، أو بتضمين بطرت معنى كفرت وعطلت ، والبطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله فيه. ومعنى ) إلا قليلاً ( قال ابن عباس : أي لم يسكنها إلا المسافر ومارّ الطريق يوماً أو ساعة. ويجوز أن يكون شؤم معاصيهم بقي في ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يسكن إلا قليلاً. ) وكنا نحن الوارثين ( كقوله ) ولله ميراث السموات والأرض ) [ آل عمران : 180 ] لأنه الباقي بعد فناء خلقه. ثم كان لسائل أن يقول : ما بال الكفرة قبل مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يهلكوا مع تماديهم في الغي ؟ فقال ) وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها ( اي في القرية التي هي قصبتها وأصلها وغيرها من توابعها وأعمالها ) رسولاً يتلو عليهم آياتنا ( بوحي وتبليغ وذلك لتأكيد الحجة وقطع المعذرة. قال في الكشاف : يحتمل أن يراد وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى - يعني مكة - رسولاً وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم الأنبياء. وكان لقائل أن يقول : ما بال الكفار بعد مبعث محمد لم يهلكهم الله مع تكذيبهم وجحودهم فقال ) وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ( بالشرك وأهل مكة ليسوا كذلك فمنهم من قد آمن ومنهم من سيؤمن ومنهم من يخرج من نسله من يؤمن. ثم اجاب عن شبهتهم بجواب ثالث وذلك أن حاصل شبهتهم أن قالا : تركنا الدين لأجل الدنيا. فبين تعالى بقوله ) وما أوتيتم من شيء ( الآية. أن ذلك خطأ عظيم لأن ما عند الله خير وأبقى لأنه أكثر وأدوم. ونبه على جهلهم بقوله ) أفلا تعقلون ( ويرحم الله الشافعي حيث قال : إذا أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى ، لأن أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير. نظير الاية قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ). قال البرهان : إنما السورة ( وما أوتيتم ) الواو وفي الشورى ) فما أوتيتم ) [ الآية : 36 ] بالفاء لأنه لم يتعلق بما قبله ههنا كثير تعلق ، وقد تعلق في الشورى بما قبلها أشد تعلق ، ولأنه عقب ما لهم من المخافة ما أوتوه من الأمناء والفاء حرف التعقيب والواو والمجرد العطف. وإنما زاد في هذه السورة ) وزينتها (. لأن المراد ههنا جميع أعراض الدنيا من الضرورات ومن الزين ، فالمتاع مالا غنى عنه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن والمنكوح ، والزينة وغيرها كالثياب الفاخرة والمراكب الرائعة والدور المشيدة. وأما في ( الشورى ) فلم يقصد الاستيعاب بل ما هو(5/353)
" صفحة رقم 354 "
مطلوبهم في تلك الحالة من النجاة والأمن في الحياة فلم يحتج إلى ذكر الزينة. ثم زاد البيان المذكور تأكيداً بقوله ) افمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه ( لأن وعد الله يترتب عليه الإنجاز البتة وصاحبه يلقى الموعود لا محالة. وتقدير الكلام : أبعد التفاوت المذكور بين ما عند الله وبين متاع الحياة الدنيا يسوّي بين أهل الجنة وبين أبناء الدنيا ؟ ومعنى ( ثم ) في قوله ) ثم هو يوم القيامة ( تراخي حال الإِحضار عن حال التمتع ، لا تراخي وقته عن وقته. وتخصيص لفظ ) المحضرين ( بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن. قال الله تعالى ) لكنت من المحضرين ) [ الصافات : 57 ] ( فإنهم لمحضرون ) [ الصافات : 127 ] ويمكن أن يقال : إن في اللفظ إشعاراً به لأن الإحضار مشعر بالتكليف والإِلزام وذلك لا يليق بمجالس اللذة والأنس وإنما يليق بمواضع الإكراه والوحشة. قيل : نزلت في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبي جهل. وقيل : في علي وحمزة وأبي جهل. وقيل : في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة. ثم ذكر من وصف القيامة قائلاً ) ويوم يناديهم ( أي فاذكر ذلك اليوم. ومعنى الاستفهام في ) أين ( التوبيخ والتهكم. ومفعولا ) تزعمون ( محذوفان تقديره تزعمونهم شركائي. ) قال الذين حق عليهم القول ( أي وجب وثبت وهو مفهوم لأملأن جهنم وهم اشياطين ورؤساء الكفر. و ) هؤلاء ( مبتدأ و ) الذين أغوينا ( صفته والعائد إلى الموصول محذوف والخبر ) أغويناهم ( والتقدير : هؤلاء الذين أغويناهم أغويناهم فغووا غياً مثل ما غوينا. قال أهل السنة : أرادوا كما أن فوقنا مغوين أغوونا بقسر وإلجاء فنحن أيضاً أغويناهم بالوسوسة والتسويل وبكل ما أمكن حتى غووا. وقالت المعتزلة : يعنون أنا ما غوينا إلا باختيارنا فكذلك هم ما غووا إلا باختيارهم وإن أغواءنا ما ألجأهم إلى الغواية بل كانوا مختارين في الإقدام على تلك العقائد والأعمال فيكون كما حكي عن الشيطان ) وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) [ إبراهيم : 22 ] ثم قالوا ) تبرأنا إليك ( منهم ومن عقائدهم وأعمالهم ) ما كانوا إيانا يعبدون ( إنما كانوا يعبدون هؤلاء أهواءهم الفاسدة. وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقررتين لمعنى الجملة الأولى. وحين حكى التوبيخ المذكور ثم ما يقوله الشياطين أو أئمة الكفر اعتذاراً ذكر ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم وهو قوله : ( وقيل ادعوا شركاءهم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ( زعم جم غفير من المفسرين أن جواب ( لو ) محذوف. فقال الضحاك ومقاتل : يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة ولعلموا أن العذاب حق ، أو لو كانوا يهتدون بوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب. وقيل : ارا ورأوا العذاب لو كانوا يبصرون شيئاً ولكنهم صاروا(5/354)
" صفحة رقم 355 "
مبهوتين بحيث لا يبصرون شيئاً فلا جرم ما رأوه. وقيل : الضمير للأصنام أي كانوا أحياء مهتدين لشاهدوا العذاب. وقيل : ( لو ) للتمني أي تمنوا لو كانوا مهتدين. ثم بكتهم بالاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل. ومعنى ) عميت عليهم الأنباء ( أن أخبار المرسلين والمرسل غليهم صارت كالعمى عليهم جميعاً لا يهتدون إليهم فهم لا يتساءلون كما يسال بعض الناس بعضاً في المشكلات لأنهم متساوية الأقدام في العجز عن الجواب ، وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك اليوم يتلعثمون في الجواب عن مثل هذا السؤال كما قال سبحانه ) يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا ) [ المائدة : 109 ] فما ظنك بضلال أممهم ؟ قال القاضي : الآية تدل على بطلان قول المجبرة ، لأن فعلهم لو كان خلقاً من الله تعالى وجب وقوعه بالقدرة والإرادة ولما عميت عليهم الأنباء ولقالوا : إنما كذبنا الرسل من جهة خلقك فينا تكذيبهم ومن جهة القدرة الموجبة لذلك. وكذا القول فيما تقدّم لأن الشيطان كان له أن يقول : إنما أغويت لخلقك فيّ الغواية ، وإنما قبل من دعوته لمثل ذلك لتكون الحجة لهم على الله قوية والعذر ظاهراً. وعارضته الأشاعرة بالعلم والداعي. والذي اعتمد عليه القاضي في دفع هذا المشكل المعضل في كتبه الكلامية قوله خطأ قول من يقول إنه يمكن وخطأ قول من يقول إنه لا يمكن فالواجب السكوت. وزيفه الأشعري بأن الكافر لو اورد هذا السؤال على ربه لما كان لربه عنه جواب إلا السكوت فتكون حجة الكافر قوية وعذره ظاهراً. ولقائل أن يقول : السكوت عن جواب الكافر جواب كما قيل : جواب الأحمق السكوت. وحين فرغ من توبيخ الكفار وتهديدهم اتبعة ذكر التائبين وأنهم من المفلحين. و ( عسى ) من الكريم تحقيق أو الترجي عائد إلى التائب. ثم إن القوم كانوا يذكرون شبهة أخرى وهي قولهم ) لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) [ الزخرف : 31 ] فأجاب الله تعالى عنها بقوله ) وربك يخلق ما يشاء ويختار ( لأنه المالك المطلق المنزه عن النفع والضر فله أن يخص من شاء بما شاء. وعلى مذهب المعتزلة هو حكيم فلا يفعل إلا الحكمة والخير. وقوله ( ما كان لهم الخبرة ( بيان لقوله ) ويختار ( والخيرة من التخير كالطيرة من التطير في أنه اسم مستعمل بمعنى المصدر وهو التخير وهو بمعنى المتخير كقولهم ( محمد خيرة الله من خلقه ). وقد مر في الوقف أن بعضهم يقف على ) ما يشاء ( ثم يقول ) ويختار ما كان لهم الخيرة ( قال أبو القاسم الأنصاري : يعلم من هذا متعلق المعتزلة في إيجاب الصلاح والأصلح عليه ، واي صلاح في تكليف من علم أنه لا يؤمن بالله ولو لم يكلفه لاستحق الجنة والنعيم من فضل الله. فإن قيل : إنما كلفه ليستوجب على الله ما هو الأفضل لأن المستحق أفضل من المتفضل به قلنا : إذا علم أن ذلك الأفضل لا يحصل فتوريطه للعقاب الأبدي لا يكون رعاية للمصلحة. ثم قولهم ( المستحق خير من(5/355)
" صفحة رقم 356 "
المتفضل به ) ممنوع لأن ذلك التفاوت إنما يحصل في حق من يستنكف من تفضله ، أما الذي حصل ذاته وصفاته بإحسانه يستنكف من تفضله ؟ قلت : لقائل أن يقول : مجرد الاستبعاد لا يصلح للمنع على أن لذة الأجر يستحيل أن تحصل بدون الأجر. ثم نزه نفسه بقوله ) سبحان الله وتعالى عما يشركون ( والغرض أن الخلق والاختيار والإِعزاز والإِذلال والإِهانة والإِجلال كلها مفوض وجوبها إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة. ثم اكد ذلك بقوله ) وربك يعلم ما تكن صدورهم ( من عداوة نبيه ) وما يعلنون ( من مطاوعتهم فيه. ويحتمل أن يكون عاماً يشمل السرائر والظواهر كلها وهو المستأثر بالإلهية. و ) لا إله إلا هو ( تقرير لما قبله ) له الحمد في ( الدار ) الأولى ( على نعمه الفائضة على البر والفاجر ) و ( في الدار ) الآخرة ( كقولهم ) الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ) [ فاطر : 34 ] ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] والتحميد هناك على وجه اللذة لا التكليف. قال أهل السنة : الثواب يستحق عند المعتزلة فلا يستحق الحمد بفعله من أهل الجنة ، وأما أهل النار فلم ينعم عليهم حتى يستحق الحمد منهم. والجواب ما ذكرناه أن تحميدهم يجري مجرى التنفس. قال القاضي : إنه يستحق الحمد من أهل النار أيضاً بما فعل بهم في الدنيا من التمكين والتيسير والألطاف وسائر النعم ، وأنهم بإساءتهم لا يخرج ما أنعم الله به عليه من أن يوجب الشكر. وقال في التفسير الكبير : فيه نظر ، لأن أهل الآخرة مضطرون إلى معرفة الحق فإذا علموا أن التوبة واجبة القبول وأن الشكر مما يوجب الثواب فلا بد أن يتوبوا ويشتغلوا بالشكر ليستحقوا الثواب ويتخلصوا من العقاب. ولقائل أن يقول : لا يلزم من وجوب قبول التوبة واستحقاق الجزاء على العمل في دار التكاليف أن يكون الأمر كذلك في غير دار التكاليف. ثم بين بقوله ) وله الحكم ( أن القضاء بين العباد مختص به فلولا حكمه لما نفذ على العبد حكم سيده ، ولا على الزوجة حكم زوجها ، ولا على الابن حكم أبيه ، ولا على الرعية حكم سلطانهم ، ولا على الأمة حكم رسولهم وغلى محل حكمه وقضائه يرجع كل عبيده وإمائه. التأويل : ( ولقد ىتينا موسى ( القلب مقام القرب والوحي والمكالمة وكشف العلوم بعد هلاك فرعون النفس وصفاتها ) لعلهم يتذكرون ( إذ كانوا في عالم الأرواح مستمعين خطاب ) ألست بربكم ) [ الأعراف : 172 ] ( وما كنت ( في عرب العدم بل كنت في شرق الوجود في عالم الأرواح ) إذ قضينا إلى موسى ( أمر اتخاذ العهد منه أن يؤمن بك كقوله ) وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) [ آل عمران : 81 ] وما كنت في عالم الشهادة ) ولكنا أنشأنا قروناً ( في عالم الشهادة ) فتطاول عليهم العمر ( فاحتجوا بالنفس وصفاتها ونسوا تلك(5/356)
" صفحة رقم 357 "
العهود والمواثيق ) وما كنت ( مقيماً ) في أهل مدين ( كشعيب وموسى ، إذ أخذت منهما الميثاق أن يؤمنا بك ) ولكنا كنا مرسلين ( للرسل الذين أخذنا الميثاق منهم. ولولا أن تصيبهم التقدير ، ولولا أن مقتضى العناية الأزلية في حق هذه الأمة ودفع حجتهم علينا فإنا نادياهم وهم في العدم فأسمعناهم نداءنا ولم نوفقهم للإِجابة ) فلما جاءهم الحق ( يعني محمداً. وفي أن له رتبة أن يقول أنا الحق لفنائه عن نفسه بالكلية وبقائه بربه وكل من سواه فليس له أن يقول ذلك إلا بطريق المتابعة ) لولا أوتي مثل ما أوتي ( لولم يكونوا محتجبين بكفرهم عن رؤية كماله لقالوا : لولا أوتي ما أوتي محمد من مقام المحبة ومقام لي مع الله وقت ) بكتاب من عند الله هو أهدى منهما ( يعني الكتاب المشتمل على العلم اللدني فإنه أهدى غلى الحضرة من الكتب الموقوفة على السماع والمطالعة ، ومن لم تكن له هذه الرتبة فإنه محجوب عن الحضرة بهوى نفسه كما قال ) فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ( ) الذين آتيناهم ( حقيقة ) الكتاب ( في عالم الرواح ) من قبل ( نزوله في عالم الأشباح ) هم به يؤمنون ( في عالم الصورة ولهذا قالوا ) إنا كنا من قبله مسلمين ( ولذلك قال ) يؤتون أجرهم مرتين ( أي في العالمين ) بما صبروا ( على مخالفات الهوى وموافقات الشرع ) ويدرؤن ( بالأعمال الصالحات ظلمة المعاصي ، أو بحسنة الذكر صدأ حب الدنيا عن مرآة القلوب ، أو بحسنة نفي ما سوى الله شرك الوجود المجازي ) ومما رزقناهم ( من الوجود المجازي ) ينفقون ( في طلب الوجود الحقيقي : ( وإذا سمعوا اللغو ( وهو طلب ماسوى الله ) أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ( في طلب الوجود الحقيقي ) ولكم أعمالكم ( في طلب الفاني ) إنك لا تهدي من أحببت ( وذلك أن للقلب بابين : أحدهما إلى النفس والجسد وهو مفتوح ابداً ، والآخر إلى الروح والحضرة وهو مغلوق لا يفتحه إلا الفتاح الذي بيده كل مفتاح كما قال ) أم على قلوب أقفالها ) [ محمد : 24 ] وقال : ( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ) [ الفتح : 1 ] ( وهو أعلم بالمهتدين ( الذين اصابهم رشاش النور ) وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف ( بجذبات الألوهية من ارض الأنانية ) أو لم نمكن لهم حرماً آمناً ( في مقام الهوية ) يجبى إليه ثمرات ( حقائق ) كل شيء رزقاً ( من العلوم اللدنية ) ولكن أكثرهم لا يعلمون ( ذوق العلم اللدني ) لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً ( أي لم تسكن في قرى القلوب الفاسد استعدادها ) إلا قليلاً ( من نور الإسلام بعبور الخواطر الروحانية في الأحايين ) وكنا نحن الوارثين ( بأن رجع نور الإسلام إلى الحضرة بعد فساد الاستعداد ) حتى يبعث في أمها ( اي روحها لأن القلب من متولدات الروح ) رسولاً ( من وارد نفحات الحق الوعد الحسن للعوام الجنة ، وللخواص الرؤية وللأخص الوصول والوصال كما أوحى إلى عيسى ( تجوّع ترنى تجرد تصل إلي ) ) أغويناهم كما غوينا ( راعوا(5/357)
" صفحة رقم 358 "
طريقة الأدب ولم يقولوا كما أغويتنا مثل ما قال إبليس ) فبما أغويتني ) [ الأعراف : 16 ] أي ) أغويناهم ( بتقديريك ) كما أغوينا ( بقضائك وهذا من خصوصية تكريم بني آدم بحفظ البعداء طريقة الأدب كما يحفظها أهل القرب على بساط الكرامة ) ورأوا العذاب ( يعني ) لو كانوا يهتدون ( لرأوا عذاب الفطام عن المألوفاتوالشهوات والله أعلم بالخفيات. ( القصص : ( 71 - 88 ) قل أرأيتم إن . . . .
" قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك(5/358)
" صفحة رقم 359 "
وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون "
( القراآت )
عندي أولم ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن فليح وأبو عمرو وخزاعي عن أصحابه وابن مجاهد وأبو عون والسرندي عن قنبل. الباقون بالإسكان ) ويكأن ( ) ويكأنه ( الوقف على الياء : أبو عمرو ويعقوب ) ويك ( الوقف على الكاف و ) ويكأنه ( موصولة : روى السوسي عن السرندي وهو مذهب حمزة. الباقون كلاهما موصلان ) لخسف ( على البناء للفاعل : سهل ويعقوب وحفص ) ربي أعلم ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. الوقوف : ( بضياء ( ط ) تسمعون ( 5 ) فيه ( ط ) تبصرون ( 5 ) تشكرون ( 5 ) تزعمون ( 5 ) يفترون ( 5 ) عليهم ( ص لأن الواو للحال أي وقد آتينا مع طول الكلام ) القوّة ( ط بناء على أن التقدير و ( أذكر ) إذ قال : وقال في الكشاف : إنه متعلق ب ) تنوء ( فلا وقف ) الفرحين ( 5 ) في الأرض ( ط ) المفسدين ( 5 ) عندي ( ط ) جمعاً ( ط ) المجرمون ( 5 ) في زينته ( ط لعدم العاطف واختلاف القائل. ) قارون ( لا لأن ما بعده تعليل التمني ولو ابتدأنا لحكمنا بأنه ذو حظ ) عظيم ( 5 ) صالحاً ( ج لأن ما بعده احتمل أن يكون ابتداء إخبار من الله ، واحتمل أن يكون من قول أهل العلم ) الصابرون ( 5 ) من دون الله ( ق قد قيل : لتفصيل الاعتبار ) المنتصرون ( 5 ) ويقدر ( ج للابتداء بلولا مع اتحاد المقول ) لخسف بنا ( ط ) الكافرون ( 5 ) ولا فساداً ( ط ) للمتقين ( 5 ) منها ( ج لعطف جملة الشرط ) يعملون ( 5 ) معاد ( ط ) مبين ( 5 ) للكافرين ( 5 ز للآية مع العطف ) المشركين ( 5 للآية وخلو المعطوف عن نون التأكيد التي خلت المعطوف عليه مع اتفاق المجملتين آخراً احترازاً من إيهام كون ما بعده صفة ) آخر ( 5 ) لا إله إلا هو ( ط ) وجهه ( ط ) ترجعون ( 5. التفسير : لما بين سبحانه حقيقة آلهيته واستحقاقه للحمد المطلق وأن مرجع الكل إلى حكمته وقضائه ، أتبعه بعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه أحد سواه وهو تبديل ظلام الليل بضياء النهار وبالعكس. والمعنى : أخبروني من يقدر على هذا ؟ والسرمد الدائم المتصل من السرد ، والميم زائدة ، وانتصابه على أن مفعول ثانٍ لجعل أو على الحال ، وإلى متعلق بجعل أو ب ) سرمداً ( ، ومنافع الليل والنهار والاستدلال بهما على كما قدرة الله تعالى قد تقدمت مراراً. قال جار الله : وإنما لم يقل بنهار تتصرفون فيه كما قيل : ( بليل(5/359)
" صفحة رقم 360 "
تسكنون فيه ( لأن الضياء وهو ضوء الشمس تتعلق به المنافع المتكاثرة وليس التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثَمّ قرن بالضياء ) أفلا تسمعون ( لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل ) أفلا تبصرون ( لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه. قال الكلبي : ( أفلا تسمعون ( معناه أفلا تطيعون من يفعل ذلك. وقوله ( أفلا تبصرون ( معناه أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال. وقال أهل البرهان : قدم الليل على النهار لأن ذهاب الليل بطلوع الشمس أكثر فائدة من ذهاب النهار بدخول الليل. وإنما ختم الاية الأولى بقوله ) أفلا تسمعون ( بناء على الليل ، وختم الأخرى بقوله ) أفلا تبصرون ( بناء على النهار والنهار مبصر وآية النهار مبصرة. ثم بين أن من رحمته زواجه بين الليل والنهار لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار ولإرادة الشكر على النعمتين جميعاً. وفي الآية طريقة اللف ثقة بفهم السامع وذلك لأن السكون بالنهار وإن كان ممكناً وكذا الابتغاء من فضل الله بالليل إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره فلهذا خصه به. وفي تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء دليل على أنه لا شيء أسخط عند الله من الإشراك به ، ويعلم منه أنه لا شيء أجلب لرضاه من الشهادة بوحدانيته. وفحوى الخطاب : أين الذين ادّعيتم إلهيتهم لتخلصكم أو أين الذين قلتم إنها تقربكم إلى الله زلفى وقد علموا أن لا إله إلا الله ؟ فيكون ذلك زيادة في غمهم. ومعنى ) ونزعنا ( وأخرجنا ) من كل أمة شهيداً ( قال بعضهم : هونبيهم لأن الأنبياء يشهدون أنهم بلغوا أمتهم الدلائل وبلغوا في إيضاحها كل غاية ليعلم أن التقصير منهم فيكون ذلك زيادة في غمهم أيضاً. وقال آخرون : بل هم الشهداء الذين يشهدون على الناس في كل زمان ، ويدخل في جملتهم الأنبياء وهذا أقرب ، لأنه تعالى عم كل جماعة بأن ينزع منهم الشهيد فيدخل فيه أزمنة الفترات والأزمنة التي بعد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . ) فقلنا ( للأمة ) هاتوا برهانكم ( فيما كنتم عليه من الشرك وخلاف الرسول ) فعلموا ( حينئذ ) أن الحق لله ( ورسوله وغاب ) عنهم ما كانوا يفترون ( من الباطل والزور. ثم عقب حديث أهل الضلال بقصة قارون. وهو اسم أعجمي ولهذا لم ينصرف بعد العلمية ولو كان ( فاعولاً ) من قرن لا نصرف. والظاهر أنه كان ممن آمن بموسى ، هذا ظاهر نص القرآن ولا يبعد أيضاً حمله على القرابة. قال الكلبي : إنه كان ابن عم موسى. وقيل : كان موسى ابن أخيه وكان يسمى المنوّر لحسن صورته ، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة إلا أنه نافق كما نافق السامري. وقال : إذا كانت النبوّة لموسى والذبح والقربان إلى هارون فما لي ؟ وفي قوله فبغى عليهمر وجوه أحدها : أن بغيه استخفافه بالفقراء. وثانيها أن ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم. وقال(5/360)
" صفحة رقم 361 "
القفال : معناه طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده. وقال الضحاك : طغى عليهم واستطال فلم يوافقهم في أمر. ابن عباس : تجبر وتكبر عليهم ومثله عن شهر بن حوشب قال : بغيه أنه زاد عليهم في الثياب شبراً فهذا يعود إلى التكبر. الكلبي : بغيه حسده وذلك أنه لما جوز بهم موسى البحر وصارت السرالة له والوزارة لهارون ، وكان القربان إلى موسى فجعله إلى هارون فوجد قارون في نفسه حسدهما فقال لموسى : الأمر لكما ولست على شيء إلى متى اصبر ؟ قال موسى : هكذا حكم الله. قال : والله لا أصدقك حتى تأتي بآية ، فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يأتي كل واحد بعصا فألقى مجموع العصيّ في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها فأصبحوا فإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال قارون : ما هو بأعجب مما تصنع من السحر. واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله ) وآتيناه من الكنوز ( سأل الكلبي : الستم تقولون إن الله لا يعطي الحرام فكيف أضاف إيتاء مال قارون إلى نفسه ؟ فأجاب بأنه لا حجة في أن ماله حرام لجواز أنه ظفر بكنر لبعض الملوك الخالية ، وكان الظفر عندهم طريق التملك ، أو لعله وصل إليه بالإرث من جهات ، أو بالكسب من جهة المضاربات وغيرها. والمفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهو ما يفتح به الباب ، أو جمع مفتح بالفتح وهو الخزانة. فمن الناس من طعن في القول الأول لأن مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ، ولو أنا قدرنا بلدة مملوأة من الذهب لكفاها أعداد قليلة من المفاتيح ولهذا قال أبو رزين : يكفي للكوفة مفتاح واحد. وأيضاً الكنوز هي الأموال المدفونة في الأرض ولا يتصوّر لها مفتاح. أجاب الناصرون للقول الأول وهو اختيار ابن عباس والحسن : أن المال إذا كان من جنس العروض لا من جنس النقود جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد. وأيضاً ما روي أن مفاتيحه كانت من جلود الإبل وكل مفتاح غصبع ولكل خزانة مفتاح ، وكان إذا ركب حملت المفاتيح ستون بغلاً غير مذكور في القرآن. فالصواب أن يفسر قوله ) لتنوء ( أي تنهض مثقلاً بأن تلك الخزائن يعسر ضبطها ومعرفتها على أهل القوّة في الحساب ، وقريب منه قول أبي مسلم : إن المراد من المفاتح العلم والإحاطة كقوله ) وعنده مفاتح الغيب ) [ الأنعام : 59 ] والمراد أن حفظها والاطلاع عليها يثقل على العصبة أولي القوّة والمتانة في الرأي. وظاهر الكنوز وإن كان من جهة العرف هو المال المدفون إلا أنه قد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق. وأيضاً لا استبعاد في أن يكون موضع المال المدفون بيتاً تحت الأرض له غلق ومفتاح معه. و ) لا تفرح ( كقوله ) ولا تفرحوا بما آتاكم ) [ الحديد : 23 ] وذلك أنه لا يفرح بالدنيا(5/361)
" صفحة رقم 362 "
إلا من اطمأن ورضي بها. قال ابن عباس : كان حبه ذلك رشكاً لأنه ما كان يخاف معه عقوبه الله تعالى : ( وابتغ فما آتاك الله ( من المال والثروة ) الدار الآخرة ( يعني أسباب حصول سعاداتها من أصناف الخيرات والمبرات الواجبة والمندوبة فإن ذلك هو نصيب المؤمن من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب ، وإلى هذا أشار بقوله ) ولا تنسَ نصيبك من الدنيا ( ويحتمل أن يراد به اللذات المباحة. وحين أمروه بالإحسان المالي أمروه بالإحسان مطلقاً ويدخل فيه الإحسان بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن الغيبة والحضور. وفي قوله ) كما أحسن الله إليك ( إشارة إلى قوله تعالى ) لئن شكرتم لأزيدنكم ) [ إبراهيم : 7 ] وإلى ما قال الحكماء : المكافأة في الطبيعة واجبة. و ) الفساد في الأرض ( المنهي عنه هو ما كان عليه من الظلم والبغي. وهذا القائل موسى عليه السلام أو مؤمنو قومه وهو ظاهر اللفظ. وكيف كان فقد جمع في هذه الألفاظ من الوعظ ما لو قبل لم يكن عليه مزيد لكنه أبي أن يقبل بل تلقى النصح بكفران النعمة قائلاً ) إنما آوتيته على علم عندي ( قال قتادة ومقاتل والكلبي : كان قارون أقرأ بني إسرائيل للتوراة فقال : إنما أوتيته لفضل علمي واستحقاقي لذلك. وقال سعيد بن المسي والضحاك : إن موسى أنزل عليه الكيمياء من السماء فعلم قارون ثلث العلم ويوشع ثلثه وطالوت ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه ، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهباً. وقيل : أراد علمه بوجوه المكاسب والتجارات. وقيل : أراد إن الله أعطاني ذلك على علم له تعالى بحالي وباستئهالي لذلك. وقوله ( عندي ( الأمر كذلك اي في اعتقادي وفي ظني فأجابه الله تعالى بقوله ) أولم يعلم ( الآية. قال علماء المعاني : يجوز أن يكون المعنى بالاستفهام إثباتاً لعمله لأنه قد قرأ في التوراة أخبار الأمم السالفة والقرون الخالية وحفظها من موسى وغيره فكأنه قيل : إنه قد علم ذلك فلم اغتر بكثرة ماله وأعوانه ؟ ويجوز أن يراد به نفي العلم لأنه لما تحدّى بكونه من أهل العلم حيث قال ) على علم عندي ( وبخه الله تعالى أنه لم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهلكى. ووجه اتصال قوله ) ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون ( بما قبله أنه تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه عالم بكل المعلومات. وقال أبو مسلم : أرا أنهم لا يسالون سؤال استيقان وإنما يسألون سؤال تقريع ومحاسبة ) فخرج على قومه في زينته ( عن الحسن : في الحمرة والصفرة. وقيل : خرج على بغلة شهباء عليه ثوب أحمر أرجواني ، وعلى البغلة سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه. وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحور ، وعن يمينه ثلثمائة غلام ، وعن يساره ثلثمائة جارية بيض عيلهن الحلى والثياب الفاخرة. وقيل : في تسعين ألفاً عليهم الثياب(5/362)
" صفحة رقم 363 "
الصفر. قال الراغبون في الحياة العاجلة ) يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون انه لذو حظ عظيم ( والحظ الجد والبخت. عن قتادة : كانوا مسلمين تمنوا ذلك رغبة في الإنفاق في سبيل الخير. وقال آخرون : كانوا كفاراً وقد مر في سورة النساء تحقيق الغبطة والحسد في قوله ) ولا تمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) [ النساء : 22 ] ( وقال الذين أوتوا العلم ( بأحوال الدنيا وأنها عند الآخرة كلا شيء ) ويلكم ( وأصله الدعاء بالهلاك إلا أنه قد يستعمل في الردع والزجر بطريق النصح والإِشفاق ، والضمير في قوله ) ولا يلقاها ( عائد إلى الكلمة المذكورة وهي قوله ) ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ( أو إلى الصواب بمعنى المثوبة. أو بتأويل الجنة ، أو إلى السير والطريقة أي لا يلزم هذه السيرة ) إلا الصابرون ( على الطاعات وعن الشهوات وعلى ما قسم الله وحكم به من الغنى وضده ، وظاهر حال قارون ينبئ عن أنه كان ذا أشر وبطر واستخفاف بحقوق الله واتهانة بنبيه وكتابه ، فلا جرم خسف الله به وبدراه الأرض ، إلا أن المفسرين فصلوا فقالوا : كان يؤذي نبي الله موسى وهو يداريه للقرابة التي كانت بينهما حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل الف درهم على درهم ، فحسبه فاستكثر فشحت به نفسه فجمع بني إسرائيل وقال : إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا : أنت كبيرنا فأمر بما شئ. فقال : ائتوا إلى فلانة البغي حتى ترميه بنفسها في جمع بني إسرائيل من سرق قطعناه ، ومن افترى جلدناه ، ومن زنى وهو غير مصن جلدناه ، وإن أحصن رجمناه. فقال قارون : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت أنا. قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة. فأحضرت فناشدها موسى بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فتداركها الله فقالت : يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك. فقال : يا بني إسرائيل إن الله قد بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ، ومن كان معي فيعتزل فاعتزلوا جميعهاً غير جرلين. ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط. ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون واصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه. ثم قال : خذيهم فانطبقت عليهم. فأوحى الله إلى موسى ما أفظك استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم أما وعزتي لو غياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً. قلت : لعل استغاثته كانت مقرونة بالتوبة وإلا فالعتاب بعيد. ثم إن بني إسرائيل أصبحوا يتناجون بينهم إنما دعا موسى على(5/363)
" صفحة رقم 364 "
قارون ليستفيد داره وكنوزه ، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله. ومعنى ) من المنتصرين ( من المنتقمين من موسى ، أو من الممتنعين من عذاب الله ) وأصبح الذين تمنوا مكانه ( أي منزلته من الدنيا وأسبابها ) بالأمس ( أي بالزمان المتقدم ) يقولون ( راغبين في طاعة الله والرضا بقضائه وقسمته ويكأن اللهر من قرأ ) وي ( مفصولة عن ) كأن ( وهو مذهب الخليل وسيبويه فهي كلمة تنبيه على الخطأ وتندم كأنهم تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وتندموا ثم قالوا ) كأنه لا يفلح الكافرون ( أي ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح نظير هذا الاستعمال قول الشاعر : ويكأن من يكن له نشب يح
بب ومن يفتقر يعيش عيش ضر
وعند الكوفيين : ويك بمعنى ويلك أي ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون. حكى هذا القول قطربق عن يونس ، وجوّز جار الله أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى ) وي ( واللام مقدر قبل أن لبيان المقول لأجله هذا القول والتعليل أي لأنه لا يفلح الكفار كان ذلك الخسف. قال في الكشاف قوله تلكر تعظيم للدار الآخرة وتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت 1 كرها وبلغك وصفها. قلت : يحتمل أن يكون للتبعيد حقيقة. وفي قوله ) لا يريدون ( كون أن يقول ( يترون ) زجر عظيم ووعظ بليغ كقوله ) ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ) [ هود : 113 ] حيث علق الوعيد بالكون عن علي أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحته. ومن الناس من رد العلو إلى فرعون والفساد إلى قارون لقوله تعالى ) إن فرعون علا في الأرض ) [ القصص : 4 ] وقال في قصة قارون ) ولا تبغ الفساد في الأرض ( وضعف هذا التخصيص بيِّن لقوله في خاتمة الآية ) والعاقبة للمتقين ( قوله ) من جاء بالحسنة ( الآية ، قد مر تفسير مثله في آخر ( الأنعام ) وفي آخر ( النمل ). وقوله ( فلا يجزى الذين عملوا السيئات ( من وضع الظاهر موضع المضمر إذ كان يكفي أن يقال : فلا تجزون ( إلا أنه أراد فضل تهجين لخالهم بإسناد عمل السيئات إليهم مكرراً ، وفي ذلك لطف للسامعين في زيادة تبغيض السيئة إلى قلوبهم. ثم أراد أن يسلي رسوله في خاتمة السورة فقال ) إن الذي فرض عليك القرآن ( أي أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه ) لرادّك إلى معاد ( وزأي معاد فتنكير المعاد للتعظيم وأنه ليس لغيره من البشر مثله يعني أن الذي حملك صعوبة تكلي التبليغ وما يتصل به لمثيبك عليها ثواباً لا يحيط به الوصف. وقيل : أراد عوده إلى مكة يوم الفتح ، ووجه التنكير ظاهر لأن مكة(5/364)
" صفحة رقم 365 "
يومئذ كانت معاداً له شأن لغلبة المسلمين وظهور عز الإسلام وأهله وذل أهل الشرك وحزبه والسورة مكية. فقيل : وعده وهو بمكة في أذلا من أهلها أنه مهاجر بالنبي منها ويعيده إليها في ظفر ودولة. وقيل : نزلت عليه ذه الآية حين بلغ الجحفة في مهاجرة وقد اشتاق إلى وطنه. وفي الآية إخبار عن الغيب وقد وقع كما أخبر فيكون فيه إعجاز دال على نبوّته. وحين وعد رسوله الردّ إلى المعاد المعتبر قال ) قل ( لأهل الشرك ) ربي أعلم ( يعني نفسه وغياهم بما يستحقه كل من الفريقين في معاده ، ولا يخفى أن هذا كلام منصف واثق بصدقه وحقيته. ثم ذكر رسوله ما أنعم به عليه فقال ) وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة ( قال أهل العربية : هذا الاستثناء محمول على المعنى كأنه قيل : وما ألقى إليك الكتاب إلا لأجل الرحمة ، أو ) إلا ( بمعنى ) لكن ( أي ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك. ثم نهاه عن اتباع أهواء أهل الشرك وقد مرّ مراراً أن مثل هذا النهي منباب التهييج له ولأمته. ثم إن مرجع الكل إليه فقال ) كل شيء هالك إلا وجهه ( فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم أي يعدم كل شيء سواه ، والوجه يعبر به عن الذات ، ومنهم من فسر الهلاك بخروجه عن كونه منتفعاً به منفعته الخاصة به إما بالإماتة أوبتفريق الأجزاء كما يقال ) هلك الثوب وهلك المتاع ( وقال أهل التحقيق : معنى الهلاك كونه في حيز الإمكان غير مستحق للوجود ولا للعدم من عند ذاته ، وإن سميت المعدوم شيئاً فممتنع الوجود أحق كل شيء بأن يسمىة هالكاً. استدلت المعتزلة بالآية على أن الجنة والنار غير مخلوقتين لأنهما لو كانتا مخلوقتين لعرض لهما الفنشاء بحكم الآية ، وهذا يناقض قوله ) أكلها دائم ) [ الرعد : 35 ] وعورض بقوله ) اعدّت للمتقين ) [ آل عمران : 133 ] و ) أعدت للكافرين ) [ آل عمران : 131 ] ويحتمل أن يقال الكل بمعنى الأكثر ومن هناك قال الضحاك : كل شيء هالك إلا الله والعرش والجنة والنار. وقيل : إلا العلماء فإن علمهم باق. ويمكن أن يقال إن زمان فناء الجنة لما كان قليلاً بالنسبة إلى زمان بقائها فلا جرم أطلق لفظ الدوام عليه ومن فسر الهلاك بالإمكان فلا إشكال والله أعلم. التأويل : ( أرايتم إن جعل الله عليكم ( ليل الفراق عند استيلاء ظلمة البشرية سرمداًر ) من إله غير الله يأتيكم بضياء ( نهار الوصل والتجلي ) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم ( نهار الوصل بطلوع شمس التجلي ) سرمداً ( ) من إله غير الله يأتيكم بليل ( سر تسكنون فيه عن وعثاء سطوة التجلي ) ومن رحمته جعل لكم ( ليل السر ونهار التجلي فإن العاشق لو دام في التجلي كان يستهلك وجوده ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ) إنه ليغان على قلبي ( وقال لعائشة : كلميني يا حميراء. وذلك لتخرجه من سطوات شمس التجلي إلى سر ظل البشرية ليستريح من التعب والنصب. وليس هذا السر من قبيل الحجاب وإنما هو من جملة الرحمة واللطف(5/365)
" صفحة رقم 366 "
نظيره الشمس في عالم الصورة فإنها في خط الاستواء تحرق ، وفي الآفاق الرحوية لا تؤثر ، وفي الآفاق الحملية يعتدل الحر والبرد فتكثر العمارة وتسهل ويعيش الحيوان ) ونزعنا من كل أمة ( من أرباب النفوس ) شهيداً ( هو القلب الحاضر ) فقلنا هاتوا برهانكم ( وهو حقيقة التوحيد التي لا تحصل بالفعل إلا بجذبة خطاب الحق فعلموا بتلك البراهين القاطعة أن الحق لله ) إن قارون ( النفس ) كان من قوم موسى ( القلب لأن الله تعالى جعل النفس تبعاً للقلب وجعل سعادتها في متابعة ) وآتيناه من الكنوز ( المودعة في صفاتها قد أهلك من قبله من القرون كإبليس فإنه أكثر علماً وطاعة ) في زينته ( هي التي زين حبها للناس من النساء والبنين وغير ذلك ) قال الذين يريدون الحياة الدنيا ( وهم صفات النفس. ) وقال الذين أوتوا العلم ( وهو صفات الروح ) فخسفنا به ( الأرض دركات السفل ) وبداره ( وهي قالبه أرض جهنم يتغلغل فيها إلى يوم القيامة بل إلى الأبد ) نجعلها للذين لا يريدون ( كما قال في بعض الكتب المنزلة : عبدي أنا ملك حي لا أموت أبداً ، أطعني أجعلك ملكاً حياً لا تموت أبداً. عبدي أنا ملك إذا قلت لشيء كن فيكون ، أعني أجعلك ملكاً إذا قلت لشيء كن فيكون. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) عنوان كتاب الله إلى عباده المؤمنين من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت ( ) إن الذي فرض ( أي أوجب عليك التخلق بخلق القرآن ) لرادّك إلى مكعاد ( هو مقام الفناء في الله والبقاء به ) قل ربي أعلم من جاء بالهدى ( وهو بذل الوجود المجازي في الوجود الحقيقي ) إلا رحمة من ربك ( أي إلا أنا ألقينا الكتاب إليك إلقاء الإكسير على النحاس فتخلقت بخلق القرآن والله المستعان .(5/366)
" صفحة رقم 367 "
سورة العنكبوت
( سورة العنكبوت وهي مكية حروفها 4595 كلمها 1981 آياتها 69 آية ) بسم الله الرحمن الرحيم
( العنكبوت : ( 1 - 15 ) الم
" الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين " ( الوقوف : ( الم ( كوزفي. ) لا يفتنون ( 5 ) الكاذبين ( 5 ) يسبقونا ( ط ) يحكمون ( 5 ج ) لآت ( ط ) العليم ( 5 ) لنفسه ( ط العالمينر 5 ) يعملون ( 5 ) حسناً ( ط ) فلا تطعهما ( ط ) تعملون ( 5 ) الصالحين ( 5 ) كعذاب الله ( ط ) معكم ( ط ) العالمين ( 5 ) المنافقين ( 5 ) خطاياكم ( ط ) شيء ( ط ) لكاذبون ( 5 ) مع أثقالهم ( ط فصلاً بين(5/367)
" صفحة رقم 368 "
الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين. ) يفترون ( 5 ) عاماً ( ط لحق الحذف اي فلم يؤمنوا فأخذهم ) الطوفان ( ط ) ظالمون ( 5 ) للعالمين ( 5. التفسير : إنه سبحانه لما قال في خواتيم السور المتقدمة ) إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد ) [ القصص : 85 ] أي إلى مكة ظاهراً ظافراً ، وكان في ذلك الرد من احتمال مشاق الحوادث ما كان قال بعده ) ألم أحسب الناس ( إلى قوله ) وهم لا يفتنون ( بالجهاد أو نقول : لما أمر بالدعاء إلى الدين القويم في قوله ) وادع إلى ربك ) [ القصص : 87 ] وكان دونه من المتاعب وأعباء الرسالة مالا يخفى ، بدا السورة بما يهوّن على النفس بعض ذلك. وايضاً لما بين أن كل هالك له رجوع إليه ، لادّ على منكري الحشر بأن الأمر ليس على ا حسبوه ولكنهم يكلفون في دار الدنيا ثم يرجعون إلى مقام الجزء والحساب. قال أهل البرهان : وقوع الاستفهام بعد ( ألم ) يدل على استقلالها وانقطاعها عما بعدها في هذه السورة وفي غيرها من السور. وفي تصدير السورة بأمثال هذه الحروف تنبيه للمخاطب وإيقاظ له من سنة الغفلة كما يقدم لذلك كلام له معنى مفهوم كقول القائل : اسمع وكن لي. ولا يقدم إلا إذا كان في الحديث شأن وبالخطاب اهتمام ، ولهذا ورد بعد هذه الحروف ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن الذي لا يخفى غناؤه والاهتمام بشأنه كقوله ) الم ذلك الكتاب ) [ البقرة : 1 ] ( الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب ) [ آل عمران : 1 ] ( المص كتاب أنزل إليك ) [ الأعراف : 1 ] ( يس والقرآن ) [ يس : 1 ] ( ص والقرآن ) [ ص : 1 ] ( الم تنزيل الكتاب ) [ السجدة : 1 ] إلا ثلاث سور : ( كهيعص ) [ مريم : 1 ] ( الم أحسب الناس ( ) الم غلبت الروم ) [ الروم : 1 ] ولا يخفى أن ما بعد حروف التهجي فيها من الأمور العظام التي يحق أن ينبه عليها بيانه في هذه السورة أن القرآن ثقله وعبؤة بما فيه من التكاليف ، وبيانه في سورة مريم ظاهر ، لأن خلق الولد فيما بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر معجز. وكذا الإخبار عن إلبة الروم قبل وقوعها. ومعنى الآية راجع إلى أن الناس لا يتركون بمجرد التلفظ بكلمة الإِيمان بل يؤمرون بأنواع التكاليف. واختلفوا في سبب نزولها فقيل : نزلت في عمار بن ياسر والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وكانوا يعذبون بمكة. وقيل : نزلت في أقوام هاجروا وتبعهم الكفار فاستشهد بعضهم ونجا الباقون. وقيل : في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب وهو أول قتيل من المسلمين ، رماه عامر بن الحضرمي يوم بدر فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : سيد الشهداء مهجع ، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة. قال جار الله : مفعولا الحسبان الترك وعلته والتقديرك أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا. قال : والترك بمعنى التصيير. فقوله ) وهم لا يفتنون ( حال سدّ مسدّ ثاني مفعوليه. وقال آخرون : تقديره(5/368)
" صفحة رقم 369 "
أحسبوا أنفسهم متروكة غير مفتونين لأن ) قالوا آمنا ( وأقول : إن من خواص طأن ( مع الفعل و ) أن ( مع جزأيه سدّها مسدّ مفعولي أفعال القلوب ، والحكم بأن الترك ههنا بمعنى التصيير غير لازم يؤيد ما ذكرناه من المعنيين قوله سبحانه في موضع آخر ) أم حسبتم أن تتركوا ) [ التوبة : 16 ] والفتنة الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان وكل ما يحب ويستلذ ، ومن ملاقاة الأعداء والمصابرة على أذاهم وسائر ما تكرهه النفس. والتحقي أن المقصود من خلق البشر هو العبادة الخالصة لله. فإذا قال باللسان : آمنت فقد ادعى طاعة الله بالجنان فلا بدّ له من شهود وهو الإتيان بالأركان ، وإذا أحسبوا أن يقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهود بلا مزك ؟ أو المراد أحسبوا أن يتركوا في أول المقامات لا بل ينقلون إلى أعلى الدرجات وهو مقام الإخلاص والقربات ؟ ثم مثل حال هؤلاء بحال السلف منهم قائلاً ) ولقد فتنا الذين من قبلهم ( أراد كذلك فعل الله بمن قبلهم لم يتركهم بمجرد قولهم ) آمنا ( ، بل أمرهم بالطاعات وزجرهم عن المنهيات. وقوله ( فليعلمن الله ( كقوله ) وليعلم الله ) [ الآية : 140 ] وقد مر تحقيقه في ) آل عمران (. والحاصل أن التجدد يرجع غلى المعلوم لا إلى العالم ولا إلى العلم ، وذلك لأن الأول زماني دون الأخيرين. وأما عبارات المفسرين فقال مقاتل : فيرين الله وليظهرن الله. وقيل : فليميزن ، وجوز جار الله أن يكون وعداً ووعيجاً كأنه قال : وليبينن الذي صدقوا وليعاقبن الكاذبين. قال الإمام فخر الدين الرازي : في وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أول إيجاب التكليف وعن قوم مستديمي الكفر مستمرين عليه ، فقال في حق الأوّلين ) الذين صدقوا ( بصيغة الفعل المنبئ عن التجدد ، وقال في حق الآخرين ) وليعلمن الكاذبين ( بالصيغة المنبئة عن الثبات. وإنما قال ) يوم ينفع الصادقين صدقهم ) [ المائدة : 119 ] بلفظ اسم الفاعل لأن الصدق يومئذ قد يرسخ في قلوب المؤمنين بخلاف أوائل الإِسلام. ثم بين بقوله ) أم حسب الذين ( الخ. أن من كلف بشيء ولم يمتثل عذب في الحال وإلا يعذب في الاستقبال نظيره قوله ) ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا ) [ الأنفال : 59 ] والحاصل أن الإمهال لا يوجب الإهمال ، والتعجيل في جزاء الأعمال إنما يوجد ممن يخاف الفوت لولا الاستعجال. ومعنى الإضراب أن هذا الحسبان أشنع من الحسبان الأول ، لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه ولهذا ختم الآية بقوله ساء ما يحكمونر والمخصوص محذوف و ) ما ( موصولة أو مبهمة والتقدير : بئس الذي يحكمون حكمهم هذا ، وبئس حكماً يحكمونه حكمهم هذا. وفي الآية إبطال قول من ذهب إلى أن التكاليف(5/369)
" صفحة رقم 370 "
إرشادات وإلا يعاد عليها ترغيب وترهيب ولا يوجب من الله تعذيب. واعلم أن أصول الدين ثلاثة : معرفة المبدأ وأشار إليه بقوله ) آمنا ( ، ومعرفة الوسط وهو إرسال الرسل. وإيضاح السبل وإليه أشار بقوله وهم لا يفتنون ولقد فتنار ومعرفة المعاد إما للأشقياء وهو قوله ) الم أحسب ( الآية وإما للسعجاء وهو قوله ) من كان يرجو ( أي يأمل ) لقاء ( جزاء ) الله فإن أجل الله لآت ( فإن أراد بالأجل الموت ففيه إشارة إلى بقاء النفس بعد فراق البدن ، فلولا البقاء لما حصل اللقاء كقولك : من كان يرجو الخير فإن السلطات واصل. فإِنه لا يفهم منه إلا إيصال الخير بوصوله. ومثله : من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب. إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة. ويحتمل أن يراد بالأجل الوقت المضروب للحشر. وقيل : يرجو بمعنى يخاف من قول الهذلي : إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها ) وهو السميع ( لأقوال العباد صدقوا أم كذبوا ) العليم ( بنياتهم وطوياتهم وبسائر أعمالهم فيجازيهم بالمسموع ما لا أذن سمعت ، وبالمرئي مالا عين رأت وبالنيات مالا خطر على قلب بشر. ثم بين بقوله ) ومن جاهد ( الآية. أنف ائدة التكاليف والمجاهدات إنما ترجع إلى المكلف والله غني عن كل ذلك. قال المتكلمون من الأشاعرة : في الآية دلالة على ان رعاية الأصلح لا تجب على الله وإلا كان مستكملاً بذلك ، وأن أفعاله لا تعلل بغرض لأن ذلك خلاف الغني ، وأنه ليس في مكان وإلا لوزم افتقاره ، وأنه ليس قادريته بقدرة ولا عالميته بعلم لأن القدرة والعلم غيره فيلزم افتقاره. ويمكن أن يجاب عن الأول بأن وجوب صدور الأصلح عنه لمقتضى الحكمة لا يوجب الاستكمال. وعن الثاني بأن استتباع الفائدة لا يوجب افتقار المفيد. وعن الثالث أن استصحاب المكان غير الافتقار إليه. وعن الرابع أن العالم هو ما يغاير ذات الله مع صفاته. وفي الآية بشارة من وجه وإنذار من وجه آخر ، وذلك أن الاستغناء عن الكل يوجب غناه عن تعذيب كل فاجر كما أنه يمكن أن يهلك كل صالح ولا شيء عليه إلا أنه رجح جانب البشارة بقوله ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات ( الآية وقد مر مراراً أن الإيمان في الشرع عبارة عن الصتديق بجميع ما قال الله تعالى وقال رسول الله صلى الله عليه سولم تفصيلاً فيما علم وإجمالاً فيما لم يعلم ، والعمل الصالح هو الذي ندب الله ورسوله إليه ، والفاسد ما نهى الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) عنه. وعند المعتزلة الأمر والنهي مترتب على الحسن والقبح. ثم العمل الصالح باق لأنه في مقابلة الفاسد والفاسد هو الهالك التالف. يقال :(5/370)
" صفحة رقم 371 "
فسد الزرع إذا خرج عن حد الانتفاع. ولكن العمل عرض لا يبقى بنفسه ولا بالعامل لأن كل شيء هالك إلا وجهه ، فبقاؤه إنما يتصور غذا كان لوجه الله. ومنه يعلم أن النية شرط في الأعمال الصالحة وهي كونها لله تعالى. وخالف زفر في نية الصوم وأبو حنيفة في نية الوضوء ، وقد مر. ثم إنه تعالى ذكر في مقابلة الإيمان والعمل الصالح أمرين : تكفير السيئات والجزاء بالأحسن. فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان ، والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح ، ومنه يعلم أن الإيمان يقتضي عدم الخلود في النار لأن الذي كفر سيئاته يدخل الجنة لا محالة ، فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة وهو مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشرن ولا يبعد أن يكون هو الرؤية عند من يقول بها. وههنا بحث وهو أن قوله ) لنكفرن ( يستدعي وجود السيئات حتى تكفر ، فالمراد بالذين آمنوا وعملوا إما قوم مسلمون مذنبون ، وإما قوم مشركون آمنوا فحط الإيمان ما قبله. أو يقال إن وعد الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء ، نظيره قول الملك لقوم : إذا أطعتموني أكرم آباءكم وأحترم أبناءكم. وهذا لا يقتضي أن يكرم ىباء من توفي ابوه ويحترم ابن من لم يولد له ابن ، ولكن مفهومه أنه يكرم ىباء من له أب ويحترم ابن من له ابن. أو يقال : ما من مكلف غلا وله سيئة حتى الأنبياء ، فإن ترك الأولى بالنسبة إليهم سيئة بل حسنات الأبرار سيئات المقربين. وحين بين حسن التكاليف ووقوعها وذكر ثواب من حقق التكاليف أصولها وفروعها اشار بقوله ووصينا الإنسانر الآية إلى أنه لا دافع لهذه السيرة ولا مانع لهذه الطريقة فإن الإنسان إذا انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه ، ومع هذا لو أمروه بالمعصية لا يجوز اتباعهم فكيف غيره ؟ ومنه يعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ومعنى ) وصينا ( أمرنا كما مر في قوله ) ووصى بها إبراهيم ) [ البقرة : 132 ] وقوله ( بوالديه ( أي بتعهدهما ورعاية حقوقهما ، وعلى هذا ينتصب ) حسناً ( بمضمر يدل عليه ما قبله أي أولهما حسناً أو افعل بهما حسناً كأنه قال : قلنا له ذلك وقلنا له ) وإن جاهداك ( غلى آخره فلو وقف على قوله ) بوالديه ( حسن ويجوز أن يراد وصيناه بإيتاء والجيه حسناً وقلنا له ) وإن جاهداك ( وقوله ( ما ليس لك به علم ( كقوله ) ما لم ينزل به عليكم سلطاناً ) [ الأنعام : 81 ] أي لا معلوم ليتعلق العلم به. وإذا كان التقليد في الإيمان قبيحاً فكيف يكون حال التقليد في الكفر. وعلى وجوب ترك طاعة الوالدين إذا ارادا ولدهما على الإشراك دليل عقلي ، وذلك أن طاعتهما وجبت بأمر الله فإذا نفيا طاعة الله في الإشراك به فقد أبطلا طاعة الله مطلقاً ، ويلزم منه عدم لزوم طاعة الوالدين بأمر الله ، وكل ما يفضي وجوده إلى عدمه فهو باطل. فطاعة الوالدين في اتخاذ الشرك بالله من الممتنعات. وفي قوله(5/371)
" صفحة رقم 372 "
) إليّ مرجعكم ( ترغيب في رعاية حقوق الوالدين وترهيب عن عقوقهما وإن كانا كافرين إلا في الدعاء إلى الشرك. وفيه أن المجازي للمؤمن والمشرك إذا كان هو الله وحده فلا ينبغي أن يعق الوالدين لأجل كفرهما. وفي قوله ) فأنبئكم ( دليل على أنه سبحانه عالم بالخفيات لا يعزب عنه شيء. يروى أن سعد بن أبي وقاص الزهري حين اسلم قالت أمه وهي حمنة بنت أبي سفيان : يا سعد بلغني أنك قد صبأت ، فوالله لا يظلني سقف بيت وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد. وكان أحب ولدها غليها فابى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فنزلت هذه الآية ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سعداً أن يداريها ويرضيها بالإحسان. ثم أكد جزاء من آمن وعمل صالحاً بتكرير قوله ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ( اي في زمرتهم ) وحسن أولئك رفيقاً ) [ النساء : 69 ] قال الحكماء : أي في المجردين الذين لا كون لهم ولا فساد فيدخل فيه العلويات عندهم. ثم بين حال أهل النفاق بعد تقرير حال أهل الكفر والوفاق فقال ) ومن الناس من يقول آمنا بالله ( يعني أنا والمؤمنون حقاً آمنا ادّعى أن غيمانه كإِيمانهم فأخبر أن إيمانه لا تحقيق له بدليل قوله ) فإذا أوذي في الله ( اي في سبيله ودينه ) جعل فتنة الناس كعذاب الله ( قال جار الله : أي جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر ، وهذا على التوهم أو كما يجب أن يكون عذاب الله صارفاً وهذا في الواقع. وقيل : جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب الله. وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذب الله الأليم الدائم حتى تردّدوا في الأمر وقالوا : إن آمنا نتعرض للتأذي من الناس ، وذلك أنهم كانوا يمسهم أذى من الكفار ، وإن تركنا الإِيمان نتعرض لما توعدنا به محمد فاختاروا الاحتراز عن التعرض العاجل ونافقوا. وإنما قال ) فتنة الناس ( ولم يقل ) عذاب الناس ( لأن فعل العبد ابتلاء من الله. وليس في الاية منع من إظهار كلمة الكفر إكراهاً ، وإنما المنع من إظهارها مع مواطأة القلب التي كانوا عليها. ومما يؤكد تذبذبهم قوله ) ولئن جاء نصر من ربك ( ويلزمه الغنيمة غالباً ) ليقولن إنا كنا معكم ( يعني داب المنافق أنه إذا رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر من الكفر ، وإن كان النصر للمؤمن أضمر ما أضمر وأظهر المعية وادّعى التبعية. وفي تخصيص اسم الرب بالمقام إشارة إلى أن التوبة والرحمة هي التي أوجبت النصر. ثم أخبر أنه سبحانه أعلم بما في صدور العالمين منهم بما في صدورهم ، لأنه خبير بما أ نفسهم كما هي وهم لا يعرفون نفوسهم كما هي ، فالتلبيس لا يفيد المنافق بالنسبة إلى الله شيئاً لأنه لا يجوز عليه الالتباس دليله قوله ) وليعلمنّ الله الذين آمنوا وليعلمنّ المنافقين ( وفيه وعد للمؤمنين ووعيد(5/372)
" صفحة رقم 373 "
للمنافقين. اعتبر أمر القلب ههنا وهو في المؤمن التصديق ، وفي المنافق النفاق ، واعتبر في أول السورة أمر اللسان وهو في الكافر الكذب لأنه يقول : الله غير موجود ، أو الله أكثر من واحد. وفي المؤمن الصدق لأنه يقول : الله واحد. وحين بين أحوال الفرق الثلاثة وذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت غلى الكفر بالفتنة ، وبين أن عذاب الله فوقها وكان للكافر أن يقول للمؤن لم تصبر في الذل على الإيذاء ولم لا تدفع الذل والعذاب عن نفسك بموافقتنا ، وكان جواب المؤمن أن يقول خوفاً من عذاب الله خطيئة مذهبكم فقالوا : لا خطيئة فيه ، وإن كان فيه خطيئة فعلينا ، اشار إلى جميع ذلك قوله ) وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ( أرادوا وليجتمع هذا الأمران في الحصول أن تتبعوا طريقتنا وأن نحمل خطاياكم ، نظيره ) ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء ( وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب ولكنه حكاية قول صناديد قريش. كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم فإِن عسى كان جزاء ومعاد فإنا نتحمل عنكم الإثم. وترى نظيره في الإسلام يشجع أحدهم أخاه على ارتكاب بعض المآثم فيقول : افعل هذا وإثمه عليّ ، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان. ثم أخبر الله تعهالى عنهم بأنهم لا يحملون شيئاً من خطاياهم ، ولا ريب أن هذا مخالف لما زعموا من أنهم يحملون أوزارهم فلهذا حكم الله عليهم بأنهم كاذبون. ويجوز أن يكونوا كاذبين لأنهم وعدوا وفي قلوبهم نية الخلف. ولا حاجة في توجيه تسميتهم كاذبين إلى التشبيه الذي ذكره في الكشاف. أما الجمع بين قوله ) وما هم بحاملين ( وبين قوله ) وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم ( فهو أن النفي راجع غلى الحمل الذي يخفف عن صاحبه بسبه ، والإثبات يرجع إلى انهم يحملون وزر الإضلال ووزر الضلال مع أن أتباعهم حاملون وزر الضلال كما قال عليه الصلاة والسلام ) من سن سنة سيئة فعليه ورزها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء ( قال ) وليسئلن ( سؤال تقريع ) يوم القيمة عما كانوا يفترون ( من أنه لا حشر ، وعلى تقدير وجوده يحملون خطايا التابعين. ثم أجمل قصة نوح ومن بعده تصديقاً لقوله في أول السورة ) ولقد فتنا الذين من قبلهم ( وفيه تثبيت للنبي عليه الصلاة والسلام كأنه قيل له : إن نوحاً لبث الف سنة تقريباً يدعو قومه ولم يؤمن منهم إلا قليل ، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك ، وفيه تحذير لكفار قريش فإن أولئك الكفار ما نجوا من العذاب مع تلك الأعمار الطوال ، فهؤلاء كيف يسلمون أم كيف يغترون ؟(5/373)
" صفحة رقم 374 "
سؤال : ما الفائدة في قوله ) ألف سنة إلا خمسين عاماً ( دون أن يقول : تسعمائة وخمسين. الجواب : لأن العبارة الثانية تحتمل التجويز والتقريب. فإن من قال : عاش فلان ألف سنة يمكن أن يتوهم أنه يدعي ذلك تقريباً لا تحقيقاً. فإذا قال : إلا شهراً أو إلا سنة ، زال ذلك الوهم. وأيضاً المقصود تثبيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وذكر اللف الذي هو عقد معتبر أوصل إلىهذا الغرض. وإنما جاء بالمميز في المستثنى مخالفاً لما ف المستثنى منه تجنباً من التكرار الخالي عن الفائدة وتوسعة في الكلام. قال بعض الأطباء : العمر الطبيعي للإِنسان مائة وعشرون سنة. فاعترضوا عليهم بعمر نوح عليه السلام وغيره ، وذلك أن المفسرين قالوا : عمر نوح الفاً وخمسين سنة بعث على رأس أربعين ، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين ، وعاش بعد الطوفان ستين. وعن وهب أنه عاش ألفاً واربعمائة سنة. ويمكن أن يقال : إنهم ارادوا بالطبيعي ما كان أكثرياً في أعصارهم. ولا ينافي هذا كون بعض الأعمار زائداً على هذا القدر بطريق خرق العادة على أن العادة قد تختلف باختلاف الأعصار والأدوار ، ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين ( والطوفان ما عمن كل المكان بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام ليل. وفي قوله ) وهم ظالمون ( دليل على أن العذاب أخذهم وهم مصرون على الظلم ولو كانوا قد تركوه لما أهلكهم. والضمير في قوله ) وجعلناها ( إما للحادثة أو للقصة أو للسفينة. وأعاجيب هذه القصة وأحوال السفينة وأهوالها قد تقدّمت مراراً ولا ريب أنها آيات يجب أن يستدل بها على موجدها. التأويل : أقسم بفردانيته وبآلائه ونعمائه أنه مهما يكون من العبد التقرب إليه بأصناف العبودية يكون منه التقرب إلى العبد بالطاف الربوبية يؤكده قوله ) أحسب الناس ( أي الناسون من أهل البطالة أن يتركوار بمجرد الدعوى ولا يطالبون بالبلوى ، فالمحبة والمحنة توأمان وبالامتحان يكرم الرجل أو يهان ، فمن زاد قدر معناه زاد قدر بلواه. فالبلاء للنفوس لإخراجها عن أوطان الكسل وتصريفها في حسن العمل ، والبلاء على القلوب لتصفيتها من شين الرين لقبول نقوش الغيب ، والبلاء على الأرواح لتجردها بالبوائق عن العلائق ، والبلاء على الأسرار في اعتطافها في مشاهدة الكشف بالصبر على آثار التجلي إلى أن تصير مستهلكة فيه بإفنائه ، وإن أشدّ الفتن حفظ وجود التوحيد لئلا يجري عليه نكر في أوقات غلبات شواهد الحق فيظن أنه هو الحق لا يدري أنه من الحق ولا يقال : إنه الحق وعزيز من يهتدي إلى ذلك أم حسب الذينر فيه أن موجبات عمل السيئات سواد مرآة(5/374)
" صفحة رقم 375 "
القلوب بصدأ الحسبان ورين الكفران ليتوهموا ) أن يسبقونا ( بالعدوان عن طريق سنتنا في الانتقام من أهل الحال والإجرام. ) ساء ما يحكمون ( بالنجاة عن الدركات باتباع الشهوات هيهات هيهات. ) من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت ( لأنين المشتاقين العليم بكويات الصادقين. ومن جاهد بالعسي في طلبنا فإنما يجاهد لنفسه لأنها بالتخلية عن الأخلاق الذميمة وباتحلية بالصفات الحميدة تخلص عن الأمارية وتستأهل للمطمئنية فتستحق لجذبة ) ارجعي إلى ربك ) [ الفجر : 28 ] والذين آمنت قلوبهم بمحبتنا ) وعملوا الصالحات ( ببذل الوجود في طلب جودتا ) لنكفرن عنهم ( سيئات وجودهم المجازي ) ولنجزينهم ( وجوداً حقيقياً أحسن منه ) وإن جاهداك لتشرك بي ( فيه إشارة إلى أن المريد إذا تمسك بذيل شيخ كامل وتوجه إلى الحضرة بعزيمة من عزائم الرجال فإن منعه الوالدان عن ذلك فعليه أن لا يطيعهما لأنه سبب ولادته في عالم الأرواح وهما سبب ولادته في عالم الاشباح كما قال عيسى عليه السلام : لن يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين. فهو احق برعاية الحقوق منهما. ) جعل فتنة الناس كعذاب الله ( فيه أن المؤمن من كف الأذى والولي من يتحمل من الخلق الأذى ولا تترشح عنه الشكوى من البلوى كالأرض يلقى عليها كل قبيح فينبت منها كل مليح. والمنافق إذا لم يكن في حماية خشية الله يفترسه خوف الخلق إذا أوذي في الله. ) وقال الذين كفروا ( فيه أن كافر النفس وصفاته يقولون بلسان الطبيعة الإنسانية لموسى القلب والسر والروح وصفاتهم ) اتبعوا سبيلنا ( في طلب الشهوات الحيوانيةن ) ولنحمل خطاياكم ( أي ندفع عنكم ضرر ما يرجع إليكم في متابعة شهوات الدنيا وطيباتها ) وما هم بحاملين ( شيئاً ) من خطاياهم ( وهو العمى والصمم والبكم وسائر الصفات النفسانية ، ولكن يحملون أثقالهم هذه الأوقات مع الآفات التي تختص بها والله أعلم بالصواب. ( العنكبوت : ( 16 - 41 ) وإبراهيم إذ قال . . . .
" وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه(5/375)
" صفحة رقم 376 "
تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين قال رب انصرني على القوم المفسدين ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون " }(5/376)
" صفحة رقم 377 "
القراآت : ( أولم تروا ( بتاء الخطاب : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل ) النشاءة ( بفتح الشين بعدها ألف ممدودة حيث كان : ابن كثير وأبو عمرو ) مودّة ( بالرفع ) بينكم ( بالجر على الإضافة : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي وابو زيد عن المفضل ) مودة ( بالرفع ) بينكم ( بالفتح : الشموني والبرجمي. ) مودة ( بالنصب ) بينكم ( على الإضافة : حمزة وحفص. الباقون : ( مودة ( بالنصب ) بينكم ( بالفتح ) ربي إنه ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) إنكم ( بهمز واحد ) أينكم ( بهمزة بعدها ياء : ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب. زيد : مثله. بزيادة مدّة في الثانية : يزيد وقالون كلاهما مثل هذه الثانية أبو عمرو. والأولى بهمزة واحدة الثانية بهمزتين : ابن عامر وحفص هشام يدخل بينهما مدَّة. الباقون بهمزتين فيهما ) أئنكم ( كنظائره. ) وللنجينه ( بسكون النون من الإنجاء : يعقوب وحمزة وعلي وخلف ) سيء بهم ( كما ذكر في ( هود ) و ) منجوك ( من الإنجاء : ابن كثير ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل ) منزلون ( بالتشديد : ابن عامر و ) ثمود ( غير مصروف في الحالين : حمزة وحفص وسهل ويعقوب. الوقوف : ( واتقوه ( ط ) تعلمون ( 5 ) افكاً ( ط ) واشكروا له ( ط ) ترجعون ( 5 ) من قبلكم ( ج للعطف مع الاختلاف بالإثبات والنفي ) المبين ( 5 ) يعيده ( ط ) يسير ( 5 ) الآخرة ( ط ) قدير ( 5 ج لأن ما بعده يصلح وصفاً واستئنافاً ) من يشاء ( ط لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتفاق الجملتين ) تقلبون ( 5 ) السماء ( ز فصلاً بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين ) نصير ( 5 ) اليم ( 5 ) النار ( ط ) يؤمنون ( 5 ) أوثاناً ( ج لمن قرأ ) مودة ( بالرفع ) الدنيا ( ج لاختلاف الجملتين والفصل بين تباين الدارين ) بعضاً ( ط لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقصود ) من ناصرين ( 5 قيل : لا وقف لتعليق الفاء ) لوط ( لأن قوله ) وقال ( فاعله ) إبراهيم ( ولو وصل لأوهم اتحاد الفاعل ) ربي ( ط ) الحكيم ( 5 ) الدنيا ( ج للابتداء بأن مع واو العطف ) الصالحين ( 5 ) الفاحشة ( ز لأن ما بعده يصلح مستأنفاً أو حالاً أو وصفاً ) العالمين ( 5 ) المنكر ( ط لانتهاء الخطاب لابتداء الجواب ) الصادقين ( 5 ) المفسدين ( 5 ) بالبشرى ( لا لأن ) قالوا ( جواب ( لما ) ) القرية ( ج للابتداء بأن مع احتمال التعليل. ) ظالمين ( 5 وقد يوصل دلالة على تدارك إبراهيم ) لوطاً ( ط ) بمن فيها ( ج لأن لام التوكيد تقتضي قسماً أي والله لننجينه مع تمام المقصود في التنجية ) إلا امرأته ( ج لأن ما بعده يصلح مستأنفاً في النظم ولكنه حال المرأة لأن المستثنى مشبه بالمفعول أي يستثنى امرأته كائنة من الغابرين ) ولا تحزن ( ط فصلاً بين(5/377)
" صفحة رقم 378 "
البشارتين وتوفيراً للفرح ) الغابرين ( 5 ) يفسقون ( 5 ) يعقلون ( 5 ) شعيباً ( لا لتعلق الفاء ) مفسدين ( 5 ) جاثمين ( 5 لأن ) عاداً ( يحتمل أن يكون منصوباً ب ) أخذتهم ( أو بمحذوف أي واذكر وهذا أوجه لأن قوله ) وقد تبين ( حال ولا يحسن أن يكون عامله ) فأخذتهم ( والأوجه انتصابه بمحذوف وهو ( أذكر ) أو أهلكنا. ) مساكنهم ( ط لأن التقدير مقدرين وعامله فأخذتهم مستبصرينر 5 ج للعطف ) وهامان ( يحتمل عندي الوقف وقيل : لا بناء على أن قوله ) ولقد جاءهم ( حال عامله ) فأخذاهم (. ) سابقين ( 5 لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتفاق الجملتين ) بذنبه ( ط وكذلك ) حاصباً ( ط ) وأخذته الصيحة ( ط ) وخسفنا به الأرض ( ط ) وأغرقنا ( ط لعطف الجمل والوقف أوجه تفصيلاً لأنواع النقم وإمهالاً لفرصة الاعتبار ) يظلمون ( 5 العنكبوتر ج لأن ما بعده يصلح وصفاً واستئنافاً ) بيتاً ( ط ) العنكبوت ( ج لأن وهن بيت العنكبوت معلق ) يعلمون ( 5. التفسير : قوله ) وإبراهيم ( منصوب بمضمر وهو ( اذكر ). وقوله ( إذ قال ( بدل منه بدل الاشتمال لأن الأحيان تشتمل على ما فيها أي اذكر وقت قوله لقومه ، وجوز أن يكون معطوفاً على ) نوحاً ( فأورد عليه أن الإرسال قبل الدعوة فكيف يكون وقت الدعوة ظرفاً للإرسال ؟ وأجيب بأن الإرسال أمر متد إلى أوان الدعوة أو المراد أرسلناه حين كان صالحاً لأن يقول لقومه اعبدوا الله خصوه بالعبادة واتقوا مخالفته. ) ذلكم ( الإِخلاص والتقوى ) خير لكم إن كنتم تعلمون ( أما العبادة فلأنها غاية الخضوع فلا تصلح إلا لمن هو في غاية الكمال فضلاً عن الجماد ، وأما اتقاء خلافه فلأن من قدر على إهلاك الماضين فهو قادر على إهلاك الباقين وتعذيبهم إذا عصوه ، فالعاقل من يحذر خلاف القادر. ثم بين بقوله ) إنما تعبدون من دون الله أوثاناً ( أن الذي يعبدونه في غاية الخسة لأنه صنم لا روح له ، ولا ظلم أشنع من وضع الأخس موضع الاشرف. وبين بقوله ) وتخلقون افكاً ( أن الذين يزعمون أنها شفعاؤهم عند الله كذب وزور ، ثم ذكرهم أنهم لا يقدرون على نفع ولا على إيصال رزق أيّ رزق كان. ثم أشار بقوله ) فابتغوا عند الله الرزق ( إلى أن هذه الهبة والرزق الموعود في قوله ) وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) [ هود : 6 ] يجب أن يطلب من الله فقط ، وإذا كان الرزق منه فالشكر يجب أن يكون له. ثم بين بقوله ) إليه ترجعون ( أن المعاقب والمثيب هو وحده فلا رهبة إلا منه ولا رغبة إلا فيه. ثم إن قوله ) وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم ( إلى قوله ) فما كان جواب قومه ( إن كان اعتراضاً خطاباً لكفار قريش فظاهر ، وإن كان تتمة قول إبراهيم فالأمم المتقدمة عليه إما قوم نوح وقوم إدريس وقوم شيث وقوم آدم ، وإما قوم نوح وحده. وعبر عن أمته بالأمم لأنه عاش ألف سنة وأكثر فمضت عليه القرون ،(5/378)
" صفحة رقم 379 "
وكان كل قرن يوصون من بعدهم من الأبناء أن يكذبوا نوحاً والبلاغ ذكر المسائل والإبانة وإقامة البرهان عليه ، وفيه دليل على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وإلا لم يكن البلاغ مبيناً. وحين بين التوحيد والرسالة شرع في بيان المعاد فإِن هذه الأصول الثلاثة لا تكاد تنفصل في الذكر الإِلهي فقال ) أولم يروا ( أي ألم يعلموا بالبرهان النير القائم مقام الرؤية ) كيف يبدئ الله الخلق ( ثم يعيده. أما إبداء الخلق المطلق فلأن المخلوق لا بد له من خالق أوّل تنتهي إليه سلسلة المخلوقات ، وأما خلق الإنسان بل كيفيته فإنه كالمشاهد المحسوس فإنا نرى النطفة وقعت في الرحم فدارت عليها الأطوار حتى حصلت خلقاً آخر. وأما الإعادة فلأنها أهون في القياس العقلي ولهذا ختم الآية بقوله ) إن ذلك على الله يسير ( وحين اشار إلى العلم الحدسي الحاصل من غير طلب أمر نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) أو حكى إبراهيم قول ربه له ) قل سيروا في الأرض ( أي إن لم يحصل لكم الحدس المذكور فسيروا في أقطار الأرض وتفكروا في كيفية تكوّن المواليد الثلاثة : المعادن والنبات والحيوان. حتى يفضى بكم النظر إلى العيان ؛ فالآية الأولى إشارة إلى ما هو كالمركوز في الأذهان ولهذا قال بطريق الاستفهام ) أولم يروا ( الآية الثانية أمر بالنظر المؤدي إلى العلم والإيقان على تقدير عدم حضور ذلك البيان والعيان. وإنما قال أوّلاً ) كيف يبدئ ( بلفظ المستقبل وثانياً ) كيف بدأ ( بلفظ الماضي ، لأن العلم الحدسي حاصل في كل حال ، وأما العلم الاستقرائي فلا يفيد اليقين إلا فيما شاهد وتتبع فكأنه قيل : إن لم يحصل لكم العلم بأن الله في كل حال موصوف بالإبداء والإعادة فانظروا في أصناف المخلوقات حتى تعرفوا أنه كيف بدأها ثم تستدلوا من ذلك على أنه ينشئها النشأة الثانية ، فهذا عطف على المعنى كأنه قال : وانظروا كيف بدأ هذا. وتكلف جار الله فقال : هو معطوف على جملة قوله ) أولم يروا ( كما قال قوله ) ثم يعيده ( إخبار على حياله وليس بمعطوف على ) يبدئ ( ثم في إقامة اسم الله مقام الضمير في قوله ) ثم الله ينشئ النشأة ( إشارة إلى أنه لا يقدر على هذه النشأة إلا المعبود الكامل الذات المتصف بالعلم والحياة وبسائر نعوت الجلال. وحين ذكر دلائل الأنفس والآفاق صرح بالنتيجة الكلية فقال ) إن الله على كل شيء ( من الإبداء والإعادة ) قدير ( وكذا على التكليف والجزاء تقريره قوله ) يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون ( يقال : قلب فلان في مكانه إذا اردى. وفي الآية لطائف منها : أ ، ه قدم التعذيب على الرحمة مع قوله ( سبقت رحمتي غضبي ) لأن الآية مسوقة لتهديد المكذبين ومع ذلك لم يخل الكلام عن ذكر الرحمة وإنه يؤكد قوله ( سبقت رحمتي غضبي ) ومنها أنه لم يقل يعذب(5/379)
" صفحة رقم 380 "
الكافر ويرحم المؤمن إظهاراً للهيبة الإلهية. ومنها أنه قال أوّلا ) وإليه ترجعون ( ثم أعاده ههنا لأن التعذيب والرحمة قد يكونان عاجلين وكأنه قال : وإن تأخر ثوابكم وعقابكم فإن إلينا إيابكم وعلينا حسابكم وعندنا يدّخر لكم ذلك فلا تظنوا فواته يؤكده قوله ) وما أنتم بمعجزين ( وفيه أن الانقلاب إليه لا منه ، وذلك أن الإعجاز إما بالهرب وإما مع الثبات وقد نفى الأول بقوله ) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ( أي لو هبطتم إلى موضع السمك في الماء أو صعدتم إلى محل السماك في السماء لم تخرجوا من قبضة قدرة الله. وقدّم الأرض على السماء لأن السماء أبعد وأفسح أي إن هربتم من حكمه وقضائه في الأرض الفسيحة أو في السماء التي هي أفسح منها وأبعد فإنكم لا تفوتون الله ، والمراد لا تعجزونه كيفما هبطتم في أعماق الأرض أو علوتم إلى البروج المشيدة الذاهبة في السماء كقوله ) ولو كنتم في بروج مشيدة ) [ النساء : 78 ] أو اراد لا تعجزون بلاءه الظاهر في الأرض أو النازل من السماء. وجوّز بعضهم أن يراد وما أنتم بمعجزين من في الأرض ولا في السماء بحذف الموصول ، واقتصر في الشورى على قوله ) وما أنتم بمعجزين في الأرض ) [ العنكبوت : 22 ] لأنه خطاب للمؤمنين. ونفى الثاني بقوله ) وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ( لأن الركن الشديد الذي يستتند إليه إما وليّ يشفع أو ناصر يدفع ، والأول أسهل الطيرقين فلذلك قدم الوليّ على النصير. ثم خص الوعيد بالكافرين بآياته أي بدلائل الوحداينة وبالكتب والمعجزات. وفي زيادة قوله ) أولئك ( إشارة إلى أن اليأس من الرحمة منحصر فيهم لقوله ) إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) [ يوسف : 87 ] ونسبة اليأس إليهم إمّا على سبيل الإخبار عن حالهم يوم القيامة ، أو على سبيل وصف الحال ، فإن وصف المؤمن أن يكون راجياً خاشياً ونعت الكافر أن لا يخطر بباله خوف ولا رجاء بل يكون خائفاً كما قيل : الخائن خائف. وجوز في الكشاف أن يكون على طريقة التشبيه كأنه يشبه حالهم في انتفاء الرحمة عنهم بحال من يئس من رحمة الله. ولعله ذهب إلى هذا التشبه لأن اليأس من رحمة الله متوقف على الاعتراف بالله وبرحمته والكافر غير معترف بواحد من الأمرين. ثم بين بتكرار أولئك في قوله ) وأولئك لهم عذاب أليم ( أن كل واحد من الوعيدين لا يوجد إلا فيهم وإن كان الوعيدان متلازمين في الحقيقة. ثم حكى أن جواب قوم إبراهيم لم يكن إلا أن قالوا فيما بينهم أو قال واحد ورضي به الباقون ) اقتلوه ( بالسيف ونحوه ) أو احرقوه ( بالنار وهذا ليس(5/380)
" صفحة رقم 381 "
جواباً في الحقيقة ولكنه كقولهم ( عتابك السيف ). وفيه بيان جهالتهم أنهم وضعوا الوعيد موضع الائتمار للنصيحة والإذعان للحق. ثم بين أنهم اتفقوا على تحريفه فأنجاه من النار. والقصة مذكورة في سورة الأنبياء. ) إن في ذلك ( الإنجاء ) لآيات ( جمع الآية لعظم تلك الحالة كقوله ) إن إبراهيم كان أمة ) [ النحل : 120 ] أو لأنها مشتملة على أحوال عجيبة كالرمي من المنجنيق من غير أن لحق به ضرر ، وكما يروى أن النار أن النار صارت عليه روحاً وريحاناً إلى غير ذلك. وإنما قال في قصة نوح عليه السلام ) وجعلناها آية ) [ العنكبوت : 15 ] ولم يذكر الجعل ههنا لأن الخلاص من مثل تلك النار آية في نفسه ، وأما السفينة فقد جعلها الله آية بأن أحدث الطوفاتن وصانها عن الغرق ، ويمكن أن يقال : إن الصون عن النار أعجب من الصون عن الماء فلذلك وحد الآية هناك وجمعها ههنا. وإنما قال هناك ) آية للعالمين ) [ العنكبوت : 15 ] وههنا ) لآيات لقوم يؤمنون ( لأن تلك السفينة بقيت أعواماً حتى مرّ عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد. أو نقول : جنس السفينة حصلت بعد ذلك فما بين الناس فكانت آية للعالمين. وأما تبريد النار فلم يبق من ذلك أثر فلم يظهر لمن بعده إلا بطريق الإيمان به. وههنا لطيفة وهي أن الله تعالى جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لغيره وقال ) قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم ) [ الممتحنة : 4 ] فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله سيجعل النار على المؤمن المهتدي برداً وسلاماً. ثم حكى أنه بعد أن خرج من النار عاد إلى النصيحة والدعاء لقومه إلى التوحيد والإخلاص وذلك قوله ) وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة ( قال جار الله : من قرأ بالنصب بغير إضافة أو بإضافة فعلى وجهين : أحدهما التعليل اي لتتوددوا بينكم وتتواصلوا لاتفاقكم وائتلافكم على عبادتها كما يتفق الناس على مذهب فيكون بينهم نسبة من ذلك. الوجه الثاني : أن يكون مفعولاً ثانياً على حذف المضاف ، أو على أن المصدر بمعنى المفعول أي اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم واتخذتموها مودودة بينكم. ومن قرأ بالرفع بإضافة أو بغير إضافة فعلى وجهين أيضاً : أن يكون خبراً لأن على أن ما موصولة والتقدير : إن التي اتخذتموها أوثاناً هي سبب مودة بينكم أو مودودة بينكم. وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو سبب مودة وعلى هذا فالوقف على ) أوثاناً ( حسن كما مر. ) ثم يوم القيامة ( يقوم بين العبدة وكذا بينهم وبين أوثانهم التباغض والتلا عن نظيره ) كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً ) [ مريم : 82 ] والتحقيق فيه أنهم غلبت عليهم الجسمية ولذاتها فلهذا ألفوا الأصنام ولم تقبل عقولهم موجوداً منزهاً عن الأجسام وخواصها ، فلا جرم إذا رفعت الحجب وكشف الغطاء عن عالم الأرواح زالت نسبة الجسمية وظهرت آلالام الروحانية وعذبوا بنار الخسران والحرمان من غير شفعاء ولا أعوان ، فلذلك(5/381)
" صفحة رقم 382 "
قال ) ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ( وإنما لم يقل ههنا ) وما لكم من دون الله ) [ البقرة : 107 ] لأن الله لا ينصر الكفار من اهل النار. وإنما جمع ههنا لأنه أراد في الأول جنس النصير وههنا أراد نفي الناصرين الذين كان أهل الشرك يزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله ) فآمن له لوط ( وكان ابن أخي إبراهيم صدقه حين رأى النار لم تحرقه. قالت العلماء : إن لوطاً آمن برسالة إبراهيم حين رأى المعجزة. وأما بالوحدانية فآمن حين سمع مقالته إذ لو توقف في الإيمان إلى وقت إظهار المعجزة كان نقصاً في مرتبته وقدحاً في نور باطنه ، ألا ترى أن أبا بكر وعلياً أسلما كما عرض النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الإسلام عليهما. ) وقال ( إبراهيم ) إني مهاجر ( من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى فلسطين ولهذا قالوا : لكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان. وكان معه في هجرته امراته سارة وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة وهاجر معه لوط أيضاً. ومعنى ) إلى ربي ( أي إلى حيث أمر ربي بالهجرة إليه ومثله قوله ) إني ذاهب إلى ربي ) [ الصافات : 99 ] وعبارة القرآن أدخل في الإخلاص لأن المهاجر إلى حيث أمره الملك قد يهاجر إليه مرة أخرى لغرض نفسه فيصدق أنه مهاجر إلى حيث أمره الملك ولا يصدق ألأنه مهاجر لأجل الملك ولرضاه. وفي قوله ) إنه هو العزيز الحكيم ( نوع تهديد لقومه وتصويب لما بدا له من الهجرة بأمر الله. قال في الكشاف : إنه هو العزيز الذي يمنعني من أعدائي ، الحكيم الذي لا يأمرني إلا بما هو مصلحتي. ثم ذكر ما أنعم به عليه من الأولد والأحفاد ، ومن جعل النبوة وجنس الكتاب الإلهي فيهم. وهو التوراة والإنجيل والزبور والفرقان - ولهذا اندرج ذكر إسماعيل في الآية. ولعل السر في عدم ذكر إسماعيل والتصريح بذكره أن الله تعالى جعل الزمان بعد إبراهيم قسمين : أحدهما زمن إسحاق ويعقوب وذراريهما إلى زمان الفترة ، والآخر من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى يوم قيام الساعة وهو من ولد إسماعيل فطي ذكر إسماعيل إشارة إلى تأخر زمان دولته والله أعلم. ثم كرر ذكر النعمة بقوله ) وأتيناه أجره في الدنيا ( قال أهل التحقيق : إن الله تعالى بدل جميع أحوال إبراهيم عليه السلام بأضدادها. لما أراد القوم تعذيبه بالنار فجعلها الله عليه برداً وسلاماً ، وهاجر فريداً وحيداً فوهب الله له ذريّة طيبة مباركة كما وصفنا ، وكان لا مال له فكثر ماله حتى حصل له من المواشي ما علم الله عدده فقط. يروى أنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس في أعناقها أطواق من ذهب. وكان خاملاً حتى قال قائلهم ) سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ) [ الأنبياء : 60 ] فجعل الله له لسان صدق في الآخرين. اللهم صلى على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم. ثم بين بقوله ) وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( أن تلك النعمة الدنيوية ولذاتها مقرونة بفلاح الآخرة وصلاحها(5/382)
" صفحة رقم 383 "
جعلنا الله تعالى ببركته أهلاً لبعض ذلك وهو المستعان. قوله ) ولوطا إذ قال ( إعرابه كإعراب قوله ) وإبراهيم إذ قال ( وقد مروالظاهر أن لوطاً يكون قد أمر قومه بالتوحيد والعبادة أوّلاً ثم نهاهم عن الفاحشة ثانياً. إلا أن الله تعالى قد حكى عنه ما اختص به وبقومه وهو قوله ) إنكم لتأتون الفاحشة ( ويحتمل أن يكونوا موحدين إلا أنهم بسبب الإصرار على الفعلة الشنعاء وتحليلها مع وجود النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الناهي عنها صاروا في حكم الكفرة. وإذا كان الزنا فاحشة كما قال ) ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ) [ الإسراء : 32 ] مع أن الزنا لا يفضي إلى قطع النسل فاللواطة أولى بكونها فاحشة لتماديها في القبح ولإفضائها إلى انقطاع النسل ، ويعلم منه احتياجها إلى الزاجر كالزنا بل أولى ويعلم منه افتقارها إلى الرجم بدليل إمطار الحجارة على أهلها. ومعنى ) ما سبقكم بها ( أنه لم يأت بمثل هذا الفعل أحد قبلهم أو لم يشتهر به ولم يبالغ فيه أحد وإن ارتكبه بعضهم في الندرة كما يقال : إن فلاناً سبق البخلاء في البخل ، واللئام في اللؤم إذا زاد عليهم. ومعنى ) تقطعون السبيل ( تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد مع النساء. ويجوز أن يكونوا قطاع الطريق والظاهر يشعر به ) وتأتون في ناديكم المنكر ( أي تضمون إلى قبح فعلكم قبح الإظهار. والنادي هو المجلس ما دام فيه الناس. وعن عائة : كانوا يتجامعون. وعن ابن عباسك هو الحذف ومضغ العلك وحل الإزار والفحش في المزاح والسخرية بمن مر بهم ) فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله ( ولم يهددوه بنحو القتل والتخويف كما في قصة إبراهيم ، لأن إبراهيم كان يقدح في آلهتهم ويشتمهم بتعديد نقائصهم ) يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً ) [ مريم : 42 ] فجعلوا جزاءه شر الجزاء. وأما لوط فكان ينكر عليهم فعلهم فهددوه بالإحراج أوّلاً ) أخرجوا آل لوط من قريتكم ) [ النمل : 56 ] واقترحوا من عذاب الله ثانياً. ويجوز أن يكون على سبيل الاستهزاء فلا جرم ) قال رب انصرني على القوم المفسدين ( كأنه أيس من توبتهم وإنابتهم ومن أن يلدوا تائباً مطيعاً كما قال نوح ) ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا ) [ نوح : 27 ] ولعلهم كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش طوعاً وكرهاً أو بابتداء الفواحش واقتداء من بعدهم بهم. والبشرى هي البشارة بالولد ، والنافلة إسحق ويعقوب ، وإضافة ) مهلكو ( إضافة تخفيف لا تعريف لأنه بمعنى الاستقبال أو الحال القريب منه لا الماضي ، ولأن المقصود يتضح بذلك لا بوصف الملائكة لمطلق الإهلاك. والقرية سذوم. ثم علل الإهلاك بأن الظلم قد استمر فيهم بناء على أن كان للثبوت والاستمرار ، ويحتمل أن يكون للزمان الماضي فإن هذا القدر يكفي للتعليل والزائد عليه لا تحتاج الملائكة إلى تقريره بخلاف ما في قصة نوح ) فأخذهم(5/383)
" صفحة رقم 384 "
الطوفان وهم ظالمون ) [ العنكبوت : 14 ] فإن ذلك إخبار من الله تعالى ولا يحسن من الكريم أن يعاقب على الجرم السابق إلا بعد تحقق الإصرار والاستمرار. قال بعضهم : إن تعلق ) البشرى ( بهذا الإنذار هو أنه كان في إهلاك قوم لوط إخلاء الأرض من العباد فقدمت البشارة المذكورة المتضمنة لوجود عباد صالحين حتى لا يتأسف على إهلاك قوم من أبناء جنسه. ثم إن إبراهيم لما سمع إنذار الملائكة أظهر الإشفاق على لوط والحزن له قائلاً ) إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم ( منك ) بمن فيها ( وأخبروا بحاله وحال قومه. ومعنى ) من الغابرين ( من الماضين ذكرهم أو ممن يمضي زمانه وبفنى أو من الباقين في المهلكين و ) سيء بهم وضاق بهم ذرعاً ( قد مر في ( هود ) وقال بعضهم : يحتمل أن يكون ضيق الذرع عبارة عن انقباض الروح فعند ذلك تجتمع أعضاء الإنسان وتقل مساحتها. فقالت الملائكة ) لا تخف ( علينا ) ولا تحزن ( بسبب التفكر في أمرنا. وقال أهل البرهان : وإنما قبل ههنا ) ولما أن جاءت ( بزيادة ( أن ) لأن ( لما ) تقتضي جواباً وإذا اتصل به ( أن ) دل على أن الجواب وقع في الحال من غير تراخ في الظاهر كما في هذه السورة وهو قوله ) سيء بهم ( وفي هود اتصل به كلام بعد كلام فطال فلم يحسن دخول ( أن ) ظاهراً مع أن القصة واحدة. ثم إن الملائكة قالوا للوط ) إنا منجوك ( بلفظ اسم الفاعل وقالوا لإبراهيم عليه السلام ) لننجينه ( بلفظ الفعل لأن ذلك ابتداء الوعد وهذا أواتن إنجازه فأرادوا أن ذلك الوعد حتم واقع منا كقولك : أنا ميت لضرورة وقوعه ووجوده. والرجز العذاب الذي وقع صاحبه في القلق والاضطراب من قولهم : ارتجز وارتجس إذا اضطرب ، والمراد الحجارة. وقيل : النار. وقيل : الخسف. وعلى هذا يراد أن الأمر بالخسف والقضاء به من السماء ) ولقد تركنا منها ( أي من القرية ) آية بينة ( هي آثار منازلهم الخربة أو بقية الحجارة أو الماء الأسود أو قصتهم وخبرهم. وقوله ( القوم ( يتعلق ب تركنار أبو ب ) بينة ( ولزيادة قوله ) بينة ( قال ) لقوم يعقلون ( بخلاف قوله في قصة نوح عليه السلام ) وجعلناها آية للعالمين ) [ العنكبوت : 15 ] لأن الآية لا تتبين إلا لذوي العقول وليس كل من في العالم بذي عقل. ثم أجمل سائر القصص والرجاء إما على أصله أو بمعنى الخوف. وعلى الأول قال جار الله : اراد افعلوا ما ترجون به العاقبة ، فأقيم المسبب مقام السبب. أو أمروا الرجاء والمراد اشتراط ما يسوغه من الإيمان كما يؤمر الكافر بالصلاة مثلاً على غرادة الشرط وهو الغسلام. ) فكذبوه ( إنما صح إطلاق التكذيب مع أن ذكره شعيب أمر ونهي ، والأمر لكونه طلباً لا يحتمل التصديق والتكذيب ، وكذا النهي لأن قول شعيب يتضمن قوله الله(5/384)
" صفحة رقم 385 "
واحد والحشر كائن والفساد محرم وكل واحد من هذه خبر. ومعنى الرجفة والصيحة قد مر في " الأعراف " وفي " هود " . وكذا إنه لم قال مع الرجفة في دارهم على التوحيد ، ومع الصيحة في ديارهم على الجمع ) و ( أهلكنا ) عاداً وثمود وقد تبين لكم ( ذلك الإهلاك ) من ( جهة ) مساكنهم ( إذا نظرتم إليها عند مروركم بها ) وكانوا مستبصرين ( أي عقلاء متمكنين من النظر والاستدلال ، وكانوا عارفين بأخبار الرسل أن العذاب نازل بهم ولكنهم لم ينظروا في الدليل ولجوا حتى هلكوا ) وما كانوا سابقين ( أي أدركهم أمر الله فلم يفوتوه. ثم قرر أمر المذنبين بإجمال آخر يفيد أنه عذبوا بالعناصر الأربعة ، فجعل ما منه تركيبهم سبباً لعدمهم وما منه بقاؤهم سبباً لفنائهم. فالحاصب حجارة محماة تقع على كل واحد منهم فتنفذ من الجانب الآخر وهو إشارة إلى التعذيب بعنصر النار وأنه لقوم لوط. والصيحة وهي تموج شديد الهواء لمدين وثمود. والخسف لقارون والغرق لقوم نوح وفرعون ) وما كان الله ليظلمهم ( بالإهلاك ) ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( بالإشراك وقال بعض أهل العرفان : وما كان الله ليضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة ولكنهم وضعوا أنفسهم مع شرفها في عبادة الوثن الذي هو في غاية الخسة فلذلك ضرب لهم المثل بالعنكبوت ونسجه الذي هو عند الناس في غاية الوهن والضعف. فإن كان تشبيهاً مركباً فظاهر ، وإن كان مفرقاً فالمشترك كالعنكبوت واتخاذه الصنم معبوداً وملجأ كاتخاذ العنكبوت نسجه بيتاً فإنه يصير سبباً لهلاكه ولتنظيف البيت منه كعابد الوثن يقع في النار بسبب عبادته. وفيه أن العنكبوت كما أنه يصطاد بسبب نسجه الذباب ولكنه لا بقاء له ويتلاشى بأدنى سبب كذلك الكافر يستفيد بشركه ما هو أقل من جناح بعوضة وهو بعض متاع الدنيا ولكنه كعمله يصير آخر الأمر هباء منثوراً. ثم عرض على العقول صحة المثل المضروب قائلاً ) وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ( بأنه لا يصلح للبقاء ولا للاستدفاء ولا للاستظلال ولا للاستكنان والنسج في نفسه إن فرض له فائدة كما أن الصنم في نفسه يمكن أن ينتفع به ولكن اتخاذ النسج بيتاً لا شك أنه غير مفيد بل مضر كما مر فكذلك عبادة الصنم. ثم قال ) لو كانوا يعلمون ( فحذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب أي لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم وأمر دينهم لتابوا وندموا ، ولو كانوا يعلمون صحة هذا التشبيه وقد صح أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت. فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً. وصاحب الكشاف علق هذا الشرط بما قبله وليس بذاك وقد مر في الوقوف والله أعلم .
تم الجزء العشرون ، ويليه الجزء الحادي والعشرون وأوله : ( إن الله يعلم. . ((5/385)
" صفحة رقم 386 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الحادي والعشرين من أجزاء القرآن الكريم
( العنكبوت : ( 42 - 53 ) إن الله يعلم . . . .
) إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعةٌ فإيي فاعبدون كل نفسٍ ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غُرفاً تجري من تحتها الأنهر خالدين فيها نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وكأين من دابةٍ لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيءٍ عليم(5/386)
" صفحة رقم 387 "
ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون وما هذه الحياة الدنيا إلا لهوٌ ولعبٌ وإن الدار الآخرة لهي الحيوانُ لو كانوا يعلمون فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون أولم يروا أنا جعلنا حرماً أمناً يتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا وإن الله لمع المحسنين ) "
( القراآت )
ما يدعون ( بياء الغيبة : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم غير الأعشى والبرجمي. الباقون : بتاء الخطاب ) آية ( على التوحيد : ابن كثير وعاصم سوى حفص والمفضل وحمزة وعلي غير قتيبة وخلف لنفسه. ) ويقول ( بالياء : نافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون : بالنون ) يا عبادي الذين ( بسكون الياء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. الباقون : بفتح الياء والوقف للجميع بالياء لا غير ارضير بفتح الياء ابن عامر ) يرجعون ( بضم الياء التحتانية وفتح الجمي : يحيى وهشام ) ترجعون ( بفتح التاء الفوقانية وكسر الجيم. الباقون : بضم التاء الفوقانية وفتح الجيم ) لنثوينهم ( بسكون الثاء المثلثة : حمزة وعلي وخلف. والآخرون / بفتح الياء التحتانية الموحدة. وتشديد الواو ) وليتمتعوا ( بسكون اللام : ابن كثير وقالون وحمزة وعلي وخلف ) سبلنا ( بسكون الباء : أبو عمرو. الوقوف : ( من شيء ( ط ) الحكيم ( 5 ) للناس ( ط لاختلاف الجملتين والعدول عن العموم إلى الخصوص ) العالمون ( 5 ) بالحق ( 5 ) للمؤمنين ( 5 ) الصىة ( ط ) والمنكر ( ط ) أكبر ( ط ) ما تصنعون ( 5 ) مسلمون ( 5 ) إليك الكتاب ( ط ) يؤمنون به ( ج فصلاً بين حال الفريقين مع اتفاق الجملتين ) يؤمن به ( ط ) الكافرون ( 5 ) المبطلون ( 5 ) العلم ( ط ) الظالمون ( 5 ) من ربه ( ط ) عند الله ( ط ) مبين ( 5 ) عليهم ( ط ) يؤمنون ( 5 ) شهيداً ( ج لأن ما بعده يصلح وصفاً واستئنافاً ) والأرض ( ) بالله ( لا لأن ما بعده خبر ) الخاسرون ( 5 ) بالعذاب ( ط ) العذاب ( ط ) لا يشعرون ( 5 ) بالعذاب ( ط ) بالكافرين ( 5 لا لأن يومر ظرف ) المحيطة ( ) تعملون ( 5 ) فاعبدون ( ط ) ترجعون ( 5 ) خالدين فيها ( ط ) العاملين ( قف بناء على أن التقدير هم الذين أو أعني الذين ) يتوكلون ( 5 ) رزقها ( ق قد قيل : والوصل أولى لأنه وصف آخر لدابة ) وإياكم ( ج لاحتمال الاستئناف والوصل أولى ليكون حالاً متمماً للمعنى ) العليم ( 5 ) ليقولن الله ((5/387)
" صفحة رقم 388 "
لا للاستفهام مع الفاء ) يؤفكون ( 5 ) ويقدر له ( ط ) عليم ( 5 ) ليقولن الله ( ط ) الحمد لله ( ط لتمام المقول ) لا يعقلون ( 5 ) ولعب ( ط ) الحيوان ( ط لأن الشرط غير معلق ) يعلمون ( 5 ) الذين ( 5 ) يشركون ( لا لتعلق لام كي ومن جعلها لام أمر تهديد وقف عليه ) آتيناهم ( ط لمن قرأ ) وليتمتعوا ( بالجزم على استئناف الأمر ، ومن جعل لام ) ليكفروا ( للأمر عطف هذه عليها فلم يقف ) وليتمتعوا ( لا لاستئناف التهديد ) يعلمون ( 5 ) من حولهم ( ط ) يكفرون ( 5 ) جاءه ( ط ) الكافرين ( 5 سبلنا ) ط ) المحسنين ( 5. التفسير : هذا توكيد للمثل المذكور وزيادة عليه حيث لم يجعل ما يدعونه شيئاً هذا على تقدير كون ( ما ) نافية و ( من ) زائدة ، ويجوز أن تكون استفهاماً نصباً ب ) يدعون ( أو بمعنى الذي و ( من ) للتبيين المراد ما يدعون من دونه من شيء فإن الله يعلمه. وهو العزيز الحكيم قادر على إعدامه وإهلاكهم لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة والحياة عن بينة. وفيه ايضاً تجهيل لهم حيث عبدوا ما هو أقل من لاش يء وتركوا عبادة القاهر القادر الحكيم. ثم إن الجهلة من قريش كانوا يسخرون من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت ونحوهما فنزلت ) وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ( وذلك لأن الأمثال والتشبيهات وسائل إلى المعاني المحتجبة في الستار كما سبق في أول البقرة ، حيث ضرب المثل بالبعوضة. قال الحكيم : العلم الحدسي يعرفه العاقل ، وأما إذا كان فكرياً دقيقاًفإنه لا يعقله إلا العالم لافتقاره إلى مقدمات سابقة. والمثل مما يفتقر في إدراك صحته وحسن موقعه إلى أمور سابقة ولاحقة يعرف بها تناسب مورده ومضربه وفائدة إيراده فلا يعقل صحتها إلا العلماء. وحين أمر الخلق بالإيمان وأظهر الحق بالبرهان وقص قصصاً فيها عبر ، وأنذر أهل الكفر بإهلاك من غبر ووصف سبيل أهل الاباطيل بالتمثيل ، قوى قلوب أهل الإيمان بأن كفرهم ينبغي أن لا يورث شكاً في صحة دينكم ، وشكهم يجب أن لا يؤثر في رد يقينكم ، ففي خلق السموات والأرض بالحق بيان ظاهر وبرهان باهر وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر. وإنما قال ههنا ) لآية للمؤمنين ( مع قوله ) ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ( وقوله ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ( إلى قوله ) لآيات لقوم يعقلون ) [ البقرة : 164 ] لأن المؤمن لا يقصر نظره من الخلق على معرفة الخالق فحسب ولكنه يرتقي منه إلى نعوت الكمال والجلال فيعرف أنه خلقهما متقناً محكماً وهو المراد بقوله ) بالحق ( والخلق المتقن المحكم لا يصدر إلا عن العالم بالكليات والجزئيات ، وإلا عن الواجب الواحد الذات والصفات كقوله ) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [ الأنبياء : 22 ] ثم يرتقي من مجموع هذه المقدمات إلى صحة الرسالة وحقيقة المعاد فيحصل له الإيمان بتمامه من خلق ما خلقه على أحسن نظامة. وإنما(5/388)
" صفحة رقم 389 "
وحد الآية ههنا لأنه إشارة إلى التوحيد وهو سبحانه واحد لا شريك له. وفي قصة إبراهيم إشارة إلى النبوة وفي النبيين ( صلى الله عليه وسلم ) كثرة. وحيث قوى قلب المؤمنين بالتخصيص المذكور سلى رسول الله صلى الله عليه ولم بقوله ) اتل ما أوحي إليك من الكتاب ( لتعلم أن نوحاً ولوطاً وغيرهما بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة ، ولهذا قال ) اتل ( ولم يقل ( اتل عليهم ) لأن التلاوة بعد الياس منهم ما مانت إلا لتسلية قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . أو نقول : إن الكاتب الإلهي قانون كلي فيه شفاء للصدور فيجب تلاوته مرة بعد أخرى ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن غلى قرن ويأخذه قوم من قوم إلى يوم النشور. وأيضاً فيه من العبر والمواعظ ما يهش لها الأسماع وتطمئن إليها القلوب كالمسك يفوح لحظة فلحظة معنيان : أحدهما زيادة تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه قيل له : إذا تلوت ولم يقبل منك فأقبل على الصلاة لأنك وساطة بين الطرفين ، فإن لم يتصل الطرف الأول وهو من الخالق غلى المخلوق ، فليتصل الطرف الآخر وهو من المخلوق إلى الخالق. والثاني أن العبادات إما اعتقادية وهي لا تتكرر بل تبقى مستمراً عليها. وإما لسانية ، وإما بدنية خارجية وافضلها الصلاة ، فأمر بتكرار الذكر والصلاة حيازة للفضيلتين ثم علل الأمر بإقامة الصلاة فقال ) إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ( فقال بعض المفسرينك اراد بالصلاة القرآن وفيه النهي عنهما وهو بعيد وقيل : أراد نفس الصلاة وإنما تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة ، وضعف بأنه ليس مدحاً كاملاً لأن غيرها من الأعمال الفاضلة والمباحة قد يكون كذلك كالنوم وغيره. والذي عليه المحققون أن للصلاة لطفاً في ترك المعاصي فكأنها ناهية عنها وذلك إذا كانت الشروط من الخشوع وغيره مرعية. فقد روي عن ابن عباس : من لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً. وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قيل له : إن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل. فقال : إن صلاته لتردعه وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلاة ثم يرتكب الفواحش ، فوصف ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إن صلاته ستنهاه ، فلم يلبث أن تاب. وعلى كل حال فالمراعي لأوقات الصلاة لا بد أن يكون أبعد من القبائح. واللفظ لا يقتضي إلا هذا القدر وكيف لا تنهى ونحن نرى أن من لبس ثوباً فاخراً فإنه يتجنب مباشرة القاذورات ، فمن لبس لباس القتوى كيف لا يتجنب الفواحش. وإيضاً الصلاة توجب القرب من الله تعالى كما قال ) واسجد واقترب ) [ العلق : 19 ] ومقرِّب الملك المجازي يجل منصبه أن يتعاطى الشغال الخسيسة فكيف يكون مقرب الملك الحقيقي ؟ وأيضاً من دخل في خدمة الملك فأعطاه منصباً له مقام خاص مرتفع فإذا دخل وجلس في صف النعال لم يتركه الملك هنالك ، فإذا صار العبد برعاية شروط الصلاة وحقوقها من(5/389)
" صفحة رقم 390 "
أصحاب اليمين فكيف يتركه الله الكريم في اصحاب الشمال ؟ وتفسير الفحشاء والمنكر مذكور مراراً ، وقال أهل التحقيق : الفحشاء التعطيل وهو إنكار وجود الصانع ، والمنكر الإشراك به وه إثبات إله غير الله وذلك أن وجود الواجب الواحد أظهر من الشمس وإنكار الظاهر منكر ظاهر. واعلم أن الصلاة لها هيئة فأولها وقوف بين يدي الله كوقوف العبد بين يدي السلطان ، وآخرها جثو بين يدي الله كما يجثو أهل الإخلاص بين يدي السلطان. وإذا جثا في الدنيا هكذا لم يجث في الآخرة كما قال ) ونذر الظالمين فيها جثياً ) [ مريم : 72 ] فالمصلي إذا قال ( الله ) نفى التعطيل وإذا قال ( أكبر ) نفى الشرك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك ، وإذا قال ) بسم الله ( نفى التعطيل ، وإذا قال ) الرحمن الرحيم ( نفى الإشراك لأن الرحمن هو المعطي للوجود بالخلق والرحيم هو المفيض للبقاء بالرزق ، وهكذا ) الحمد لله ( خلاف التعطيل ، وقوله ( رب العالمين ( خلاف التشريك وفي قوله ) إياك نعبد ( نفي التعطيل والإشراك من حيث إفادة التقديم الاختصاص بالعبادة ، وكذا قوله ) وإياك نستعين ( وفي قوله ) اهدنا الصراط ( نفى التعطيل لأن المعطل لا مقصد له. وفي قوله ) المستقيم ( نفى الإشراك لأن المستقيم أقرب الطرق وهو أحد ، والمشرك يزيد في الطريق بتحصيل الوسائط. وعلى هذا إلى آخر الصلاة وهو قوله في التشهد طأشهد أن لا إله إلا الله ( نفى التعطيل والإشراك ، فأول الصلاة ) الله ( وآخرها ) الله (. ثم إن الله سبحانه كأنه قال للعبد : أنت إنما وصلت إلى هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقل بعد ذكري : أشهد أن محمدا رسول الله ، واذكر إحسانه بالصلاة عليه. ثم إذا رجعت من معراجك وانتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم وبلغه سلامي كما هو دأب المسافرين ) ولذكر الله ( أي الصلاة ) أكبر ( من غيرها من الطاعات. وفي تسمية الصلاة بالذكر إشارة إلى أن شرف الصلاة بالذكر. وجوز في الكشاف أن يراد ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة. وعن ابن عباس : ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بالطاعة. ) والله يعلم ما تصنعون ( من الأعمال فيثيبكم أو يعاقبكم على حسب ذلك. وحين بين طريقة إرشاد المسلمين ونفع من انتفع واليأس ممن امتنع ، أراد ان يبين طريقة إرشاد أهل الكتاب وهي مجادلتهم بالخصلة التي هي أحسن ، يعني مقابلة الخشونة باللين والغضب بالحلم والعجلة بالتأني. قال بعض المفسرين : أراد لا تجادلهم بالسيف وإن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا فنبذوا الذمة أو منعوا الجزية. وقيل : إلاّ الذين اشركوا منهم بإثبات الولد لله والقول بثالث ثلاثة وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله. والتحقيق أن أكثر أهل الكتاب جاؤا بكل حسن إلا الاعتراف بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فوحدوا وآمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل(5/390)
" صفحة رقم 391 "
والمبدأ والمعاد ، فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولاً بالأحسن ، ولا تستهجن آراؤهم ولا ينسب إلى الضلال آباؤهم بل يقال لهم ) آمنا بالذي أنزل إلينا ( إلى آخر الاية. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلاً لم تصدقوهم ، وإن كان حقاً لم تكذبوهم (. ثم ذكر دليلاً قياسياً فقال ) وكذلك ( يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك وقال جار الله : هو تحقيق لقوله ) آمنا بالذي أنزل إلينا ( اي ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مصدقاً لسائر الكتب السماوية. ) فالذين آتيناهم الكتاب ( هم عبد الله بن سلام وأضرابه ) ومن هؤلاء ( اي من اهل مكة أو الأولون هم الأقدمون من أهل الكتاب ، والآخرون هم المعاصرون منهم للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : الأولون هم الأنبياء لأن كلهم آمنوا بكلهم ومن هؤلاء هم أهل الكتاب ) وما يجحد بآياتنا ( مع وضوحها إلا المصرون على الكفر المتوغلون فيه نحو كعب الأشرف وأصحابه. واعلم أن المجادل إذا ذكر مسألة خلافية كقوله : الزكاة تجب في مال الصغير. فإذا قيل له : لم ؟ قال : كما تجب النفقة في ماله ولا يذكر الجامع بينهما. فإن فهم الجامع من نفسه فذاك ، وإلا قيل له : لأن كليهما مال فضل عن الحاجة. فالله سبحانه ذكر أولاً التمسك بقوله ) وكذلك أنزلنا ( ثم ذكر الجامع بقوله ) وما كنت تتلو ( الآية. وفي قوله ) بيمينك ( زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتباً. ومعنى ) إذا لارتاب ( لو كان شيء من ذلك أي من التلاوة والخط لارتاب ) المبطلون ( من أهل الكتاب ، وارتاب الذين من شأنهم الركون إلى الأباطيل ، لأن النبي إذا كان قارئاً كاتباً أمكن أن يسبق إلى الوهم أن الكلام كلامه لا كلام الله ، وإذا كان أمياً فلا مجال لهذا الوهم. أو المراد أن سائر الأنبياء لم يكونوا أميين ووجب الإيمان بهم لمكان معجزتهم فهبوا أنه قارئ كاتب اليس صاحب آيات ومعجزات فإذا هم مبطلون على كل حال. ثم أكد إزالة ريبهم بقوله ) بل هو ( يعني القرآن ) آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ( وهو الحفاظ والقراء وسائر الكتب السماوية ، ما كانت تقرأ إلا من القراطيس ولهذا جاء في صفة هذه الأمة ) صدورهم أناجيلهم ( ) وما يجحد بآياتنا ( الباهرة النيرة إلا المتوغلون في الظلم. سماهم أولاً كافرين لجل مجرد الجحود ، ثم بعد بيان المعجزة سماهم ظالين لأن الكفر إذا انضم معه الظلم كان أشنع. ويجوز أن يراد بالظلم الشرك كأنهم بغولهم في الجحود ألحقوا بأهل الشرك حكماً أو حقيقة. ولما بين الدليل من جانب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر شبهتهم وهي الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، وذلك أن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند الله وأنت ما أوتيت شيئاً منها فأرشد الله نبيه إلى الجواب(5/391)
" صفحة رقم 392 "
وهو أن يقول ) إنما الآيات عند الله ( ووجههأنه ليس من شرط الرسالة إظهار المعجزة وإنما المعجزة بعد التوقف في الرسالة ، ولهذا علم وجود رسل كشيث وادريس وشعيب ، ولم يعلم لهم معجزة وكان في بني إسرائيل أنبياء لم تعرف نبوتهم غلا بقول موسى أو غيره ، فليس على النبي إلا النذارة. وأما إنزال الآية فإلى رحمة الله غذا شاء تخليص القوم من تصديق المتنبئ وتكذيب النبي. ثم قال ) أولم يكفهم ( الآية. والمعنى هبوا أن إنزال الآية شرط أليس القرآن المتلو الذي أخرس شقاشق فصائحهم كافياً في بيان الإعجاز ؟ ) إن في ذلك ( المتلو على وجه الأرضين ) لرحمة ( من الله على الخلق وغلا اشتبه عليهم النبي بالمتنبئ ) وذكرى ( ليتعظ بها الناس ما بقي الزمان. وإنما كانت هذه الرحمة من الله على الخلق والتذكرة مختصة بالمؤمنين ، لأن المعجزة للكافرين سبب لمزيد الإنكار المستلزم لإلزام الحجة والخلود في النار ، ثم ختم الدلائل بأن أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بكلام منصف وهو قوله ) كفى بالله بيني وبينكم شهيداً ( وقال في آخر سورة الرعد ) قل كفى بالله شيهداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) [ الآية : 43 ] لأن الكلام هناك مع المشركين فاستشهد عليهم بأهل الكتاب أيضاً وأما هنا فالكلام مع أهل الكتاب فاقتصر على شهادة الله ، ثم بين كون شهادة الله كافية بقوله يعلم ما في السموات والأرضر ثم هددهم بقوله ) والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله ( وهما متلازمان لأن الإيمان بما سوى الله وهو الباطل الهالك الزائل الزاهق كفر بالله وجحود بحقه. ) أولئك هم الخاسرون ( لا يستحق لهذا الاسم في الحقيقة غيرهم إذ لا غبن افحش من اشتراء الباطل بالحق والكفر بالإيمان وإضاعة العمر في ما عبادة مالا ينفعهم بل يضرهم قيل : إن ناساً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه سولم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود ، فلما نظر إليها ألقاها وقال : كفى بها حماقة قوم ان يرغبوا عما جاءهم به نبيهم غلى ما جاء به غير نبيهم فنزلت ) أولم يكفهم ( الآية. ويروى أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا : يا محمد من يشهد لك بأنك رسو الله ؟ فنزلت ) قل كفى ( الآية. فعلى هذا فالآية نازلة في المشركين ، وعلى ا مر فهل يتناول أهل الكتاب ؟ قالوا : نعم ، لأنه صح عندهم معجزة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقطعوا بأنها ليست من عند الله بل من تلقاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيلزمهم أن يقولوا : إن محمداً هو الله فيكون إيماناً بالباطل وكفراً بالله. قلت : ولعل وجه التناول هو أنهم آمنوا بالمحرف من التوراة وعبدوا العجل والله أعلم. ثم إن النضر بن الحرث وغيره من كفار قريش كانوا يستعجلون بالعذاب كما مر استهزاء منهم وتكذيباً فنزلت ) ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى ( هو الموت أو يوم بدر أو ما كتب في اللوح أنه لا يعذب هذه الأمة عذاب الاستئصال إلى يوم القيامة. وقوله ( وهم لايشعرون ( تأكيد للبغتة ، أو هو كلام مستقل أي إنهم لا يشعرون هذا الأمر ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلاً .(5/392)
" صفحة رقم 393 "
ثم كرر قوله ) يستعجلونك بالعذاب ( تعجباً منهم وتعجيباً ، فإن من توعد بأمر يسير كلطمة أو لكمة يحتمل أن يظهر من نفسه الجلادة ويقول : هات ما عندك. وأما الذي توعد بإحراق ونحوه فكيف يتجلد ويستعجل خصوصاً إذا كان الموعد لا يخلف الميعاد ويقدر على كل ما اراد. وقوله ( لمحيطة ( بمعنى الاستقبال أي ستحبط بهم يوم كذا ويجوز أن يكون بمعنى الحال حقيقة لأن المعاصي التي توجبها محيطة بهم في الدنيا ، أو مجازاً لأن جهنم مىلهم ومرجعهم فكأنها الساعة محيطة بهم. والظرف على هذين الوجهين منصوب بمضمر اي ) يوم يغشاهم العذاب ( كان كيت وكيت. وإنما خص الغشيان بالفوق والتحت دون باقي الجهات ، لأن نار جهنم بذلك تتميز عن نار الدنيا لأن نار الدنيا ، لا تنزل من فوق ولا تؤثر شعلتها من تحت بل تنطفئ الشعلة تحت القدم ، وإنما لم يقل ) ومن تحتهم ( كما قال ) من فوقهم ( لأن نزول النار من فوق عجيب سواء كان من سمت الراس أو من موضع آخر. وأما الاشتعال من تحت فليس بعجيب إلا حيث يحاذي الرجل. ويجوز أن يكون زيادة الأرجل تصويراً لوقوفهم في النار أو لجثوهم فيها. وقوله ( ذوقوا ما كنتم ( أي جزاء ما كنتم تعملونه أمر إهانة ، وحين ذكر حال الكفرة من أهل الكتاب والمشركين وجمعهم في الإنذار وجعلهم من اهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعهم من عبادة الله فقال ) يا عبادي ( فإن كانت الإضافة للتشريف كقوله ) عيناً يشرب بها عباد الله ) [ الدهر : 6 ] فقوله ) الذين آمنوا ( صفة موضحة. وإن كانت للتخصيص فهي صفة مميزة. ومعنى الآية أن المؤمن إذا لم يتسهل له عبادة الله في بلد على وجه الإخلاص فليهاجر عنه إلى بلد يكون فيه أفرغ بالاً أو ارفع حالاً واقل عوارض نفسانية وأكمل دواعي روحانية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن مان شبراً من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد (. واعلم أني عند الوصول إلى تفسير هذه السورة عنَّ لي سفر من غير اختيار كلي فأقول متضرعاً إلى الله الكريم ومستمداً من إعجاز الفرقان العظيم : اللهم إن كنت تعلم أن هذا السفر مشوب بشيء من رضاك فإن مان الرضا لا يمكنني أن أراعيه فاجعله سبباً لنجح المقاصد وحصول المآرب والشاتمال على الفوائد الدنيوية والدينية والخلاص من شماتة الأعداء الدنية حتى أفرع لنشر العلوم الشرعية إنك على ما تشاء قدير وبالإسعاف والإجابة جدير. والفاء في قوله ) فإياي ( للدلالة على أنه جواب الشرط كأنه قال : إذا كان لا نانع من عبادتي ) فاعبدوني ( ثم أريد معنى الاختصاص والإخلاص فقدم المفعول على شريطة التفسير ، وجيء بالفاء الثانية الدالة على ترتيب المقتضى على المقتضي كما يقال : هذا عالم فأكرموه كما مر في قوله ) وإياي فارهبون ) [ البقرة : 40 ] فصار حاصل المعنى :(5/393)
" صفحة رقم 394 "
إن لم تخلصوا العبادة لي في ارض فاخلصوها لي في غيرها. والفائدة في الأمر بالعبادة بعد قوله ) يا عبادي ( الدال على العبودية إما المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل ، أو الإخلاص في العبادة. ويجوز أن يقال : العبودية غير العبادة ، فكم من عبد لا يطيع سيده ، ثم لما أرم المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان والخلان فقال ) كل نفس ذائقة الموت ( أي إن الذي تكرهون لا بد من وقوعه فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله ) ثم إلينا ترجعون ( فنثييبكم على ذلكن وفيه أن كل نفس ذائقة الموت اضطراراً فمن اراد أن لا يموت ابداً فليمت اختياراً فإن أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار. ثم بين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما للكافرين من النيران ، وأن في الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما يحيط بالكافرين من النار. وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله ) نعم أجر العالمين ( بإزاء ما بين جزاء عمل الكفار بقوله ) ذوقوا ما كنتم تعلمون ( وقوله ( لنبوئنهم ( أَ لننزلنهم ) من الجنة ( عوالي ومن قرأ بالثاء المثلثة فمن الثواء يقال : ثوى في المنزل لازماً وأثوى غيره متعجياً إلى واحد. فانتصاب ) غرقاً ( إمات بنزع الخافض ، وإما لتضمين الإِثواء معنى التبوئة والإِنزال ، وإما التشبيه الظرف المؤقت بالمبهم. ثم مدح ) الذين صبروا ( على المكاره في الحال. ) وعلى ربهم يتوكلون ( فيما يحتاجون إليه في الاستقبال. وكل واحد من الصبر والتوكل يحتاج إليه السمافر والمقيم ، فكما أن المهاجر يصبر على فراق الأوطان ويتوكل في سفره على الرحمن ، فالمتوطن يصبر على الأذيات والمحن ويتوكل في أموره على فضل ذي المنن. والصبر والتوكل صفتان لا تحصلان إلا مع سعة العلم بالله بوما سوى الله ، فمن علم أنه باق لا يصبر عنه ولا يتوكل في الأمور إلا عليه ، ومن علم أن ما سواه فإن هان عليه الصبر وعلم أنه لا يصلح للاعتماد عليه. ثم ذكر ما يعين على الصبر والتوكل وهو النظر في حال الدواب. وقال المفسرون : لما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من اسلم بمكة بالهجرة خافوا الفقر والضيعة فكان الرجل منهم يقول : كيف اقدم بلدة ليست لي فيها معيشة فنزلت ) وكاين من دابة لا تحمل رزقها ( عن الحسن اي لا تدخره وقال غيره : لا تطيق حمل الرزق ) الله يرزقها ( بإيجاد غذائها وهدايتها إليه. ثم بتشبث ذلك الغذاء بالمغتذي بتوسط قوى أودعها فيها وهيأها لذلك. ) وإياكم ( بمثل ما قلنا وبزيادة الاهتداء غلى وجوه المكاسب والمعايش وترتيب الملبس والمسكن وتهيئة الأقوات وادخار الأموال وتملكها اختياراً وقهراً ، ومنه يعلم أن الاشتغال بترتيب بعض الوسائط وتدبيرها لا ينافي التوكل فقد يكون الزارع الحاصد متوكلاً والراكع الساجد غير متوكل. عن ابن عيينة : ليس شيء يخبأ إلا الإِنسان والنملة والفأرة وللعقعق مخابئ إلا أنه(5/394)
" صفحة رقم 395 "
ينساها. وحكي أن البلبل يحتكر في حضنيه أي يجمع. وإذا كان أكثر الحيوان على صورة المتوكلين فالإنسان العاقل العارف بالمبدأ والمعاد ، العالم بوجوه المكاسب الذي يأتيه الرزق من جهات الإرث والعمارة والهدية ونحوها ، كيف يظاهر على الحطام الزائل أشد حرص ؟ ) وهو السميع ( لدعاء طلبة الرزق ) العليم ( بطوياتهم ومقادير حاجاتهم. ثم عجب أهل العجب من حال المشركين من أهل مكة وغيرهم لم يعبدوا الله مخلصين مع علمهم بأنه خالقهم ورازقهم ، فكيف يصرفون عن توحيد الله ؟ فإن من علمت عظمته وجبت خدمته ، ولا عظمة فوق عظمة خالق الذرات وإليه اشار بخلق الأرض والسموات موجد الصفات وإليه الإشارة بتسخير الشمس والقمر ولا حقارة فوق حقارة الجماد لأنه دون النبات وهو دون الحيوان وهو دون الإنسان وهو دون سكان السموات ، فكيف يتركون عبادة أشرف الموجودات ويشتغلون بعبادة أخس المخلوقات ، وحين ذكر الخلق أتبعه ذكر ارزق وحكمة البسط والقبض في ذلك الباب. ومعنى ) يقدر ( يضيق فالضمير في ) له ( إما للشخص المعين المبسوط له والمراد أن تعاقب الأمرين عليه بمشيئة الله وإما لمبهم غير معين كأن الضمير وضع موضع من يشاء. وفي قوله ) إن الله بكل شيء عليم ( غشارة غلى أنه عالم بمقادير الحاجات فإذا علم احتياج العبد إلى الرزق أوصله غليه من غير تأخير إن شاء. ثم احتج على المشركين بوجه آخر وهو اعترافهم بأن إِحياء الرض الميتة بواسطة تنزيل ماء السماء هو من الله. ثم قال ) قل الحمد لله ( وهو كلام مستقل على سبيل الاعتراض أو هو متصل بما قبله كأنه استحمد رسوله على البراءة من التناقض والتهافت خلاف أهل الشرك المعترفين بأن النعمة من الله ثم يتركون عبادته إلى عبادة الصنم الذي لا يملك نفعاً ولا ضراً. وفيه أن العالم إذا لم يعمل انخرط في سلك من لا عقل له ولهذا عقبه بقوله ) بل أكثرهم لا يعقلون ( وقال جار الله : اراد لا يعقلون ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد ، أو لا يعقلون ما تريد بقولك : ( الحمد لله ( ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم. واعلم أن المشركين معترفون بأن الخلق والرزق من الله ، ولكن حب الدنيا وزينتها حملتهم على موافقة أهل الشرك والمداومة على الدين الباطل ، فصغر الله تعالى أمر الدنيا وعظم أمر الاخرة ليعلم أن رعاية جانب الآخرة أهم من رعاية صلاح الدنيا. قال أهل العلم : الإقبال على الباطل لعب ، والإعراض عن الحق لهو ، والمشتغل بالدنيا كذلك. ويمكن أن يقال : المشتغل بها لا على وجه الاستغراق بل على وجه يفرغ لعبض أمور الآخرة لاعب ، والمشغول بها بحيث ينسى الآخرة بالكلية لاهٍ وحين كان الكلام في الأنعام بعد ذكر الآخرة وما يجري فيها من الحيرة والحسرة قدم اللعب هنالك(5/395)
" صفحة رقم 396 "
لأن الاستغراق الكلي بالنسبة إلى أهل الآخرة أبعد فأخر البعد. ولما كان المذكور ههنا من قبيل الدنيا ولهذا أشار إليها بقوله ) وما هذه الحياة الدينا ( وقال في الأنعام ) وما الحياة الدنيا ) [ الآية : 32 ] وهي خداعة تدعو النفوس غلى الإقبال عليها بالكلية ، فلا جرم قدم اللهو. ويحتمل أن يقال : إنه تعالى قدم اللعب على اللهو في موضعين من ) الأنعام ( وكذلك في القتال ويقال لها سورة محمد ) ( صلى الله عليه وسلم ) وفي ( الحديد ). وقدم اللهو على اللعب في ( الأعراف ) و ( العنكبوت ). فاللعب مقدم في الأكثر لأن اللعب زمانه الصبا ، واللهو زمانه الشباب ، وزمان الصبا مقدم على زمان الشباب. ( تنبيه ) ما ذكر في الحديد ) اعلموا انما الحياة الدنيا لعب ( كلعب الصبيان ) ولهو ( كلهو الشبان و ) زينة ( كزينة السنوان ) وتفاخر ( كتفاخر الإخوان ) وتكاثر ) [ الآية : 20 ] كتكاثر السلكان وقدم اللهو في الأعراف لأن ذلك في القيامة فذكر على ترتيب ما انقضى وبدأ بما بدأ به الإنسان وانتهى من الجانبين. وأما هذه السورة فأراد فيها ذكر سرعة زمان الآخرة ، فبدأ بذكر ما هو أكثر ليكون غلى المقصود اقرب. ثم إن الحال في سورة الأنعام لما كانت حال إظهار الحسرة لم يحتج المكلف إلى وازع قوي فاقتصر على قوله ) وللدار الآخرة خير ) [ الأنعام : 32 ] ولما كان ههنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى وازع أقوى فقال ) وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ( أي لا حياة إلا حياة الآخرة وليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة بلا موت فكأنها في ذاتها حياة. ولا يخفى ما في التركيب من أنواع المبالغة من جهة ( إن ) ومن جهة صيغة الفصل ، ولام التأكيد ، وبناء الفعلان بتحريك العين وهو مصدر ( حيي ) بياءين لفقد ما عينه ياء ولامه واو. ولو كانا واوين لقيل : حوى مثل قوى وقياسه ( حييان ) بياءين قلبت الثانية واواً على منوال حيوة في اسم رجل. ولأن المبالغة ههنا أزيد مما في الأنعام قال ههنا ) لو كانوا يعلمون ( وهنالك ) أفلا تعقلون ) [ الأنعام : 32 ] لأن المعلوم أكثر مقمدة من المعقول وقد مر في السورة ثم أشار بقوله ) فإذا ركبوا في الفلك ( إلى أن المانع من التوحيد والإخلاص هو الحياة الدنيا لأنهم إذا انقطع رجاؤهم رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد والإخلاص ، فإذا نجاهم إلى البر عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا لأجلها. ثم بين أن نعمة الأمن يجب أن تقابل بالشكر لا بالكفر فقال ) أولم يروا ( الآية. وقد مر مثله في ( القصص ). ثم ذكر أن الذين سمعوا البيانات المذكورة ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم لأن من وضع شيئاً في غير موضعه فهو ظالم. فمن وضع شيئاً في موضع لا يمكن أن يكون ذلك موضعه يكون أظلم ، وإنهم جعلوا الله شريكاً مع عدم إمكان الشريك له ، فلا أظلم منهم. وأيضاً من كذب صادقاً يجوز عليه الكذب كان ظالماً ، فمن كذب صاجقاً لا يجوز عليه الكذب يكون حاله وإنهم كذبوا النبي والقرآن ؟ وفي قوله ) لما(5/396)
" صفحة رقم 397 "
جاءه ( إشارة إلى أنهم لم يتلعثموا في التكذيب وقت أن سمعوه ولم يستعملوا التدبر التفكر فيما يجب أن يستعمل فيه التأني والتثبيت ، وهذا أيضاً نوع من الظلم بل ظلم مضموم إلى ظلم. وفي قوله ) اليس ( معنيان بعد كون الاستفهام للتقرير. فإن أريد نفي الحال فمعناه ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين حتى اجترؤا على مثل هذه الجرأة ؟ وإن اريد نفي الاستقبال فالمراد ألا يوون في جهنم وقد افتروا على الله وكذبوا بالحق ؟ وقيل : هو من الكلام المنصف لأنه قدم مقدمة هي أنه لا أظلم من المفتري وهو المتنبئ ومن الذي كذب النبي. ثم ذكر أن جهنم مقام الكافر سواء كان هو المتنبئ أو المكذب للنبي فهو كقوله ) وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) [ سبأ : 24 ] ثم ختم السورة بآية جامعة فيها تسلية قلوب المؤمنين والمراد أن من جاهد النفس أو الشيطان الجني والإنسي ) فينا ( أي في حقنا ومن أجل رضانا خالصاً ) لنهدينهم ( سبيل الجنة أو سبيل الخير بإعطاء ميزد اللطاف الوتفيق. وقيل : والذين جاهدوا فيما علموا ولم يقصروا في العمل به لنهدينهم غلى ما لم يعلموا وهو قريب من قول الحكيم : إن النظر في المقدمات يعد النفس لقبول الفيض وهو النتيجة من واهب الصور الجسمانية والعقلية. وقوله ( وإن الله لمع المحسنين ( أي بالنصر والإعانة إشارة إلى مرتبة أعلى من الاستدلال وهو الذي يسمى العلم اللدني ، فكأنه تعالى أشار في خاتمة السورة غلى الفرق الثلاث. فأشار إلى الناقصين بقوله ) ومن أظلم ( وذلك أنهم صرفوا الاستعداد في غير ما خلق لأجله ، وإلى المتوسطين الذين يحصلون العلم بالكد بقوله ) والذين جاهدوا ( وغلى اصحاب الحدس وصفاء الضمير بقوله ) وإن الله لمع المحسنين ( والله أعلم بمراده. التأويل : ( وما يعقلها إلا العالمون ( بالله لأن عقولهم مؤيدة بأنوار العلم اللدني ) إن في ذلك لآية للمؤمنين ( الذين ينظرون بنور الله فان النور لا يرى إلا بالنور ) اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة ( فيه أن التلاوة والعمل به يجب أن يتقارنا حتى يتخلق بخلق القرآن ويحصل الانتهاء عن الفحشاء وهي طلب الدنيا. والمنكر وهو الالتفات إلى غير الله فإن لم تكن الصلاة متصفة بذلك فهي كالصلاة. ) ولذكر الله ( في إزالة مرض القلب ) أكبر ( من تلاوة القرآن وإقامة الصلاة ، لأن القلب لا يطمئن غلا بذكر الله ، وعند الاطمئنان توجد سلامة القلب. فلاذكر له خاصية الإكسير في جعل الإبريز ذهباً خالصاً. ) والله يعلم ما تصنعون ( من استعمال مفتاح الشريعة وآداب الطريقة لفتح أبواب طلسم الوجود المجازي والوصول إلى الكنز الخفي ) ولا تجادلوا ( يا ارباب القلوب أهل العلم الظاهر إلا بطريق الإنصاف والرفق ) إلا الذين ظلموا ( بمزيد الإنكار والعناد فحينئذ لا تجادلوهم إذ لا يرجى منهم قبول الحق والإذعان له ، فخلوا بينهم وبين باطلهم ) وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا ( من(5/397)
" صفحة رقم 398 "
العلوم الباطنة ) وأنزل إليكم ( من العلوم الظاهرة ) وكذلك ( اي كما أنزلنا الدلائل والبراهين العقلية على أهل الظاهر ) أنزلنا عليكم ( الكشوف والمعارف ) فالذين آتيناهم الكتاب ( وهم أرباب القلوب يصدقون به ، ) ومن هؤلاء ( العلماء الظاهريين من يؤمن به ) وما يجحد بآياتنا إلا الذين ( يشترون الحق بالباطل ) وما كنت تتلو ( وفيه أن القلب إذا كان خالياً عن النقوش الفاسدة كان أقبل للعلوم اللدنية كقلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولذلك قال ) بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ( يعني أن قلوب الخواص خزائن الغيب. سأل موسى عليه السلام : إلهي أين أطلبك ؟ فقال : أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي. ثم اشار بقوله ) وما يجحد ( إلى أن الحرمان من الرؤية من خصوصية الرين ولهذا قالوا ) لولا أنزل عليه آية ( وذلك لعمى عيون قلوبهم. ثم أشار إلى ظلومية الإنسان وجهوليته بأنه يستعجل بالعذاب مع عدم صبره عليه ) وإن جهنم ( الحرص وغيره من الأخلاق الذميمة ) لمحيطة ( بهم من فوقهم وهو الكبر والغضب ) ومن تحت أرجلهم ( وهو الحرص والشره والشهوة ) وهم لا يشعرون ( لأنهم نائمون فإذا ماتوا انتبهوا ) يا عبادي ( أن أرض حضرة جلالي ) واسعة ( فهاجروا بالخروج من حبس وجودكم غلى سرادقات هويتي ) كل نفس ذائقة الموت ( بالإضطرار فارجعوا إلينا بالاختيار ) لنبوئنكم ( من جنة الوصال غرفاً من المعارف ) تجري من تحتها ( أنهار الحكمة ) الذين صبروا ( في البجاية على حبس النفس بالفطام عن المرام ، وفي الوسط على تجرع القلب كاسات التقدير من غير تعبير ، وفي النهاية صبروا على بذل الروح لنيل الفتوح ) وكأين من دابة ( شخص كالدابة ) لا تحمل ( النظر عن ) رزقها ( لضعف نفسها عن التوكل ) الله يرزقها وإياكم ( أيها الطالبون للمشاهدات والمكاشفات ) ليقولن الله ( لأن ملهم قالوا في الأزل : بلى عند خطاب ) الست بربكم ) [ الأعراف : 172 ] والفرق إثبات الشريك ونفيه وذلك لعدم إصابة النور المرشش وإصابة دليله قوله ) الله يبسط الرزق ( بإصابته النور ) ويقدر ( بأخطائه ) إن الله عليم ( باستحقاق كل فريق من نزل من سماء الروحاينة ماء الإيمان فأحيا به أرض القلوب ) لهي الحيوان ( لأن جميع أجزائها حي فقد ورد في الحديث ( إن الجنة وما فيها من الأشجار والأثمار والغرف والحيطان والأنار حتى ترابها وحصباؤها كلها حي ) قلت : ولعل ذلك لبقاء كل منها على كماله الآخر. ثم بين بقوله ) فإذا ركبوا ( أن إخلاص المؤمن بثابت وإخلاص الكافر مضطرب ثم بين أن حرم القلب آمن وما حوله من صفات النفسومشاهدة ربها مظنة تصرف الشيطان ، فمن افترى على الله بأن لا يكون له مع الله وقت وحال ويزهر ذلك من نفسه ، أو كذب طريقة أهل الحق جاهدوا فينا يخرج منه مجاهدة الرهبانيين والفلاسفة والبراهمة ونحوهم لأنهم مرتاضون رياء وكسلاً .(5/398)
" صفحة رقم 399 "
سورة الروم
( سورة الروم وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون وكلمها ثمانمائة وتسعة عشر آياتها ستون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الروم : ( 1 - 32 ) الم
" الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم
سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك(5/399)
" صفحة رقم 400 "
لآيات لقوم يسمعون ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون وله من في السماوات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون "
( القراآت )
عاقبة ( بالنصب : ابن عامر وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون : بالرفع. ) السوأى ( بالإمالة : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وحماد ) يرجعون ( على الغيبة : أبو عمرو غير عباس وأوقية وسهل ويحيى وحماد ) تخرجون ( بفتح التاء وضم الراء : حمزة وعلي وخلف. الباقون : مجهولاً ) للعالمين ( بكسر اللام : حفص يفصل على الغيبة : عباس. الآخرون : بالنون. الوقوف : ( ألم ( كوفي ) غلبت ( ) الروم ( 5 ) سيغلبون ( 5 ) سنين ( 5 ) ومن بعد ( ط ) المؤمنون ( 5 ) ينصر الله ( ط وكلاهما مبني على أن قوله ) بنصر الله ( يتعلق ب ) يفرح ( ) ينصر من يشاء ( ط ) الرحيم ( 5 ) وعد الله ( 5 ) لا يعلمون ( 5 ) الدنيا ( ج لعطف الجملتين المختلفتين والوصل أولى ) غافلون ( 5 ) في أنفسهم ( ط لحق الحذف أي فيعلموا ذلك أو فيقولوا هذا القول ) مسمى ( ط ) لكافرون ( 5 ) من قبلهم ( ط ) بالبينات ( ط ) يظلمون ( 5 لا لأن ( ثم ) لترتيب الأخبار ) يستهزؤن ( 5 ) يرجعون ( 5 ) المجرمون ( 5 والوصل جائز ) كافرين ( 5 ) يتفرقون ( 5 ) يجبرون ( 5 ) محضرون ( 5 ) تصبحون ( 5 ) تظهرون ( 5 ) بعد موتها ( ط ) تخرجون ( 5 ) تنتشرون ( 5 ) ورحمة ( ط ) يتفكرون ( 5 ) وألوانكم ( ط ) للعالمين ( 5 ) من فضله ( ط ) يسمعون ( 5 ) موتها ( ط ) يعقلون ( 5 ) بأمره ( ط لأن ( ثم ) لترتيب الأخبار ) دعوة ( لا وقيل : على من الأرض وكلاهما تعسف .(5/400)
" صفحة رقم 401 "
والحق أن قوله ) من الأرض ( متعلق ب ) دعاكم ( كقولك دعوت زيداً من بيته لا كقولك دعوته من بيتي ) تخرجون ( 5 ) والأرض ( ط ) قانتون ( 5 ) أهون عليه ( ج ) والأرض ( ط ) الحكيم ( 5 ) من أنفسكم ( ط لانتهاء الإخبار إلى الاستفهام ) كخيفتكم أنفسكم ( ط ) يعقلون ( 5 ) بغير علم ( ج لابتداء الاستفهام مع الفاء ) أضل الله ( ط لتمام الاستفهام وابتداء النفي ) ناصرين ( 5 ) حنيفا ( ط ) عليها ( ط ) لخلق الله ( ط ) القيم ( 5 لا للاستدراك ) لا يعلمون ( 5 وقيل : لا وقف عليه بناء على أن ) منيبين ( حال من ضمير ) أقم ( على أن الأمر له ولأمته مثل ) يا أيها النبي إذا طلقتم ) [ الطلاق : 1 ] والوقف أوضح لبعد العامل عن المعمول بل التقدير : كونوا منيبين بدليل قوله ) ولا تكونوا من المشركين ( لأن قوله ) من الذين ( كالبدل مما قبله ) شيعاً ( ط ) فرحون ( 5. التفسير : وجه تعلق السورة بما قبلها هو أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول للمشركين ماأمر الله به ) صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) [ البقرة : 171 ] وكان يحقر آلهتهم وينسبها إلى العجز وعدم النفع والضر ، وكان أهل الكتاب يوافقون المسلمين في الإله وفي كثير من الأحكام ولذلك قال ) ولا تجادلوا أهل الكتاب ( إلى قوله ) وإلهنا وإلهكم واحد ) [ العنكبوت : 46 ] فلا جرم أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم في الأمور. فاتفق أن بعث كسرى جيشاً إلى الروم واستعمل عليهم رجلاً يقال له شهريران ، فسار إلى الروم بأهل فارس فظفر عليهم وقتلهم وخرب مدائنهم. وكان قيصر بعث رجلاً يدعى بجنس فالتقى مع شهريران بأذرعات وبصرى وهو أدنى الشأم إلى أرض العرب وإليه الإشارة بقوله ) أدنى الأرض ( لأن الأرض المعهودة عند العرب هي أرضهم أي غلبوا في أقرب أرض العرب منهم وهي أطراف الشأم. وجوز جار الله أن يراد بأرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه أي في أدنى أرضهم إلى عدوهم. وهذا تفسير مجاهد لأنه قال : هي أرض الجزيرة ةوهي أدنى أرض الروم إلى فارس. عن ابن عباس : الأردن وفلسطين. ففرح المشركون بذلك فأنزل الله تعالى هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق فقد يبتلى المحبوب ويعجل عذابه ليسلم في الآجل. وقوله ( في أدنى الأرض ( إشارة إلى ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم. ثم بين أن الروم سيغلبون غلبة عظيمة بعد ذلك الضعف العظيم ، وكل ذلك دليل على أن الأمر بيد الله من قبل الغلبة ومن بعدها ، أو من قبل تلك المدة ومن بعد ذلك ، وقد وقع كما أخبر فغلبت الروم على فارس حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هنالك الرومية ، قال المفسرون : لما نزلت الآية قال أبو بكر للمشركين : لا أقر الله أعينكم ، والله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين. فقال له أبي(5/401)
" صفحة رقم 402 "
ابن خلف : كذبت يا أبا فضيل اجعل بيننا أجلاً أناحبك عليه ، فخاطره على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعل الأجل ثلاث سنين. فأخبر أبو بكر رسول اللهص لى الله عليه وسلم فقال : البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادى في الأجل فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين. فلما أراد أبو بكر أن يخرج من مكة أاه أبي فلزمه وطلب كفيلاً فكفله ابنه عبد الله بن أبي بكر ، فلما أراد أن يخرج من مكة أتاه أبي فلزمه وطلب كفيلاً ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي فمات بمكة من جراحته التي جرحها رسول الله صلى الله عليه سولم فظهرت الروم على فارس يوم الحديبية. وذلك عند رأس سبع سنين. فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي وجاء به غلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأمره أن يتصدق به. قالت العلماء : إنما أبهم الوقت لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد الشاسعة قلما يحصل الاتفاق على وقتها المعين من السنة والشهر واليوم والساعة وإن كان معلوماً للنبي بإعلام الله إياه ، فالمعاند كان يتمكن من إنكار الواقعة في البضع ، ) ويومئذ ( أي يوم يغلب الروم فارس ويحصل ما وعد الله من غلبتهم ) يفرح المؤمنون بنصر الله ( وبغلبة من له كتاب على من لا كتاب له ، أو بغيظ الشاكتين بهم من كفار مكة. وقيل : نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبر به نبيهم من غلبة الروم. وعن أبي سعيد الخدري : وافق ذلك يوم بدرٍ وهو المراد بنصر الله ، وذلك أن خبر الكسر لم يصل إليهم في ذلك اليوم بعينه فلا يكون فرحهم يومئذ بل الفرح يحصل بعده ، ولناصر القولين الأولين أن يقول : اقيم سبب الفرح ، مقام الفرح أو المراد باليوم الوقت الواسع الشامل لما بين زمان وقوع الكسر إلى زمان وصول خبر الكسر الموجب للفرح. ومن علق قوله ) بنصر الله ( بقوله ) ينصر ( بناء على أن المقصود بيان أن النصرة بيد الله لا بيان وقوع النصرة لم يقف ههنا ووقف على ) المؤمنون ( ) وهو العزيز الرحيم ( فإذا سلط العدو على الحبيب فلعزته واستغنائه عن العالمين ، وإذا نصر الحبيب فرحمته عليه. أو نقول : إن نصر المحب فلعزته واستغنائه عنه ورحمته في الآخرة واصله إليه. ) وعد الله ( مصدر مؤكد لنفسه لأن ما سبق فيمعنى الوعد ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( أنه لا خلف في وعده لأنهم بله في أمور الدين. وفي إبدال قوله ) يعلمون ( من قوله لا يعلمونر أو في بيان هذا بذاك إشارة أن العلم بأمور الدنيا كالجهل المطلق ، وفي تنكير ) ظاهراً ( إشارة إلى قلة علمهم بظاهر الدنيا أيضاً وفي تكرير ( هم ) إشارة إلى أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكرة حاصلة وظاهر الدنيا ملاذها وملاعبها وباطنها مضارها ومتاعبها. هي الدنيا تقول بملء فيها
حذار حذار من سفكي وفتكي(5/402)
" صفحة رقم 403 "
فلا يغرركم طول ابتسامي
فقولي مضحك والفعل مبكي
ثم أشار إلى وجهالتفكر بقوله ) أولم يتفكروا ( وقوله ( في أنفسهم ( يتعلق به أما تعلق الظرف بالفعل كأنه قال : أولم يحدثوا التفكر في قلوبهم الفارغة فيكون كما لو قلت لأجل زيادة التصوير اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك مع أن الإعتقاد لا يكون إلا في القلب ، والإضمار لا يوجد إلا في النفس. وأما تعلق الجار بالفعل كقولك : تفكر في الأمور. وذلك أنه إذا تفكر في نفسه التي هي أقرب الاشياء إليه وقف على غرائب الحكم ودقائق الصنع التي أودعها الله تعالى فيها كما يكفل بيان بعضها علم التشريح فجره ذلك إلى العلم بأنه سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا متلبساً بالغرض الصحيح الذي أودعه الله فيها ، وبتقدير أجل مسمى هو وقت الجزاء والحساب ، ثم في الآية تقريران : أحدهما يناسب أصول الأشاعرة وهو أن دلائل الأنفس منجرة إلى دلائل الآفاق المذكورة للتوحيد وللعلم بالإله القادر المختار الصادق كلامه ، لكنه أخبر عن تخريب السموات والأرض وعن حشر الأجساد وانتهاء الجسمانيات إلى الإفناء ث الإعادة في الوقت المعلوم فيكون الأمر على ما أخبر. وثانيهما يتوقف على أصول المعتزلة ، وهو أن التفكر في النفس يجذب بصنعه إلى معرفة الإِله الحكيم الذي لا يفعل العبث والجزاف ، فإنه خلق السموات وغيرها من الأسجام لمنافع المكلفين ، وإذا انتهى التكليف فلا بد من تخريبق السموات والأرض وانتهاء الأمر إلى حالة الجزاء واللقاء كيلا تنخرم قاعدة الحكمة والتدبير ورعاية الصلاح والعدل. ثم قال ) وإن كثيراً من الناس ( وقد قال قبل ذلك ) ولكن أكثر الناس ( لأنه قد ذكر دليلاً على الأصول ، ولا شك أن الإيمان بعد الدليل يكون أكثر من الإيمان قبل الدليل فلا يبقى الأكثر مكما هو فعبر عن الباقي بالكثير. قال في الكشاف والمراد ) بلقاء ربهم ( الأجل السممى ، والأشاعرة يحملونه على الرؤية ، واعلم أن دليل الأنفس مقدم على دليل الآفاق ، لأن الإنسان قلما يذهل عن نفسه ، وأن نفسه أقرب الشياء إليه نظير الآية قوله سبحانه ) الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ) [ آل عمران : 191 ] أي يعرفون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال ، ويتفكرون في خلق السموات والأرض بدلائل الآفاق. وإنما أخر الأنفس في قوله ) سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) [ فصلت : 53 ] لإن الإراءة إنما يفتقر إليها في معرفة الأبعد الأخفى كأنه قال : سنريهم آياتنا الآفاقية فإن لم يفهموها فآيات الأنفس معلومة. وهذا الترتيب لا يناسب التفكر بل الفكر يتصور دليل الأنفس أولاً ثم يرتقي إلى دليل الآفاق فظهر أن كل آية وردت على ما اقتضته الحكمة والبلاغة. وحين ذكر دليل النفس الذي لا يقع الذهول عنه إلا(5/403)
" صفحة رقم 404 "
ندرة ارتقى إلى دليل السموات والأرض الذي يقع الذهول عنه في كثير من الأحوال لكنه لا يحتاج إلا إلى التفات ذهني ، ثم أتبعه دليل الآفاق الذي يتوقف على السير والتحول ليقفوا على أمر أمثالهم. وحكاية أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك لأن من تقدمهم كعاد وثمود كانوا أشد منهم قوة جسمانية وأثاروا الأرض حرثوها وهو إشارة إلى القوة المالية. ثم اشار إلى القوة الظهرية التي يستند إليها عند الضعف والفتور وهي الحصون والعمائر بقوله ) وعمروها أكثر مما عمروها ( هؤلاء يعني أهل مكة كانوا أهل واد غير ذي زرع ما لهم أثارة أرض أصلاً ولا عمارة لها راساً ، ففيه نوع تهكم بهم. قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة وفي آخر ( فاطر ) وفي ( المؤمن ) ) أولم يسيروا ( بالواو وفي غيرهن ) افلم ( بالفاء لأن ما قبلها في هذه السورة ) أولم يتفكروا ( وما بعدها ) وأثاروا ( بالواو فوافق ما قبلها وما بعدها. وكذا في ( فاطر ) ما قبله ) ولن تجد لسنتنا تحويلاً ( وما بعده ) وما كان ) [ الآية : 43 ، 44 ] وفي ( المؤمن ) ما قبله ) والذين يدعون ( وأما في آخر ( المؤمن ) فما قبله ) فأي آيات الله ( وما بعده ) فما أغنى عنهم ) [ الآية : 82 ] وكلاهما بالفاء. قوله في هذه السورة ) من قبلهم ( متصل بكون آخر مضمر. وقوله ( كانوا أشد منهم قوة ( وكذا معطوفاه إخبار عما كانوا عليه قبل الإهلاك. وإنما قال في ( فاطر ) ) وكانوا ( بزيادة الواو لأن التقدير فينظروا كيف أهلكوا وكانوا اشد ، وخصت السورة به لقوله ) وما كان الله ليعجزه ) [ فاطر : 44 ] وقال في ( المؤمن ) ) كانوا من قبلهم كانوا هم أشد ( فأظهر ( كان ) وزاد لفظه ( هم ) لأن الآية وقعت في أوائل قصة موسى وهي تتم في ثلاثين آية ، فكان اللائق به البسط دون الوجازة ولم يبسط هذا البسط في آخر السورة اكتفاء بالأول والله أعلم. ) ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( بوضع الأنفس الشريفة في موضع خسيس هو عبادة الأصنام. قال أهل السنة : هذا الوضع كان بمشيئة الله وإرادته لكنه صدر عنهم فأضيف إليهم ) والسوأى ( تانيث الأسوا وهو الأقبح وهي خبر ( كان ) فيمن قرأ ) عاقبة ( بالرفع واسم ( كان ) فيمن قرأ ) عاقبة ( بالصنب. و ( ثم ) لتفاوت الرتبة ، وفي التركيب وضع للمظهر موضع المضمر. والمعنى أنهم أهلكوا ثم كانت عاقبتهم السوأى وهي عذاب النار. و ) أن كذبوا ( المعنى لأن ( أو ) بأن كذبوا أو هو تفسير اساؤوا على أن الإساءة في معنى القول نحو : نادى وكتب معناه أي كذبوا وجوز جار الله أن يكون السوأى مفعول ) اساؤا ( و ) أن كذبوا ( عطف بيان لها ، وخبر ( كان ) محذوف إرادة الإبهام ليذهب الوهم كل مذهب فيكون تقدير الكلام. ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا أن كذبوا كذا وكذا مما لا يكتنه كنهه. قال أهل التحقيق : ذكر الزيادة في حق المحسن في قوله ) للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ يوسف : 26 ] ولم يذكر في الحق المسيء لأن جزاء(5/404)
" صفحة رقم 405 "
سيئة سيئة بمثلها ، وذكر السبب في العقوبة وهو قوله ) أن كذبوا ( ولم يذكره في الآية ليعلم أن إحسانه لا يتوقف على السبب بل فضله كافٍ فيه. وحين ذكر ان عاقبتهم النار وكان في ذلك إشارة إلى الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة فقال ) الله يبدأ ( يعني من خلق بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة. ثم بين ما يكون وقت الرجوع فقال ) ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ( يعني في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم وهو سكوت مع تحير ويأس مع بؤس ويأس لا اليأس الذي هو إحدى الراحتين وذلك إذا كان المرجو أمراً غير ضروري فيستريح الطامع من الانتظار. ثم ذكر وجه الإبلاس وذلك قوله ) ولم يمكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين ( يجحدونها وقتئذ بقوله ) سيكفرون بعبادتهم ) [ مريم : 82 ] أو كانوا في الدنيا كافرين بسببهم. ثم حكى أنهم يعني المسلمين والكافرين ) يومئذ يتفرقون ( فريق في الجنة وفريق في السعير تفصيله في الآيتين بعده والروضة عندهم كل أرض ذات نبات وماء. وفي الأمثال ( أحسن من بيضة في روضة ) يعنون بيضة النعامة وتنكير روضة للتعظيم ومعنى ) يحبرون ( يسرون بأنواع المسار لحظة فلحظة. حبره إذا سره سروراً تهلل ببشر. وخصه مجاهد بالتكريم ، وقتادة بالتنعيم ، وابن كيسان بالتحلية ، ووكيع بالسماع. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن في الجنة لنهراً حافتاه الأبكار من كل بيضاء رخصة يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك افضل نعيم الجنة ) قال الراوي : سألت أبا الدرداء بم تغنين ؟ قال : بالتسبيح. وروي أن في الجنة لأشجاراً عليها أجراس من فضة ، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحاً من تحت العرش في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس باصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا. وأما معنى ) محضرون ( لا يغيبون عنه وقد مر في قوله ) ثم هو يوم القيامة من المحضرين ) [ القصص : 61 ] وإنما أهمل ذكر الفسقة من أهل الإيمان اكتفاء بما ذكر في الآيات الأخر كقوله ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] وكقوله ) إنما التوبة على الله ( إلى قوله ) تبت الآن ) [ النساء : 17 - 18 ] قال جار الله : لما ذكر الوعد والوعيد أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد وقال آخرون : لما ذكر عظمته في المبدأ بقوله ) ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ( وفي الانتهاء بقوله ) ويوم تقوم الساعة ( وكرر ذكر قيام الساعة للتأكيد والتخويف ، أراد أن ينزه نفسه عن كل سوء ويثبت لذاته كل حمد ليعلم أنه منزه عن طاعات المطيعين ، محمود على كل ما يوصل(5/405)
" صفحة رقم 406 "
إلى المكلفين ، مذكور على لسان أهل السموات والأرضين. والتسبيح في الظاهر هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما في كل منها من كل نعمة متجددة. وخص بعضهم التسبيح بالصلاة لما روي عن ابن عباس أنه قال ) تمسون ( صلاتا المغرب والعشاء ) ويصبحون ( صلاة الفجر ) وعشياً ( صلاة العصر و ) يظهرون ( صلاة الظهر أمر بالصلاة في أول النهار ووسطه وآخره ، وأمر بالصلاة أول الليل ووسطه وهو العشاء بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وبتأخير العشاء غلى نصف الليل ) ولم يأمر بالصلاة في آخر الليل لأن النوم فيه غالب وإنه منَّ على عباده بالإستراحة في الليل بالنوم في مواضع منها قوله ) ومن آياته منامكم بالليل ) [ الروم : 23 ] كما يجيء. روي عن الحسن أن الاية مدنية بناء على أنه كان يقول : فرضت الصلوات الخمس بالمدينة وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقت معلوم. وقول الأكثر إن الخمس فرضت بمكة. قوله وعشياًر معطوف على ) حين ( وما بينهما وهو قوله ) وله الحمد في السموات والأرض ( اعتراض. قال جار الله : معناه إن على المميزين كلهم من أهل السموات والأرض أن يحمدوه قلت : فيه ايضاً أن الله غني عن تسبيح المسبحين فلو لم يحمده حامد فله استئهال الحمد على الإطلاق ولو حمدوه لعاد نفعه إليهم. وقدم الإمساك لأن الظلمة عدمية والأصل في الشياء العدم ، وقدم العشي على الظهيرة لأجل الفاصلة أو للتنبيه على فضيلة صلاة العصر ، ولعل في تقديم الاعتراض المذكور على العشي إشارة إلى هذا ومعنى ) ويخرج الحي من الميت ( قد سلف مراراً ويحتمل أن يراد ههنا اليقظان والنائم لقوله ) وكذلك تخرجون ( اي من القبور ، فتنبيه النائم بعد اليقظة يشبه الإعادة ، وكذا رد الرض إلى حالة الخضرة والنضرة بعد ذبولها. عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فاته من يومه ، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته من ليلته ) ثم اراد أن يذكر الحجج الباهرة علىاستحقاق التسبيح والتحميد له فقال ) ومن آياته أ خلقكم ( أي أصلكم أو كلاً منكم كما مر في أول الحج ) من تراب ( وذلك ان التراب أبعد الشياء عن درجة الإحياء لكثافته ولبرودته ويبسه والحياة بالحرارة والرطوبة ، ولكدورته والروح نير ولثقله وخفة الرواح ولسكونه والحي متحرك حساس ، ولا تتنافي بين هذا وبين قوله ) خلق من الماء بشراً ) [ الفرقان : 54 ] لأنه أراد الأصل الثاني الذي هو النطفة ، أو أراد أن أصل البشر في الظاهر هو التراب والماء وأما النار فللإنضاج ، والهواء فللاستبقاء كالزق المنفوخ يقوم بالهواء ، و ) ثم ( لتبعيد الرتبة و ) إذا ( للمفاجأة أي ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً. قالوا : فيه إشارة إلى مسألة حكيمية وهي أن الله تعالى يخلق أولاً إنساناً فيتبعه أنه حيوان تام لا أنه يخلق أولاً حيواناً ثم يجعله إنساناً ، فخلق الأنواع هو المراد الأول ثم تكون الأنواع(5/406)
" صفحة رقم 407 "
فيها الأجناس بتلك الإرادة الأولى. وقوله ( بشراً ( إشارة إلى القوة المدركة التي البشر بها بشروا بها يمتاز عن غيره من الحيوانات. وقوله تنتشرونر غشارة إلى القوة المتحركة التي بها الحيوان حيوان فكأنه أشار إلى فضله وجنسه ، وكان الأولى تقديم الجنس على الفصل ، غلا أنه عكس الترتيب لأنه كأنه قال : العجب غير مختص بالإنسان بل الحيوان المنتشر من التراب الساكن عجيب أيضاً. والانتشار إما بمعنى التردد في الحوائج كقوله ) فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) [ الجمعة : 10 ] وإما بمعنى البث والتفريق كقوله ) وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء ) [ النساء : 1 ]. وحين بين خلق الإنسان ولم يكن مما يبقى على مر الزمان منَّ عليهم بأن جعل نوع الإنسان باقياً بتعاقب الأشخاص فقال ) ومن آياته أن خلق لكم ( ولا يلزم منه أن لا يكنَّ مخلوقات للعبادة والتكليف لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه ، فقد يكون الشيء مختصاً باثنين وجعل مهيأ لآخرين على أن النعمة ما كانت تتم علينا إلا بتكليفهن ، فلولا خوف العقاب لتمردن السنوان على أزواجهن. و ) من أنفسكم ( أي من جنسكم أو هو إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم وقد مر في ( النحل ) ويشهد للتفسير الأول قوله ) لتسكنوا إليها ( فإن الجنس إلى الجنس اسكن ) وجعل بينكم مودة ( عن الحسن هي الجماع ) ورحمة ( هي الولد. وقال غيره : المودة حالة حاجة نفسه إليها ، والرحمة حالة حاجة صاحبته إليه ، وقد تفضي المودة إلى مجرد الرحمة وذلك إذا خرجت عن محل الشهوة بكبر أو مرض ، أو خرج عن إمكان رعاية حقها بكبر أو زمانة أو فقر. قال بعضهم : المودة والرحمة بعصمة الزواج من غير سابقة معرفة وقرابة وهي من قبل الله ، والفرك من قبل الشيطان ) إن في ذلك ( الخلق والجعل ) لآيات لقوم يتفكرون ( فخلق الإنسان من الوالدين آية ، وجعل أحدهما ذكراً والآخر أنثى آية ، وخروج الولد الضعيف من الموضع الضيق ىية ، وجعل التوادد بين الوجين من غير صلة رحم آية ولما ذكر دلائل الأنفس أتبعها دلائل الآفاق وأعظمها خلق السموات والأرض ، فإن خلق المركبات قد يسنده بعض الجهلة إلى ما في العناصر من الكفيات وإلى ما في السموات من الحركات والاتصالات ، وأما السماء والرض فلا يجد بداص من أن يقول : إنهما بقدرة الله تعالى. ثم عاد غلى ذكر أحوال الأنفس ومن جملتها اختلاف الألسنة لا جرمها ، فإن التباين بين أجرامها ليس يبلغ إلى حد يعد ىية بل وصفها وهو النطق وتقطيع الأصوات اللذان بهما يمتاز بعض الأصناف والشخاص عن بعض ، واختلاف الألوان والحلي فبذلك يقع التفاوت ويرتفع الاشتباه ، فحس البصر يدرك اختلاف الصور وحسن السمع يدرك اختلاف الأصوات وأما اللمس(5/407)
" صفحة رقم 408 "
والشم والذوق فلا حكم ظاهراً لها في باب التمييز بين الأشخاص الإنسانية. وحيث ذكر بعض العرضيات اللازمة أراد أن يذكر الأعراض المفارقة بعضها فقال ) ومن آياته منامكم ( قال جار الله : هذا من باب اللف والنشر وتقدير الكلام. ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار ليكون موافقاً لما جاء في مواضع آخر كقوله ) وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً ) [ النبأ : 10 ، 11 ] وقدم المنام على الابتغاء لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة قال : وإنما فصل بين القرينتين الأوليين بالقرينتين الآخريين لأنهما زمانان ، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد يعني كأنه لم يعطف النهار على الليل والابتغاء على المنام. وجوز أن يراد منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار ، فان الإنسان كثيراً ما ينام بالنهار وبكسب بالليل. وفي اقتران الفضل بالابتغاء إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من نفسه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه. ثم أشار إلى عوارض الآفاق فقال ) ومن آياته يريكم ( فأضمر ( أن ) واسكن الياء بعد حذفها وإنزال الفعل منزلة المصدر كما في المثل السائر ( تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ) قيل : لما كان البرق منالأمور التي تتجدد زماناً دون زمان ذكره بلفظ المستقبل ولم يذكر معه طأن ( وقيل : ومن آياته كلام كافٍ كما تقول : منها كذا ومنها كذا. وتسكت تريد بذلك الكثرة : وقيل : أراد ويريكم من آياته البرق. وانتصاب خوفاً وطمعاًر كما مر في ) الرعد ( ثم ذكر بعض لوازم الآفاق قائلاً ) ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ( فقيام السموات والأرض استمساكهما بغير عمد ، ومن نسب ذلك إلى الطبيعة فلا بد أن يستند الطبع إلى واجب لذاته وأمره أن يقول لهما كونا كذلك نظيره قوله ) إن الله يمسك ( إلى قوله ) من بعده ) [ فاطر : 41 ] واعلم أن الأمر عند المعتزلة موافق للإرادة ، وعند الأشاعرة ليس كذلك. ولكن النزاع في الأمر الذي هو للتكليف لا الذي للتكوين ، فإن قوله ) كن فيكون ) [ يس : 83 ] موافق للإرادة بالتفاق. قال جار الله : قوله ) إذا دعاكم ( بمنزلة قوله ) يريكم ( في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى كأنه قال : ومن آياته قيام السموات والأرض ، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاكم مرة واحدة يا أهل القبور اخرجوا والمراد سرعة الخروج من غير توقف وإلا فلا أمر ظاهراً. أو أراد نداء الملك والأرض مكان المدعو على التقديرين لا الداعي إذ لا مكان لله مطلقاً ولا للملك في جوف الأرض. نعم ، لو كان المراد أن الملك يدعوهم وهو على وجه الأرض جاز. ومعنى ) ثم ( عظم ما يكون من ذلك الأمر وتهويل لتلك الحالة ، وإذا الأولى للشرط ، والثانية للمفاجأة نائبة مناب الفاء. واعلم أنه تعالى ذكر في كل باب أمرين : أما من الأنفس فخلق البشر ثم خلقهم زوجين ،(5/408)
" صفحة رقم 409 "
وأما من الآفاق فخلق السموات والرض. ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان والألوان ، ومن عوارضه المنام والابتغاء ، ومن عوارض الآفاق البروق والأمطار ، ومن لوازمها قيام السماء والأرض. والواحد يكفي للإقرار بالحق ، إلا أن الثاني يجري مجرى الشاهد الآخر. وراعى في تعداد العرضيات لطيفة ، بدأ باللوازم وختم باللوازم وذلك أن الإنسان متغير الحال ، فالأحوال اللازمة له أغربوالأفلاك ثابتة بالنسبة إلى الإنسان فعوارضها أغرب ، وبدأ في كل باب بما هو أعجب ، وإنما ختم الآية الأولى بقوله ) إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ( لأن الفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المقتضية للإنس والسكون وعلى دقائق صنع الله في خلق الإنسان وبثهم في الأرض ، أو نقول : إن من الأشياء ما يعلم بمجرد الفكر كدقائق حكمة الله في خلق الإنسان ، لأن أقرب الأشياء إلى الإنسان هو ذاته فلذلك قال هنالك ) لقوم يتفكرون ( ومنها ما يعلم من غير تجشم فكر كالاستدلال على قدرة الله بخلق السماء والأرض ، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم ، فإن الكل تظلهم السماء وتقلهم الأرض. وكل واحد منفرد بلطيفة في صورته يمتاز بها عن غيره ، ولهذا يشترك في معرفتها الناس جميعاً فلهذا قال ) لآيات للعالمين ( ومن حمل اختلاف الألسن على اللغات اختلاف الألوان على البياض والسواد والصفرة والسمرة ، فالاشتراك في معرفتها أيضاً ظاهر. ومن قرأ ) للعالمين ( بكسر اللام فقد أحسن ، فبالعلم يمكن الوصول إلى معرفة ما سبق ذكره ، ومن الأشياء ما يحتاج الفكر فيه إلى إعانة مرشد كالمنام والابتغاء فإنهما لزوالهما في بعض الأوقات قد يرفعان لوازمهما فلهذا قال ) لقوم يسمعون ( ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد ، ومن هنا ذهب بعضهم غلى أن معنى ) يسمعون ( ههنا يستجيبون لما يدعون إليه ، ثم إن حدوث الولد من الوالدين كالأمر المطرد العادي فكان الولد يمكن أن يسبق إلى الوهم إسناده إلى الطبيعة فأمر هنالك بالفكر. وأما البرق والمطر فليس أمراً عادياً ولذلك يختلف بالشدة والضعف وبحسب الأوقات والأمكنة فالعقل الصحيح يجزم بأن من فعل الفاعل المختار فلذلك قال ) لقوم يعقلون ( وقيل : إن العقل ملاك الأمر وهو المؤدي إلى العلم فوقع الختم عليه. وحين فرغ من تعداد الآيات وكان مدلولها الوحداينة التي هي الأصل الأول والقدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر أكد الأول بقوله ) وله من في السموات والأرض كل له قانتون ( مطيعون منقادون وأكد الأصل الآخر بل كلا الصلين بقوله ) وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو ( يعني أن يعيده ) أهون عليه ( أي في نظركم وعند معقولكم وإلا فلا صعوبة في الإبداء أصلاً حتى يقع التفضيل على حده. وإنما أخرت الصلة ههنا وقدمت في قوله في سورة مريم ) وهو على هين ) [ مريم : 9 ] لأنه قصد هناك الاختصاص يعني أن خلق الولد(5/409)
" صفحة رقم 410 "
بين هرم وعاقر لا يهون إلا علي ، ولا معنى للاختصاص ههنا فإن الأمر مبني على المعقول بين الآدميين من ان المعاد أهون من المبدأ ولهذا قيل : أول الغزو أخرق. وليس الدخيل في أمر كالناشئ عليه. ون الدليل العقلي على هذا المطلوب أن الإبداء خلق الأجزاء وتاليفها ، والإعادة تأليف فقط ، ولا شك أن أمراص واحداً أهون من الأمرين ولا يلزم منه أن يكون في الأمرين صعوبة فإن من قال : الرجل القوي يقدر على حمل شعيرة من غير صعوبة وسلم السامع له ذلك فإذا قال فلان لا يتعب من حمل خردلة وإن حمل خردلة أهون عليه. كان كلاماً معقولاً وقد أجرى الزجاج قوله ) وهو أهون عليه ( مجرى المثل فيما يصعب ويسهل. وفسر به قوله ) وله المثل الأعلى ( يعني هذا مثل مضروب لكم في الأرض وله المثل الأعلى من هذا المثل ومن كل مثل يضرب في السموات فيما بين الملائكة. وعن ابن عباس : أراد أن فعله وإن شبهه بفعلكم ومثله به لكنه ليس مكثله شيء فله المثل الأعلى وقال جار الله : المثل الوصف أي له الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به ووصف في السموات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وهو أنه القادر الذي يقدر على الخلق والإعادة ، العليم الذي لا يعزب عن علمه شيء فلا يصعب عليه جمع الأجزاء بعد تفرّقها على الوجه الذي يقتضيه التدبير ولهذا ختم الاية بقوله : ( وهو العزيز الحكيم ( وعن مجاهد : المثل الأعلى وصفه بالوحدانية وهو قوله ) لا إله إلا الله ( وقد ضرب لذلك مثلاً. ومعنى ) من انفسكم ( أنه أخذ مثلاً وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أ ، فسكم و ) من ( للابتداء وفي قوله ) مما ملكت أيمانكم ( للتبعيض ، والثالثة ميدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. والعنى هل ترضون لأنفسكم أن يكون لكم شركاء من بعض عبيدكم يشاركوتنكمم فيما رزقناكم من الأموال والأملاك ) فأنتم ( يعني بسبب ضلك أنتم أيها الساجات والعبيد في ذلك المرزوق ) سواء ( من غير تفضيل وففضل للأخرار على العبيد ) تخافونهم ( أن تستبدوا بتصرف دونهم ) كخيفتكم أنفسكم ( أي كما يهاب بعضكم بعضاً من الأحرار. والحاصل أن من يكمون له مملوك لا يكون شريكاً له في ماله ولا يكون له حرمة كحرمة سيده فكيف يجوز أن يكون عباد الله شركاء له أو شفعاء عنده بغير إذنه ؟ وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة مثل عظمة اتلله حتى يعبدوا كعبادته على أن مملوكهم ليس مملوكاً لكم في الحقيقة ليس إلا اختصاص المبايعة ، ولهذا لا حكم لهم عليهم بالقتل والقطع وبالمنع من الفرائض وقضاء الحاجة والنوم. وقد يزول الاختصاص بالبيع والعتق ومملوك الله لا خروج له من ملكه بوجه من الوجوه وفي قوله ) فيما رزقناكم ( إشارة غلى أن الذي هو لكم ليس في الحقيقة لكم وإنما الله استخلفكم فيه ورزقكموه من فضله ) كذلك ( أي مثل هذا التفصيل والتبعيد للتعظيم أو لدخوله في حيز الذكر أو المضي ) نفصل الآيات ( نبينها لقوم(5/410)
" صفحة رقم 411 "
) يعقلون ( لأن التمثيل إنما يكشف المعاني لأرباب العقول. ثم شوه صورة الشرك بقوله ) بل اتبع الذين ظلموا ( أي اشركوا ) أهواءهم بغير علم ( فهوى العالم ربما يتبدل بالهدى وأما الجاهل فإنه هائم في هواه كالبهائم لا يرجى ارعواه يؤكده قوله ) فمن يهدي من اضل الله وما لهم من ناصرين ( والإضلال ههنا لا يخفى أن الأشاعرة يحملونه على خلق الضلال في المكلف ، والمعتزلة يحملونه على الخذلان ومنع الألطاف وقد تقدم مراراً. ثم قال لرسوله ولأمته تبعية إذا تبين الحق وظهرت الوحداينة ) فأقم وجهك للدين ( أي سدده نحوه غير مائل إلى غير من الأديان الباطلة ) فطرت الله ( أي الزموها أو عليكم بها. قال جار الله : إنما اضمرته على خطاب الجماعة لقوله ) منيبين ( وهو حال منهم ولأن الأمر والنهي بعده معطوفان عليه لطنك قد عرفت في الوقوف أن هذا التقدير غيلا لازم وعلى ذلك يحتمل أن يقدر الزم أو عليك أوة أخص أو اريد واشباه ذلك. وفطرة الله هي التوحيد الذي تشهد به العقول السليمة والنظر الصحيح كما جاء في الحديث النبوي ) كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه (. ويحتمل أن تكون الفطرة إشارة إلى أخذ الميثاق من الذر. وقوله ( لا تبديل لخلق الله ( نفي في معنى النهي أي لا تبدلوا خلقه الذي فطلكم عليه لكن الإيمان الفطري غير كافٍ. وقيل : هو تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث لم يؤمن قومه فكأنه قال : إنهم أشقيا ومن كتب شقياً لم يسعد. وقيل : أراد أن الخلق لا خروج لهم عن عبوديته بخلاف مماليك الإنسان فإنهم قد يخرجون من ايديهم بالبيع والعتق. وفيه فساد قول من زعم أن العبادة لتحصيل الكمال فإذا كمل العبد لم يبق عليه تكليف ، وفساد قول الصابئة وبعض أهل الشك أن الناقص لا يصلح لعبادة الله ونما الإنسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله ، وفساد قول النصارى والحلولية أن الله يحل في بعض الأشخاص كعيسى وغيره فيصير إلهاً. ومعنى ) فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ( قد مر في آخر ) الأنعام ( وأ ، هم فرق كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها وقال أهل التحقيق : بعضهم يعبد الدنيا وبعضهم يعبد الهوى وبعضهم يريد الجنة وبعضهم يطلب الخلاص من النار. ومعنى ) كل حزب بما لديهم فرحون ( قد مر في ) المؤمنين ( وجوز جار الله أن يكون ) من الذين ( منقطعاً عما قبله ) وكل حزب ( مبتدأ و ) فرحون ( صفة كل ومعناه من المفارقين دينهم كل حزب بصفة كذا والله أعلم .(5/411)
" صفحة رقم 412 "
التأويل : الألف ألفة طبع المؤمنين ، واللام لوم طبيعة الكافرين ، والميم مغفرة رب العالمين ، فمن اللفة أحبوا أهل الكتاب ، ومن اللوم أبغضهم الكافرون ، ومغفرة رب العالمين شملت الفريقين حتى قال ) إن الله يغفر الذنوب جميعاً ) [ الزمر : 53 ] إلا أن يكون هناك مخصص. ثم أشار إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة وسيغلب روم القلب فارس النفس بتأييد الله ونصره ) في بضع سنين ( من أيام الطلب ) ويومئذ يفرح المؤمنون ( وهم الروح والسر والعقل. ) أولم يتفكروا ( ) في ( استعداد ) أنفسهم ما خلق الله السموات ( الروحانية ) والأرض ( النفسانية إلا ليكون مظهراً للحق ولأجل مسمى بالصبر والثبات في تصفية مرآة القلوب عن صدا الأوصاف الذميمة النفسانية. والأجل المسمى هو أوان صفاء القلب متوجهاً إلى الحق ) أولم يسيروا ( في أرض البشرية بالسلوك لتبديل الأخلاق ) والذين من قبلهم ( هم الفلاسفة والبراهمة المعتمدون على مجرد البراهين من غير اعتبار الشرائع. والسوأى هي أن صاروا أئمة الكفر والضلال ) الله يبدؤا الخلق ( بتصيير النفس متعلقة بالقالب ) ثم يعيده ( بطريق السير والسلوك والعبور عن المنازل والمقامات إلى عالم الأرواح ) ثم إليه ترجعون ( بجذبة ) ارجعي ) [ الفجر : 28 ] ( ويوم تقوم الساعة ( الإرادة ) يبلس المجرمون ( بتضييع الأوقات في طلب ما سوى الله. ويوم تقوم الساعة قيامة العشق يومئذ تتفرق المحبون ، فبعضهم يطلب الجنة ، وبعضهم يطلب الوصلة ، وبعضهم يريد الوحدة ) فسبحان الله ( حين تغلبون على ليل نيل الشهوات وحين صباح نهار تجلي شموس الوصال ، وله الحمد إن كنتم في سموات القربات أو أرض البعد والغفلات ، وسبحانه في عشاء غشاء القساوة وفي حالة استواء شمس المعرفة في وسط سماء القلب ، فإن الربح الخسران في كلتا الحالتين راجع غلى الطائفتين والله منزه عن العالمين. يخرج القلب الحي بنور الله من النفس الميتة في ظلمات صفاتها إبرازاً للطفه ، ويخرج القلب الميت عن الأخلاق الحميدة من النفس الحية بالصفات الحيوانية ، إظهاراً لقهره ، ويحيي أرض القلوب بعد موتها وكذلك تخرجون بدأ وإعادة. فمن آياته خلق سموات القلوب وأرض النفوس ، واختلاف ألسنة القلوب وألسنة النفوس ، فلسان القلب يتكلم بلغة العلويات ، ولسان النفس يتكلم بلغات السفليات ) واختلاف ألوانكم ( وهي الطبائع المختلفة. منكم منيريد الدنيا ، ومنكم منيريد الآخرة ومنكم من يريد الله ) ومن آياته منامكم ( في ليل البشرية ) وابتغاؤكم من فضله ( في نهار الروحاينة والمكاشفات الربانية ) لقوم يسمعون ( كلام الله من شجرة الوجود ، ويريكم بروق شواهد الحق ثم اللوامع ثم الطوالع. فتلك الأنوار ترى شهوات الدنيا نيراناً فيخاف منها ، وترى مكاره التكاليف جناناً فيطمع فيها. أن تقوم سماء النفس وارض القلب بأمره لأن(5/412)
" صفحة رقم 413 "
الروح من أمره ) ثم إذا دعاكم ( بجذبة ) ارجعي ) [ الفجر : 28 ] ( إذ أنتم ( يعني النفس والقلب والروح ) تخرجون ( من أنانيته وجودكم ) وهو أهون عليه ( لأنه في البداية كان مباشراً بنفسه وفي الإعادة يكون المباشر إسرافيل بنفخه ، والمباشرة بنفس الغير في العمل أهون من المباشرة بنفسه عند نظر الخلق. ويحتمل أن يكون أهون من الهون بالضم وهو الذلة والضمير للخلق ، وذلك أنهم في البداية لم يكونوا ملوثين بلوث الحدوث ، ولا مدنسين بأدناس الشرك والمعاصي ، فلعزتهم في البداية باشر خلقهم بنفسه ، ولهونهم في الإعادة باشرهم بغيره ، ) وله المثل الأعلى ( فيما أودع من الآيات في سموات الأرواح وأرض القلوب. ) ضرب لكم ( أي للروح والقلب والسر والعقل ) مما ملكت أيمانكم ( من الأعضاء والجوزارح والحواس والقوى ) فيما رزقناكم ( من العلوم والكشوف ) تخافونهم ( أن لا يضيعوا شيئاً من المواهب بالتصرفات الفاسدة ) كخيفتكم أنفسكم ( اي كخيفة الروح من القلب أن لا يضيع شيئاً منها بأن يصرفها في غير موضعها رياء وسمعة وهوى ، أو كخيفة القلب من السر والعقل بأن يصرفها فيما يفسد العقائد ويوقع في الشكوك. فكما لا يصلح هؤلاء لشركتكم فكذلك لا تصلحون أنتم لشركتي إذا تجليت عليكم ، فدعوى الاتحاد والحلول باطلة والكبرياء ردائي لا غير. ( الروم : ( 33 - 60 ) وإذا مس الناس . . . .
" وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب(5/413)
" صفحة رقم 414 "
الكافرين ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون "
( القراآت )
آتيتم من رباً ( مقصوراً : ابن كثير ) لتربوا ( بضم التاء وسكون الواو على الجمع : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب ) لنذيقهم ( بالنون : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل ) يرسل الريح ( على التوحيد : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف ) كسفاً ( بالسكون : يزيد وابن ذكوان ) آثار ( على الجمع : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد ) ضعف ( وما بعده بفتح الضاد : حمزة وعاصم غير للفضل. الباقون : بالضم وهو اختيار خلف وحفص ) لا ينفع ( بياء الغيبة : حمزة وعلي وخلف وعاصم. والآخرون : بتاء التأنيث ) لا يستخفنك ( بالنون الخفيفة : رويس عن يعقوب. الوقوف : ( يشركون ( 5 لا وقد يوقف على توهم لام الأمر ) آتيناهم ( ط للعدول إلى الخطاب وابتداء أمر التهديد ) فتمتعوا ( قف لاستئناف التهديد ) تعلمون ( 5 ) يشركون ( 5 ) بها ( ج ط فصلاً بين النقيضين ) يقنطون ( 5 ) ويقدر ( ج ) يؤمنون ( 5 ) وابن السبيل ((5/414)
" صفحة رقم 415 "
ط ) وجه الله ( ز ط ) المفلحون ( 5 ) عند الله ( ج ط لعطف جملتي الشرط المضعفونر 5 ) يحييكم ( ط ) شيء ( ط ) يشركون ( 5 ) يرجعون ( 5 ) من قبل ( ط ) مشركين ( 5 ) يصدّعون ( 5 ) كفره ( ج لما مر ) يمهدون ( 5 لا وقد يوقف على جعل اللام للقسم وحذف نون التأكيد من فضلهر 5 ) الكافرين ( 5 ) تشكرون ( 5 ) أجرموا ( ط وقيل : يوقف على ) حقاً ( أي وكان الانتقام حقاً. ثم ابتداً علينا أي واجب علينا ) نصر المؤمنين ( 5 ) خلاله ( ط ج للشرط مع الفاء ) يستبشرون ( 5 ) لمبلسين ( 5 موتهار ط ) الموتى ( ج لاتفاق الجملتين مع العدول عن بيان الإحياء إلى بيان القدرة ) قدير ( 5 ) يكفرون ( 5 ) مدبرين ( 5 ) ضلالتهم ( ط ) مسلمون ( 5 ) وشيبة ( ط ) ما يشاء ( ج ط لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقول ) القدير ( 5 المجرمونر 5 لا لأن ما بعده جواب القسم ) غير ساعة ( ط ) يؤفكون ( 5 ) يوم البعث ( ز لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقول ) لا تعلمون ( 5 ) يستعتبون ( 5 ) مثل ( ط ) مبطلون ( 5 ) لا يعلمون ( 5 ) لا يوقنون ( 5. التفسير : لما بين التوحيد بالدلائل وبالمثل بين أنه أمر وجداني يعرفونه في حال الضر والبلاء وإن كانوا ينكرونه في حال الرحمة والرخاء ، وفي لفظي المس والإذاقة دليل على أن الإِنسان قليل الصبر في حالتي الضراء والسراء. وإنما قال ) إذا فريق منهم ( ولم يقل ( إذا هم يشركون ) كما قال في آخر ( العنكبوت ) ، لأن الكلام هناك مع أهل الشرك وههنا مع الناس كلهم وليس كل الناس كذلك. ثم استفهم على سبيل الإِنكار قائلاً ) أم أنزلنا ( كأنه قال : إذا تقررت الحجج المذكورة فماذا يقولون ، أيتبعون أهواءهم بغير علم أم لهم دليل على ما يقولون ؟ وإسناد التكلم إلى الدليل مجاز كما تقول : نطقت الحال بكذا. و ( ما ) في قوله ) بما كانوا ( مصدرية والضمير في ) به ( لله أو موصولة والضمير لها اي بالأمر الذي بسببه يشركون ، ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي ذا سلطان وهو الملك فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه ) يشركون ( وحين ذكر الشرك الظاهر أتبعه ذكر الخفي وهو أن تكون عبادة الله للدنيا فإذا أتاه بهواه رضي ، وإذا منع وعسر سخط وقنط ، والرحمة المطر والصحة والأمن وأمثالها ، والسيئة أضداد ذلك. وإنما لم يذكر سبب الرحمة ليعلم أنها بفضله وذكر سبب السيئة وهو شؤم معاصيهم ليدل على عدله. والفرح بالنعمة مذموم إذا كان مع قطع النظر عن المنعم ، فإذا كان مع ملاحظة المنعم فمحمود بل الفرح الكلي يجب أن يكون بالمنعم. والقنوط من رحمة الله أيضاً مذموم كما مر في قوله ) إنه لا ييأس من روح الله غلا القوم الكافرون ) [ يوسف : 87 ] ثم اشار بقوله ) أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ( إلى أن الكل من الله فيجب أن يكون نظر المحقق في الحالين على الله. ففي حالة(5/415)
" صفحة رقم 416 "
الرحمة يشتغل بالشكر ، وفي حالة الضراء لا ينسب الله إلى عدم القدرة وإلى عدم العناية بحال العبد بل يشتغل بالتوبة والإنابة إلى أوان الفرج والنصر ، وهذه مرتبة المؤمن الموحد فلذلك قال ) إن في ذلك لايات لقوم يؤمنون ( ولا يخفى أن بسط الرزق مما يشاهد ويرى فلذلك قال ) أولم يروا ( وقال في ( الزمر ) ) أولم يعلموا ) [ الآية : 52 ] مناسبة لما قبله وهو ) أوتيته على علم ) [ القصص : 78 ] وقوله ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ( قال جار الله : لما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت ايديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك قائلاً ) فآت ذا القربى حقه ( الآية. وأقول : لما بين كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى الشفقة على خلق الله قائلاً ) فآت ( أيها المكلف أو النبي والأمة يتبعونه لا محالة كما مر في قوله ) فأقم وجهك ) [ الروم : 30 ] وفيه أن الله إذا بسط الرزق فلا ينقص بالإِنفاق ، وإذا ضيق لم يزدد بالإمساك ، فينبغي أن لا يتوقف الإنسان في الإحسان. وفي تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر دلالة على أنهم أولى بالإشفاق عليهم من سائر الأصاف. وإنما قال ) ذا القربى ( ولم يقل ( القريب ) ليكون نصاً في معناه ولا يشتبه بالقرب المكاني ، وفيه أن القرابة أمر له دوام بخلاف المسكنة وكونه من ابناء السبيل. وفي قوله ) فآت ذا القربى حقه ( دون أن يقول ( فآت هذه الأصناف حقوقهم ) تشريف لذوي القرابة حيث جعل الصنفين الآخرين تابعاً لهم على الإطلاق. فإنه إذا قال الملك : خل فلاناً يدخل وفلاناً أيضاً كان أدخل في التعظيم من أن يقول : خل فلاناً وفلاناً يدخلان ) ذلك الإيتاء ) خير ( في نفسه أو خير من المنع ) للذين يريدون وجه الله ( أي ذاته أو جهة قربته فإن من أنفق ألوفاً رياء وسمعة لم ينل درجة من أنفق رغيفاً لوجه الله ) وأولئك هم المفلحون ( كقوله في أول ( البقرة ) لأن قوله ) فأقم وجهك ) [ الروم : 30 ] إشارة إلى الإيمان بالغيب وغيره أو إلى إقامة الصلاة ، وقوله ( وآت ذا القربى ( أمر بالزكاة بل بالصدقة المطلقة. وفي قوله ) يريدون وجه الله ( إشارة إلى الاعتراف بالمعاد. ثم أراد أن يعظم شأن الصدقة فضم إلى ذلك تقبيح أمر الربا استطراداً. فمن قرأ ممدوداً فظاهر ، ومن قرأ مقصوراً فهو من الإتيان أي وما غشيتموه أو أصبتموه من إعطاء ربا ليربو أي ليزيد في أموال أكلة الربا ، وفي القراءة الأخرى ليزيد في أموالهم ) فلا يربو ( فلا يزكو ولا ينمو [ عند الله ] لأنه يمحق بركتها نظيره ما مر في آخر البقرة ) يمحق الله الربا ويربى الصدقات ) [ الآية : 276 ] قيل : نزلت في ثقيف وكانوا يرابون. وقيل : نزلت في الهبة أو الإهداء لأجل عوض زائد ، فبين الله تعالى أن ذلك لا يوجب الثواب عند الله وإن كان مباحاً. وفي الحديث ( الجانب المستغزر يثاب عن هبته ) أي الرجل الغريب إذا أهدى شيئاً فإنه ينبغي أن يزاد في عوضه. قال جار الله : في قوله ) فأولئك ( التفات حسن كأ ، ه قال ذلك لخواصه ولملائكته وهو أمدح لهم من أن يقول ( فأنتم المضعفون ) أي ذوو الإضعاف(5/416)
" صفحة رقم 417 "
من الحسنات نظيره المقوي والموسر لذوي القوة واليسار ، ولارابط محذوف أي هم المضعفون به. وجوز في الكشاف أن يراد فمؤتوه أولئك هم المضعفون. قالت العلماء : أراد الإضعاف في الثواب لا في المقدار ، فليس من أعطى رغيفاً فإن الله يعطيه عشرة أرغفة ، وإنما المراد أن الرغيف الواحد لو اقتضى أن يكون ثوابه قصراً في الجنة فإن الله تعالى يعطيه عشرة قصور تفضلاً. ثم عاد إلى بيان التوحيد مرة أخرى بتذكير الخلق والرزق والإماتة والإحياء بعدها نظراً إلى الدلائل ، ثم طلب منهم الإنصاف بقوله ) هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ( قال جار الله : ( من ) الأولى والثانية والثالثة كل واحدة منهن مستقلة بتأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم. قلت : الأولى للتبعيض كأنه أقام فعل البعض مقام فعل الكل توسعة على الخصم ، والثالثة لتأكيد الاستفهام ، والمتوسطة للابتداء ولكنه يفيد أنه رضي منهم بشيء واحد من تلك الأشياء للتوسعة المذكورة أيضاً. ثم بين أن الشرك وسائر المعاصي سبب ظهور الفساد في البر والبحر وذلك لقلة المنافع وكثرة المضار ومحق البركات من كل شيء. وفسره ابن عباس بإجداب البر وانقطاع مادة البحر وتموجه بمائه ، وعن الحسن : المراد بالبحر مدن البحر وقراه التي على سواحله ، وقال عكرمة : العرب تسمي الأمصار بحاراً ) لنذيقهم ( وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن نعاقبهم بجميعها في الآخرة إرادة أن يرجعوا عماهم عليه ، وجوز جار الله أن يراد ظهر الشر والمعاصي في الأرض براً وبحراً بكسب الناس. وعلى هذا فاللام في قوله ) لنذيقهم ( لام العاقبة. ثم أمرهم بالنظر في حال أشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم كقوم نوح وعاد وثمود ) كان أكثرهم مشركين ( فيه غشارة إلى أن بعضهم كانوا كرتكبي ما دون الشرك من المعاصي ولكنهم شاركوا المشركين في الهلاك تغليظاً عنهم. أو هو كقوله ) واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) [ الأنفال : 25 ] أو المراد أن أهل الشرك كانوا أكثر من أهل سائر الأديان الباطلة كالمعطلة والمجسمة ونحوهم. خاطب نبيه وبتبعيته أمته بقوله ) فأقم ( كأنه قال : وإذ قد ظهر فساد سائر الملل والنحل ) فاقم وجهك للدين ( البليغ الاستقامة ) من قبل أن يأتي ( من الله ) يوم ( لا يرده راد. ويجوز أن يتعلق قوله ) من الله ( بقوله ) لا مردّ ( أي لا راد له من جهة الله فلا يقدر غيره على رده فلا دافع له أصلاً ) يومئذ يصدّعون ( أي يتصدعون والتصدع التفرق. ثم بين وجه تفرق الناس بقوله من كفر فعليه كفرهر اي وبال كفره عليه لا على غيره ) ومن عمل صالحاً ( أي آمن وعمل صالحاً لأن العمل الصالح لا يتصور إلا بعد الإِيمان ، على أن الإِيمان ، أيضاً عمل صالح قلبي ولساني وسيصرح به في قوله ) ليجزي الذين آمنوا وعملوا(5/417)
" صفحة رقم 418 "
الصالحات ( ومعنى ) يمهدون ( يوطؤن كما يسوّي الراقد مضجعه وجوز جار الله ن يراد فعلى أنفسهم يشففقون من قولهم : في المشفق أم فرشت فأنامت. وذلك ان الإشفاق يلزمه التمهيد عرفاً وعادة. ثم بين غاية التمهيد بقوله ) ليجزي ( وقوله ( من فضله ( عند أهل السنة ظاهر : وحمله المعتزلة على شبه الكناية لأن الفضل تبع للثواب فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له ، أو الفضل بمعنى العطاء والثواب. وفي قوله ) إنه لا يحب الكافرين ( وعيد عظيم لهم لأنه إذا لم يحبهم أرحم الراحمين فلا يتصور لهم خلاص من عذابه ولا مناص ولا رحمة من جهته ولا نعمة ، وفيه تعريض بأنه يحب المؤمنين ولا وعد أعظم من هذا ولا شرف فوق ذلك. قال جار الله : تكرير الذين آمنوا وعملوا الصلاحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح. وقوله ( إنه لا يحب الكافرين ( تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس. قلت : يشبه أن يكون مراده أنه ذكر الكافر أولاً ثم المؤمن ، وفي الآية الثانية قرر أولاً أمر المؤمن ثم أردفع بتقرير أمر الكافر. أو أراد أن قوله ) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( دل بصريحه على ثواب المؤمن وبتعريضه على حرمان الكافر ، وقوله ( إنه لا يحب الكافرين ( دل بصريحه على حرمان الكافر وبتعريضه على ثواب المؤمن. فالأول طرد والثاني عكس وكل منهما مقرر للآخر. وحين ذكر ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح وبين أنه من دلائل الوحدانية بقوله ) ومن آياته أن يرسل الرياح ( ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح لما مر من أن الكريم لا يذكر ، لإحسانه سبباً ويذكر لأضراره سبباً. ومن قرأ على التوحيد فللدلالة على الجنس ، ومن قرأ على الجمع فإما لأنه أراد الجنوب والشمال والصبا وهي رياح الرحمة دون الدبور التي هي للعذاب ، وإما لأن أكثر الرياح نافعة والضارة كالسموم قليلة جداً لا تهب إلا حيناً ، وإما لأن الرياح إذا اجتمعت وتزاحمت وتراكمت حتى صارت ريحاً واحداً أضرت بالأشجار والأبنية وقلعتها وإذا تفرقت وصارت رياحاً اعتدلت ونفعت. قوله ) مبشرات ( أي بالمطر كقوله ) بشراً بين يدي رحمته ) [ الأعراف : 57 ] وقيل : أي بتصحيح الأهوية وإصلاح الأبدان. وقوله ( وليذيقكم ( إما معطوف على ما قبله معنى كأنه قيل : ليبشركم وليذيقكم بعض رحمته لأن راحات الدنيا زائلة لا محالة ، وإما معطوف على محذوف أي وليكون كذا وكذا أرسلناها. وفي قوله بأمرهر إشارة إلى أن مجرد هبوب الريح لا يكفي في جريان الفلك ولكنها تجري بإذن الله وجعله الريح على اعتدال وقوام. وفي قوله ولتبتغوا من فضلهر دلالة على أن ركوب البحر لأجله التجارة جائز. وفي قوله ) ولعلكم تشكرون ( إشارة غلى أن نعم الله تعالى يجب أن تقابل بالشكر. وإنما بنى الكلام في هذه الآية على الخطاب بخلاف(5/418)
" صفحة رقم 419 "
قوله ) لنذيقهم بعض الذي عملوا يرجعون ( تشريفاً لأهل الرحمة ، ورحمة الله قريب من المحسنين فكان من حقهم أن يخاطبوا ثم أشار إلى أصل النبوة مع تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ) ولقد ارسلنا ( واختصر الكلام فدل بذكر عاقبة الفريقين المجرم والمؤمن عليهما ، فعاقبة المجرمين الذين لم يصدِّقوا رسلهم الإنتقام منهم ، وعاقبة الذين صدَّقوهم النصر والظفر على الأعداء. وفي قوله ) حقاً علينا ( تعظيم لأهل الغيمان ورفع في شأنهم وإلا فلا يجب لأحد على الله شيء. ثم أراد أن يشير إلى الأصل الثالث وهو المعاد فمهد لذلك مقدمة منتزعة مما تقدم ذكره وهو بيان إرسال الرياح لأجل إحداث السحاب الماطر المبسوطة بعضها على الاتصال والمتفرق بعضها كسفاً اي قطعاً. وقوله ( فترى الودق ( أي المطر يخرج من خلاله قد مر في النور. ثم ذكر في ضمن ذلك عجز الإنسان وقلة ثباته وتوكله وقوله ( من قبله ( مكرر للتأكيد ومعناه الدلالة على أن عهدهم بالمطر تطاول فاستحكم بأسهم وتحقق إبلاسهم. وقيل : اراد أنهم من قبل نزول المطر ، أو من قبل ما ذكرنا من إرسال الريح وبسط السحاب كانوا مبلسين ، وذلك أن عند رؤية السحب وهبوب الرياح قد يرجى المطر فلا يتحقق الإبلاس. ثم صرح بالمقصود قائلاً ) إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء ( من الإبداء والإعادة ) قدير (. ثم أكد تزلزل الإنسان وتذبذبه وأ ، ه بأدنى سبب يكفر بنعمة الله فقال ) ولئن أرسلنا ريحاً ( ضارة باردة أو حارة ) فرأوه ( اي رأوا أثر الرحمة وهو النبات. ومن قرأ آثار فالضمير عائد إلى المعنى لأن آثار الرحمة النبات أيضاً واسم النبات يقع على القليل والكثير ، وإنما قال ) مصفراً ( ولم يقل ( أصفر ) لأن تلك الصفرة حادثة. وقيل : فرأوا السحاب مصفراً لأنه إذا كان كذلك لم يمطر. ثم زاد في تسلية رسوله بقوله ) فإنك لا تسمع الموتى ( إلى قوله ) فهم مسلمون ( وقد مر في آخر النمل. ثم أعاد من دلائل التوحيد دليلاً آخر من الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله وأطواره وتقلبه من ضعف الطفولية إلى قوة الشباب والكهولة ونها إلى ضعف الهرم. وفي قوله ) خلقكم من ضعف ( إشارة إلى أن أساس أمر الإنسان الضعف كقوله ) خلق الإنسان من عجل ) [ الأنبياء : 37 ] وقيل : من ضعف اي من نطفة. وهذا الترديد في الأطوار المختلفة أظهر دليل على وجود الصانع العليم القدير. وقوله ( يخلق ما يشاء ( كقوله في دليل الآفاق ) فيبسطه في السماء كيف يشاء ) [ الروم : 48 ] والكل إشارة إلى بطلان القول بالطبيعة المستقلة. ثم عاد إلى ذكر المعاد وأحوال القيامة ، وذكر أن الكفار يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبور أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث ، وأن أهل العلم والإيمان وهم الملائكة والأنبياء وغيرهم حالهم بالعكس. وذلك أن(5/419)
" صفحة رقم 420 "
الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستكثر الأجل ويريد تعجيله ، والموعود بوعيد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها. ومعنى ) يؤفكون ( يصرفون عن الصدق والتحقيق أي هكذا كان أمرهم في الدنيا مبيناً على الظن الكاذب وكانوا يصرون بمثله. ويحتمل أ ، ي كمونوا ناسين أو كاذبين. ومعنى في كتاب الله في اللوح والمحفوظ أو في هلمه وقضائه ، أو فيما كتب وأوجب. وفيه رد قول الكفار وإلاع لهم على مصدوقية الحال. قال جار الله : في الحديث ( ما بين فناء الدنيا إلى وقت البعث أربعون ) قالوا : لا نعلم أهي أربعون سنة أو أربعون الف سنة. وذلك وقت يفنون فيه وينقطع عذابهم. والفاء في قوله ) فهذا يوم البعث ( جواب شرط يدل عليه الكلام كأنه قيل : إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث وبه تبين بطلان قولكم ) ولكنكم كنتم لا تعلمون ( أنه حق. ثم بين أن ذلك اليوم لا يقبل فيه عذر من أهل الشرك وسائر أنواع الظلم ) ولا هم يستعتبون ( أي لا يطلب منهم الرضا فلا يقال لهم ارضوا ربكم بتوبة وطاعة ، وقد مر في ( النحل ). ثم بين أن القرآن مشحون بقصص وأخبار كلها كالمثل في غرابتها وحسن مواقعها ، وأن الرسول مهما جاءهم بدليل أنكروه لأن الذي اجترأ على العناد في دليل واحد ، واغلب أن يتجرأ على أمثاله وهذا نتيجة الطبع والخذلان ، فلا علاج في مثل هذه القضية إلا بالصبر وتحمل أعباء الرسالة إلى إنجاز وعد الله بالنصرة وإعلاء الدين. ومعنى ) لا يستخفنك ( لا يحملنك على الخفة والقلق قوم شاكون فأمثال هذه الأفعال والأقوال لا تستبعد من أهل الريب والضلال أمر أن لا يضجر ويشتغل بالدعاء إلى الحق حتى يأتي أوان النصر والظفر والله المستعان .(5/420)
" صفحة رقم 421 "
سورة لقمان
( سورة لقمان مكية إلا ثلاث آيات ) ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ( الخ حروفها ألفان ومائة وعشرة كلمها خمسمائة وثمانية وأربعون آياتها أربع وثلاثون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( لقمان : ( 1 - 19 ) الم
" الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير " ((5/421)
" صفحة رقم 422 "
القراآت : ( ورحمة ( بالرفع. حمزة وأبو عون عن قنبل ) ليضل ( بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب و ) يتخذها ( بالنصب : يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد ) يا بني لا تشرك ( بسكون الياء : البزي والقواس. وقرأ حفص والمفضل بفتح الياء وكذا في قوله ) يا بني أقم ( الباقون : بكسر الياء. ) مثقال ( بالرفع : أبو جعفر ونافع ) نصاعر ( بالألف : أبو عمرو ونافع وحمزة وعلي وخلف. الآخرون. بالتشديد. الوقوف : ( الم ( 5 كوفي ) الحكيم ( 5 وقف لمن قرأ ) ورحمة ( بالرفع على تقدير هو هدى. ومن قرأ بالنصب على الحال والعامل معنى الإشارة في ) تلك ( فلا وقف ) للمحسنين ( 5 لا ) يوقنون ( 5 ط ) المفلحون ( 5 ) بغير علم ( ط قد يوقف لمن قرأ ) ويتخذها ( بالرفع والوصل أحسن لأنه وإن لم يكن معطوفاً على ) ليضل ( فهو معطوف على ) يشتري ( ) هزواً ( ط ) مهين ( 5 ) وقرأ ( ط لانقطاع النظم مع اتصال الفاء ) أليم ( 5 ) النعيم ( 5 لا للحال والعامل معنى الفعل في لهم ) فيها ( ط لأن التقدير وعد الله وعداً ) حقاً ( ط ) الحكيم ( 5 ) دابة ( 5 للعدول ) كريم ( 5 ) دونه ( ط ) مبين ( 5 ) لله ( ط ) لنفسه ( ج ) حميد ( 5 ) بالله ( ط وقد يوقف على ) لا تشرك ( على جعل الباء للقسم وهو تكلف ) عظيم ( 5 ) بوالديه ( ج لانقطاع النظم مع تعلق ) أن اشكر ( ب ) وصينا ( ) ولوالديك ( ط ) المصير ( 5 ) معروفا ( ز للعدول عن بعض المأمور إلى الكل مع اتفاق الجملتين ) إلي ( ج لأن ( ثم ) لترتيب الأخبار ) تعملون ( 5 ) الله ( ط ) خبير ( 5 ) أابك ( ط ) الأمور ( 5 ج للآية ووقوع العارض مع عطف المتفقتين ) مرحاً ( ط ) فخور ( ج لما ذكر ) من صوتط ( 5 ط ) الحمير ( 5. التفسير : لما قال في آخر السورة المتقدمة ) ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ) [ الزمر : 27 ] وكان في إشارة إلى إعجاز القرى ، ودل ما بعده إلى تمام السورة على أنهم مصرون على كفرهم ، أكد تلك المعاني في أول هذه السورة. وتفسيره إلى ) المفلحون ( كما في أول البقرة. إلا قوله ) تلك آيات الكتاب الحكيم ( فإنه مذكور في أول ( يونس ). وحيث زاد ههنا ) ورحمة ( قال ) للمحسنين ( فإن الإحسان مرتبة فوق التقوى لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ) ولقوله سبحانه ) إن الله مع الذين اتقوا والذين(5/422)
" صفحة رقم 423 "
هم محسنون ) [ النحل : 128 ] ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ يونس : 26 ] ومما يؤيد ما قلنا أنه لم يقل هنا ) يؤمنون بالغيب ) [ البقرة : 3 ] لئلا يلزم شبه التكرار ، فإن الإحسان لا مزيد عليه في باب العقائد. ثم بين حال المعرضين عن الحق بقوله ) ومن الناس من يشتري لهو الحديث ( الإضافة بمعنى ( من ) أي الحديث الذي هو لهو ومنكر. وجوز في الكشاف أن تكون ( من ) للتبعيض أي يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه وفيه نظر ، لأنه يصح هذا التأويل في قولنا ( خاتم فضة ) وليش بمشهور. قال المفسرون : نزلت في النضر بن الحرث وكان يتجر إلى فارس فيشتري كتب الأعاجم فيحدث بها قريشاً. وقيل : كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به غلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ويقول : هذا خير مما يدعوك محمد إليه من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. فعلى هذا معنى ) ليضل ( بضم الياء ظاهر ، ومن قرأ بالفتح فمعناه الثبات على الضلال أو الإضلال نوع من الضلال. وقوله ( بغير علم ( متعلق ب ) يشتري ( كقوله ) فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) [ البقرة : 16 ] أي للتجارة قاله في الكشاف وغيره. ولا يبعد عندي تعلقه بقوله ) ليضل ( كما قال ) ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ) [ النحل : 25 ] قال المحققون : ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح ، وإذا كان الحديث لهواً لا فائدة فيه كان أقبح. وقد يسوغه بعض الناس بطريق الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا. وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) روِّحوا القلوب ساعة فساعة ( والعوام يفهمون منه الترويح بالمطايبة وإن كان الخواص يحملونه على الاشتغال بجانب الحق كقوله ( يا بلال روّحنا ) ثم إنه إذا لم يقصد به الإحماض بل يقصد به الإضلال لم يكن عليه مزيد في القبح ولا سيما إذا كان معه اشتغاله بلهو الحديث مستكبراً عن آيات الله التي هي محض الحكمة كما قال ) وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً ( ومحل ) كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً ( نصب على الحال قال جار الله : الأولى حال من ضمير ) مستكبراً ( والثانية من ) لم يسمعها ( قلت : هذا بناء على تجويز الحال المتداخلة وإلا فمن الجائز أن يكون كل منهما و ) مستكبراً ( حالاً من فاعل ) ولى ( أي مستكبراً مشابهاً لمن لم يسمعها مشابهاً لمن في أذنيه وقر. وجوز أي يكونا مستأنفين وتقدير كأن المخففة كأنه والضمير للشأن ، قال أهل البرهان : هذه الآية والتي في الجاثية نزلتا باتفاق المفسرين في النضر إلا أنه بالغ ههنا في ذمة لتركه استماع القرآن فقال بعد قوله ) كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً ( اي صمماً لا يقرع مسامعه صوت ، فإن عدم السماع أعم من أن يكون بوقر الأذن أو بنحو غفلة. وترك الجملة الثانية في ( الجاثية ) لأنه لم يبن الكلام هنالك على المبالغة بدليل قوله ) وإذا علم من آياتنا شيئاً ) [ الجاثية : 9 ] والعلم لا يحصل إلا بالسماع أو ما يقوم مقامه من خط وغيره. وحين بين(5/423)
" صفحة رقم 424 "
وعيد أعداء الدين بين حال أولياء الله بقوله ) إن الذين آمنوا ( الآية. وقد مر مثله مراراً وفي قوله ) وهو العزيز الحكيم ( إشارة إلى أنه لا غالب ولا مناوئ ، يعطي النعيم من شاء والبؤس من شاء حسب ما تقتضيه حكمته وعدله. ثم بين عزته وحكمته بقوله ) خلق السموات بغير عمد ( وقد مر في أول ( الرعد ). وقوله ( وألقى في الأرض ( مذكور في أول ( النحل ) و ) من كل زوج كريم ( ذكر في أول الشعراء. هذار الذي ذكر من السموات بكيفياتها والأرض بهيآتها بسائطها ومركباتها ) خلق الله ( أي مخلوقه ) فأروني ماذا خلق الذين من دونه ( وهم الآلهة بزعمهم. وهذا أم رتعجيز وتبكيت فلهذا سجل عليهم بالضلال المبين. ثم بين فساد اعتقاد أهل الشرك بأنه مخالف ايضاً لعقيدة الحكماء الذين يعولون على المعقول الصرف منهم لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته أو من أولاد آزر ، عاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام ، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له ؟ فقال : الا أكتفي إذا كفيت وأكثر الأقاويل أنه كان حكيماً. عن ابن عباس : لقمان لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان راعياً أسود فرزقه الله العتق ورضي الله قوله ( ووصيته ) وحكاها في القرآن. وقيل : خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة. وقال عكرمة والشعبي : كان نبياً. روي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد وقد لين الله له الحديد ، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت ، فلما أتمها لبسها وقال : نعم سميت حكيماً. روي أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين فأخرج اللسان والقلب ، ثم امره بمثل ذلك بعد ايام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب أيضاً فسأله عن ذلك فقال : هما أطيب ما فيها إذا طابا ، وأخبث ما فيها إذا خبثا. ثم فسر الحكمة بقوله ) أن اشكر لله ( لأن إيتاء الحكمة في معنى القول. قال العلماء : هذا أمر تكوين أي جعلناه شاركاً فإن أمر التكليف يستوي فيه الجاهل والحكيم ، وق فيه تنبيه على أن شكر المعبود الحق رأس كل العبادة وسنام الحكمة وفائدته ترجع إلى العبد لا إلى المعبود فإنه غني عن شكر الشاكرين مستحق للحمد وإن لم يكن على وجه الأرض حامد. وحين بين كماله شرع في تكميله وذلك لأبنه المسمى أنعم أو أشكم. قيل : كان ابنه وامرأته كافرين فما زال يعظمهما حتى أسلما. ووجه كون الشرك ظلماً عظيماً أنه وضع في أخس الأشياء - وهو الفقير المطلق - موضع اشرف الاشياء - وهو الغني المطلق - ثم وصى الله سبحانه الإنسان بشكر إنعام الوالدين وبطاعتهما وإن كانا كافرين إلا أن يدعواه إلى الغشراك بالله. وهذه جملة معترضة نيط باعتراضها غرضان : أحدهما أن طاعة الأبوين(5/424)
" صفحة رقم 425 "
تالية لعبادة الله ، والثاني تأكيد كون الشرك أمراً فظيعاً منكراً حتى إنه يلزم فيه مخالفة منيجب طاعته. وقوله ( حملته أمه وهناً ( أي حال كونها تهن وهناً ) على وهن ( أي ضعفاً على ضعف ، لأن الحمل كلما زاد وعظم ازدادت ثقلاً وضعفاً ، اعتراض في اعتراض تحريضاً على رعاية حق الوالدة خصوصاً. روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال : قلت : يا رسول الله من أبر ؟ قال : أمك ثم أمك ثم أباك. وقوله ( وفصاله في عامين ( توقيت للفطام كما مر في ( البقرة ) في قوله ) والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) [ البقرة : 233 ] وفيه تنبيه آخر على ما كابدته الأم من الشماق. ومعنى ) معروفاً ( صحاباً أو مصاحباً معروفاً على ما يقتضيه العرف والشرع. وفي قوله ) واتبع سبيل من أناب إليّ ( إشارة أخرى إلى أنهما لو لم يكونا منيبين إلى الرب لم يتبع سبيلهما في الدين وإن لزم طاعتهما في الدنيا وفي باب حسن العشرة والصحبة. واتفق المفسرون على أن هذه الآية ونظيرتها التي في ( العنطبوت ) وفي ( الأحقاف ) نزلت في سعد بن أبي وقاص وفي أمعه حمنة بنت أبي سفيان ، وذلك أنه حين أسلم قالت : يا سعد ، بلغني أنك قد صبأت ، فوالله لا يظلني سقف بيت وإن الطعام والشراب عليَّ حرام حتى تكفر بمحمد - وكان أحب ولدها غليها ( فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وشكا إليه فنزلت هذه الآيات ، فأمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يتراضاها بالإحسان وإنما لم يذكر في هذه السورة قوله ) حسناً ( لأن قوله ) أن اشكر ( قام مقامه ، وإنما قال ههنا ) وإن جاهداك على أن تشرك ( لأنه أراد ون حملاك على الإشراك ، وقال في العنكبوت ) لتشرك ) [ العنكبوت : 8 ] موافقة لما قبله فإنما يجاهد لنفسه مع أن مبني الكلام هناك الاختصار. وحين وصف نفسه بكماله في خاتمة الآية بقوله ) فأنبئكم بما كنتم تعملون ( أتبعه ما يناسبه من وصايا لقمان وهوة قوله ) يا بني إنها ( أي القصة ) إن تك ( أي الحبة من الإساءة أو الإحسان في الصغر كحبة الخردل ويجوز أن يقال : الحبة إن تك كحبة الخردل. ومن قرأ ) مثقال ( بالرفع تعين أن يكون الضمير في ) إنها ( للقصة وتأنيث ) تك ( لإِضافة المثقال إلى الحبة. وروي أن ابن لقمان قال له : أرأيت الحبة تكون ف يمقل البحر اي في مغاصة يعلمها الله ؟ إن الله يعلم أصغر الشياء في أخفى الأمكنة لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء. سؤال : الصخرة لا بد أن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرها ؟ الجواب على قول الظاهريين من المفسرين ظاهر لأنهم قالوا : الصخرة هي التي عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء. وقال أهل الأدب : فيه إضمار والمراد في صخرة أو في موضع آخر من السموات والأرض ومثله قول جار الله ، أراد فكانت مع صغرها في أخفى(5/425)
" صفحة رقم 426 "
موضع وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت العالم العلوي أو السفلي ، وقال أهل التحقيق : إن خفاء الشيء يكون إما لغاية صغره ، وإما لاحتجاجه ، وإما لكونه بعيداً ، وإما لكونه في ظلمة. فأشار إلى الأول بقوله ) مثقال من خردل ( وإلى الثانيبقوله ) فتكن في صخرة ( وإلى الثالث بقوله ) أو في السموات ( وإلى الرابع بقوله ) أو في الأرض ( وقوله ( يأت بها الله ( أبلغ من قول القائل ) يعلمه الله ( ففيه مع العلم بمكانه إظهار القدرة على الإتيان به ) إن الله لطيف ( نافذ القدرة ) خبير ( ببواطن الأمور ، وحين منع ابنه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بمكارم الأخلاق والعادات وأولها الصلاة ، وفيها تعظيم المعبود الحق ، وبعدها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فبهما تتم الشفقة على خلق الله. وقوله ( واصبر على ما اصابك ( من أذيات الخلق في البأس ، أو هو مطلق في كل ما يصيبه من المصائب والمكاره ) إن ذلك ( المذكور ) من عزم الأمور ( أي من معزوماتها من عزم الأمر بالنصب إذا قطعه قطع إيجاب وإلزام ، ومنه العزيمة خلاف الرخصة ، أو من عزم الأمر بالرفع أي جد وقد مر في آخر ) آل عمران (. وحين أمره بأن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره وكان يخشى عليه أن يتكبر على الغير بسبب كونه مكملاً له أو يتبختر في النفس بسبب كونه كاملاً في نفسه قال ) ولا تصعِّر خدك للناس ( يقال : أصعر خدَّه وصعره وصاعره من الصعر بفتحتين وهو داء يصيب البعير يلوي منه عنقه. والمعنى : أقبل على الناس بكل وجهك تواضعاً لا بشق الوجه كعادة المتكبرين. ومعنى ) ولا تمش في الأرض مرحاً ( مذكور في سورة ) سبحان الذي ( والمختال والفخور مذكوران في سورة النساء. فالمختال هو الماشي لأجل الفرح والنشاك لا لمصلحة دينية أو دنيوية ، والفخور هو المصعر خده ، بين أن الله لا يحبهما فيلزم الاجتناب عن الاتصاف بصفتهما. ثم امره عند الاحتياج إلى المشي لضرورة بالمشي القصد أي الوسط بين السرعة والإبطاء على قياس سائر الأخلاق والآداب فخير الأمور أوساطها ، ومثله غض الصوت حين التكلم. قال أهل البيان : في تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير التي هي مثل في البلادة حتى استهجن التلفظ باسمها في أغلب الأمر ، وفي تمثيل أصواتهم بالنهاق ثم إخلاء الكلام عن أداة التشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة ، تنبيه على أن الإفراط في رفع الصوت من غير ضرورة ولا فائدة مكروه عند الله جداً ، واشتقاق أنكر من النكر ليكون على القياس لا من المنكر والحمير جمع الحمار ، وإنما لم يقل أصوات الحمير لأن المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق وغير الناطق له صوت ، وإن أنكر أصوات هذه الأجناس صوت أفراد هذا الجنس. قال بعض العقلاء : من نكر صوت هذا الحيوان أنه لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق ، وأما سائر الحيوانات فلا يصيح إلا لحاجة قالوا : ومن فوائد عطف الأمر بغض(5/426)
" صفحة رقم 427 "
الصوت على الأمربالقصد في المشي ، أن الحيوان يتوصل إلى مطلوبه بالمشي فإن عجز عن ذلك فبالتصويت والنداء كالغنم تطلب السخلة ، ومنها أن الإنسان له عقيدة ولسان وجوارح يتحرك بها كسائر الحيوانات فأشار إلى الأولى بقوله ) إنها إن تك مثقال حبة ( أي أصلح ضميرك فإن الله خبير ، واشار إلى التوسط في أفعال الجوارح بقوله ) واقصد في مشيك ( وغلى التوسط في الأقوال بقوله ) اغضض من صوتك ( أو نقول : اشار بقوله ) أقم الصلاة ( إلى الأوصاف الملكية التي يجب أن تكون في الإنسان ، وبقوله ) وأمر ( إلى قوله ) مرحاً ( إلى الأوصاف الفاضلة الإنسانية ، وبقوله ) واقصد ( ) واغضض ( غلى الأوصاف التي يشارك فيها الإنسان سائر الحيوان والله تعالى أعلم. التأويل : ( ويؤتون الزكاة ( هي للعوام مقادير معينة من المال كربع العشر من عشرين ، وللخواص إخراج كل المال في سبيل الله ، ولأخص الخواص بذل الوجود لنيل المقصود ) لهو الحديث ( قال الجنيد : السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم ، وعلى أهل القلوب مباح لوفور علومهم وصفاء قلوبهم ، وعلى أصحابنا واجب لفناء حظوظهم. ) وإذ قال لقمان ( القلب ) لابنه ( السر المتولد من ازدواج الروح والقلب ) وهو يعظه ( أن لا يتصف بصفات النفس العابدة للشيطان والهوى والدنيا ) في عامين ( يريد فطامه عن مألوفات الدارين ) وإن جاهداك ( فيه أن السر لا ينبغي له أن يلتفت إلى الروح أو القلب إذا اشتغلا بغير الله في أوقات الفترات ، فإن الروح قد يميل غلى مجانسة من الروحانيات ، والقلب يميل تارة إلى الروح ، وأخرة إلى النفس ولكنه يرجى الصلاة بعد الفترة ، وأما السر فإذا زال عن طبيعته وهو الإخلاص في التوحيد فإصلاح حاله ممكن بعيد. ) واتبع سبيل من أناب غليّ ( وهو الخفي. ) إنها إن تك ( يعني القسمة الأزلية من السعادة وضدها ) لصوت الحمير ( قالوا : هو الصوفي يتكلم قبل أوانه. ( لقمان : ( 20 - 34 ) ألم تروا أن . . . .
" ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد ولو أنما في(5/427)
" صفحة رقم 428 "
الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير "
( القراآت )
نعمه ( على الجمع : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل وحفص ) والبحر ( بالنصب : أبو عمرو ويعقوب عطفاً على اسم ( أن ) الآخرون : بالرفع حملاً على محل ( أن ) ومعمولها ) وأن ما يدعون ( على لغيبة : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وحفص وسهل ويعقوب ) وينزل الغيث ( التشديد : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وعاصم. الوقوف : ( وباطنه ( ط ) منير ( 5 ) آباءنا ( ط ) السعير ( 5 ) الوثقى ( ط ) الأمور ( 5 ) كفره ( 5 ) عملوا ( ط ) الصدور ( 5 ) غليظ ( 5 ) ليقولن الله ( ط ) الله ( ط ) لا يعلمون ( 5 ) والأرض ( ط ) الحميد ( 5 ) كلمات الله ( ط ) حكيم ( 5 ) واحدة ( ط ) بصير ( 5 ) والقمر ( ز لأن قوله ) كل ( مبتدأ مع عطف ( أن ) على ( أن ) الأولى ) خبير ( 5 ) الباطل ( لا ) الكبير ( 5 ) من آياته ( ط ) شكور ( 5 ) الدين ( ج ) مقتصد ( ط ) كفور ( 5 ) عن ولده ( لا لعطف الجملتين المختلفتين لفظاً مع صدق الاتصال معنى ) شيئاً ( ط ) الدنيا ( قف للفصل بين الموعظتين ) الغرور ( 5 ) الساعة ( ج لاختلاف الجملتين ) الغيث ( ج وإن اتفقت الجملتان للتفصيل بين عيب وغيب ) الأرحام ( ط لابتداء الجملة المنفية التي فيها استفهام ) غداً ( ط لابتداء نفي آخر مع تكرار نفس دون الاكتفاء بضميرها ) تموت ( ط ) خبير ( 5. التفسير : لما ذكر أن معرفة الصانع غير مختصة بالنبوة ولكنها توافق الحكمة أيضاً ،(5/428)
" صفحة رقم 429 "
ولو كانت تعبداً محضاً للزم قبوله ، كيف وإنها توافق المعقول ، أعاد الاستدلال بالأمور المشاهدة الآفاقية والأنفسية. ومعنى ) سخر لكم ( لأجلكم كما مر في سورة إبراهيم من قوله ) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ) [ إبراهيم : 33 ] الآية ومعنى ) اسبغ ( أتم ، والنعم الظاهرة كل ما يوجد للحس الظاهر إليه سبيل ومن جملتها الحواس أنفسها والباطنة مالا يدرك إلا بالحس الباطن أو بالعقل أو لا يعلم أصلاً. ومن المفسرين من يخص ، فعن مجاهد : الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء ظاهراً ، والباطنة إمداد الملائكة. وعن الضحاك : الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة والعلم. وقيل : النفس. ثم ذكر أن بعض الناس يجادلون في الله بعد ظهور الدلائل على وحدانيته وقد مر في أول ( الحج ). ثم ذكر أنه لا مستند له في ذلك إلا التقليد ، ثم وبخه على جهله وتقليده بأنه يتبع سبيل الشيطان ولو دعاه إلى النار قائلاً ) أولم كان ( إلخ. ومعناه أيتبعونهم ولو كان كذا ؟ ثم اراد أن يفصل حال المؤمن والكافر بعض التفصيل فقال ) ومن يسلم وجهه إلى الله ( وهو نظير قوله في ( البقرة ) ) بلى من أسلم وجهه لله ) [ الآية : 112 ] والفرق أن معناه مع ( إلى ) يرجع إلى التفويض والتسليم ، ومع اللام يؤل إلى الإخلاص والإذعان والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيل كما مر في آية الكرسي. وقوله ( يمتعهم ( الاية. كقوله في البقرة ) ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره ) [ الآية : 126 ] وغلظ العذاب شدته. ثم بين أنهم معترفون بالمعبود الحق إلا أنهم يشركون به وقد مر في آخر ( العنكبوت ) مثله إلا أنه قال في آخره ) بل أكثرهم لا يعلمون ( وذلك أنه زاد هناك قوله ) وسخر الشمس والقمر ) [ الرعد : 2 ] فبالغ ، فإن نفي العقل أبلغ من نفي العلم إذ كل عالم عاقل ولا ينعكس. ثم ذكر أن الملك كله له وهو غني على الإطلاق حميد بالاستحقاق. وحين بين غاية قدرته أراد أن يبين أنه لا نهاية لعلمه فقال ) ولو أن ما في الأرض ( الاية. عن ابن عباس : أنها نزلت جواباً لليهود وأن التوراة فيها كل الحكمة. وقيل : هي جواب قول المشركين أن الوحي سنيفد. وتقدير الآية على قراءة الرفع : لو ثبت كون الأشجار أقلاماً وثبت البحر ممدوداً بسبعة أبحر. ويجوز أن تكون الجملة حالاً واللام في البحر للجنس. وجعل جنس البحار ممدوداً بالسبعة للتكثير لا للتقدير ، فإن كثيراً من الشياء عددها سبعة كالسيارات السبعة والأقاليم السبعة وأيام الأسبوع ومثله قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( المؤمن يأكل في معاً واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ) أراد الأكل الكثير. وقال في الكشاف جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة ، وجعل(5/429)
" صفحة رقم 430 "
الأبحر السبعة مملوأة مداداً ، فهي تصب فيه مدادها ابداً صباً لا ينقطع. قلت : جعله الأبحر سبعة تقديراً ينافي قوله ( أبدا لا ينقطع ) وإنما لم يجعل للأقلام مداداً لأن نقصان المداد بالكتابة أظهر من نقصان القلم. وإنما لم يقل : كلم الله ( على جمع الكثرة للمبالغة إذ يفهم منه أن كلماته لا تفي بكتبتها البحار فكيف بكلمه ؟ وقيل : أراد بكلماته عجائب مصنوعاته الموجودة بكلمة ) كن ( وقد مر نظير هذه الآية في آخر الكهف. ثم بين أنه لا يصعب على قدرته كثرة الإيجاد والإعدام فإن تعلق قدرته بمقدور واحد كتعلقها بمقدورات غير محصورة لأن اقتداره لا يتوقف على آلة وعدة وإنما ذلك له ذاتي يكفي فيه الإرادة. ثم أكد ذلك بأن سمعة ينعلق في زمان واحد بكل المسموعات وكذا بصره بكل المبصرات من غير أن يشغله شيء عن شيء. ثم أعاد طرفاً من دلائل قدرته مع تذكير بعض نعمه قائلاً ) الم تر ( وقد مر نظيره في ) الحج ( إلى قوله ) الكبير ( وقوله ههنا ) يجري إلى أجل مسمى ( وقوله في ) فاطر ( و ) الزمر ( ) لأجل مسمى ) [ الزمر : 5 ، فاطر : 13 ] يؤل إلى معنى واحد وإن كان الطريق مغايراً ، لأن الأول معناه انتهاؤهما إلى وقت معلوم وهو للشمس آخر السنة وللقمر آخر الشهر. وعن الحسن : هو يوم القيامة لأن جريهما لا ينقطع إلا وقتئذ. والثاني معناه اختصاص الجري بإدراك أجل معلوم كما وصفنا. ووجه اختصاص هذا المقام بإلى وغيره باللام ، أن هذه الآية صدَّرت بالتعجيب فناسب التطويل. والمشار غليه بذلك هو ما وصف من عجيب قدرته أو أراد أن الموحى من هذه الآيات بسبب بيان أن الله هو الحق. قال بعضهم ) العلي ( إشارة إلى كونه تماماً وهو أن حصل له كما ينبغي أن يكون له. و ) الكبير ( إشارة غلى كونه فوق التمام وهو أنه يحصل لغيره ما يحتاج إليه. ثم أكد الآية السماوية بالآية الأرضية. ومعنى ) بنعمته ( بإحسانه ورحمته أو بالريح الطيبة التي هي بأمر الله ) إن في ذلك ( الإجراء ) لايات لكل صبار ( على الضراء ) شكور ( في السراء. ووجه المماسبة أن كلتا الحالتين قد يقع لراكب البحر أو صبار على النواحي والتروك شكور في الأفعال والأوامر ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر (. ثم ذكر أن بعض الناس لا يخلص لله غلا عند الشدائد ، وإنما وحد الموج وجمع الظلل وهي كل ما أظلك من جبل أو سحاب ، لأن الموج الواحد يرى له صعود ونزول كالجبال المتلاصقة. وإنما قال ههنا. ) فمنهم مقتصد ( وقد قال فيما قبل ) إذ هم يشركون ) [ العنكبوت : 65 ] لأنه ذكر ههنا الموج وعظمته ولا محالة يبقى لمثله اثر في الخيال فيخفض شيئاً من غلو الكفر والظلم وينزجر بعض الانزجار ، ويلزمه أن يكون متوسطاً في الإخلاص أيضاً لا غالياً فيه ، وقل مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر. والختر أشد الغدر ومنه قولهم ) لا تمد لنا شبراً من غدر إلا(5/430)
" صفحة رقم 431 "
مددنا لك باعاً من ختر (. والختار في مقابلة الصبار لأن الختر لا يصدر إلا من عدم الصبر وقلة الاعتماد على الله في دفع المكروه. والكفور طباق الشكور. وحين بيَّن الدلائل وعظ بالتقوى وخوف من هول يوم القيامة. ومعنى ) لا يجزي ( لا يقضيكما مر في أول ) البقرة (. وذكر شخصين فيب غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد ليلزم منه عدم الانتفاع بغيرهما بالأولى ، وفيه إشارة إلى ما جرت به العادة من أن الأب يتحمل الآلام عن ابنه ما أمكن ، والولد يتحمل الإهانة عن الأب ما أمكن ، فكأنه قال : لا يجزي فيه ) والد عن ولده ( شيئاً من الآلام ) ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً ( من أسباب الإهانة. قال جار الله : إنما أوردت الجملة الثانية إسمية لأجل التوكيد. وذلك أن الخطاب للمؤمنين فأراد حسم أطماعهم أن يشفعوا لآبائهم الكفرة وفي توسيط ) هو ( مزيد تأكيد. وفي لفظ ) المولود ( دون أن قول ) ولا ولد ( تأكيد آخر ، لأن الولد يقع على ولد الولد أيضاً بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك فكأنه قيل : إن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته فضلاً أن يشفع لمن فوقه. وقيل : إنما أوردت الثانية إسمية لأن الابن من شأنه أن يكون جازياً عن والده لما عليه من الحقوق والوالد يجزي شفقة لا وجوباً ) إن وعد الله ( بمجيء ذلك اليوم ) حق ( أو وعده بعدم جزاء الوالد عن الولد وبالعكس حق. و ) الغرور ( بناء مبالغة وهو الشيطان اي لا ينبغي أن تغرنكم الدنيا بنفسها ويزينها في أعينكم غار من الشيطان أو النفس الأمارة. روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) مفاتيح الغيب خمس ( وتلا قوله ) إن الله عنده علم الساعة ( إلى آخرها. وعن المنصور ، أنه همه معرفة مدة عمره فرأى في منامه كأن خيالاً أخرج يده من البحر واشار إليه بالأصابع الخمس. فاستفتى العلماء في ذلك فتأولوها بخمس سنين وبخمسة أشهر وبغير ذلك حتى قال أبو حنيفة : تأويلها أن مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه. قال في التفسير الكبير : ليس مقصود الآية أنه تعالى مختص بمعرفة هذه الأمور فقط فإنه يعلم الجوهر الفرد أين هو وكيف هو من أول يوم خلق العالم غلى يوم النشور ، وإنما المراد أنه تعالى حذر الناس من يوم القيامة. كان لقائل أ ، يقول : متى الساعة ؟ فذكر أن هذا العلم لا يحصل لغيره ولكن هو كائن لدليلين ذكرهما مراراً وهو إنزال الغيث المستلزم لإحياء الأرض وخلق الأجنة في الأرحام ، فإن القادر على الإبداء قادر على الإعادة بالأولى. ثم إنه كأنه قال : أيها السائل إن لك شيئاً أهم منها لا تعلمه فإنك لا تعلم معاشك ومعادك فلا تعلم ) ماذا تكسب غداً ( مع أنه فعلك وزمانك ولا(5/431)
" صفحة رقم 432 "
تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك فكيف تعلم قيام الساعة ؟ والسر في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت بل مكانة هو أنه ينافي التكليف كما مر في أول ) طه ( ، ولو علم المكلف مكان موته لأمن الموت غذا كان في غيره. والسر في إخفاء الكسب في غير الوقت الحاضر هو أن يكون المكلف ابجاً مشغول السر بالله معتمداً عليه في اسباب الرزق وغيره. روي أن ملك الموت مر على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه. فقال الرجل : من هذا ؟ قال : ملك الموت. فقال : كأنه يريدني. وسأل سليمان أن يحمله على الريح غلى بلاد الهند ففعل. ثم قال ملك الموت لسليمان : كان نظري إليه تعجباً منه لأني أمرت أن اقبض روحه بالهند وهو عندك. قال جار الله : جعل العلم لله والدراية للعبد لما في الدرياة من معنى الختل والحيلة كأنه قال : إنها لا تعرف وإن أعلمت حيلها وقرئ ) بآية أرض ( والأفصح عدم تأنيثه. التأويل : ( وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة ( هي تسخير ما في السموات وما في الأرض من الأجسام العلوية والسفلية ، البسطية والمركبة. وباطنة هي تسخير ما في سموات القلوب من الصدق والإخلاص والتوكل والشكر وسائر المقامات القلبية والروحانية بأن يسر العيون عليها بالسكون المتدارك بالجذبة والانتفاع بمنافعها والاجتناب عن مضارها. وتسخير مافي أرض النفوس من اضداد الأخلاق المذكورة بتبديلها بالحميدة والتمتع بخواصها والتحرز عن آفاتها. ) ثم نضطرهم ( لفساد استعدادهم ) تجري في البحر بنعمة الله ( سلامتهم في الظاهر معلومة ، وأما في الباطن فنجاتهم بسفائن العصمة من بحار القدرة أو بسفينة الشريعة بملابسة الطريقة في بحر الحققة لإِراءة آيات شواهد الحق ، وإذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم نفحات الألطاف إلى سواحل الأعطاف .(5/432)
" صفحة رقم 433 "
سورة السجدة
( سورة ألم السجدة حروفها ألف وخمسمائة وثمانية عشر كلماتها ثلثمائة وثمانون آياتها ثلاثون مكية إلا قوله ) أفمن كان مؤمناً ( إلى ثلاث آيات ) بسم الله الرحمن الرحيم
( السجدة : ( 1 - 30 ) الم
" الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون أما الذين آمنوا وعملوا(5/433)
" صفحة رقم 434 "
الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون "
( القراآت )
خلقه ( بفتح الام : عاصم وحمزة وعلي وخلف ونافع وسهل : الآخرون : بالسكون على البدل من كل شيء. وعلى الأول يكون وصفاً له ) أئذا ( ) أئنا ( كما في ( الرعد ) ) ما أخفي ( بسكون الياء على أنه فعل مضارع متكلم : حمزة. الباقون : بفتحها على أنه فعل ماضٍ مجهول ) لما صبروا ( بكسر اللام وتخفيف الميم : حمزة وعلي ورويس. الباقون : بفتح اللام وتشديد الميم ) أولم نهد ( بالنون : يزيد عن يعقوب. الوقوف : ( الم ( 5 كوفي ) العالمين ( 5 ط لأن ( أم ) استفهام تقريع غير عاطفة بل هي منقطعة ) افتراه ( ج لعطف الجملتين المختلفتين ) يهتدون ( 5 ) العرش ( ط ) شفيع ( 5 ) تتذكرون ( 5 ط ) تعدون ( 5 ) الرحيم ( ط ) من طين ( 5 ج لأن ( ثم ) لترتيب الأخبار ) مهين ( 5 ج لذلك ) والأفئدة ( ط ) تشكرون ( 5 ) جديد ( 5 ) كافرون ( 5 ) ترجعون ( 5 ) عند ربهم ( ط لحق القول المحذوف ) موقنون ( 5 ) أجميعن ( 5 ) هذا ( ج للابتداء بان مع تكرار ) وذوقوا ( ) تعملون ( 5 ) لا يستكبرون ( 5 ) وطمعاً ( ز لانقطاع النظم بتقديم المفعول ) ينفقون ( 5 ) أعين ( ج لأن ) جزاء ( يحتمل أن يكون مفعولاً له وأن يكون مصدراً لفعل محذوف ) يعملون ( 5 ) فاسقاً ( ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار ) لا يستوون ( 5 ) المأوى ( ز لمثل ما مر في ) جزاء ( ) يعملون ( 5 النارر ط ) تكذبون ( 5 ) يرجعون ( 5 ) عنها ( ط ) منتقمون ( 5 ) إسرائيل ( 5 ج وإن اتفقت الجملتان للعدول عن ضمير المفعول الأول وهو واحد إلى ضمير الجمع في الثانية ) صبروا ( ط لمن شدد(5/434)
" صفحة رقم 435 "
) يوقنون ( 5 ) يختلفون ( 5 ) مساكنهم ( ط ) لآيات ( ط ) يسمعون ( 5 ) وأنفسهم ( ط ) يبصرون ( 5 ) صادقين ( 5 ) ينظرون ( 5 ) منتظرون ( 5. التفسير : لما ذكر في السورة المتقدمة دلائل الوحداينة ودلائل الحشر وهما الطرفان ، بدأ في هذه السورة ببيان الأمر الأوسط وهو الرسالة المصححة ببرهان القرآن. وإعرابه قريب من قوله ) الم ذلك الكتاب ) [ البقرة : 1 - 2 ] وميل جار الله إلى قوله ) تنزيل الكتاب ( مبتدأ خبره ) من رب العالمين ( ولا ريب فيه اعتراض لا محل له والضمير في ) فيه ( راجع إلى مضمون الجملة أي لا ريب في كونه منزلاً من عنده. ويمكن أن يقال : في وجه النظم لما عرَّف ي أول السورة المتقدمة أن القرآن هدى ورحمة قال ههنا : إنه من رب العالمين ، وذلك أن من عثر على كتب سأل أولاً أنه في أي علم. فإذا قيل : إنه في الفقه أو التفسير سأل : إنه تصنيف اي شخص ؟ ففي تخصيص رب العالمين بالمقام إشارة غلى أن كتاب رب العالمين لا بد أن يكون فيه عجائب للعالمين فترغب النفس في مطالعته. ثم اضرب عما ذكر قائلاً ) أم يقولون افتراه ( وهو تعجيب من قولهم لظهور أمر القرآن في تعجيز بلغائهم عن مثل سورة الكوثر. ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك. ومعنى ) لتنذر قوماً ( قد مر في ( القصص ) ويندرج فيهم أهل الكتاب إذ يصدق عليهم أنه لم يأتهم نذير بعد ضلالهم سوى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولو لم يندرجوا لم يضرّ فإن تخصيص قوم بالذكر لا يدل على نفي من عداهم كقوله ) وأنذر عشيرتك الأقربين ) [ الشعراء : 214 ] وحين بين الرسالة بين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد فقال ) الله ( مبتدأ خبره ما يتلوه وقد مر نظائره. وقوله ( ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع افلا تتذكرون ( إثبات للولاية والشفاعة أي النصرة من عنده ونفي لهما من غيره ، وفيه تجهيل لعبدة الأصنام الزاعيمن أنها شفعاؤهم بعد اعترافهم بأن خالق الكل هو الله سبحانه. ولما بين الخلق شرع في المر فقال ) يدبر الأمر ( اي المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبراً من السماء إلى الرض ثم يعرج إليه ذلك العمل ي يوم طويل ، وهو كناية عن قلة الإخلاص لأنه لا يوصف بالصعود ولا يقوى على العروج إلا العمل الخالص ، يؤيد هذا التفسير قوله فيما بعد ) قليلاً ما تشكرون ( أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الرض لكل يوم من ايام الله وهو ألف سنة ، ثم يصعد إليه مكتوباً في الصحف في كل جزء من أجزاء ذلك اليوم الخ. ثم يدبر الأمر ليوم آخر مثله وهلم جراً. أو ينزل الوحي مع جبرائيل ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحي. ورده مع جبرائيل ايضاً وتقدير الزمان بالف سنة لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وأن الملك يقطعها في يوم واحد من أيامنا. وقيل : إنه إشارة إلى نفوذ الأمر ، فإن نفاذ الأمر كلما(5/435)
" صفحة رقم 436 "
كان في مدة أكثر حاله أعلى أي يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة منه ، فكم يكون شهر منه وكم يكون سنة منه وكم يكون دهر منه ؟ فلا فرق على هذا بين الف سنة وبين خمسين ألف سنة كما في ( المعارج ). وقيل : إن هذه عبارة عن الشدة واستطالة أهلها غياها كالعادة في استطالة ايام الشدة والحزن واستقصار أيام الراحة والسرور. وخصت السورة بقوله ) ألف سنة ( موافقة لما قبله وهو قوله ) في ستة أيام ( وتلك الأيام من جنس هذا اليوم. وخصت سورة المعارج بقوله ) خمسين ألف سنة ) [ الآية : 4 ] لأن فيها ذكر القيامة وأهوالها فكان هو اللائق بها. وعن عكرمة : إن اليوم في المعارج عبارة عن أول أيام الدنيا غلى انقضائها وأنها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم كم مضى وكم بقي إلا الله عزو وجل. وبالجملة فالآية المتقدمة تدل على عظمة عالم الخلق وسعة مكانه ، والآية الثانية تدل على عظمة عالم الأمر وامتداد زمانه. ثم بين أنه مع غاية عظمة ملكه وملكوته عليم بأمر العالمين فقال ) ذلك عالم الغيب والشهادة ( وفي قوله ) العزيز الرحيم ( إشارة إلى صفتي القهر واللطف اللتين ينبغي أن تكونا لكل ملك ، وإنما أخر ) الرحيم ( مع أن رحمته سبقت غضبه ليوصله بقوله ) الذي أحسن كل شيء خلقه ( نظيره ) الذي أعطى كل شيء خلقه ) [ طه : 50 ] وقد مر في ( طه ). وعطف عليه تخصيصاً بعد تعميم خلق الإنسان وهو آدم بدليل قوله ) ثم جعله نسله ( أي ذريته لأنها تنسل أي تنفصل ، والسلالة الخلاصة كما ذكرنا في أول ( المؤمنين ) ، وقوله ( من ماء ( بدل من سلالة والمهين الحقير. ومعنى ) سوَّاه ( قوَّمه وأداره في الأطوار إلى حيث صلح لنفخ الروح فيه ، ثم عدل من الغيبة إلى الخطاب في قوله ) وجعل لكم ( تنبيهاً على جسامة نعم هذه الجوارح وتوبيخاً على قلة الشكر عليها. ثم بين عدم شكرهم بإنكارهم المعاد بعد مشاهدة الفطرة الأولى وليست الثانية بأصعب منها. والواو للعطف على ما سبق كأنهم قالوا : إن محمداً مفتر وقالوا : الله ليس بواحد ) وقالوا أئذا ( يعني أنهم واسلافهم زعموا أن الحشر غير ممكن. ومعنى ) ضللنا في الأرض ( غبنا فيها إما بالدفن أو بتفرق الأجزاء وتلاشيها. والعامل في ) أئذا ( ما يدل عليه قوله ) أئنا لفي خلق جديد ( وهو نبعث أو يجدد خلقنا. ثم صرح بإثبات كفرهم على الإطلاق واللقاء لقاء الجزاء الشامل لجيمع أحوال الآخرة. ثم رد عليهم قولهم بالفوت بأنه يتوفاهم ملك الموت الموكل بقبض الارواح ثم يرجعون غلى حكم الله وحده. ثم بين ما يكون من حالهم عند الرجوع بقوله ) ولو ترى ( أنت يا محمد أوكل من له أهلية الخطاب ) إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ( خجلاً وندامة قائلين ) ربنا أبصرنا ( ما كنا شاكين في وقوعه وسمعنار منك تصديق رسلك وجواب ( لو ) محذوف(5/436)
" صفحة رقم 437 "
وهو لرأيت أمراً فظيعاً ، وجوزا أن يكون ( لو ) للتمني كأنه جعل لنبيه تمني أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الذل والهوان ليشمت بهم. ثم إنه سبحانه ألزمهم وألجمهم بقوله ) ولو شئنا ( الآية. وفيه أنه لو ردهم إلى الدنيا لم يهتدوا لأنهم خلقوا لجهنم القهر وقد مر نظيره في آخر ( هود ). ثم أكد إهانتهم بقوله فذوقوار وانتصب ) هذا ( على أنه مفعول ) فذوقوا ( وقوله ( لقاء ( مفعول ) نسيت ( أي ذوقوا هذا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم وذهلتم عنه بعد وضوح الدلائل أو تركتم الفكر فيه ، ويجوز أن يكون هذار صفة ) يومكم ( ومفعول ) ذوقوا ( محذوف وهو العذاب و ) لقاء ( مفعول ) نسيتم ( أو هو مفعول ) فذوقوا ( على حذف المضاف أي تبعة لقاء يومكم ويكوم ) نسيتم ( متروك المفعول أو محذوفه وهو الفكر في العاقبة. وقوله ( إنا نسيناكم ( من باب المقابلة والمراد تركهم من الرحمة نظيره ) نسوا الله فنسيهم ) [ التوبة : 67 ] وقوله ( عذاب الخلد ( من باب إضافة الموصوف إلى الصفة في الظاهر نحو : رجل صدقز أمرهم على سبيل الإهانة بذوق عذاب الخزي والخجل ، ثم بذوق العذاب الخلد أعاذنا الله منه بفضله العميم ، ثم ذكر أن كما الإيمان بآيات الله من شأن الخلص من عباده الساجدين لله شكراً وتواضعاً حين وعظوا بآيات ربهم منزهين له عما لا يليق بجنابه وجلاله متلبسين بحمده غير مستكبرين عن عبادته ) تتجافى جنوبهم عن المضاجع ( ترتفع وتتنجى عن مواضع النوم داعين ربهم أو عابدين له ) خوفاً ( من اليم عقابه ) وطمعاً ( في عظيم ثوابه ، وفسره رسول الله صلى الله عليه سولم بقيام الليل وهو التهجد. قال : ( إذا جمع الله الأولين والآخرين جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع ينادي ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس ). عن علي رضي الله عنه : جنبي تجافى عن الوساد
خوفاً من النار والمعاد
من خاف من سكرة المنايا
لم يدر ما لذة الرقاد
قد بلغ الزرع منتهاه
لا بد للزرع من حصاد
عن أنس بن مالك : كان أناس من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة فنزلت فيهم. وقيل : هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها .(5/437)
" صفحة رقم 438 "
و ( ما ) في قوله ) ما أخفي ( موصولة ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى اي شيء ، والمعنى لا تعلم نفس من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل أي نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك مما تقرّ به عيونهم حتى لا تطمح إلى غير ولا تطلب الفرح بما عداه. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتم عليه اقرؤا إن شئتم فلا تعلم نفس ماأخفى لهم من قرة أعين ) وعن الحسن : أخفى القوم أعمالاً في الدنيا فأخفى الله لهم مالا عين رأت ولا أذن سمعت. قال المحققون : إنه يصدر من العبد عمال صالحة وقد صدر عن الرب أشياء سابقة من الخلق والتربية وغيرهما ، وأشياء لاحقة من الثواب والإكرام ، فلله تعالى أن يقول : أنا أحسنت أولاً ، والعبد أحسن في مقابلته ، فالثةواب تفضل من غير عوض. وله أن يقول : الذي فعلته أولاً تفضل فإذا أتى العبد بالعمل الصالح جزيته خيراً لأن جزاء الإحسان إحسان ، وهذا الاعتبار الثاني أليق بالكرم ليذيق العبد لذة الأجر والكسب ، والاعتبار الأول أليق بالعبودية حتى يرى الفضل لله في جانب الأبد فإذن لا تنقطع المعاملة بين الله وبين العبد أبداً ، وتكون العبادة لهم في الآخرة بمنزلة التنفس للملائكة. يروى أنه شجر بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط يوم بدر كلام فقال له الوليد : اسكت فإِنك صبي. فقال له علي : اسكت فإِنك فاسق. فأنزل الله تعالى فيهما خاصة وفي أمثالهما من الفريقين عامة ) افمن كان مؤمناً ( إلى آخر ثلاث آيات أو اربع. ومن أول الآية محمول على اللفظ وفي قوله ) لا يستوون ( محمول على المعنى. ثم فصل عدم استوائهما بقوله ) أما الذين آمنوا ( ) وأما الذين فسقوا ( و ) جنات المأوى ( نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء على قول ابن عباس. وقال بعضهم : هي عن يمين العرش. وفي لام التمليك في ) لهم ( مزيد تشريف وإيذان بأنهم لا يخرجون منها كما لا يخرج المالك من ملكه ولهذا لو قيل : هذه الدار لزيد يفهم منه الملكية بخلاف ما لو قيل : اسكن هذه الدار. فإنه يحمل على الإعارة وإنه تعالى قال لبينا آدم ) اسكن أنت وزوجك الجنة ) [ البقرة : 35 ] لأنه كان في علمه أنه يخرج منها. وإنما قيل ههنا ) عذاب النار الذي كنتم به ( وفي ( سبأ ) ) عذاب النار التي كنتم بها ) [ الآية : 42 ] لأن النار في هذه السورة وقعت موقع الكناية لتقدم ذكرها ، والكنايات لا توصف فوصف العذاب. وفي ( سبأ ) لم يتقدم ذكر النار فحسن وصف النار .(5/438)
" صفحة رقم 439 "
وتكذيبهم العذاب هو أنهم كانوا يقولون في الدنيا إنه لا عذاب في الآخرة ، ويحتمل أن يراد بالتكذيب أنهم يقولون في الآخرة أول ما تأخذهم النار أ ، ه لا عذاب فوق ما نحن فيه ، فإذا زاد الله لهم ألماً على ألم وهو قوله ) كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ( صاروا كاذبين فيما زعموا أنه لا عذاب أزيد مما هم فيه ، وعلى هذا يمكن أن يراد بالخروج منها والإعادة فيها هو أن ابدانهم تألف النار وتتعودها فيقل الإحساس بها فيعيد الله عليهم إحساسهم الأول فيزيد تألمهم ، ومن هنا قالت الحكماء : إن الإحساس بحرارة حمى الدق اقل من الإحساس بحرارة الحمى البلغمية مع أن نسبة الدق إلى الثانية نسبة النار إلى الماء المسخن ، ونظيره أن الإنسان يضع يده في الماء البارد فيتألم أولاًن ثم غذا صبر زماناً طويلاً زال ذلك الألم وذلك لبطلان حسه. ثم حتم على نفسه أنه يذيقهم عذاب الدنيا من القتل والسر والقحط قبل أن يصلوا إلى عذاب الآخرة. وعن مجاهد : أن الأدنى هو عذاب القبر. وإنما ل يقل الأصغر في مقابلة الأكبر ، أو الأبعد الأقصى في مقابلة الأدنى ، لأن الغرض هو التخويف والتهديد وذلك إنما يحصل بالقرب لا بالصغر والكبر ولا بالبعد. ومعنى قوله ) لعلهم يرجعون ( والترجي على الله محال لنذيقهم إذاقة الراجين رجوعهم عن الكفر والمعاصي كقوله ) إنا نسيناكم ( أي تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلاً اي نذيقهم على الوجه الذي يفعل الراجي من التدرج ، أو نذيقهم إذاقة يقول القائل : لعلهم يرجعون بسببه. قال في التفسير الكبير : إن الرجاء في أكثر الأمر يستعمل فيما لا تكون عاقبته معلومة ، فتوهم الأكثرون أنه لا يجوز إطلاقه في حق الله تعالى وليس كذلك ، فإن الجزم بالعاقبة إنما يحصل في حقه بدليل منفصل لا من نفس الفعل فإن التعذيب لا يلزم منه الرجوع لزوماً بيناً. قلت : هذا يرجع إلى التأويل الأول ، فإن الكلام في تعذيب الله هل هو يستدعي الرجوع على سبيل الرجاء أم لا ، وكون مطلق التعذيب مستدعياً لذلك لا يكفي للسائل. وقالت المعتزلة : لعل ن الله إرادة وإرادة الله فعل المختار لا تقدح في اقتدار الله إذا لم يختر المختار مراد الله كما أنهم لم يختاروا التوبة والرجوع عن الكفر وإلا لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر. وإنما يقدم في اقتداره إذا تعلقت في إرادته بفعل نفسه أو بفعل المضطر المقسور ثم لا يوجد ذلك الفعل. وجوَّز في الكشاف أن يراد : لعلهم يريدون الرجوع إلى الدنيا ويطلبونه كقوله ) فارجعنا نعمل صالحاً ( سميت إرادة الرجوع رجوعاً كما سميت إرادة القيام قياماً في قوله ) إذا قمتم إلى الصلاة ) [ المائدة : 6 ] ثم بين أنهم إذا ذكروا بالدلائل من النعم أولاً والنقم ثانياً وهو العذاب الأدنى ثم لم يؤمنوا فلا أحد أظلم منهم. ومعنى ) ثم ( أنه ذكر موات ثم بالآخرة أعرض عنهار والفاء في سورة الكهف تدل على(5/439)
" صفحة رقم 440 "
الإعراض عقيب التذكير وقد سبق. وقال أهل المعاني : ( ثم ) ههنا تدل على أن الإعراض بعد التذكير مستبعد في العقول. قال المحققون : الذي لا يحتاج في معرفة الله إلا إلى الله عدل كقوله ) أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) [ فصلت : 53 ] كما قال بعضهم : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله. والذي يحتاج في ذلك إلى دلائل الآفاق والأنفس متوسط ، والذي يقر عند الشدة ويجحد عند الرحمة ظالم كقوله ) وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ) [ الروم : 33 ] والذي يبقى على الجحود والإعراض وإن عذب فلا أظلم منه. وحين جعله أظلم كان ظالم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم ليدل على إصابة الأظلم منهم النصيب الأوفر من الانتقام. ولو قال ( إنا منهم منتقمون ) لم يكن بهذه الحيثية في الإفادة. ثم عاد إلى تأكيد أصل الرسالة مع تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ) ولقد آتينا موسى الكتاب ( قال جار الله. اللام للجنس ليشمل التوراة والفرقان. والضمير في ) لقائه ( للكتاب أي آينا موسى مثل ما آتيناك ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي ، فلا تك في شك من أنك لقيت مثله. واللقاء بمعنى التلقين والإعطاء كقوله ) وإنك لتلقى القرآن ) [ النمل : 6 ] وقيل : الضمير في ) لقائه ( لموسى أي من لقائك موسى ليلة المعراج أو يوم القيامة ، أو من لقاء موسى الكتاب وهو تلقيه له بالرضا والقبول. والضمير في ) جعلناه ( للكتاب على أنه منزل على موسى. واستدل به على أن الله تعالى جعل التوراة هدى لبني إسرائيل خاصة ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل. ثم حكى أن منهم من اهتدى حتى صار من ائمة الهدى وذلك حين صبروا أو لصبرهم على متاعب التكليف ومشاق الدعاء إلى الدين بعيد إيقانهم به. وفيه أن الله تعالى سيجعل الكتاب المنزل على نبينا أيضاً سبب الاهتداء والهداية وكان كما أخبر. ومثله إخبار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ) ولا يخفى أن ( من ) التبعيضة في قوله ) وجعلنا منهم ( كانت تدل على أن بعضهم ليسوا أئمة الهدى ، وفيه رمز إلى أن بعضهم كانوا أئمة الضلال فلذلك قال ) إن ربك هو يفصل بينهم ( الاية. وفيه إشارة إلى أنه سبحانه سيميز المحق في كل دين من المبطل. ثم أعاد أصل التوحيد مقروناً بالوعيد قائلاً ) أولم يهد لهم ( وقد مر نظيره في آخر ( طه ) وإنما قال في آخر الآية ) إن في ذلك لآيات ( على الجمع ليناسب القرون والمساكن. وإنما قل ) أفلا يسمعون ( لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع ، وفيه إشارة إلى أنه لاحظ لهم منه إلا السماع. وحين ذكر الإهلاك والتخريب أتبعه ذكر الإحياء والعمارة. ومعنى نسوق الماءر نسوق السحاب وفيه المطر إلى الأرض الجرزر وهي التي جز نباتها أي قطع إما لعدم الماء وإما لأنه رعي وأزيل. قال جار الله : ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز بدلالة قوله ) فنخرج به زرعاً ( وعن ابن عباس أنها ارض اليمن ،(5/440)
" صفحة رقم 441 "
والضمير في ( به ) للماء. وإنما قدم الأنعام ههنا على الأنفس لأن الزرع لا يصلح أوّله إلا للأنعام وإنما يحدث الحب في آخر أمره. شقال في ( طه ) ) كلوا وارعوا أنعامكم ) [ الآية : 54 ] لأن الأزواج من النبات أعم من الزرع وكثير منه يصلح لإِنسان في أول ظهروه مع أن الخطاب لهم فناسب أن يقدموا وإنما ختم الاية بقوله ) أفلا يبصرون ( تأكيداً لقوله في أول الآية ) أولم يروا ( ثم حكى نوع جهالة أخرى عنهم وهو استعجالهم العذاب. قال المفسرون : كان المسلمون يقولون إن الله سيفتح لنا على المشركين أي ينصرنا عليهم ويفتح بيننا وبينهم أي يفصل ، فاستعجل المشركون ذلك. ويوم الفتح يوم القيامة فحينئذ تنفتح أبواب الأمور المبهمة أو يوم بدر أو يوم فتح مكة قاله مجاهد والحسن. فإن قلت : كيف ينطلق قوله قل يوم الفتحر الخ جواباً عن سؤالهم عن وقت الفتح ؟ فالجواب أنهم سألوا ذلك على وجه التكذيب والاستهزاء فقيل لهم : لا تستهزؤا فكأنا بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان واستنظرتم فلم تنظروا. ومن فسر يوم الفتح بيوم بدر أو بيوم فتح مكة فالمراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل وإلا فقد نفع الإيمان الطلقاء يوم فتح مكة وناساً يوم بدر. ثم أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بالإعراض عنهم وانتظار النصرة عليهم حين علم أنه لا طريق معهم إلا القتال نظيره قوله ) قل تربصوا فإني معكم من المتربصين ) [ الطور : 31 ]. التأويل : اللف المحبون لقربى والعارفون بتمجيدي فلا يصبرون عني ولا يستأنسون بغيري. اللام الأحباء لي مدخر لقائي فلا أبالي أقاموا على وثاقي أم قصروا في وفائي. الميم ترك أولياءي مرادهم فلذلك اخترتهم على جميع عبادي ) تنزيل الكتاب ( أعز الأشياء على الأحباب كتاب الأحباب أنزله ) رب العالمين ( لأهل الظاهر على ظاهرهم ولأهل الباطن في باطنهم فاستناروا بنوره وتكلموا بالحق عن الحق للحق فلم يفهمه أهل الغرة والغفلة فقالوا ) افتراه (. خلق سموات الرواح وارض الأشباح وما بينهما منالنفس والقلب والسر في ستة أجناس هي : الجماد والمعدن والنبات والحيوان والشيطان والملك ) ثم استوى على العرش ( الخفي وهو لطيفه ربانية قابلة للفيض الرباني بلا واسطة ) فلا تتذكرون ( كيف خلقكم في أطوار مختلفة ) يدبر الأمر ( من سماء الروح إلى ارض النفس البدن ) ثم يعرج إليه ( النفس المخاطبة بخطاب ) ارجعي إلى ربك ) [ الفجر : 28 ] في يوم طلعت فيه شمس صدق الطلب ، وأشرقت الرض بنور جذبات الحق ) كان مقداره ( في العروج بالجذبة كألف سنة مما تعدون من أيامكم في السير من غير جذبة كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين ) ) وبدأ خلق الإنسان من طين ( وخمرة بيده في أربعين(5/441)
" صفحة رقم 442 "
صباحاً فأودع في كل صباح خاصية نوع من أنواع عالم الشهادة ) ثم جعل نسله من سلالة ( سلها من أجناس عالم الشهادة. ) ثم سوَّاه ( شخص إنسان جديد المرآة ) ونفخ فيه من روحه ( فصار مرآة قابلة لإراءة صفات جماله وجلاله. ثم تجلى فيها بتجلية صفة السمعية والبصرية والعالمية التي مرآتها السمع والأبصار والأفئدة ) ضللنا ( في ارض البشرية ) يتوفاكم ملك الموت ( وهو المحبة الإلهية بقبض الأرواح من صفات الإنسانية ويميتها عن محبوباتها بجذبة ) ارجعي ) [ الفجر : 28 ] ( ناكسوا رؤسهم ( بالتوجه إلى حضيض عالم الطبيعة كالأنعام بعد أن كانوا رافعي الرؤوس يوم الميثاق. ) تتجافى جنوب ( همتهم عن مضاجع الدارين ) جنات المأوى ( التي هي مأوى الأبرار تكون نزلاً للمقربين السائرين إلى الله ) كنتم به تكذبون ( لأنه لم يكن لكم به شعور في الدنيا لأنكم كنتم في يوم الغفلة والاشتغال بالمحسوسات ) العذاب الأدنى ( إذا وقعت للسالك فترة ووقفة لعجب تداخله أو لملالة وسآمة ابتلاه الله ببلاء في نفسه أو ماله أو مصيبة في أهاليه وأقربائه وأحبابه لعله ينتبه من نوم الغفلة ويدارك أيام العطلة قبل أن يذيقه العذاب الأكبر في الخذلان والهجران ) فلا تك في مرية من لقائه ( أي من أنه يرى الرب ببركة متابعتك حين قال : اللهم اجعلني من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن الرؤية مخصوصة بك وبتبعتك لأمتك. ويحتمل أن يكون الخطاب في فلاتك لموسى القلب والضمير في ) لقائه ( لله. وجعلنا موسى القلب هدى لبني إسرائيل صفات القلب ) وجعلناهم أئمة ( هم السر الخفي ) إن ربك هو يفصل بينهم ( الآية. لأنهم عنده أعز من أن يجعل حكمهم إلى أحد من المخلوقين ، ولأنه أعلم بحالهم من غيرهم ولئلا يطلع على أحوالهم غيره لأنه خلقهم للمحبة والرحمة فينظر في شأنهم بنظر المحبة والرضا ، لأنه عفوّ يفيض العفو والجود فتحيا به القلوب الميتة فيسقي حدائق وصلهم بعد جفاف عودها وزوال المأنوس من معهودها ) فنخرج به زرعاً ( من الواردات التي تصلح لتربية النفوس وهي الأنعام ، ومن المشاهدات التي تصلح لتغذية القلوب. ويقول المنكرون لهذه الطائفة متى هذا الفتحر أي الفتوح التي تدعونها قل لا ينفعكم ذلك إذ لم تقتدوا بهم ولم تهتدوا بهديهم ) فأعرض عنهم ( أيها الطالب بالإقبال علينا وبالله التوفيق .(5/442)
" صفحة رقم 443 "
سورة الأحزاب
( سورة الأحزاب مدنية حروفها خمسة آلاف وسبعمائة وستة وتسعون كلمها ألف ومائتان وثمانون آياتها ثلاث وسبعون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الأحزاب : ( 1 - 20 ) يا أيها النبي . . . .
" يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما(5/443)
" صفحة رقم 444 "
هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا "
( القراآت )
بما يعملون خبيراً ( على الغيبة والضمير للمنافقين : أبو عمرو ) اللائي ( بهمزة بعدها ياء : حمزة وعلي وخلف وعاصم وابن عامر. بهمزة مكسورة فقط : سهل ويعقوب ونافع غير ورش من طريق النجاري وابن مجاهد وابن عون عن قنبل ) اللاي ( بياء مكسورة فقط : أبو عمرو وورش من طريق النجاري ويزيد وسائر الروايات عن ابن كثير وكذلك في ( المجادلة ) و ( الطلاق ) ) تظاهرون ( من المظاهرة عاصم ) تظاهرون ( بحذف إحدى تاءي الفاعل : حمزة وعلي وخلف. مثله ولكن بإدغام التاء في الظاء : ابن عامر الباقون ) تظهرون ( بتشديد الظاء والهاء ) بما يعملون بصيراً ( على الغيبة : أبو عمرو وعباس مخير ) وإذ زاغت ( مدغماً : أبو عمرو وعلي وهشام وحمزة في رواية ابن سعدان وخلاد وابن عمرو ) وزاغت ( ممالة : نصير وحمزة في رواية خلاد ورجاء ) الظنونا ( و ) الرسولا ( و ) السبيلا ( في الحالين : أبو عمرو ونافع وابن عامر وعباس والخراز وأبو بكر وحماد والمفضل. وقرأ أبو عمرو غير عباس وحمزة ويعقوب بغير ألف في الحالين. الباقون : بالألف في الوقوف وبغير ألف في الوصل ) لا مقام ( بضم الميم : حفص الآخرون : بفتحها. ) لأتوها ( مقصوراً من الإتيان : أبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون : بالمد من الإيتاء والإعطاء و ) يساءلون ( بإدغام التاء في السين من التفاعل : يعقوب الباقون ) يسألون ( ثلاثياً. الوقوف : ( والمنافقين ( ط ) حكيماً ( 5 ) ربك ( ط ) خبيراً ( 5 ) على الله ( ط ) وكيلاً ( ط 5 ) في جوفه ( ج فصلاً بين بيان الحالين المختلفين مع اتفاق الجملتين(5/444)
" صفحة رقم 445 "
) أمهاتكم ( ج لذلك ) أبناءكم ( ط ) بأفواهكم ( ط ) السبيل ( 5 ) عند الله ( ج للشرط مع العطف ) ومواليكم ( ط ) أخطأتم به ( لا لأن التقدير ولكن فيما تعمدت قلوبكم وكذا إن كان خب مبتدأ محذوف أي ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح وذلك للاستدراك ) رحيماً ( 5 ط ) أمهاتكم ( ط ) معروفاً ( 5 ) مسطوراً ( 5 ) عيسى ابن مريم ( ص للعطف ) غليظاً ( 5 ) صدقهم ( ج لأن الماضي لا ينعطف على المستقبل ولكن التقدير : وقد أعاد ) اليماً ( 5 ) تروها ( ط ) بصيراً ( 5 ج لاحتمال أن يكون المراد واذكر إذ جاؤكم ولا سيما على قراءة ) يعملون ( على الغيبة ) الظنونا ( ط ) شديداً ( 5 ) غروراً ( 5 ) فأرجعوا ( ج لظاهر الواو وإن كانت للاستئناف ) بعورة ( ط بناء على أن ما بعده ابتداء إخبار من الله ، ومن وقف على ) عورة ( وجعل ابتداء الإخبار من هناك لم يقف ) فراراً ( 5 ) يسيراً ( 5 ) الأدبار ( ط ) مسؤلاً ( 5 ) قليلاً ( 5 ) رحمة ( ط ) ولا نصيراً ( 5 ) إلينا ( ج لاحتمال كون ما بعده استئنافاً أو حالاً ) قليلاً ( لا لأن ما بعده حال ) عليكم ( ج لعطف الجملتين المختلفتين ) الموت ( ج فصلاً بين تناقض الحالين ) الخير ( ط ) أعمالهم ( ط ) يسيراً ( 5 ) لم يذهبوا ( ج ) أنبائكم ( ط ) قليلا ( 5. التفسير : لما أمره في آخر السورة المتقدمة بانتظار الفرج والنصر أمره في أول هذه السورة بأن لا يتقي غير الله ولا يطيع سواه. قال جار الله عن زر قال : قال أبي بن كعب : كم تعدون سورة الأحزاب ؟ قلت : ثلاثاً وسبعين آيو. قال : فوالذي يحلف به أبي بن كعب إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ، ولقد قرأنا منهخا آية الرجم ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ) إلى آخره. أراد أبي بن كعب أنها من جملة ما نسخ من القرآن. وأما من يحكى أن تلك الزيادة كانت ي صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليفات المبتدعة. ومن تشريفات الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه نودي في جميع القرآن بالنبي أو الرسول دون اسم كما جاء ) يا آدم ) [ البقرة : 35 ] ( يا موسى ) [ طه : 11 ] ( يا عيسى ) [ آل عمران : 55 ] ( يا داود ) [ ص : 26 ] وإنما جاء في الأخبار ) محمد رسول الله ) [ الفتح : 29 ] تعليماً للناس وتلقيناً لهم أنه رسول وجاء ) ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله ) [ الأحزاب : 40 ] ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) [ آل عمران : 144 ] ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد ) [ محمد : 2 ] لأن المقام مقام تعيين وتشخيص وإزالة اشتباه مع قصد أن لايكون القرآن خالياً عن بركة اسمه العلم وحيث لم يقصد هذا المعنى ذكره بنحو ما ذكره في النداء كقوله ) لقد جاءكم رسول ) [ التوبة : 128 ] ( النبي أولى بالمؤمنين ( ) لقد كان لكم في رسول الله أسوة ) [ الأحزاب : 21 ] والمراد بقوله ) اتق الله ((5/445)
" صفحة رقم 446 "
واظب على ما أنت عليه من التقوى ولو أريد الازدياد جاز لأن التقوى باب لا يبلغ آخره ولا يأمن أحد أن يصدر عنه مالا يوافق التقوى ولا يطابق الدعوى ولهذا جاء ) قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ ) [ الكهف : 110 ] يعني إنما يرفع عني الحجاب فينكشف لي الوحي ، وإذا أرخى لدي الستر فإني كهيئتكم. يروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام يهود قريظة والنضير وغيرهم وقد تابعه ناس منهم على انلفاق كان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم فنزلت. وروي أن أبا سفيان بن حرب وأشياعه قدموا المدينة أيام المصالحة فقالوا : يا رسول الله ارفض ذكر آلهتنما وندعك وربك ، فشق ذلك على المؤمنين فهموا بقتلهم فنزلت. أي اتق الله في نقض العهد. ) ولا تطع الكافرين ( من أهل مكة ) والمنافقين ( من أهل المدينةى فيما طلبوا إليك وكانوا يقولون له أن يعطوه شطر أموالهم إن رجع عن دينه. ) إن الله كان عليماً ( بالصواب ) حكيماً ( فيما أمرك به من عدم اتباع آرائهم وأهوائهم ، وحين نهاه عن اتباع الغي أمره باتباع ما هو رشد وصلاح وهو القرآن ، وبأن يثق الله وحده وقد ابتدر منه ( صلى الله عليه وسلم ) في حكاية زينب زوجة دعيه زيد ما ابتدر قال على سبيل المثل ) ما جعل الله لرجل من قلبين ( كأنه قال : يا أيها النبي اتق الله حق تقاته وهو أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله فإن المرء ليس له قلبان حتى يتقي بأحدهما الله وبالآخر غيره كما جاء في قصة زيد ) وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ( ث اراد ان يدفع عنه مقالة الناس بأنه تعالى لم يجعل دعي المرء ابنه فقدم على ذلك مقدمة وهي قوله وما جعل أزواجكمر إلى آخرها أي إنكم إذا قلتم لأزواجكم : أنت عليّ كظهر أمي لا تصير أماً بإجماع الكل ، أما في الإسلام فإنه ظهار لا يحرم الوطء كما سيجيء في سورة المجادلة. وأما ي الجاهلية فلأنه كان طلاقاً حتى كان يجوز للزوج أن يتزوج بها ثانياً. فكذلك قول القائل للدعيّ إنه ابني لا يوجب كونه ابناً فلا تصير زوجته زوجة الابن ، فلم يكن لأحد أنيقول في ذلك شيئاً ، فلم يكن لخوفك من الناس وجه ولو كان أمراً مخوفاً ما كان يجوز أن تخاف غير الله إذ ليس لك قلبان في الجوف. والفائدة في ذكر هذا القيد كافلائدة في قوله ) القلوب التي في الصدور ) [ الحج : 46 ] من زيادة التصوير للتأكيد. ومعنى ظَاهَرَ من امرأته قال لها : أنت علي كظهر أمي. كأنه قال : تباعدي مني بجهة الظهار. وعدى ب ( من ) لتضمين معنى التباعد. وإنما كنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي يقارب الفرج فكنوا عنه بالظهر الذي يلازمه لأنه عموده وبه قوامع. وقيل : إن إتيان المرأة في قبلها من جانب الظهر كان محذوراً عندهم زعماً منهم بأن الولد حينئذ يجيئ أحول ، فلقصد التغليظ شبهها المطلق منهم بالظهر ، ثم لم يقنع بذلك(5/446)
" صفحة رقم 447 "
حتى جعله ظهر أمه. والدعي ( فعيل ) بمعنى ( مفعول ) وهو المدعو ولد اشبه بفعيل الذي هو بمعنى ( فاعل ) كتقي وأتقياء فجمع على ( أفعلاء ). واعلم أن زيد بن حارثة كان رجلاً من قبيلة كلب سبي صغيراً فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله وهبته له وطلبه أبوه وعمه فخير فاختار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأعتقه وكانوا يقولون زيد بن محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقوله ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) [ الأحزاب : 40 ] وقيل : كان أبو معمر رجلاً من أحفظ العرب وكان يقال له ذو القلبين. وقيل : هو جميل الفهري كان يقول : إن لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد ، فأكذب الله قولهما وضربه مثلاً في الظهار والتبني. وقيل : سها في صلاته فقالت اليهود وأهل النفاق : لمحمد قلبان ، قلب مع اصحابه وقلب معكم. وعن الحسن : نزلت فيمن يقول : نفس تأمرني ونفس تنهاني ومعنى التنكير في ) رجل ( وزيادة من التسغراقية التأكيد كأنه قيل : ما جعل الله لنوع الرجال ولا لواحد منهم قلبين ألبتة ) ذلكم ( النسب ) قولكم بأفواهكم ( إذ ا أصل شرعاً لقول القائل : هذا بني : وذلك إذ كان معروف النسب حراً ، أما إذا كان مجهول النسب فإن كان حراً ثبت نسبه من المتنبي ظاهراً إن أمكن ذلك بحسب السن ، وإن كان عبداً له عتق وثبت النسب. وإن كان العبد معروف النسب عتق ولم يثبت النسب. ثم بين كا هو الحق والهدى عند الله فقال ) ادعوهم لآبائهم ( اي انسبوهم إليهم ) فإن لم تعلموا آباءهم ( فهم إخوانكم في الدين ومواليكم فقولوا : هذا أخي أو مولاي يعني الولاية في الدين. ثم رفع الجناح إذا صدر القول المذكور خطأ على سبيل سبق اللسان وكذا ما فعلوه من ذلك قبل ورود النهي. ويجوز أن يراد العفول عن الخطأ على طريق العموم فيتناول لعمومه خطأ النبي وعمده ) وكان الله غفوراً ( للخاطئ ) رحيماً ( للعامل ولا سيما إذا تاب. ثم إنه كان لقائل أن يقول : هب أن الدعي لا يسمى ابناً ، أما إذا كان لدعيه شيء حسن فكيف يليق بالمروءة أن تطمح عينه إليه وخاصة إذا كان زوجته فلذلك قال في جوابه ) النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ( والمعقول فيه أنه راس الناس ورئيسهم فدفع حاجته والاعتناء بشأنه أهم كما أن رعاية العضو الرئيس وحفظ صحته وإزالة مرضه أولى وإلى هذا أشار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) ويعلم من إطلاق الآية أنه أولى بهم من أنفسهم في كل شيء من أمور الدنيا والدين. وقيل : إن أولى بمعنى ارأف وأعطف كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) (5/447)
" صفحة رقم 448 "
( ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرؤوا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن هلك وترك مالا فلترثه عصبته من كانوا وان ترك ديناً أو ضياعاً أي عيالاً فإليَّ ) وكما رفع قدره بتحليل أزواج غيره له إذا تعلق قلبه باحداهن رفع شأنه بتحريم أزواجه على أمته ولو بعد وفاته فقال ) وأزواجه أمهاتهم ( أي في هذا الحكم فإنهن فيما وراء ذلك كالأجنبيات ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن. ومن كمال عناية الله سبحانه بأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن لم يقل وهو أب لهم وإن جاءت هذه الزيادة في قراءة ابن مسعود وإلا حرم زوجات المؤمنين عليه أبداً ، إلا أن يراد الأبوة والشفقة في الدين كما قال مجاهد : كل نبي فهو أبو أمته. ولذلك صار المؤمنون أخوة. قال النفسرون : كان المسلمون في صر الغسلام يتوارثون بالولاية ف يالدين وبالهجرة لا بالقرابة فنسخه الله بقوله ) وأولوا الأرحام ( الآية. وجعل التوارث بحق القرابة ومعنى ) في كتاب الله ( في اللوح أو في القرآن وهو هذه الآية وآية المواريث وقد سبق نظيره في آخر ( الأنفال ). وقوله ( من المؤمنين ( إما أن يتعلق ب ) ألو الأرحام ( أي القارب من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب ، وإما أن يتعلق ب ) أولى ( أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية الدينية ومن المهاجرين بحق الهجرة. ثم أشار إلى الوصية بقوله ) إلا أن تفعلوا ( أي إلا أن يسدوا ويوصلوا إلى أوليائهم في الدين وهم المؤمنون والمهاجرون معرةفاً براً بطريق التوصية. والحاصل أن القارب أحق من الأجانب في كل نفع من ميرااث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك إلا في الوصية فإنه لا وصية لوارث. قال أهل النظم : كأنه سبحانه قال : بينكم هذا التوارث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فلذلك جعلنا له بدل هذا أنه أولى في حياته بما في أيديكم ، أو لعله أراد دليلاً على قوله ) أولى بالمؤمنين ( فذكر أن أولي الأرحام بعضهم ألوى ببعض ، ثم لو اراد أحد براً مع صديقه صار ذلك الصديق أولى قريبه كأنه بالوصية قطع الإرث وقال : هذا مالي لا ينتقل مني غلا غلى من أريده ، فالله تعالى كذلك جعل لصديقه من الدنيا ما أراده. ثم ما يفضل منه يكون لغيره ) كان ذلك ( الذي ذكر في الايتين ) في الكتاب ( وهو القرآن أو اللوح ) مسطوراً ( والجملة مستأنفة كالخاتمة للأحكام المذكورة. ثم أكد الأمر بالتقاء بقوله ) وإذ أخذنا ( اي اذكر وقت أخذنا في الأزل ) من النبيين ميثاقهم ( بتبليغ الرسالة والدعاء غلى الدين القويم من غير تفريط وتوانٍ. وقد خصص بالذكر(5/448)
" صفحة رقم 449 "
خمسة لفضلهم وقدم نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) لأفضليته. وإنما قدم نوحاً في قوله ) شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أويحنا إليك ) [ الشورى : 13 ] لأن المقصود هنالك وصف دين الغسلام بالأصالة والاستفامة فكأنه قال : شرع لكم من الدين الصلي الذي بعث عليه نوح في العهد القديم ، ومحمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث ، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير. وإنما نسب الدين القديم إلى نوح لا إلى آدم لأن نوحاً كان أصلاً ثانيا للناس بعد الطوفان ، وخلق آدم كان كالعمارة ونبوته كانت إرشاداً للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب كما في زمن نوح والله أعلم. قال أهل البيان : اراد بالميثاق الغليظ ذلك الميثاق بعينه أي وأخذنا منهم بذلك المياق ميثاقاً غليظاً أي عظيماً وهو مستعار من وصف الأجرام. وقال آخرون : هو سؤالهم عما فعلوا في الإرسال كما قال ) ولنسألن المرسلين ) [ الأعراف : 6 ] وهذا لأن الملك إذا أرسل رسولاً وأمره بشيء وقبله كان ميثاقاً فإذا أعلمه بأنه يسال عن حاله في أفعاله وأقواله يكون تغليظاً في الميثاق عليه حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة ، وعلى هذا يحق أن يقال : قوله في سورة النساء ) وأخذت منكم ميثاقاً غليظاً ) [ الآية : 21 ] هو الإخبار بأنهم مسؤولون عنهن كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) ثم بين الغاية من إرسال الرسل فقال ) ليسأل الصادقن عن صدقهم ( الآية. وفيه أن عاقبة المكلفين إما حساب ةوإما عذاب لأن الصادق محاسب والكاذب معاقب كما قال علي رضي الله عنه : حلالها حساب وحرامها عقاب. فالصادقون على هذا التفسير هم الذين صدقوا عهدهم يوم الميثاق حين قالوا ) بلى ( في جواب ) الست بربكم ) [ الأعراف : 172 ] ثم أقاموا على ذلك في عالم الشهادة ، أو هم المصدقون للأنبياء فإن من قال للصادق صدقت كان صادقاً. ووجه آخر وهو أن يراد بهم الأنبياء فيكون كقوله ) ولنسألن المرسلين ) [ الأعراف : 6 ] وكقوله ) يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ) [ المائدة : 109 ] وفائدة مسألة الرسل تبكيت الكافرين كما مر. قال جار الله : قوله ) وأعد ( معطوف على أخذنا كأنه قال : أكد على النبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد أو على ما دل ليسأل كأنه قيل : فأثاب للمؤمنين وأعد للكافرين. وفيه وجه آخر عرفته في الوقوف. ثم أكد الأمر بالتقاء من الله وحده مرة أخرى فقال ) يا أيها الذين آمنوا اذكروا ( الآية. وذلك أن في وقعة الأحزاب اشتد الأمر على الأصحاب لاجتماع المشركين بأسرهم واليهود بأجمعهم ، فأمنهم الله وهزم عدوهم فينبغي أن لا يخاف العبد غير الله القدير(5/449)
" صفحة رقم 450 "
البصير. وذكروا في القصة أن قيرشاً كانت قد أقبلت في عشرة آلاف من أحزاببني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان وقد خرج غطفان في ألف ومن تابعهم من نجد وقائدهم عيينة بن حصن معامر بن الطفيل في هوازن وضامتهم اليهود من قريظة والنضير. وحين سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة أشار عليه بذلك سلمان الفارسي ، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالنساء أن يرفعوا في الآطام واشتد الخوف وظن المسلمون كل ظن ونجم النفاق من المنافقين حتى قال معتب بن قشير : كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا نقدر أن نذهب إلى الغائط. ومضى على افريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى أنزل الله النصر ، وذلك بأن ارسل على أولئك الجنود المتحزبة ريح الصبا في ليلة باردة شاتية فسفت التراب في وجوههم ) و ( أرسل ) جنوداً لم تروها ( وهم الملائكة وكانوا ألفاً فقلعوا الأوتاد وقطعوا الأطناب وأطفأو النيران وأكفأوا القدور وتفرقت الخيول وكثرت الملائكة في جوانب عسكرهم وقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا. ومعنى ) من فوقكم ( من أعلى الوادي من قبل المشرق وهم بنو غطفان ) ومن اسفل منكم ( من اسفل الوادي من قبل المغرب وهم قريش تحزبوا وقالوا : سنكون جملة واحدة حتى نستأصل محمداً. ومعنى زيغ الأبصار ميلها عن سننها واستوائها حيرة ، أو عدولها عن كل شيء إلا عن العدو فزعاً وروعاً. والحنجرة منتهى الحلقوم ، وبلوغ القلوب الحناجر إماا أن يكون مثلاً لاضطراب القلوب وقلقها وإن لم تبلغها في الحقيقة ، وإما أن يكون حقيقة لأن القلب عند الخوف يجتمع فيتقلص ويلتصق بالحنجرة وقد يفضي إلى ان يسد مخرج النفس فيموت وإنما جمع الظنون مع أن الظن مصدر لأن المراد أنواع مختلفة ، فظن المؤمنون الابتلاء والفتنة فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ، وظن المنافقون وضعاف اليقين الذين ي قلوبهم مرض وهم على حرف ما حكى الله عنهم وهو قوله ) ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ( كما حكينا عن معتب. ومن فوائد جمع الظن أن يعلم قطعا أن فيهم من أخطأ الظن فإن الظنون المختلفة لا تكون كلها صادقة. فأما أن تكون كلها كاذبة أو بعضها فقط والمقام مقام تقرير نتائج الخوف. ) وإذ قالت طائفة منهم ( كعبد الله بن أبي وأصحابه ويثرب اسم المدينة أو ارض وقعت المدينة في ناحية منها ) لا مقام لكم ( أي لاقرار لكم ولا مكان ههنا تقومون أو تقيمون فيه على القراءتين ، فارجعوا إلى المدينة واهربوا من عسرك رسول الله ، أو ارجعوا كفاراً واتركوا دين محمد وإلا فليست لكم يثرب بمكان ، ثم إن السامعين عزموا على الرجوع فاستأذنوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتعللوا بأن بيوتنا عورة أي ذات خلل لا يأمن أصحابها بها السراق على(5/450)
" صفحة رقم 451 "
متاعهم ، أو أنها معرضة للعدو فأكذبهم الله تعالى بقوله ) وما هي بعورة ( ثم أظهر ما تكن صدورهم فقال ) إن يريدون إلا فراراً ( ثم بين مصداق بقوله ) ولو دخلت ( اي المدينة عليهم من أقطارها أو دخلت عليهم بيوتهم من جوانبها وأكنافها ) ثم سئلوا الفتنة ( أي الارتداد والرجوع إلى الكفر وقتال المسلمين ) لآتوها ( والحاصل أنهم يتعللون بأعوار بيوتهم ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسل ولو دخلت عليهم هؤلاء العساكر المتحزبة التي يفرون منها مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها لأجل النهب والسبي ثم عرض عليهم الكفر ويقال لهم كونوا على المسلمين لتسارعوا غليه وما تعللوا بشيء. ويمكن أن يراد أن ذلك الفرار والرجوع ليس لأجل حفظ البيوت لأن من يفعل فعلاً لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله كمن يبذل المال كيلا يؤخذ منه بيته فإذا أخذ منه البيت لا يبذله ، فأكذبهم الله تعالى بأن الأحزاب لو دخلت بيوتهم وأخذوها منهم لرجعوا عن نصرة المسلمين فتبين أن رجوعهم عنك ليس إلا لكفرهم ومقتهم الإسلام. والضمير في قوله ) وما تلبثوا بها إلا يسيراً ( يرجع إلى الفتنة أي لم يلبثوا بإتيان الفتنة أو بإعطائها إلا زماناً يسيراً ريثما يكون السؤال والجواب أو لم يقيموها إلا قليلاً ثم تزول وتكون العاقبة للمتقين. ويحتمل عود الضمير غلى المدينة أي وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا قليلاً فإِن الله يهلكهم. قوله ) ولقد كانوا ( الآية. عن ابن عباس : عاهدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة العقبة أنيمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم. وقيل : هم قوم غابوا عن بدر فقالوا : لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن. وعن محمد بن إسحاق : عاهدوا يوم أحد أن لا يفروا بعد أن نزل فيهم ما نزل. ثم ذكر أن عهد الله مسؤول عنه وأن ما قضى الله وقدر من الموت حتف الأنف أو من القتل فهو كائن والفرار منه غير نافع ، ولئن فرض أن الفرار منه فتمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتع في مراتع الدنيا إلا زماناً قليلاً. عن بعض المروانية أنه مر بحائط مائل فأسرع فتليت له ذه الآية فقال : ذلك القليل نطلب. ثم أكد التقرير المذكور بقوله ) قل من ذا الذي يعصمكم ( الاية. قال جار الله : لا عصمة إلا من السوء فتقدير الكلام : من يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو من يصيبكم بسوء إن اراد بكم رحمة فاختصر الكلام كقوله متقلجاً سيفاً ورمحاً. اي ومعتقلاً رمحاً. أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع. والمعوقون الذين يمنعون الناس من نصرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهم المنافقون واليهود ) هلم إلينا ( معناه قربوا أنفسكم إلينا وقد مر في ( الأنعام ) في قوله ) قل هلم شهداءكم ) [ الآية : 15 ] وقوله ( ولا يأتون ( معطوف على ) القائلين ( لأنه في معنى الذين يقولون. وقوله ( إلا قليلاً ( أي إلا إتياناً قليلاً كقوله ) ما قاتلوا إلا قليلاً ( لقلة الرغبة. وعوز الجد والأشحة جمع شحيح قيل : معناه أضناء بكم أي(5/451)
" صفحة رقم 452 "
يظهرون الإشفاق على المسلمين قبل شدة القتال ، فإذا جاء الياس ارتعدت فرائصهم وتدور أعينهم كدوران عين من يغشى عليه من سكرات الموت. وقيل : اراد أنهم يبخلون بأموالهم وأنفسهم فلا يبذلونهما في سبيل الله ) فإذا ذهب الخوف ( وجمعت الغنائم ) سلقوكم ( أي بسطوا إليكم ألسنتهم قائلين وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم وبنا نصرتم وبمكانننا غلبتم عدوكم ، فهم عند البأس أجبن قوم وأخذلهم للحق ، وأما عند حيازة الغنيمة فأشحهم وأوقعهم والحداد جمع حديد ، وكرر اشحة لأن الأول مطلق والثاني مقيد بالخير وهو المال والثواب أو الدين أو الكلام الجميل. ) أولئك ( المنافقون ) لم يؤمنوا ( حقيقة وإن آمنوا في الظاهر ) فأحبط الله أعمالهم ( التي لها صورة الصلاح بأن أعلم المسلمين أحوال باطنم ) وكان ذلك ( الذي ذكر من أعمال أهل النفاق ) يسيراً ( على الله لا وزن لها عنده أو وكان ذلك الإحباط عليه سهلاً. قال في الكشاف : لأن أعمالهم حقيقة بالإحباط تدعو إليه الدواعي ولا يصرف عنه صارف. ويمكن أن يقال : إعدام الجواهر هين على الله فإعدام الإعراض ولا سيما بمعنى عدم اعتبار نتائجها أولى بأن يكون هيناً. ثم قرر طرفاً آخر من جبنهم وهو أنهم ) يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ( وقد ذهبوا فانصرف المنافقون إلى المدينة منهزمين بناء على هذا الحسبان. ومن جملة جبنهم وضعف احتمالهم أنه ) أن يأت الأحزاب ( كرة ثانية تمنوا ) أنهم بادون ( أي خارجون إلى اليد وحاصلون فيما بين الأعراب حذراً من عيان القتال فيكون حالهم إذ ذاك أنهم ) يسألون عن أخباركم ( قانعين من العيان بالأثر ومن الحضور بالخبر ) ولو كانوا فيكم ( ولم ينصرفوا إلى المدينة وكان قتال لم يقاتلوا ) إلا قليلاً ( إبداء للعذر على سبيل الرياء والضرورة. التأويل : ( اتق الله ( من التكوين وكان عليه السلام متقياً من الأزل إلى الأبد ، وكذا الكلام فيما يتلوه من النواهي والأوامر ) ما جعل اله لرجل من قلبين في جوفه ( لأن القلب صدف درة المحبة ومحبة الله لا تجتمع مع محبة الدنيا والهوى وغيرهما ، فالقلب واحد كما أن المحبة واحدة والمحبوب واحد ) وما جعل أزواجكم أ / هاتكم ( و ) وأدعياءكم أبناءكم ( فيه أن الحقائق لا تنقلب لا عقلاً ولا طبعاً ولا شرعاً ) وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ( من معرفة الأساب فإن النسب الحقيقي ما ينسب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه النسب الباقي كما قال ( كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي ) فحسبه الفقر ونسبه النبوة ) ولكن ما تعمدت قلوبكم ( بقطع الرحم عن النبوة بترك سنته وسيرته ) النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ( لأنهم لا يقتدرون على توليد أنسهم في النشأة الثانية كما لم يقدروا على توليد أنفسهم في النشأة الأولى ، وكان أبوهم أحق بهم من أنفسهم في توليدهم من صلبه وأزواجه وهن(5/452)
" صفحة رقم 453 "
قلوبهم أمهاتهم لأنه يتصرف في قلوبهم تصرف الذكور في الإناث بشرط كمال التسليم ليقع من صلب النبوة نطفة الولاية في ارحام القلوب ، وغذا حملوا النطفة صانوها عن الآفات لئلا تسقط بأدنى رائحة من روائح حب الدنيا وشهواتها فيرتدوا على أعقابهم. وبعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سائر أقارب الدين بعضهم أولى ببعض لأجل التربية ومن المؤمنين بالنشأة الأخرى والمهاجرين عن أوطان البشرية إلا إذا تزكت النفس بالأخلاق الحميدة وصارت من الأولياء بعد أن كانت من الأعداء فيعمل معها معروفاً برفق من الإزهاق ) وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ( في الأزل ) ومنك ( يا محمد أولاً بالحبيبية ) ومن نوح ( بالدعوة ومن إبراهيم بالخلة ومن موسى بالمكالمة ومن عيسى بن مريم بالعبدية ، وغلطنا الميثاق بالتأييد والتوثيق ) ليسأل الصادقين ( سؤال تشريف لا سؤال تعنيف. والصدق أن لا يكون في أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب ، ولا في اعتقادك ريب ، ومن أمارته وجود الإخلاص من غير ملاحظة المخلوق وتصفية الأحوال من غير مداخلة إعجاب ، وسلامة القول من المعاريض ، والتباعد عن التلبيس فيما بين الناس ، وإدامة التبري من الحول والقوة ، بل الخروج من الوجود الحقيقي ) إذ جاءتكم جنود ( الشياطين وصفات النفس الدنيا وزينتها ) من فوقكم ( وهي الآفات السماوية ) ومن أسفل منكم ( وهي المتولدات البشرية. أو ) من فوقكم ( وهي الدواعي النفسانية في الدماغ ، ) ومن أسفل منكم ( هي الدواعي الشهوانية ) فأرسلنا عليهم ريحاً ( من نكبات قهرنا ) وجنوداً لم تروها ( من حفظنا وعصمتنا ) وعاهدوا الله من قبل ( الشروع في الطلب أنهم لا يولون أدبارهم عند الجهاد مع الشيطان والنفس لإخوانهم وهم الحواس والجوارح كونوا أتباعاً لنا والله أعلم. تم الجزء الحادي والعشرون ويليه الجزء الثاني والعشرون وأوله : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. . ((5/453)
" صفحة رقم 454 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثاني والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
( الأحزاب : ( 21 - 40 ) لقد كان لكم . . . .
" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى(5/454)
" صفحة رقم 455 "
الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما "
( القراآت )
أسوة ( بضم الهمزة حيث كان : عاصم وعباس. الآخرون : بكسرها ) نضعف ( بالنون وكسر العين ) العذاب ( بالنصب : ابن كثير وابن عامر ، وقرأ أبو عمرو ويزيد ويعقوب بالياء المضمومة والعين مفتوح وبرفع العذاب. الآخرون : مثله ولكن بالألف من المضاعفة ) ويعمل صالحا يؤتها ( على التذكير والغيبة : حمزة وعلي وخلف وافق المفضل ف ) ويعمل ( الباقون : بتأنيث الأول وبالنون في الثاني. ) وقرن ( بفتح القاف : أبو جعفر ونافع وعاصم غير هبيرة. الباقون : بكسرها. ) ولا تبرجن ( ) أن تبدل ( بتشديد التاءين : البزي وابن فليح أن يكون على التذكير : عاصم وحمزة وعلي وخلف وهشام. ) وخاتم ( بفتح التاء بمعنى الطابع : عاصم. الباقون : بكسرها. الوقوف : ( كثيراً ( 5 لإبتداء القصة ) الأحزاب ( لا لأن ) قالوا ( جواب ( لما ) ) رسوله ( الثاني ز لاحتمال الاستئناف والحال أوجه ) وتسليما ( ط ) عليه ( ج لابتداء التفصيل مع الفاء ) ينتظر ( لا لاحتمال الحال وجانب الابتداء بالنفي أرجح ) تبديلا ( 5 لا إلا عند أبي حاتم ) عليهم ( ط ) رحيما ( 5 لا للآية لاحتمال كون ما بعده صفة أو استئنافاً ) شجرها ( ط ) مع الله ( ط ) يعدلون ( 5 ) حاجزاً ( ط ) مع الله ( ط ) لا يعلمون ( 5 ط ) خلفاء الأرض ( 5 ط ) مع الله ( ط ) ما تذكرون ( 5 ط ) رحمته ( ط ) مع الله ( ط ) يشركون ( ط ) والأرض ( ط ) مع الله ( ط ) صادقين ( 5 ) الا الله ( ط ) يبعثون ( 5 ) عمون ( 5. التفسير : القصة الرابعة قصة ثمود ، والفريقان المؤمن والكافر. وقيل : صالح وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد. والاختصام قول كل فريق الحق معي ، وفيه دليل على أن الجدال(5/455)
" صفحة رقم 456 "
في باب الدين حق. ومعنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة أنه تعالى قد مكنهم من التوصل إلى رحمة الله وثوابه فعدلوا إلى استعجال عذاب. وقال جار اله : خاطبهم صالح على حسب اعتقادهم وذلك أنهم قدروا في أنفسهم إن التوبة مقبولة عند رؤية العذاب فقالوا : متى وقعت العقوبة تبنا حينئذ ، فالسيئة العقوبة ، والحسنة التوبة ، و ( لولا ) للتحضيض أي هلا التوبة يجب أن تقدم على رؤية العذاب ولا يجوز أن تؤخر ، وفيه تنبيه على خطئهم وتجهيل لهم ) قالوا أطيرنا ( اي تشاء منا ) بك بومن معك ( وكانوا قد قحطوا ) قال طائركم ( أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم ) عند الله ( وهو قضاؤه وقدره أو اراد عملكم مكتوب عنده ومنه ينزل بكم العذاب. ومعنى التطير والطائر قد مر في ( الأعراف ) وفي ( سبحان ). ثم جزم بنزول العذاب بقوله ) بل أنتم قوم تفتنون ( أي تعذبون أو تختبرون أو يفتنكم الشيطان بوسوسة الطيرة. ثم حكى سوء معاملتكم مع نبيهم بقوله ) وكان في المدينة ( يعنى منزلهم المسمى بالحجر وكان بين المدنية والشام ) تسعة رهط ( لم يجمع المميز لأن الرهط في معنى الجمع وهو من الثلاثة إلى العشرة ، أو من السبعة إلى العشرة. وقد عدّ في الكشاف أسماءهم منهم قدار بن سالف عاقر الناقة ، وكانوا مفسدين لا يخلطون الإفساد بشيء من الإصلاح ومن جملة ) وتسليماً ( لقضائه. وقيل : هذا إشارة غلى ما أيقنوا من أن عند الفزع الشديد يكون النصر والجنة كما قال ) أم حستم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا ) [ البقرة : 214 ] إلى آخره. كان رجال من الصحابة نذروا أنهم إذا لقوا حرباً ثبتوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يستشهدوا ، فمدحهم الله تعالى بأنهم صدقوا ما عاهدوا أي صدقوا الله فيما عاهدوه عليه. ويجوز أن يجعل المعاهدة عليه مصدوقاً على المجاز كأنهم قالوا للمعاهد عليه : سنفي بك فإذا وفوا به صدقوه ) فمنهم من قضى نحبه ( أي نذره فقاتل حتى قتل كحمزة ومصعب ، وقد يقع قضاء النحب عبارة عن الموت لأن كل حي لا بد له من أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته. ) ومنهم من ينتظر ( الشهادة كعثمان وطلحة ) وما بدلوا تبديلاً ( ما غير كل من الفريقين عهده. وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرضى القلب فكأنه قال : صدق المؤمنون ونكث المنافقون ، فكان عاقبة الصادقين الجزاء بالخير بواسطة صدقهم ، وعاقبة أصحاب النفاق التعذيب إن شاء الله إلا أن يتوبوا. وإنما استثنى لأنه آمن منهم بعد ذلك ناس وإلى هذا أشار بقوله ) إن الله كان غفوراً رحيماً ( حيث رحمهم ورزقهم الإيمان ، ويجوز أن يراد يعذب المنافقين مع أنه كان غفوراً رحيماً لكثرة ذنبهم وقوة جرمهم لو كان دون ذلك لغفر لهم ) وردّ الله الذين كفروا ( وهم الأحزاب ملتبسين(5/456)
" صفحة رقم 457 "
) بغيظهم لم ينالوا خيراً ( أي غير ظافرين بشيء من مطالبهم التي هي عندهم خير من كسر أو أسر أو غنيمة. ) وكفى الله المؤمنين القتال ( بواسطة ريح الصبا وبإرسال الملائكة كما قصصنا ) وأنزل الذين ( ظارهوا الأحزاب ) من أهل الكتاب من صياصيهم ( والصيصية ما تحصن به ومنه يقال لقرن الثور والظبي ولشوكة الديك التي في ساقه صيصية لأن كلاً منها سبب التحصن به. روي أن جبرائيل عليه السلام أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزواب على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج فقال : ما هذا يا جبرائيل ؟ فقال : من متابعة قريش : فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال : يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عائد إليهم فإن الله داقهم دق البيض على الصفا ، وإنهم لكم طعمة. فأذن في الناس ان من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة ، فما صلى كثير من الناس العصر إلا هناك بعد العشاء الآخرة فحصارهم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : تنزلون على حكمي. فأبوا فقال : على حكم سعد بن معاذ فرضوا به ، فقال سعد : حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم ، فكبر رسول الله صلى الله عليه سولم وقال : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة ارقعة ثم أنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقاً فقدمهم وضرب أعناقهم وهم ثمانمائة إلى تسعمائة. وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير. وإنما قدم مفعول ) تقتلون ( لأن القتل وقع على الرجال وكانوا مشهورين ، وكان الاعتناء بحالهم أشد ولم يكن في المأسورين هذا الاعتناء بل بقاؤهم هناك بالأسر أشد لأنه لو قال و ( فريقبا تاسرون ) فإذا سمع السامع قوله ( وفريقاً ) ربما ظن أ ، ه يقال بعده يطلقون أو لا يقدرون على اسرهم ولمثل هذا قدم قوله ) وأنزل ( على قوله ) وقذف ( وإن كان قذف الرعب قبل الإنزال وذلك أن الاهتمام والفرح بذكر الإنزال أكثر. ) وأورثكم ارضهم ( التي استوليتم عليها ونزلتم فيها أولاً ) وديارهم ( التي كانت في القلاع فسلموها إليكم ) وأموالهم ( التي كانت في تلك الديار ) وأرضا لم تطؤها ( قيل : هي القلاع أنفسها. وعن مقاتل : هي خيبر. وعن قتادة : كنا نحدّث أنها مكة. وعن الحسن : فارس والروم. وعن عكرمة : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. وعن بعضهم : أراد نساؤهم وهو غريب. ثم أكد الوعد بفتح البلاد بقوله ) وكان الله على كل شيء قديراً ( قال أهل النظم : إن مكارم الأخلاق ترجع أصولها إلى أمرين : التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإليها الإشارة بقوله عليه السلام ( الصلاة وما ملكت أيمانكم ) ولما أرشد نبيه إلى القسم(5/457)
" صفحة رقم 458 "
الأول بقوله ) اتقِ الله ( أرشده إلى القسم الآخر وبدأ بالزوجات لأنهن أولى الناس بالشفقة ولهذا قدّمهنّ في النفقة. لنبن تفسير الآية على مسائل منها : أن التخيير هل كان واجباً على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أم لا ؟ فنقول : التخيير قولاً كان واجباً بالتفاق لأنه إبلاغ الرسالة ، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا. ومنها أن واحدة منهن لو اختارت الفراق هل كان يعتبر اختيارها فراقاً ؟ والظاهر أنه لا يعتبر فراقاً وإنما تبين المختارة نفسها بإبانة من جهة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لقوله ) فتعالين ( وعلى هذا التقرير فهل كان يجب على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الطلاق أم لا ؟ الظاهر الوجوب ، لأن خلف الوعد منه غير جائز بخلاف الحال فينا فإِنه لا يلزمنا الوفاء بالوعد شرعاً. ومنها أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره الظاهر نعم ليكون التخيير ممكناً لها من التمتع بينة الدنيا. ومنها أن المختارة لله ورسله هل يحرم طلاقها ؟ الظاهر نعم بمعنى أنه لو أتى بالطلاق لغوتب. وفي تقديم اختيار الدنيا غشارة إلى أنه كان لا يلتفت إليهن كما ينبغي اشتغالاً بعبادة ربه. وكيفية المتعة وكميتهات ذكرناهما شفي سورة البقرة. والسراح الجميل كقوله ) أو تسريح بإحسان ) [ الآية : 229 ] وفي ذكر الله والدار الآخرة مع ذكر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وفي قوله ) للمحسنات ( إشارات إلى أن اختيار الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) سبب مرضاة الله وواسطة حيازة سعادات الآخرة ، وأنه يوجب وصفهن بالإحسان. والمراد بالأجر العظيم كبره بالذات وحسنه بالصفات ودوامه بحسب الأوقات ، فان العظيم لا يطلق إلا على الجسم الطويل العريض العميق الذاهب في الجهات في الامتدادات الثلاثة ، وأجر الدنيا في ذاته قليل ، وفي صفاته غير خال معن جهات القبح كما في قوله من الضرر والثقل ، وكذلك في مشروبه وغيرهما من اللذات ومع ذلك فهو منغص بالنقطاع والزوال. ويروى أنه حين نزلت الآية بدأ بعائشة وكانت أحبهن غليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم اختار جميعهن اختيارها فشكر ذلك لهنّ الله فأنزل ) لا يحل لك النساء من بعد ) [ الأحزاب : 52 ] وروى أنه قال لعائشة إني ذاكر لك أمراً ولا عليك أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ثم قرأ عليها القرآن فقالت : أفي هذا استأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ثم قالت : لا تخبر أزواجك أني اخترتك فقال : إنما بعثني الله مبلغاً ولم يبعثني متعنتاً أما حكم التخيير في الطلاق فإِذا قال لها : اختاري. فقالت : اخترت نفسي. أو قال : اختاري نفسك فقالت : اخترت : لا بد من ذكر النفس في أحد الجانبين. وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه إذا كان في المجلس أو لم يشتغل بما يدل على الإِرعراض. واعتبر الشافعي اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية وهو مذهب عمر وابن(5/458)
" صفحة رقم 459 "
مسعود. وعن الحسن وقتادة والزهري : أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره. وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء بالاتفاق لأن عائشة اختارت رسول الله صلى الله عليه سول ولم يعد ذلك طلاقاً وعن علي رضي الله عنه مثله في رواية ، وفي أخرى أنه عد ذلك واحدة رجعية إذا اختارته ، وإذا اختارت نفسها فواحدة بائنة. وحين خيرهن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهدّدهن على الفاحشة التي هي أصعب على الزوج من كل ما تأتي به زوجته ، وأوعدهن بتخفيف العذاب لأن الزنا في نفسه قبيح ومن زوجة النبي أقبح ازدراء بمنصبه ، ولأنها تكون قد اختارت حينئذ غير النبي فلا يكون النبي عندها أولى من الغير ولا من نفسها ، وفيه إشارة غلى شرفهن فإن الحرة لشرفها كان عذابها ضعف عذاب الأمة. وأيضاً نسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادة إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم ، فكذلك زوجاته اللواتي هن أمهات المؤمنين. وليس في قوله ) من يأت ( دلالة على أن الإتيان بالفاحشة منهن ممكن الوقوع فإن الله تعالى صان أزواج الأنبياء من الفاحشة ولكنه في قوة قوله ) لئن أشركت ليحبطن عملك ) [ الزمر : 65 ] ( ولئن اتبعت أهواءهم ) [ البقرة : 120 ] وقوله ( منكن ( للبيان لا للتبعيض لدخول الكل تحت الإرادة. وقيل : الفاحشة أريد بها كل الكبائر. وقيل : هن عصيانهن رسول الله صلى الله عليه سولم ونشوزهن وطلبهن منه ما يشق عليه. وفي قوله ) وكان ذلك على الله يسيراً ( إشارة غلى أن كونهن نساء النبي لا يغني عنهن شيئاً ، كيف وإنه سبب مضاعفة العذاب ؟ وحين بين مضاعفة عقابهن ذكر زيادة ثوابهن في مقابلة ذلك. والقنوت الطاعة ، ووصف الرزق بالكرم لأن رزق الدنيا لا يأتي بنفسه في العادة وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار ، ورزق الآخرة بخلاف ذلك. ثم صرح بفضيلة نساء النبي بأنهن لسن كأحد من النساء كقولك : ليس فلان كآحاد الناس أي ليس فيه مجرد كونه إناسناً بل فيه وصف أخص يوجد فيه ولا يوجد في أكثرهم كالعلم أو العقل أو النسب أو الحسب. قال جار الله : أحد في الصل بمعنى واحد وهو الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث. والواحد وما وراءه. والمعنى ، إذا استقريت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن من جماعة واحدة تساويكن في الفضل. وقوله ( إن اتقيتن ( احتمل أن يتعلق بما قبله وهو ظاهر ، واحتمل أن يتعلق بما بعده أي ان كنتن متقيات فلا تجبن بقولكن خاضعاً ليناً مثل كلام المريبات ) فيطمع الذي في قلبه مرض ( أي ريبة وفجور. وحين منعهن من الفاحشة ومن مقدماتها ومما يجرّ إليها أشار إلى أن ذلك ليس أمراً بالإِيذاء والتكبر على الناس بل القول المعروف عند الحاجة هو المأمور به لا غير. ثم أمرهن بلزوم بيوتهن بقوله ) وقرن ((5/459)
" صفحة رقم 460 "
بفتح القاف أمر من القرار بغسقاط أحد حرفي التضعيف كقوله ) فظلتم تفكهون ) [ الواقعة : 65 ] واصله ( إقررنط. من قرأ بكسرها فهو أمر من قر يقر قراراً أو من قر يقر بكسر القاف. وقيل : المفتوح من قولك قار يقار إذا اجتمع. والتبرج إظهار الزينة كما مر في قوله ) غير متبرجات بزينة ) [ النور : 60 ] وذلك في سورة النور. والجاهلية الأولى هي القديمة التي كانت في أول زمن إبراهيم عليه السلام ، أو ما بين آدم ونوح ، أو بين إدريس ونوح ، أو في زمن داود وسليمان. والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) . وقيل : الأولى جاهلية الكفر ، والأخرى الفسق والابتداع في الإسلام. وقيل : إن هذه أولى ليست لها أخرى بل معناه تبرج الجاهلية القديمة ، وكانت المرأة تلبس درعاً من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. ثم امرهن أمراً خاصاً بالصلاة والزكاة ثم عاماً في جميع الطاعات ، ثم علل جميع ذلك بقوله ) إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ( فاستعار للذنوب الرجس ، وللتقوى الطهر. وإنما أكد إزالة الرجس بالتطهير لأن الرجس قد يزول ولم يطهر المحل بع و ) أهل البيت ( نصب على النداء أوة على المدح وقد مر في آية المباهلة أنهم أهل العباء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أصل ، وفاطمة رضي الله عنهما والحسن والحسين رضي الله عنهما بالاتفاق. والصحيح أن علياً رضي الله عنه منهم لمعاشرته بنت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ملازمته إياه. وورود الآية في شأن أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يغلب على الظن دخولهن فيهن ، والتذكير للتغليب. فإن الرجال وهم النبي وعلي وأبناؤهم غلبوا على فاطمة وحدها أو مع أمهات المؤمنين. ثم أكد التكاليف المذكورة بأن بيوتهن مهابط الوحي ومنازل الحكم والشرائع الصادرة من مشرع النبوة ومعدن الرسالة. ثم ختم الآية بقوله ) إن الله كان لطيفا خبيراً ( إيذاناً بأن تلك الأوامر والنواهي لطف منه في شأنهن وهو أعلم بالمصطين من عبيده المخصوصين بتأييده. يروى أن أم سلمة أو كل أزواج النبي صلى الله عليه ولم قلن : يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء فنحن نخاف أن لا يقبل منا طاعة فنزلت ) إن المسلمين والمسلمات ( وذكر لهن عشر مراتب : الأولى التسليم والانقياد لأمر الله ، والثانية الإيمان بكل ما يجب أن يصدّق به فإن المكلف يقول أولاً كل ما يقول الشارع فأنا أقبله فهذا إسلام ، فإذا قال له شيئاً وقبله صدق مقالته وصحح اعتقاده. ثم إن اعتقاده يدعوه إلى الفعل الحسن والعمل الصالح فيقنت ويعبد وهو المرتبة الثالثة ، ثم إذا آمن وعمل صالحاً كمل غيره ويأمر بالمعروف وينصح أخاه فيصدق في كلامه عند النصيحة وهو المراد بقوله ) والصادقين والصادقات ( ثم إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يصيبه أذى فيصبر عليه كما قال في قصة لقمان ) واصبر على ما أصابك ) [ الآية : 17 ] أي بسببه. ثم إنه إذا كمل في نفسه وكمل غيره قد يفتخر بنفسه(5/460)
" صفحة رقم 461 "
ويعجب بعبادته فمنعه منه بقوله ) والخاشعين والخاشعات ( وفيه إشارة غلى الصلاة لأن الخشوع من لوازمها ) قد أفلح المؤمنون الذي هم في صلاتهم خاشعون ) [ المؤمنون : 1 ، 2 ] فلذلك أردفها بالصدقة. ثم بالصيام المانع مطلقاً من شهوة البطن فضم إلى ذلك الحفظ من شهوة الفرج التي هي ممنوع منها في الصوم مطلقاً وفي غير الصوم مما وراء الأزواج والسراري. ثم ختم الأوصاف بقوله ) والذاكرين الله كثيراً ( يعني أنهم في جميع الأحوال يذكرون الله يكون إسلامهم وإيمانهم وقنوتهم وصدقهم وصومهم وحفظهم فروجهم لله. وإنما وصف الذكر بالكثرة في أكثر المواضع فقال في أوائل السورة ) لمن يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ( وقال في الآية ) والذاكرين الله كثيراً ( ويجيء بعد ذلك ) يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً ( لأن الإكثار من الأفعال البدنية متعسر يمنع الاشتغال ببعضها من الاشتغال بغيرها بحسب الأغلب ، ولكن لا مانع من أن يذكر الله وهو آكل أو شارب أو ماشٍ أو نائم أو مشغول ببعض الصنائع والحرف ، على أن جميع الأعمال صحتها أو كمالها بذكر الله تعالى وهي النية. قال علماء العربية : في الاية عطفان : أحدهما عطف الإناث على ال 1 ذكور ، والآخر عطف مجموع الذكور والإناث على مجموع ما قبله. والأول يدل على اشتراك الصنفين في الوصف المذكور وهو الإسلام في الأول والإيمان في الثاني إلى آهر الأوصاف ، والثاني من باب عطف الصفة على الصفة فيؤل معناه إلى أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم. وحين انجر الكلام من قصة زيد إلى ههنا عاد إلى حديثه ، قال الراوي : خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زينب بنت جحش وكانت أمهات أميمة بنت عبد المطلب على مولاه زيج بن حارثة فأبت وأبى أخوها عبد الله فنزلت ) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ( الآية. فقالا : رضينا يا رسول الله فأنكحها إياه وساق عنه المهر ستين درهماً وخماراً وملحفة ودرعاً وإزاراً وخمسين مداً من طعام وثلاثين صاعاً من تمر. وقيل : نزلت في أن كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي أول من هاجر من النساء وهبت نفسها للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : قد قبلت ، وزوّجها زيداً فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فزوّجها عبده ، وقال أهل النظم : إنه تعالى لما أمر نبيه أن يقول لزوجاته إنهن مخيرات فهم منه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يريد ضرر الغير فعليه أن يترك حق نفسه لحظ غيره ، فذكر في هذه الآية أنه لا ينبغي أن يظن ظانّ أن هوى نفسه متبع ، وأن زمام الاختيار بيد الإنسان كما في حق زوجات النبي ، بل ليس لمؤمن ولا مؤمنة أن يكون له اختيار عند حكم الله ورسوله ، فأمر الله هو المتبع وقضاء الرسول هو الحق ، ومن خالف الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ، لأن المقصود هو الله والهادي هو النبي ، فمن ترك المقصد(5/461)
" صفحة رقم 462 "
وخالف الدليل ضلا ضلالاً لا يرعوي بعده. ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبصر زينب ذات يوم بعد ما أنكحها زيدداً فوقعت في نفسه فقال : سبحان الله مقلب القلوب ، وذلك أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يردها أولاً ، لعلهأي لم يلده الخ تأمل ولو ارادها لاختطبها. وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لأجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إني أريد أن أفارق صاحبتي. فقال : ما لك أرى بك شيء منها ؟ قال : لا والله ما رأيت منها إلا خيراً ولكنها تتكبر عليّ لشرفها. فقال له : أمسك عليك زوجك واتق الله ثم طلقها بعد. فلما اعتدت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ما أجد أحداً أوثق في نفسي منك اخطب عليّ زينب. قال زيد : فانطلقت فإذا هي تخمر عجينها فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكرها فوليتها ظهري وقلت : يا زينب أبشري إن رسول الله يخطبك. ففرحت وقالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤمر ربي. فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوّجها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ودخل بها ، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها ، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار ولنرجع إلى ما يتعلق بتفسير الألفاظ. قوله ) للذي ( يعني زيداً ) أنعم الله عليه ( بالإيمان الذي هو أجل النعم وبتوفيق الأسباب حتى تبناه رسوله ) وأنعمت عليه ( أي بالإعتاق وبأنواع التربية والاختصاص. وقوله ( واتق الله ( أي في تطليقها فلا تفارقها. نهي تنزيه لا تحريم ، أو أراد اتق فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وإيذاء الزوج. الذي أخفى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في نفسه هو تعلق قلبه بها أو مودّة مفارقة زيد إياها أو علمه بأن زيداً سيطلقها. وعن عائشة لو كتم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية ، وذلك أن فيه نوع تخالف الظاهر والباطن في الظاهر وليس كذلك في الحقيقة ، لأن ميل النفس ليس يتعلق باختيار الآدمي فلا يلام عيه ، ولا هو مأمور بإبدائه. والذي أبداه كان مقتضى النصح والإشفاق والخشية والحياء من قالة الناس إن قلب النبي مال إلى زوجة دعيه فبهذا القدر عوتب بقوله ) والله أحق أن تخشاه ( فإِن حسنات الأبرار سيئات المقربين. فلعل الأولى بالنبيّ أن يسكت عن إمساكه حذراً من عقاب الله على ترك الأولى كما سكت عن تطليقه حياء من الناس. قال جار الله : الواوات في قوله ) وتخفى ( ) وتخشى ( ) والله ( للحال. ويجوز أن تكون للعطف كأنه قيل : وإذ تجمع بين قولك أمسك وإخفاء خلافه وخشية الناس ) والله أحق أن تخشاه ( حتى لا تفعل مثل ذلك. قوله ) فلما قضى زيد منها ( حاجته ولم يبق له يها رغبة وطلقها وانقضت عدتها ) زوّجناكها ( نفياً للحرج عن المؤمنين في مثل هذه القضية فإن الشرع كما يستفاد من قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يستفاد من فعله ايضاً ، بل الثاني يؤكد الأول. ألا ترى أنه لما ذكر ما فهم منه حل(5/462)
" صفحة رقم 463 "
ّ الضب ثم لم يأكل بقي في النفوس شيء ، وحيث أكل لحم الجمل طاب أكله مع أنه لا يؤكل في بعض الملل وكذلك الأرنب ، وقوله ( إذا قضوا منهن وطراً ( يفهم منه نفي الحرج عند قضاء الوطر بالطريق الأولى. عن الخليل : قضاء الوطر بلوغ كل حاجة يكون فيها همة وأراد بها في الآية الشهوة. وقيل : التطليق. فلا إضمار على هذا ) وكان أمر الله مفعولاً ( مكوناً لا محالة. ومن جملة أوامره ما جرى من قصى زينب ، ثم نزه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قالة الناس بقوله ) ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله ( أي قسم وأوجب ) له ( و ) سنة الله ( مصدر مؤكد لما قبله أي سن الله نفي الحرج سنة في الأنبياء الذين خلوا فكان من تحته أزواج كثيرة كداود وسليمان وسيجيء قصتهما في سورة ص. ومعنى ) قدراً مقدوراً ( قضاء مقضياً هكذا قاله المفسرون ولعل قوله ) وكان أمر الله مفعولاً ( إشارة إلى الضاء ، وهذا الأخير إشارة إلى القدر وقد عرفت الفرق بينهما مراراً. وفي قوله ) ولا يخشون أحداً إلا الله ( تعريض بما صرح به في قوله ) وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ( والحسيب الكافي للمخاوف أو المحاسب على الصغائر والكبائر فيجب أن لا يخشى إلا هو. ثم أكد مضمون الآي المتقدمة وهو أن زيداً لم يكن ابناً له فقال ) ما كان محمد أبا أحد ( فكان لقائل أن يقول : أما كان أباً للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم فلذلك قيل ) من رجالكم ( فخرجوا بهذا القدر من جهتين : إحداهما أن هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال ، وبهذا الوجه يخرج الحسن والحسين أيضاً من النفي لأنهما لم يكونا بالغين حينئذ. والأخرى أنه أضاف الرجال إليهم وهؤلاء رجاله لا رجالهم وكذا الحسن والحسين ، أو أراد الأب الأقرب. ومعنى الاستدراك في قوله ) ولكن رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) إثبات الأبوة من هذه الجهة لأن النبي كالأب لأمته من حيث الشفقة والنصيحة ورعاية حقوق التعظيم معه ، وأكهد هذا المعنى بقوله ) وخاتم النبيين ( لأن النبي إذا علم أن بعده نبياً آخر فقد ترك بعض البيان والإرشاد إليه بخلاف ما لو علم أن ختم النبوة عليه ) وكان الله بكل شيء عليماً ( ومن جملة معلوماته أنه لا نبي بعد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومجيء عيسى عليه السلام في آخر الزمان لا ينافي ذلك لأنه ممن نبئ قبله وهو يجيء على شريعة نبيناً مصلياً إلى قبلته وكأنه بعض أمته. التأويل : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة ( أي كان في الأول مقدراً لكم متابعة رسول الله صلى الله عليه ولم فتعلقت قدرتنا بإخراج أرواحكم من العدم إلى الوجود عقيب إخراج روح الرسول من العدم إلى الوجود ) أول ما خلق الله نوري أو روحي ( وبحسب القرب إلى روح الرسول والبعد عنه يكون حال الأسوة ، وكل ما يجري على الإنسان من بداية عمره إلى نهاية عمره من الأفعال والأقوال والأخلاق والأحوال. فمن كان يرجو الله كان عمله خالصاً لوجه(5/463)
" صفحة رقم 464 "
الله تعالى ، ومن كان يرجو اليوم الآخر يكون عمله للفوز بنعيم الجنان. وكل هذه المقامات مشروط بالذكر وهو كلمة ) لا إله إلا الله محمد رسول الله ( نفياً وإثباتاً ، وهما قدمان للسائرين إلى الله وجناحان للطائرين بالله. ) ولما رأى المؤمنون الأحزاب ( المجتمعين على إضلالهم واهلاكهم من النفس وصفاتها ، والدنيا وزينتها ، والشيطان واتباعه ) قالوا ( متوكلين على الله ) هذا ما وعدنا الله ورسوله ( أن البلاء موكل بالأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) من المؤمنين رجال ( يتصرفون في الموجودات تصرف الذكور في الإناث ) صدقوا ما عاهدوا الله عليه ( أن لا يعبدوا غيره في الدنيا والعقبى. ) فمنهم من قضى نحبه ( فوصل غلى مقصده ) ومنهم من ينتظر ( الوصول وهو في السير وهذا حال المتوسطين ) وكفى الله المؤمنين القتال ( بريح القهر أذهبت على النفوس فأبطلت شهواتها ، وعلى الشيطان فردت كيده ، وعلى الدنيا فأزالت زينتها. ) وأنزل الذين ظاهروهم ( أي أعانوا النفس والشيطان والهوى على القلوب من أهل الكتاب طالبي الرخص لأرباب الطلب المنكرين أحوال أهل القلوب ) من صياصيهم ( هي حصون تكبرهم وتجبرهم ، وأنزل وقعهم من حصون اعتقاد أرباب الطلب كيلا يقتدوا بهم ولا يغتروا بأقوالهم ، وقذف بنور قلوبهم في قلوب النفوس والشياطين الرعب ) فريقاً تقتلون ( وهم النفس وصفاتها والشيطان وأتباعه ) وتأسرون فريقاً ( وهم الدنيا وجاهها ) وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم ( لتنفقوا في سبيل الله وتجعلوها بذر مزرعة الآخرة ) وارضاً لم تطؤها ( يشير إلىمقامات وكمالات لم يلغوها فيبلغوها باستعمال الدنيا فإن ذلك بعد الوصول لا يضر لأنه يتصرف بالحق للحق. ) قل لأزواجك ( فيه إشارة إلى أن حب الدنيا يمنعهن من صحبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنهن محال النطفة الإنسانية الروحانية الربانية ، والأجر العظيم هو لقاء الله العظيم فمن أحب غير الله وإن كان الجنة نقص من الأجر بقدر ذلك إلا محبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأن محبة الجنة بالحظ دون الحق فيها ما تشتهي الأنفس ، ومحبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحق لا الحظ ) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [ آل عمران : 31 ] ومضاعفة العذاب سقوطهن عن قرب الله وعن الجنة كما أن إيتاء الأجر مرتين عبارة عن هذين ، وكان من دعاء السري السقطي : اللهم إن كنت تعذبني يشبء فلا تعذبني بذل الحجاب. والرزق الكريم رزق المشاهدات الرابنية يا نساء النبير هم الذين اسلموا أرحام قلوبهم لتصرفات ولاية الشيخ ليست أحوالهم كأحوال غيرهم من الخلق ) إن اتقيتن ( بالله من غيره ) فلا تخضعن بالقول ( لشيء من الدارين فإن كثيراً من الصادقين خضعوا بالقول لأرباب الدنيا الذين في قلوبهم مرض حب المال والجاه فاستجروهم ووقعوا في ورطة الهلاك والحجاب. فالقول المعروف وهو المتوسط الذي لا(5/464)
" صفحة رقم 465 "
يكون يه الميل الكلي إلى أهل الدنيا أصوب وإلى الحق أقرب. ) وقرن في بيوتكن ( من عالم الملكوت ) ولا تبرجن ( في عالم الحواس راغبين فيزينة كعادة الجهلة ) وأقمن الصلاة ( التي هي معراج المؤمن يرفع من الدنيا ويكبر عليها ويقبل على الله بالإعراض عما سواه ، ويرجع من مقام تكبر الإنسان إلى خضوع ركوع الحيوان ، ومنه إلى خشوع سجود النبات ، ثم إلى قعود الجماد فإنه بهذا الطريق أهبط إلى أسفل القالب فيكون رجوعه بهذا الطريق إلى أن يصل إلى مقام الشهود الذي كان فيه في ةالبداية الروحاينة ، ثم يتشهد بالتحية والثناء على الحضرة ، ثم يسلم عن يمينه على الآخرة وما فيها وعن شماله على الدنيا وما فيها. وإيتاء الزكاة بذل الوجود المجازي لنيل الوجود الحقيقي. الرجس لوث الحدوث ، والبيت لأهل الوحدة بيت القلب يتلى فيه آيات الواردات والكشوف. إن الذين استسلموا للأحكام الأزلية وآمنوا بوجود المعارف الحقيقية ، وقتنوا أي أغرقوا الوجود في الطاعة والعبودية ، وصدقوا في عهدهم وصبروا على الخصال الحميدة وعن الأوصاف الذميمة ، وخشعوا أي أطرقت سريرتهم عند بواده الحقيقة ، وتصدقوا بأموالهم وأعراضهم حتى لم يبق لهم مع أحد خصومة ، وصاموا بالإمساك عن الشهوات وعن رؤية الدرجات ، وحفظوا فروجهم في الظاهر عن الحرام وف يالباطن عن زوائد الحلال ، وذكروا الله بجميع أجزاء وجودهم الجسمانية والروحانية. ) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ( إذا صدر أمر المكلف أو عليه ، فإن كان مخالفاً للشرع وجب عليه الإنابة والاستغفار ، وإن كان موافقا للشرع فإن كان موافقا لطبعه وجب عليه الشكر ، وإن كان مخالفاً لطبعه وجب أن يستقبله بالصبر والرضا. وفي قوله ) والله أحق أن تخشاه ( دلالة على أن المخلصين على خطر عظيم حتى إنهم يؤاخذون بميل القلب وحديث النفس وذلك لقوة صفاء باطنهم ، فاللطيف أسرع تغيراً. ) فلما قضى زيد منها وطراً ( قضاء شهوته بين الخلق إلى قيام الساعة ) ما كان على النبيّ من حرج ( فيما فيه أمان هو نقصان في نظر الخلق فإنه كمال عند الحق إلا إذا كان النظر للحق ) ولكن رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) فيه أن نسبة المتابعين إلى حضرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كنسبة الابن إلى الأب الشفيق ولهذا قال ) كل حسب ونسب ينقطع إلاّ حسبي ونسبي (. ( الأحزاب : ( 41 - 73 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ولا تطع الكافرين(5/465)
" صفحة رقم 466 "
والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله(5/466)
" صفحة رقم 467 "
تبديلا يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما "
( القراآت )
ترجى ( بغير همز : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وحفص وخلف والأعشى والمفضل وعباس ) لا تحل ( بتاء التأنيث : أبو عمرو ويعقوب ) إناه ( بالأمالة وغيرها مثل ) الحوايا ( في ( الأنعام ) وافق الخزاز عن هبيرة ههنا بالإِمالة ) ساداتنا ( بالألف وبكسر التاء : ابن عامر وسهل ويعقوب وجبلة. الباقون : على التوحيد ) كبيراً ( بالباء الموحدة : عاصم وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الآخرون : بالثاء المثلثة. الوقوف : ( كثيراً ( لا ) وأصيلاً ( 5 ) النور ( ط ) رحيماً ( 5 ) سلام ( ج لاحتمال الجملة حالاً واستئنافاً ) كريماً ( 5 ) نذيراً ( لا ) منيراً ( 5 ) كبيراً ( 5 ) على الله ( ط ) وكيلاً ( 5 ) تعتدّونها ( ج لانقطاع النظم مع الفاء ) جميلاً ( 5 ) معك ( ج لاحتمال ما بعده العطف والنصب على المدح مع أن طول الكلام يرجح جانب الوقف ) يستنكحها ( ق للعدول على تقدير جعلناها خالصة ) المؤمنين ( 5 ) حرج ( ط ) رحيماً ( 5 ) إليك من تشاء ( ط لأن ما بعده واو استئناف دخل على الشرط ) عليك ( ط ) كلهن ( ط ) قلوبكم ( ط ) حلماً ( 5 ) يمينك ( ط ) رقيباً ( 5 ) اناه ( لا للعطف مع الإستدراك ) الحديث ( ط ) منكم ( ط فصلاً بين وف الخلق وحال الحق مع اتفاق الجملتين ) من الحق ( ط لإبتداء حكم آخر ) حجاب ( ط ) وقلوبهن ( ط ) أبداً ( ط ) عظيماً ( 5 ) عليماً ( 5 ) ايمانهنّ ( لا والوقف أجوز لتكون الواو للاستئناف ) واتقين الله ( ط ) شهيداً ( 5 ) النبيّ ( ط ) تسليما ((5/467)
" صفحة رقم 468 "
5 ) مهيناً ( 5 ) مبيناً ( 5 ) جلابيبهن ( ط ) يؤذين ( ط ) رحيماً ( 5 ) قليلاً ( 5 ج لأن قوله ) ملعونين ( يحتمل أن يكون حالاً أو منصوباً على الشتم ) ملعونين ( 5 ج لأن الجملة الشرطية تصلح وصفاً واستئنافاً ) تقتيلاً ( 5 ) قبل ( ط ) تبديلاً ( 5 ) الساعة ( ط ) عند الله ( ط ) قريباً ( 5 ) سعيراً ( لا ) أبداً ( ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف ) نصيراً ( 5 ج لاحتمال تعلق الظرف ب ) لا يجدون ( أو ب ) يقولون ( أو باذكر ) الرسولا ( 5 ) السبيلاً ( 5 ) كبيراً ( 5 ) قالوا ( ط ) وجيها ( 5 ) سديداً ( 5 لا ) ذنوبكم ( 5 ) عظيماً ( 5 ) الإنسان ( ط ) جهولاً ( 5 لا ) والمؤمنات ( ط ) رحيماً ( 5. التفسير : اعلم أن مبنى هذه السورة على تأديب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقد مر أنه سبحانه بدأ بذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبيّ مع الله وهو التقوى ، وذكر ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله فأمر بعد ذلك عامة المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين : وبدأ بما يتعلق بجانب التعظيم لله وهو الذكر الكثير ، وفيه لطيفة وهي أن النبيّ لكونه من المقربين لم يكن ناسياً فلم يؤمر بالذكر بل أمر بالتقوى والمحافظة عليها فإنها تكاد لا تتناهى. والتسبيح بكرة وأصيلاً عبارة عن الدوام لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين ويفهم منهما الوسط كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ولو أن أوّلكم وآخركم ) قال جار الله : خص التسبيح بالذكر من جملة الذكر لفضله على سائر الأذكار ففيه تنزيه عما لا يجوز عليه. ولقائل أن يقول : هذا لا يطابق قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أفضل الذكر لا إله إلا الله ) وجوّز أن يراد بالذكر الكثير الإقبال على العبادات كلها ، ويراد بالتسبيح الصلاة ، وبالوقتين العموم كما مر ، أو صلاة الفجر والعشاءين ، لأن أداءها أشق ومراعاتها أشد. ثم حرض المؤمنين على ذكره بأنه أيضاً يذكرهم والصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ، فلعله أراد باللفظ الشمترك كلا مفهوميه كما ذهب إليه الشافعي ، أو في الكلام حذف أي وملائكته تصلي ، أو المراد بصلاة الملائكة هي قولهم : اللهم صل على المؤمنين. جعلوا لاستجابة دجعوتهم كأنهم فعلوا الرحمة ، أو المراد القدر الشمترك وهو العناية بحال المرحوم والمستغفر له. وأصل الصلاة التعطف وذلك أن المصلي يتعطف في ركوعه وسجوده فاستعير لمن يتعطف على غيره وحنوّاً وترؤفاً. ثم بين غاية الصلاة وعهي إخراج المكلف من ظلمات الضلال إلى نور الهدى. وفي قوله ) وكان بالمؤمنين رحيماً ( بشارة لجميع المؤمنين وإشارة إلى أن تلك الرحمة لا تخص السامعين وقت الوحي. ومعنى(5/468)
" صفحة رقم 469 "
) تحيتهم يوم يلقونه سلام ( مذكور في أول ( يونس ) وفي ( إبراهيم ). واراد بيوم اللقاء يوم القيامة لأن الخلق مقبلون على الله بكليتهم بخلاف الدنيا. والأجر الكريم هو ما يأتيه عفواً صفواً من غير شوب نغص ، ثم أشار إلى ما ينبغي أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع عامة الخلق فقال ) إنا أرسلناك شاهداً ( وهي حال مقدرة أي مقبولاً قولك عند الله لهم وعليهم كما يقبل قول الشاهد العدل ، وفيه أن الله تعالى جعل النبي شاهداً على وجوده بل على وحدانيته لأن المدعي هو الذي يذكر شيئاً بخلاف الظاهر والوحدانية أظهر من الشمس فلا ينبغي أن يقال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مدع لها. بل يقال : إنه شاهد عليها كما قال ( على مثل الشمس فاشهد ) وإنه قد جازاه بشهادته لله شهادته على نبوته كما قال ) والله يشهد انك لرسوله ) [ المنافقون : 1 ] والحاصل أنه شاهد في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط ، وشاهد في الآخرة بأحوال الدنيا من الطاعة والمعصية وزالصلاح والفساد. وإنما قال ) وداعياً إلى الله بإذنه ( لأن الشهادة للمرء لا تفتقر إلى إذنه وكذلك الإنذار والتبشير إذا قال من يطع الملك أفلح ومن عصاه لم يربح. أما إذا قال : تعالوا إلى سماطه واحضروا على خوانه احتاج إلى رضاه. ويمكن أن يكون قوله ) بإذنه ( متعلقاً بمجموع الأحوال أي بتسهيله أو تيسيره. ووصف النبي عليه السلام بالسراج بأن ظلمات الضلال تنجلي به كما ينجلي ظلام الليل بالسراج ، وقد أمدّ الله بنور نبوته نور البصائر كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار. وإنما لم يشبه بالشمس لأن الشمس لا يؤخذ منه شيء ويؤخذ من السراج سرج كثيرة وهم الصحابة والتابعون في المثال ولهذا قال ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) وصفهم بالنجم لأن النجم لا يؤخذ منه شيء ، والتابعي لا يأخذ من الصحابي في الحقيقة وإنما يأخذ من النبيّ. ووصف السراج بالإنارة لأن السراج قد يكون فاتراً ومنه قولهم ( ثلاثة تضني : رسول بطيء ، وسراج لا يضيء ، ومائدة ينتظرها من يجيء ). ويجوز أن يكون سراجاً معطوفاً على الكاف ويراد به القرآن ، ويجوز أن يكون المعنى وذا سراج أو تالياً سراجاً. قوله ) ودع أذاهم ( أي خذ بظاهرهم وادفع عنهم الأسر والقتل وحسابهم على الله ، وإضافة أذاهم يحتمل أن يكون إلى الفاعل وإلى المفعول. ثم أمر المؤمنين بما يتعلق بجانب الشفقة على الخلق واكتفى بذكر الزوجات المطلقات قبل المسيس لأنه إذا لزم الإحسان إليهنّ بمجرد العقد وهو المراد بالنكاح ههنا ، فبالوطء يكون أولى وقد مر حمكهنّ في سورة البقرة. في قوله ) وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ) [ الآية : 237 ] وذلك لأجل تشطير الصداق. وإنما أعاد ذكرهن ههنا لبيان عدم وجوب العدّة عليهن. وتخصيص المؤمنات بالذكر دون الكتابيات إيذان بأنهن أولى بتخيرهن(5/469)
" صفحة رقم 470 "
للنطفة. وفي قوله ) ثم طلقتموهن ( تنبيه على أنه لا تفاوت في هذا الحكم بين قريبة العهد من النكاح وبين بعيدة العهد منه ، فإذا لم تجب العدّة على البعيدة العهد فلأن لا تجب على القريبة العهد أولى. وقد يستدل بكلمة ( ثم ) على أن تعليق الطلاق بالنكاح لا يصح لأن المعية تنافي التراخى. وفي قوله ) فما لكم عليهن ( دليل على أن العدة حق واجب للرجال على النساء وإن كان لا يسقط بإسقاط لما فيها من حق الله تعالى أيضاً. ومعنى ) تعتدونها ( تستوفون عددها تقول : عددت الدراهم فاعتدها نحو : كلته فاكتاله. ثم عاد إلى تعليم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . وفائدة قوله اللاتي آتيت أجورهنر وقوله ( مما أفاء الله عليك ( وقوله اللاتي هاجرن معكر هي أن الله تعالى اختار لرسوله الأفضل الأولى ، وذلك أن سوق المهر إليها عاجلاً أفضل من أن تمسيه وتؤجله. وكان التعجيل ديدن السلف ومن الناس من قال : ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يجب عليه إعطاء المهر لأن المرأة لها الامتناع إلى أن تأخذ مهرها ، والنبي عليه السلام لم يكن يستوفي مالا يجب له كيف وإنه إذا طلب شيئاً حرم الامتناع على المطلوب منه. والظاهر أن طالب الوطء ولا سيما في المرة الأولى يكون هو الرجل لحياء المرأة ، ولو طلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من المرأة التمكين قبل المهر لزم أن يجب وأن لا جيب ، ولا كذلك أحدنا. ومما يؤكد هذا قوله ) وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيّ ( ( صلى الله عليه وسلم ) يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها. والجارية إذا كانت سبية مالكها ومخطوبة سيفه ورمحه فإنها أحل وأطيب من المشتراة لكونها غير معلومة الحال. قال جار الله : السبي على ضربين : سبي طيبة وهي ما سبي من أهل الحرب ، وسبي خبيثة وهي ما سبي ممن له عهد ، فلا جرم قال سبحانه ) مما أفاء الله عليك ( لأن فيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث ، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أقاربه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه. وإنما لم يجمع العم والخال اكتفاء بجنسيتها مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع اجتماع أختين تحت واحد ، ولم يحسن الاقتصار في العمة والخالة لإمكان سبق الوهم إلى أن التاء فيهما للوحدة وشرط في استحلال الواهبة نفسها إرادة استنكاح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها. وفيه أنه لا بد من قبول الهبة حتى يتم النكاح ، وبه استدل أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة ، وحملها الشافعي على خصائص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن أبي الحسن الكرخي أن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز لقوله ) اللاتي آتيت أجورهن ( قال أبو بكر الرازي : لا يصح لأن الإجارة عقد مؤقت وعقد النكاح مؤبد. والظاهر أن ) خالصة ( حال من ) امرأة ( وقال جار الله : هي مصدر مؤكد كوعد الله أي خلص لك الإحلال خلوصاً. وفائدة هذا الحال على مذهب الشافعي ظاهرة. وقال أبو حنيفة : أراد بها أنها زوجته وهي من أمهات المؤمنين فأورد عليه(5/470)
" صفحة رقم 471 "
أن أزواجه كلهن خالصات له فلا يبقى لتخصيص الواهبة فائدة. وقوله ( قد علمنا ما فرضنا عليهم ( جملة اعتراضية معاها أن الله قد علم ما يجب على المؤمنين في حق الأزواج وفي الإماء على أي حدّ وصفة ينبغي أن يكون. ثم بين غاية الإحلال بقوله ) لكيلا يكون عليك حرج ( أي لئلا يكون عليك ضيق في دينك ولا في دنياك حيث أحللنا لك أصناف المنكوحات ) وكان الله غفوراً ( للذي وقع في الحرج ) رحيماً ( بالتوسعة والتيسير على عباده. ثم بيّن أنه أحل له وجوه المعاشرة بهن من غير إيجاب قسم بينهنّ ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أمته كالسيد المطاع فزوجاته كالمملوكات فلا قسم لهن. والإرجاء التأخير ، والإيواء الضم وهما خبران في معنى الأمر. ) ومن ابتغيت ممن عزلت ( يعني إذا طلبت من كنت تركتها ) فلا جناح عليك ( في شيء من ذلك وهذه قسمة جامعة للغرض لأنه إما أن يطلق وإما أن يمسك ، وإذا أمسك ضاجع أو ترك ، وإذا ضاجع قسم أو لم يقسم ، وإذا طلق أو عزل فإما أن يترك المعزولة أو يبتغيها. يروى أنه أرجأ منهن سودة وجحويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة وكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء ، وكانت ممن آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب. وروي أنه كان يسوّي مع ما خير فيه إلاّ سودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك. وقيل : أراد تترك تزوّج من شئت من نساء أمتك وتتزوّج من شئت. وعن الحسن : وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها. ومن قال : إن القسم كان واجباً مع أنه ضعيف بالنسبة غلى مفهوم الآية قال : المراد تؤخرهن إن شئت إذ لا يجب القسم في الأول ، وللزوج أن لا ينام عند أحد منهن ) ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ( في ذلك فابدأ بمن شئت وتمم الدور والأول أقوى. ثم قال ) ذلك ( التفويض غلى مشيئتك ) أدنى ( إلى قرّة عيونهن وقلة حزنهن وإلى رضاهّن جميعاً لأنه إذا لم يجب عليه القسم. ثم إنه يقسم بينهن حملهن ذلك على تلطفه وتخلصه. وفي قوله ) والله يعلم ما في قلوبكم ( وعيد لمن يرض منهن بما دبر الله له ) وكان الله عليما ( بذات الصدور ) حليماً ( مع ذلك لا يعاجل بالعقوبة فتحاً لباب التوبة. وقوله ( كلهن ( بالرفع تأكيد لنون يرضين ، وقرئ بالنصب تأكيداً لضمير المفعول في ) آتيتهن ( ثم إنه سبحانه شكر لأزواج رسول الله اختيارهن لله ورسوله فأنزل ) لا يحل لك النساء من بعد ( قال أكثر المفسرين : اي من بعد التسع المذكورة ، فالتسع نصاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الأزواج كما أن الربع نصاب أمته منهن. وإنه تعالى زاد في إكرامهن بقوله ) ولا أن تبدّل بهن ( أي ولا يحل لك أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً أخر بكلهن أو بعضهن ، وأكد النفي(5/471)
" صفحة رقم 472 "
بقوله ) من أزواج ( وفائدته استغراق جنس جماعات الأزواج بالتحريم. وذهب بعضهم غلى أن الاية فيها تحريم غيرهن ولا المنع من طلاقهنّ ، والمعنى لا يحل لك من النساء من بعد اللاواتي نص على إحلالهنّ من الأجناس الأربعة ، وأما غيرهنّ من الكتابيات والإماء بالنكاح والأعربيات والغرائب فلا يحل لك التزوّج بهن. وقوله ( ولا أن تبدل بهن ( منع من فعل الجاهلية وهو قولهم ( بادلني بامرأتك وابادلك بامرأتي ) فكان ينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه. يحكى أن عيينة بن حصن دخل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعنده عائشة من غير استئذان فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : يا عيينة أين الاستئذان ؟ فقال : يا رسول الله ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت. ثم قال : من هذه الجميلة إلى جنبك ؟ فقال : هذه عائشة أم المؤمنين. قال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق. فقال عليه السلام : إن الله قد حرم ذلك. فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول الله ؟ قال : أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه. وقوله ( ولو أعجبك حسنهنّ ( في موضع الحال أي مفروضاً إعجابك بهن. قال جار الله : والأظهر أن جوابه محذوف يدل عليه ما قبله وهو ) لا يحل ( وفائدة هذه الشرطية التأكيد والمبالغة. واستثنى ممن حرم عليه الإماء. وفي قوله ) وكان الله على كل شيء رقيباً ( تحذير من مجاوزة حدوده. واعلم أن ظاهر هذه الآية ناسخ لما كان قد ثبت له ( صلى الله عليه وسلم ) من تحريم مرغوبته على زوجها ، وفيه حكمة خفية ، وذلك أن الأنبياء يشتدّ عليهم برحاء الوحي في أوّل الأمر ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم يتحدثون مع أصحابهم فكان الحاجة إلى تفريغ بال النبي تكون في أوّل الأمر أكثر لو هي القوّة ولعدم إلفه بالوحي ، فإذا تكاملت قوّته وحصل إلفه بتعاقب الوحي لم يبق له الالتفات إلى غير الله فلم يحتج إلى إحلال التزوّج بمن وقع بصره عليها. وعن عائشة : ما مات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أحل له النساء. تعني أن الآية نسخت ، ونسخها إمّا بالسنة عند من يجوِّز نسخ القرآن بخبر واحد ، وأمّا بقوله ) إنا أحلنا لك ( وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف. ثم عاد إلى إرشاد الأمة ، وحالهم مع النيبّ إما حال الخلوة فالواجب هناك احترام أهله واشار إليه بقوله ) لا تدخلوا ( وإما حال الملأ فالوواجب وقتئذ التعظيم بكل ما أمكن وذلك قوله ) إن الله ولائكته ( كانوا يتحينون طعام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه فقيل : لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام إلا وقت الإذن أي مأذونين وإلا غير ناظرين إناه. وإنى الطعام إدراكه ، أنى الطعام إني نحو قلاه قلى. وقيل : أناه وقته فقد تلخص أن الإذن مشروط بكونه إلى طعام فلزم منه أن لا يجوز الدخول إذا لم يكن الإذن(5/472)
" صفحة رقم 473 "
إلى طعام كالدخول بالإذن لاستماع كلام مثلاً ، فأجيب بأن الخطاب مع قوم كانوا موصوفين بالتحين للطعام فمنعوا من الدخول في وقته من غير إذن. وجوز أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي لا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم فلا يكون منعاً من الدخول في غير وقت الطعام بغير الإذن والأوّل أولى. ولا يشترط في الإذن التصريح به إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قيل ) إلا أن يؤذن ( على البناء للمفعول ليشمل إذن الله وإذن الرسول أو العقل المؤيد بالدليل. وقوله ( فانتشروا ( للوجوب ولي كقوله ) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا ) [ الجمعة : 10 ] وذلك للدليل العقلي على أن بيوت الناس لا تصلح للمكث بعد الفراغ مما دعي لأجله ، وللدليل النقلي وذلك قوله ) ولا مستأنسين لحديث ( وهو مجرور معطوف على ) ناظرين ( أو منصور على الحال أي لا تدخلوها هاجمين ولا مستأنسين. يروى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أولم على زينب بتمر وسويق وشاة وأمر أنساً أن يدعو بالناس فترادفوا افواجاً غلى أن قال : يار سول الله دعوت حتى ما أجد أحد أدعوه. فقال : ارفعوا طعامكم وتفرق الناس وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون فأطالوا فقام رسول الله ليخرجوا فانطلق غلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم اهل البيت فقالوا : وعليك السلام يا رسول الله كيف وجدت أهلك ؟ وطاف بالحجرات فسلم عليهن ودعون له ورجع فإذا الثلاة جلوس يتحدّثون وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شديد الحياء وذلك قوله ) إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم ( اي من إخراجكمن فلما رأوه متولياً خرجوا فرجع فنزلت الآية ناهية للثقلاء أي يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدّثه به أو يستأنسون حديث اهل البيت واستماعه. ومعنى ) لا يستحي ( لا يمتنع ولا يترك كما مر في أول البقرة. والضمير في ) سألتموهن ( لنساء النبيّ بقرينة الحال. قال الراوي : إن عمر كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة وكان يقول : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت. والمتاع الماعون وما يحتاج إليه. وثاني مفعولي ) فاسألوهن ( محذوف وهو المتاع المدلول عليه بما قبله. ) ذلكم ( الذي ذكر من السؤال من وراء الحجاب ) أطهر ( لأجل قلوبكم لأن العين روزنة القلب ومنها تنشأ الفتنة غالباً. وروي أن بعضهم قال : نهينا أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد لأتزوجن فلانة عنى عائشة ، فأعلم الله أن ذلك محرم بقوله ) وما كان ( اي وما صح ) لكم أن تؤذوا رسول الله ( بوجه من الوجوه ) ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم ( الإيذاء والنكاح ) كان عند الله ( ذنباً ) عظيماً ( لأن حرمة الرسول ميتاً كحرمته حياً. ثم بين بقوله ) إن تبدوا شيئاً ( الآية. إنهم إن لم يؤذوه في الحال ولكن عزموا على(5/473)
" صفحة رقم 474 "
إيذائه أو نكاح أزواجه بعد فالله عالم بكل شيء فيجازيهم بحسب ذلك. ثم إنه لما أنزل الحجاب استثنى المحارم بقوله ) لا جناح عليهن ( أي لا إثم عليهن في ترك الاحتجاب من هؤلاء. قال في التفسير الكبير عند الحجاب : لما أمر الله الرجل بالسؤال من رواء الحجاب فيفهم كون المرأة محجوبة عن الرجل بالكريق الأولى ، وعند الاستثناء قال ) لا جناح عليهن ( فرفع الحجاب عنهن فالرجال أولى بذلك. وقدم الاباء لأن اطلاعهم على بناتهم أكثر فقد رأوهن في حالة الصغر ، ثم الأبناء ثم الأخوة ، وقدم بني الإخوة لأن بني الأخوات آباؤهم ليسوا بمحارم إنما هم أزواج خالات أبنائهم فقد يصف الابن خالته عند أبيه ففي ذلك نوع مفسدة فأوجبت التأخر عن رتبة المحرمية ، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين ، أو لأنهما قد يصفيان لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم. وقد يستدل بقوله ) ولا نسائهن ( مضافة إلى المؤمنات أنه لا يجوز التكشف للكافرات في وجه ، وأخر المماليك لأن محرميتهم كالأمر الضروري وإلا فالمفسدة في التكشف لهم ظارهة ولهذا عقبة بقوله ) واتقين ( فإن التكشف لهم مشروط بشرط سلامة العاقبة والأمن من الفتنة. ومنهم من قال : المراد من كان منهم دون البلوغ. قال جار الله : في نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قوله ) واتقين ( فضل التشديد وبعث على سلوك طريقة التقوى فيما أمرن به من الاحتجاب كأنه قيل : وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأتقن غير محتجبات ليفضل سركن علنكن. ثم أكد الكل بقوله ) إن الله كان على كل شيء شهيداً ( وفيه أنه لا يتفاوت في علمه ظاهر الحجاب وباطنه. ثم كمل بيان حرمة النبي بأنه محترم في الملأ الأعلى فليكن واجب الاحترام في املأ الأدنى ، وقد مر معنى الصلاة في السورة. وإنما قال هناك ) هو الذي يصلي عيكم وملائكته ( وقال ههنا ) ان الله وملائكته يصلون ( ليلزم نه تعظيم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : وذلك لأن إفراد الواحد بالذكر وعطف الغير عليه يوجب تفضيلاً للمذكور على المعطوف ، فكأنه سبحانه شرف الملائكة بضمهم مع نفسه بواسطة ضلاتهم على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . واستدل الشافعيك بقوله صلوا عليه سولموار وظاهر الأمر للوجوب أن الصلاة في التشهد واجبة وكذا التسليم لأنه لا يجب بالتفاق في غير الصلاة فيجب فيها. وذكر المصدر للتأكيد ليكمل السلام عليه وهو قول المصلي : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. ولم يؤكد الصلاة هذا التأكيد لأنها كانت مؤكدة بقوله ) إن الله وملائكته يصلون ( وسئل النبي كيف نصلي عليك يا رسول الله ؟ فقال : قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك(5/474)
" صفحة رقم 475 "
حميد مجيد. وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من صلى عليّ مرة صلى الله عليه عشراً ) ومن العلماء من أوجب الصلاة كلما جرى ذكره لما روي في الحديث ( من ذكرت عنده فلم يصل عليّ فدخل النار فأبعده الله ) ومنهم من أوجبها في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس ، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره. ومنهم من أوجبها في العمر مرة ، وكذا قال في إظهار الشهادتين. والأحوط هو الأول وهو الصلاة عليه عند كل ذكر ، وأما الصلاة على غيره فقد مر الخلاف فيها في سورة التوبة في قوله ) وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) [ الآية : 103 ] ثم رتب الوعيد على إيذاء الله ورسوله فيجوز أن يكون ذكر الله توطئة وتشريفاً وإعلاماً بأن إيذاء رسول الله هو إيذاء الله كقوله تعالى ) فاتبعوني يحببكم الله ) [ آل عمران : 31 ] ويجوز أن يراد بإيذاء الله الشرك به ونسبته إلى ما لا يجوز عليه. وعن عكرمة : هو فعل أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق كخلق الله. وقيل : أذى رسول اله قولهم إنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون. وقيل : طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حي ، والأظهر التعميم. وعن بعضهم أن اللعن في الدارين هو جزاء من يؤذي الله ، وإعداد العذاب المهين هو جزاء من يؤذي رسول الله ، ولعل الفرق لاغ. ثم رتب وعيداً آخر على إيذاء المؤمنين والمؤمنات ولكن قيده بقوله ) بغير ما اكتسبوا ( لأنه إذا صدر عن أحدهم ذنب جاز إيذاؤه على الوجه المحدود في الشرع ، ولعل المراد هو الإيذاء القولي لقوله ) فقد احتملوا بهتاناً ( يوحتمل ن يقال : احتمال البهتان سببه الإيذاء القولي ، واحتمال الإثم المبين سببه الإيذاء الفعلي ، ويحتمل أن يكون كلاهما وعيد الإيذاء القولي ، وإنما وقع الاكتفاء به لأنه أجرح للقلب ولا مكان الاستدلال به على الفعلي ، ولأن إيذاء الله لا يكون إلا بالقول إلا إذا جعل السجود لصنم غيذاء. قيل : نزلت في ناس من المنافقين كانوا يؤذون علياً رضي الله عنه. وقيل : في إفك عائشة. وقيل : في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات. ثم أراد أن يدفع عن أهل بيت نبيه وعن أمته المثالب التي هي مظان لصوق العار فقال ) يا أيها النبي ( الآية. ومعنى ) يدنين عليهن ( يرخين عليهن. يقال لمرأة إذا زل الثوب عن وجهها أدني ثوبك على وجهك. ومعنى التبعيض في ) من جلابيبهن ( أن يكون للمرأة(5/475)
" صفحة رقم 476 "
جلابيب فتقتصر على واحد منها ، أو أريد طرف من الجلباب الذي لها. وكانت النساء في أول الغسلام على عادتهن في الجاهلية متبذلات يبرزن في درع وخمار من غير فصل بين الحرة والأمة ، فأمرن بلبس الأردية والملاحف وستر الرأس والوجوه ) ذلك ( الإدناء ) أدنى ( وأقرب إلى ) أن يعرفن ( أنهن حرائر أو أنهن لسن بزانيات فان التي سترت وجهها أولى بأن تستر عورتها ) فلا يؤذين ( لا هن ولا رجالهن أقاربهن لأن أكثر الإيذاء والطعن إنما يتفق من جهة نساء العشيرة إذا كن مرئيات فضلاً عن كونهن مزينات ) وكان الله غفوراً ( لما قد سلف ) رحيماً ( حين ارشدكم إلى هذا الأدب الجميل. ولما أوعدهم بعذاب الآخرة خوّفهم بعقاب الدنيا قائلاً ) لئن لم ينته المنافقون ( عن الإيذاء ) والذين في قلوبهم مرض ( وهم الضعفة الإيمان أو الزناة وأهل الفجور ) والمرجفون ( في مدينة الرسول وهم الخائضون في أخبار السوء من غير حقيقة ، سمي بذلك لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت من الرجفة وهي الزلزلة. روي أن ناساً كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله يوقعون في الناس أنهم قتلوا أو هزموا وكانوا يقولون قد أتاكم العدوّ ونحو ذلك. ومعنى ) لنغرينك بهم ( لنسلطنك عليهم وهو مجاز من قولهم : أغريت الجارحة بالصيد. المراد لنأمرنك بأن تفعل ما يضطرهم إلى الجلاء ثم لا يساكنونك في المدينة غلا زمناً قليلاً ريثما يتأهبون فيرتحلون بأنفسهم وعيالهم. ومعنى ( ثم ) تراخي الرتبة كأنه يفعل بهم أفاعيل تسوءهم غلى أن يبلغ حد الاضطرار فيعجهمن ويجوز أن يكون ) قليلاً ( منصوب على الحال ايضاً ومعناه لا يجاورونك غلا أقلاء أذلاء ملعونين. وفي قوله ) لا يجاورونك ( عطف على جواب القسم كأنه قيل : إن لم ينتهوا لا يجاورونك ) سنة الله ( أي سنة الله في الدين ينافقون في الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا. وقال مقاتل : أراد كما قتل واسر أهل بدر ) ولن تجد لسنة الله تبديلا ( أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكانم لا في الأفعال والخبار. ثم إن المشركين واليهود كانوا يسألون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن وقت قيام الساعة استهزاء وامتحاناً فأمر نبيه أن يقول : إن ذلك العلم مما استأثر الله ولكنها قريبة الوقوع. ومعنى ) قريباً ( شيئاً قريباً أو يوماً أو زماناً. ثم أوعدهم بما أعدّ لهم من عذاب السعير. ومعنى تقليب وجوههم تصريفها في الجهات كاللحم يدار على النار حين يشوى ، أو تغييرها عن أحوالها ، أو تحويلها عن هيآتها ، أو نكسها علىرؤوسها. والوجه عبارة عن الجملة وخص بالذكر لأنه اشرف وأكرم ، وإذا كان الأشرف معرضاً للعذاب فالأخس أولى. ثم حكى أنهم يعترفون ويتمنون ولا ينفعهم شيء من ذلك ثم يطلبون بعض التشفي بالدعاء على من أضلهم. قوله ) ضعفين ( اي ضعفاً لضلالهم وضعفاً لإضلالهم. من قرأ ) لعناً كبيراً ( بالباء الموحدة فالمراد أشد اللعن وأفظعه ، ومن قرأ بالثاء المثلثة أراد تكثير عدد(5/476)
" صفحة رقم 477 "
اللعن وقد علموا أن العذاب حاصل فطلبوا ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب وكثرة اللعن أو عظمه. قوله ) لا تكونوا كالذين اذوا موسى ( قال المفسرون : نزلت في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من قالة بعض الناس. وإيذاء موسى هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذف موسى ، أو حديث الأدرة أو البرص الذي قرفوه بذلك ففر الحجر بثوبه حتى رأوه عرياناً وقد مر في ( البقرة ). وقيل : اتهامهم إياه بقتل هارون وكان قد خرج معه إلى الجبل فمات هناك فحملته الملائكة ومروا به عليهم ميتاً حتى أبصروه فعرفوا أنه غير مقتول ، أو أحياه الله عز وجل فأخبرهم ببراءة موسى ومعنى ) مما قالوا ( من مؤدى قولهم أو من مضمون مقولهم ) وكان عند الله وجيها ( ذا جاه ومنزلة فلذلك كان يذب ويدفع عنه المثالب والمطاعن كما يفعل الملك بمن له عنده قربة. وروي عن شنبوذ وكان عبداً لله. ثم أشار إلى ماينبغي أن يكون المؤمن عليه فقال ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ( والمعنى راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتقويم أمركم بسداد قولكم ، فبتقوى الله يصلح العمل وبصلاح العمل تكفر السيئات وترفع الدرجات. أمرهم أوّلاً بالتخلية وهي ترك الإيذاء وثانياً بالتحلية وهي التقوى الموجبة لتحصيل الأخلاق الفاضلة ، ثم علق الفوز العظيم بالطاعة المسماة بالأمانة في قوله ) إنا عرضنا الأمانة ( فقيل : العرض حقيقة. وقيل : أراد المقابلة أي قابلنا الأمانة بالسموات فرجحت الأمانة. والعرض أسهل من الفرض ولهذا كفر غبليس بالإباء ولك يكفر هؤلاء بالإباء لأن هناك استكباراً وههنا استصغاراً بدليل قوله ) وأشفقن منها ( وقد يقال : المضاف محذوف أي عرضناها على أهل السموات والأرض والجبال وإنما صير غلىهذا التكلف لاستبعاد طلب الطاعة من الجمادات ، ولم يستبعده أهل البيان لأن المراد تصوير عظم الأمانة وثقل حملها فمثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحالة المتحملة المفروضة لو عرضت على هذه الأجرام العظام. واعلم أن التكليف هو الأمر بخلاف ما في الطبيعة ، فهذا النوع من التكليف ليس في السموات والأرض والجبال لأن السماء لا يطلب منها الهبوط ، والأرض لا يطلب منها الصعود ولا الحركة ، والجبال لا يطلب منها السير ، وكذا الملائكة ملهمون بالتسبيح والتقديس. وسمي التكليف أمانة لأن من قصر فيه فعليه الغرامة ومن أداة فله الكرامة. فعرض الأمانة بهذا المعنى على هذه الأجرام وإباؤها من حملها هو عدم صلوحها لهذا الأمر ، أو المراد هو التصوير المذكور. وقد خص بعضهم التكليف بقول ( لا إله إلا الله ). والأظهر عندي أن الأمانة هي الاستعداد الذي جبل كل نوع من المخلوقات عليه ، وحمل الأمانة عبارة عن عدم أداء حقها كما يقال : فلان ركب عليه الدين. فكل من أخرج ما ي قوته إلى الفعل فهو مؤدٍّ للأمانة وقاضٍ حقها وإلا فهو حامل لها. ولا ريب أن(5/477)
" صفحة رقم 478 "
السموات مسخرات بأمر الله كل يجري لأجل مسمى ، والأرض ثابتة في مستقرها ، والجبال راسخة في أمكنتها ، وهكذا كل نوع من الأنواع مما يطول تعدادها وإليه الإشارة بقوله سبحانه ) وما منا إلا له مقام معلوم ) [ الصافات : 164 ] إلا الإنسان فإن كثيراً من الأشخاص بل أكثرهم مائلة إلى اسفل السافلين الطبع فلا جرم لم يقض حق الأمانة وانحط غلى رتبة الأنعام فوصف بالظلومية لأنه صرف الاستعداد في غير ما خلق لأجله ، وبالجهولية لأنه جهل خاصة عاقبة إفساد الاستعداد ، أو علمن ولم يعمل بعلمه فنفي عنه العلم لانتفاء ثمرته. فاللام في ) الإنسان ( للجنس وحمل الشيء على بعض الجنس يكفي في صدقه على الجنس. وفيه لطيفة أخرى مذكورة في تأويل آخر سورة البقرة. وذكروا في سبب الإشفاق أن الأمانة لا تقبل إما لعزتها ونفاستها كالجواهر الثمينة ، أو لصعوبة حفظها كالزجاج مثلاً ، وكلا المحذورين موجود في التكليف. وأيضاً كان الزمان نهب وغارة إذ العرض كان بعد خروج آدم من الجنة والشيطان وجنوده كانوا في قصد المكلفين والعاقل لا يقبل الوديعة في مثل ذلك الوقت. وأيضاً قد لا يقبل الأمانة لعسر مراعاتها ولاحتياجاتها إلى تعهد ومؤنة كالحيوان المحتاج إلى العلف والسقي والتكليف كذلك فإنه يحتاج إلى تربية وتنمية بخلاف مثتاع يوضع في صندوق أو بيت ، فهذه الشياء علمن ما في التكليف من التبعات وجهلها الإنسان فقبله فكان جهولاً ، وقد ظلم آدم نفسه بالمخالفة فكان ظلوماً وكذا أولاده الذين ظلموا أنفسهم بالعصيان وجهلوا ما عليهم من العقاب. واعتذر بعضهم عن الإنسان أنه نظر إلى جانب من كلفه وقال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها ، وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها وقال ) إياك نعبد وإياك نستعين ) [ الفاتحة : 4 ] وقيل : إنه كان ظلوماً جهولاً في ظن الملائكة حيث قالوا ) أتجعل فيها من يفسد فيها ) [ البقرة : 30 ] وقال الحكيم : المخلوقات على قسمين : مدرك وغير مدرك. والمدرك منه من يدرك الجزئي فقط كالبهائم تدرك الشعير وتأكله ولا تتفكر في عواقب الأمور ولا تنظر في الدلائل ، ومنه من يدرك الكلي دون الجزئي كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل ولهذا ) وقالوا سبحانك لا علم لنا ) [ البقرة : 32 ] فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات. ومنه من يدرك الأمرين وهو الإنسان له لذات بأمور جزئية فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية كلذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته. فغير الإنسان إن كان مكلفاً كان بمعنى كونه مخاطباً لا بمعنى الأمر بما فيه كلفة ومشقة. وفي قوله ) وحملها الإنسان ( دون أن يقول ( وقبلها ) إشارة إلى ما في التكليف من الثقل وإلى ما يستحقه عليه من الأدر لو حمله كما أمر وإلى حيث أمر وإلا غرم وجرم. ( لطيفة ). الأمانة عرضت على آدم فقبلها وكان أميناً عليها ، والقول قول الأمين فهو فائز. وأما أولاده فأخذوا الأمانة منه والآخذ من الأمين ليس(5/478)
" صفحة رقم 479 "
بمؤتمن بل ضامن ولهذا لا يكون وارث المودع مقبول القول فلم يكن له بد من تجديد عهد وإيمان حتى يصير أمينا عند الله ويصير القول قوله فيكون له ما كان لآدم من الفوز ، ولهذا ذكر ما فيه عاقبة حمل الأمانة قائلاً ) ليعذب ( إلى قوله ) ويتوب ( إشارة إلى الفريقين. ثم وصف نفسه بكونه غفوراً رحيماً بإزاء كون الإنسان ظلوماً جهولاً ولا يخفى ما في هذه الإشارة من البشارة. التأويل : ( اذكروا اله ذكراً كثيراً ( فمن أحب شيئاً أكثر ذكره. وأهل المحبة هم الأحرار عن رق الكونين والحرّ يكفيه الإشارة ) هو الذي يصلي ( أي لولا صلاتي عليكم لما وفقتم لذكري كما أنه لولا سابقة محبتي لما هديتم إلى محبتي ، فكان في الأزل بالمؤمنين رحيماً فلهذا أخرجهم في الأبد من ظلمة الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي ) إنا أرسلناك شاهداً ( لنا بنعت المحبوبية ) ومبشراً ( للطالبين برؤية جمالنا ) ونذيراً ( للبطالين عن كمال حسننا وحسن كمالنا ) وداعياً إلى الله بإذنه ( لا بطبعك وهواك ) وسراجاً منيراً ( في أوقات عدم الدعوة ، وذلك أن النظر إلى وجه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كافٍ لمن كان له قلب مستنير ، فإذا انضمت الدعوة غلى ذلك كان في الهداية غاية. ) وفضلاً كبيراً ( هو القلب المستنير. ) إنا أحللنا لك أزواجك ( لما اتصفت نفسه بصفات القلب وزال عنها الهوى اتصفت دنياه بصفات الآخرة فحل له في الدنيا ما يحل لغيره في الآخرة ) إن الله وملائكته يصلون ( صلاة تليق بتلك الحضرة المقدّسة مناسبة لحضرة النبوّة بحيث لا يفهم معناها غيرهما منها الرحمة ، ومنها المغفرة الواردة ، ومنها الشواهد ، ومنها الكشوف ، ومنها المشاهدة ، ومنها الجذبة ، ومنها القربة ، ومنها الشرب ، ومنها الري ، ومنها السكون ، ومنها التجلي ، ومنها الفناء في الله ، ومنها البقاء به ، وهكذا لأمته بحسب مراتبهم كقوله ) أولئك عليهم صلوات من ربهم ) [ البقرة : 157 ] ( إنا عرضنا الأمانة ( هي قبول اليض الإلهي بلا واسطة ولهذا سمي أمانة لأن الفيض من صفات الحق فلا يتملكه أحد. وقد اختص الإنسان بإصابة رشاش النور الإلهي فكان عرض الفيض عاماً على قلب المخلوقات ولكن كان حمله خاصاً بالإنسان لأن نسبة الإنسان إلى سائر المخلوقات نسبة القلب إلى الشخص ، فالروح يتعلق بالقلب ثم يصل فيضه بواسطة العروق والشرايين إلى سائر البدن فيتحرك به وهذا سر اله خلافة ) إنه كان ظلوماً ( لأنه خلق ضعيفاً وحمل قوياً ) جهولا ( لأنه ظن أنه خلق للمطعم والمشرب والمنكح ولم يعلم أن هذه الصورة قشر وله لب وللبه لب وهو محبوب الله. فبقوّة الظلومية والجهولية حمل الأمانة ثم بروحه المنوّر برشاش الله أدّى الأمانة فصارت الصفتان في حق حامل الأمانة ومؤدي حقها مدحاً ، وفي حق الخائنين فيها ذمّاً. ولما لم يكن لروح الملائكة(5/479)
" صفحة رقم 480 "
ولغيرهم من المخلوقات راحلة تحملها بالعزة أبين منها وأشفقن. فالمخاطبون إذن على ثلاث طبقات : طبقة يظهر فيها جمال صفة عدله وهم الملك والأجسام العلوية والسفلية سوى الثقلين لم يحملوا الأمانة وتركوا نفعها لضرها ، وطبقة يظهر فيها جمال قهره وهم المشركون والمنافقون حملوها طمعاً في نفعها ثم لم يؤدّوا حقها بأن باعوها بالأعراض الفانية ، والطبقة الثالثة المؤمنون وهم الذين حملوها طوعاً ورغبة وشوقاً ومحبة وأدّوا حقها بقدر وسعهم. ولكن الحكم لكل جواد كبوة يقع قدم صدقهم في حجر بلاء وابتلاء فيتوب الله عليهم بجذبات العناية وهم مرآة جمال فضله ولطفه الله حسبي ونعم الوكيل وبالله التوفيق .(5/480)
" صفحة رقم 481 "
سورة سبإ
( سورة سبأ وهي مكية حروفها ثلاثة آلف وخمسمائة واثنا عشر كلمها ثمانمائة وثلاث آياتها أربع وخمسون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( سبأ : ( 1 - 21 ) الحمد لله الذي . . . .
" الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق(5/481)
" صفحة رقم 482 "
ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ "
( القراآت )
عالم الغيب ( بالرفع : أبو جعفر ونافع وابن عامر ورويس. ) علام ( بالجر وبناء المبالغة : حمزة وعلي. الباقون ) عالم ( بالجر وبدون المبالغة. ) معاجزين ( بالألف وقد روي عن ابن كثير وأبي عمرو ) معجزين ( بالتشديد ) رجز أليم ( بالرفع صفة العذاب وكذلك في ( الجاثية ) : ابن كثير وحفص ويعقوب وجبلة. الآخرون : بالجر ) إن يشأ يخسف ( ) أو يسقط ( على الغيبة فيهما : حمزة وعلي وخلف. الباقون : بالتون ) نخسف بهم ( بإدغام الفاء في الباء : علي ) كسفاً ( بفتح السين : حفص غير الخزاز ) والطير ( بالرفع حملاً على لفظ المنادى : يعقوب غير رويس الآخرون : بالنصب حملاً على المحل أو لأنه مفعول معه أو معطوف على ) فضلاً ( بمعنى وسخرنا له الطير ) الريح ( بالرفع : أبو بكر وحماد والمفضل بتقدير : ولسليمان الريح مسخرة أو سخرات الريح له ) الرياح ( بالرفع أيضاً ولكن مجموعاً : يزيد. الباقون : موحداً منصوباً ) كالجوابي ( بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو وورش في الوصل ) عبادي الشكور ( يسكون الياء حمزة والوقف بالياء لا غير ) منساته ( بالألف : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن فليح وزيد عن يعقوب. وقرأ ابن ذكوان ساكنة الهمزة. الآخرون : بفتح الهمزة ) تبينت الجن ( على البناء للمفعول : يعقوب غير زيد ) سبأ ( غير مصروف : أبو عمرو والبزي ) سبأ ( بهمزة ساكنة : ابن مكجاهد وأبو عون عن قنبل ) سبأ ( بالألف : ابن فليح وزمعة والقواس غير ابن مجاهد وأبي عون ) مسكنهم ( بفتح الكاف : حمزة وحفص ، وبكسرها علي وخلق الباقون ) مساكنهم ( مجموعة ) بجنتيهم ( بضم الهاء : سهل ويعقوب ) أكل خمط ( بضم الكاف والإضافة : أبو عمرو وسهل ويعقوب. الآخرون : بالسكون والتنوين ) نجازي ( بضم النون وكسر الزاي ) إلا الكفور ( بالنصب : حمزة وعلي وخلف وحفص ويعقوب. الآخرون : بضم الياء وفتح الزاي وبرفع ) الكفور ( ) ربنا ( بالرفع ) باعد ( بلفظ(5/482)
" صفحة رقم 483 "
الماضي من المفاعلة : سهل. الآخرون : ( ربنا ( بالنصب على النداء ) باعد ( على الأمر. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام ) بعد ( أمراً من التبعيد ) صدّق ( بالتشديد : عاصم وعلي وخلف. الباقون : بالتخفيف أي صدق في ظنه أو صدق يظن ظناً نحو ( فعلته جهدك ). الوقوف : ( في الآخرة ( ط ) الخبير ( 5 ) فيها ( ط ) الغفور ( 5 ) الساعة ( ط ) لتأتينكم ( 5 لمن قرأ ) عالم ( بالرفع أي هو عالم ومن خفض جعله نعتاً لربي فلم يقف ) بالغيب ( ج لأن قوله ) لا يعزب ( يصلح حالاً واستئنافاً ) مبين ( 5 لا لتعلق اللام أبو حاتم يقف ) الصالحات ( ط ) كريم ( 5 ) أليم ( 5 ) الحق ( ج لأن قولهن ) ويهدي ( عطف على المعنى اي يحق قبوله ويهدي ) الحميد ( 5 ) ممزق ( ط لأن ما بعده في حكم المفعول لأنه مفعول ثان ل ) ينبئكم ( وإنما كسرت لدخول اللام في خبرها ) جديد ( 5 ج ) للآية ولاتحاد المقول ) جنة ( ( ط ) البعيد ( 5 ) الأرض ( ط ) السماء ( ط ) منيب ( 5 ) فضلاً ( ط ) والطير ( ج لأن ما يتلوه يصلح حالاً واستئنافاً ) الحديد ( 5 لا لتعلق ( أن ) ) صالحاً ( ط ) بصير ( 5 ) ورواحها شهر ( ط لأن قوله ) واسلنا ( عطف على محذوف أي وسخرنا لسليمان الريح ) القطر ( ط ) ربه ( ط ) السعير ( 5 ) راسيات ( ط ) شكراً ( ط ) الشكور ( 5 ) منسأته ( 5 ) المهين ( 5 ) آية ( ج لاحتمال أن يكون التقدير هي جنتان وأن يكون بدلاً من آية ) وشمال ( ط ) له ( ط اي لكم بلدة ) غفور ( 5 ) قليل ( 5 ) كفروا ( ط ) الكفور ( 5 ) السير ( ط ) آمنين ( 5 ) ممزق ( ط ) الشكور ( 5 ) المؤمنين ( 5 ) شك ( ط ) حفيظ ( 5. التفسير : قال في التفسير الكبير : السور المفتتحة بالحمد خمس : ثنتان في النصف الأول ( الأنعام ) و ( الكهف ) ، وثنتان في النصف الأخير هذه ( والملائكة ) والخامسة وهي ( الفاتحة ) تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير ، وذلك لأن المكلف له حالتان الإبداء والإعادة وفي كل حالة لله علينا نعمتان : نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فأشار في أوّل ( الأنعام ) غلى نعمة الإيجاد الأول بدليل قوله تعالى ) هو الذي خلقكم من طين ) [ الآية : 2 ] واشار في أوّل ( الكهف ) إلى إنزال الكتاب الذي به يتم نظام العالم ويحصل قوام معاش بني آدم ، وأشار في أوّل هذه السورة إلى نعمة الإيجاد الثاني بدليل قوله تعالى ) وله الحمد في الآخرة ( وأشار في أوّل سورة الملائكة غلى الإبقاء الأبدي بدليل قوله ) جاعل الملائكة رسلاً ) [ فاطر : 1 ] والملائكة بأجمعهم لا يكونون رسلاً إلا يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين على المسلمين كقوله ) وتتلقاهم الملائكة ) [ الأنبياء : 103 ] وقال تعالى في تحتهم ) سلام عليكم طبتم ) [ الزمر : 73 ] وفاتحة الكتاب حيث تشتمل على نعمة الدنيا بقوله ) الحمد لله(5/483)
" صفحة رقم 484 "
رب العالمين ) [ الفاتحة : 1 ] وعلى نعمة الآخرة بقوله ) مالك يوم الدين ) [ الفاتحة : 3 ] يقرأ في الافتتاح وفي الاختتام. واعلم أنه تعالى وصف نفسه في أول هذه السورة بأن له ما في السموات ةوما في الأرض إيذاناً بأنه كونه مالكاً لكل الأشياء يوجب كونه محموداً على كل لسان ، لأن الكل إذا كان له فكل من ينتفع بشيء من ذلك كان مستنفعاً بنعمه. ثم صرح بأن له الحمد في الآخرة تفضيلاً لنعم الآخرة على نعم الدنيا وإيذاناً بأنها هي النعمة الحقيقية التي يحق أن يحمد عليها ويثنى عليه ن أجلها مع إفادة الاختصاص بتقديم الظرف ) وهو الحكيم ( في الابتداء ) الخبير ( بالانتهاء. ثم أكد علمه بقوله ) يعلم ما يلج في الأرض ( أي يدخل فيها من المياه والحبات والكنوز والأموات ) وما يخرج منها ( من الشجر والنبات ومياه الآبار والجواهر والمعدنيات ) وما ينزل من السماء ( من الأمطار والأرزاق وأنواع البركات والوحي ) وما يعرج فيها ( من الملائكة وأعمال العباد. وقد اشار بقوله ) فيها ( دون أ ، يقول ( إليها ) إلى أن الأعمال الصالحة مقبولة والنفوس الزكية واصلة ، قد ينتهي الشيء إلى الشيء ولا ينفذ فيه ولا تصل به ) وهو الرحيم ( حين الإنزال ) الغفور ( وقت عروج الأعمال للمفرطين في الأقوال والأفعال. ثم بين أن نعمة الآخرة بإتيان الساعة الآخرة قد ينكرها قوم ثم رد عليهم بقوله ) بلى ( وأكد ذلك بقوله ) وربي ( ثم برهن على ذلك بقوله ) عالم الغيب ( لأن العالم بجميع الأشياء عالم بأجزاء الأحياء قادر على جمعها كما بدأها. وفي قوله ) لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ( إشارة إلى أن الإنسان له جسم أرضي وروح سماوي ، فالعالم بما في العالمين القادر على تأليفهما قادر على إعادتهما على ما كانا عليه. وإنما ذكر الأكبر مع أن الأصغر هو اللائق بالمبالغة لئلا يتوهم متوهم أن الصغار تثبت لكونها تنسى أما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته ، بل المراد أن الصغير والكبير مثبت في الكتاب وقد مر نظيره في ( يونس ). وقدم المسوات على الأرض موافقة لقوله ) له ما في السموات وما في الأرض ( بخلاف ( يونس ) فإن المخاطبين في الأرض فقدمت. ثم ذكر غاية الإعادة بقوله ) ليجزي ( إلى قوله ) من رجز أليم ( ومعنى ) سعوا في آياتنا ( أي في إبطال آياتنا معاجزين مريدين تعجيز النبيّ في التقرير والتبلي ، أو يعجزون من آمن بنا. وقيل : أي مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا. وقال ابن زيد : جاهدين وهو قولهم ) لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) [ فصلت : 26 ] وعن قتادة : الرجز سوء العذاب. وحين بين جزاء المؤمن الصالح وعمله والمكذب الساعي العجز علم منه حال غيرهما ، فالمؤمن الذي لم يعمل صالحاً يكون له مغفرة من غير رزق كريم ، والكافر غير المعاند يكون له عذاب وإن لم يكن من أسوأ أنواعه. ثم بين أن الذين أوتوا العلم لا يغترون بشبهات أهل العناد ويرون ما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هو الحق ليس الحق إلا هو(5/484)
" صفحة رقم 485 "
والنزاع غير لفظي حتى يمكن تصحيح قول المعاند بوجه. وأولو العلم هم اصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والتابعون لهم : وقيل : هم علماء أهل الكتابين الذين أسلموا. ويرى من فعل القلب مفعولاه الذي مع صلته والحق وهو فصل. وقيل : إن ) يرى ( معطوف على ) ليجزي ( فلا وقف على ) أليم ( أي ويعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علماً لا يزاد عليه في الإيقان ويحتجوا به على المعاند ، أو وليعلم من لم يؤمن من الأحبار أنه هو الحق فيزدادوا حسرة. والعزيز إشارة إلى كونه منتقماً من الساعين في التكذيب ، والحميد إشارة إلى أنه يشكر سعي من يصدق ويعمل صالحاً ، وقدم صفة الهيبة لأن الكلام مع منكري البعث. ثم قص عناد أهل قريش وخصهم بالتعجيب من حالهم لأنهم تجاهلوا حين قالوا على رجل مع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان عندهم أظهر من الشمس قصدوا بذلك الطعن والسخرية فأخرجوا الكلام مخرج الحكاية ببعض الأضحيك والأعاجيب كأن لم يكونوا قد عرفوا منه إلا أنه رجل ما. ومعنى ) مزقتم كل ممزق ( فرقت أوصالكم كل تفريق وجوّز جار الله أن يكون اسم مكان فمن الأموات ما حصل أجزاؤه في بطون الطير والسباع ، ومنها ما مرت به السيول فذهب به كل مذهب أو سفته الرياح فطرحته كل مطرح. والعامل في ( إذا ) ما دل عليه قوله ) إنكم لفي خلق جديد ( وهو تبعثون أو تخلقون ، ثم ازدادوا في التجاهل قائلين ) افترى على الله كذبا ( إن كان يعتقد خلافه ) أ به جنة ( إن كان لا يعتقد خلافه. وفيه أن الكافر لا يرضى بالكذب البحت فيردد كلامه بين الأمرين ولكن أخطأ ابن أخت خالته حين ترك قسماً ثالثاً وهو أنه عاقل صادق فلذلك ردّ الله عليهم بقوله ) بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ( جعل وقوعهم في العذاب رسلاً لوقوعهم في الضلال إذ العذاب من لوازم الظلال وموجباته قابل قولهم ) أفترى ( بالعذاب وقولهم ) به جنة ( بالضلال البعيد لأن نسبة الجنون إلى العاقل أقل مفي باب الإيذاء من نسبة الافتاء غليه. وقد أسقطت همزة الوصل في قوله ) أفترى ( استثقالا لاجتماع همزتين : همزة الاستفهام المفتوحة همزة الوصل المكسورة وهو على القياس. وجوز بعضهم أن يكون هذا الاستفهام من كلام السامع المجيب لمن قال : هل ندلكم. وحين قرر دليل الحشر من جهة كونه علام الغيوب أراد أن يذكر دليلاً آخر على ذلك من قبل كمال قدرته فقال ) أفلم يروا ( معناه أعموا فلم ينظروا ، خصت بالفاء وليس غيره في القرآن تعجيلاً للجواب وتعقيباً لحل الشبهة نظيره قوله ) أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ) [ يس : 81 ] ثم هدّدهم بأنه قادر على أن يجعل عين النافع ضاراً بالخسف وإسقاط الكسف. وقال جار الله : أراد فلم ينظروا(5/485)
" صفحة رقم 486 "
إلى السماء والأرض وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم لا يقدرون أن يخرجوا من أقطارهما فلم يخافوا أن يخسف الله بهم ، أو يسقط عليهم كسفاً لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. ) إن في ذلك ( النظر والاعتبار ) لآية لكل عبد منيب ( لأن الراجع إلى ربه قلما يخلو من الاعتبار والاستبصار. ثم ذكر من عباده المنيبين إليه داود وسليمان كما قال في ( ص ) ) فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب ) [ ص : 24 ] وقال في سليمان ) وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب ) [ ص : 34 ] وفي قوله ) منا ( تنويه بالفضل وشأنه. ثم بين الفضل بقوله ) يا جبال أوّبي ( لأن هذا القول نوع من إيتاء الفضل ، ويجوز أن يكون التقدير : قلنا يا جبال أوّبي أي رجعي معه التسبيح. قيل : كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائها والطير باصدائها ، وقد مر تحقيقه في سورة الأنبياء. والتأويب السير طول النهار والنزول ليلاً فكأنه قال : أوّبي النهار كله بالتسبيح معه. وفي خطاب الجماد غشعار بأنه ما من صامت ولا ناطق إلا وهو منقاد لمشيئته. وقد ألان الله له الحديد كالشمع أو لأن الحديد في يده لما أوتي من شدة القوة. و ( أن ) في قوله ) أن أعمل ( مفسرة لأن إلانة الحديد له في معنى الأمر بأن يستعمل. ) سابغات ( أي دروعاً وساعة وهي من الصفات التي غلبت عيها الاسمية حتى ترك ذكر موصوفها. والسرد نسج الدروع ومعنى التقدير فيه أن لا تجعل المسامير دقاقاً فتقلق ولا غلاظاً فتفصم الحلق. يروى أنه كان يخرج حين ملك بني إسرائيل متنكراً فيسال الناس عن نفسه ويقول لهم : ما تقولون في داود ؟ فيثنون عليه فقيض الله تعالى ملكاً في صورة آدمي فسأله على عادته فقال : نعم الرجل لولا خصلة فيه. فخاف داود فسأله فقال : لولا أنه يطعم عياله من بيت المال فطلب عند ذلك من الله أن يغنيه عن أكل بيت المال فعلمه صنعة اللبوس. وإنما اختار له ذلك لأنه وقاية للروح ويحفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل ، فالزرّاد هخير من القوّاس والسياف. وقيل : إن التقدير في السرد إشارة إلى أنه غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب يكون بقدر الحاجة إلى القوت وباقي اليوم والليلة للعبادة بدليل قوله ) واعملوا صالحاً ( اي لستم يا آل داود مخلوقين إلا للعمل الصالح فأكثروا منه وأما كسب القوت فاقتصدوا فيه. ثم أكد الفعل الصالح بقوله ) إني بما تعملون بصير ( فإن من يعلم أنه بمرأى من الملك اجتهد في حسن العمل وتزكية الباطن. ثم ذكر المنيب الآخر وهو سليمان ، وحكى ما استفاد هو بالإنابة وهو تسخير الريح له كالمملوك المنقاد لأمره ) غدوّها شهر ( أي جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك. يروى أن بعض أصحاب سليمان كتب في منزل بناحية دجلة : نحن نزلناه وما بنيناه ،(5/486)
" صفحة رقم 487 "
ومبنياً وجدناه غدونا من اصطخر فقلناه ، ونحن رائحون منه وبائتون بالشام إن شاء الله. ومن جملة معجزاته إسالة عين القطر ، والقطر النحاس أساله لأجله كما ألان الحديد لداود فنبع كما ينبع الماء من العين فلذلك سماه عين القطر. روي أنه كان يسيل في شهر ثلاثة أيام. زعم بعض المتحذلقين أن المراد من تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أ ، ها كانت تسبح كما يسبح كل شيء بحمده وكان هو عليه السلام يففقه تسبيحهم فيسبح. والمراد من تسخير الريح أنه راض الخيل وهو كالريح. وقوله ( غدوها شهر ( أي ثلاثون فرسخاً لأن الذي يخرج للتفرج لا يسير في العادة أكثر من فرسخ ثم يرجع. والمراد بإلانة الحديد وإسالة القطر أنهم استخرجوا الحديد والنحاس بالنار واستعمال آلاتها. والمراد بالشياطين ناس أقوياء. ولا يخفى ضعف هذه التأويلات فإن قدرة الله في باب خوارق العادات أكثر وأكمل من أن تحتاج إلى هذه التكلفات. وقال في التفسير الكبير : الجبال لما سبحت تشرفت بذكر الله فلم يضفها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب ، والريح لم يذكر فيها أنها سبحت فجعلها كالمملوكة. أو نقول : الجبل في السير ليس أصلاً بل هو يتحرك معه تبعاً ، والريح لا تتحرك مع سليمان بل تتحرك مع نفسها فلم يقل الريح مع سليمان بل سليمان كان مع الريح. وههنا نكتة وهي أن اله تعالى ذكر ثلاثة أشياس في حق داود وثلاثة في حق سليمان. لعله كالمصروف عن جهته تأمل فالجبال المسخرة لداود من جس تسخير الريح لسليمان : إذ كل منهما ثقيل مع خفيف ، فالجبال أثقل من الآدمي والآدمي أثقل من الريح. وأيضاً تسخير الطير من جنس الجن فإن الطير تنفر من الآدمي والآدمي يتقي مواضع الجن والجن تطلب ابداً اصطياد الناس والإنسان يطلب اصطياد الطير. وإلانة الحديد شبيهة بإسالة القطر. وفي قوله ) بإذن ربه ( إشارة إلى أن حضور الجن بين يديه كان مصلحة له لا مفسدة. وفي قوله عن أمرنار دون أن يقول ( عن أمر ربه ) إشارة إلى أن الجن كانوا بصدد التعذيب عند زيغهم عن أمر الله ، فإن لفظ الرب ينبئ عن الرحمة ، وصيغة جمع المتكلم في مقام الوحدة ينبئ عن الهيبة. قال ابن عباس : عذاب السعير عذاب الآخرة. وعن السدي : كان معه ملك بيده سوط من النار كلما استعصى عليه الجنيّ ضربه من حيث لا يراه الجني. ثم فصل عمل الجن بقوله ) يعملون له ما يشاء من محاريب ( وهي المساجد والمجالس الرفيعة الشيرفة المصونة عن الابتذال وقد مر في ( آل عمران ). والتماثيل صور الملائكة والنبيين كان يأمر بأن تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم. عن أبي العالية : لم يكن اتخاذ الصور في تلك الشرائع محرماً ولعلها صور غير الحيوان من الأشجار ونحوها. ويروى أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ، ، ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا(5/487)
" صفحة رقم 488 "
قعد أظله النسران بأجنحتهما. وحين فرغ من تقرير مسكنه ونقوشه شرع في تقرير آلات مجلسه فقدم 1 كر الجفان التي بها تظهر عظمة السماط الممدود منه. والجفنة القصعة الكيبرة ، والجوابي الحياض الكبار ، لأن الماء يجبى فيها اي يجمع جعل الفعل لها مجازاً وهي من الصفات الغالبة كالدابة ، وكان يقعد على الجفنة ألف رجل. وحين ذكر الجفان كان يقع في النفس أ ، هذه الأطعمة كيف تكون قدروها فذكر أنها قدور راسيات تابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها. ويعلم من تقرير قصتي داود سليمان أن اشتغال داود بآلة الحرب أكثر لأنه قتل جالوت ، ثم أراد تسوية الملك والغلبة على الجبابرة ، وأما في زمن سليمان فالملك قد استوى ولم يكن على وجه الأرض أحد يقاومه وكان يفرق الأموال في الإطعام والإنعام. ثم بين بقوله ) اعملوا آل داود شكراً ( أن الدنيا عرض زائل وإن كان ملك سليمان فعلى العاقل أن يصرف همته في طلب الآخرة. وانتصب ) شكراً ( على أنه مفعول له أو حال أي شاكرين ، أو مصدراً لأن ) اعلموا ( في معنى الشكر ، أو مفعول به لأن الشكر عمل صالح. وقال جار الله : إنه على طريق المشاكلة ومعناه إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكراً. قلت : وفي لفظ العمل إشارة إلى أن الشكر اللساني غير كافٍ وإنما المعتبر الشكر الفعلي أو هو مع القولي. يروى أن داود عليه السلام جزّاً ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي. والشكور هو المتوفر على آداء الشكر الباذل وسعه فيه بالقلب واللسان والجوارح في أكثر الأوقات والأحوال وإنهم لقليل فلذلك قال بعضهم : اللهم اجعلني من الأقلين. وهذا الشكر القليل إنما هو بقدر الطاقة البشرية وأما الذي يناسب نعم الله فلن يقدر الإنسان عليه إلا أن يقول الله : عبدي ما أتيت به من الشكر قبلته منك مع قلته وكتبتك شاركاً لأنعمي بأسرها ، وهذا القول نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها. وحين بين عظمة سليمان وتسخير الريح والجن له ، بين أنه لم ينج من ا لموت وأنه قضى عليه الموت ولو نجا أحد منه لكان نبي الله أولى بذلك. يروى أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس فمات قبل أن يتمه ، فوصى به غلى سليمان فأمر الشياطين بإتمامه ، وكان من عادته أن يعتكف فيه أحياناً. فلما دنا أجله لم يصبح غلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله عز وجل فيسألها لأي شيء أنت ؟ فتقول : لكذا حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة فسألها لأيّ شيء أنت ؟ فقالت : لخراب هذا المسجد. فقال : ما كان الله ليخربه وأنا حيّ. فقال : اللهم عمّ على الجن موتي حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب. وقال لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني. فقال :(5/488)
" صفحة رقم 489 "
أمرت بك وقد بقيت في عمرك ساعة. فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب ؟ فقام يصلي متكئاً على عصاه فقبض روحه فبقي كذلك وظن جنوده أنه في العبادة فكانوا يواظبون على الأعمال الشاقة إلى أن أكلت الأرضة عصاه فخرّ ميتاً وذلك بعد سنة. والأرض مصدر أرضت الخشبة أرضاً إذا أكلتها الأرضة. والمنسأة العصا لأنه ينسأ بها أي يطرد ويؤخر ، وقديترك همزها. وقرئ ) من سأته ( أي طرف عصاه سميت بسأة القوس على الاستعارة. وتبينت بمعنى ظهرت ( وأن ) مع صلتها بدل من الجن بدل الاشتمال على نحو قولك ( تبين زيد جهله ) أو هو بمعنى علمت أي علم الجن كلهم بعد التباس الأمر على عامتهم أن كبارهم لا يعلمون الغيب وكان ادعاؤهم ذلك من قبل زوراً. أو المراد التهكم بهم وأن الذين ادعّوا منهم علم الغيب اعترفوا بعجزهم مع أنهم كانوا من قبل عارفين عجزهم كما لو قلت لمدعي الباطل إذا دحضت حجته : هل تبينت أنك مبطل. وأنت تعلم أنه لم يزل متبيناً لذلك. وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة ، ملك وهو ابنثلاث عشرة وبقي في ملكه إلى أن مات ، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. ولما بين حال الشاكرين لأنعمه ذكر حال من كفر النعمة. وسبأ بصرف بناء على أنه اسم للحي أو الأب الأكبر ، ولا يصرف بتأويل القبيلة وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ثم سميت مدينة مأرب بسبأ ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث. من قرأ ) مساكنهم ( فظاهر. ومن قرأ على التوحيد فالمراد مسكن كل واحد منهم أو موضع سكانهم وهو بلدهم وأرضهم. عن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام. ومعنى كون الجنيتن آية أنه جعل قصتهما عبرة لأهل الكفرا ، أو علامة دالة على الصانع وكمال اقتداره ووجوب شكره. قال جار الله : لم يرد بستانين اثنين فحسب وإنما أراد جماعيتن من البساتين : جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها ، كأن كل واحد من الجماعتين في تقاربها وتضامها جنة واحدة ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كقوله ) جعلنا لأحدهما جنيتن من أعناب ) [ الكهف : 32 ]. وقوله ( كلوا من رزق ( حكاية لسان الحال أو لسان الأنبياء المبعوثين إليهم وهم ثلاثة عشر نبياً على ما روي. وفيه إشارة إلى كمال النعمة حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض. وكذا قوله ) واشكروا له ( لأن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة. وكذا قوله بلدة طيبةر اي عن المؤذيات منا لعقارب والحيات وسائر الهوام والحشرات ، أو المراد أنها ليست بسبخة كقوله ) والبلد الطيب ) [ الأعراف : 58 ] ( ورب غفور ( أي ربكم الذي رزقكم فطلب شكركم غفور لمن يشكره بقدر طاقته لا يؤاخذه بالتقصير في أداء حق(5/489)
" صفحة رقم 490 "
الشكر ذا توجه عليه الشكر وبذل وسعة فيه ، أو أراد غفران سائر الذنوب فكأنه وعدهم سعادة الدارين. وعن ثعلب : معناه اسكن واعبد. وحين بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم وهو قوله ) فأعرضوا ( أي عن الشكر. ثم ذكر جزاءهم بقوله ) فأرسلنا عليهم سيل العرم ( وهو الجرذ. يروى أن بلقيس الملكة عمدت إلى جبال هناك فسدّت ما بينها من الشعب بالصخر والقار فحقنت به ماء العيون والأمطار وتركت فيه خروقاً لها أبواب مترتبة بعضها فوق بعض على مقدار ما يحتاجون إليه في سقي أراضيهم ، فلما طغوا سلط الله على سدّهم الخلد فثقبه من أسفله. وقيل : العرم جمع عرمة وهي الحجارة المركوزة والمراد بها المسناة الت يعقدوها سكراً. وقيل : العرم اسم الوادي : وقيل : المطر الشديد. والتركيب يدل على الشكاسة وسوء الخلق ومنه قولهم ( صبي عارم ) من العرام بالضم أي شرس. ومن ذلك ( عرمت العظم ) عرقته و ( عرمت الإبل الشجر ) نالت منه ) ذواتي أكل ( صاحبتي ثمر. والقياس ذاتي إلا أن المستعمل في التثنية هو الجمع. والخمط شجر الاراك. أبو عبيدة : كل شجر ذي شوك. الزجاج : كل نبت أخذ طعماً من مرارة حتى لا يمكن أكله. والأثل نوع من الطرفاء وهو من أحسن أشجار البادية فلذلك وصفه ههنا بالقلة. عن الحسن : قلل السدر لأنه أكرم ما بدّلوا ، والتحقيق فيه أن البساتين إذا عمرت كل سنة ونقيت من الحشائش كانت ثمارها زاكية وأشجارها عالية ، فإذا تركت سنين صارت كالغيضة والأجمة والتفت الأشجار بعضها ببعض فيقل الثمر وتكثر الحشائش والشجار ذوات الشوك على أنه لا يبعد التبديل تحقيقاً فيكون شبه المشخ. من قرأ ) أكل خمط ( بالإضافة فظاهر ، ومن قرأ بالتنوين فعلى حذف المضاف أي أكل أكل خمط ، أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل : ذواتي أكل بشع. وتسمية البدل جنتين لأجل المشاكلة أو التهكم. قال في الكشاف : الأثل والسدر معطوفان على ) أكل ( لا على ) خمط ( لأن الأثل لا أكل له ) ذلك ( الإرسال والتبديل ) جزيناهم بما كفروا ( النعمة وغمطوها ) وهل مجازي ( مثل هذا الجزاء وهو العقاب العاجل ) غلا الكفور ( قال بعضهم : المجازاة في النقمة والجزاء في النعمة إلا إذا قيد كقوله سبحانه ) جزيناهم بما كفروا ( وقال جار الله : الجزاء عام لكل مكافأة يستعمل في المعاقبة تارة وفي الإثابة أخرى ، فلما استعمل أوّلاً في معنى المعاقبة استعمل ثانياً على نحو ذلك. وقيل : إن المجازاة مفاعلة وهي في الأكثر تكون بين اثنين يوجد من كل واحد جزاء في حق الآخر ، ففي النعمة لا يكون مجازاة لأن الله مبتدئ بالنعم. وحين ذكر حال مسكنهم وجنتيهم وحكى تبديل الجنتين بما لا نفع فيه أراد أن يذكر حال خارج بلدهم وما يؤل غليه أمره فقال ) وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها ( وهي قرى الشام ) قرى ظاهرة ( متواصلة يرى(5/490)
" صفحة رقم 491 "
من كل منها ما يتلوها لتقاربها ، أو ظاهرة للسابلة لكونها على متن الطريق. ) وقدرنا فيها السير سيروا ( فيقيل الغادي في قرية ويبيت الرائح في أخرىن فمنازل ما بين تلك القرى مقدّرة ومعلومة لا يجوزها المسافر عرفاً بخلاف المفاوز فإن السائر يسير فيها بقدر طاقته حتى يقطعها. ثم بين أمن تلك الطريق بقوله ) سيروا ( أي قلنا لهم سيروا إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار. قال أهل البيان : لا قول ئمة ولكنهم مكنوا من السير بتهيئة أسبابه من وجدان الزاد والراحلة وعدم المخاوف والمضارّ فكأنهم أمروا بذلك. والمقصود من ذكر الليالي والأيام تقرير كمال الأمن ولذلك قدمت الليالي فإنهامظنة الآفات. ويمكن تقرير الأمن بوجه آخر وهو أن يقال : سيروا فيها وإن تطاولت مدّة سفركم فيها وامتدت أياماً وليالي ، أو يراد بالليالي واليام مدّة أعمارهم أي سيروا فيها مدّة عمركم فإنكم لا تلقون إلا الأمن. ثم حكى أنهم سئموا العيش الهنيء وملوا الدعة والراحة كما طلب بنو إسرائيل البصل والفوم مكان المن والسلوى ) فقالوا ربنا باعد بين اسفارنا ( أرادوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزوّدوا الأزواد قائلين : لو كان جني جناتنا ابعد كان أشهى وأرغد. ويحتمل أن يكون لفساد اعتقادهم وشدّة اعتمادهم على أن ذلك لا يعدم كما يقول القائل لغيره : اضربني مشيراً بذلك إلى أنه لا يقدر عليه. ومن قرأ على الابتداء والخبر فالمراد استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوّها لفرط تنعمهم وترفههم ) وظلموا أنفسهم ( بوضع الكفر موضع الشكر ) فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ( فرقناهم كل تفريق لا جرم اتخذ الناس حالهم مثلاً قائلين ( ذهبوا أيدي سبأ ) اي في طرق شتى. واليد في كلام العرب الطريق يقال : سلك بهم يد البحر. وقيل : اليادي الأولاد لأنه يعضد بهم كما بالأيدي. والمعنى ذهبوا تفرق أولاد سبأ فلحق غسان بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان ) إن في ذلك ( الجعل والتمزيق ) لآيات لكل صبار ( عن المعاصي ) شكور ( للنعم أو صبار على النعم حتى لا يلحقه البطر شكور لها برعاية حق الله فيها. ثم أخبر عن ضعف عزم الإنسان بقوله ) ولقد صدّق عليهم ( أي على بني آدم لقرينة الحال. وقيل : على أهل سبأ وظن إبليس هو قوله ) لأغوينهم ) [ الحجر : 39 ] أو قوله ) أنا خير منه ) [ ص : 76 ] بدليل قوله ) فاتبعوه ( والمتبوع خير من التابع. ولا ريب أن الكافر أدون حالاً من إبليس لأنه خالف أمر الله في سجدة آدم والكافر يجحد الصانع أو يشرك به. ثم بين قوله ) وما كان له ( أن لاشيكان ليس بملجئ ولكنه آية وعلامة يتميز به ما هو السابق في علمه من المقرّ والشاك. والحفيظ المحافظ ويدخل في مفهوم الحفظ العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه وكذا العاجز .(5/491)
" صفحة رقم 492 "
التأويل : ( يعلم ما يلج ( في أرض البشرية بواسطة الحواس والأغذية الحلال والحرام ) وما يخرج منها ( من الصفات المتولدة منها. ) وما ينزل ( من سماء القلب من الفيوض والإلهامات ) وما يعرج فيها ( من ىثار الفجور والتقوى وظلمة الضلالة ونور الهدى غلى ما بين أيديهم وما خلفهم من سماء القلب وارض النفس ، نخسف بهم أرض البشرية بغلبات صفاتها أو يغلب عليهم صفة من صفات القلب بالميل إلى الإفراط فنهلكهم بها كالسخاوة فإنها صفة حميدة لكنها إذا جاوزت حدّ الاعتدال صارت ذميمة ) إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) [ الإسراء : 27 ] ( يا جبال أوبي ( قد مر تأويله في سورة الأنبياء ) وقدّر في السرد ( وهو المتكلم بالحكمة على قدر عقول الناس ) ولسليمن ( القلب سخرت ريح العناية وذلك أن مركب القلوب في السير هو الجذبة الإِلهية كما أن مركب البدن في المسير البدن. يروى أن سليمان في سيره لاحظ ملكه يوماً فمال الريح ببساطه فقال سليمان للريح : استو قالت الريح : استو أنت فإني لا أكون مستوية حتى تستوي أنت. كذلك حال السر مع القلب وريح العناية إذا زاغ القلب أزاغ الله بريح الخذلان بساط السر ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) [ الرعد : 11 ] ( وأسلنا له عين القطر ( الحقائق والمعاني وسخرنا له صفات الشيطنة لتعمل بين ديه على وفق أوامر الله ونواهيه كما قال نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ( شيطاني اسلم على يدي فلا يأمرني إلا بالخير ) ) من محاريب ( وهو كل ما يتوج غلى الله به بخاصية الإباء والاستكبار وأنفة السجود لغير الله ، ولو وكل القلب والروح إلى خاصية الروحانية التي جبل الروح عليها ما كان يرغب في العبور عن مقام الروحانية كالملائكة. قال جبرائيل عليه السلام : لو دنوت أنملة لاحترقت. ) وجفان كالجواب ( فيه غشارة إلى مأدبة الله التي أكل منها الأنبياء والأولياء إذ يبيتون عنده ) اعملوا ىل داود ( وهم متولدات الروح فكشر البدن استعمال الشريعة بجميع الأعضاء والحواس ، وشكر النفس بإقامة شرائط التقوى والورع ، وشكر القلب بمحبة الله وحده ، وشكر السر المراقبة ، وشكر الروح بذل الوجود على نار المحبة كالفراش على شعلة الشمعة ، وشكر الخفي قبول الفيض بلا واسطة في مقام الوحدة مخفياً بنور الوحدة عن نفسه. فالعوام شكرهم بالأقوال ، والخواص شكرهم بالأعمال ، وخواص الخواص شكرهم بالأحوال من الاتصاف بصفة الشكورية التي تعطي على عمل. فإن عشرة ثواب باقٍ ولذلك وصفهم بالقلة ) تاكل منسأته ( اتكأ سليمان على عصاه فبعث الله أخس دابة لإبطال متكئه وجعله سبباً لزوال ملكه وفوات روحه وكان قبل(5/492)
" صفحة رقم 493 "
متكئاً على فضل الله فآتاه ما لميؤت أحداً من خلقه ) لقد كان لسبأ ( السر ) جنتان ( جنة الروح عن يمين السر وجنة القلب عن شمال السر ) بلدة طيبة ( هي بلدة الإنسانية القابلة لبذر التوحيد ) ورب غفور ( يستر العيوب ) فأعرضوا ( عن الوفاء وأقبولا على الجفاء ) فأرسلنا عليهم سيل ( سطوات ) العرم ( قهرنا ) وبدلناهم بجنتيهم ( الشجرتين بأشجار الأخلاق الحميدة ) جنيتن ( من الأوصاف الذميمة وهل نجازير وهل يكون للأشجار الخبيثة غلا الأثمار الخبيثة. ) قرى ظاهرة ( منازل السالكين ومقامات العارفين من التوبة والزهد والتوكل والتزكية والتحلية. وقلنا لهم سيورا في ليالي البشرية وايام الروحاينة ) آمنين ( في حيازة الشريعة فطلبوا البعد عن الله بالميل إلى ما سواه ففرقناهم فيأودية الهلاك ودركات البعد. ) وما كان له عليهم من سلطان ( فيه أن الشيطان إنما سلط على بني آدم لاستخراج جواهر النفوس من معادنها. ( سبأ : ( 22 - 54 ) قل ادعوا الذين . . . .
" قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما أموالكم(5/493)
" صفحة رقم 494 "
ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب "
( القراآت )
أذن له ( على البناء للمفعول : أبو عمرو وعي وخلف والأعشى والرجمي ) فزع علي ( البناء للفاعلك ابن عامر ويعقوب ) جزاء ( بالنصب ) الضعف ( مرفوعاً يعقوب ) في الغرفة ( على التوحيد : حمزة ) يحشرهم ( ) ثم يقول ( على الغيبة فيهما : حفص ويعقوب. الباقون : بالنون ) ثم تفكروا ( بتشديد التاء : رويس ) أجري إلا ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص ) ربي إنه ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو : ( التناؤش ( مهموزاً : أبو عمرو وحمزة وخلف وعاصم سوى حفص والشموني والبرجمي. ) حيل ( بضم الحاء وكسر الياء : ابن عامر وعلي ورويس. الوقوف : ( من دون الله ( ج لاحتمال الجملة بعده حالاً واستئنافاً ) ظهير ( 5 ) أذن(5/494)
" صفحة رقم 495 "
له ( ط ) الحق ( ط ) الكبير ( 5 ) والأرض ( ط ) قل الله ( لا لاتصال المقول ) مبين ( 5 ) تعملون ( 5 ) بالحق ( ط ) العليم ( 5 ) كلا ( ط ) الحكيم ( 5 ) لا يعلمون ( 5 ) صادقين ( 5 ) ولا تستقدمون ( 5 بين يديهر ط ) عند ربهم ( ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً وهذا أوجه ) تلقول ( ج لمثل ذلك ) مؤمنين ( 5 ) مجرمين ( 5 ) أنداداً ( ط ) العذاب ( ط ) كفروا ( ط ) يعملون ( 5 ) كافرونه ( 5 ) بمعذبين ( 5 ) لا يعملون ( 5 ) صالحاً ( ز أن أولئك مبتدأ مع الفاء ) آمنون ( 5 ) محضرون ( 5 ) ويقدر له ( 5 ) يخلفه ( ج لعطف الجملتين المختلفتين ) الرازقين ( 5 ) يعبدون ( 5 ) من دونهم ( ج لتنويع الكلام مع اتحاد المقول ) الجن ( ج لذلك ) مؤمنون ( 5 ) ضراً ( ط ) تكذبون ( 5 ) آباؤكم ( ج للعطف مع طول الكلام والتكرار ) مفترى ( ط ) مبين ( 5 ) من نذير ( 5 ) نكير ( 5 ) بواحدة ( ج لأن ما بعده بدل أو خبر أي هي أن تقوموا ) من جنة ( ط ) شديد ( 5 ) لكم ( ط ) الله ( ج ) شهيد ( 5 ) بالحق ( ج لاحتمال أن ما بعده بدل من الضمير في يقذف أو خبر أي هو علام ) الغيوب ( 5 ) بعيد ( 5 ) على نفسي ( ج لعطف جملتي الشرط ) ربي ( ط ) قريب ( 5 ) قريب ( لا لأن ما بعده معطوف على ) أخذوا ( : ( آمنا به ( ط لاحتمال كون الجملة الاستفهامية مبتدأ بها أو حالاً ) بعيد ( 5 لا للآية ولاحتمال الاستئناف والحال بعده والعامل معنى الفعل في التناوش ) من قبل ( ج للعطف على كفروا بناء على أنه حال ماضية أو للاستئناف اي وهم يقذفون ) بعيد ( 5 ) من قبل ( ط ) مريب ( 5. التفسير : لما فرغ من حكاية أهل الشكر وأهل الكفران تمثيلاً عاد إلى مخاطبة كفار قريش وتقريعهم. ومفعولاً زعم محذوف أي زعمتموهم آلهة ، وسبب حذف الأوّل استحقاق عوده إلى الموصول ، وسبب حذف الثاني إقامة الصفة وهي ) من دون الله ( مقام الموصوف. وتفسير الآية مبني على تفصيل وهو أن مذاهب أهل الشرك اربعة : أحدها قولهم إنا نعبد الملائكة والكواكب التي في السماء فهم آلهتنا والله إلههم فالله تعالى قال في إبطال قولهم أنهم لا يملكون في السموات شيئاً كما اعترفتم ، ولا في الأرض على خلاف ما زعمتم أن الأرض والارضيات في حكمهم. وثانيها قول بعضهم إن السموات من الله على سبيل الاستقلال ، وإن الرضيات منه ولكن بواسطة الكواكب واتصالاتها وانصرافاتها فأبطل معتمد هؤلاء بقوله ) وما لهم فيهما من شرك ( أي الأرض كالسماء لله لغيره فيها نصيب. وثالثها قول من قال : التركيبات والحوادث كلها من الله لكن فوض ذلك إلى الكواكب وإعانتها فأشار إلى إبطال معتقد هؤلاء بقوله ) وما له منهم من ظهير ( ورابعها مذهب من زعم أنا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا فبين بطلان مذهبهم بقوله ) ولا(5/495)
" صفحة رقم 496 "
تنفع الشفاعة ( قال جار الله : تقول الشفاعة لزيد على أنه الافع وعلى معنى أنه المشفوع له أي لا تنفع الشفاعة ) إلا ( كائنة ) لمن أذن له ( من الشافعين أو إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله. و ( حتى ) غاية لمضمون الكلام الدال على انتظار الإذن كأنه قيل : يتربصون ويقفون ملياً فزعين ) حتى إذا فزع ( أي كشف الفزع في القيامة عن قلوب الشافعين والشمفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضاً ) ماذا قال ربكم قالوا ( قال ) الحق ( أي القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى ، يريد هذا التفسير قول ابن عباس عن النبي ( فإذا أذن لمن أذن أن يشفع فزعته الشفاعة ) والتشديد للسلب والإزالة على نحو ( قردته وجلدته ) أي أزلت قراده وسلخت جلده. وقيل : إن ( حتى ) على هذا التفسير متعلق بقوله ) زعمتم ( أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ثم تركتم ما زعمتم وقلتم قال الحق. ومنهم من ذهب إلى أن التفزيع غاية الوحي المستفاد من قل فإنه عند الوحي يفزع من في السموات كما جاء في حديث ( إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيه جبرائيل فإذا جاء فزع عن قلوبهم فيقولون : يا جبرائيل ماذا قال ربكم ؟ فيقول الحق ) أي يقول الحق الحق. وقيل : أراد بالفزع أنه تعالى لما أوحى إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فزع من في السموات من القيامة لأن إرسال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من أشراطها فلما زال عنهم ذلك قالوا : ماذا قال الله ؟ قال جبرائيل وأتباعه : الحق. وقيل : إنه الفزع عند الموت يزيله الله عن القلوب فيعرف كل أح أن ما قال الله هو الحق فينتفع بتلك المعرفة أهل الإيمان ولا نيتفع بها أهل الكفر. وحين بين بقوله ) قل اجعوا ( أنه لا يدفع الضر إلا هو أشار بقوله ) قل من يرزقكم ( إلى أن جلب النفع لا يكمل إلا به. وههنا نكتة هي أنه قال في دفع الضر ) قالوا الحق ( وفي طلب النفع قال ) قل الله ( تنبيهاً على أنهم في الضراء مقبلون على الله معترفون به ، وفي السراء معرضون عنه غافلون لا ينتبهون إلا بمسه. وقوله ( وإنا أو إياكم ( من الكلام المنصف الذي يتضمن قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينا. وفي تخالف حرفي الجر في قوله لعلى هدى أو في ضلالر إشارة إلى أن أهل الحق راكبون مطية الهدى مستعلون على متنها ، وأن أهل الباطل منغمسون في ظلمة الضلال لا يدرون أين يتوجهون. وإنما وصف الضلال بالمبين وأطلق الهدى لأن الحق كالخط المستقيم واحد ، والباطل كالخطوط المنحنية لا حصر لها فبعضها أدخل في الضلالة من بعض وابين. وقوله ( عما أجرمنا ( إلى قوله ) عما تعملون ( أبلغ في سلوك طريقة الإنصاف حيث(5/496)
" صفحة رقم 497 "
أسند الإجرام وهو الصغائر والزلات أو هي مع الكبائر إلى أهل الإيمان ، وعبر عن إجرام أهل الكفر بلفظ عام وهو العمل. وفيه إرشاد إلى المناظرات الجارية في العلوم وغيرها ، وإذا قال أحد المناظرين للآخر : أنت مخطئ أغضبه وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر ، وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض. ومعنى الفتج الحكم والفصل بين الفريقين بإدخال أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وحين حث في الآية الأولى على وجوب النظر من حيث إن كل أحد يؤاخذ بجرمه ولو كان البريء أخذ بالمجرم لم يكن كذلك ، أكد ذلك المعنى بالآية الثانية فإن مجرد الخطأ والضلال واجب الاجتناب فكيف غذا كان يوم عرض وحساب. وفي قوله ) العليم ( إشارة إلى أن حكمه يكون مع العلم لا كحكم من يحكم بمجحرد الغلبة والهوى. ولما بين أن غير الله لا يعبد لدفع الضر ولا لجلب النفع أراد أن يبين أن غير الله لا ينبغي أن يعبد لأجل استحقاق العبادة فإنه لا مستحق للعبادة غلا هو. ومعنى ) اروني ( وكان يعرفهم ويراهم الاستخفاف بهم والتنبيه على الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله أو اراد أعلموني بأي صفة الحقتموهم بالله وجعلتموهم شركاء ف ) شركاء ( نصب على الحال والعائد محذوف و ) كلا ( ردع لهم عن مذهبهم بعدما كسده بإبطال المقايسة وردّ الإلحاق. ثم زاد في توبيخهم بقوله ) بل هو الله العزيز الحكيم ( كأنه قال : اين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات فإن الإله لا يمكن أن يخلو عن القدرة الكاملة والحكمة الشاملة. وهو يحتمل أن يكون ضمير الشأن. وحين فرغ من التوحيد شرع في الرسالة. ومعنى ) كافة ( عامة لأن الرسالة إذا شملتهم قد منعتهم أن يخرج أحد منهم والكف المنع وكافة صفة لرسالة. وقال الزجاج : التاء للمبالغة كتاء الراوية والعلامة وإنه حال من الكاف أي أرسلناك جامعاً للناس في الإبلاغ والتبشير والإنذار ، أو مانعاً للناس من الكفر والمعاصي. وبعض النحويين جعله حالاً من الناس وزيف بأن حال المجرور لا يتقدم عليه. ومن هؤلاء من جعل اللام بمعنى ( إلى ) لأن أرسل يتعدى بإلى فضوعفت تخطئته بأن استعمال اللام بمعنى. ( إلى ) ضعيف ، ولا يخفى أن ثاني مفعولي ) ارسلنا ( على غير هذا التفسير محذوف والتقدير : وما أرسلناك إلى الناس إلا كافة ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( وذلك لا لخفائه ولمن لغفلتهم. وحين ذكر الرسالة بين الحشر وذكر أنهم استعجلوه تعنتاً منهم فبين على طريق التهديد أنه لا استعجال فيه كما لا إمهال وهذا شأن كل أمر ذي بال. قال جار الله ) ميعاد يوم ( كقولك ( سحق عمامة ) في أن الإضافة للتبيين يؤيده قراءة من قرأ ) ميعاد يوم ( بالرفع فيهما فأبدل منه اليوم. وفي إسناد الفعل غليهم بقوله ) لا تستأخرون عنه ( دون أن يقول لا يؤخر عنكم زيادة تأكيد لوقوع اليوم. ولما بين الأصول الثلاثة : التوحيد والرسالة والحشر ، ذكر أنهم كافرون بالكل قائلين ) لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي(5/497)
" صفحة رقم 498 "
بين يديه ( من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل. يروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في كتبهم فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع الكتب. وقيل : الذين كفروا عام والذي بين يديه يوم القيامة وما جاء ذكره في القرآن من تفاصيل الحشر وغيرها ، وأن أهل الكتاب لو صدّقوا بشيء من ذلك فليس لأجل مجيئه في القرآن ولكن لمجيئه في كتبهم. وحين وقع اليأس من إيمانهم بقولهم لن نؤمنر وعد نبيه بأنه سيراهم على أذل حال موقوفين للسؤال متجاذبين أهداب المراجعة كما يكون حال جماعة أخطأوا في تدبير أمره وجواب ( لو ) محذوف أي لقضيت العجب. وبدأ بالأتباع لأن المضل أولى بالتوبيخ. وفي قوله ) لولا أنتم ( إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع لا لعدم المقتضى فن الرسول قد جاء ولم يقصر في الإبلاغ. ثم ذكر جواب المستكبرين وهم الرؤوس والمتبوعين على طريقة الاستئناف. وفي إيلاء الاسم وهو نحن حرف الإنكار إثبات أنهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عن الهدى بكسب منهم واختيار وأن المانع لم يكن راجحاً على المقتضى ولا مساوياً له وأكدوا ذلك بقولهم ) بل كنتم مجرمين ( أي إنكم أنتم الذين أطعتم أمر الشهوة فكنتم كافرين ولم يكن منا إلا التسويل والتزيين. ثم عطف قولاً آخر للمستضعفين على قولهم الأول. والإضافة في ) مكر الليل والنهار ( من باب الاتساع بإجراء الظرف مجرى المفعول به وأصل الكلام : بل مكرهم في الليل والنهار. أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي ، فالأول اتساع لفظي ، والثاني معنوي. أبطلوا إضرابهم بإضرابهم قائلين : ك ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة مكركم لنا مستمراً دائماً دائباً ليلاً ونهاراً. وقدم الليل لأنه أخفى للمكر والويل. وقرئ ) مكرّ الليل ( بالتشديد أي سبب ذلك أنكم تكرّون الإغواء مكراً دائباً. والمعنى : ما أنتم باصلارف القطعي والمانع القويّ ولكن انضم إلى ذلك طول المدة فصار قولكم جزء السبب. وفي قوله ) أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً ( إشارة إلى أن الشرك وإن كان مثبتاً لله في الظاهر ولكنه نافٍ له على الحقيقة لأنه جعل مساوياً للصنم. ويجوز أن يكون كل منهما قول طائفة فبعضهم كانوا مأمورين بجحد الصانع وبعضهم بالإشراك به. وتفسير قوله ) واسروا الندامة لما رأوا العذاب ( مذكور في سورة يوسن. والضمير يعود إلى جنس الظالمين الشامل للمستضعفين وللمستكبرين. وقوله ( في أعناق الذين كفروا ( أي في أعناقهم من وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على ما ساتحقوا به الأغلال وهي محمولة على الظاهر وإن جاز أن يراد بها العلائق. وفي قوله ) هل تجزون ( إشارة إلى أنهم استحقوها عدلاً. ثم سلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بأن إيذاء الكفار الأنبياء ليس بدعاً وإنما ذلك هجيراهم قدماً. وإنما خص المترفين(5/498)
" صفحة رقم 499 "
بالذكر لأنهم أصل في الجحود والإنكار وغيرهم تبع ، ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد اعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله ما رزقهم ، ثم قاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا فقالوا ) وما نحن بمعذبين ( أن ذلك بمجرد المشيئة لا بالكسب والاستحقاق فكم من شقيّ موسر وتقي معسر. ثم زاد في البيان بقوله ) وما أموالكم ( اي وما جماعة أموالكم ) ولا ( جماعة ) أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى ( أي قربى اسم بمعنى القربة وقع موقع المصدر كقوله ) والله أنبتكم من الأرض نباتاً ) [ نوح : 17 ] ثم استثنى من ضمير المفعول في تقرّبكم بقوله ) إلا من آمن ( والمراد أن الأموال والأولاد لا تقرّب أحداً إلا المؤمن الصالح ينفق الأموال في سبيل الله ويعلم أولاده الخير والفقه في الدين. ويحتمل أن يكون الاستثناء من الفاعل والمعنى أن شيئاً من الشياء لا يقرّب إلا عمل المؤمن الصالح لأن ما سوى ذلك شاغل عن الله ، والعمل الصالح إقبال على العبودية. ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب شيئاً من الله حصل. وجزاء الضعف من غضافة المصدر إلى المفعول تقديره : فأولئك لهم أن يجاوزوا الضعف. ومعنى قراءة يعقوب : أولئك لهم الضعف جزاء. والتضعيف يكون إلى العشر وإلى سبعمائة وأكثر كما عرفت. والباقي غلى قوله ) محضرون ( قد سبق. وحين بين أن حصول الترف لا يدل على الشرف ذكر أن بسط الرزق لا يختص بهم ولكنه سبحانه قد يبسط الرزق لمن يشاء من عباده المؤمنين. ثم رتب وعد الإخلاف على الإنفاق وذلك إما في العاجل بالمال أو بالقنوع ، وإما في الآخرة بالثواب الذي لا خلف فوقه ولا مثله. ومما يؤكد الآية قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم أعط منفقاً خلفاً ) الحديث. وقول الفقهاء ألق متاعك في البحر وعليّ ضمانه ، وأن التاجر إذا علم أن مالاً من الأموال في معرض الفناء يبيعه نسيئة وإن كان من الفقراء وإلا نسب إلى الخطأ وسخافة الرأي ، ولا ريب أن مال الدنيا في معرض الزوال وأن أغنى الأغنياء قد طلب منا الإقراض ووعد الإضعاف والإخلاف فأي تجارة عند العاقل اربح من هذا ؟ وهو خير الرازقينر لأن سلسلة الأرزاق والرزق تنتهي إليه. وعن بعضهم : الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فكم من مشته لا يجد وواجد لا يشتهي. ثم حكى عاقبة حال الكفار بقوله ) ويوم يحشرهم ( وفي خطاب الملائكة تقريع الكفار وتقرير لما يعروهم من الخجل والوجل عند اقتصاص ذلك كما مر في قوله لعيسى ) أءنت(5/499)
" صفحة رقم 500 "
قلت للناس ) [ المائدة : 116 ] ( قالوا سبحانك ( ننزهك عن أن نعبد غيرك أنت الذي نواليك ونعادي غيرك في شأن العبادة ) بل كانوا يعبدون الجن ( حيث أطاعوهم في عبادة غيرك فهم كانوا يطيعونهم وكنا نحن كالقبلة ، أو صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها ، أو كانوا يدخلون في أجواب الأصنام فيعبدون بعبادتها. وإنما قالوا ) أكثرهم بهم مؤمنون ( وما ادّعوا الإحاطة لأن الذين رأوهم وأطلعهم الله على أحوالهم كانوا كذلك ولعل في الوجود من لا يطلع الله الملائكة عليه من الكفار. وأيضاً أن العبادة عمل ظاهر والإيمان عمل باطن ، والاطلاع على عمل القلب كما هو ليس إلا الله وحده فراعوا الأدب الجميل والحكم على الظاهر أكثري. ثم ذكر أن الأمر في ذلك اليوم لله وحده والخطاب في قوله ) لا يملك بعضكم ( للملائكة والكفار وإن كان الكفار غائبين كما تقول لمن حضر عندك ولمن شاركه في أمر بسببه : أنتم قلتم كذا على معنى أنت قلت وهم قالوا. ويحتمل أن يكون الخطاب للكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم أو لهم وللملائكة أيضاً بهذا التأويل ، وعلى الأول يكون قوله ) ونقول للذين ظلموا ( إفراداً للكفرة بالذكر ، وعلى الوجه الآخر يكون تأكيداً لبيان حالهم في الظلم وذكر الضر تأكيد لعدم تملكهم شيئاً وإلا فهو غير متصور في ذلك اليوم. وإنما قال ههنا ) عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ( وفي السجدة ) عذاب النار الذي كنتم به ) [ الآية : 20 ] لأنهم هناك قد رأوا النار بدليل قوله ) كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ) [ الآية : 20 ] فقيل لهم ذوقوا العذاب المؤبد الذي كنتم به تكذبون في قولكم ) لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ) [ البقرة : 80 ] وههنا لم يروا النار. وقيل : لأنه مذكور عقيب الحشر والسؤال فناسب التوبيخ على تكذيبهم بالنار. ثم حكى أكاذيبهم بقوله ) وإذا تتلى ( الآية. ولا يخفى ما فيه من المبالغات. ثم بين أن أقوالهم هذه لا تستند إلا إلى محض التقليد فقال ) وما آتيناهم من كتب يدرسونها ( فالآيات البينات لا تعارض إلا بالبراهين العقلية وما لهم من دليل أو بالنقليات وما عندهم من كتاب ولا رسول غيرك ) وكذب الذين من قبلهم ( كعاد وثمود ) وما بلغوا معشار ما آتيناهم ( والمعشار كالمرباع وهما العشر والربع. قال الأكثرون : معناه وما بلغ هؤلاء المشركون عشر ما آتينا المتقدمين من القوة والنعمة وطول العمر. ثم إن الله أخذهم وما نفعهم محصولهم فكيف حال هؤلاء الضعفاء ؟. وقال بعضهم : اراد وما بلغ الذين من قبلهم معشار ما آتينا قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من البيان والبرهان لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أفصح الرسل وكتابه أوضح الكتب. ثنم إن المتقدمين أنكر عليهم تكذيبهم فكيف لا ينكر على هؤلاء ؟ قال جار الله : قوله ) فكذبوا رسلي ( بعد قوله ) وكذب الذين من قبلهم ( تخصيص بعد تعميم كأنه قيل : وفعل الذين من قبلهم التكذيب فكذبوا رسلي ؟ نظيره قول القائل : أقدم(5/500)
" صفحة رقم 501 "
فلان على الكفر فكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) . ويجوز أن ينعطف على قوله ) وما بلغوا معشار ما ( كقولك : ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فيفضل عليه. قلت : فعلى هذا تكون الفاء للسببية ، والمعنى أنه إذا لم يبلغ معشار فضله فكيف يفضل عليه ؟ وكذا في الآية فيصير المعنى أنهم إذا لم يبلغوا معشار الأقدمين فكيف كذبوا ؟ ) فكيف كان نكير ( للمكذبين الأوّلين فليحذروا من مثله. ويجوز عندي أن يكون الثاني تكريراً للأول لأجل ترتب النكير عليه كأنه قيل : فإذ قد صح أنهم فعلوا ما ذكرنا فلا جرم ذاقوا وبال أمرهم نظيره قولك لمن بحضرتك : فعلت كذا وكذا ، فإذا فعلت ذلك فتربص. وبعد تقرير الأصول الثلاثة : التوحيد والرسالة والحشر كررها مجموعة بقوله ) قل إنما أعظكم بواحدة ( أي بخصلة أو حسنة أو كلمة واحدة وقد فسرها بقوله ) أن تقوموا ( على أنه عطف بيان لها. والقيام إما حقيقة وهو قيامهم عن مجلس النبيُّ متفرقين إلى أوطانهم. وإما مجاز وهو الاهتمام بالأمر والنهوض له بالعزم والجد. فقوله ) مثنى وفرادى ( غشارة غلى جميع الأحوال لأن الإنسان إما أن يكون مع غيره أو لا فكأنه قال : أن تقوموا لله مجتمعين ومنفردين لا تمنعكم الجمعية عن ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يعينكم على ذكر الله. وقوله ( ثم تتفكروا ( يعني اعترفوا بما هو الأصل وهو التوحيد ولا حاجة فيه إلى تفكر ونظر بعدما بان وظهر ، ثم تتفكروا فيما اقول بعده ، وهو الرسالة المشار إليها بقوله ) ما بصاحبكم من جنة ( والحشر المشار إليه بقوله ) بين يدي عذاب شديد ( قيل : وفيه إشارة إلى عذاب قريب كأنه قال : ينذركم بعذاب يمسكم قبل الشديد. فمجموع الأمور الثلاثة شيء واحد ، أو المراد أنه لا يأمرهم في أوّل الأمر بغير التوحيد لأنه سابق على الكل لا أنه لا يأمرهم في جميع العمر إلا بشيء واحد. وعند جار الله : الخصلة الواحدة هي الفكر في أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى : إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها اصبتم الحق وهو أن تقوموا لوجه الله خالصاً متفرقين اثنين اثنين وواحداً واحداً ، فإن ما فوق الاثنين والواحد يوجب التشويش واختلاف الرأي فيعرض كل من الاثنين محصول فكره على صاحبه من غير عصبية ولا اتباع هوى ، وكذلك الفرد يفكر في نفسه بعدل ونصفه حتى يجذب الفكر بصنعه إلى أن هذا الأمر المستتبع لسعادة الدارين لا يتصدّى لادعائه إلا رجلان : مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان ، وعاقل اجتباه الله بسوابق الفضل والامتنان لتكميل نوع الإنسان. لكن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالاتفاق أرجح النتاس عقلاً وأصدقهم قولاً وأوفرهم حياء وأمانة ، فما هو إلا النبيّ المنتظر في آخر الزمان المبعوث بين يدي عذاب شديد هو القيامة وأهوالها. وقوله ( ما بصاحبكم ( إما أن يكون كلاماً مستأنفاً فيه تنبيه على كيفية النظر في أمر النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد : ثم تتفكروا(5/501)
" صفحة رقم 502 "
فتعلموا ذلك. وجوز بعضهم أ ، تكون ( ما ) استفهامية. وحين ذكر أنه ما به جنة ليلزم منه كونه نبياً ذكر وجهاً آخر يلزم منه صحة نبوّته وهو قوله ) ما سألتكم من أجر ( الآية. وتقريره أن العاقل لا يركب العناء الشديد إلا لغرض عاجل وهو غير موجود ههنا بل كل أحد يعاديه ويقصده بالسوء ، أو لغرض آجل ولا يثبت إلا على تقدير الصدق فإن الكاذب معذب في الآخرة لا مثاب. هذا إذا أريد بقوله ) فهو لكم ( نفي سؤال الآخر رأساً كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئاً فخذه وهو لم يعطه شيئاً. ويحتمل أن يراد بالأجر قوله ) لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى ) [ الشورى : 23 ] وقوله ( ما أسألكم عليه من أجر الا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً ) [ الفرقان : 57 ] لأن المودة في القربى قد انتظمته وإياهم وكذا اتخاذ السبيل إلى الله عز وجل فيه نصيبهم ونفعهم. ) وهو على كل شيء شهيد ( يعلم أني لا أطلب الأجر على نصحكم أو يعلم أن فائدة النصح تعود عليكم. قوله ) يقذف بالحق ( اي في قلوب المحقين وفيه إزالة استبعاد الكفرة تخصيص واحد منهم بإنزال الذكر عليه فإن الأمر بيد الله والفضل له يؤتيه من يشاء وإنه علام الغيوبر يعلم عواقب الأمور ومراتب الاستحقاق فيعطى على حسب ذلك لا كما يفعل الهاجم الغافل ، أو أراد يقذف بالحق على الباطل فيدمغه ، وذلك أن براهين التوحيد قد ظهرت وشبه المبطلين قد دحضت. وفي قوله ) علام الغيوب ( إشارة إلى أن البرهان الباهر لم يقم إلا على التوحيد والرسالة ، وأما الحشر فالدليل عليه إخبار علام الغيوب عنه. وحيذ ذكر أنه يقذف بالحق وكان ذلك بصيغة الاستقبال أخبر أن ذلك الحق قد جاء وهو القرآن والإسلام وكل ما ظهر على لسان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى يده. وقيل : السيف. وقوله ( وما يبدئ الباطل وما يعيده ( مثل في الهلاك لأن الحيّ إما أن يبدئ فعلاً أو يعيده ، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة. والتحقيق فيه أن الحق هو الموجود الثابت. ولما كان كا جاء به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من بيان التوحيد والرسالة والحشر ثابتاً في نفسه بيناً لمن نظر إليه كان جائياً ، وحين كان ماأتوا به من الإصرار والتكذيب مما لا أصل له قيل : إنه لا يبدئ ولا يعيد أي لا يعيد شيئاً لا في الأوّل ولا في الآخر. وقيل : الباطل غبليس لأنه صاحب الباطل ولأنه هالك والمراد أنه لا ينشئ خلقاً ولا يعيد وإنما المنشئ والباعث هو الله. وعن الحسن : لا يبدئ لأهله خيراً ولا يعيده أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج : ( ما ) استفهامية والمعنى أي شيء ينشئ إبليس ويعيده ؟ ثم قرر أمر الرسالة بوجه آخر وهو قوله ) قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي ( يعني كضلالكم وأما اهتدائي فليس بالنظر والاستدلال كاهتدائكم وإنما هو بالوحي المبين. قال جار الله : هذا حكم عام لكل مكلف ،(5/502)
" صفحة رقم 503 "
والتقابل مرعي من حيث المعنى والمراد أن كل ما هو وبال على النفس وضارّ لها فهو بها وبسببها لأنها الأمارة بالسوء وما لها ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه. وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به ) إنه سميع قريب ( يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله لا يعزب عنه منهما شيء ، وفيه أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دعاه على من يكذبه أجابه ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الداعي. ثم عجب نبيه أو كل راءٍ من مآل حال أهل العناد بقوله ) ولو ترى ( وجواب محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً. والأفعال الماضية التي هي ) فزعوا ( ) وأخذوا ( ) وقالوا ( ) وحيل ( كلها من قبيل ) ونادى ) [ الأعراف : 48 ] ( وسيق ) [ الزمر : 73 ] ووقت الفزع وقت البعث أو الموت أو يوم بدر. وعن ابن عباس : نزلت في خسف البيداء وهم ثمانون ألفاً أرادوا غزو الكعبة وتخريبها فخسف بهم حين دخلوا البيداء ) فلا فوت ( أي فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. والأخذ من مكان قريب هو من الموقف إلى النار ، أو من ظهر الأرض غلى بطنها ، أو من صحراء بدر غلى القليب ، أو من تحت أقدامهم إلى الأرض ، . وجوّز جار الله أن يعطف ) وأخذوا ( على ) لافوت ( على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا. ثم بين أنهم سيؤمنون بمحمد صلى الله عليه سولم أو بالقرآن أو بالحق حين لا ينفع الإيمان وذلك قوله ) وأنى لهم التناوش ( وهو تناول سهل لشيء قريب مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعيد كما يتناوله الآخر من قريب تناولاً سهلاً لا تعب فيه ، أو أراد أن تناولهم التوبة وغيمانهم في الآخرة بعيد عن الدنيا فإن أمس الدابر لا يعود وإن كانت الآخرة قريبة من الدنيا ولهذا سماها الله الساعة وكل ما هو آت قريب. وعن أبي عمرو : التناؤش بالهمز التناول من بعد من قولهم : نأشت بالهمزة أي أبطأت وتأخرت. والصح أنه من النوش كما مر همزت الواو المضمومة كما همزت فلي أجوه. وقيل : التناوش بلغة اليمن التذكرة قاله أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب في كتاب ( المدخل في تفسير القرآن ) والضمير في قوله ) وقد كفروا ( عائد إلى ما يعود إليه في قوله ) آمنا به (. قوله ) ويقذفون بالغيب ( فيه وجوه أحدها : أنه قولهم في رسول الله صلى الله عيله وسلم شاعر ساحر وهذا تكلم بالأمر الخفي وقد أتوا به من جهة بعيدة عن حاله لأنهم قد عرفوا منه الأمانة والصدق لا الكذب والزور. وثانيهاك أخذوا الشريك من حالهم في العجز فإنهم يحتاجون في الأمور العظام إلى التعاون فقاسوا الأمر الإلهي عليه. وثالثها : أنهم قاسوا قدرة الله على قدرتهم عجزوا عن إحياء الموتى فظنوا أن الله لا يقدر على البعث ، وقياس الخالق على المخلوق بعيد المأخذ. ورابعها : قاسوا أمر الآخرة على الدنيا قائلين إن كان الأمر كما(5/503)
" صفحة رقم 504 "
تصفون من قيام الساعة وحصول الثواب والعقاب فنحن أكرم على الله من أن يعذبنا. وخامسها : ( قالوا ربنا ابصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً ) [ السجدة : 12 ] وهو قذف بالغيب من مكان بعيد وهو الدنيا. ) وحيل بينهم وبين ما يشتهون ( من نفع الإيمان في الآخرة أو من الرد إلى الدنيا ) كما فعل باشياعهم ( أي بأشباههم من كفرة الأمم لم ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأس الله و ) مريب ( موقع في الريب منقول من الأعيان إلى المعنى أو ذو ريبة وذلك باعتبار صاحبه وكلاهما مجاز بوجهين وقد مر في هود. التأويل : ( مثقال ذرة في السموات ( القلوب ) ولا في الأرض ( النفوس من سعادة أو شقاوة ) قالوا الحق ( يعني ما فهموا من الهيبة كلامه ولكن يعلمون أنه لا يقول إلا الحق ) قل من يرزقكم ( من سموات القلوب وأرض النفوس إذا نزل من سماء القلب ماء الفيض على أرض الشرعية. ) ألحقتم به شركاء ( من الدنيا والهوى والشيطان كافة للناس من أهل الأولين والآخرين ي عالم الأجساد وهو ظاهر ، وفي عالم الأرواح تبشرها بأن لها كمالاً عند الاتصال بالأشباح وتنذرها بالحرمان إن لم تتعلق بالأجسام ، وذلك أن الأرواح علوية نورانية والأشباح سفلية مظلمة لا يحصل بينهما التعلق إلا بالتبشير والإنذار. فالروح بمثابة البذر والقالب كالأرض ، وشخص الإنسان بمثابة الشجرة ، والتوحيد والمعرفة ثمرتها ، والشريعة كالماء والبشير والنذيركالآكار. وإذا أمعنت النظر وجدت شجرة الموجودات نابتة من بذر روحه ( صلى الله عليه وسلم ) وهو ثمرة هذه الشجرة مع جميع الأنبياء والمرسلين ولكن بتبعية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولهذا حصلت له رتبة الشفاعة دونهم. يقولون يعني أرباب الطلب يستعجلون متى نصل إلى الكمال الذي بشرتمونا به. ثم بين أن لثمرة كل شجرة وقتاً معلوماً لا تتجاوزه ) أكثرهم بهم مؤمنون ( اي أكثر مدعي الإسلام بأهل الأهواء مؤمنون ) ويقذفون بالغيب ( فيه أن معارف الأسرار ومراتب الأحرار لا تصلح لمن هو اسير في أيدي صفات النفس ) وحيل ينهم ( لأن الدين ليس بالتمني والله أعلم بحقائق الأشياء والله الموفق .(5/504)
" صفحة رقم 505 "
سورة فاطر
( سورة فاطر مكية حروفها ثلاثة آلاف ومائة وثلاثون كلمها سبعمائة وسبع آياتها خمس وأربعون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( فاطر : ( 1 - 26 ) الحمد لله فاطر . . . .
" الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين(5/505)
" صفحة رقم 506 "
تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير "
( القراآت )
غير الله ( بالجر : يزيد وحمزة وعليّ. الآخرون : بالرفع حملاً على المحل ) فلا تذهب ( من الإذهاب ) نفسك ( منصوباً : يزيد. الآخرون : بفتح التاء والهاء من الذهاب ) نفسك ( مرفوعاً : ( الريح ( على التوحيد : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف ) ولا ينقص ( بفتح الياء وضم القاف : روح وزيد. الباقون : بالعكس. ) من عمره ( باتختلاس الضمة : عباس ) والذين يدعون ( على الغيبة : قتيبة. الوقوف : ( ورباع ( ط ) يشاء ( ط ) قدير ( 5 ) لها ( ج ) بعده ( ط ) الحكيم ( 5 ) عليكم ( ط ) والأرض ( ط ) إلا هو ( ز للاستفهام ولفاء التعقيب وإتحاد المعنى ) تؤفكون ( 5 ) قبلك ( ط ) الأمور ( 5 ) الغرور ( 5 ) عدوّاً ( ط ) السعير ( 5 ط لأن ) الذين ( مبتدأ. ) شديد ( 5 ) كبير ( 5 ) حسناً ( ط لحذف الجواب ) حسرات ( ط ) يصنعون ( 5 ) موتها ( ط ) النشور ( 5 ) جميعاً ( ط ) يرفعه ( ط ) شديد ( 5 ) يبور ( 5 ) أزواجاً ( ط ) بعلمه ( ط ) في كتاب ( ط ) يسير ( 5 ) أجاج ( ط ) تلبسونها ( ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى ) تشكرون ( 5 ) مسمى ( ط ) الملك ( ط ) قطمير ( 5 ) دعاءكم ( ج للشرط مع العطف ) لكم ( ط ) بشرككم ( ط ) خبير ( 5 ) إلى الله ( ط لاتفاق الجملتين مع حسن الفصل بين وصفي الخالق والمخلوق ) الحميد ( 5 ) جديد ( 5 ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال ) بعزيز ( 5 ) أخرى ( ط لاستئناف الشرط ) قربى ( ط ) الصلاة ( ط ) لنفسه ( ط ) المصير ( 5 ) والبصير ( 5 لا ) ولا النور ( 5 لا ) ولا الحرور ( 5 ج للطول والتكرار ) الأموات ( ط ) يشاء ( ج للعطف مع الإثبات إلى النفي مع اتفاق(5/506)
" صفحة رقم 507 "
الجملتين ) القبور ( 5 ) إلا نذير ( 5 ) ونذيراً ( ط ) ونذير ( 5 ) من قبلهم ( ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف ) المنير ( 5 ) نكير ( 5. التفسير : لما بين في آخر السورة المتقدمة انقطاع رجاء الشاك وعدم قبول توبته في الآخرة ذكر في أوّل هذه السورة حال الموفق المؤمن وبشر بإرسال الملائكة إليهم مبشرين ، وبين أنه يفتح لهم أبواب الرحمة. و ) فاطر السموات والأرض ( مبدعهما أو شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض يؤيد التفسير الثاني قوله ) جاعل الملائكة رسلاً ( وقوله ( وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ) [ الأنبياء : 103 ] و ) أولي أجنحة ( اي أصحاب أجنحة أراد أن طائفة منهم أجنحة كل منهم اثنان اثنان ، وبعضهم ثلاثة ثلاثة لعل الثالث نها في وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة أو لعله لغير الطيران فلقد رأيت في بعض الكتب أن صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة ، فجناحان يلفون بهما أجسادهم ، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله عز وجل ، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله عز وجل. وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه رأى جبرائيل عليه السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح. وروي أن إسرافيل له اثنا عشر جناحاً ، جناح منها بالمشرق ، وجناح بالمغرب ، وإن العرش على كاهله وإنه ليتضاءل لعظمة الله سبحانه وتعالى حتى يعود مثل الوصع وهو العصفور الصغير. ويجوز أن يخالف حال الملائكة حال الطيور في الطيران كالحيوان الذي يدب بأرجل كثيرة ، ويجوز أن يكون البعض للزينة ، ويجوز أن يكون كل جناح ذا شعب. قال الحكيم : الجناحان إشارة إلى وجهتين : جهة الأخذ من ا لله ، وجهة الإعطاء لمن دونهم بإذن الله كقوله ) نزل به الروح الأمين على قلبك ) [ الشعراء : 193 ] ( علمه شديد القوى ) [ النجم : 5 ] ( فالمدبرات أمرا ) [ النازعات : 5 ] ومنهم من يفعل بواسطة فلهم ثلاث جهات أو أكثر على حسب الوسائط. ثم بين كمال قدرته بقوله ) ويزيد في الخلق ما يشاء ( والظاهر أنه عام يتناول كل زيادة في كل أمر يعتبر في الصورة كحسن الوجه والخط والصوت ونحوهما ، أو في المعنى كحصافة العقل وجزالة الرأي وسماحة النفس وذلاقة اللسان وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة. ثم أكد نفاذ أمره وجريان الأمور على وفق مشيئته بقوله ) وما يفتح الله للناس ( الآية. وفيها دلالة على أن رحمته سبقت غضبه من جهة تقديم الرحمة ومن جهة بيان الضمير في القرينة الأولى بقوله ) من رحمة ( والإطلاق في قوله ) وما يمسك ( فيشمل إمساك الغضب وإمساك الرحمة. ومن جهة قوله ) من بعده ( أي من بعد إمساكه فيفيد أن الرحمة إذ جاءته لم يكن لها انقطاع وإن ضدّها قد ينقطع وإن كان(5/507)
" صفحة رقم 508 "
لا يقطعه إلا الله ولهذا لا يخرج أهل الجنة من الجنة وقد يخرج أهل النار من النار ) وهو العزيز ( الغالب على إرسال الرحمة وإمساكها ) الحكيم ( الذي لا يمسك ولا يرسل إلا عن علم كامل وصلاح شامل. وحيث بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة المستدعية للحمد على التفصيل أمر المكلفين بتذكر العمة على الإجمال لساناً وقلباً وعملاً ، ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه : اذكر أياديّ عندك يريد حفظها وشكرها والعمل بموجبها. وعن ابن عباس : أن الناس أهل مكة أسكنهم حرمه ويتخطف الناس من حولهم. وعنه أيضاً أنه اراد بالنعمة العافية ، والظاهر تعميم النعمة والمنعم عليهم. ثم اشار إلى نعمة الإيجاد بقوله ) هل من خالق غير الله ( وإلى نعمة الإبقاء بقوله ) يرزقكم ( وهو نعت خالق أو مستأنف أو تفسير لمضمر ةوالتقدير : هل يرزقكم خالق يرزقكم ؟ قال جار الله : إن جعلت ) يرزقكم ( كلاماً مستأنفاً ففيه دليل على أن الخالق لا يطلق إلا على الله عز وجل. وأما على الوجهين الآخرين فلا ، إذ لا يلزم مننفي خالق رازق غيره نفي خالق غيره مطلقاً. وقوله ( لا إله إلا هو ( جملة مفصولة لا محل لها مثل ) يرزقكم ( في غير وجه الوصف إذ لو جعلت وصفاً لزم التناقض لأن قولك ( هل من خالق آخر سوى الله ) إثبات الله ، ولو جعلت المنفية وصفاً صار تقدير الكلام : هل من خالق آخر سوى لا إله إلا ذلك الخالق فلزم نقض الإثبات المذكور مع أن الكلام في نفسه يكون غير مستقيم. ) فأنى تؤفكون ( أي وكيف تصرفون عن هذا الظاهر فتشركون المنعوت بمالك الملك والملكوت. وحين بينّ الاصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله ) وإن يكذبوك ( الآية. والمراد إن يكذبوك فتسل بهذا المعنى. ثم بينت الصل الثالث وهو الحشر بقوله ) يا أيها الناس ( وقد مرّ مثل الآية في آخر سورة لقمان. وقد يسبق إلى الظن ههنا أن الغرور وهو الشيطان لأنه عقبه بقوله ) إن الشيطان لكم عدّو فاتخذوه عدّواً ( لأن الحازم لا يقبل قول العدوّ ولا يعتمد عليه. ثم صرح بوجه اتخاذه وبعاقبة دعوته فقال ) إنما يدعو حزبه ليكونوا من اصحاب السعير ( ثم فصل مال حال حزبه وحزب الله بقوله ) الذين كفروا ( إلى قوله ) وأجر كبير ( عرض على العقول أنه لا سواء بين الحزبين والمعنى ) أفمن زين له سوء عمله ( من الفريقين كمن لم يزين له. ولا ريب أن المزين لهم عملهم هم أهل الأهواء والبدع الذين لا مستند لهم في مأخذهم سوى التقليد واتباع الهوى. ثم أنتج من ذلك قوله ) فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ( وذلك أن الناس متساوية الأقدام في الإنسانية ومتفاوتة الأحوال في الأعمال ، فتبين أنه لا استقلال ، وأن أفعال العباد مستندة إلى إزادة مصرف القلوب والأ ؛ وال. ثم رتب على عدم الاستقلال قوله ) فلا تذهب ( أي فلا تهلك ) نفسك ( و ) عليهم ( صلة تذهب كما تقول هذك عليه حباً أو هو بيان للمتحسر عليه ولا يتعلق ب ) مجسرات ( المفعول(5/508)
" صفحة رقم 509 "
لأجله لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته. وجوّز جار الله أن يكون حالاً كأن كل نفسه صارت حسرات لفرط التحسر. وعن الزجاج أن تقدير الآية : أمفن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم فحذف لدلالة المذكور وهو فلا تذهب عليه ، أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله ، فحذف لأن قوله ) فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ( يدل عليه. ثم بين أن حزنه إن كان لما بهم من الضلال فالله عالم بهم وبما يصنعون لو أراد منهم الإيمان لآمنوا وإن كان لما بهم منالإيذاء فالله عليم بفعلهم فيجازيهم بذلك. ثم أكد كونه فاعلاً مختاراً قادراً قهاراً مبدئاً معيداً بقوله ) والله الذي أرسل ( وهو من الالتفات الموجب للتهويل والتعظيم. وقوله ( فتثير ( بلفظ المستقبل تصوير لتلك الحالة العجيبة الشأن ، عرف نفسه بفعل الإرسال ثم قال ) فسقناه ( كأنه قال : أنا الذي عرفتني بمثل هذه السياقة والصناعة وأنعمت عليك بهذه النعمة الشاملة. ثم شبه البعث والنشور بالصنع المذكور ووجهه ظاهر. وحين بين برهان الإيمان أشار إلى ما كان يمنع الكفار منه وهو العزة الظاهرة الت يكانوا يتوهمونها من حيث إن معبوديهم كانت تحت تسخيرهم والرسول كان يدعوهم إلى الإيمان لطاعة الله وطاعة أنبيائه فكنه قال : إن كنتم تطلبون حقيقة العزة ) فلله العزة ( خاصة كلها فلتطلبها من عنده ومن عند أوليائه نظيره قولك ( من أراد النصيحة فهي عند الأبرار ) يريد فليطلبها عندهم فاعتبر في هذه الآية حرف النهاية. وأما في قوله ) لله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) [ المنافقون : 8 ] فاعتبر الوسائط فالعزة للمؤمنين بواسطة الرسول وله من رب العزة. ثم إن الكفار كأنهم قالوا : نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده فإن البعد من الملك ذلة فقال ) إليه يصعد ( أي إن كنتم لا تصلون إليه فهو يسمع كلامكم ويقبل الطيب منها وذلك آية العزة ، وأما هذه الأصنام فلا يتبين عندها الذليل من العزيز إذ لا حياة لها ولا شعور وهكذا العمل الصالح لا تراه هذه الأصنام فلا يمكن لها مجازاة الأنام. وفاعل قوله ) يرفعه ( إن كان هو الله فظاهر ، وإن كان الكلم أعني قوله ( لا إله إلا الله ) فمعناه أنه لا يقبل عمل إلا من موحد وإن كان هو العمل فالمعنى : أن الكلم وهو كل كلام فيه ذكر الله أو رضاه يريد الصعود إلى الله غلا أنه لا يستطيع الصعود ولا يقع موقع القبول إلا إذا كان مقروناً بالعمل الصالح. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( الكلم الطيب هو قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن له عمل صالح لم يقبل منه ). وعن ابن المقفع : قول بلا عمل كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر. ولا تخفى أن القول هو الأصل والعمل مؤكده فلهذا قدم القول. وحين بيّن حال العمل الصالح ذكر أن المكرات السيئات بائرة كاسدة لا حقيقة لها ، ولعله(5/509)
" صفحة رقم 510 "
أشار بها إلى مكرات قريش المذكورات في قوله ) وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ) [ الأنفال : 30 ] جمع الله مكراتهم فقلبها عليهم حين أوقعهم في قليب بدر. ولما ذكر دليل الآفاق أكده بدليل الأنفس قائلاً ) والل خلقكم من تراب ( وفيه إشارة إلى خلق آدم ) ثمن من نطفة ( وفيه إشارة إلى خلق أولاده. ومعنى ) أزواجاً ( أصنافاً أو ذكراناً وإناثاً. ثم أشار إلى كمال علمه بقوله ) وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ( ثم بين نفوذ إرادته بقوله ) وما يعمر من معمر ( قال جار الله : معناه من أحد ولكنه سماه معمراً باعتبار ما يؤل إليه. وليس المراد تعاقب التعمير وخلافه على شخص واحد وإنما المراد تعاقبهما على شخصين فتسومح في اللفظ تعويلاً على فهم السامع كقول القائل : ما تنعمت بكذا ولا اجتويته غلا قل فيه ثوائي. وتأويل آخر وهو أن يراد لا يطول عمر إنسان ولا ينقص من عمر ذلك الإنسان بعينه ) إلا في كتاب ( وصورته أن يكتب في اللوح إن حج أو وصل الرحم فعمره أربعون سنة ، وإن جمع بين الأمرين فعمره ستون ، فإذا جمع بينهما فعمر ستين كان الغاية ، وإذا أفرد فعمر أرعين فقد نقص منتلك الغاية. وبهذا التأويل يستبين معنى ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار ). ويصح ما استفاض على الألسن ( أطال الله بقاءك ). وعن سعيد بن جبير يكتب في الصحيفة أن عمره كذا سنة ، ثم يكتب بعد ذلك في آخرها ذهب يوم ذهب يومان حتى تنقضي المدّة. وعن قتادة : المعمر من بلغ ستين ، والمنقوص من عمره من يموت قبل الستين. وذلك في علم الله. ) إن ذلك ( الذي ذكر من خلق الإنسان من المادة المذكورة أو اليزادة في الأعمار أو النقصان منها ) على الله يسير (. ثم ضرب مثلاً للمؤمن والكافر وذكر ليلاً آخر على عظم قدرته فقال ) وما يستوي البحران ( الآية. على الأوّل يكون قوله ) ومن كل تأكلون ( غلى آخر الآية تقريراً للنعمة على سبيل اللاستطراد ، أو هو من تمام التشبيه كأنه شبه الجنسين بالحرين. ثم فضل البحر الأجاج على الكافر لأنه شارك العذب في استخراج السمك واللؤلؤ وجرى الفلك فيه ، وأما الكافر فلا نفع فيه ألبتة فيكون كقوله في البقرة ثم قست قلوبكمر إلى آخر قوله و ) إن منهما لما يهبط من خشية الله ) [ الآية : 74 ] والأشبه أن الآية تقرير دليل مستأنف كما مرّ في أوّل ( النحل ) يؤيده تعقيبه بدليل آخر وهو قوله ) يولج الليل ( إلى قوله ) أجل مسمى ( قد مرّ في آخر ( لقمان ) مثله ، وفيه ردّ على عبدة الكواكب الذين ينسبون حوادث هذا العالم إلى الكواكب بالذات لا إلى تسخير مبدعها. قوله ) ذلكم الله ( أي الذي فعل الأشياء المذكورة من فطر السموات والأرض وإرسال الرياح وخلق الإنسان من التراب وغير ذلك هو المعبود الحق. وقوله ( ربكم له الملك ( خبران آخران ، ويجوز أن يكون ) الله ربكم ( خبرين و ) له الملك ( جملة مبتدأه واقعة في طبقات. قوله(5/510)
" صفحة رقم 511 "
) والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ( وذلك أن المشركين كانوا معترفين بأن الصنام ليسوا خالقين وإنما كانوا يقولون إنه تعالى فوض أمور الأرضيات إلى الكواكب التي هذه الأصنام صورها وطوالعها ، فأخبر الله تعالى أنهم لا يملكون قطميراً وهو القشرة الرقيقة للنواة فضلاً عما قوفها. قال جار الله : يجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله تعالى صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و ) ربكم ( خبراً لولا أن المعنى يأباه فقيل : لأن ذلك إشارة إلى معلوم سبق ذكره. وكونه صفة أو عطف بيان يقتضي أن يكون فيما سبق ضرب إبهام. قلت : وفيه نظر ، أما أولاً فلأن اسم الله من قبيل الأعلام لا من قبيل أسماء الأجناس فكيف يجوز جعله صفة ؟ وأما ثانياً فلأنه على تقدير التجويز يكون صفة مدح فلا ينافي كون المشار إليه معلوماً. والوجه الصحيح في غباء المعنى هو أن الوصف إذا كان معرفة كان أمراً متحققاً في الخارج مسلماً عند السامع. مثلاً إذا قلت : الرجل الكاتب جاءني. تريد الرجل الذي تعرفه أيها السامع أنه كاتب جاءني لكن الخطاب ههنا مع الكفار وهم يجحدون المعبود الحق ، أو يجحدون أن العبادة لا تصلح إلا له ، ن فلا يصح إيقاع اسم الله وصفاً لذلكم والخطاب معهم. ثم زاد في توبيخ الكفرة بقوله ) إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ( لأنهم جماد ولو فرض سماعهم ما استجابوا لكمر لما مرّ من أنهم لا يملكون شيئاً ) ويوم القيامة ( ايضاً ) يكفرون بشرككم ( قائلين ما كنتن إيانا تعبدون ) ولا ينبئك ( أي لا يطلعك على حقيقة الحال أيها النبيّ أو أيها السامع ) مثل خبير ( ببواطن الأمور. والمعنى أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق لأني خبير بما أخبرت به ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل عالم به. وفيه أنه الخبير بالأمر وحده ، وفيه ن هذا الخبر مما لا يعرف بمجرد المعقول لولا إخبار الله سبحانه. ثم بين أن نفع العبادة إنما يعود على المكلفين فقال ) يأيها الناس أنتم الفقراء ( ومعنى تعريف الخبر القصد إلى أنهم جنس الفقراء مبالغة ، وذلك أن افتقار الإنسان إلى الله عاجلاً لأمور المعاش وآجلاً لنعيم الآخرة أبين من افتقار سائر المخلوقين إليه. وقيل : إن كون الناس فقراء أمر ظاهر لا يخفى على أحد فلهذا عرف كقول القائل : الله ربنا ومحمد نبينا. ثم بين أن فقرهم ليس إلا إلى الله فقابل الفقراء بقوله ) والله هو الغنيّ ( وقابل قوله ) إلى الله ( بقوله ) الحميد ( لأنه إذا أنعم عليهم استحق الحمد منهم. ثم ذكر أنه غني عن وجودهم أيضاً لا يفتقر في ظهور أثر قدرته إليهم فقال ) إن يشأ يذهبكم ( وقد مرّ في ( النساء ) وفي ( إبراهيم ). وحين بين الحق بالدلائل الباهرة أراد أن يذكر ما يدعوهم إلى النظر فيه فقال ) ولا تزر وازرة ( يعني أن النفوس الوازرات لا ترى واحدة منهن إلا حاملة وزرها لا وزر(5/511)
" صفحة رقم 512 "
غيرها. ولا ينافي في هذا قوله ) وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم ) [ العنكبوت : 13 ] لأن وزر الإضلال هو وزر النفس الوزارة أيضاً ، وفيه أن كل نفس وازرة مهمومة بهمّ وزرها متحيرة في أمرها. ثم زاد في التهويل بقوله ) وإن تدع مثقلة ( أي نفس ذات حمل ) لا يحمل منه شيء ( فإن عدم قضاء الحاجة بعد السؤال أفظع. ثم زاد التأكيد بقوله ) ولو كان ( أي المدعوّ ) ذا قربى ( فإِن عدم القضاء بعد السؤال من القريب من أب وولد أدل على شدّة الأمر فيعلم منه أن لا غياث يومئذ أصلاً. ثم بين أن هذه الإنذارات إنما تفيد أهل الخشية والطاعة حال كونهم غائبين عن العذاب أو حال كون العذاب غائباً عنهم. ثم لما بيّن أن الوزر لا يتعدى إلى الغير بيّن أن التظهر عن الذنوب لا يفيد إلا نفس المتزكي ) وإلى الله المصير ( لكل فيجزيهم على حسب ذلك. ثم ضرب للكافر والمؤمن مثلاً فقال ) وما يستوي الأعمى والبصير ( وقيل : إنه مثل للصنم وللمعبود الحق. ثم ذكر للكفر والإيمان مثلاً قائلاً ) ولا الظلمات ولا النور ( وإذا كان الإيمان نوراً والمؤمن بصيراً فلا يخفى عليه النور ، وإذا كان الكفر ظلمة والكافر أعمى فله صادّ فوق صادّ. ثم بيّن لمآلهما ومرجعهما مثلاً وهو الظل والحرور. قال أهل اللغة : السموم يكون بالنهار والحرور أعم. وقال بعضهم : الحرور يكون بالليل فالمؤمن بإيمانه كمن هو في ظل وراحة ، والكافر في كفره كمن هو حرّ وتعب. وههنا مسائل. الأولى : ضرب أوّلاً مثلاً للكافر والمؤمن ثم أعاد مثلهما بقوله ) وما يستوي الأحياء ولا الأموات ( وهذا أبلغ لأن الأعمى والبصير قد يشتركان ف إدراك أشياء ولا كذلك الحي والميت ولمكان هذه المبالغة أعاد الفعل. الثانية : كرر ( لا ) النافية في الأمثال الأخيرة دون الأوّل ، لأن المنافاة بين العمى والبصر ليست ذاتية كما في سائرهما وقد يكون شخص واحد بصيراً بإحدى العينين أعمى بالأخرى. الثالثة : قدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحيّ ، وأخره في الآخرين فهم أهل الظاهر أن ذلك لرعاية الفواصل. والمحققون قالوا : إنهم كانوا قبل البعث في ظلمة الضلال فصاروا إلى نور الإيمان في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلهذا الترتيب قدّم مثل الكافر وكفره على مثل المؤمن وإيمانه. ولما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لأن رحمته سبقت غضبه. ثم إن الكافر المصرّ بعد البعثة صار أضلّ من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال ) وما يستوي الأحياء ( أي المؤمن الذي آمن بما أنزل الله. والأموات الذين تليت عليهم الآيات ولم تنجع فيهم البينات فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياتهم قبل ممات الكافرين المعاندين. الرابعة : إنما وحد الأعمى والبصير لأن المراد أن أحد الجنسين لا يساوي جنس الآخر من جهة العمى والبصر ، ولعل فرداً من أحدهما قد يساوي الفرد الآخر من جهة أخرى(5/512)
" صفحة رقم 513 "
وكذا الكلام في إفراد الظل والحرور. وإنما جمع الظلمات ووحّد النور لما مرّ في أوّل ( الأنعام ) من تحقيق أن الحق واحد والشبهات كثيرة. وإنما جمع الأحياء والأموات لأن المراد أن أحد الصنفين لا يساوي الآخر سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد. الخامسة : لا يخفى أن هذه الواوات بعضها ضمت شفعاً إلى شفع وبعضها ضمت وتراً إلى وتر. ثم سلى ورسوله بقوله ) إن الله يسمع ( الآية. فقد مرّ نظيره في قوله ) إنك لا تسمع الموتى ) [ النمل : 80 ] وإنما اقتصر على قوله ) إن أنت إلا نذير ( وكذا في قوله ) إلا خلا فيها نذير ( لأن الكلام في معرض التهديد مع أن ذكر البشير يدل عليه بل ذكر النذير يدل على مقابله. والمراد بالنذارة آثارها لثبوت زمان الفترة. ثم زاد في التسلية بقوله ) وإن يكذبوك ( وقد مر مثله في آخر ( آل عمران ). وإنما حذف الفاعل هناك لبناء الكلام هنالك على الاقتصار دليله أنه قال ) وإن يكذبوك فقد كذب ( فاقتصر على لفظ المضيّ ولم يسم الفاعل ، ويحتمل أن يكون لفظ الماضي إشارة إلى وقوع التكذيب منهم فإن تلك السورة مدنية والله أعلم. ( فاطر : ( 27 - 45 ) ألم تر أن . . . .
" ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا من ما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره(5/513)
" صفحة رقم 514 "
ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا "
( القراآت )
يدخلونها ( مجهولاً : أبو عمرو و ) يجزي ( مجهولاً غائباً كل بالرفع : أبو عمرو. الباقون : بالنون مبيناً للفاعل كل بالنصب و ) مكر الشيء ( بهمزة ساكنة : حمزة استثقالاً للحركات ، وحمله النحويون على الاختلاس ، وإذا وقف يبدل من الهمزة ياء ساكنة. الوقوف : ( ماء ( ج للعدول ) ألوانها ( الأولى ج ) سود ( 5 ) كذلك ( ط ) العلماء ( ط ) غفور ( 5 ) لن تبور ( 5 ) فضله ( ط ) شكور ( 5 ) يديه ( ط ) بصير ( 5 ) عبادنا ( ج ) لنفسه ( ج ) مقتصد ( ج تفصيلاً بين الجمل مع النسق ) بإذن الله ( ط ) الكبير ( 5 ط لأن ما بعده مبتدأ لا بدل ) ولؤلؤاً ( ج لاختلاف الجملتين ) حرير ( 5 ) الحزن ( ط ) شكور ( 5 ) فضله ( ج لاحتمال الاستئناف والحال ) لغوب ( 5 ) جهنم ( ج لمثل ما قلنا ) عذابها ( ط ) كفور ( 5 ج لاحتمال الواو الحال ) فيها ( ج للقول المحذوف ) كنا نعمل ( ط ) النذير ( 5 ) نصير ( 5 ) والأرض ( ط ) الصدور ( 5 ) في الأرض ( ط ) كفره ( ط ) مقتاً ( ج وان اتفقت الجملتان ولكن لتكرار الفعل وتصريح الفاعل والمفعول في الثانية ) خساراً ( 5 ) دون الله ( ط ) السموات ( ج لاحتمال أن ( أم ) منقطعة ) منه ( ج ) غروراً ( 5 ) تزولا ( ج لابتداء ما في معنى القسم مع الواو ) من بعده ( ط ) غفوراً ( 5 ) الأمم ( ج ) نفوراً ( 5 لا ) ومكر السيء ( ط ) بأهله ( ط ) الأولين ( ج لانتهاء الاستفهام مع اتصال الفاء ) تبديلاً ( 5(5/514)
" صفحة رقم 515 "
ج ) تحويلاً ( 5 ) قوة ( ط ) في الأرض ( ط ) قديراً ( 5 ) مسمى ( ج ) بصيراً ( 5. التفسير : لما بين دلائل الوحداينة بطريق الإخبار ذكر دليلاً آخر بطريق الاستخبار لأن الشيء إذا كان خفياً ولا يراه من بحضرتك كان معذوراً ، أما إذا كان بارزاً مكشوفاً فإنك تقول : أما تراه. والمخاطب إما كل أحد أو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن السيد إذا نصح بعض العباد ولم ينفعهم الإرشاد قال لغيره. اسمع ولا تكن مثل هذا ويكرر معه ما ذكره مع الأول. والالتفات في ) فأخرجنا ( لأن نزول الماء يمكن أن يقال : إنه بالطبع ولكن الإخراج لا يمكن إلا بإرادة الله. وأيضاً الإخراج أتم نعمة من الإنزال لأن إنزال المطر لفائدة الإخراج. واختلاف ألوان الثمرات اختلاف ( أصنافها أو هيئاتها ، والجدد الخطط ، والطرائق ) فعلة ( بمعنى ) مفعول ( والجد القطع. قال جار الله : لا بدّ من تقدير مضاف أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر مختلف ألوانها في البياض والحمرة ، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص وقد يكون أدنة من ذلك ، وكذلك الحمرة. والغرابيب تأكيد للسود إلا أنه أضمر المؤكد أوّلاً ثم أظهر ثانياً على طريقة قوله : والمؤمن العائذات الطير وإنما لم يتصوّر اختلاف الألوان ههنا لأن السواد إذا كان في الغاية لمي كن بعدها لون. يقال : أسود غربيب للذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب. ويمكن أن يقال : إن المختلف صفة الحمر فقط. وحين فرغ من دلائل النبات وما يشبه المعادن شرع في الاستدلال بالحيوان ، وقدّم الإنسان لشرفه ، ثم ذكر الدواب على العموم ، ثم خصص الأنعام ، أو أراد بالدابة الفرس فجعله لشرفه رديف الإنسان. وقوله ( مختلف ( اي بعض مختلف ) ألوانه ( وذكر الضمير تغليباً للإنسان أو نظراً إلى البعض. وقوله ( كذلك ( أي كاختلاف الجبال والثمرات ، وفيه ن هذه الأجناس كما أنها في أنفسها دلائل فهي باختلافها أيضاً دلائل. وحين خاطب نبيه بقوله ) ألم تر ( بمعنى ألم تعلم أتبعه قوله ) إنما يخشى الله من عباده العلماء ( كأنه قال : إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن نظر في دلائله فعرفه حق معرفته ، أو أراد أن يعرّفه كنه معرفته لأن الخشية على حسب العلم بنعوت كماله وصفات جلاله. وفي الحديث ) أعلمكم بالله أشدّكم خشية له ( وفائدة تقديم المفعول أن يعلم أن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم ، ولو أخر المفعول كان معنى صحيحاً وهو أنهم لا يخشون أحداً إلا الله إلا أن ذلك غير مراد ههنا. وعن عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبي حنيفة قرءا برفع الله ونصب العلماء فتكون الخشية مستعارة(5/515)
" صفحة رقم 516 "
للتعظيم اي لا يعظم الله ولا يجل من الرجال إلا العلماء به. ثم بين السبب الباعث على الخشية بقوله ) إن الله عزيز غفور ( فالعزة توجب الخوف من أليم عقابه والمغفرة توجب الطمع في نعيمه وثوابه ، وفيه أن خوف المؤمن ينبغي أن يكون مخلوطاً برجائه. ثم مدح العالمين العاملين بقوله ) إن الذين يتلون ( الآية. قال أهل التحقيق : قوله ) إنما يخشى الله ( إشارة إلى عمل القلب ، وقوله ( إن الذين يتلون ( أي يداومون على التلاوة إشارة إلى عمل اللسان. وقوله ( وأقاموا الصلاة ( إشارة إلى عمل الجوارح ، والكل أقسام التعظيم لأمر الله. ثم اشار إلى الشفقة على خلق الله بقوله ) وأنفقوا مما رزقناكم ( وقوله ( يرجون ( وهو خبر ) إن ( إشارة إلى الإخلاص في العقائد والأعمال أي نفقون من الأموال لا ليقال إنه كريم أو لغرض آخر بل لتجارة لا كساد فيها ولا بوار وهي طلب مرضاة الله. ؟ وقوله ( ليوفيهم ( متعلق ب ) لن تبور ( أي تنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها عنده أجورهم. وجوّز جار الله أن يجعل ) يرجون ( في موضع الحال واللام متعلق بالأفعال المتقدّمة اي فعلوا جميع ما ذكر من التلاوة والإقامة والإنفاق لغرض التوفية. وخبر ) إن ( قوله ) إنه غفور ( لهم ) شكور ( لأعمالهم. وحين ذكر دلائل الوحدانية أتبعه بيان الرسالة وذكر حقيقة الكتاب المتلوّ والكتاب للجنس ف ) من ( للتبعيض أو هو القرآن ، و ) من ( للتبيين أو هو اللوح المحفوظ و ) من ( للابتداء وقد مرّ في البقرة أن قوله ) مصدقاً ( حال مؤكدة. وفي قوله ) إن الله بعباده لخبير بصير ( تقرير لكونه حقاً لأن الذي يكون عالماً بالبواطن والظواهر لم يمكن أن يكون في كلامه شوب باطل. وفيه لم يختر محمداً للرسالة جزافاً وعلى سبيل الاتفاق ولنه أعلم حيث يجعل رسالته. قوله ) ثم أورثنا الكتاب ( زعم جمع من المفسرين أنالكتاب للجنس بدليل قوله فيما قبل ) جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر ( والإيراث الإعطاء ، والمصطفون من عبيده هم الأنبياء كأنه قال : علمنا البواطن وابصرنا الظواهر فاصطفينا عباداً ثم أورثناهم الكتاب. وعلى هذا فالمراد بالظلم على النفس وضع الشيء في غير موضعه وإن كان بترك الأولى ومنه قول ابينا آدم ) ربنا ظلمنا أنفسنا ) [ الأعراف : 23 ] وقوله يونس ) إني كنت من الظالمين ) [ الأنبياء : 87 ] وإذا كان الظلم بهذا المعنى جائزاً عليهم فالاقتصاد أولى. ويجوز أن يعود الضمير في قوله ) فمنهم ( إلى الأمة كأنه قيل : إن الذي أوحينا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلنا ، وآتيناهم كتباً فمن قومك ظالم كفر بك وبما أنزل إليك ، ومقتصد آمن به ولم يأتِ بجميع ما أمر به ، وسابق آمن وعمل صالحاً. وقال أكثرهم : إنه القرآن والإيراث الحكم بالتوريث أو هو على عادة إخبار الله في التعبير عن المستقبل بالماضي لتحققه أي نريد أن نورثه. والمصطفون هم الصحابة والتابعون ومن بعدهم إلى يوم القيامة كقوله ) كنتم خير(5/516)
" صفحة رقم 517 "
أمة ) [ آل عمران : 11 ] ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) [ البقرة : 143 ] وعلى هذا ففي تفسير المراتب الثلاثة أقوال أحدها : الظالم الراجح السيئات ، والمقتصد المتساوي الحسنات والسيئات ، والسابق راجح الحسنات. ثانيها الظالم من ظاهره خير من باطنه ، والمقتصد المتساوي ، والسابق من باطنه خير. ثالثها : الظالم صاحب الكبيرة ، والمقتصد صاحب الصغيرة ، والسابق المعصوم. رابعها : عن علي رضي الله عنه : الظالم أنا ، والمقتصد أنا ، والسابق أنا. فقيل له : كيف ذاك ؟ قال : أنا ظالم بمعصيتي ، ومقتصد بتوبتي ، وسابق بمحبتي. خامسها : الظالم التالي للقرآن غير العالم به ولا العامل بموجبه ، والمقتصد التالي العالم غير العامل ، والسابق التالي العامل سادسها : الظالم الجاهل ، والمقتصد المتعلم ، والسابق العالم. سابعها : الظالم من يحاسب فيدخل النار وهو أصحاب المشأمة ، والمقتصد من يحاسب فيدخل الجنة وهو اصحاب الميمنة ، والسابق من يدخل الجنة بغير حساب ، ثامنها : الظالم من خالف أوامر الله وارتكب مناهيه فإنه واضع للتكليف في غير موضعه ، والمقتصد هو المجتهد في أداء التكاليف وإن لم يوفق لذلك فإنه قصد الحق واجتهد ، والسابق هو الذي لم يخالف تكاليف الله بتوفيقه دليله قوله في الأخير ) بإذن الله ( وذلك أنه إذا وقع الخير في نفسه سبق إليه قبل تسويل النفس ، والمقتصد يقع في قلبه فتردّده النفس ، والظالم تغلبه النفس. وبعبارة أخرى من غلبته النفس الأمارة وأمرته فأطاعها ظالم ، ومن جاهد نفسه فغلبته تارة غلب أخرى فهو المقتصد صاحب النفس اللوامة ، ومن قهر نفسه فهو السابق. وفي تقديم الظالم ثم المقتصد إيذان بأن المقتصدين أكثر من السابقين والظالمون أكثر الأقسام كما قال ) وقليل من عبادي الشكور ) [ سبأ : 13 ] ( ذلك ( الذي ذكر من التوفيق أو من السبق بالخيرات أو من الإيراث ) هو الفضل الكبير ( قال جار الله : أبدل قوله ) جنات عدن ( من الفضل لأنها مسببة عنه وكأنها هو. قلت : ويمكن أن يقال ) جنات عدن ( مبتدأ لأنها معرفة بدليل قوله ) جنات عدن التي وعد الرحمن ) [ مريم : 61 ] ولئن سلم أنها نكرة فليكن ) يدخلونها ( صفة له وخبرها ) يحلون ( ثم إن ضمير ) يدخلون ( إن عاد إلى التالين لكتاب الله أو إلى السابقين فلا إشكال ؛ فالظالم يدخل النار والمقتصد يكون أمره موقوفاً كقوله ) وآخرون مرجون لأمر الله ) [ التوبة : 106 ] أو كقوله وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاًر وإن عاد إلى الفرق الثلاث فبشرط العفو أو بشرط التوبة ، وقد يروى عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له ( وفي تقديم ) جنات عدن ( وبناء الكلام عليها دون أن يقول ) يدخلون جنات عدن ( إيذان بأن الاهتمام بشأنها أكثر فإن نظر السامع على المدخول فيه لا على نفس الدخول. وقد مرت العبارة الاصلية في سورة الحج في قوله ) إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات ( إلى قوله ) حرير ) [ الآية : 23 ] وتغيير(5/517)
" صفحة رقم 518 "
العبارة في هذا المقام لمزيد هذه الفائدة والله أعلم. وفي قوله ) يحلون فيها ( إشارة إلى سرعة الدخول فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيراً للدخول. وفي تحليتهم بالسوار إشارة إلى أمرين : أحدهما الترفه والتنعم ، الثاني أنهم لا يحتاجون فيها إلى عمل من الصبخ وتهيئة سائر الأسباب. قال جار الله : أي يحلون بعض أساور من ذهب كأنه بعض سابق لسائر الأبعاض كما سبق المسوّرون به غيرهم ، والذهب واللؤلؤ إشارة إلى النوعين اللذين منهما الحليّ. وقيل : إن ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ ، والحزن للجنس فيعم كل حزن من أحزان الدنيا والدين كما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ( وقد خصه جمع من المفسرين بخوف سوء العاقبة أو بحزن الآفات أو بحزن الموت أو بهمّ المعاش حتى قال بعضهم : كراء الدار والتعميم أولى. والمقامة بمعنى الإقامة والفضل التفضل. وعند المعتزلة العطاء لأن الثواب أجر مستحق واجب عندهم. والنصب التعب والمشقة التي تصيب المزاول للأمر المنتصب له. واللغوب ما يلحقه من الفتور والكلال بعد ذلك قاله جار الله. وقال غيره : إن الذي يباشر عملاً من الأعمال لا يظهر عليه الإعياء إلا بعد أن يستريح ، فالمراد أنهم لايخرجون من الجنة إلى موضع يتعبون بسبب ذلك ثم يلحقهم الإعياء بعد الرجوع. ثم عطف قوله ) والذين كفروا ( على قوله ) إن الذين يتلون ( وقوله ( فيموتوا ( جواب للنفي والتقدير لا يقضي عليهم بالموت فيستريحوا و ) يصطرخون ( يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدّة كشأن المستغيث. وفائدة قوله ) غير الذي كنا نعمل ( زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح ، أو المراد نعمل صالحاً غير الذي كنا نحسبه صالحاً لأنهم كانوا يحسبون أنهم يحسنون. وفيه إشارة إلى أنهم في الآخرة أيضاً ضالون لم يهدهم الله في الآخرة كما لم يهدهم في الدنيا ، ولو كانوا مهتدين لقالوا : ربنا زدت للمحسنين حسنات بفضلك لا بعملهم ونحن أحوج إلى تخفيف العذاب منهم إلى تضعيف الثواب فافعل بنا ما أنت أهله نظراً إلى فضلك ، ولا تفعل بنا ما نحن أهله نظراً إلى عدلك ، وانظر إلى مغفرتك الهاطلة ولا تنظر إلى معذرتنا الباطلة. وهذا بخلاف حال المؤمن هداه في العقبى كما هداه في الدنيا حتى دعاه بأقرب دعاء إلى الإجابة ، وأثنى عليه بأطيب ثناء عند الإنابة فقالوا ) الحمد لله ( وقالوا ) إن ربنا لغفور ( اعترافاً بتقصيرهم ) شكور ( إقراراً بوصول ما لم يخطر ببالهم غليهم وأحوالوا الكل إلى فضله تصريحاً بأنه لا عمل لهم بالنسبة إلى بحار نعمه. قوله ) أولم نعمركم ( استفهام فيه توبيخ وإفحام وهو متناول لكل عمر(5/518)
" صفحة رقم 519 "
تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه إلا أن التوبيخ في العمر الطويل أعظم. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة ( وروي ) من جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار ( وعن مجاهد : ما بين العشرين إلى الستين. وقيل : ثماني عشرة وسبع عشرة. وقوله ( وجاءكم ( معطوف على المعنى كأنه قيل : قد عمرناكم وجاءكم ) النذير ( وهو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . وقيل : الشيب. فبين بالجملتين أن القابل موجود والفاعل حاصل ، فالعذر غير مقبول ) فذوقوا ( العذاب ) فما للظالمين ( الذين وضعوا أعمالهم في غير موضعها وأتوا بالمعذرة في غير وقتها ) من نصير ( نفى الأنصار والناصرين في آخر ) آل عمران ( وفي ) الروم ( ووحد ههنا كأنهم في النار قد ايسوا من كثير ممنم كانوا يتوقعون منهم النصرة إلا من نصير واحد وهو الله سبحانه. ثم كان لسائل أن يسال : ما بال الكافر يعذب ابداً وإنه ما كفر إلا اياماً معدودة فلا جرم قال ) إن الله عالم غيب السموات والأرض ( فكان يعلم من الكافر أن الكفر قد تمكن في قلبه بحيث لو دام إلى الأبد لما أطاع الله ولا عبده. وذات الصدور صواحباتها من الظنون والعقائد فذو موضوع لمعنى الصحبة ، فالصدور ذات العقائد والعقائد ذات الصدور باعتبار أ ، ها تصحبها. وحين ذكرهم بما مر من أنه سوف يوبخهم بالتعمير وإيتاء العقول وإرسال من يؤيد المعقول بالمنقول وعظهم بأنه ) هو الذي جعلكم ( وفقد العاطف هنا خلاف ما في آخر ) الأنعام ( للعدول عن خطاب أهل الآخرة إلى خطاب أهل الدنيا. وقال ههنا ) خلائف في الأرض ( بزيادة ) في ( المفيدة لتمكن المظروف في الظرف لأجل المبالغة والترقي من الأدنى إلى الأعلى كأنه قيل : أمهلتهم وعمرتم وأمرتم على لسان الرسل بما أمرتم وجعلتم ه خلفاء الهالكين الماضين فأصبحتم بحالهم راضين ) فمن كفر ( بعد هذا كله ) فعليه ( وبال كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا ) مقتاً ( لأن الكافر السابق ممقوت واللاحق الذي أنذروه الرسول ولم ينتبه أمقت لأنه رأى عذاب من تقدّمه ولم يتنبه ) ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا ( فإن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله ربح ومن اشترى به سخطه خسر. ثم وبخ أهل الشرك بقوله ) قل أرأيتم ( وأبدل منه ) أروني ( كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء ، أروني أيّ جزء من أجزاء الرض استبدّوا بخلقه ) أم لهم ( مع الله ) شرك في ( خلق ) السموات ( أم معهم أو مع عابديهم كتاب من عند الله فهم على برهان من ذلك الكتاب. والإضافة في ) شركائكم ( لملابسة العبادة ، أو المراد كونهم شركاءهم في النار كقوله ) إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) [ الأنبياء : 98 ] ( بل إن يعبد الظالمون بعضهم ( وه الرؤساء ) بعضاً ( وهم الأتباع ) إلا غروراً ) [ يونس : 18 ] وهو قولهم ) هؤلاء شفعاؤنا ( وحين بين عجز الصنام أراد أن يبين كمال القدرة فقال إن الله يمسك السموات والأرضر أي يمنعهما من ) أن(5/519)
" صفحة رقم 520 "
تزولاً ( أو كراهة زوالهما عن مقرهما ومركزهما ، ولو فرض زوالهما بأمر الله فلن يمسكهما أحد من بعد زوالهما أو من بعد الله. وقيل : أراد أنهما كانتا جديرتين بأن تهدّ هدّاً لعظم كلمة الشرك كقوله ) تكاد السموات يتفطرن منه ) [ مريم : 90 ] يؤيد هذا الوجه قوله ) إنه كان حليماً ( غير معاجل بالعقوبة ) غفوراً ( لمن تاب من الشرك. قال المفسرون : بلغ قريشاً قبل مبعث رسول الله أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم رسلهم فكذبوا فوالله لئن أتانا رسول لكنا أهدى. وزيف هذا النقل بأن المشركين كانوا منكرين للرسالة والحشر فكيف اعترفوا بأن اليهود والنصارى جاءهم رسل. سلمنا لكنهم كيف عرفوا تكذيب اليهود وتحريفهم ولم يأتهم رسول ولا كتاب ؟ فالوجه الصحيح في سبب النزول أنهم كانوا يقولون : لو جاءنا رسول لم ننكره وإنما ينكرون كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رسولاً لأنه كاذب ، ولو صح كونه رسولاً لآمنا. وقوله ( من إحدى الأمم ( ليس للتفضيل بل المراد أنا نكون أهدى مما نحن عليه ونكون من إحدى الأمم كقولك : زيد من المسلمين. أو هو للتفضيل والأمم لتعريف العهد أي أمة محمد وموسى وعيسى عليهم السلام ، أو للعموم أي أهدى من ايّ أمة تفرض ويقال فيها إحدى الأمم تفضيلاً لها على غيرها في الهدى والاستقامة. ) فلما جاءهم نذير ( هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي صح لهم نذارته بالمعجزات الباهرة ) ما زادهم ( هو أو مجيئه ) إلا نفوراً ( كأنه صار سبباً في نفارهم عن الحق عناداً وكبراً فانتصب ) استكباراً ( على أنه مفعول لأجله أو حل ويجوز أن يون بدلاً من ) نفوراً ( وقوله ( ومكر ( من إضافة المصدر إلى صفة معموله أصله وأن مكروا السيء أي المكر السيء ، والمكر هو مكرهم بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الهّم بالقتل والإخراج وقد حاق بهم يوم بدر ، أو هو عام وعاقبة الماكر وخيمة يصل إليه جزاؤه عاجلاً أو آجلاً. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله يقول ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله (. وفي أمثالهم ) من حفر لخيه جبا وقع فيه منكباً (. وفي قوله ) بأهله ( دون أن يقول ) إلا بالماكر إشارة إلى أن الرضا بالمكر والإعانة عليه كهو فيندرج مصاحبه في زمرة أهل المكر. وقوله ( سنة الأوّلين ( من إضافة المصدر إلى المفعول. وقوله ( سنة الله ( من إضافته إلى الفاعل والمراد بها إنزال العذاب على أمثالهم من مكذبي الرسل ، جعل استقبالهم لذلك واستعجالهم إياه انتظاراً له منهم. والتبديل تغيير الصورة مع بقاء المادة ، والتحويل نقل الشيء من مكان إلى مكان آخر. خص هذه السورة بالجمع بين الوصفين لأن كثيراً من أحوال الكفرة جاءت ههنا مثناة كقوله ولا يزيد الكافرينر إلى قوله ) إلا خساراً ( وكقوله ) إلا نفوراً استكباراً في الأرض ومكر السيء ( ويحتمل أن يريد بسنة الأوّلين استمرارهم على الإنكار كأنه قال : أنتم تريدون(5/520)
" صفحة رقم 521 "
الإتيان بسنة الأوّلين والله يأتي بسنة لا تبدل. العذاب المعلوم بنوع آخر ولا تحوّله عن مستحقيه إلى من لا يستحقه. ثم أمرهم بالسير وذكرهم ما رأوه في مسايرهم ومتاجرهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الهالكين الأقدمين مع وفور قوّتهم وكثرة شوكتهم. ثم بين كمال علمه ونهاية قدرته على اتصال أصناف الاستحقاقات بقوله ) وما كان الله ليعجزه ( أي ليسبقه ويفوته شيء. ثم ختم السورة بما يدل على غاية حلمه وهو أنه لا يؤاخذ الناس بكل جرم ) إلى أجل مسمى ( هو القيامة وهو يومئذ أعلم بأحوالهم علماً عيانياً فيجزي كلاً بحسب علمه ، وقد مر مثل الآية في سورة النحل. وقيل : الأجل هو يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن أو حين يجتمع الناس على الضلال والله أعلم. تم الجزء الثاني والعشرون ، ويليه الجزء الثالث والعشرون وأوله تفسير سورة يس .(5/521)
" صفحة رقم 522 "
سورة يس
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثالث والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
( سورة يس مكية سوى آية نزلت في اليهود قوله ) وإذا قيل لهم أنفقوا ( حروفها ثلاثة آلاف كلمها سبعمائة وسبع وعشرون آياتها ثلاث وثمانون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( يس : ( 1 - 44 ) يس
" يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون وإن كل لما جميع لدينا محضرون وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه(5/522)
" صفحة رقم 523 "
يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين "
( القراآت )
يس ( بإظهار النون : أبو عمرو وسهل ويعقوب غير رويس وابن كثير غير ابن فليح وحمزة وأبو جعفر ونافع غير النجاري عن ورش والحلواني عن قالون وعاصم غير يحيى وابن أبي غالب. وقرأ حمزة وعلي وخلق ويحيى وحماد بالإمالة. ) تنزيل ( بالنصب : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. والباقون : بالرفع ) سدّاً ( بفتح السين في الحرفين : حمزة وعلي وخلف وحفص وابو زيد ) فعززنا ( بالتخفيف : أبو بكر وحماد والمفضل ) آين ( بالمد والياء أبو عمرو وقالون وزيد مثله ولكن بالقصر ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد. ) أئن ( بهمزتين : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل وابن عامر ، هشام يدخل بينهما مدة وقرأ المفضل ) اين ( على وزن ( كيف ) ) آن ( بسكون النون وبالمد : يزيد مثل ) آنذرتهم ( ) ذكرتم ( بالتخفيف : زيد ) ومالي ( بسكون الياء : حمزة ويعقوب ) ينقذوني ( في الحالين بالياء : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل ) إني إذا ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) إني آمنت ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ) إلا صيحة واحدة ( بالرفع وكذلك ما بعدها : يزيد ) لما ( بالتشديد : ابن عامر وحمزة وعاصم ) الميتة ( بالتشديد : أبو جعفر ونافع ) عملت ( بغير هاء الضمير : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل ) لمستقر ( بكسر القاف : زيد عن يعقوب ) والقمر ( بالرفع على الابتداء : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ونافع ويعقوب غير رويس. الآخرون : بالنصب إضماراً على شريطة التفسير ) ذرياتهم ( على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب. الوقوف : ( يس ( 5 كوفي ) الحكيم ( 5 لا لجواب القسم ) المرسلين ( 5 لا لأن الجار والمجرور خبر بعد خبر أو مفعول ثانٍ لمعنى الفعل في ) المرسلين ( أي أرسلت على صراط(5/523)
" صفحة رقم 524 "
) مستقيم ( 5 ط على القراءتين فمن نصب فمعناه نزل تنزيل أو أعني تنزيل ومن رفع فالتقدير هذا تنزيل ) الرحيم ( 5 لا لتعلق لام كي بمعنى التنزيل والإرسال ) غافلون ( 5 ) لا يؤمنون ( 5 ) مقمحون ( 5 ) لا يبصرون ( 5 ) لا يؤمنون ( 5 ) بالغيب ( 5 لانقطاع النظم مع دخول الفاء ) كريم ( 5 ) وآثارهم ( ط مبينر 5 ) القرية ( 5 لأن ( إذ ) ليس ظرفاً ) لاضراب ( بل التقدير وإذكر إذ جاءها. وجوّز في الكشاف أن يكون ( إذ ) بدلاً من ) أصحاب القرية ( فلا وقف. ) المرسلون ( 5 ج لاحتمال أن يكون ( إذ ) بدلاً أو معمولاً لعامل آخر مضمر ) مرسلون ( 5 ) مثلنا ( لا ) من شيء ( لا لاتحاد المقول فيهما ) تكذبون ( 5 ) لمرسلون ( 5 ج ) المبين ( 5 ) بكم ( ج للإبتداء بما في معنى القسم مع اتحاد المقول ) أليم ( 5 ) معكم ( ط ) ذكرتم ( ط ) مسرفون ( 5 ) المرسلين ( 5 لأن اتبعوار بدل من الأوّل ) مهتدون ( 5 ) ترجعون ( 5 ) ولا ينقذون ( 5 ج للابتداء بان مع تعلق ( إذا ) بما قبلها أي أني إذا اتخذت آلهة لفي ضلال ) مبين ( 5 ) فاسمعون ( 5 ط لأن التقدير فلم يسمعوا قوله فقتلوه ثم قيل له ادخل ) الجنة ( ط ) يعلمون ( 5 لا لتعلق الباء. ) المكرمين ( 5 ) منزلين ( 5 ) خامدون ( 5 ) العباد ( ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً والعامل معنى في حسرة ) يستهزؤن ( 5 ) لا يرجعون ( 5 ) محضرون ( 5 ) يأكلون ( 5 ) العيون ( 5 لا ) ثمر ( 5 ط لمن جعل ( ما ) نافية ومن جعلها موصولة لم يقف ) ايديهم ( ط يشكرونر 5 ) لا يعلمون ( 5 ) مظلمون ( 5 ط ) لها ( ط ) العليم ( 5 لا لمن قرأ ) والقمر ( بالرفع بالعطف على ) الليل ( ، ومن قرأ بالنصب وقف مطلقاً ) القديم ( 5 ) النهار ( ط ) يسبحون ( 5 ) المشحون ( 5 لا ) يركبون ( 5 ) ينقذون ( 5 لا ) حين ( 5. التفسير : الكلام الكلي في فواتح السور قد مر في أوّل البقرة وغيرها والذي يختص بالمقام ما قيل إن معناه يا سيد أو يا أنيسين فاقتصر على البعض رواه جار الله عن ابن عباس. ولا يخفى أن النداء على هذا يكون لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) يؤيده قوله ) إنك لمن المرسلين ( وكثيراً ما يستعمل القسم بعد إفحام الخصم الألدّ كيلا يقول إنك قد افحمت بقوّة جدالك وأنت في نفسك خبير بضعف مقالك. وأيضاً الابتداء بصورة اليمين يدل على أن المقسم عليه أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه ، اليمين يدل على أن المقسم عليه أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه ، وكانت العرب يتحرزون من الأيمان الفاجرة ويقولون إنها تدع الديار بلا قع ، وكان من المعلوم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه يعظمون القرآن غاية التعظيم وكان اليمين به موقوفاً عليه عند الكفرة. وقوله ( على صراط ( كالتأكيد لأن المرسلين لا يكونون إلا على المنهج القويم. وتنكير صراط للتعظيم. قيل : فيه دليل على فساد قول المباحية القائلين بأن المكلف إذا صار واصلاً لم يبق عليه تكليف فإن(5/524)
" صفحة رقم 525 "
المرسلين لم يستغنوا عن رعاية الشريعة فكيف غيرهم. وقوله ( ما أنذر آباؤهم ( كقوله في ( القصص ) ) لتنذر قوماً ما أباهم من نذير ) [ الآية : 46 ] وقد مر أنه يشمل اليهود والنصارى لأن آباءهم الأدنين لم ينذروا بعدما ضلوا ) فهم غافلون ( لهذا السبب. وقد يقال : إن ( ما ) مصدرية أو موصولة أي أرسلت لتنذرهم إنذارا آبائهم أو ما أنذر آباؤهم فإنهم في غفلة ، فعلى هذا كونهم غافلين سبب باعث على الإنذار ، وعلى الأول عدم الإنذار سبب غفلتهم. ثم بين أن السبب الحقيقي للغفلة هو أنه تعالى جعلهمن من جملة المطبوع على قلوبهم ومن زمرة أهل النار وهو قوله فيهم ) لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك ) [ ص : 85 ] أو أراد بالقول سبق علمه فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤمنون. وقيل : أراد أن القول بالدعوة بلغ أكثرهم ولكنهم لا يؤمنون جحوداً وعناداً ، وذلك أن من يتوقف على استماع الدليل في مهلة النظر يرجى منه الإيمان إذا بان له البرهان ، أما بعد البيان والوضوح فلا يكون عدم الإيمان إلا للمكابرة. وحين بيّن أنهم لا يؤمنون ذكر أن ذلك من الله تعالى فقال ) إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ( فيكون مثلاً لتصميمهم على الكفر كالطبع والختم. وقيل : إنه إشارة إلى إمساكهم وأنهم لا ينفقون في سبيل الله كما قال ) ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) [ الإسراء : 29 ] وعلى هذا يمكن أن يكون معنى قوله ) فهم لا يؤمنون ( أنهم لا يزكون كأنه عبر بالإيمان عن الزكاة كما عبر به عن الصلاة في قوله ) وما كان الله ليضيع إيمانكم ) [ البقرة : 143 ] وقيل : نزلت في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي ليرضخن رأسه ، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي آخر : أنا أقتله بهذا الحجر. فذهب فأعمى الله بصره وأنزلت الآيتان. والضمير في قوله ) فهي إلى الأذقان ( راجع إلى الأيدي وإن كانت غير مذكورة لكونها معلومة فإن المغلول تكون أيديه مجموعة إلى العنق ولذلك يسمى الغل جامعة أي جامعاً لليد والعنق. وتأنيث الجامعة مبالغة أو بتأويل الآلة. وقيل : واختاره في الكشاف أنه يرجع إلى الأغلال اي جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطئ رأسه فلا يزال مقمحاً. والمقمح الذي يرفع راسه ويغض بصره ومنه أقمحت السويق اي سففته. والكانونان يقال لهما شهراً قماح لأن الإبل ترفع رؤوسها عن الماء لبرده فيهما. وكيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية فيقول المغلول الذي بلغ الغل ذقنه وبقي مقمحاً رافع الرأس لا يبصر الطريق فضرب ذلك مثلاً للذي يهديه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الصراط المستيم العقلي وهو لا يبصره بنظر بصيرته ، ويمكن أن يجعل كناية عن عدم التصديق بتحريك الرأس. ويقال : بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء ، والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة. ثم ضرب مثلاً(5/525)
" صفحة رقم 526 "
آخر لكونهم غير منتهجين سبيل الرشاد وذلك قوله ) وجعلنا من بين ايديهم سداً ( قال أهل التحقيق : المانع إما أن يكون في النفس وهو الغل فلا يتبين لهم ىيات الأنفس ، وإما أن يكون خارداً عنها وهو السدّ فلا يتضح لهم دلائل الآفاق. ويمكن أن يقال : السدّ من قدام إشارة إلى عدم العلوم النظرية ، ومن خلف إشارة إلى عدم فطنتهم الغريزية ، أو الأوّل إشارة إلى الغفلة عن أحوال المعاد ، والثاني إشارة إلى الغفلة عن المبدأ. وفيه أن السالك إذا انسدّ عليه الطريق من قدامه ومن خلفه والموضع الذي هو فيه لاي كون موضع إقامة فإنه يهلك لا محالة. ثم زاد ف التأكيد بقوله ) فأغشيناهم ( أي جعلنا بعد ذلك كله على ابصارهم غشاوة ) فهم لا يبصرون ( شيئاً اصلاً. ويحتمل أن يكون الإغشاء إشارة إلى أن السدّ قريب منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة فإن القرب القريب مانع من الرؤية فلا يرون السدّ قريب منهم ) فهم لا يبصرون ( وعلى هذا يكون ذكر السد من خلف تأكيداً على تكيد ، فإن الذي جعل بين يديه ومن خلفه سدان ملتزقان لا يمكنه التحرك يمنة ويسرة ولا النظر إلى السدّ ولا إلى غيره. ويمكن أن يقال : فائدته تعميم المنع من انتهاج المسالك المستقيمة لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو إلى جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء ، وهكذا إن فرض رجوع قهقرى فإن المشي من هاتين الجهتين عادة ، ثم صرح بالمقصود معطوفاً على المذكوراتع قائلاً ) وسواء عليهم ( الآية. وقد مر إعرابه وسائر ما يتعلق بتفسيره في أول البقرة. ولا يخفى أن الإنذار وعدمه بالنسبة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غير مستويين وإنما الإنذار سبب لزيادة سيادته وسعادته عاجلاً وآجلاً. ثم بين بقوله ) إنما تنذر ( أن عدم فائدة الإنذار إنما هو بالإضافة إلى المطبوع على قلوبهم الذين تقدم شرح حالهم وبيان أمثالهم لا إلى المنتفعين به. والذكر القرآن أو ما فيه من المواعظ والحكم والدلائل ، وفي ذكر الخشية مع تعقيبه باسم الرحمن إشارة إلى أن قهره مقرون بلطفه يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا رجاءكم. والغيب ما غاب عنا من أحوال القيامة وغيرها. وقيل : أي بالدليل وإن لم ينته إلى العيان فعند الانتهاء إلى ذلك لم يبق للخشية فائدة. ومعنى الفاء في ) فبشره ( أنك مكا أنذرت وخوّفت فبشر بمغفرة واسعة وأجر كريم لا يكتنه كنهه ، فكأن المغفرة بإزاء الإيمان والأجر الكريم للعمل الصلاح. أو الأول لاتباع الذكر والثاني للخشية. وحين فرغ من بيان الرسالة شرع في أصل الحشر قائلاً ) إنا نحن نحيي الموتى ( على أن البشارة بالمغفرة والأجر لا يتم إلا بعد ثبوت الإعادة وهكذا خشية الرحمن بالغيب تناسب ذكر إحياء الأموات. والظاهر أن قوله نحنر ضمير الفصل ويجوز أن يكون مبتدأ والفعل خبره والجملة هخبر ( إن ) ويجوز أن يكون ) نحن ( خبر ( إن )(5/526)
" صفحة رقم 527 "
كقول القائل عند الافتخار بالشهرة : أنا أنا. كأن الله تعالى قال إنما نحن معروفون بأوصاف الكمال وإذا عرّفنا أنفسنا فلا تنكر قدرتنا على إحياء الموتى. وفي هذا التركيب أيضاً إشارة إلى التوحيد أي ليس غيرنا أحد يشاركنا حتى نقول إنا كذا فنمتاز. ثم اشار إلى العلم التام الذي يتوقف عليه المجازاة فقال ) ونكتب ما قدّموا ( أي اسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة. وقيل : أراد ما قدّموا وأخروا فاكتفى بأحدهما كقوله ) سرابيل تقيكم الحر ) [ النحل : 81 ] والصحيح أنه لا حاجة إلىهذا التقدير لأن قوله ) وآثارهم ( يدل عليه والمراد بها ما هلكوا عليه من أثر حسن كعلم علموه أو كتاب صنفوه أو بقعة خير عمروها أو أثر سيء كبدعة وظلامة وآلات ملاه. وقيل : هي آثار المشائين إلى المساجد. عنجابر : أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حوله خالية فقال لنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( عليكم دياركم فإنما تكتب آثاركم ). وعن عمر بن عبد العزيز : لو كان الله مغفلاً شيئاً لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح أي تمحوها. ويل : أراد ونكتب ما قدموا من نياتهم فإنها قبل الأعمال وآثارهم أي أعمالهم. سؤال : كيف قدم إحياء الموتى على الكتابة ولم يقل ( نكتب ما قدموا ونحييهم ) لأجل الجزاء ؟ الجواب لأن الكتابة ليست مقوصدة بالذات وإنما المقصود الأصلي هو الإحياء للجزاء ولو لم يكن إحياء وإعادة لم يكن للكتابة أثر. وأيضاً قوله ) إنا نحن ( دال على العظمة والجبروت ، والإحياء أمر عظيم لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه بخلاف الكتابة ، فقدّم الأمر العظيم ليناسب اللفظ الدال على العظمة. وأيضاً أراد أن يرتب على كتابة الأعمال قوله ) وكل شيء أحصيناه ( ومعناه أن قبل هذه الكتابة كتابة أخرى فإن الله كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا ، ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه. وفيه بيان أن الكتابة مقرونة بالحفظ والإحصاء ، فرب مكتوب غير محفوظ ولا مضبوط ، وفيه تعميم بعد تخصيص كأنه قال : ليست لالكتابة مختصة بأفعالهم وإنما هي لكل شيء. والإمام اللوح لأن الملائكة يتبعون ما كتب فيه من أجل ورزق وإماتة وإحياء ، والمبين هو المظهر للأمور ، والفارق بين أحوال الخلق ، وحيث بين أن الإنذار لا ينفع من اضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) لا تأس. ) واضرب ( لنفسك ولقومك ) مثلاً ( مثل ) أصحاب القرية ( وهي إنطاكية الروم ، والمرسلون رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها. وفي قوله ) إذ أرسلنا ( دلالة على أن رسول الرسول رسول وأنه يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل الموكل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول ، وكأنه أرسل اثنين ليكون قولهما على(5/527)
" صفحة رقم 528 "
قومهما عند عيسى حجة تامة. وكان رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) يكتفي بواحد في الأغلب كمعاذ وغيره فمن هنا يعلم ترجيح هذه الأمة. وأما القصة فإن عيسى عليه السلام أرسل إليهم اثنين فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنماً واسمه حبيب النجار فسألهما فأخبراه فقال : ما آيتكما ؟ قالا : نشفي المريض ونبرئ الأكمة والأبرص. وكان له ولد مريض من سنتين فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر فشفى على أيديهما خلق كثير ورفع خبرهما إلى الملك فأحضرا فلما سمع قولهما قال : ألنا إله سوى آلهتنا ؟ قالا : نعم. من أوجدك وآلهتك. فحبسهما حتى ينظر في أمرهما فبعث عيسى شمعون وذلك قوله سبحانه ) فعززنا بثالث ( منقرا بالتشديد فمعناه فقوّينا الرسولين ، ومن قرأ بالتخفيف فمن العزة أي فغلبنا وقهرنا أهل القرية. وإنما ترك ذكر المفعول به لأأن الغرض ذكر الثالث فالعناية بذكره أهم وأتم نظيره قولك : حكم السلطان اليوم بالحق الغرض الذي سبق له الكلام قولك بالحق فلذلك تركت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه. وأما باقي القصة فإن شمعون دخل متنكراً وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به فقال له ذات يوم بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه ؟ قال : لا ، حال الغضب بيني وبين ذلك. فدعاهما فقال شمعون : من أرسلكما قال : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك يفعل ما ياء ويحكم ما يريد. قال : وما آيتكما ؟ قالا : ما يتمنى الملك. فدعا بغلام مطموس فدعوا الله حتى انشق له بصر وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين ينظر بهما فقال شمعون : يا أيها الملك إن شئت أن تغلبهما فقل لآلهتك حتى تصنع مثل هذا. فقال الملك : أنت لا يخفى عليك أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تقدر ولا تعلم. وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبون أنه منهم. فقال شمعون : فالحق إذاً معهم فآمن الملك وبعض حاشيته وبقي آخرون على الكفر فأهلكوا بالصيحة. قال أهل البيان : يجب زيادة المؤكدات في الجملة الخبرية بحسب تزايد الإنكار من السامع فلهذا قال الرسل أوّلاً : إنا إليكم مرسلون مقتصرين على ( أن ). وثانياً ) ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ( مجموعاً بين ( أن ) واللام وما يجري مجرى القسم. ولا يخفى أن اليمين بعد إظهار البينة وإفحام الخصم مؤكد قوي كما مر في أول السورة. وفي قولهم ) وما علينا إلا البلاغ المبين ( تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا من عهدة ما علينا ولم يبق إلا التفكر منكم والتذكر. وحيث أكد الرسل قولهم باليمن أكد الكفار قولهم بالتطيرن فمن عادة الجهال أن يتيمنوا بكل كا يوافق طباعهم وهواهم ويتشاءموا بما كرهوه وكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب حالفين بالأيمان الكاذبة التي تدع الديار بلاقع فتشاءمنا بكم ولا نترككم. ) لئن لم تنتهوا لنرجمنكم ( بالقول أو بالحجارة. ) وليمسنكم ( بعد ذلك أو بسبب الرجم بالحجارة(5/528)
" صفحة رقم 529 "
المتوالية إلى الموت ) عذاب أليم ( ) قالوا طائركم ( أي سبب شؤمكم معكمر وهو كفركم ومعاصيكم ) أئن ذكرتم ( يعني أتطيرون إن ذكرتم. ومنقرأ ) اين ( على وزن ( كيف ) ذكرتم بالتخفيف فالمراد شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم فضلاً عن المكان الذي حللتم فيه. ثم إن الرسل كأنهم قالوا لهم أنحن كاذبون أم نحن مشؤمون ) بل أنتم قوم مسرفون ( في عصايمنكم أو ضلالكم فمن ثم أتاكم الشؤم ، أو تشاءمتم بمن يجب التبرك بهم وقصدتموهم بالسوء ) وجاء من أقصى المدينة رجل ( هو حبيب النجار الذي مر ذكره نصح قومه فقتلوه وقبره في سوق أنطاكية. ويل : في غار يعبد الله عز وجل ، فلما بلغه خبر الرسل أاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة فوثبوا عليه فقتلوه. وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وصاحب ياسين ومؤمن آل فرعون ) ومن هنا قالوا : إنه آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل ولادته وذلك أنه سمع نعته من الكتب والعلماء. وتنكير رجل للتعظيم أي رجل كامل في الرجولية أو ليفيد ظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن بهم رجل من الرجال لا معرفة لهم به وكان بعيداً من التواطؤ. وقوله ( من أقصى المدينة ( ايضاً يفيد مثل هذا أو أنهم ما قصروا في التبليغ والإنذار حتى بلغ خبرهم القاصي والداني والسعي بمعنى المشي أو بمعنى القيام في المهام أي يهتم بشأن المؤمنين ويسعى في نصرتهم وهدايتهم ونصحهم. ثم حثهم على اتباع الرسل ولم يقل اتبعوني كما قال مؤمن آل فرعون ) اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ) [ غافر : 38 ] لأنه جاءهم فنصحهم في أوّل مجيئه وما رأوا سيرته بعد فقال : اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لأجلكم السبيل. فقوله ) اتبعوا ( نصيحة وقوله ( المرسلين ( إظهار للإِيمان وقدم النصيحة إظهاراً للشفقة. وقد روي أنه كان يقتل ويقول : اللهم اهد قومي. ثم أكد وجوب الاتباع بأنهم في أنفسهم مهتدون ولا يتوقعون أجراً في الدلالة ووجوب اتباع مثل هذا الدليل للذي ضل عن سواء السبيل مركوز في العقول. ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحة قومه. قال الحكيم ) الذي فطرني ( إشارة إلى وجود المقتضى. وقوله ( ومالي ( إشارة إلى عدم المانع من جانبه فإن كل امرئ هو أعلم بحال نفسه ، والمقتضى وإن كان مقدماً في الوضع والطبع على المانع إلا أن المقتضي ههنا لظهوره كان مستغنياً عن البيان رأساً فقدّم عدم المانع لأجل البيان ولهذا لم يقل ( وما لكم لا تعبدون ) كيلا يذهب الوهم إلى أنه لعله يطلب العلة والبيان وإنما ورد في سورة نوح ) ما لكم ترجون لله وقاراً ) [ الآية : 13 ] لأن القائل هناك داع لا مدعو فكأن الرجل قال : مالي لا أعبد وقد طلب مني ذلك. وفي قوله ) وإليه ترجعون ( بيان الخوف والرجاء ولهذا لم يقل(5/529)
" صفحة رقم 530 "
( وإليه أرجع ) كأنه جعل نفسه ممن يعبد الله لذاته لا لرغبة أو رهبة. ثم أراد كمال التوحيد فقال ) أئتخذ من دونه آلهة ( فقوله ) مالي لا أعبد الذي فطرني ( فيه إقرار بوجود الصانع الفاطر ، وقوله ( أأتخذ ( على سبيل الإنكار نفي لغيره ممن يسمى إلهاً وبهما يتم معنى لا إله إلا الله. ثم عرض على عقولهم جهل عابدي الأصنام أنهم لا يقدرون على دفع ضر ولا على إيصال نفع ، وقد رتب الكلام فيه على ترتيب ما يقع بين العقلاء فإن الذي يريد أن يدفع الضر عن شخص يقدم على الشفاعة له ، فإن قبلت وإلا أنقذه اي أخلصه بوجه من الوجوه. قال بعض المفسرين : لما أقبل القوم عليه يريدون قتله أقبل هو على المسرين. قال ) إني آمنت بربكم ( فاسمعوا قولي لتشهدوا لي. وإنما قال ) بربكم ( ولم يقل ( بربي ) ليتعين أنه آمن بالرب الذي دعوه إليه. وقال أكثرهم : الخطاب للفكار وعلى هذا فالمراد به بيان التوحيد أي ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وفطركم فاسمعوا قولي وأطيعوني. وفي قوله ) قيل ادخل الجنة ( وجهان أحدهما. أنه قتل. ثم كأن سائلاً سأل : كيف لقاؤه ربه بعد ذلك التصلب في نصرة الدين حتى بذل مهجته ؟ فقيل : قيل ادخل الجنة. والقائل هو الله سبحانه أو الملائكة بأمره. قال جار الله : لم يذكر المقول له لانصباب الغرض غلى المقول وعظم شأنه ولأنه معلوم. ثم كأن سائلاً آخر سأل : ايّ شيء تمنى في الجنة ؟ فقيل ) قال يا ليت قومي يعلمون ( وإنما تمنى علم قومه بحاله ليصير ذلك سبباً لهم في التوبة والإِيمان ليفوزوا بما فاز ويؤيده ما روي في حديث مرفوع أنه نصح قومه حياً وميتاً. ويجوز أن يكون سبب التمني هو أن ينبهوا على خطئهم في أمره وعلى صوابه في رأيه وأن عداوتهم لم تعقبه إلا سعادة وكرامة. وثانيهما أن الرسل بشروه وهو حيّ بدخول الجنة فصدّقهم وتمنى علم قومه بحاله فيؤمنوا كما آمن. و ( ما ) في قوله ) بما غفر ( مصدرية أو موصولة أي بالذي غفره لي من الذنوب ، أو استفهامية يعني بأي شيء غفر لي أراد ما جرى بينه وبينهم من المصابرة والذب عن الدين إلا أن طرح الألف أجود. فقول القائل : علمت بم صنعت هذا أحسن من قوله ( بما صنعت ) فقوله ) غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ( بإزاء قوله ) فبشره بمغفرة وأجر كريم ( ثم اشار إلى كيفية إهلاك قومه بعده قائلاً ) وما أنزلنا على قومه ( قال المفسرون : يجوز أن يريد بقومه الذين بقوا من أهل القرية بعد المؤمنين منهم وأن يريد به أقاربه فلعل غيرهم من قوم الرسل آمنوا فلم يصبهم العذاب. ثم قال ) وما كنا منزلين ( أي وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جنداً من السماء ، ومن هنا يعلم فضل نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) على غيره فقد أنزل الله لأجله الجنود من السماء يوم بدر والخندق وحنين وما أنزلها لغيره من نبي فضلاً عن حبيب ، فشتان بين حبيب الجبار وبين حبيب النجار. فالحصال أنه تعالى يقول لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) : إن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها(5/530)
" صفحة رقم 531 "
إلا مثلك وما كنا نفعله لغيرك. فمن قرأ ) إلا صيحة ( بالنصب أراد ما كانت الأخذة أو العقوبة إلا بسبب صيحة ، ومن قرأ بالرفع على أن ( كان ) التامة فمعناه ما وقعت إلا صيحة. قال جار الله : القياس والاستعمال على تذكير الفعل لأن المعنى ما وقع شيء إلا صيحة ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل. قلت : يجوز أن يقدر ما حدثت عقوبة. وقيل : إن التأنيث لتهويل الواقعة ولهذا جاءت أمساء الجنس كلها مؤنثة. ووصف الصيحة بواحدة للتأكيد. وقرأ ابن مسعود إلا زقية وهي الصيحة ايضاً ومنه المثل ( أثقل من الزواقي ) والزقاء صياح الديك ونحوه ، وذلك لأن صياح الديكة يؤل بنزول الأنس وبتبدل الفراق بالوصال. ثم شبه هلاكهم بخمود النار وهو صيرورتها رماداً لأنهم كانوا كالنار الموقدة في القوة الغضبية حيث قتلوا من نصحهم وتجبروا على من أظهر المعجزة لديهم. ثم بين بقوله ) يا حسرة ( أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون من الملائكة والثقلين أو من الله عز وجل على سبيل الاستعارة وذلك لتعظيم ما صدر من تقصيرهم وبدر من تفريطهم ثم ذكر سبب التحسر بقوله ) ما يأتيهم ( الآية. ثم عجب من حالهم في عدم الاعتبار بأمثالهم من الأمم الخالية. وقوله ( أنهم إليهم لا يرجعون ( بدل من ) كم أهلكنا ( التقدير : ألم يعلموا القرون الكثيرة المهلكة من قبلهم كونهم غير ارجعين إليهم. والبدل بدل اشتمال لهم لأنه حال من أحوال المهلكة أي أهلكوا بحيث لا رجوع لهم إليهم. ولارجوع حسيّ وهو ظاهر ، أو معنويّ وهو الرجوع بالنسب والولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم. من قرأ ( لما ) بالتشديد فمعنى غلا و ( أن ) نافية. ومن قرأ بالتخفيف فإن مخففة و ( ما ) صلة تقديره. وإن كلهم لمحشورون مجموعون محضرون للحساب يوم القيامة. قال في الكشاف : كيف أخبر عن كل المجموعي بجميع ؟ وأجاب بأنهما ليسا بواحد ، بل الكل يفيد الشمول والجميع يفيد الانضمام وأن المحشر يجمعهم. ويحتمل أن يقال : الغرض وصف الجميع بالإحضار كقولك : الرجل رجل عالم والنبيّ نبيّ مرسل. ثم ذكر البرهان على الحشر وعلى التوحيد أيضاً مع تعداد النعم وتذكيرها قائلاً : ( وآية لهم الأرض الميتة ( قال المحققون : إنمات قال لهم لأن الأرض ليست ىية للنبي ولغيره من أهل الإخلاص الذين هم بالله عرفوا الله قبل النظر إلى الأرض والسماء كقوله ) أولم يكف بك أنه على كل شيء شهيد ) [ فصلت : 53 ] وقوله ( أحييناها ( استئناف بياناً لكونها آية وكذلك نسلخ ويجوز أن يكونا وصفين على قياس. ولقد أمر على اللئيم يسبني(5/531)
" صفحة رقم 532 "
وقوله ( فمنه يأكلون ( بتقديم الجار للدلالة على أن الحب هو معظم قوت الإنسان وبه قوام معاشه عادة ، فنفس الأرض آية فإنها مهدهم الذي فيه تحريكهم واستكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم. وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم ، ثم إحياؤها مخضرة نعمة ثانية فإنها أحسن وأنزه ، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة فإن قوتهم إذ كان في مكانهم كأن أجمع للقوّة والفراغ. ثم جعل الجنات فيها نعمة رابعة موجبة للتفكه وسعة العيش ، ثم تفجير اليعون فيها نعمة خامسة لأن ماء السماء لا يحصل الوثوق بنزوله في كل حين فذلك كالشيء المدخر القريب التناول. والضمير في قوله ) من ثمره ( يعود إلى الله ، وفائدة الالتفات أن الثمار بعد وجود الاشجار وجريان الأنهار لا توجد إلا بتخليق الملك الجبار ، ويحتمل أن يعود إلى المذكور وهو الجنات أو إلى التحصيل وترك ذكر الأعناب لأن حكمه حكم النخيل. وقيل : إلى التفجير المدلول عليه بسياق الكلام أي ليأكلوال من فوائد التفجير وهو أعم من الثمار ، ويشمل جميع ما ذكره في قوله ) أنا صببنا الماء صباً ( إلى قوله ) وفاكهة وأباً ) [ عبس : 25 - 31 ] وقوله ( وما عملت ( من قرأ بغير هاء الضمير فما موصولة أو مصدرية أي ليأكلوا من ثمر الله ومن ثمر ما عملته أو من ثمر عمل ايديهم ، أو نافية فيكون إشارة إلى أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي التاس ولا يقدرون عليه ، ومن قرأ مع الضمير فما موصولة والضمير لها أو نافية والضمير للتفجير أو المذكور. ومعنى عمل الأيدي ما يتكابده الناس من الحرث والسقي وغير ذلك. هذا إذا جعلت ( ما ) موصولة ، فإن كانت نافية فالمراد الغيجاد والخلق. وقيل : عمل الأيدي التجارة. وقيل : الطبخ ونحوه. ثم نزه نفسه بقوله ) سبحان الذي خلق الأزواج ( أي الأصناف والمراد بقوله ) ومما لا يعلمون ( أزواج لم يطلع الله الإنسان عليها بطريق من طرق المعرفة ) وما يعلم جنود ربك إلا هو ) [ المدثر : 31 ] ( فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ) [ السجدة : 17 ] قالت الأشاعرة : فيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن أفعالهم أعراض وهي داخلة تحت الأجناس. وقوله ( مما تنبت ( لا يخرجه عن العموم لأن البيان متعدّد نظيره قول القائل : أعطيته كل شيء من الثياب والدواب والعبيد. فإنه يفهم أن تعديد الأصناف لتأكيد العموم يؤيده قوله في الزخرف ) الذي خلق الأزواج كلها ) [ الآية : 36 ] من غير تقييد. وحين فرغ من الاستدلال بالمكان شرع في الاستدلال بالزمان. ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه. ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه. قال جار الله : أصله من سلخ الجلد الشاة إذا ازالة عنها فاستعير لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وموضع إلقاء ظله. ومعنى(5/532)
" صفحة رقم 533 "
) مظلمون ( داخلون في الظلام أي لا بد لهم أن يدخلوا في الظلام إذ زال ولا يقدرون على دفعه. وفيه أن الليل كعرض أصلي يطرأ عليه النور تارة ويزول عنه أخرى. ثم كان لجاهل أن يقول : سلخ النهار إنما هو بغروب الشمس فلا جرم قال ) والشمس تجري لمستقرّ ( أي لحدّ لها مؤقت تنتهي إليه من فلكها شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره إلا أن المسافر له قرار بعد ذلك وهذه لا قرار لها بعد الحصول في ذلك الحدّ ولكنها تستأنف الحركة منه وهو أوّل الحمل أو أحد الخافقين أو إحدى الغايتين في تصاعدها فلك نصف النهار وتنازلها أو غير ذلك من الاعتبارات. وقيل : أراد بالمستقر بيتها وهو الأسد. وقيل : أراد لجري مستقرها وهو فلكها. وقيل : هو الدائرة التي عليها حركتها الخاصة. وقال الحكيم : أراد لأمر لو وجده لاستقر وهو استخراج الأوضاع الممكنة. وقيل : أراد الوقت الذي ينقطع جريها وهو يوم القيامة. وقيل : إنه إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه قال : إن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار لمنافعه وعلى هذا فالمستقر هو افق الغرب خاصة ) ذلك ( الجري على الوجوه المذكورة تقدير العزيزر الغالب بقدرته على كل مقدور ) العليم ( بمبادئ الأمور وغاياتها. ثم ذكر أمر سير القمر وقد مر في أوّل سورة يونس في قوله ) وقدره منازل ) [ الآية : 5 ] والعرجون عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة وهو ( فعلون ) من الانعراج الانعطاف قاله الزجاج. والقديم ما تقادم عهده ويختلف بحسب الأعيان. فلا يقال لمدينة بنيت من سنة وسنيتن هي قديمة. وقد يقال : نبت قديم وإن لم يكن له سنة. وإطلاق القديم على العالم لا يعتاد لأنه موهم إلا عند من يعتقد أنه لا أول له. وقال في الكشاف : القديم المحول وهو أول ما يوصف بالقدم ، فلو أن رجلاً قال : كل مملوك لي قديم فهو حر وكتب ذلك في وصية ، عتق منهم من مضى له حول وأكثر. وإذا قدم العرجون دق وانحنى واصفرّ فشبه انقراض الشهر به من الوجوه الثلاثة. ثم بين أن لكل واحد من النيرين حركة مقدرة وسلطاناً على حياله ) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ( لتباطؤ سيرها عن سيره ) ولا الليل ( أي ولا تسبق آية الليل - وهو القمر - آية النهار - وهي الشمس - أي لا يداخل القمر الشمس في سلطانها. وقيل : أراد أن الليل لا يدخل في وقت النهار. وقيل : إنه إشارة إلى الحركة اليومية التي بها يحدث الليل والنهار. والمراد أن القمر لا يسبق الشمس بهذه الحركة لأنها تشملهما على السواء ، وهكذا جميع الكواكب فلا يقع بسببها تقدم ولا تأخر ولهذا لم يقل ( يسبق ) على قياس تدرك أي ليس من شأنه السبق إذ الكواكب كأنها كلها ساكنة بهذه الحركة. وأقول : يحتمل أن يراد لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا القمر ينبغي أن(5/533)
" صفحة رقم 534 "
يتخلف ، فحذف إحدى القرينتين للعلم به كقوله ) سرابيل تقيكم الحر ) [ النحل : 81 ] وكذا الكلام في قوله ) ولا الليل سابق النهار ( أراد ولا النهار سابق الليل أي لا يدخل شيء منهما في غير وقته. سلمنا أن المراد بالليل والنهار آيتهما لكنه يمكن أن يقال : إنه إشارة إلى الحركة الدورية لأنه لما قال : إن الشمس لبطء سيرها لا تدرك القمر. فهم منه أن القمر يسبق الشمس بحركته ، فأشار إلى أن هذا السبق ليس على قياس المتحركات على الاستقامة ولكنه سبق هو بعينه موجب للقرب ، وهذا معنى قول أهل الهيئة إن الكوكب هارب عن نقطة ما طالب لها بعينه. وأما قوله ) وكل في فلك يسبحون ( فقد مرّ تفسيره في سورة الأنبياء. ولما بين ما هو كالضروري لوجود الإنسان من المكان والزمان وما يتبعه ويسبقه ، شرع في تقرير ما هو نافع لهم في أحوال المعاش. قال بعض المفسرين : أراد بحمل الذرية حمل آبائهم وهم في أصلابهم. والفلك فلك نوح ومثله هو ما يركبون الآن عليه من السفن والزوارق. قال جار الله : وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح ، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل. ومن فوائد ذكر الذرية أن من الناس من لا يركب السفينة طول عمره ولكنه في ذريته من يركبها غالباً. وذهب آخرون إلى أن المراد حمل أولادهم ومن يهمهم حمله كالنساء. وقد يقع اسم الذرية عليهن لأنهن مزارع الأولاد. في الحديث ( إنه نهى عن قتل الذراري ) يعني النساء فكأنه قيل : إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره وعلى هذا يكون قوله ) وخلقنا لهم ( إلى آخره اعتراضاً ، ومثل الفلك ما يركبون من الإبل لأنها سفائن البر. وفي وصف الفلك بالمشحون مزيد تقرير للقدرة والنعمة فإن الفلك إذا كان خالياً كان خفيفاً لا يرسب في الماء بالطبع. ثم ذكر ما يؤكد كونه فاعلاً مختاراً قائلاً ) وإن يشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ( وهو مصدر أو صفة أي لا إغاثة أو لا مغيث. وقوله ( إلا رحمة ( غشارة إلى أن الإنقاذ رحمة بالنسبة إلى المؤمن ومتاع إلىحلول الأجل بالإضافة إلى الكافر ، أو المراد أن أحد لا يتخلص من الموت وإن سلم من الآفات ولله در القائل : ولم أسلم لكي أبقى ولكن سلمت من الحمام إلى الحمام التأويل : ( يس ( إشارة إلى أنه بلغ في السيادة مبلغاً لم يبلغه أحد من المرسلين ) تنزيل العزيز الرحيم ( فيه أنه لعزته لا يحتاج إلى تنزيل القرآن ولكن رحمته اقتضت ذلك ) نحيي ( القلوب ) الموتى ونكتب ما قدموا ( من الأنفاس المتصاعدة ندماً وشوقاً ، وآثار خطا أقدام صدقهم وآثار دموعهم على خدودهم ) أصحاب القرية ( القلوب ) إذ أرسلنا إليهم اثنين ( من الخواطر الرحمانية والإلهامات الربانية بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار(5/534)
" صفحة رقم 535 "
الخلود ) فكذبوهما ( النفس وصفاتها ) فعززنا بثالث ( من الجذبة ) إنا تطيرنا بكم ( لأن النفس وصفاتها لا يوافقهما ما يدعو الإلهام والجذبة إليه ) طائركم معكم ( لأن النفس خلقت من العدم على خاصيتها المشؤومة ) رجل يسعى ( هو الروح المشتاق إلى لقاء الحق ) لا يسألكم أجراً ( لأنه لا شرب له من مشاربكم. ) قيل ادخل الجنة ( وهي عالم الأرواح وهو كقوله ) يا أيتها النفس المطمئنة ( إلى قوله ) ادخلي جنتي ) [ الفجر : 30 ] ( على قومه من بعده ( أي بعد رجوع الروح إلى الحضرة ما أنزل إلى النفس وصفاتها ملائكة من السماء لأنهم لا يقدرون على النفس وصفاتها وإصلاح حالها ، فإن صلاحها في موتها والمميت هو الله. ) صيحة واحدة ( من وارد حق ) فإذا هم ( يعني النفس وصفاتها ) خامدون ( ميتون عن أنانيته بهويته ) ألم يروا كم أهلكنا ( فيه غشارة إلى أن هذه الأمة خير الأمم شكى معهم من كل أمة وما شكى إلى أحد من غيرهم شكايتهم ) وآية لهم ( القلوب ) الميتة أحييناها ( بالطاعة ونخيل الأذكار واعناب الأشواق وعيون الحكمة وثمر المكاشفات وعمل الخيرات والصدقات ) خلق الأزواج ( من الآباء العلوية والأمهات السفلية ) مما تنبت ( ارض البشرية بازدواج الكاف والنون. ) ومن أنفسهم ( بازدواج الروح والقلب ) ومما لا يعلمون ( من تأثير العناية في قلوب المخلصين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت وآية لهمر ليل البشرية ) نسلخ منه ( نهار الروحيانة ) فإذا هم مظلمون ( بظلمة الخليفة فإن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره. وشمس نور الله ) تجري لمستقر لها ( وهو قلب استقر فيه رشاش نور الله وقمر القلب ) قدرناه ( ثمانية وعشرين منزلاً علىحسب حروف القرآن وأسماؤها : الألفة والبر والتوبة والثبات والجمعية والحلم والخلوص والديانة والذلة والرأفة والزلفة والسلامة والشوق والصدق والصبر والطلب والظمأ والعشق والعزة والفتوة والقربة والكرم واللين والمروءة والنور والولاية والهداية واليقين. فإذا قطع كل المنازل فقد تخلق بخلق القرآن ولهذا قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [ الحجر : 90 ] وهو آخر المنازل والمقامات ، فإن السالك يألف الحق أوّلاً ثم يتوب فيثبت على ذلك حتى تحصل له الجمعية ، وعلى هذا يعبر المقامات حتى يصير كاملاً كالبدر ، ثم يتناقص نوره بحسب دنوّه من شمس شهود الحق إلى أن يتلاشى ويخفى وهو مقام الفقر الحقيقي الذي افتخر به نبيناً ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ( الفقر فخري ). ثم أشار بقوله ) لا الشمس ينبغي لها ( إلى أن الرب لا يصير عبداً ولا العبد رباً. ثم ذكر أن العلوم محمولون في سفينة الشريعة والخواص في بحر الحقيقة كلاهما بفلك العناية وملاحة ارباب الطريقة ، ومثل ما يركبون هو جناح همة المشايخ. ) وإن نشأ ( نغرق العوام في بحر الدنيا والرخص والخواص في بحر الشبهات والإباحة .(5/535)
" صفحة رقم 536 "
( يس : ( 45 - 83 ) وإذا قيل لهم . . . .
" وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين وإذا قيل لهم أنفقوا من ما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم وامتازوا اليوم أيها المجرمون ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون " ((5/536)
" صفحة رقم 537 "
القراآت : ( يخصمون ( بفتحتين ثم كسر الصاد المشددة : ابن كثير وورش وسهل ويعقوب وأصله ( يختصمون ) أدغمت التاء في الصاد بعد نقل حركتها إلى الخاء ، وقرأ أبو جعفر ونافع غير ورش بسكون الخاء ، وقرأ أبو عمرو باشمام الفتحة قليلاً وقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من الخصم ثلاثياً. الباقون : بكسر الخاء للاتباع وتشديد الصاد. وروى خلف عنيحيى بكسر الياء والخاء والتشديد. ) شغل ( بضمتين : عاصم وخلف وابن عامر ويزيد ويعقوب. ) فكهون ( وبابه بغير ألف : يزيد. ) ظل ( بضم الظاء وفتح اللام : حمزة وعلي وخلف على أنه جمع ظلة. الآخرون : ( ظلال ( جمع ظل ) جبلاً ( بضم الجيم وسكون الباء. ابن عامر وأبو عمرو. وقرأ أبو جعفر ونافع وعاصم وسهل بكسرتين واللام مشددة ، وقرأ يعقوب بضمتين والتشديد. والباقون : بضمتين والتخفيف ننكسهر مشدداً : حمزة وعاصم غير مفضل. الآخرون : بالتخفيف من النكس. ) تعقلون ( بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب ) لتنذر ( على الخطاب أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب ) يقدر ( على صيغة المضارع : يعقوب ) كن فيكون ( بالنصب : ابن عامر وعلي. الوقوف : ( ترحمون ( 5 ) معرضين ( 5 ) رزقكم الله ( لا لأن ما بعده جواب ( إذا ) ) أطعمه ( لا كذلك لاتحاد المقول ولئلا يبتدأ بما لا يقوله مسلم. وجوز جار الله أن يكون قوله ) إن أنتم ( قول الله أو حكاية قول المؤمنين لهم فالوقف جائز. ) مبين ( 5 ) صادقين ( 5 ) يخصمون ( 5 ) يرجعون ( 5 ) ينسلون ( 5 ) مرقدنا ( 5 لئلا يوهم أن هذا صفة وما بعده منفي وفيه وجوه أخر نذكرها في التفسير ) المرسلون ( 5 ) محضرون ( 5 ) تعملون ( 5 ) فاكهون ( 5 ج لاحتمال أن ) هم ( تأكيد الضمير ) أزواجهم ( عطف عليه و ) في ظلال ( ظرف ) فاكهون ( ، ولاحتمال أن ما بعده مبتدأ وخبره ) متكئون ( ) يدعون ( 5 ج لأنه من المحتمل أن يكون ) سلام ( خبر محذوف اي عليهم سلام يقول قولاً ، وأن يكون ) سلام ( بدل ) ما يدعون ( اي لهم ما يتمنون وهو سلام ) سلام ( ط ج لحق الحذف ) رحيم ( 5 ) المجرمون ( 5 ) الشيطان ( ج لأن التقدير فإنه ) مبين ( 5 لا للعطف ) اعبدوني ( ج ) مستقيم ( 5 ) كثيراً ( 5 ) تعقلون ( 5 ) توعدون ( 5 ) تكفرون ( 5 ) يكسبون ( 5 ) يبصرون ( 5 ) يرجعون ( 5 ) في الخلق ( ط ) يعقلون ( 5 له ج ) مبين ( 5 ) الكافرين ( 5 ) مالكون ( 5 ) يأكلون ( 5 ) مشارب ( 5 ) يشكرون ( 5 ) ينصرون ( ج ) نصرهم ( لا لأن الواو للحال ) محضرون ( 5 ) قولهم ( 5 لئلا يوهم أن ما بعده مقول الكفار ) يعلنون ( 5 ) مبين ( 5 خلقه ( ط ) رميم ( 5 ) مرة ( ط ) عليم ( 5 لا لأن(5/537)
" صفحة رقم 538 "
) الذي ( بدل ) توقدون ( 5 ) مثلهم ( ط لانتهاء الاستفهام ) العليم ( 5 ) فيكون ( 5 ) ترجعون ( 5. التفسير : لما بين الآيات المذكورة حكى أنهم في غاية الجهالة ونهاية الضلالة ، لا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان ، ولا كالعوام الذين يبنون أمورهم على الأحوط إذا أنذرهم منذر انتهوا عن ارتكاب المنهي خوفاً من تبعته وطمعاً في منفعته وإليه الإشارة بقوله ) لعلكم ترحمون ( أي في ظنكم فإن الذي لا تفيده الآيات يقيناً فلا أقل من أن يحترز من العذاب ويرجو الثواب أخذاً بطريقة الاحتياط ، ونظير الآية ما مرّ في أوّل سورة سبأ ) أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ) [ الآية : 9 ] وعن مجاهد : اراد ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخر. وعن قتادة : ما بين ايديكم من وقائع الأمم وما خلفكم أي من أمر الساعة. وقيل : ما بين أيديكم من أمر الساعة. وقيل : ما بين أيديكم الآخرة فإنهم مستقبولن لها ، وما خلفكم الدنيا فإنهم تاركون لها. أو ما بين أيديكم من أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه حاضر عندهم وما خلفكم من أمر فإنكم إذا اتقيتم تكذيب محمد لى الله عليه وسلم والحشر رحمكم الله. أو ما بين أيديكم من أنواع العذاب كالحرق والغرق المدلول عليه بقوله ) وإن نشأ نغرقهم ( ما خلفكم الموت الطالب لكم يدل على قوله ) ومتاعاً إلى حين ( وجواب ( إذا ) محذوف وهو لا يتقون أو يعرضون ، يدل عليه ما بعده مع زيادة فائدة هي دابهم الإعراض عند كل آية. ويحتمل أن يكون قوله ) وما تأتيهم ( متعلقاً بما قبله وهو قوله ) يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون (. ) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا مانوا عنها معرضين ( يعني إذا جاءتهم الرسل كذبوهم فإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها. وقوله ( الم يروا ( إلى قوله ) لعلكم ترحمون ( اعتراض. ثم أشار إلى أنهم كما يخلون بجانب التعظيم لأمر الله حيث قيل لهم اتقوا فلم يتقوا يخلون بجانب الشفقة على خلق الله ولا ينفقون إذا أمروا بالإنفاق على أنهم خوطبوا بأدنى الدرجات في التعظيم والإشفاق ، فإن أدنى الانقياد الاتقاء من العذاب ، وأدنى الإشفاق هو إنفاق بعض ما في التصرف من مال الله ، فأين هم من معشر أقبلوا بالكلية على الله وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله ؟ وفي قوله ) مما رزقكم الله ( إشارة إلى أن الله تعالى قادر على إغناء الفقير وإعطائه ولكنه جعل الغني واسطة في الإنفاق على الفقير. فالسعيد من عرف حق التوسيط وانتهز فرصة الإمكان وعلم أن الإنفاق سبب للبركة في الحال ومجلبة للثواب في المآل. وقوله ( قال الذين كفروا ( دون أن يقول ( قالوا ) تسجيل عليهم بالكفر. وقوله ( للذين آمنوا ( مزيد تصوير لجهالتهم حين قالوا لهؤلاء الشراف ما قالوا. وقوله ( أنطعم ( دون ( أننفق ) إظهار لغاية خستهم فإن الإطعام أدون من(5/538)
" صفحة رقم 539 "
الإنفاق ومن بخل بالأدون فهو بأن يبخل بالأكثر أولى. وقوله ( من لو يشاء الله أطعمه ( كلام في نفسه حسن لكنهم ذكروه في معرض الدفع فلهذا استوجبوا الذم وقد بين الله خطأهم بقوله ) مما رزقكم الله ( فإن من في خزائنه مال وله في يد الغير مال فإنه مخير إن اراد أعطى زيداً مما في خزائنه وإن شاء أعطاه مما في يد الغير وليس لذلك الغير أن يقول لم أحلته عليّ. وقوله ( إن أنتم إلا في ضلال مبين ( بناء على ما اعتقدوه أن الأمر بالإنفاق ضائع ، لأنه سعي في إبطال مشيئة الله ولم يعلموا أن الضلال لا يتعدّاهم ايه سلكوا ، وذلك أنهم لم ينظروا إلى الأمر والطلب وبادروا إلى الاعتراض ، والطاعة هي اتباع الأمر لا الاستكشاف عن الغرض والغاية. ومن جملة تعنتهم أنهم استبطؤا الموعود على التقاء والإنفاق قائلين ) إن كنتم ( أيها المدّعون للرسالة ) صادقين ( فأخبرونا متى يكون هذا الموعود به من الثواب والعقاب فأجابهم الله تعالى بقوله ) ما ينظرون إلا صيحة واحدة ( كأنهم بالاستبطاء كانوا منتظرين شيئاً. وتنكير صيحة للتهويل ووصفها بواحدة تعظيم للصيحة وتحقير لشأنهم أي صيحة لا يحتاج معها إلى ثانية ، وفي قوله ) تأخذهم ( أي تعمهم بالأخذ مبالغة أخرى ، وكذا في قوله ) وهم يخصمون ( أي يشتغلون بمتاجرهم ومعاملاتهم وسائر ما يتخاصمون فيه ومع ذلك يصعقون. وقيل : تأخذهم وهم يختصمون في أمر البعث قائلين إنه لا يكون. ثم لابغ في شدّة الأخذ بقوله ) فلا يستطيعون توصية ( وفي قوله ) لا يستطيعون ( دون أن يقول ( فلا يوصون ) مبالغة لأن من لا يوصي قد يستطيعها ، وكذلك في تنكير توصية الدال على التقليل ، وكذا في نفس التوصية لأنها بالقول والقول يوجد أسرع من الفعل من أداء الواجبات وردّ المظالم ، وقد تحصل التوصية بالإشارة فالعاجز عنها عاجز عن غيرها. وفي قوله ) ولا إلى أهلهم يرجعون ( بيان لشدّة الحاجة إلى التوصية فإن الذي يقطع بعدم الوصول إلى أهله كان إلى الوصية أحوج. وفيه تنبيه على أن الميت لا رجوع له إلى الدنيا ولا اجتماع له بأهله مرة أخرى غلى حين يبعثون. ثم بين حال النفخة الثانية ، والأجداث القبور والنسلان العدو. وكيف صارت النفختان مؤثرتين في أمرين متضادين الإماتة والإحياء ؟ نقول : لا مؤثر إلا الله ، والنفخ علامة على أن الصوت يوجد التزلزل وأنه قد يصير سبباً لافتراق الأجزاء المجتمعة تارة ولاجتماع المتفرقة أخرى. ثم إن أجزاء كل بدن قد تحصل في موضع هو بمنزلة جدثه ، أو أعطى للأكثر حكم الكل. وذكر الرب في هذا الموضع للتخجيل فإن من أساء واضطر إلى الحضور عند من أحسن إليه كان أشدّ ألماً وأكثر ندماً. وقوله ( ينسلون ( لا ينافي قوله في موضع آخر ) فإذا هم قيام ينظرون ) [ الزمر : 68 ] فلعل ذلك في أول الحالة ثم يحصل لهم سرعة المشي من غير اختيارهم. ويمكن أن يقال :(5/539)
" صفحة رقم 540 "
إن هيئة الانتظار ليست بمنافاة للمشي بل مؤكدة له ومعينة عليه. وفي ( إذا ) المفاجأة إشارة إلى أن الإحياء والتركيب والقيام والعدو كلها تقع في زمان النفخ. ثم بين أنهم قبل النسلان ) قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ( كأنهم شكوا في أنهم كانوا موتى فبعثوا أو كانوا نياماً فتنبهوا فجمعوا في السؤال بين الأمرين : البعث والمرقد. عن مجاهد : للكفار. هجعة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور قالوا ذلك ، ثم أجابهم الملائكة في رواية ابن عباس ، والمتقون على قول الحسن ) هذا ما وعد الرحمن ( كأنه قيل : ليس بالبعث الذي عرفتموه وهو بعث النائم من مرقده حتى يهمكم السؤال عن الباعث أن هذا هو البعث الأكبر الذي وعده الرحمن في كتبه المنزلة على لسان رسله الصادقين. والظاهر أن ) هذا ( مبتدأ ) وما وعد الرحمن ( إلى آخره خبره ، و ( ما ) مصدرية أي هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالمصدر. ويجوز أن يكون ( ما ) موصولة أي هذا الذي وعده الرحمن وصدقه المرسلون أي صدقوا فيه. وجوّز جار الله أن يكون ) هذا ( صفة للمرقد و ) ما وعد ( خبر مبتدأ محذوف أي هذا وعد الرحمن ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي ما وعده الرحمن وصدقه المرسلون حق عليكم. وقيل : إن قوله ) هذاغ ما وعد الرحمن ( من كلام الكافرين كأنهم تذكروا ماسمعوا من الرسل فأجابوا به انفسهم ، أو أجاب بعضهم بعضاً ، ثم عظم شأن الصيحة بالنسبة غلى المكلفين وحقر أمرها بالإضافة إلى الجبار قائلاً ) إن كانت إلا صيحة ( الآية. وقد مر نظيره. ثم بين ما يكون في ذلك اليوم قائلاً ) فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون ( أيها الكافرون ) إلا ما كنتم تعملون ( وفيه إشارة إلى أن عدله عام وفضله خاص بأهل الإيمان وفيه أنهم إذا جمعوا لم يجمعوا إلا للعدل أو الفضل فالفاء فيه كما في قول القائل للوالي أو للقاضي : جلست للعدل فلا تظلم. أي ذلك يقتضي هذا ويستعقبه. وقوله ( ما كنتم تعملون ( إشارة إلى عدم الزيادة فإن الشيء لا يزيد على عينه كقولك : فلان يجازيني حرفاً بحرف. أي لا يترك شيئاً. ويجوز أن يراد الجنس أيّ لا تجزون إلا جنس العمل حسناً أو سيئاً. ثم فصل حال المحسنين بطريق الحكاية في ذلك اليوم تصويراً للموعود وترغيباً فيه فقال ) إن أصحاب الجنة اليوم في شغل ( لا يكتنه كنهه وفيه وجوه أقواها أنهم مشغولون عن هول ذلك اليوم بما لهم من الكرامات والدرجات. وقوله ( فاكهون ( مؤكد لذلك المعنى أي شغلوا عنه باللذة والسرور با بالويل والثبور. وثانيها أنه بيام لحالهم ولا يريد أنهمشغلوا عن شيء بل المراد أنهم في عمل ، ثم بين عملهم بأنه ليس بشاق بل هو ملذ محبوب. وثالثها أنهم تصوروا في الدنيا أموراً يطلبونها في الجنة فإذا رأوا فيها ما لم يخطر ببالهم اشتغلوا به عنها .(5/540)
" صفحة رقم 541 "
وعن ابن عباس أن الشغل افتضاض الأبكار أو ضرب الأوتار. وقيل : التزاور. وقيل : ضيافة الله. وعن الكلبي : هم في شغل عن أهاليهم من أهل النار لا يهمهم أمرهم لئلا يدخل عليهم تنغيص من تنعمهم. والفاكه والفكه المتنعم المتلذذ ومنه الفاكهة لأنها تؤكل للتلذذ لا للتغذي والفكاهة الحديث لأجل التلذذ لا للضرورة. والأزواج ظاهرها زوج المرأة وزوجة الرجل. وقيل : أراد اشكالهم في الأحساب وأمثالهم في الإيمان كقوله ) وآخر من شكله أزواج ) [ ص : 58 ] قال أهل العرفان : من شرائط السماع الزمان والمكان والإخوان فقوله ) هم وأزواجهم في ظلال ( إشارة إلى عدم الوجوه الموحشة وأن لهم في ظل الله ما يمنع الإيذاء كقوله ) لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ) [ الدهر : 13 ] وقوله ( على الأرائك متكئون ( دليل على القوة والفراغة والتمكن من أنواع الملاذ. وقوله ( لهم فيها فاكهة ( إشارة إلى سائر أنواع الملاذ الزائدة على قدر الضرورة. وقوله ( ولهم ما يدّعون ( إشارة إلى دفع جميع حوائجهم وما يخطر ببالهم. قال الزجاج : هو افتعل من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم. وقال جار الله : هو للاتخاذ اي ما يدعون به أو ما يدعون به أو ما يدعون لأنفسهم كقولك : يشتوي. أي اتخذ لنفسه شواء. أو هو بمعنى التداعي. وعلى الوجهين إما أن يراد كل ما يدعو به الله أحد أو كل ما يطلبه من صاحبه فإنه يجاب له بذلك ، أو يراد أن كل ما يصح أن يدعى به ويطلب فهو حاصل لهم قبل الطلب. وقيل : معناه يتمنون من قولهم : ادّع عليّ ما شئت أي تمنه عليّ. وقيل : هو من الدعوى وذلك أنهم كانوا يدّعون في الدنيا أن الله هو مولاهم وأن الكافرين لا مولى لهم بينه قوله ) سلام ( يقال لهم ) قولاً من رب رحيم ( أي من جهته بواسطة الملائكة. وقيل : اراد لهم ما يدّعون سالم خالص لا شوب فيه. و ) قولاً ( اي عدة وعلى هذا يكون قوله ) لهم ( للبيان و ) ما يدعون سلام ( مبتدأ وخبر كقولك : لزيد الشرف متوفر. وقال بعضهم : يحتمل أن يكون ) قولاً ( نصباً على التمييز لأن السلام من الملك قد يكون قولاً وقد يكون إشارة. وقال أهل البيان قوله ) وامتازوا ( معطوف على المعنى كأ ، ه قيل : دوموا أيها المؤمنون في النعيم وامتازوا اليوم أيها المجرمون. أو قلنا لأهل الجنة : إنكم في شغل وقلنا لأهل النار : امتازوا وهو كقوله ) فريق في الجنة وفريق في السعير ) [ الشورى : 7 ] أو تميزوا في أنفسكم غيظاً وحنقاً فلا دواء لألمكم ولا شفاء لسقمكم كقوله في صفة جهنم ) تكاد تميز من الغيظ ) [ الملك : 8 ] أو افترقوا خلاف ما للمؤمن من الاجتماع بالإخوان فلا عذاب كفرقة الأخدان يؤيده ما روي عن الضحاك : لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يُرى. وعن قتادة : اراد اعتزلوا عن كل خير ترجون ، أو امتازوا عن(5/541)
" صفحة رقم 542 "
شفعائكم وقرنائكم. أو المراد تميزهم بسواد الوجه وزرقة العين وبأخذ الكتاب بالشمال وبخفة الميزان وغير ذلك. وقال صاحب المفتاح : قوله ) إن أصحاب الجنة ( إلى آخر الآيات خطاب لأهل المحشر بدلالة الفاء في قوله ) فاليوم لا تظلم ( بعد قوله ) إن كانت إلا صيحة ( وقد جاء في التفساير أن قوله ) إن أصحاب الجنة ( إنما يقال حين يسار بهم إلى الجنة فيؤل معنى الكلام إلى قول القائل إن اصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر يؤل حالهم إلى أسعد حال فليمتازوا عنكم إلى الجنة ، وامتازوا أنتم عنهم أيها المجرمون. ثم كان لسائل أن يقول : إن الإنسان خلق ظلوماً جهولاً والجهل عذر فبين الله تعالى أن الأعذار زائلة قائلاً ) ألم أعهد إليكم ( والآية إلى قوله أفلم تكونوا تعقلونر شبه اعتراض ، فيه توبيخ لأهل النار وما ذلك العهد عن بعضهم أنه الذي مر ذكره في قوله ) ولقد عهدنا غلى آدم من قبل ) [ طه : 115 ] وقيل : هو المذكور في قوله ) وإذ خذ ربك من بني آدم من ظهورهم ) [ الأعراف : 172 ] وقيل : هو المبين على لسان الرسل. ومعنى ) لا تعبدوا ( لا تطيعوا ولا تنقادوا وسوسته وتزيينه. وقوله ( هذا ( غشارة إلى ما عهد إليهم من مخالفته الشيطان وعبادة الرحمن. قال أهل المعاني : التنوين في قوله ) صراط ( للتعظيم إذ لا صراط أقوم منه ، أو للتنويع اي هذا بعض الطرق المستقيمة ، ففيه توبيخ لهم على العدول عنه كما يقول الرجل لولده وقد نصحه النصح البالغ : هذا فيما أظن قول نافع غير ضار. وفي ذكر الصراط ههنا إشارة إلى أن الإنسان في دار التكليف مسافر والمجتاز في بادية يخاف فيها على نفسه وماله لا يكون عنده شيء أهم من معرفة طريق قريب أمن. ثم بين لهم عدواة الشيكان بقوله ) ولقد أضل منكم جبلاً ( وهو في لغاته كلها بمعنى الخلق من جبله الله على كذا أي طبعه عليه. عن علي رضي الله عنه أنه قرأ ) جيلاً ( بياء منقوطة من تحت بنقطتين. ثم أشار إلى محل امتياز المجرمين إليه بقوله ) هذه جهنم ( وقوله ( اصلوها ( أمر إهانة وتنكيل نحو ذق. وفي قوله ) اليوم ( إشارة إلى أن اللذات قد مضت وأيامها قد انقضت وليس بعد ذلك إلا العقاب. روى أهل التفسير أنهم يجحدون يوم القيامة كفرهم في الدنيا فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم. وفي الحديث ( يقول العبد يوم القيامة إني لا أجيز شاهداً إلا من نفسي فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بأعماله ثم يُخلى بينه وبين الكلام فيقول بعد الكنّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل ) قال المتكلمون : إنه لا يبعد من الله تعالى إنطاق كل جرم من الأجرام إنطاق اللسان وهو فاعل لما يشاء. قال الحكيم : إنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانهتاك أستارهم فيقفون ناكسي الرؤوس وقوف القنوط اليؤس .(5/542)
" صفحة رقم 543 "
وتكلم الأعضاء عبارة عن ظهور إمراات الذنوب عليهم بحيث لا يبقى للإنكار مجال كقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار إذا ظهر أمارات الحزن وأسبابه. ثم إنه تعالى أسند الختم إلى نفسه وأسند التكلم والشهادة إلى الأيدي والأرجل لكيلا يقال : إن الإقرار بالإجبار غير مقبول. وأيضاً إنه اسند التكلم إلى الأيدي والشهادة إلى الأرجل لأن الأعمال مستندة إلى الأيدي غالباً كقوله ) وما عملته أيديهم ( ) بما كسبت ايديكم ) [ الشورى : 30 ] فهي كالعاملة ، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره. وإنما جعلت الشهادة عليهم منهم لأن غيرهم إما صالحون وهم أعداء للمجرمين فلهم أن يقولوا شهادتهم غير مقبولة في حقنا ، وإما فاسقون وشهادة الفسقة غير مقبولة شرعاً. وههنا نكتة وهي أن الختم لازم للكفار في الدارين ، ختم الله على قلوبهم في الدنيا وكان قولهم بأفواههم كما قال ) يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ) [ آل عمران : 167 ] ثم إذا ختم على أفواههم أيضاً في الآخرة لزم أن يكون قولهم بسائر أعضائهم. هذا وقد ذكرنا مراراً أنه تعالى كلما يذكر تمسك الجبرية يذكر عقيبه تمسك القدرية وبالعكس. وكان للقدرية أن تتمسك بقوله ) يكسبون ( ) يكفرون ( حيث اسند الله الكفر والكسب إليهم فلا جرم عقبه بتمسك الجبري وهو قوله ) ولو نشاء لطمسنا ( ووجه التمسك أن إعماء البصائر شبه إعماء الأبصار ، وسلب القوّة العقلية كسلب القوّة الجسمية. فكما أنه لو شاء لطمس على أبصارهم حتى لا يهتدوا إلى الطريق القاهر الظاهر ولو شاء لسلب قوّة جسومهم بالمسخ حتى لا يقدروا على تقدم ولا تأخر ، فكذلك إذا شاء أعمى البصائر وسلب قواهم العقلية حتى لم يفهموا دليلاً ولم يتفكروا في آية. والطمس محو أثر شق العين. قال جار الله ) فاستبقوا الصراط ( أصله فاستبقوا إلى الصراط الذي عهدوه واعتادوا على سلوكه إلى مساكنهم لم يقدروا عليه إذ الصراط طريق الاستباق ، والاستباق مضمن معنى الابتدار. فالمراد لو شاء لأعماهم حتى لو ارادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف أو مبتدرين إياه كما كان هجيراهم لم يتسطيعوا. أو يجعل الصراط مسبوقاً لا مسبوقاً إليه ، فالمعنى لو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوه لعجزوا ولم يقدروا إلى على سلوك الطريق المعتاد كالعميان يهتدون فيما ألفوا من المقاصد والجهات دون غيرها. عن ابن عباس : أراد لمسخناهم قردة وخنازير. وقيل : حجارة. عن قتادة : لأقعدناهم على أرجلهم أو أزمناهم على أرجلهم. والمكان والمكانة واحد أراد مسخاً مجمداً بحيث لا يقدرون أن يرجعوا مكانهم. وإنما قدم الطمس على المسخ تدرّجاً من الأهون إلى الأصعب ، فإن الأعمى قد(5/543)
" صفحة رقم 544 "
يهتدي إلى وجوه التصرف بأمارت عقلية أو حسية غير البصر. وأما المممسوخ على مكانه فلا يهتدي إلى شيء أصلاً. ولمثل ما قلنا قدم المضيّ على الرجوع فإن سلوك طريق قد رآه مرة يكون أهون مما لم يره اصلاً ، فنفى أوّلاً استطاعة الصعب ثم نفى استطاعة الأهون أيضاً لأجل المبالغة. وحين قطع الأعذار بسبق الإنذار وذلك في قوله ) ألم أعهد إليكم ( شرع في قطع عذر آخر للكافر وهو أن يقول : لم يكن لبثنا في الدنيا إلا يسيراً ولو عمرتنا لما وجدت منا تقصيراً فقال الله تعالى ) ومن نعمره ننكسه في الخلق ( كقوله ) ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ) [ الحج : 5 ] ( أفلا تعقلون ( أنكمك كلما دخلتم في السن ضعفتم وقد عمرتم ما تمكنتم فيه أن النظر والعمل ، ومن لم يأت بالواجب في زمان الإمكان لم يأت به في زمن الأزمان. وعن بعضهم : طوى العصران ما نشراه مني
فأبلى جدّتي نشر وطيّ
أراني كل يوم في انتقاص
ولا يبقى على النقصان شيّ
وقال آخر / أرى الأيام تتركني وتمضي
وأوشك أنها تبقى وأمضي
علامة ذاك شيب قد علاني
وضعف عند إبراني ونقضي
وما كذب الذي قد قال قبلي
إذا ما مر يوم مر بعضي
وحيث بين اصل الوحداينة والحشر في هذه السورة مرات أقربها قوله ) وأن اعبدوني ( وقوله ( هذه جهنم ( إلى آخرها عاد إلى أصل الرسالة بقوله ) وما علمناه الشعر ( وإنما لم يقل وما علمناه السحر ولا الكهانة مع أنهم ادّعوا أنه ساحر كاهن لأنه ما تحدّاهم إلا بالقرآن. وإنما نسبوه إلى السحر عند إظهار فعل خارق كشق القمر وحنين الجذع إليه ، ونسبوه إلى الكهانة عند إخباره عن الغيوب وهو نوع خاص من الكلام من غير اعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية. قال جار الله معنى قوله ) وما ينبغي له ( أنه لا يتأتى له ولا يتسهل كما جعلنا أمياً لا يهتدي للخط. وروي عن الخليل أن الشعر كان أحب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من كثير من الكلام ولكن كان لا يتأتى له. قال : وما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) . أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
وقال : هل أنت إلا غصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
كلام اتفاقي من غير قصد وتعمد ، والشعر كلام موزون مقفى مع تعمد. وقيل : أراد(5/544)
" صفحة رقم 545 "
نفي الشعر عن القرآن فقال ) وما علمناه ( بتعليم القرآن ) الشعر وما ينبغي ( القرآن أن يكون شعراً وأنا أقول : الأحسن أن يقال : ما ينبغي له معناه أنه لا يليق بجلالة منصبه لأن الشعر مادته كلام يفيد تأثيراً دون التصديق وهو التخييل ، وأما الوزن والقافية فهما كالصورة ويفيدانه تروجياً وتزييناً فجلَّ رتبته من التخييل الذي هو قريب من المغالطة ، ولهذا لم يؤمر بأن يدعو بهما إلى سبيل ربه. وإنما أمر بأن يدعو إلى الدين باسئر أصناف الكلام حيث قيل ) ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) [ النحل : 125 ] ونظيره قوله ههنا ) إن هو إلا ذكر ( أي موعظة ) وقرآن مبين ( ذو البيان أو الإبانة وأ ، ه يشمل البرهان والجدل. أما لابرهان فظاهر ، وأما الجدل فلأن النتيجة إذا كانت في نفسها حقة. فالرجل العالم المحق ليس عليه إلا إفحام الخصم الألدّ وإلزامه بمقدّمات مسملة أو مشهورة ، ومما يؤيد ما ذكرنا ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرأ قول طرفة : ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
هكذا : ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار. ولا ريب أنه كان يتأتى له رواية الشعر إن لم يتأت له فرصة ، وما ذاك إلا للتنزه عما يشبه ما يشين رتبته ولا يوافق وغزاه. ويروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال : هل أنت إلا إصبع دميت انقطع الوحي أياماً حتى قالت الكفار إن محمداً قد ودعه ربه وقلاه ، وهذا أحد أشباب نزول تلك الآية. ولمثل ما قلنا لم يروَ عنه كلام منظوم وإن كان حقاً وصدقاً كالذي قاله بعض الشعراء في التوحيد والحقائق. وقد اشار إلى نحو ذلك بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن من الشعر لحكمة ) وقد مر في تفسير قوله سبحانه في آخر الشعراء ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) [ الآية : 227 ] وذلك أن الشاعر يقصد لفظاً فيوافقه معنى حكمي. وبالجملة لا يخلو الشعر عن تكلف مّا ، وقد يدعوه النظم إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ ، فأين الارع من لاشاعر ؟ ثم بين كون القرآن منزلاً على هذا الوجه بقوله ) لتنذر ( يا محمد أو لينذر هو أي القرآن ) من كان حياً ( عاقلاً متأملاً. ويجوز أن تكون الحياة عبارة عن الإيمان ، أو المراد بالحي من يؤل حاله إلى الإيمان. أو المراد بالإنذار الانتفاع به مثل ) هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] ( إنما تنذر من اتبع الذكر ) [ يس : 11 ] وقوله ( ويحق القول ( كقوله في أول(5/545)
" صفحة رقم 546 "
السورة ) لقد حق القول ( وقد مر وهذا كلام مطابق منحيث المعنى كأنه قال : لتنذر من كان حياً ويحق القول على من كان ميتاً لأن الكافر في عداد الموتى. ثم عاد إلى تقرير دلائل الوحدانية مع تعداد النعم فقال ) أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت ( أي من جملة ما عملته ) أيدينا ( فاستعار عمل الأيدي لتفرده بالأحداث والإيجاد مع اشتمال المحدث والموجد على غرائب وعجائب حتى قال فيه ) أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) [ الغاشية : 11 ] وقوله ( فهم لها مالكون ( إشارة إلى اتمام الإنعام في خلق الأنعام. وقوله ( وذللناها لهم ( إشارة إلى ما فوق التمام فقد يملك الشيء ولا يكون مسخراً ، ومن الذي يقدر على تذليل الإبل لولا أمر الله بتسخيرها حتى قال بعضهم : يصرف الصبيّ بكل وجه
ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوي
فلا غير لديه ولا نكير
والجرير حبل يجعل للعبير بمنزلة العذار للدابة. ومن زعم أن الملك بمعنى الضبط من قوله : لا أملك رأس البعير أن يفر. يلزمه التكرار. ثم فصل بعض منافعها بقوله ) فمنها ركوبهم ( والركوب والركوبة ما يركب كالحلوب والحلوبة ، والتاء للمبالغة. ويل : للوحدة والمنافع كالجلود والأوبار والأصواب ، ذكرها بالاسم العام لما في تفصيلها من الطول. والمشارب جمع مشرب وهو موضع الشرب اي الأواني المتخذة من جلودها ، أو هو الشرب كالألبان والأسمان. وحين وبخهم على عدم الشكر بقوله ) أفلا يشكرون ( زاد في توبيخهم بقوله ) واتخذوا من دون الله آلهة ( أي وضعوا الشرك مكان الشكر فلا أظلم منهم. وفي قوله ) لعلهم ينصرون ( إلى قوله ) محضرون ( وجهان : أحدهما أنهم طمعوا في أن يتقوّوا بهم ويعتضدوا بمكانهم والأمر عكس ذلك حيث هم جند لآلهتهم معدّون يخدمونهم ويذبون عنهم من غير نفع في آلهتهم. وثانيهما اتخذوهم لينصرونهم عند الله بالشفاعة ، والأمر على خلاف ذلك حيث إن آلهتهم يوم القيامة جند محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقدواً للنار. ووجه ثالث وهو أن يكون قوله ) وهم لهم جند محضرون ( تأكيداً لعدم الاستطاعة فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف بخلاف من لم يتأهب ولم يجمع أنصاره. ثم عقب دليل التوحيد بالرسالة مسلياً رسوله بقوله ) فلا يحزنك قولهم ( باتخاذ الشريك لله أو بالطعن في الرسالة أو بالإيذاء في والتهديد. ثم علل عدم الحزن بقوله ) إنا نعلم ما يسرون ( من النفاق وسائر العقائل الفاسدة ) وما يعلنون ( من الشرك وسائر الأفعال القبيحة ، أو يسرون من المعرفة بالله ويعلنون من العناد وجوّز جار الله فتح ( أن ) على تقدير(5/546)
" صفحة رقم 547 "
لام التعليل ، بل جوز أن تكون المفتوحة بدلاً من ) قولهم ( والمكسورة مفعولاً ل ) قولهم ( ويكون نهي الرسول عن ذلك كنهيه عن الشرك في قوله ) وتكونن من المشركين ) [ الأنعام : 14 ] ثم اردف الرسالة بالحشر مع أن فيه دليلاً آخر على التوحيد مأخوذاً من الأنفس ، فإن الأول كان مأخوذاً من الآفاق. وفي قوله ) فإذا هو خصيم مبين ( وجهان : أحدهما فإذا هو بعد ما كان ماء مهيناً رجل مميز منطيق معرب عما في ضميره كقوله ) أو من ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ) [ الزخرف : 18 ] فقوله ) من نطفة ( إشارة إلى أدنى ما كان عليه الإنسان وقوله ( فإذا هوخصيم مبين ( إشارة إلى أعلى ما حصل عليه الآن ، لأن أعلى أحوال الناطق أن يقدر على المخاصمة والذب عن نفسه بالكلام الفصيح. وثانيهما قول كثير من المفسرين إنها نزلت في جماعة من كفار قريش تكلموا في البعث فقال للهم أبيّ بن خلف الجمحي : واللات والعزى لأصيرن إلى محمد ولأخصمنه. وأخذ عظماً بالياً فجعل يفتته بيده ويقول : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : نعم ويبعثك ويدخلك جهنم. قال أهل البيان : سمى قولهم ) من يحيي العظام وهي رميم ( مثلاً لأن إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى قصة عجيبة. وفيه تشبيه الخالق اللقادر العليم بالمخلوق العاجز عن خلق أدنى بعوضة الجاهل بما يجري عليه من الأحوال. والرميم اسم لما بلي من العظام كالرمة والرفات ولا يبعد أن يكون صفة. ولم تؤنث بتقدير موصوف محذوف أي شيء رميم ، أو لأنه بمعنى فاعل كقوله ) إن رحمة الله قريب ) [ الأعراف : 56 ] وفي الآية دليل ظاهر على أن عظام الميتة نجسة لأن الموت والحياة يتعاقبان عليها. وقال أصحاب أبي حنيفة : إنها ظاهرة وإن الحياة لا تحل فيها فلا يتصور موتها ، وكذا الشعر والعصب. وتأوّلوا الآية بأن المراد بإحياء العظام ردّها على ما كانت عليه غضة طرية في بدن حيّ حساس. واعلم أن المنكرين للحشر منهم من اكتفى في إنكاره بمجرد الاستبعاد كقوله ) من يحيي العظام وهي رميم ( فأزال استبعادهم بتصوير الخلق الأول فإن الذي قدر على جعل النطفة المتشابهة الأجزاء إنساناً مختلف الأبعاض والأعضاء ، مودعاً فيه الفهم والعقل وسائر اسباب المزية والفضل ، فهو على إعاتها أقدر. ومنهم من ذكر شبهة وهي كقولهم : إن الإنسان بعد العدم لم يبق شيئاً فكيف يصح إعادة المعدوم عقلاً ؟ أو كقولهم : إن الذي تفرقت أجزاؤه في أبدان السباع وجدران الرباع كيف يجمع ويعاد ؟ أو كقولهم إن إنسانأً إذا نشأ مغتذياً بلحم إنسان آخر فلا بد أن لا يبقى للآكل وللمأكول جزء يمكن إعادته. فأجاب الله تعالى عن الأول بقوله ) يحييها الذي أنشأها أوّل مرة ( يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً فإنه يعيده وإن لم يكن شيئاً. وعن الباقيتين بقوله ) وهو بكل خلق عليم ( فيجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع والسباع وهكذا(5/547)
" صفحة رقم 548 "
يعلم الأصلي من الفضلي فيجمع الأجزاء الصلية للآكل والمأكول. ثم شبه خلق الإنسان بل الحيوان من قبل إيداع الحرارة الغريزية التي بها قوام الحياة في جوهر رطب طريّ بإنشاء الشجر الخضر الذي تنقدح منه النار. قالت العرب : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي استكثر واستغزر يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ - وهو ذكر علىالعفار - وهي أنثى - فتنقدح النار بإذن الله عز وجل. وعن ابن عباس : ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب قالوا : ولذلك يتخذ منه كذينقات القصارين. قلت : ويشبه أن يكون كل شجرة في غاية الصلابة هكذا إلا أن يكون له سبب خاص به كما يروى أنه معجزة لموسى عليه السلام فإنه قد رأى النار فيها فلا ينبغي لغيره أن يراها. ثم أكد قدرته الكاملة على خلق الإنسان إبداء وإعادة بتذكر خلق السموات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس. ثم اثبت ما نفاه مستفهماً للتقرير بقوله ) بل وهو الخلاق ( الكثير الخلق الكامل فيه ) العليم ( بكل جوهر وعرض وما يطلق عليه اسم الشيئية. ثم بين أن إيجاده ليس متوقفاً إلا على تعلق الإرادة بالمقدور وقد مر تقريره في أوائل ( البقرة ) وغيرها. قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن المعدوم شيء. وأجيب بأن الآية دلت على أنه حين تعلق الإرادة به شيء ، أما إنه قبل ذلك شيء فكلا. ثم ختم السورة بتقرير المبدأ والمعاد على الإجمال. فقوله ) بيده ملكوت كل شيء ( غشارة إلى المبدأ. وقوله ( وإليه ترجعون ( إشارة إلى المعاد وإذا تقرر الطرفان فما بينهما الوسط المشتمل على التكاليف والرسالة ، فهذه الآية كالنتجية للمقدمات السابقة في السورة. عن ابن عباس : كنت لا أعلم ما روي في فضائل يس وقراءتها كيف خصت بذلك فإذا أنه لهذه الآية. روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ان لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس ) فذكر الإمام الغزالي رضي الله عنه أن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر وأنه مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه فلذلك سماها قلب القرآن. وقال غيره : إن الأصول الثلاثة التي يتعلق بها نصيب الجنان وهي التوحيد والرسالة والحشر مكررة في هذه السورة. وليس فيها شيء من بيان وظيفة اللسان ولا العمل بالأكان. فلما كان أعمال القلب لا غير سماه قلباً ، ولهذا ورد في الأخبار أنه ينبغي أن تقرأ على الميت حالة النزع وذلك ليزداد بها قوة قلبه ، فإن الأعضاء الظاهرة وقتئذ ساقطة المنة ، والقلب مقبل على الله معرض عما سواه ولنا فيه وجه هو بالتأويل أشبه فلنذكره هناك .(5/548)
" صفحة رقم 549 "
التأويل : ( اتقوا ما بين أيديكم ( من الجنيا وشهواتها ) وما خلقكم ( مننعيم الجنة ولذاتها ) لعلكم ترحمون ( بمشاهدة الجمال وأنوال الكمال ) ونفخ في الصور ( إشارة إلى نفخ إسرافيل المحبة في صور القلب ، فإذا السر ولاروح والخفى من أجداث أوصاف البشرية ) إلى ربهم ينسلون ( يرجعون بعضها بالسير وبعضها بالطيران ) إن أصحاب الجنة اليوم في شغل ( شغلهم الله بالمفاكهة عن المشاهدة كما قال بعض الصوفية : والناس يخرجون من مسجد الجامع هؤلاء حشو الجنة. وللمجالسة اقوام آخرون وهم الفارغون من الالتفات إلى الكونين. قال الله تعالى ) فإذا فرغت ) [ الشرح : 7 ] أي من تعلقات الكونين ) فانصب ) [ الشرح : 7 ] لطلب الوصال. ويحكى أن الآية قرئت في مجلس الشبلي رضي الله عنه فشهق شهقة وغاب ، فلما أفاق قال : مساكين لو علموا أنهم عم شغلوا لهلكوا. ويحتمل أن يقال : إنهم اليوم أي في الدنيا ف شغل بأنواع الطاعات والعبادات من طلب الحق والشوق إلى لقائه كما يحكى عن يحيى بن معاذ أنه قال : رايت رب العزة في منامي فقال لي : ابن معاذ ، كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبن. ويمكن أن يقال : إنهم اليوم في الدنيا في شغل بالطاعات والرضا بما قسم الله عن طلب اللذات والفوائد وارتكاب المحرمات والزوائد. أو يقال : إنه خطاب للعصاة فإن أهل الله هم المستغرقون في بحار عظمة الله ، وأهل الجنة مشتغلون باستيفاء اللذات وليس العصاة إلا رحمتي وكرمي كما قال ) يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) [ الزمر : 53 ] ( وتشهد أرجلهم ( في بعض الأخبار المروية أن عبداً لتشهد عليه أعضاؤه بالذلة فتتطاير شعرة من جفن عينه فتستأذن بالشهادة له فيقول الحق تعالى : تكلمي يا شعرة جفن عين عبدي واحتجي عن عبدي. فتشهد له بالبكاء من خوفه فيغفر له وينادي مناد : هذا عتيق الله بشعرة. ) ومن نعمره ننكسه ( إن السالك إذا عمر صار في آخر الأمر إلى الفناء في الله حتى لا يبقى منه ما يستند الفعل إليه. وفي قوله ) وما علمناه الشعر ( إشارة إلى أن العلوم والصنائع كلها من الله تعالى وبتعليمه وإلهامه. ) من الشجر الأخضر ( وهو شجرة البشرية نار المحبة ) توقدون ( مصباح قلوبكم. وإنما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن قلب القرآن يس ) لأن ذكره ( صلى الله عليه وسلم ) رمز إليه في أول السورة وفي آخرها يدل على المبدأ والمعاد تصريحاً ، وعلى الرسالة ضمناً ، ولا ريب أن القلب خلاصة كل ذي قلب ، وإنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان خلاصة المخلوقات وكان خلقه القرآن الذي نزل على قلبه ، وكأن فاتحة السورة وخاتمتها مبنية على ذكره منبئة عن سره كالقلب في جوف صاحبه فلأجل هذه المناسبات أطلق على ) يس ( أنه قلب القرآن والله ورسوله أعلم بأسرار كلامه .(5/549)
" صفحة رقم 550 "
سورة الصافات
( سورة الصافات مكية حروفها ثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون كلمها ثمانمائة وستون آياتها مائة واثنان وثمانون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الصافات : ( 1 - 82 ) والصافات صفا
" والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا إن إلهكم لواحد رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا رأوا آية يستسخرون وقالوا إن هذا إلا سحر مبين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل نعم وأنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسؤولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين إنكم لذائقوا العذاب الأليم وما تجزون إلا ما كنتم تعملون إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم على سرر(5/550)
" صفحة رقم 551 "
متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون وعندهم قاصرات الطرف عين كأنهن بيض مكنون فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين إلا عباد الله المخلصين ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ثم أغرقنا الآخرين "
( القراآت )
والصافات صفاً ( وما بعدهما مدغماً : حمزة وأبو عمرو غير عباس ) بزينة ( منوناً : حمزة وعاصم غير المفضل ) الكواكب ( بالنصب : أبو بكر وحماد. الباقون : بالجر ) لا يسمعون ( بتشديد السين والميم وأصله ) يتسمعون ( : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون : بسكون السين وتخفيف الميم. ) بل عجبت ( بالضم : حمزة وعلي وخلف. الآخرون : بالفتح على الخطاب ) آيذا ( بالمد والياء ) إنا ( بهمزة واحدة مكسورة : يزيد وقالون وزيد. الباقون : مثل التي في ) الرعد ( وأما الثانية فمثل التي في ) الرعد ( ) أو آباؤنا ( مثل ) أو أمن أهل القرى ) [ الأعراف : 98 ] وكذلك في ) الواقعة ( ) لا تناصرون ( بالتشديد البزي وابن فليح ) أئنا ( ) أئنك ( ) أئفكا ( مثل ) ائنكم ( في ) الأنعام ( ) ينزفون ( بضم الياء وكسر الزاي : حمزة وعلي وخلف والمفضل. الآخرون : بفتح الزاي ) لترديني ( بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل. الوقوف : ( صفا ( 5 لا ) زجراً ( 5 لا ) لواحد ( 5 ط ) المشارق ( 5 ط ) الكواكب ( 5 لا ) مارد ( 5 ج لاحتمال ما بعده الوصف والاستئناف قاله السجاوندي. وعليه بحث(5/551)
" صفحة رقم 552 "
يجيء في التفسير ) واصب ( 5 لا ) ثاقب ( 5 ج ) خلقنا ( ط ) لازب ( 5 ) ويسخرون ( 5 ص ) لا يذكرون ( 5 ص ) يستسخرون ( 5 ص ) مبين ( 5 ج ) لمبعوثون ( 5 لا ) الأوّلون ( 5 ط ) داخرون ( 5 ) ينظرون ( 5 ) الدين ( 5 ) تكذبون ( 5 ) يعبدون ( 5 لا ) الجحيم ( 5 ) مسؤولون ( 5 لا لأن المسؤول عنه قوله ) ما لكم لا تناصرون ( 5 ) مستسلمون ( 5 ) يتساءلون ( 5 ) اليمين ( 5 ) مؤمنين ( 5 ج ) سلطان ( ج للعدول مع اتفاق الجملتين ) طاغين ( 5 ) لذائقون ( 5 ) غاوين ( 5 ) مشتركون ( 5 ) بالمجرمين ( 5 ) يستكبرون ( 5 ) مجنون ( 5 ط ) المرسلين ( 5 ) الأليم ( 5 ج ) تعملون ( 5 لا ) المخلصين ( 5 ) معلوم ( 5 ) فواكه ( ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف ) مكرمون ( 5 لا ) النعيم ( 5 لا ) متقابلين ( ج ) معين ( 5 لا ) للشارين ( 5 ج لأن ما بعده يصلح وصفاً واستئنافاً ) ينزفون ( 5 ) عين ( ط ) مكنون ( ج ) يتساءلون ( 5 ) قرين ( 5 ) المصدّقين ( 5 ) لمدينون ( 5 ) مطلعون ( 5 ) الجحيم ( 5 ) لتردين ( 5 ) المحضيرن ( 5 ) بميتين ( 5 لا بمعذبينر 5 ) العظيم ( 5 ) العالمون ( 5 ) الزقوم ( 5 ) للظالمين ( 5 ) الجحيم ( 5 لا لأن ما بعده صفة لشجرة ) الشياطين ( 5 ) البطون ( 5 لا لأن طثم ) لترتيب الأخبار ) حميم ( 5 ) الجحيم ( 5 ج ) ضالين ( 5 لا للعطف مع اتصال المعنى ) يهرعون ( 5 ) الأوّلين ( 5 ) منذرين ( 5 المنذيرنر 5 لا المخلصينر 5 ) المجيبون ( 5 ز ) العظيم ( 5 ز ) الباقين ( 5 ز ) في الآخرين ( 5 لا لأن ما بعده مفعول تركنا على سبيل الحكاية ) العالمين ( 5 المحسنينر 5 المؤمنينر 5 ) الآخرين ( 5. التفسير : إنه سبحانه بدأ في أوّل هذه السورة بالتوحيد كما ختم السورة المتقدمة بذكر المعاد وأقسم على المطلوب بثلاثة أشياء ، أما الحكمة في القسم فكما مرّ في أول سورة يس ، وأما الإقسام بغير الله وصفاته فلا نسلم أنه لا يجوز لله سبحانه ، أو هو على عادة العرب ، أو المراد تعظيم هذه الشياء وتشريفها ، أو المراد رب هذه الأشياء فحذف المضاف. قال الواحدي : إدغام التاء في الصاد حسن وكذا التاء في الاي وفي الذال لتقارب مخارجها ، الا ترى أن التاء والصاد هما من طرف اللسان وأوصل الثنايا ويجتمعان في الهمس ، والمدغم فيه يزيد على المدغم في الإطباق والصفير وإدغام الأنقص في الأزيد حسن ؟ وايضاً الزاي مجهورة وفيها زيادة صفير. ثم المقسم بها في الآيات إما أن تكون صفات ثلاثاً لموصوف واحد أو صفات لموصوفات متباينة. وأما التقدير الأوّل ففيه وجوه الأوّل : أنها صفة الملائكة لأنهم صفوف في السماء كصفوف المصلين في الأرض ، أو أنهم يصفون أجنحتهم في الهواء واقفين منتظرين لأمر الله تعالى. والصف ترتيب الشيء على(5/552)
" صفحة رقم 553 "
نسق. الفاعل صاف ، والجماعة صافة ، والصافات جمع الجمع ولولا ذلك لقيل والصافين. قال الحكيم : يشبه أن يكون معنى كونهم صفوفاً أن لكل منهم مرتبة معينة في الشرف أو بالغلبة. والزجر سوق السحاب. قال ابن عباس : يعني الملائكة الموكلين بالسحاب. وقال آخرون : اراد زجرهم الناس عن المعاصي بالخواطر والإلهامات ، أو بدفع تعرض الشياطين عن بني آدم. والتاليات الذين يتلون كتاب الله على الأبنياء. والحاصل أن كونهم صافين إشارة إلى استكمال جواهر الملائكة في ذواتها أعني وقوفهم في مواقف العبودية والطاعة ، وكونهم زاجرين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي من جواهر الأرواح البشرية ، وكونهم تالين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إفاضة الجلايا القدسية والأنوار الإلهية على الأرواح الإنسانية. الوجه الثاني أنها صفات النفوس الإنسانية المقبلة على عبودية الله وعبادته وهم ملائكة الأرض ، أقسم بنفوس المصلين بالجماعات الزاجرين أنفسهم عن الشهوات أو عن إلقاء وساوس الشيطان في قلوبهم أثناء الصلوات بتقديم الاستعاذة أو برفع الأصوات ، التالين للقرآن في الصلاة وغيرها. أو أقسم بنفوس العلماء الصافات لأجل الدعوة إلى دين الله الزاجرات عن الشبهات والمنهيات بالمواعظ والنصائح الدارسات شرائع الله وكتبه لوجه الله ، أو أقسم بنفوس المجاهدين في سبيل الله كقوله ) إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً ) [ الصف : 3 ] والزجرة والصيحة سواء. والمراد رفع الصوت بزجر الخيل. وأما التاليات فذلك أنهم يشتغلون وقت المحاربة بقراءة القرآن وذكر الله. يحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يخرج من الصف وسيفه ينطف دماً فإذا رقى ربوة يأتي بالخطبة الغراء. الوجه الثالث أنها صفات آيات القرآن وذلك أنها أنواع مختلفة بعضها دلائل التوحيد ، وبعضها دلائل العلم والقدرة ، وبعضها دلائل النبوة ، وبعضها دلائل المعاد ، وبعضها بيان التكاليف والأحكام ، وبعضها تعليم الأخلاق الفاضلة ، وكلها مترتبة ترتيباً لا يتغير ولا يتبدل فكأنها أجرام واقفة في صفوف معينة ، ولا ريب أنها تزجر المكلفين عن المناهي والمنكرات. وأما نسبة التلاوة غليهن فمجاز كما يقال : شعر شاعر. والفاء في هذه الوجوه لترتب الصفات في الفضل فالفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة أو بالعكس فلكل وجه. ويحتمل وإن لم يذكره جار الله أن تكون لترتيب معانيها في الوجود كقوله : الصابح فالغانم فالآيب كأنه قال : الذي صبح فغنم فآب. مثاله المصلون يقفون أوّلاً صفوفاً ثم يزجرون الوساوس عنهم بالاستعاذة ثم يشتغلون بالقراءة .(5/553)
" صفحة رقم 554 "
وأما التقدير الثاني وهو أن يكون المراد بهذه الأمور الثلاثة موصوفات متغايرة ؛ فالصافات الطير من قوله ) والطير صافات ) [ النور : 41 ] والزاجرات كل ما زجر عن معاصي الله ، والتاليات كل من تلا كتاب الله. أو الصافات طائفة من الملائكة أو من الأشخاص الإِنسانية ، وكل من الزاجرات والتاليات طائفة أخرى. وقيل : الصافات العالم الجسماني المنضود كرة فوق كرة من الأرض إلى الفلك الأعظم ، والزاجرات الأرواح المدبرة للأجسام بالتحريك والتصريف ، والتاليات الأرواح المستغرقة في بحار معرفة الله تعالى والثناء عليه. والفاء على هذه المعاني لترتب الموصوفات في الفضل. ثم إنه سبحانه لو يقتصر في إثبات التوحيد على الحلف ولكنه عقبه بالدليل الباهر فقال ) رب السموات والأرض وما بينهما ورب امشارق ( فلكل كوكب مشرق ومغرب بل للشمس ولسائر السيارات وللثوابت في كل يوم مشرق آخر بحسب تباعدها عن منطقة المعدل وتقاربها منها. وإنما اقتصر على ذكر المشارق لشرفها ولدلالتها على البغارب كقوله ) سرابيل تقيكم الحر ) [ النحل : 81 ]. ثم بين أنه جعل الكواكب بحيث يشاهدها الناس من السماء الدنيا وهي تأنيث الأدنى لمنفعتين : الأولى تحصيل الزينة ، والثانية الحفظ من الشيطان. والزنية مصدر كالنسبة أو اسم لما يزان به الشيء كالليقة لما تلاق به الدواة. ثم قرأ بالإضافة فلها وجوه : أن يكون مصدراً مضافاً إلى الفاعل أي بأن زانتها الكواكب وإلى المفعول أي بأن زان الله تعالى الكواكب وحسنها في أنفسها ، فإن النور والضوء أحسن الصفات وأكملها ، وكذا أشكالها المختلفة كشكل الثريا وبنات النعش والجوزاء وسائر الصور المتوهمة من الخطوط التي تنظم طائفة منها ، وقد ترتقي إلى نيف وأربعين منها صور البروج الاثني عشر. وبالجملة إشراق الجواهر الزواهر وتلألؤها على بسيط أزرق بنظام مخصوص مما يروق الناظر ، ويجوز أن يقع ) الكواكب ( بياناً للزينة وهي اسم لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به فيكون كخاتم فضة. ويجوز أن يراد بالزينة ما زينت به الكواكب كما روي عن ابن عباس أنه فسر الزينة بالضوء. ومن قرأ باتنوين ) زينة ( وجر ) الكواكب ( فعلى الإبدال ، ومن قرأ بتنوين زينةر ونصب ) الكواكب ( فعلى أنه بدل من محل ) بزينة ( أو من السماء ، أو على أن المراد بتزيينها الكواكب كما في أحد وجوه الإضافة. قوله ) وحفظاً ( فيه وجوه أحدها : أنه محمول على المعنى والتقدير : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً من الشياطين. وثانيها أن يقدر مثل الفعل المتقدم للتعليل كأنه قيل : وحفظاً من كل شيطان زيناها بالكواكب. وثالثها قال المبرد : إذا ذكرت فعلاً ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله بما تقدم. تقول : افعل ذلك كرامة أي وأكرمك كرامة ، وذلك لما علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال فالتقدير : وحفظناها(5/554)
" صفحة رقم 555 "
حفظاً. قال المفسرون : الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب فأخبروا صنعاءهم ، فجعل الله الكواكب في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بحيث تحرقهم وتحفظ أهل السماء في إصغائهم. قال الحكيم : ليس المراد بالكواكب الحافظة أنفس الكواكب المركوزة في الأفلاك وإلا لوقع نقصان ظاهر في أعدادها ، بل المراد ما يضاهيها من الشهب الحادثة عند كرة النار من الأبحرة المرتفعة ، وقد مر تحقيق ذلك في أول سورة الحجر. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : إن الشياطين لهم حذق كامل في استخراج الصنائع الدقيقة فإذا عرفوا هذه الحالة بالتجربة فلم لا يمنعون منه. وأيضاً إنهم مخلوقون من النار والنار كيف تؤثر في النار ؟ وأيضاً مقر الملائكة السطح الظاهر من الفلك الأعلى وإنهم لا يصعدون إلا إلى قريب من الفلك الأدنى فكيف يسمعون كلام الملائكة ؟ والجواب أنا لا نسلم حذقهم في كل الأمور ولهذا جاء في وجوه تسخيرهم ما جاء على أن موضع الاستراق والاحتراق غير متعين ، ووقوع هذه الحالة أيضاً كالنادر. فلعل المسترق يكون غير واقف عليه ، والنيران بعضها أقوى من البعض وليس الشيطان ناراً صرفاً ، ولكن الناري غالب عليه. ولا نسلم أن الملائكة لا ينزلون إلى الفلك الأخير بإذن الله. والمارد الخارج من الطاعة وقد مر اشتقاقه في قوله مردوا على النفاق. والضمير في قوله لا يسمعونر لكل شيطان لأنه في معنى الجمع. والتسمع تكلف السماع سمع أو لم سمع وقد ضمن معنى الإصغاء فلذلك عدّي بغلى. وقيل : معنى سمعت إليه صرفت إلى جهته سمعي. قال جار الله : هذه الجملة لا يصح أن تكون صفة لأن الحفظ من شياطين غير سامعين أو مستمعين لا معنى له ، ولا يصح أن يكون استئنافاً لأن سائلاً لو سأل : لم يحفظ من لاشياطين ؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون. لم يستقم فبقي أن يكون كلاماً منقطعاً مبتدأ به لاقتصاص حال المسترقة للسمع. قلت : لو كان صفة باعتبار ما يؤول إليه حالهم جاز ، وكذا إن كان مستأنفاً كأنه قيل : لم يحفظ فأجيب لأنهم يؤلون إلى كذا. ومن هنا زعم بعضهم أن اله لئلا يسمعوا لهم فحذفت اللام ثم ( أن ) وأهدر عملها كما في قول القائل : ألا ايهذا الزاجري أحضر الوغى ورد عليه في الكشاف أن حذف اللام في قولك ( جئتك أن تكرمني ) وحذف ( أن ) في قول الشاعر جائز ، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات. قلت : إن القرآن حجة على غيره مع أن قول الشاعر أيضاً لا يصح إلا بتقدير اللام أو ( من ) مع ( أن ). والملأ الأعلى الملائكة(5/555)
" صفحة رقم 556 "
لأنهم يسكنون السموات. وعن ابن عباس : أراد أشراف الملائكة. وعنه : الكتبة من الملائكة. والقذف الرمي بحجر تقول : قذفته بحجر أي رميت إليه حجراً. وقوله ( من كل جانب ( أي مرة من هذا الجانب ومرة من هذا الجانب. وقيل : من كل الجوانب. ) دحوراً ( أي طرداً مع صغار مصدر من غير لفظ الفعل ، لأن القذف والطرد متغايران كأنه قيل : يقذفون قذفاً أو يدحرون دحوراً. ويجوز أن يكون مفعولاً له اي لأجل الدحور أو مصدراً في موضع الحال أي مدحورين كقوله ) مذموماً مدحوراً ) [ الإسراء : 18 ] ( ولهم ( أي للشياطين ) عذاب واصب ( دائم وقد مر في النحل في قوله ) وله الدين واصباً ) [ النحل : 52 ] يعني أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب ولهم في الآخرة نوع من العذاب غير منقطع ) إلا من خطف ( في محل الرفع بدلاً من الواو في ) لا يسمعون ( أي لا يسمع إلا الشيطان الذي اختلس الكلمة مسارقة. وقيل : وثب وثبة. ويل : الاستثناء منقطع خبره ) فأتبعه ( أي أتبعه ورمى في أثره ) شهاب ثاقب ( مضيء أو ماض فإذا قذفوا احترقوا. وقيل : تصيبهم آفة فلا يعودون. وقيل : لا يقتلون بالشهب بل يحس بذلك فلا يرجع ولهذا لا يمتنع غيره من ذلك. وقيل : يصيبهم مرة ويسلمون مرة فصاروا في ذلك كراكبي اسلفينة للتجارة. وحين بين الحدانية ودلائلها في أول هذه السورة أراد أن يذكر ما يدل على الحشر والكلام فيه من طريقين : الأوّل أن يقال : قدر على الصعب فيقدر على الأسهل بالأولى ، الثاني قدر في أول الأمر فيقدر في الحالة الثانية. أما الطريق الأوّل فاشار غليه بقوله فاستقتهمر أي سل قومك أو صاحبهم وأراد بمن خلقنا ما ذكرنا من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والكواكب والشهب والشياطين ، وغلب أولي العقل على غيرهم. وقيل : اراد عاداً وثمود ومن قبلهم من الأمم الخالية. والقول الأول اقوى بدليل فاء التعقيب ولإطلاق قوله ) خلقنا ( إكتفاء ببيان ما تقدمه كأنه قال : خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق ، فاستخبرهم أهم أشد خلقاً أم هذه الخلائق ، ومن هان عليه ذه كان خلق البشر بل إعادته عليه أهون. وأما الطريق الثاني فإليه الإشارة بقوله ) إنا خلقناهم من طين لازب ( أي لازم والباء بدل من الميم عند أكثرهم ولهذا قال ابن عباس : هو الملتصق من الطين الحر. وقال مجاهد والضحاك : هو المنتن. ووجه الاستدلال أن هذا الجسم لو لم يكن قابلاً للحياة لم يقبلها من أول الأمر ، وإذا قبلها أوّلاً فلا يبقى ريب في قبولها ثانياً ، وقادرية الله تعالى باقية على حالها فالإعادة أمر ممكن ، وقد أخبر الصادق عن وقوعها فيجب وقوعها. وفي هذا الطريق الثاني تقوية للطريق الأوّل ، فإن خلقهم من الطين شهادة عليهم بالضعف والرخاوة. ثم بين أنهم مع قيام الحجج الضرورية عليهم مصرون على الإنكار فقال بل عجبتر من قرأ بفتح التاء فظاهر أي عجبت يا محمد من تكذيبهم وإنكارهم البعث ) و ( هم ) يسخرون ( من(5/556)
" صفحة رقم 557 "
تعجبك ، أو عجبت من القرآن حين أعطيته ويسخر أهل الكفر منه. ومن قرأ بالضم فأورد عليه أن التعجب على الله غير جائز لأأنه روعة تعتري الشخص عند استعظام الشيء. وقيل : هذه حالة تحصل عند الجهل بصفة الشيء. وأجيب بأن معناه : قل يا محمد بل عجبت. سلمنا لكن العجب هو أن يرى الإنسان ما ينكره الكافر والإنكار من الله تعالى غير منكر. سلمنا لكن هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات كالمكر والستهزاء والمعنى : بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقي أني استعظمتها فكيف بعبادي وهؤلاء بجهلهم وعنادهم يسخرون منها ، أو استعظمت إنكارهم البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون ممن يصف الله تعالى بالقدرة عليه نظيره الآية ) وإن تعجب فعجب قولهم ) [ الرعد : 5 ]. عند من يرى أن العجب من الله. وقد جاء في الحديث ( يعجب ربك من الشاب ليس له صبوة ). وقال أيضاً : ( عجب ربكم من ألكم وقنوطكم وسرعة إجابته ). والألّ التضرع. ثم حكى عنهم أنه كما أن دأبهم السخرية عند إيراد البراهين فكذلك دأبهم أنهم إذا وعظوا لا يتعظون. ) وإذا رأوا آية ( بينة كانشقاق القمر وغيره من المعجزات ) يستسخرون ( يبالغون في السخرية أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها ونسبوا ما رأوه إلى السحر. فالحصال أنه لا تفيد معهم البراهين الضرورية ولا المقدمات الوعظية ولا المعجزات الدالة على صدق إخبارك بالبعث. قوله ) أو آباؤنا ( من قرأ بسكون الواو فمعطوف على محل اسم ( أن ) ، ومن قرأ بفتحها فعليه ، أو على الضمير في ) مبعوثون ( وحسن الفصل بهمزة الاستفهام والمعنى : ايبعث أيضاً آباؤنا ؟ يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد. وعلى الأوّل أرادوا إنكار أن يبعث واحد منهم أو من آبائهم فأرغمهم الله سبحانه بقوله قل نعمر تبعثون ) وأنتم داخرون ( صاغرون أذلاء. وإذا كان كذلك ) فإنما هي ( أي البعثة أو هو مبهم يوضحه خبره ) زجرة ( واحدة يعني صيحة النفخة الثانية ) فغذا هم ينظرون ( أراد أنهم أحياء بصراء أو أراد أنهم ينظرون أمر الله فيهم. ) وقالوا يا ويلنا ( الظاهر أن كلامهم يتم عند قوله ) تكذبون ( يقوله الكفرة فيما بينهم. وقيل : إن كلامهم يتم عند قوله ) يا ويلنا ( ثم قال الله أو الملائكة هذا يوم الدينر الجزاء والحساب هذا يوم الفصلر القضاء والفرق بينالمحسن والمسيء احشروا الذين ظلموار بالكفر أو بالفسق يعني رؤساءهم. وهذا الحشر بمعنى الجمع لأنه بعد البعث اي اجمعوهم ) وأزواجهم ( أي أشكالهم الذي على دينهم وسيرتهم ؛ الزاني مع الزاني ، والسارق مع السارق ، والشارب مع الشارب. وقيل : قرناءهم من الشياطين. وقيل : نساءهم اللاتي على ملتهم. ) وما كانوا يعبدون من دون الله ( من الأصنام فاهدوهمر ادعوهم أو قدموهم والسابق يسمى الهادي أو دلوهم ) إلى صراط الجحيم ( وسطها أو طريقها لأنه قال(5/557)
" صفحة رقم 558 "
بعد ذلك وقفوهمر اي احبسوهم للسؤال كأنهم إذا انتهوا إلى الجحيم سئلوا تهكماً وتوبيخاً بالعجز عن التناصر ) ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون ( قد اسلم بعضهم بعضاً وخذله. وحقيقته طلب كل منهم صلامة نفسه فقال المفسرون : إن أبا جهل قال بوم بدر : نحن جميع منتصر فيوبخ على ذلك يوم القيامة. ثم حكى أنهم في جهنم يتساءلون تساؤل التخاصم وذلك أن اتباعهم ) قالوا ( لرؤسائئهم ) إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ( وفيه وجوه ، الأول : أنها استعارة عن الخيرات والسعادات وذلك أن الجانب الأيمن أشرف من الأيسر شرعاً وعرفاً. كان رسول الله يحب التيامن في كل شيء ولهذا أمرت الشريعة بمباشرة أفاضل الأمور باليمين وأراطلها بالشمال ، وجعلت اليمين لكاتب الحسنات والشمال لكاتب السآت ، ووعد المحسن بالسانح وتطيروا بالبارح. فقيل : أتاه عن اليمين أي من قبل الخير وناحيته فصدّه عنه واضله. قال جار الله : من المجاز ما غلب عليه الاستعمال حتى لحق بالحقيقة وهذا من ذاك لأن اليمين كالحقيقة في الخير. ثم صار قولك ( أتاه عن اليمين ) مجازاً في المعنى المذكور. الثاني : أن يقال : فلان يمين فلان إذا كان عنده بمنزلة رفيعة فكأنهم قالوا : إنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون أننا عندكم بمحل رفيع فوثقنا بكم وقبلنا عنكم. الثالث : اليمين الحلف ، كان الكفار قد حلفوا لهؤلاء الضعفة أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم وتمسكوا بعهودهم. الرابع : أن اليمين القوة والقهر فبها يقع البطش غالباً أي كنتم تأتوننا عن القهر والغلبة حتى حملتمونا على الضلال. وكما أن الضمير في ) قالوا ( الأول كان عائداً إلى الأتباع بقرينة الخطاب ، فالضمير في ) قالوا ( الثاني يعود إلى الرؤساء لمثل تلك القرينة. والمعنى بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه كما أعرضنا. ) وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً ( مختارين الطغيان وهذا مثل محاجة إبليس ) وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم ) [ إبراهيم : 22 ] ( فحق علينا قول ربنا إنا لذاقون ( قال مقاتل : أراد قوله : ( لأملأن جهنم ) [ الأعراف : 18 ] والمعنى أنه لما أخبر عن وقوعنا في العذاب وكان خبر الله حقاً فلا جرم وجب وقوعنا في العذاب. قال جار الله : لو حكى الوعيد كما هو لقال ( إنكم لذائقون ) ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم يتكلمون بذلك عن أنفسهم وكلا الاستعمالين شائع ) فأغويناكم إنا كنا غاوين ( أي أقدمنا على أغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية كأنهم قالوا : إن أعتقدتم أن غوايتكم بسبب أغوائنا فغوايتنا إن كانت بسب إغواء غاوٍ آخر لزم التسلسل فعلمنا أن غنايتنا أيضاً من الله كما مر في قوله ) فحق علينا قول ربنا ( هذا تفسير أهل السنة. وأما المعتزلة فيفسرون الآيات هكذا قالوا : ( بل لم تكونوا مؤمنين ( أي كنتم مختارين الكفر على الإيمان ، وما سلبنا تمكنكم من تسلط بل اخترتم أنتم الطغيان فحق(5/558)
" صفحة رقم 559 "
علينا وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة ) فأغويناكم ( فدعوناكم غلى الغي لأنا كنا غاوين فاردنا إغواءكم لتكونوا أمثالها. وحين حكى كلام الأتباع والمتبوعين أنتج من ذلك قوله ) فإنهم ( جميعاً ) يومئذ ( أي يوم القيامة ) في العذاب مشتركون ( كما كانوا مشتركين في الغواية. ولعل للمتبوعين عذاباً زائداً للإغواء ولكن الزيادة لا تنافي الاشتراك في أصل الشيء ) إنا كذلك ( أي مثل ذلك الفعل نفعلر بكل مجرم أي كافر بدليل قوله ) إنهم كانوا إذا قيل له ملا إله إلا الله يستكبرون ( يابون من قبوله ، والجملة الشرطية خبر ( كان ) وهو مع الاسم والخبر خبر ( إن ) وإن ألغيت ( كان ) فالخبر ) يستكبرون ( و ( إذا ) ظرفه. ) ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ( عنوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بين أنهم منكرون للتوحيد وللنبوّة جميعاً فردّ عليهم بقوله ) بل جاء ( متلبساً ) بالحق وصدّق المرسلين ( وفيه تنبيه على أن التوحيد دين كل الأنبياء ثم صدقهم في قولهم ) فحق علينا قول ربنا ( ونقل الكلام من الغيبة إلى الحضور للمبالغة قائلاً إنكم لذائقوا العذاب الليمر ثم كان لقائل أن يقول : كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عبيده فقال ) وما تجوزون إلا ما كنتم تعملون ( فالحكمة اقتضت الأمر بالخير والطاعة ، والنهي عن القبيح والمعصية ، والأمر والنهي لا يكمل المقصود بهما إلا بالترغيب والترهيب ، وإذا وقع الإخبار عنه وجب تحققه صوناً للكلام عن الكذب هذا بتفسير المعتزلة اشبه. والسنيّ يقول : لا اعتراض عليه في شيء ولا يسأل عما يفعل. قال جار الله ) إلا عباد الله ( استثناء منقطع أي لكن عباد الله ) المخلصين أولئك لهم رزق ( قلت : يجوز أن يكون الاسثناء متصلاً والمعنى : وما تجزون إلا ما كنتم تعملون من غير زيادة غلا المخلصين فإن جزاءهم بالأضعاف. ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله ) إنكم ( للمكلفين جميعاً فيصح الاستثناء المتصل مطلقاً أي تذوقون العذاب الأليم. قوله ) معلوم ( قيل : أي معلوم الوقت كقوله ) ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً ) [ مريم : 62 ] وقيل : معلوم الصفة لكونه مخصوصاً بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر. وقيل : معلوم القدر على حسب استحقاقهم. وقيل : اراد أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى يقطع. ثم فسر ذلك الرزق بأنه ) فواكه ( فقيل : إن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذذ لا لأجل الحاجة ، وأرزاق أهل الجنة كلها كذلك لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للابد فلذلك سمي رزقهم فاكهة. وقيل : أراد به التنبيه بالأدنى على الأعلى ، فإذا كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان الطعام أولى بالحضور .(5/559)
" صفحة رقم 560 "
وحيث بين الأكل ذكر أن ذلك حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال ) وهم مكرمون ( إذ الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم. وحين ذكر مأكولهم وصف مسكنهم وهيئة جلوسهم فقال ) في جنات النعيم على سرر متقابلين ( وقد مر في ( الحجر ). ثم وصف مشروبهم. قال أهل اللغة : لا يسمى الإناء كاساً إلا إذا كان فيها خمر ، وقد تسمى الخمر نفسها كأساً. عن الأخفش : كل كأس في القرآن فهي الخمر وكذا في تفسير ابن عباس : والمعين النهر الجاري على وجه الأرض واصله معيون لأنه الظاهر للعيون أو من عين الماء. وقد يقال : عان الماء يعين إذا ظهر جارياً قاله ثعلب. وقيل : ( فعيل ) من المعن وهو المنقعة أو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في السير أي بالغ فيه. واشتدّ وصف الخمر بما يوصف به الماء لأنها تجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء. وبيضاء صفة للكأس : قال الحسن : خمر الجنة أشدّ بياضاً من اللبن. ) ولذة ( إما مصدر وصف بها للمبالغة كأنها نفس اللذة ، أوصي تأنيث. اللذ واللذ اللذيذ واحد كالطب والطبيب ثم بين أن خمر الجنة لا تغتال العقول. يقال : غاله يغوله إذا أهلكه وافسده ، وفيه تعريض بخمر الدنيا ولهذا قدم الظرف وبنى الكلام على الاسم في قوله ) ولا هم عنها ينزفون ( أي يسكرون. وخص هذا الوصف بالذكر لأنه أعظم المفاسد في شرب الخمر. يقال : نزف الشارب على البناء للمفعول إذا ذهب عقله. والتركيب يدور على الفناء والنفاد ومنه نزحت الركية حتى نزفتها إذا لم تترك فيها ماء. وأنزف مثله ومعناه صار ذا نزف. وعن بعضهم أن معنى قوله ) ولا هم عنها ينزفون ( هو أن الشراب لا ينقطع عنهم لئلا يلزم نوع من التكرار. والأوّلون حملوه على المبالغة. ثم وصف منكوحهم بقوله ) وعندهم قاصرات الطرف ( اي حابساتها عن غير أزواجهن كقوله ) عرباً ) [ الواقعة : 37 ] والعين جمع العيناء مؤنث الأعين وهو كبير العين. ثم شبههن ببيض النعام المكنون في وكناتها ، وذلك لأن فيها بياضاً يشوبه قليل من الصفرة ، وإذا كانت مستورة في أماكنها كانت مصونة عن الغبرة والتغير فكانت في غاية الحسن ، وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور. ثم عطف على قوله ) يطاف ( قوله قوله ) فاقبل ( وهو مضارع في المعنى غلا أنه على عادة الله تعالى في الأخبار. ولعل هذا التذاكر عقيب إطافة الكأس فلهذا جيء بالفاء بخلاف ما مر في تخاصم أهل النار. والمراد أنهم يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة أهل المنادمة والعشرة. قال بعضهم : وما بقيت من اللذات إلا
أحاديث الكرام على المدام(5/560)
" صفحة رقم 561 "
وقد حكى من جملة مكالماتهم تذكرهم أنه كان قد حصل لهم في الدنيا ما يوجب لهم الوقوع في عذاب الله ، ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالنعيم المقيم وهذا ابتداء الحكاية ) قال قائل منهم ( أي من اهل الجنة ) إني كان لي قرين ( جليس أو رشيك في الدنيا ) يقول أئنك لمن المصدقين ( أي بيوم الدين ) أئنا لمدينون ( لمجزيون من دان يدين إذا جزى. وقيل : لمسوسون مقهورون من دانه إذا ساسه ومنه الحديث ( الكيس من دان نفسه ) وعن بعضهم : اراد بالمتحادثين الرجلين المذكورين في الكهف في قوله ) واضرب لهم مثلاً رجلين ) [ الآية : 32 ] ( قال ( يعني ذلك القائل أو الله أو بعض الملائكة ) هل أنتم مطلعون ( إلى النار اي هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلكم منها. عن ابن عباس : إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها غلى النار ) فاطلع ( على أهل النار فرأى قرينه ) في سواء الجحيم ( وسطها ) قال ( لقرينه ) تالله إن كدت لتردين ( ( إن ) مخففة واللام فارقة. والإرداء الإِهلاك ، وبخه على أنه كان يدعوه في الدنيا غلى إنكار البعث المتضمن للكفر المؤدّي إلى الهلاك الحقيقي. والخطاب مع القرين إما أن يكون بحيث يسمعه حقيقة وذلك لرفع الحجاب وتقريب المسافة أو كما أراد الله بقدرته ، وإما أن يخاطبه وإن لم يمكنه السماع لبعده كما يخاطب الموتى ومن في حكمهم ، نظيره ما مر في قصة صالح ) فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم ) [ الأعراف : 79 ] إلى آخر الآية والله أعلم. ثم شكر الله تعالى على أن وفقه لنعمة الإسلام وأرشده إلى الحق وعصمه عن الباطل فقال ) ولولا نعمى ربي لكنت من المحضرين ( في النار مثلك أطلق إطلاقاً لأن الإِحضار يستعمل في الشر غالباً ولا سيما في اصطلاح القرآن. وحين تممم كلامه مع الرجل الذي كان قيرناً له في الدنيا وهو الآن من أهل النار عاد غلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة قائلاً ) افما نحن بميتين ( وفيه قولان أحدهما : إن أهل الجنة لا يعلمون في أوّل دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فيستفهمون عن ذلك فيما بينهم ، أو يسالون الملائكة فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح فعند ذلك يعلمون أ ، هم لا يموتون والتقدير : نحن مخلدون منعمون فما من شأننا أن نموت ولا أن نعذب. وثانيهما أن هذا مما يقوله المؤمن تحدثاً بنعمة الله سبحانه واغتباطاً بحاله ، فإن الذي يتكامل خيره وسعادته إذا عظم تعجبه بها قد يقول. أفيدوم هذا لي ؟ وإن كان على يقين من دوامه. وايضاً إنه قال ذلك بمسمع من قرينه ليكون توبيخاً له وليحكيه الله فيكون لنا لطفاً وزجراً. احتج نفاة عذاب القبر بقوله ) غلا موتتنا الأولى ( فإنه يدل على أن الإنسان لاي موت إلا موتة واحدة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الموت حاصلاً مرتين. وأجيب بأن المراد بالموتة الأولى كل ما يقع في الدنيا. وقوله إن هذا لهو الفوز العظيمر يجوز أن يكون من تمام كلامه لقرينه تقريعاً له وتوبيخاً وأن يكون من قول أهل الجنة فيما بينهم أي إن هذا الأمر(5/561)
" صفحة رقم 562 "
الذي نحن فيه أو هو قول الله تصديقاً لهم ، وكذا قوله لمثل هذا فليعمل العاملونر ولا خلاف أن قول ذلك خير من كلام الله عز وجل كأنه لما تمم قصة المؤمن رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فاستفهم للتقرير أن ذلك الزرق ) خير نزلاً أم شجرة الزقوم ( قال جار الله : أصل النزل الفضل والريع في الطعام يقال : طعام كثير النزل. فاستعير للحاصل من الشيء ، وحاصل الرزق المعلوم اللذة والسرور ، وحاصل تلك الشجرة الألم والغم. ويمكن أن يقال : النزل ما يقدّم للضيف ، ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم ولكنهم وبخوا على ذلك. وظاهر القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعم والرائحة مؤلمة التناول صعبة الابتلاع إلا أن المفسرين اختلفوا في ماهيتها ، فذكر قطرب أنها شجرة مرة تكون بتهامة. وقال غيره : إنها ليس لها في الدنيا وجود بدليل قوله ) إنا جعلناها فتنة للظالمين ( وذلك أنها خلاف المألوف والمعتاد فإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله تعالى وإذا ورد على الزنديق توسل به إلى الطعن في القرآن ويزيد في شبهته كقوله ) فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) [ التوبة : 125 ] وقيل : إنما كانت فتنة لهم لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك عليهم فهو كقوله ) يوم هم على النار يفتنون ) [ الذاريات : 13 ] وذكر المفسرون أن ابن الزبعري قال لصناديد قريش إن محمداً يخوّفنا بالزقوم وإن الزقوم بلسان بربر وغفريقية الزبد والتمر. وذكروا أيضاً أن أبا جهل أدخلهم بيته وقال : يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال : تزقموا فهذا الذي يوعدكم محمد به فأنزل الله صفة الزقوم. وذكر بقية أوصاف الشجرة منها ) إنها تخرج في أصل الجحيم ( اي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. وفيه تكذيب للطاعنين فيه كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر. ومنها ) طلعها كأنه رؤوس الشياطين ( قال جار الله : الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية وذلك أن يكون وجه الاستعارة مجرد الطلوع أي الظهور ، أو معنوية وذلك إذا كان يشبه الطلع شكلاً ولوناً. وفي تشبيه ثمرتها برؤوس الشياطين أقوال أحدها وهو الأقوى : إنه تمثيل وتخييل وذلك أن الشيطان مثل في القبح ونفرة الطباع عنه كما أن الملك مثل في الحسن وميل النفوس غليه ، وإذا كان الشيطان كله مستقبحاً فراسه كذلك ، وتشبيه الثمرة براسه أولى لاستدارة وللتوسط في الجحيم. الثاني أن الشيطان ههنا نوع من الحيات تعرفها العرب ، خفاف لها أعراف ورؤوس قباح. الثالث أنه شجر معروف عند العرب قبيح الأعالي يسمى الأستن وثمره يسمى رؤوس الشياطين. الرابع قال مقاتل : رؤوس الشياطين حجارة سود تكون حول مكة. ولعل هذا بل الثالث والثاني أيضاً يعود إلى الأول إلا أنه بعد التسمية كأنه صار أصلاً يشبه به. ثم(5/562)
" صفحة رقم 563 "
علل جعل الشجرة فتنة للظالمين بقوله فإنهم لآكلون منهار أي من طلعها ) فمالؤن البطون ( أي بطونهم غما لأن شدّة الجوع تحملهم على تناول ذلك الشيء الكريه ، وإما لأن الزبانية يقسرونهم على أكلها ليكون باباً من العذاب ، فإذا شبعوا غلبهم العطش أو أخذتهم الغصة فيسقون من حميم وهو الماء الشديد الحرارة ، وقد وصفه الله سبحانه في قوله ) وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه ) [ الكهف : 29 ] والشوب المزج كما قال في صفة شراب أهل الجنة ) ومزاجه من تسنيم ) [ المطففين : 27 ] وهو تسمية بالمصدر والمراد أن الطعام مزج بالحميم أو يسقون صديداً أو شراباً حاراً ممزوجاً بما هو أحر وهو الحميم. ومعنى ( ثم ) التراخي في الزمان كأنهم لا يسقون غلا بعد مدة مديدة تكميلاً للتعذيب ، أو التراخي بالرتبة لأن الشراب ابشع من الطعام بكثير. قال مقاتل : معنى ( ثم ) في قوله ) ثم إن مرجعهم ( أنهم يخرجون من الجحيم ودركاتها إلى موضع فيه الزقوم والحميم ، وبعد الأكل والشرب يردّون إلى موضعهم اي من الجحيم فكأنهم في وقت الأكل والشرب لا يعذبون بالنار. وقيل : هو كقولهم طفلان يرجع إلى مال ونعمة ( أي هو فيها. وقيل : ( ثم ( لتراخي الأخبار أي فقد صح أن مرجع الكفار إلى النار. وقيل : ( ثم ( مع الجملة قد تدل على التقديم أي قبل ذلك كان مرجعهم إلى الجحيم. ثم بين أن سبب وقوعهم في أصناف العذاب المذكور هو التقليد. والإهراع الإسراع الشديد كأنهم يساقون سوقاً ولو لم يوجد في ذم التقليد إلا هذه الآية لكفى. ثم اراد تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إجمالاً بقوله ) ولقد ضل قبلهم ( أي قبل قومك ) اكثر الأوّلين ( ثم استثنى من قوله ) ولقد ضل ( أو ) من المنذرين ( المهلكين عباده المخلصين فإن عاقبتهم كانت حميدة. ثم سلاه بوقائع الأمم الخالية تفصيلاً ، وقدّم قصة نوح عليه السلام لكونه أباً ثانياً ونداؤه في قوله ) رب انصرني بما كذبون ) [ المؤمنون : 26 ] أو قوله ) رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ) [ نوح : 26 ] واللام الداخلة على ) نعم ( جواب قسم محذوف أو لبتداء ، والمخصوص بالمدح وهو نحن محذوف ، والجمع لتصوير العظمة والكبرياء ، وفيه وفي فاء التعقيب في ) فلنعم ( دليل على أن نداء العظيم الكبير حقيق بأن يكون مقروناً بإجابة. والكرب العظيم ما هو فيه من مخاوف الطوفان أو من إيذاء قومه مع الياس من غيمانهم وهذا أقرب. وفي قوله ) هم الباقين ( بصيغة الحصر دلالة على أن كل ما سواه وسوى ذريته فقد فنوا. روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ذرّيته وهم سام وحام ويافث. فسام أبو العرب وفارس والروم ، وحام أبو السودان شرقاً وغرباً ، ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وتركنا عليه في المتأخرين من الأمم هذه الكلمة وهي ) سلام على نوح ( ومعنى ) في العالمين ( أن هذه التحية ثبتها الله فيهم فيسلم الثقلان عليه إلى يوم القيامة. ثم بين أن سبب هذه التشريفات هو كونه محسناً وهذا جزاء(5/563)
" صفحة رقم 564 "
كل محسن. ثم بين أن إحسانه كان مسبوقاً بإيمانه فعلى كل مؤمن أن يجتهد حتى يصير محسناً. وحين تمم ما آل إليه أمر نوح وذريته ذكر عاقبة سائر قومه فقال ) ثم أغرقنا الآخرين ( أعاذنا الله من الإغراق والإِحراق وجعل فلكنتا فلك نوح وسفرنا متضمناً للنصر والفتوح. التأويل : ( والصافات ( إشارة إلى ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجساد في أربعة صفوف : الأول للأنبياء ، والثاني للأولياء ، والثالث للمؤمنين ، والرابع لأهل الكفر ) فالزاجرات ( هي الإلهامات الربانية للعوام عن المناهي ، وللخواص عن رؤية الأعمال ، وللأخص عن الالتفات إلى غير الله ) فالتاليات ذكراً ( هم الذين يذكرون الله في الخلوات بخلوص النيات. رب سموات القلوب وأرض النفوس وما بينهما من صفاتهما ورب مشارق القلوب يطلع منها شموس الشواهد واقمار الطوالع ونجوم اللوامع. السماء الدنيا هي الرأس ، وكواكبها الحواس ، والشهب هي الخواطر الرحامينة تدفع بها الوساوس الشيطانية ) طين لازب ( أي لاصق بكل ما يصادفه فقوم لصقوا بالدنيا وقوم لصقوا بالآخرة وقوم لصقوا بنفحات ألطاف الحق ، فأذابتهم وجذبتهم عن أنانيتهم بهويتها كما تذيب الشمس الثلج وتجذبه عنه : ( وقفوهم إنهم مسؤولون ( للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام وهو مسؤول عن أداء حقوق ذلك المقام. فقوم يسألهم الملك وقوم يسألهم الملك ، والأوّلون أقوام لهم أعمال صالحة تصلح للعرض والكشف. والآخرون قسمان : قوم لهم أعمال يسترها الحق عن اطلاع الخلق عليهم في الدنيا والآخرة كما قال ) أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري ( وقوم لهم ذنوب لا يطلع عليها إلا االله فيسترها عليهم كما جاء ذكره في الحديث ) إن الله يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كتفه يستره من الناس فيقول : أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا ؟ فيقول : نعم اي رب. ثم يقول : أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا ؟ فيقول : نعم. ثم يقول : اي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا ؟ فيقول : نعم أي رب. حتى إذا قرره بذنوبه ورأى نفسه أنه قد هلك قال : فإني سترتها عليك في الدنيا وقد غفرتها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته ( ) إلا موتتنا الأولى ( وهي الموتة الإرادية عن الصفات النفسانية وبعد ذلك لا موت ، بل ينتقل من دار إلى دار. ) لمثل هذا فليعمل العاملون ( بل لمثل هذه الأمور تبذل الأرواح وتفدى الاشباح كما قيل : ( شعر )(5/564)
" صفحة رقم 565 "
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه
وإن بات من ليلى على اليأس والصدّ
ثم أخبر بعد قصة الأولياء عن قصة الأعداء بقوله ) أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم ( وفي قوله ) كأنه رؤوس الشياطين ( دليل على أن أفعالهم كانت في قبح صفات الشياطين فكانت مكافأتهم من جنس صورة الشياطين ) سلام على نوح في العالمين ( أنه تعالى سلم على نوح الروح لأنه يحتاج إلى سلام الله ليعبر على الصراط المستقيم الذي هو أدقَ من الشعر وأحدّ من السيف ، ولهذا يكون دعوة الرسل حينئذ رب ) سلم سلم (. وإنما اختصوا بالصراط والعبور عليه ليؤدّوا الأمانة التي حملوها إلى أهلها وهو الله سبحانه وتعالى. ( الصافات : ( 83 - 182 ) وإن من شيعته . . . .
" وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون إنا كذلك نجزي المحسنين إنهما من عبادنا المؤمنين وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا(5/565)
" صفحة رقم 566 "
عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به فسوف يعلمون ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين "
( القراآت )
يزفون ( بضم الياء وكسر الزاي : حمزة. الباقون : بفتح الياء ) إني أرى ( ) إني أذبحك ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابو عمرو. ) وترى ( بضم التاء وكسر الراء : علي وخلف وحمزة. ) ستجدني ( بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع ) وإن إلياس ( موصولاً كهمزة الوصل : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الآخرون : بكسر الهمزة ) الله ربكم ورب ( بالنصب في ثلاثتها على البدل : سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل. الباقون : برفعها على الابتداء والخبر. ) آل ياسين ( ابن عامر ونافع ورويس. الآخرون ) إلياسين ( كأنه جمع إلياس ) لكاذبون اصطفى ( موصلاً والابتداء بكسر الهمزة : يزيد وإسماعيل والأصبهاني عن ورش الباقون : بفتحها في الحالين. الوقوف : ( لإبراهيم ( 5 ط لأن التقدير ( واذكر ). وجوز في الكشاف أن يتعلق الظرف بما في الشيعة من معنى المتابعة فلا وقف ) سليم ( 5 ) تعبدون ( 5 ج للابتداء بالاستفهام(5/566)
" صفحة رقم 567 "
مع اتحاد المقول ) تريدون ( 5 ط لاستفهام آخر ) العالمين ( 5 ) في النجوم ( 5 لا للفاء واتحاد المعنى ) سقيم ( 5 ) مدبرين ( 5 ) تأكلون ( 5 ج للاستفهام مع الاتحاد كما مر ) لا تنطقون ( 5 ) باليمين ( 5 ) يزفون ( 5 ) تنحتون ( 5 لا لأن الواو للحال ) تعملون ( 5 ) في الجحيم ( 5 الأسفلينر 5 ) سيهدين ( 5 ) الصالحين ( 5 ) حليم ( 5 ) ماذا ترى ( ط ) ما تؤمر ( ز للسين مع اتصال المقول ) الصابرين ( 5 ) للجبين ( 5 ج لاحتمال أن الواو مقحمة ) وناديناه ( جواب ( لما ) ، ولاحتمال أن الجواب محذوف أي قبلنا منه وناديناه ) يا إبراهيم ( 5 لا ) الرؤيا ( ج لاحتمال أن ما بعده داخل في حكم النداء أو مستأنف ) المحسنين ( 5 ) المبين ( 5 ) عظيم ( 5 ) في الآخرين ( 5 لا ) إبراهيم ( 5 ) المحسنين ( 5 ) المؤمنين ( 5 ) الصالحين ( 5 ) إسحق ( ط ) مبين ( 5 ) وهارون ( 5 ج للآية مع العطف ) العظيم ( 5 ج لذلك ) الغالبين ( 5 لا ) المستبين ( 5 ج ) المستقيم ( 5 ج ) في الآخرين ( 5 لا ) وهارون ( 5 ) المحسنين ( 5 ) المؤمنين ( 5 ) المرسلين ( 5 لا وجه صحيح وإن لم يكن مقصوداً فلهذا لم يك الوقف لازماً. ) تتقون ( 5 ) الخالقين ( 5 لا لمن قرأ ) الله ( بالنصب ) الأوّلين ( 5 ) لمحضرون ( 5 ) المخلصين ( 5 ) في الآخرين ( 5 لا الياسينر 5 ) المحسنين ( 5 ) المؤمنين ( 5 المرسلينر 5 أجميعنر 5 لا ) الغابرين ( 5 ) الآخرين ( 5 ) مصبحين ( 5 لا ) وبالليل ( ط ) تعقلون ( 5 ) المرسلين ( 5 لا ) المشحون ( 5 لا المدحضينر 5 ج ) لحق ) يقطين ( ( 5 ج ) أو يزيدون ( 5 ط ) إلى حين ( 5 ط ) البنون ( 5 ط ) شاهدون ( 5 ) ليقولون ( 5 لا ) ولد الله ( لا تعجيلاً لتكذيبهم ) لكاذبون ( 5 ) البنين ( 5 ط لابتداء استفهام آخر ) تحكمون ( 5 ) تذكرون ( 5 ج لأن ( أم ) تصلح استئنافاً ) مبين ( 5 لا لتعجيل أمر التعجيز ) صادقين ( 5 ) نسباً ( ط ) لمحضرون ( 5 لا لتعلق الاستثناء و ) سبحان الله ( معترض ) يصفون ( 5 ) المخلصين ( 5 ) تعبدون ( 5 لا ) بفاتنين ( 5 لا ) الجحيم ( 5 ) معلوم ( 5 ) الصافون ( 5 ج للعطف مع الاتفاق ) المسبحون ( 5 ج ) ليقولون ( 5 لا ) من الأوّلين ( 5 لا ) المخلصين ( 5 ) يعلمون ( 5 ) المرسلين ( 5 لأن ما بعده يصلح ابتداء مقولاً للكلمة ) المنصورون ( 5 ص لعطف الجملتين المفقتين ) الغالبون ( 5 ) حين ( 5 لا للعطف ولشدة اتصال المعنى ) يبصرون ( 5 ) يستعجلون ( 5 ) المنذرين ( 5 ) حين ( 5 لا ) يبصرون ( 5 ) عما يصفون ( 5 ج لعطف جملتين مختلفتين ) المرسلين ( 5 ج للابتداء بالحمد الذي به يبتدأ الكلام وإليه ينتهي مع اتفاق الجملتين ) العالمين ( 5. التفسير : الضمير في ) شيعته ( يعود إلى نوح والمراد أن إبراهيم ممن شايع نوحاً على(5/567)
" صفحة رقم 568 "
أصول الدين أو على التصلب في الدين. وقال الكلبي : واختاره الفراء إنه يعود إلى محمد أي هو على منهاجه ودينه وإن كان إبراهيم سابقاً والأوّل لتقدّم ذكر نوح. ولما روي عن ابن عباس معاه من أهل دينه وعلى سنته وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان : هو وصالح ، وبين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. ومعنى ) جاء ربه ( أقبل بقلبه على الله وأخلص العمل له. والقلب السليم قد مرّ في ( الشعراء ). ثم ذكر من جملة آثار سلامة قلبه أن دعا أباه وقومه إلى التوحيد. ومعنى ) ماذا تعبدون ( أي شيء تعبدونه كقوله في ( الشعراء ) ) وما تعبدون ) [ الآية : 70 ] سألهم عن جنس معبوديهم ثم وبخهم على ذلك بقوله ) أئفكاً ( هو مفعول له قدم للعناية كما قدم المفعول به على الفعل لذلك فإنه كان الأهم عنده أن يكافحهم ويعنفهم على شركهم وأنهم على إفك وباطل. ويجوز أن يكون ) إفكاً ( حالاً معنى أو مفعولاً به ) آلهة ( بدل منه على أنها إفك في أنفسها. ) فما ظنكم برب العالمين ( حتى جعلتم الجمادات أنداداً له أو حسبتم أنه يهمل أمركم ولا يعاقبكم ، وفيه أنه لا يقدر في وهم ولا ظن ما يصدر عن عبادته. وفي قوله ) إني سيم ( قولان : الأوّل أنه صدر منه كذباً لمصلحة رأى فيه ، ولما جاء في الحديث ( لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ) : قوله : ( إني سقيم ( وقوله ( بل فعلهم كبيرهم ( وقوله لسارة إنها أختي ( وقد سبق تقرير ذلك في الأنبياء. والثاني وهو الأقوى أنه كلام صادق لأن الكذب قبيح وإن اشتمل على مصلحة. وأما الحديث فنسبه الراوي إلى الكذب أولى من نسبة نبي الله إلى ذلك. وفي التوجيه وجوه : الأوّل إن النظر في النجوم يريد به النظر في علم النجوم وأحكامها وكتبها وذلك ليس بحرام ولا سيما في ذلك الشرع فليس فيه إلا اعتقاد أنه تعالى خص كل واحد من الكواكب بقوّة وخاصية يظهر بها منه أثر مخصوص ، والإنسان لا نيفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة له ، إما في بدنه أو في قلبه ، فلعل به سقماً كالحمى الثابتة ، أو أراد سيسقم لأمارة نجومية ، أو أراد به الموت الذي يلحقه لا محالة ولا داء أعي منه. الثاني : أن المراد بالنجوم ما جاء في قوله ) فلما جن عليه الليل رأى كوكباً ( إلى آخر الآية. أي نظر فيها ليعرف أحوالها وأنها قديمة أو محدثة. وقوله ( إني سقيم ( أي سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل البلوغ ، أو سقيم النفس لكفركم. الثالث : إن النجوم النبات أي فنظر فيها متحرياً منها ما فيه شفاء لسقمهم وهمهم أن به ذلك وكان به. وقال الأزهري عن أحمد بن يحيى : النجوم جمع نجم وهو كل ما تفرق ومنه نجوم الكتابة أي نظر في متفرقات(5/568)
" صفحة رقم 569 "
كلامهم وأحوالهم حتى يستخرج منه حيلة فلم يجد عذاراً أحسن منقوله ) إني سقيم ( قال المفسرون : كان الطاعون أغلب الأسقام عليهم فظنوا أن به ذلك فتركوه في بيت الأصنام مخافة العدوى وهربوا إلى عيدهم وذلك قوله سبحانه ) فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم ( ذهب إليها في خفية حتى لا يرى فكأنه رجع إليها مراوغاً قومه من روغان الثعلب. وقيل : راغ بقوله ) إني سقيم ( حتى خلا بها وسماها آلهة على زعمهم. وقوله ( الا تأكلون ما لكم لا تنطقون ( استهزاء بها وكان عندها طعام زعموا أنها تأكل منه. وقيل : وضع الطعام ليبارك فيه. وروى أن سدنتها كانوا يأكلون ما يوضع عندها من الطعام وينطقون عند الضعفة عن لسانها يوهمون أنها تأكل وتنطق. وإنما جاء في هذه السورة ) فقال ألا تأكلون ( بالفاء وفي ) الذاريات ( ) قال ألا تأكلون ( بغير الفاء لأنه قصد من أول الأمر تقريع من زعم أنها تأكل وتشرب ، وفي الذاريات ) يستأنف تقديره : قربه إليهم فلم يأكلوها فلما رآهم لا يأكلون فقال ألا تأكلون. ) فراغ عليهم ( عداه بعلى لأن الميل الأول كان على سبيل الرفق استهزاء ، وهذا كان بطريق العنف والقهر وهذا كما يقال في المحبوب : مال إليه. وفي المكروه : مال عليه. وقوله ( ضرباً ( مصدر راغ من غير لفظه أو لفعل محذوف أو حال أي بضرب ضرباً أو ضارباً. ومعنى ) باليمين ( اي باليد اليمنى لأنها أقوى على الأعمال أو باقوّة مجازاً ، أو بسبب الحلف وهو قوله ) تالله لأكيدن أصنامكم ( ) فأقبلوا إليه ( أي إلى إبراهيم ) يزفون ( بمشون على سرعة. وزفيف النعامة ابتداء عدوها. ومن قرأ بضم الياء فإما لازم من أزف إذا صار إلى حال الزفيف ، أو متعدٍ والمفعول محذوف أي يزفون دوابهم أو بعضهم بعضاً وقد مر نظيره في التوبة في قوله ) ولأوضعوا خلالكم ) [ التوبة : 47 ] قال بعض الطاعنين ، قوله ) فاقبولا إليه ( دل على أنهم عرفوا كاسر أصنامهم. وقوله في ( الأنبياء ) ) أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ) [ الآية : 62 ] دل على أنهم لم يعرفوا الكاسر فبينهما تناقض. وأجيب بأن هؤلاء غير أولئك فالذين عرفوه ذهبوا إليه مسرعين ، والذين لم يعرفوه بعد استخبروا عنه. على أن قوله ) فأقبوا إلهي ( لا دلالة له على أنهم عرفوا أن الكاسر هو إبراهيم فلعلهم أقبلوا إليه لأجل السؤال عن الكاسر. وحين عاتبوه على فعله أراد أن يبين لهم فساد طريقتهم ف ) قال أتبعدون ما تنحتون ( وذلك أن الناحت لم يحدث فيه إلا صورة معينة فيكون معناه أن الشيء الذي لم يكن معبوداً لي صار بسبب تصرفي فيه معبوداً لي وفساد هذا معلوم بالبديهة ، احتج جمهور الأشاعرة بقوله ) والله خلقكم وما تعملون ( على أن العبد ليس خالق أعماله لأن المعنى خلقكم وأعمالكم. وزيف بأن ( ما ) موصولة لتناسب قرينتها في قوله ) ما(5/569)
" صفحة رقم 570 "
تنحتون ( وليتوجه التوبيخ ولكيلا يلزم التناقض فإن النحت عملهم. والصحيح أن الآية كقوله ) بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن ) [ الأنبياء : 56 ] أي فطر الأصنام : ثم إن إبراهيم لما ألقمهم الحجر بهذا القول وألزمهم عدلوا إلى طريقة الإيذاء و ) قالوا ابنوا له بنياناً ( قال ابن عباس : بنوا حائطاً من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون. وتقدير الآية : ابنوا له بنياناً واملؤه ناراً وألقوه فيها. والجحيم النار العظيمة. ومعنى الفاء في قوله ) فارادوا ( كقوله ) أهلكناها فجاءها بأسنا ) [ الأعراف : 4 ] كأنه قيل : فبنوا البنيان وملؤه ناراً وألقوه فنجيناه منها. وقد صح أنهم أرادوا به كيداً ) فجعلناهم الأسفلين ( الأذلين وأما في الأنبياء فلم يقصد هذا الترتيب فاقتصر على الواو العاطفة. وإنما اختصت هذه السورة بقوله ) الأسفلين ( لأنه ذكر أنهم بنوا بنياناً عالياً فكان ذكر السفل في طباقه أنسب. ثم ذكر بقية قصة إبراهيم وقوله ( إني ذاهب إلى ربي ( كقوله في ( العنكبوت ) ) إني مهاجر إلى ربي ) [ الآية : 26 ] وإنما حكم بقوله ) سيهدين ( ربي إلى ما فيه صلاحي في الدارين اعتماداً على فضل الله أو عرف ذلك بالوحي. وحين هاجر إلى الرض المقدسة أراد الولد فقال ) رب هب لي من الصالحين ( والله تعالى بين استجابته بقوله ) فبشرناه بغلام حليم ( وصف الغلام بالعلم في سورة الحجر وبالحلم ههنا. فذهب العلماء إلى أنه اراد بغلام عليم في صغره حليم في كبره ، فإن الصبي لا يوصف بالحلم ومن هنا انطوت البشارة علىمعان ثلاثة : أحدها أن الولد ذكر ، والثاني أنه يبلغ أوان الحلم ، والثالث أنه يكون حليماً ، وأيّ حلم أعظم من استمساكه حين عرض أبوه عليه الذبح فقال ) ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( وفيه أن ولده قائم مقامه في الشرف والفضيلة فوصفه بالحلوم كما وصف به إبراهيم في قوله ) إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب ) [ هود : 75 ]. وقيل : العليم إسحق لقوله ) فأقبلت امرأته في صرة ) [ الذاريات : 29 ] والحليم إسماعيل. ثم حكى حديث ذبحه قائلاً ) فلما بلغ معه السعي ( أي قوي على أن يمشي مع أبيه في حوائجه. والظرف بيان كأنه قال أوّلاً ) فلما بلغ السعي ( فقيل : مع من ؟ فأجيب مع أبيه. ولا يجوز تعلقه بالسعي لأن صلة المصدر لا تتقدّم عليه ولا بقوله ) بلغ ( لأنهما لم يبلغا معاً حد السعي - والمعنى في اختصاص الأب إخراج الكلام مخرج الأغلب. وقال جار الله : السبب فيه أن الأب أرفق الناس به وأعطفهم عليه وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم قوته. يروى أنه كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وقيل أراد السعي في المنافع وفي طاعة الله. اعلم أن الناس اختلفوا في الذبيح ، فعن أبي بكر الصديق وابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب وعكرمة ومجاهد والضحاك أنه إسماعيل لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا(5/570)
" صفحة رقم 571 "
ابن الذبيحين ) فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله. وذلك أن عبد المطلب نذر إن بلغ بنوه عشرة أن يذبح واحداً منهم تقرباً ، فلما كملوا عشرة أتى بهم البيت وضرب عليهم بالقداح فخرج قدح عبد اتلله فمنعه أخواله ففداه بعشرة من الإبل ، ثم ضرب عليه وعلى الإبل فخرج قدحه ففداه بعشرة أخرى ، وضرب مرة أخرى فخرج قدحه وهكذا يزيد عشرة عشرة إلى أن تمت مائة فخرج القدح على الجزر فنحرها وسن الدية مائة. وفي رواية أن أعرابياً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا ابن الذبيحين ). فتبسم فسأل عن ذلك فقال : إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر الله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده. فخرج السهم على عبد الله فمنعوه ففداه بمائة من الإبل. حجة أخرى : نقل عن الأصمعي أنه قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي أين عقلك ؟ ومتى كان إسحق بمكة وإنما كان إسماعيل وهو الذي بنى البيت مع أبيه وسن النحر بمكة. وحجة أخرى : وصف إسماعيل بالصبر في قوله ) وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين ) [ الأنبياء : 85 ] وهو صبره على الذبح في قوله ) ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( ووصفه بصدق الوعد ) إنه كان صادق الوعد ) [ مريم : 54 ] وذلك أنه وعد أباه الصبر على قضاء الله أو على الذبح فوفى به. أخرى : ( ومن وراء إسحق يعقوب ) [ مريم : 54 ] فيمن قرأ بالنصب لأنه إذا بشر بالولد من صلبه علم أنه لم يؤمر بذبحه. أخرى : أجمعوا على أن إسماعيل مقدم في الوجود على إسحق فهو المراد بقوله ) رب هب لي من الصالحين ( ثم إنه ذكر عقيبة قصة الذبح. وايضاً قوله ) وبشرناه بإسحق ( يجب أن يكون غير قوله فبشرناه بغلام حليمر وإلا لزم التكرار. حجة أخرى : ان قرني الكبش كانا ميراثاً لولد إسماعيل عن أبيهم وكانا معلقين بالكعبة إلى أن احترق البيت في أيام ابن الزبير والحجاج. وعن علي وابن مسعود وكعب الأحبار وإليه ذهب أهل الكتاب أن الذبيح إسحق لما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل اي النسب أشرف ؟ فقال : يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله. وأجابوا عن قوله : ( وبشرناه بإسحاق ( أنه بشر بغلام أوّلاً ثم بنبوته ثانياً. وايضاً صرح بالمبشر به في قوله ) فبشرناه بإسحق ) [ هود : 71 ] وفي قوله ) وبشرناه بإسحق ( فيحمل عليه المبهم في قوله ) فبشرناه بغلام ( وأيضاً لا نسلم أن البشارة بيعقوب كانت متصلة ببشارة إسحق اعتباراً بقراءة من قرأ ) يعقوب ) [ هود : 17 ] بالرفع. وأيضاً أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله ) إني ذاهب إلى ربي ( هو مهاجرته إلى الشام ثم قال ) فبشرناه بغلام ( فوجب أن يكون الغلام الحليم قد حصل له في الشام وذلك الغلام لم يكن إلا إسحق ، لأن إسماعيل قد نشأ بمكة. وكان الزجاج يقول : الله أعلم أيهما الذبيح. ويتفرع على اختلاف المفسرين في الذبيح اختلافهم في موضع الذبح ، فالذين قالوا إن الذبيح إسماعيل ذهبوا إلى أن الذبح كان(5/571)
" صفحة رقم 572 "
بمنى وهذا أقوى ، ولاذين قالوا إنه إسحق قالوا ن الذبح كان بالشام وخصه بعضهم ببيت المقدس. إذا عرفت هذا الاختلاف فقوله ) يا بني إني أرى في المنام ( إنما قال بلفظ المستقبل لأنه كان يرى في منامه ثلاث ليال أو لأن رؤيا الأنبياء وحي ثانٍ فذكر تأويل الرؤيا كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب سفينة : رايت في المنام أني ناجٍ من هذه المحنة فكأنه قال : إني أرى في المنام ما يوجب أني أذبحك. ويحتمل أن يكون حكاية ما رآه. قال بعض المفسرين : رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فأصبح يروّي في ذلك أمن الله أو من الشيطان فسمي يوم التروية. فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله فسمي رعفة ، ثم رأى مثله في الثالثة فهمّ بنحره فسمي يوم النحر. وقال بعضهم : حين بشره الملائكة بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله ، فلما وبلغ حد السعي مع أبيه قيل له : أوف بنذرك فانظر ماذا ترى هو من الرأي. ومن قرأه من الإراءة بصبره فالمعنى ماذا تبصر من رأيك وتدبيرك. وإنما شاوره في حتم من الله ليثبته إن جزع ويفرح بصبره إن ثبت ولئلا يقع الذبح معافصة من غير إعلام به وبسببه ، وليكون سنة في المشاورة فقد قيل : لو شاور آدم الملائكة في الأكل من الشجرة لما فرط منه ذلك ) قال يا أبت افعل ما تؤمر ( أي به فحذف الجار كقوله : أمرتك الخير. اي أمرتك بالخير أو أمرك على تسمية المأمور به بالمصدر ثم غضافته إلى المفعول : ( فلما اسلما ( أي انقادا وخضعا لأمر الله. قال قتادة : اسلم هذا ابنه وهذا نفسه. ) وتله ( أي صرعه. واللام في ) للجبين ( كهي في قوله ) ويخرون للأذقان ) [ الإسراء : 109 ] والجبين أحد جانبي الجبهة. وقيل : كبه لوجهه لأن الولد قال له اذبحني وأناساجد. يروى أ ، ه حين أراد ذبحه قال : يا بنيّ خذ الحبل والمدية ننطلق إلى الشعب ونحتطب ، فلما توسطا الشعب أخبره بما أمر فقال له : اشدد به رباطي لئلا اضطرب واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجير وتراه أمي فتحزن ، واشحذ شفرتك واسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد ، واقرأ على أمي سلامي ، وإن رأيت أن ترد فميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون اسهل. فقال إبراهيم : نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله. ثم اقبل عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان فقال له : كبني على وجهي ولا تنظر إليّ حتى لا تدركك رقة تحول بينك وبين أمر الله. قال جار الله : تقدير الكلام فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق به العيان ولا يحيط به البيان من استئثارهما بما أنعم الله عليهما من دفع البلاء وبما اكتسبا في تضاعيف ذلك من الثواب والثناء ، وقد اشير إلى جميع ذلك بقوله ) إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا ( الأمر الذي قد وقع ) لهو البلاء المبين ( الذي يتميز فيه المخلص عن المدعى والمكروه الذي لا أصعب على النفس منه. يروى أنه لما وصل موضع السجود منه(5/572)
" صفحة رقم 573 "
الأرض جاء الفرج. وقيل : إنه وضع السكين على قفاه فانقلب السكين وونودي يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا. فنظر فإذا جربريل عليه السلام معه كبش أقرن أملح فكبر جبرائيل والكبش وإبراهيم وابنه وأتى المنحر من منى فذبحه وذلك قوله سبحانه ) وفديناه بذبح عظيم ( والفداء جعل الشيء مكان غيره لدفع الضرر عنه ، . والذبح اسم لما يذبح كالطحن لما يطحن. وقوله ( عظيم ( أي سمين ضخم الجثة بالقياس إلى أمثاله وهي السنة في الأضاحي. قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم ). والاستشراف جعلها شريفة وكريمة. وعن سعيد بن جبير : حق له أن يكون عظيماً وقد رعى في الجنة أربعين خريفاً. وفي قول ابن عباس : إنه الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه وكان يرعى في الجنة إلى أن فدى به غسماعيل. وقيل : سمي عظيماً لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد خليله. وقيل : وصفه بالعظم لبقاء أثره إلى يوم القيامة فإنه ما من سنة إلا ويذبح بسبب ذلك من الأنعام مالا يحصيه إلا الله. وعن الحسن : أنه وعل أهبط عليه من ثبير. وقال السدّي : نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح ينحط من الجبل فقام عند إبراهيم عليه السلام فذبحه وخلى ابنه. استدل بعض الأصوليين من أهل السنة بالآية على جواز نمسخ الحكم قبل حضور وقته. وقالت المعتزلة. وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية بعدم الجواز لاستلزامه البداء أو الجهل ، وزعموا أنه تعالى أمر إبراهيم في المنام بمقدمات الذبح كاضجاع ابنه ووضع السكين على حلقه ، والعزم الصحيح على الإتيان بذلك الفعل أوان ورود الأمر. سلمنا أنه أمر بنفس الذبح لكن لم يجوز أنه قطع الحلقوم إلا أنه كان يلتئم جزءاً فجزءاً فلهذا قيل له ) قد صدّقت الرؤيا (. والفداء فضل من الله في حقه وتعظيم له بدلاً من عدم وقوع الذبح في الظاهر ولهذا قال وفديناهر. بإسناد الفداء غلى ذاته تعالى. والحق أن نسخ الحكم قبل وقته لا يدل على البداء والبعث كما أنه بعد الوقت لا يدل على ذلك فقد يكون غرض الآمر أن يعلم أن المأمور هل يعزم على الفعل ويوطن نفسه على الانقياد والطاعة أم لا. وتصديق الرؤيا يكفي فيه الإتيان بمثل هيئة الذبح ، فمن الرؤيا ما يكون تأويلها بالشبيه كرؤيا يوسف ، والفداء زيادة تشريف وتكريم ووضع سنة مؤكدة. وروي أن الكبش هرب من إبراهيم عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فبقيت سنة في الرمي. وروي أنه لما ذبحه قال جبرائيل : الله أكبر الله أكبر. فقال الولد الذبيح : لا إله إلا الله واله أكبر. فقال إبراهيم : الله أكبر ولله الحمد. فبقي سنة. قوله ) وتركنا ( إلى قوله ) المؤمنين ( قد مر نظيره في قصة نوح إلا أنه لم يقل ههنا ) في العالمين ( اكتفاء بما علم في قصة نوح. ولم يقل ههنا ) إنا(5/573)
" صفحة رقم 574 "
كذلك ( بل اقتصر على ) كذلك ( لأنه سبق ذكر التأكيد في هذه القصة فلم يحتج إلى إعادته على أنه قد بقي من القصة شيء فناسب الاختصار في الاعتراض. قوله ) وبشرناه بإسحق ( من جعل الذبيح إسماعيل قال : وبشرناه بإسحق بعد إسماعيل. ومن جعل الذبيح إسحق قال بشر بنبوّته وقد كان بشر بمولده. قوله ) نبياً من الصالحين ( كل منهما حال مقدرة من الفاعل أي بشرناه به مقدراً وعالماً وحاكماً بأنه نبي صالح. وقد أطنب صاحب الكشاف في هذا المقام حيث بنى الكلام على أنه حال مقدرة من إسحق. وهو عندي تطويل بلا طائل فليتأمل. ) وباركنا عليه ( قيل : أي على الغلام المبشر به. قيل : على إبراهيم : ( وعلى إسحق ( اي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا. ومن جملة ذلك ما روي أنه أخرج من صلب غسحق ألفي نبي أوّلهم يعقوب وآخرهم عيسى وهم المشار إليهم بقوله ) ومن ذريتهما محسن ( ويعلم من قوله ) وظالم لنفسه ( أن البر قد يلد الفاجر ولا عار على الأب ، وأن الشرف بالحسب لا بالنسب. وأما قصة موسى فلا خفاء بها. والكرب العظيم تسلط فرعون وجفاؤه على قومه. وقيل : الغرق. والضمير في ) نصرناهم ( لها ولقومهما. والمستبين البليغ في بيانه وهو التوراة بان وأبان واستبان بمعنى إلا أن الثالث أبلغ. والصراط المستقيم دين الله الذي اشترك في أصوله جميع الرسل. وأما إلياس فالجمهور على أنه نبي من بني غسرائيل بعث بعد موسى وكان من ولد هارون. وقيل : هو إدريس النبي وقد مر ذكره في سورة مريم. و ( إذ ) ظرف المحذوف أي اذكر يا محمد لقومك إذ قال لقومه ألا تتقونر الله. قال الكلبي. أي ألا تخافون عبادة غير الله. وحين خوّفهم مجملاً ذكر سببه فقال ) أتدعون ( أي أتعبدون ) بعلاً ( وهم اسم صنم من ذهب كان ببعلبك من بلاد الشام طوله عشرون ذراعاً وله اربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه ، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس. قال الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه : لو جوّزنا دخول الشيطان في جوف الصنم وتكلمه فيه لكان قادحاً في كثير من المعجزات كحنين الجذع وكلام الجمل. قلت : هذا الوهم زائل بعد ثبوت النبوّة بمعجزات أخر. وقيل : البعل الرب بلغة اليمن. والمعنى أتبعدون بعض البعول وتتركون عبادة أحسن الخالقين. ثم بين أجزاء تكذيبهم أنهم محضرون في العذاب غداً. وباقي القصة ظاهر غلا قوله ) غلياسين ( فمن قرأ بالإضافة فعلى أن إدريس بن ياسين أس سلام على أهل ياسين. وقيل : آل ياسين آل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . وقل : يس اسم القرآن فكأنه قيل : سلام على من آمن بكتاب الله. والوجه الأوّل هو أنسب الأقوال. ومن قرأ على صورة الجمع فقد قال الفراء : اراد به إلياس(5/574)
" صفحة رقم 575 "
وأتباعه من المؤمنين كقولهم المهلبون والأشعرون بتخفيف ياء النسبة. وقيل : إنه لغة في إلياء. قال الزجاج : يقال ميكائيل وميكائين فكذا ههنا. حكى الثعلبي وغيره أن إلياس نبي من سبط هارون بعثه الله إلى بني إسرائيل وكان فيهم ملك يقال له ( أحب ) وله امرأة يقال لها ( إزبيل ) وكانت تبرز للناس كما يبرز زوجها وتجلس للحكم كما يجلس ، فأتاهما إلياس ودعاهما إلى الله تعالى فأبيا عليه وهما بقتله فاختفى منهما سبه سنين ، وكان اليسع خليفته وآل أمره إلى أن أوحي إليه أن اخرج إلى موضع كذا فما جاءك فاركبه ولا تخف. فجاء فرس من نار فوثب عليه وناداه خليفته اليسع بن أخطوب ما تأمرني ؟ فرمى إلياس غليه بكسائه من الجوّ وكان ذلك عليه علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل. ورفع الله غلياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان إنسياً ملكياً ارضياً سماوياً. وقيل : إلياس موكل بالفيافي كما وكل الخضر ولا نقول كما يقول الناس. وقصة لوط مذكورة مراراً. ومعنى ) مصبحين وبالليل ( أن مشركي العرب كانوا مسافرين إلى الشأم فلعل أكثر مرورهم بتلك الديار كان في هذين الوقتين لأمر عارض كحر أو غيره. وقصة يونس أيضاً مما سبق ذكرها ، وفيها مزيد تسلية وتثبيت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال بعضهم : إنه أرسله ملك زمانه إلى أولئك القوم ليدعوهم إلى الله تعالى. فالإباق وهو هرب العبد من سيده لا يوجب العصيان ، والأظهر أن قوله ) وإن يونس لمن المرسلين ( مذكور في معرض التعظيم على قياس أوائل سائر القصص ، ولن يفيد هذه الفائدة إلا إذا كان الإرسال من الله تعالى. وأما الجواب عن غباقة فقد مر في قوله ) وذا النون إذ ذهب مغاضباً ) [ الأنبياء : 87 ] قوله ) المشحون ( كالعلة لقوله ) فساهم ( والسماهمة المقارعة. يقال : أسهم القوم إذا اقترعوا. قال المبرد : هي من السهام التي تجال للقرعة ، والمدحض المغلوب في الحجة وغيرها وحقيقته الذي أزلق عن مقام الظفر والغلبة. يروى أنه حين غضب على قومه خرج من بينهم حتى بحر الروم ووجد سفينة مشحونة فحملوه فيها ، فلما وصلت إلى لجة البحر أشرفت على الغرق فقال الملاحون : إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل في السفينة ما رناه من غير ريح ولا سبب ظاهر. وقد يزعم أهل البحر أن السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري فاقترعوا فخرج من بينهم يونس. فقال التجار : نحن أولى بالمعصية من نبي الله. ثم عادوا ثانياً وثالثاً فخرج سهمه فقال : يا هؤلاء أنا العاصي ورمى نفسه إلى الماء. ) فالتقمه الحوت ( أي تبتلعه كاللقمة ) وهو مليم ( داخل في الملامة ومنه المثل : رب لائم مليم. أي يلوم غيره وهو أحق منه باللوم ) فلولا أنه كان من المسبحين ( قيل : أي من المصلين. قيل : أي من المصلين. عن قتادة : كان كثير الصلاة في الرخاء. وقيل : من الذاكرين الله كثيراً بالتسبيح والتقديس(5/575)
" صفحة رقم 576 "
كما قيل : اذكر الله في الخلوات يذكرك في الفلوات. والأظهر أن المراد منه ما حكى الله تعالى في آية أخرى أنه كان يقول في تلك الظلمات ) لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) [ الأنبياء : 87 ]. والضمير في ) يبعثون ( للخلائق بالقيرنة وقوله ( للبث ( في أقوال : أحدها : يبقى هو والحوت إلى يوم البعث. والثاني يموت الحوت ويبقى هو في بطنه. والثالث يموتان ثم يحشر يونس من بطنه. واختلفوا في مدّة لبثه في بطن الحوت ، فعن الحسن أنه لم يلبث إلا قليلاً. وقيل : ثلاثة ايام. وعن عطاء : سبعة. وعن الضحاك : عشرون. وقال الكلبي : أربعون. روي أن الحوت سار مع السفينة رافعاً راسه يتنفس فيه يونس ويسبح ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر فلفظه بالعراء وهو المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه. عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( سبح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا ربنا إنا لنسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة. فقال : نعم ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح. قال : نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه في الساحل ) وحكي في بعض التفاسير وإن لم يطابقه رأي أصحاب المسالك كل المطابقة أن الحوت أخرجه إلى نيل مصر ثم غلى بحر فارس ثم إلى البطائح ثم دجلة فلفظه بأرض نصيبين لم تنله آفة إلا أن بدنه عاد كبدن الصبي حين يولد ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين وذلك كالمعجزة له. قال المبرد والزجاج : هو ( يفعيل ) من قطن بالمكان إذا أقام به فيشمل كل شجرة لا تقوم على ساق كالدباء والبطيخ إلا أن المفسرين خصصوه بالدباء قالوا : لأن الذباب لا يجتمع عنده وقيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إنك لتحب القرع. قال : أجل هي شجرة أخي يونس. قال الواحدي : في الآية دلالة أولاً على أن اليقطين لم يكن من قبل فأنبته الله لأجله. والآخر أن اليقطين كان قائماً بحيث يحصل له ظل. قلت : الثاني مسلم إلا أن الأول ممنوع إن أراد به النوع وإن أراد به الشخص فمسلم. وقيل : هي التين. وقيل : هي شجرة الموز تغطى بورقها واستظل بأغصانها واغتذى من ثمارها. وروي أنه كان يستظل بالشجرة وكانت وعلة تأتيه فيشرب من لبنها. وروي أنه مر زمان على الشجرة فيبست فبكى جزعاً فأوحى إليه : بكيت على جرة ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون فرجع إلى قومه. وقد سبق في سورة يونس باقي التفسير و ( أو ) في قوله أو يزيدونر ليست للشك وإنما المراد وصفهم بالكثرة في مأرى الناظر أي إذا رآها الرائي قال هي مائة ألف أو أكثر. ومن هذا التأويل يتضح وجه العطف من حيث المعنى كأنه قيل : وأرسلناه إلى جم غفير مقول فيهم إنهم مائة ألف أو يزيدون. وقيل : التقدير وأرسلناه إلى(5/576)
" صفحة رقم 577 "
مائة ألف وارسلناه إلى قوم ثزيدون في الإيهام. وكم الزائد ؟ قيل : ثلاثون ألفاً. عن ابن عباس. وقيل : بضعة وثلاثون. وقيل : بضعة وأربعون. وقيل : سبعون. وجاء مرفوعاً عشرون الفاً. ويحتمل أن يراد أو يزيدون في مرور الزمان لأنه يبقى فيهم مدة كما قال ) فآمنوا فمتعناهم إلى حين ( هو انقضاء آجالهم. وقيل : القيامة وقد مر. ثم عطف قوله ) فاستفتهم ( على مثله في أول السورة. والوجه فيه أنه أمر رسوله باستفتاء قريش عن سبب إنكار البعث ، ثم ساق الكلام متصلاً بعضه ببعض على ما عرفت في أثناء التفسير ، ثم أرمه باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى حين أضافوا البنات إلى الله تعالى قائلين الملائكة بنات الله مع كراهتهم التامة لهن ورغبتهم الوافرة في البنين. وحين استفتاهم على سبيل التوبيخ شرع في تزييف معتقدهم بقسمة عقلية وذلك أن سند الدعوى إما أن يكون حساً أو خبراً أو نظراً. أما الحس فمفقود لأنهم ما شاهدوا كيفية تخليق الله الملائكة وهو المراد من قوله ) أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ( وأما الخبر فكذلك لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم أنهد صدق قطعاً وهؤلاء كذابون أفاكون وأشار إليه بقوله ) ألا إنهم من غفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون ( وأما النظر فمفقود أياضً وبيانه من وجهين : الأول أن دليل العقل يقتضي فساده لأنه تعالى أكمل الموجودات والأكمل لا يليق به اصطفاء الأخس لأجل نفسه وذلك قوله ) اصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون ( من قرا اصطفى بفتح الهمزة فلأنه استفهام بطريق الإنكار وقد حذفت همزة الوصل للتخفيف ، ومن قرأ بكسرها على الإخبار جعله من جملةكلام الكفرة. الثاني : عدم الدليل على صحة مذهبهم وهو قوله ) أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ( نظيره ما مر في قوله ) أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ) [ الروم : 35 ] وقوله ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ( للمفسرين فيه قولان : أحدهما أ ، هم الطائفة الأولى والمعنى أنهم جعلوا بين الله وبين الملائكة نسبة بسبب قولهم إنهم بناته فإن الولادة تقتضي الجنسية والمناسبة ، وفيه توبيخ لهم على أن من صفته الاحتنان والاسستار كيف يصلح أن يكون مناسباً لا يجوز عليه صفات الإجرام ، وعلى هذا فالضمير في قوله ) إنهم لمحضرون ( للكفرة. والمعنى أنهم يقولون ما يقولون في الملائكة وقد علمت الملائكة أنهم في ذلك كاذبون وأنهم محضرون النار معذبون بما يقولون. وثانيهما أنهم طائفة من الزنادقة قائلون بيزدان واهر من كما مر في ( الأنعام ) في قوله ) وجعلوا لله شركاء الجن ) [ الآية : 100 ] وعلى هذا فالضمير إما للكفار كما مر ، وإما للشياطين. روى عكرمة أ ، هم قالوا : سروات الجن بنات الرحمن. وقال الكلبي : زعموا أن الله سبحانه تزوّج إلى الجن فخرج منها الملائكة. والتاء في الجنة للتأنيث كحق وحقة .(5/577)
" صفحة رقم 578 "
قال جار الله : الاستثناء في قوله إلا عباد اللهر منقطع معناه إنهم لمحضرون ولكن المخلصين ناجون وما بينهما اعتراض دال على التنزيه. وجوّز أن يكون الاستثناء من الضمير في ) يصفون ( اي يصفه هؤلاء بذلك ، ولكن أهل الإخلاص مبرؤون من وصفه بما لا ينبغي. وحين بين المذاهب الفاسدة بقضها بيّن أن أهل الشرك ومعبوديهم ليس لهم أن يفتنوا على الله أي يحملوا غيرهم على سلوك سبيل الفتنة والضلال إلا من سبق في علم الله بأنه من أهل النار. وقالت المعتزلة : إلا من سبق في علمه أنهم بسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها. وجوز جار الله أن تكون الواو في ) وما تعبدون ( بمعنى ( مع ) وجاز السكوت على ) تعبدون ( كما في قولهم ( كل رجل وضيعته ). ثم قال ما أنتم عليهر أي على ما تعبدون ) بفاتنين إلا من هو صال ( مثلكم. وقال : والوجه في نظم هذه الآيات أن يكون قوله ) سبحان الله ( إلى قوله ) المسبحون ( من كلام الملائكة والمعنى : ولقد علمت الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة وقالوا : سبحان الله ، فنزهوه عن ذلك واستثنوا عباده المخلصين. وقالوا للكفرة : فإذا صح ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحداً من خلقه إلا من كان مثلكم ممن علم الله عز وجل لكفرهم أنهم أهل النار. وكيف نكون مناسبين لرب العزة وما نحن غلا عبيد أذلاء بين يديه لكل منما مقام من الطاعة لا يستطيع أن يتجاوزه ونحن الصافون كما مر في أول السروة ونحن المسبحون وقال في التفسير الكبير : هاتان الجملتان تدلان على الحصر ، وفيه إشارة إلى أن طاعة البشر كالعدم بالنسبة إلا طاعة الملك فكيف يجوز أن يقال : البشر تقرب درجتهم من درجة الملك فضلاً عن دعوى الأفضلية ؟ قلت : لا شك أن هذا التركيب يفيد الحصر إلا أنه لم يفرق بين قصر الأول على الثاني كما في الآية وبين عكسه ، والذي يفيد مدعاه هو العكس لا الأصل فافهم. وقيل : هذه الآيات من قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي وما من المسلمين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله. ثم ذكر أعمالهم وأنهم الذين يصطفون في الصلاة ويسبحون الله وينزهونه. ثم حكى أن مشركي قريش ) كانوا يقولون لو أن عندنا ذكراً ( أي كتاباً من جملة كتب الأوّلين اي نظيرها في بيان الشرائع والتكاليف لأخلصنا العبادة لله. وإن مخففة واللام فارقة ) فكفروا به ( الفاء للربط أي فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار فكفروا به ) فسوف يعلمون ( وخامة عاقبة التكذيب. وقيل : أرادوا لو علمنا حال آبائنا وما آل إليه أمرهم وكان ذلك كما يقول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لآمنا به وأخلصنا لكنا على شك من حديثه. ثم بين أن رسل الله وجنده منصورون غالبون عاجلاً وآجلاً ، والأول أكثريّ والثاني تحقيق يقيني. ثم أمر نبيه بالصفح والإغماض إلى أوان النصرة والغلبة قائلاً ) فتوّل عنهم ( أي أعرض عن أذاهم إلى حين الأمر بالقتال أو إلى يوم بدر. عن السدي : أو إلى الموت والقيامة .(5/578)
" صفحة رقم 579 "
) وأبصرهم ( وما يقضى عليهم من السر والقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة فسوف يبصرونك وما يؤل غليه أمرك من النصر والثواب في الدارين. وفي هذا الأمر تنفيس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتسلية له كأن الحالة الموعودة قدام عينيه قرباً وتحققاً. و ) سوف ( في الموضعين للوعيد لا للتبعيد وكأنهم فهموا التسويف فاستعجلوا العذاب فوبخوا عليه. وكان من عادة العرب أن يغيروا صباحاً فسميت الغارة صباحاً وإن وقعت في وقت آخر ، وشبه نزول العذاب بساحتهم بعدما أنذروه بجبش أنذر بعض النصحاء بهجومه قومه فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم حتى أناخ بفنائهم بغتة فشنّ الغارة عليهم. وقيل : نزل في فتح مكة. وعن أنس : لما أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي قالوا : محمد والخميس. ورجعوا إلى حصنهم فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين أي صباحهم ، فحذف المخصوص بالذم. واللام في ) المنذرين ( للجنس. وإنما ثنى وتول عنهم ليكون تسلية على تسلية. والأول لعذاب الدنيا والثاني للآخرة ، وأطلق الفعل الثاني ايضاً اكتفاء بالأول وليفيد فائدة زائدة وهي أنه يبصر وهم يبصرون ملا يجحيط به الصوف من صنوف المسرة وفنون السماءة. واعلم أن السورة اشتملت على ما قاله الشمركون في الله وعلى ما عانى المرسلون من جهتهم وعلى ما يؤل إليه عاقبة الرسل وحزب الله من موجبات الحمد فلا جرم ختمها بكلمات جامعة لتلك المعاني. ومعنى ) رب العزة ( كقوله ) قل اللهم مالك الملك ) [ آل عمران : 26 ] والمراد ذي العزة لأنها صفته لا مربوبه. عن ابن عباس أنه سمع رجلاً يقول : اللهم رب القرآن فأنكر عليه وقال : القرآن ليس بمربوب ولكن كلام الله. والظاهر أن قوله ) عما يصفون ( يتعلق ) بسبحان ( كما في قوله ) سبحان الله عما يصفون ( وقل : متعلق بالعزة أي امتنع عما يصفونه به وقد مر شيء من تحقيق هذه الحالة في آخر يس. قال بعضهم : إنما لم يقل في آخر قصتي لوط ويونس سلام عليهم اكتفاء بقوله في الخاتمة ) وسلام على المرسلين ( عن علي رضي الله عنه : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلس ) سبحان ربك رب العزة ( إلى آخر السورة .(5/579)
" صفحة رقم 580 "
سورة ص
( سورة ص وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وتسعة وستون كلمها سبعمائة واثنان وثلاثون آياتها ثمان وثمانون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( ص : ( 1 - 40 ) ص والقرآن ذي . . . .
" ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى(5/580)
" صفحة رقم 581 "
فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب "
( القراآت )
أو أنزل ( بالواو مثل ) أونبئكم ) [ الآية : 15 ] في آل عمران ) عذابي ( و ) عقابي ( بالياء في الحالين : يعقوب والسرندي عن قنبل وافق سهل وعباس في الوصل ) ايكة ( مذكور في ( الشعراء ) ) من فواق ( بضم الفاء : حمزة وعلي وخلف. الباقون : بالفتح ) ولي نعجة ( بفتح الياء : حفص والأعشى والبرجمي ) فتناه ( بتخفيف النون على أنه مثنى والضمير للخصمين : عباس ) لتدبروا ( بحذف إحدى التاءين على أنه خطاب : يزيد والأعشى والبرجمي. الباقون : على الغيبة وإدغام تاء التفعل في الدال ) إني أحببت ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو من بعدي بالفتح أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) والرياح ( مجموعة : يزيد. الوقوف : ( ذي الذكر ( ط ) وشقاق ( 5 ) مناص ( 5 ) منهم ( ز لتصريح ذكر الكافرين مع إمكان الاكتفاء بالضمير وقد اتفقت الجملتان ) كذاب ( ج للاستفهام واتحاد العامل ) واحداً ( ج لمثل ما مر ) عجاب ( 5 ) آلهتكم ( ج لما مر ) يراد ( ج 5 لذلك ) الآخرة ( ج لذلك ) اختلاق ( 5 ج لما قلنا ) من بيننا ( ط ) من ذكري ( 5 لعطف الجملتين المختلفتين والابتداء بالتهديد ) عذاب ( 5 لأن ( أم ) بمعنى ألف استفهام إنكار ) الوهاب ( 5 ج ( أم ) تصلح ابتداء إنكار ) الأسباب ( 5 ) الأحزاب ( 5 ) الأوتاد ( 5 لا ) الأيكة ( ط ) الأحزاب ( 5 ) عقاب ( 5 ) فواق ( 5 ) الحساب ( 5 ) الأيد ( ج للابتداء بإِن ولاحتمال التعليل ) أوّاب ( 5 ) والإشراق ( 5 ) أوّاب ( 5 ) الخطاب ( 5 ) الخصم ( لأن ( إذ ) ليس بظرف للإتيان ولتناهي الاستفهام إلى الأمر أي اذكر إذ تسوّروا ) المحراب ( 5 لا ل(5/581)
" صفحة رقم 582 "
أن ( إذ ) بدل من الأولى ) لا تخف ( ج لحق الحذف أي نحن خصمان مع اتحاد المقول ) الصراط ( 5 ) في الخطاب ( 5 ) نعاجه ( ج ) ما هم ( ط ) وأناب ( 5 ) ذلك ( ط ) مآب ( 5 ) عن سبيل الله ( الأولى ط ) الحساب ( 5 ) باطلاً ( ط ) كفروا ( ج للابتداء بالتهديد مع فاء التعقيب ) النار ( 5 ج لأن ( أم ) لاستفهام إنكار. ) كالفجار ( 5 ) الألباب ( 5 ) سليمان ( ط ) العبد ( ط ) أوّاب ( 5 لا والصح الوقف والتقدير : اذكر إذ فإِن أوْبَهُ غير مقيد بل مطلق الجياد 5 لا للعطف ) ربي ( ج لاحتمال أن ( حتى ) للابتداء وأن تكون لانتهاء الحب أي آثرت حب الخير حتى توارت ) بالحجاب ( 5 لحق الحذف تقديره : قال ردّوها عليّ فطفق. ) والأعناق ( 5 ) أناب ( 5 ) بعدي ( لا لاحتمال أن يكون التقدير فإنك ) الوهاب ( 5 ) اصاب ( 5 ) وغوّاص ( 5 ) الأصفاد ( 5 ) حساب ( 5 ) مآب ( 5. التفسير : عن ابن عباس أن ) ص ( بحر عليه عرش الرحمن. وعن سعيد بن جبير : بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. وقيل : صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في كل ما أخبر به عن الله. وقيل : صدّ الكفار عن قبول هذا الدين. وقيل : صدّ محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قلوب العباد. وقيل : هو من المصاداة المعارضة ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت في الجبال يؤيده قراءة من قرأ ) ص ( بالكسر ، معناه عارض القرآن بعملك فاعمل بأوارمه وانته عن نواهيه. والذكر الشرف والشهرة أو الموعظة ، وجواب القسم محذوف كأنه قيل : إنه المعجز وإن إلهكم لواحد. ويجوز إن كان ) ص ( اسم السورة أن يراد هذه ص ، والقرآن يعني هذه السورة هي التي أعجزت العرب بحق القرآن كما تخبر عن هذا حاتم والله ، تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله. ثم بين أن الكفار في استكبار عن الإذعان للحق وفي مخالفة الله ورسوله. ومعنى ( بل ) ترك كلام والأخذ ف كلام آخر. ولئن سلم أنه للمغايرة الكلية فالكلام الأول هو كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً في تبليغ الرسالة ، أو كون القرآن ، أو هذه السورة معجزاً ، والحكم المذكور بد ( بل ) هو المعازة والمشاقة في كونه كذلك فحصل المطلوب. ثم خوف الكفار بقوله ) كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات ( أي رفعوا اصواتهم بالدعاء والاستغاثة لأن نداء من نزل به العذاب لا يكون إلا كذلك. وعن الحسن : فنادوا بالتوبة كقوله ) فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا ( ولهذا قال ) ولات حين مناص ( أي لم يكن ذلك الوقت وقت فرار من العذاب أو حين نداء ينجي. قال سيبويه والخليل : التاء في ( لات ) زائدة مثلها في ( ربت ) و ( ثمت ) وهي المشبهة بليس ، وقد تغير حكمها بزيادة التاء حيث لا تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا اسمها أو خبرها وتقدير الآية : ليس الحين حين مناص. ولو رفع لكان تقديره وليس حين مناص حاصلاً لهم. وقال الأخفش : إنها ( لا ) النافية للجنس زيدت عليها التاء(5/582)
" صفحة رقم 583 "
وخصت بنفي الأحيان كأنه قيل : اصل ( لات ) ليس قلبت الياء ألفاً والسين تاء. وقيل : التاء قد تلحق بحين كقوله : العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان ما من مطعم وإلى هذا ذهب أبو عبيدة. وتأكد هذا الرأي عنده حين رأى التاء في المصحف متصلاً بحين. وضعف بعد تسليم أنه في الإمام كذلك بأن خط المصحف غير مقيس عليه. أما الوقف على ) لات ( فعند الكوفيين بالهاء قياساً على الأسماء ، وعند البصريين بالتاء قياساً على الأفعال. والمناص مصدر ناص ينوص إذا هرب ونجا أو فات. قال ابن عباس : لما نزل بهم العذاب ببدر قالوا : مناص أي اهربوا وخذوا حذركم فأنزل الله ) ولات حين مناص (. ثم حكى شر صنيعهم وسوء مقالتهم في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قائلاً ) وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ( أي من جنس البشر. ثم سجل عليهم بالكفر بوضع الظاهر موضع المضمر قائلاً ) وقال الكافرون هذا ساحر ( في إظهار خوارق العادات ) كذاب ( على الله. وإنما قيل في سورة ق ) فقال الكافرون ) [ الآية : 2 ] بالفاء لأن القول هناك شيء عجيب وهو نتيجة العجب فاتصل الكلامان لفظاً ومعنى : وأما ههنا فلم يتصل إلا معنى ) أجعل الآلهة ( أي صيرها وحكم عليها بالوحدة ) إن هذا لشيء عجاب ( بليغ في العجب. يروى أنه لما أسلم عمر بن الخطاب شق ذلك على قريش وفرح المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الأشراف والرؤساء : امشوا إلى أبي طالب فأتوه وقالوا : أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء ، وإنا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك. فدعا أبو طالب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال له : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألون السواء فلا تمل كل الميل على قومك. فقال : ماذا يسألونني ؟ فقالوا : ارفضنا وارفض آلهتنا وندعك وإلهك. فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال له أبو جهل : والله لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال صلى الله عليه سولم : قولوا لا إله إلا الله. فنفروا من ذلك وقالوا : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً ( كيف يسع الخلق كلهم إله واحد فأنزل الله هذه الآيات. يعني من أول السورة إلى قوله ) كذبت قبلهم ( ) وانطلق الملأ منهم ( أي نهضوا من ذلك المجلس و ) أن ( مفسرة أي ) امشوا ( من غير أن يتلفظوا به ) واصبروا على ( عبادة ) آلهتكم (. قال النحويون : الانطلاق ههنا مضمن معنى القول لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم. وقيل : وانطلق الملأ منهم وقالوا لغيرهم امشوا. وقيل : انطلقوا بأن امشوا أي بهذا القول. وليس المراد بالمشي السير إنما(5/583)
" صفحة رقم 584 "
المراد المضيّ على الأمر. وقيل : امشوا واتركوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) . وقيل : هي من مشت الماشية إذا كثر نسلها مشاء ومنه الماشية للتفاؤل. وفي تهذيب اللغة عن الأزهري : مشى الرجل إذا استغنى فيكون هذا دعاء لهم بالبركة ) إن هذا ( الأمر وهو استعلاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) لشيء يراد ( أي حكم الله به فلا حيلة في دفعه ولا ينفع لإلا الصبر أو إنه لشيء من نوائب الدهر اريد بنا فلا انفكاك لنا منه ، أو إن دينكم لشيء يراد أن يؤخذ منكم. وقيل : إن عبادة الأصنام لشيء نريده ونحتاج إليه. وقيل : إن هذا الاستعلاء والترفع لشيء يريده كل أحد وكل ذي همة وقريب منه قول القفال : إن هذه كلمة تذكر للتحذير والتخويف معناها إنه ليس غرض محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من هذا القول تقرير الدين ولكن غرضه أن يستولي علينا ويحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد. ) ما سمعنا بهذا ( أي بقول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) في الملة الآخرة ( فيما أدركنا عليه آباءنا أو في ملة عيسى التي هي آخر الملل ، لأن النصارى مثلثة غير موحدة. قال جار الله : يجوز أن يكون التقدير ما سمعنا بهذا كائناً في الملة الآخرة فيكون الظرف حالاً من هذا لا متعلقاً ب ) سمعنا ( والمعنى أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله. ) إن هذا إلا اختلاق ( كذب اختلقه من عنده. ثم أظهروا الحسد وما كان يغلي به صدورهم قائلين ) أأنزل عليه الذكر من بيننا ( وذلك أنهم ظنوا أن الشرف بالمال والجاه فقط نظيره في القمر ) أألقي الذكر عليه من بيننا ) [ القمر : 25 ] إلا أنه استعمل هناك الإلقاء لأن أذكارهم كانت صحفاً مكتوبة وألواحاً مسطورة. وقدم الظرف ههنا لشدّة العناية ولزيادة غيظهم وحمقهم فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله ) بل هم في شك من ذكري ( اي من دلائلي التي لو نظروا فيها لزال الشك عنهم ، فالقاطع لا يساوي المشكوك. وقيل : أراد أنهم لا يكذبونك ولكنهم جحدوا آياتي. ثم قال ) بل لما يذوقوا عذاب ( أي لو يخوّفهم بالعذاب لو أصروا على الكفر. ثم إنهم أصروا ولم ينزل عليهم العذاب فصار ذلك سبباً لشكهم في صدقه ( صلى الله عليه وسلم ) فلا جرم لا يزول ذلك الشك إلا بنزول العذاب. ثم أجاب عن شبهتهم بوجه آخر وهو قوله ) أم عندهم خزائن رحمة ربك ( والمراد أن النبوة من جملة النعمة المخزونة عنده يعطيها من يشاء من عباده. ثم خصص بعد التعميم قائلاً ) أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما ( ولا ريب أن هذه الأشياء بعض خزائن الله وإذا كانوا عاجزين عن البعض فعن الكل أولى. ثم تهكم بهم بقوله ) فليرتقوا ( اي فإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق وقسمة الرحمة فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوسل بها إلى المقصود. وقيل : أسباب السموات أبوابها والمعنى إن ادّعوا ملك السموات وأنهم يعلمون ما يجري فيها فليرتقوا إليها. قال بعض حكماء الإسلام : في الأسباب إشارة إلى أن(5/584)
" صفحة رقم 585 "
الأجرام الفلكية وما أودع الله فيها من القوى والخواص أسباب حوادث العالم السفلي. ثم حقر أمرهم بقوله ) جند مّا ( وهو خبر مبتدأ محذوف و ( ما ) مزيدة للاستعظام جارية مجرى الصفة أي هم جند من الجنود. ثم خصص الوصف بقوله ) من الأحزاب ( أي ما هم إلا جند من الكفار المتحزبين على رسل الله مهزوم مكسور عما قريب فلا تبال بهم. قال قتادة ) هنالك ( إشارة إلى يوم بدر. وقيل : يوم الختدق. وقيل : فتح مكة فإن مكة هي الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات. وقال أهل البيان : هي إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم كقولك لمن ينتدب لأمر ( ليس من أهله ) ( لست هنالك ). ثم مثل حالهم بحال من قبلهم من الأمم المكذبة وقصصهم مذكورة مراراً. والذي يختص بالمقام هو أنه وصف فرعون بذي الأوتاد فعن قتادة أنه كاتنت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب بها عنده. وقال المبرد : بنى أبنية طويلة صارت كالأوتاد لبقائها. وقيل : هي أوتاد أربعة كان يعذب الناس بها على الأرض أو على رؤوس أخشاب أربعة. وقيل : اراد كثرة أوتاد خيام معسكره. وقيل : أراد ذو جموع كثيرة فبالجمعية يشتد الملك كما يشتد البناء بالأوتاد وهذا قريب. وقول أهل البيان إن أصل هذه الكلمة من ثبات البيت المطنب بأوتاد ، ثم استعير لثبات العز والملك والمقصود على الوجود كلها. وصف فرعون بالشدة والقوة ونفاذ الأمر ليعلم أنه تتعالى أهلك من كان هذه صفته فكيف بمن هو دونه. قال أبو البقاء : قوله ) أولئك الأحزاب ( مبتدأ وخبر ، ويجوز أن يكون خبراً والمبتدأ من قوله وعاد أو من ثمود أو من قوم لوط ، قلت : ويحتمل أن يكون ) الأحزاب ( صفة ) أولئك ( و ) أولئك ( بدلاً من مجموع المعطوفات والمعطوف عليه. قال جار الله : قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن هذه الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم وآباؤهم الذين وجد منهم التكذيب. لقد ذكر تكذيبهم أوّلاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام ، ثم جاء بالجملة الاستثنائية أعني قوله ) إن كل إلا كذل الرسل ( فبين أن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم فقد كذبوا جميعهم ) فحق ( أي ثبت أو وجب لذلك عقابى إياهم في الدنيا ثم في الآخرة وذلك قوله ) وما ينظر هؤلاء ( المذكورون. وقيل : أهل مكة : ( إلا صيحة واحدة ( وهي النفخة الأولى ) ما لها من ( توقف مقدار ) فواق ( وهو بالفتح والضم زمان ما بين حلبتي الحالب. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( العيادة قدر فواق الناقة ) ومعنى الآية إذا جاء وقتها لم يمهل هذا القدر. وقيل : الفواق بالفتح الإفاقة أي ما لها من رجوع وترداد لأن الواحدة تكفي أمرهم وما لها رجوع إلى الحالة الأولى بل تبقى ممتدة إلى أن يهلك كلهم واعلم أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاث وقعت لهم :(5/585)
" صفحة رقم 586 "
أولاها في الإلهيات وهو قولهم ) أجعل الآلهة إلهاً واحداً ( والثانية في النبوات وهي قولهم ) أأنزل عليه الذكر من بيننا ( والثالثة تتعلق بالمعاد وهي قولهم ) ربنا عجل لنا قطناً ( وهو القطعة من الشيء لأنه قطع منه من قطة إذا قطعه. والقط أيضاً صحيفة الجائزة ونحوها لأنها قطعة من القرطاس استعجلوا نصيبهم من العذاب الموعود ، أو من اللذات العاجلة ، أو من صحيفة الأعمال ، كل ذلك استهزاء منهم فلذلك أمره بالصبر على ما يقولون. قال جار الله : أراد اصبر على أذاهم وصن نفسك أن تزل فيما كلفت من مخابراتهم. ) واذكر ( أخاك ) داود ( كيف زل تلك الزلة اليسيرة فعوتب عليها ونسب إلى البغي ، أو اصبر وعظم أثر أمر معصية الله في أعينهمم بذكر قصة داود وما أورثته زلته من البكاء الدائم والحزن الواصب. وقال غيره : اصبر على اذى قومك فإنك مبتلى بذلك كما صبر سائر الأنبياء على ما ابتلاهم به. ثم عدّهم وبدأ بداود وذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب فأوحى الله إليه أنهم وجدوها بالصبر على البلايا فسأل الابتلاء. ثم إن الدنيا لا تنفك من الهموم والأحزان واستحقاق الدرجات بقدر الصبر على البليات. ثم إن مجامع ما ذكر الله تعالى في قصة داود ثلاثة أنواع من الكلام : الأول : تفصيل ما آتاه الله تعالى من الفضائل. الثاني : شرح الواقعة التي وقعت له. والثالث : استخلاف الله تعالى إياه بعد ذلك. والأول عشرة أصناف : أحدها ذكر نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) إياه ليقتدي به في الصبر وسائر اصول الأخلاق. وثانيها تسميته بالعبد مضافاً إلى صيغة جمع التكلم للتعظيم والعبودية الصحيحة الجامعة لكمالات الممكنات كما سبق مراراً. ويمكن أن يكون التلفظ بذكر اسمه العلم أيضاً تشريفاً له. وثالثها قوله ) ذا الأيد ( ذا القوة في الحروب وعلى الطاعات وعن المعاصي وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً وهو أشد الصوم ويقوم نصف الليل. ويحتمل أن يكون الياء محذوفاً اكتفاء بالكسر فيكون جميع اليد بمعنى النعمة لأن الله تعالى أنعم عليه ما لم ينعم على غيره. رابعها قوله ) إنه أوّاب ( أي رجاع ي الأمور كلها إلى طاعة الله ومرضاته من آب يؤب. خامسها تسبيح الجبال معه وقوله ( يسبحن ( حال والإشراق وقت إضاءة الشمس وهو بعد شروقها عند الضحى. يقال شرقت الشمس ولما تشرق. واستدل به ابن عباس على وجود صلاة الضحى في القرآن لما روى عن أم هانئ : دخل علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال : يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق. قال ابن عباس : وكانت صلاة يصليها داود عليه السلام ويحتمل أن يكون معنى الإشراق الدخول في وقت الشروق فيراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق قاله جار الله. سادسها قوله ) والطير محشورة ( أي وسخرنا الطير مجموعة من كل ناحية. قال ابن عباس : كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير(5/586)
" صفحة رقم 587 "
فسبحت فذلك حشرها وقد مر ذكر هذه المعجزة في ( الأنبياء ) وفي ( سبأ ). قال أهل البيان : قوله ) محشورة ( في مقابلة قوله ) يسبحن ( ولكنه اختير الفعل في أحد الموضعين والاسم في الآخر لأنه أريد في الأول الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال حتى كأن السامع يتصوّرها بتلك الحالة ، وأما الحاشر فهو الله وحشر الطيور جملة واحدة أدل على القدرة له تعالى. سابعها قوله ) كلّ له أوّاب ( أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود مسبح مرجع للتسبيح. وقيل : الضمير لله أي كل من داود والجبال والطير لله مسبح رجاع إلى فلعه مرة بعد مرة ، وهذا الوصف كالتأكيد للوصف الذي يتقدّمه وهذا أخص لأنه أدل على الواقعة. ثامنها قوله ) وشددنا ملكه ( أي قوّيناه بالجنود والأعوان وبسائر الأسباب فكان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف حرس ، وزاد بعضهم فقال أربعون الفاً. وقيل : نصرناه بالهيبة ، وسببه أن غلاماً ادّعى على رجل بقرة فأنكر المدّعى عليه ولطم الغلام لطمة فسأل داود من الغلام البينة فعجز فرأى داود في المنام أن الله تعالى يأمره أن يقتل المدعى عليه ويسلم البقرة إلى الغلام. فقال داود : هذا منام فأتاه الوحي بذلك في اليقظة فأخبر بذلك بني إسرائيل فجزعوا وقالوا : أتقتل رجلاً بلطمة ؟ فقال داود : هذا أمر الله فسكتوا. ثم أحضر الرجل وأخبره إن الله أمره بقتله فقال الرجل : صدقت يا نبيّ الله إني قتلت أباه غيلة وأخذت البقرة ، فقتله داود وعظمت هيبته واشتدّ ملكه وقالوا : إنه يقضي بالوحي من السماء. تاسعها قوله ) وآتيناه الحكمة ( وقد مر معناها مراراً وأنها منحصرة في قسمين : الأول العلم بالتصوّرات الحقيقية والتصديقات اليقينية بمقتضى الطاقة البشرية ، والثاني العمل بالأخلاق الفاضلة المفضية غلى السعادة الباقية. وخصصها بعضهم بالعلم بالنبوّة والفهم أو بالزبور والشرائع. عاشرها فصل الخطاب وهو القدرة على ضبط المعاني والتعبير عنها بأقصى الغايات حتى يكون كاملاً مكملاً فهماً مفهماً. قال جار الله : الفصل بمعنى المفصول ومعناه البين من الكلام الملخص الذي لا يلتبس ولا يختلك بغيره. قلت : ومن ذلك أن لا يخطئ صاحبه مظان الفصل والوصل كما تذكره في الوقوف. وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : البينة على المدّعي واليمين على من أنكر. فالفصل بمعنى الفاصل كالصونم والصحب ويندرج فيه جميع كلامه في الأقضية والحكومات وتدابير الملك والمشروات. يروى أنه سبحانه علق لأجله سلسلة من السماء وأمره أن يقضي بها بين الناس ، فمن كان على الحق يأخذ السلسلة ، ومن كان على الباطل لا يقدر على أخذها. ثم إن رجلاً غصب من آخر لؤلؤه وجعلها في جوف عصاً له ثم خاصمه المدّعي إلى داود فقال المدعي : إن هذا أخذ مني لؤلؤة ولم يردّها عليّ وإني صادق(5/587)
" صفحة رقم 588 "
في مقالتي ، فجاء وأخذ السلسلة فتحير داود في ذلك فرفعت السلسلة وأمره أن يقضي بالبينة واليمين وهو فصل الخطب. وقيل : هو قوله ( أما بعد ) وهو أوّل من تكلم به. وقيل : هو أنه إذا تكلم في الحكم فصل وكل هذه الأقوال تخصيصات من غير دليل والأقوى ما قدمناه. ثم إنه سبحانه لما مدحه بالوجوه العشرة أردفه بذكر واقعته قائلاً ) وهل أتاك ( يا محمد ) نبأ الخصم ( أي ما أتاك خبرهم وقد أتاك الآن. وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم على وجه لا يدل على صدور ذنب عن نبيّ الله ، وثانيها التقرير على وجه يدل على صدور الصغيرة عن نبيّ الله ، وثالثها التقرير على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه ، وأضعفها التقرير على وجه يدل على الكبيرة. ويختلف تفسير بعض الألفاظ بحسب اختلاف بعض المذاهب فلنفسر كلاً منها على حدة. وأما المشترك بين الأقوال فلا نفسره إلا مرة. القول الأوّل : يروى أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبيّ الله داود - وكان له يوم يخلو بنفسه ويشتغل بطاعة ربه - فانتهضوا الفرصة في ذلك وتسوّروا المحراب أي تصدعوا غرفته من سوره. وفي قوله ) إذ دخلوا عليه ( إشارة إلى أنهم بعد التسوّر نزلوا عليه. قال الفراء : قد يجاء بإذ مرتين ويكون معناهما كالواحد كقولك ( ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت عليّ ) مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحداً. وحين رآهما قد دخلا عليه لا من الطريق المعتاد علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر. ) ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان ( أي نحن خصمان والخصم في الأصل مصدر فلهذا لم يجمعه أوّلاً نظراً إلى أصله ، وثناه ثانياً بتأويل شخصان أو فريقان خصمان ، وجمع المائر في قوله ) إذ تسوّروا ( ) إذ دخلوا ( ) ففزع منهم ( ) قالوا لا تخف ( بناء على أن أقل الجمع اثنان ، أو على أن صحب كل منهما من جملتهما. والأوّل أظهر لأن القائلين كانا اثنين بالاتفاق ) بغى بعضنا على بعض ( أي بغى أحدنا على الآخر وتعدّى حدّ العدالة. ثم قرروا مقصودهم بثلاث عبارات متلازمة إحداها ) فاحكم بيننا بالحق ( أي بالعدل الذي هو حكم الله فينا. والثانية ) ولا تشطط ( وهو نهي عن الباطل بإلزام الحق والشط البعد. شط وأشط لغتان ، أرادوا لا تجر فالجور البعد عن الحق. والثالثة ) واهدنا إلى سواء الصراط ( أي وسطه وهو مثل لمحض الحق وصدقه. وحين اخبروا عن وقوع الخصومة مجملاً شرعوا في التفصيل فقال أحدهما مشيراً غلى الآخر ) إن هذا ( وقوله ( أخي ( أي في الدين أو الخلطة أو النسب خبر أو بدل والخبر ) له تسع وتسعون نعجة ( وهي أنثى من الضأن ) ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها ( أي ملكنيها فأكفلها كما أكفل ما تحت يدي ) وعزني في الخطاب ( أي غلبني في(5/588)
" صفحة رقم 589 "
المخاطبة فكان تكلمه أبين وبطشه اشدّ ) قال ( داود ) لقد ظلمك بسؤال نعجتك ( أضاف المصدر إلى المفعول الثاني وحذف الفاعل والمفعول الأوّل أي بسؤاله إياك نعجتك. وليس السؤال ههنا سؤال خضوع وتفضل وإنما هو سؤال مطالبة ومعازة. و ) إلى ( متعلقة بفعل دل عليه السؤال تقديره بسؤال أي ليضمها إلى نعاجه ، أو ضمن السؤال معنى الإضافة كأنه قيل : بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه الطلب ) وإن كثيراً من الخلطاء ( الشركاء الذين خلطوا أموالهم واطلع بسبب ذلك بعضهم على أحوال البعض ) ليبغي بعضهم على بعض ( وقد تغلب الخلطة في الماشية. والشافعي يعتبرها في باب الزكاة إذا ااتحد الفحل والراعي والمراح والمسقى وموضع الحلب ، فإن كانت للخليطين أرعبون شاة فعليهما شاة. وعند أبي حنيفة لا شي عليهما وإن كانت لأحدهما واحدة وللآخر تسع وتسعون فعلى الأوّل أداء جزء من مائة جزء من شاة واحدة وعلى الآخر الباقي. هذا عند الشافعي ، وعند أبي حنيفة لا شيء على ذي النعجة. ثم بين أن أكثر الخلطاء موسوم بسمة الظلم إلا المؤمنين وإنهم لقليل. ( وما ) في قوله ) وقليل ما هم ( مزيدة للإبهام ، وفيه تعجيب من قلتهم. وقال ابن عيسى : هي موصولة أي وقليل الذين هم كذلك. قصد نبيّ الله بذكر حال الخطاء في هذا المقام الموعظة الحسنة والترغيب في اختيار عادة الخلطاء الصلحاء لا التي عليها أكثرهم من الظلم والاعتداء ، وفيه تسلية للمظلوم عما جرى عليه من خليطه وإن له في أكثر الخلطاء اسوى ) وظن داود إنما فتناه ( اي ابتليناه وذلك أن القوم لما دخلوا عليه قاصدين قتله وإنه كان سلطاناً شديد القوّة وقد فزع منهم. ثم إنه مع ذلك عفا عنهم دخل قلبه شيء من العجب فحمله على الابتلاء ) فاستغفر ربه ( من تلك الحالة ) وأناب ( إلى الله واعترف بأن إقدامه على تلك الخلة لم يكن إلا بتوفيق الله. ) فغفرنا له ذلك ( الخاطر أو لعله هم بإيذاء القوم. ثم تذكر أنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم ، ثم استغفر لأجلهم متضرعاً إلى الله فغفر ذنبهم بسبب شفاعته ودعائه. ) و ( معنى ) خرّ راكعاً ( سقط ساجداً. قال الحسن : لأنه لا يكون ساجداً حتى يركع ، أو المراد أن خرّ للسجود مصلياً لأن الركوع قد يعبر به عن الصلاة. ومذهب الشافعي أن هذا الموضع ليس فيه سجدة التلاوة لأنه توبة نبيّ فلا توجب على غيره سجدة التلاوة ولا تستحب أيضاً. ومذهب أبي حنيفة بخلافه. وجوز مع ذلك أن يكون الركوع بدل السجود هذا تمام تقرير القول الأوّل. ولا يرد عليه إلا أن داود كان أرفع منزلة من أن يتسور عليه بعض آحاد الرعية في حال تعبده أو يتجاسر عليه بقوله ) لا تخف ( ) ولا تشطط ( وأنه كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين على ظلم الآخر قبل(5/589)
" صفحة رقم 590 "
استماع كلامه والأول استبعاد محض ؟ وأجيب عن الثاني بأنه ما قال ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه لكنه لم يذكر في القرآن ، ومما يؤيد هذا القول ختم ذكر الواقعة بقوله : ( وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ( والزلفى القربة ، والمآب الحسن الجنة. قال مالك بن دينار : إذا كان يوم القيامة يؤتى بمنبر رفيع ويوضع في الجنة يقال : يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا - وحاصل التفسير على هذا القول إن الخصمين كانا من الإنس وكانت الخصومة بينهما على الحقيقة ، وكانا خليطين في الغنم ، أو كان الخلطة خلطة الصدقة ، أو الجوار وكان أحدهما موسراً وله نسوان كثيرة من الحرائر والسرائر. والعرب تشبه المرأة بالنعجة والظبية ، والثاني معسراً ما له إلا امرأة واحدة واستنزله عنها ، وكانت الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك كما كانوا يقاسمونهم أموالهم ومنازلهم وما كان ذنب داود إلا خطرة أو همة. القول الثاني : إن أهل زمان داود كان يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته فاتفق أن نظر داود وقع على امرأة رجل يقال له أوريا فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا ففعل فتزوجها وهي أم سليمان. فقيل له : إن مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكثرة نسائك لم يكن لك أن تسأل رجلاً ليس له امرأة واحدة النزول لك ، كان الواجب عليك مغالبة هواك والصبر على ما امتحنت به. وقيل : خطبها أوريا ثم خطبها داود فآثره أهلها وكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه ، وعلى هذا يجوز أن يكون الخطاب في قوله ) وعزني في الخطاب ( من الخطبة أي غالبني في خطبتها حيث زوّجها دوني. وعلى هذا القول يجوز أن يكون الخصمان من الإنس كما مر. وحين وافق حالهما حال داود تنبه فاستغفر. وأن يكونا ملكين بعثهما الله ليتنبه على خطئه فيتداركه بالاستغفار ويرد على هذا أن الملكين لو قالا نحن خصمان بغى بعضنا على بعض فكذب والملائكة لا يكذبون ولا يأمرهم الله بالكذب. والجواب أن التقدير ما تقول خصمان قالا بغى بعضنا على بعض. أو أرادوا : ارأيت لو كنا خصمين بغى بعضنا على بعض ألست تحكم بيننا ، ثم صوروا المسألة ومثلوا قصته بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون فأراد صاحبه تتمة المائة وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده. وعن الحسن : لم يكن لداود تسع وتسعون امرأة وإنما هذا مثل. القول الثالث : وهو المشهور عند الجمهور أن داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء : يوماً للعبادة ، ويوماً للاشتغال بخواص أموره ، ويوماً يجمع بني إسرائيل للوعظ والتذكير فجاءه الشيطان يوم العبادة والباب مغلب في صورة حمامة من ذهب فمد يده(5/590)
" صفحة رقم 591 "
ليأخذها لابن صغير له فطارت إلى قريب منه ، وهكذا مرة ثانية وثالثة إلى أن وقعت في كوة فتبعها فوقع بصره على امرأة جميلة تغتسلفنقضت شعرها فغطى جسدها فوقع في نفسه منها ما شغله عن الصلاة ، فنزل من محرابه ولبست المرأة ثيابها وخرجت إلى بيتها ، فخرج داود حتى عرف بيتها وسألها من أنت ؟ فأخبرته فقال لها : هل لك زوج ؟ فقالت : نعم. قال : أين هو ؟ قالت : في جند كذا فرجع وكتب إلى أمير جيشه إذا جاءك كتابي هذا فقدم فلاناً في أول التابوت وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد ففتح الله على يده وسلم. فأمر برده مرة ثانية وثالثة حتى قتل ، فأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء ، وتزوّج امرأته فبعث الله إليه ملكين في صورة إنسانين فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته ومنعهما الحرس فتسوّرا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان ففزع منهما ، وحين وجد قصتهما مطابقة لحاله علم أنه مبتلى من الله. يروى أ ، هما قالا حينئذ حكم علىنفسه. وقيل : ضحكا وغابا فعلم أن الله ابتلاه بذنبه. ولا يخفى أن ذنبه بهذا التفسير والتقرير كبيرة لأنه يدل على الإفراط في العشق وعلى السعي في قتل النفس المسلمة بغير حق. فيروى أنه سجد أربعين ليلة لم يرفع رأسه غلا للصلاة المكتوبة ولم يذق طعاماً ولا شراباً حتى أوحى الله إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك. ويروى أن جبرائيل قال له اذهب إلى أوريا وهو زوج المرأة واستحل منه فإنك تسمع صوته موضع كذا ، فأتاه ، واستحل منه فقال : أنت في حل. قال : فلما رجع قال له جبريل : هل أخبرته بجرمك ؟ فقال : لا قال : فإنك لم تعمل شيئاً فارجع وأخبره بالذي صنعت. فرجع داود فأخبره بذلك فقال : أنا خصمك يوم القيامة فرجع مغتماً وبكى أربعين يوماً. فأتاه جبريل وقال : إن الله تعالى يقول : أنا أستوهبك من عبدي فيهبك لي وأجزيه على ذلك أفضل الجزاء فسرى عنه وكان حزيناً في عمره باكياً على خطيئته. وروي أنه نقش خطيئته على كفه حتى لا ينساها. والمحققون كعلي رضي الله عنه وابن عباس وابن مسعود وغيرهم ينكرون القصة على هذا الوجه. روى سعيد بن المسيب والحرث بن الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حد الفرية على الأنبياء. قلت : لا يخفى أن الأحوط السكوت عما لا يرجع إلى طائل ، بل يحتمل أن يعود غلى قائله لوم عاجل وعقاب آجل. ومن الدلائل القوية التي اعتمد عليها فخر الدين الرازي في ضعف هذه الرواية قوله سبحانه عقيب ذكر الواقعة ) يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ( فمن البعيد جداً أن يوصف الرجل بكونه ساعياً في سفك دم أخيه المسلم بغير حق وبانتزاع زوجته منه ثم يقال :(5/591)
" صفحة رقم 592 "
إنا فوضنا الخلافة غليه. وعندي أن ذلك عليه لا له لقوله تعالى ) فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ( الخ فكأنه قيل له : إنا جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله وفي سياسة المدن ، أو تخلفنا كما يقال ( السلطان ظل الله في الأرض ) فاللائق بهذا المنصب السعي لإصلاح حال المسلمين وحفظ فروجهم ودمائهم وأموالهم لا السعي في تحصيل هو النفس بأي وجه يمكن ، فإن صاحبه المصر عليه ضال معرض عن إعداد الزاد ليوم المعاد. يحكى عن بعض خلفاء بني مروان أ ، ه قال لعمر بن عبد العزيز أو الزهريك هل سمعت ما بلغنا ؟ قال : وما هو ؟ قال : بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا يكتب عيه معصية. فقال : يا أمير المؤمنين ، الخلفاء أفضل أم الأنبياء ثم تلا هذه الآية. وحين تمم واقعة داود ونصحه وما فرض عليه في شأن الاستخلاف أشار إلى أن الأمور الدنيوية التابعة للحركات السماوية ليست واقعة على الجزاف ، وبمقتضى الطبائع ، ولكن لها غاية صحيحة فأجمل هذا المعنى أوّلاً بقوله ) وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ( الذي ذكر من خلق هذه الأشياء بلا غاية ) ظن الذين كفروا ( لأنهم بإنكارهم البعث جحدوا الجزاء الذي هو غاية التكليف ) فويل للذين كفروا من النار ( لأنهم بهذه العقيدة وقعوا في نار البعد والقطيعة فلم يستدلوا بالآفاق والأنفس على الصانع نظيره ما مر في آخر ( آل عمران ) ) ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار ) [ الآية : 191 ] ثم صرح بالغاية قائلاً ) أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( الآية. ( وأم ) منقطعة بمعنى بل والهمزة للإنكار والمراد أنه لم بطل الجزاء كما زعموا لاستوت حال الطائفتين المتقي المصلح للأرض بتهذيب الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة المدنية على وفق العقل والشرع ، والفاجر المفسد في الأرض بهدم النواميس وتتبع الشهوات وهتك الحرمات ، ومن سوى بينهم كان إلى السفه أقرب منه إلى الحكمة ، ولا ينافي هذا إمكان التسوية من حيث المالكية. وحين ذكر هذه المعاني اللطيفة والقواعد الشريفة منّ على رسوله بقوله ) كتاب ( اي هذا كتاب ) أنزلناه إليك مبارك ( كثير المنافع والفوائد ) ليدّبروا آياته ( ليتأملوا فيها ويستنبطوا الأسرار والحقائق منها فمن حفظ حروفه وضيع حدوده كان مثله كمثل معلق اللؤلؤ والجواهر على الخنازير. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : يقال في وجه النظم إن العقلاء قالوا : من ابتلى بخصم جاهل مصر متعصب وجب عليه أن يقطع الكلام معه ويخوض في كلام آخر أجنبي حتى إذا اشتغل خاطره بالكلام الأجنبي أدرج في أثنائه مقدمة مناسبة للمطلوب الأول ، فإن ذلك المتعصب قد يسلم هذه المقدمة فإذا سلمها فحينئذ يتمسك بها في إثبات المطلوب الأول فيصير الخصم ساكتاً مفحماً. وإذ قد عرفت هذا فنقول : إن الكفار قد بلغوا في إنكار الحشر غلى حيث قالوا على سبيل الاستهزاء ) ربنا عجل لنا قطعنا قبل يوم الحساب ( فقال(5/592)
" صفحة رقم 593 "
تعالى : يا محمد ) اصبر على ما يقولون ( واقطع الكلام معهم في هذه المسألة واشرع في كلام آخر أجنبي في الظاهر وهو قصة داود إلى قوله ) إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ( فكل من سمع هذا قال : نعم ما فعل حيث أمره بالحكم الحق كأنه قال : أيها المكلف إني لا آمرك مع أني رب العالمين إلا بالحق فههنا الخصم يقول : نعم ما فعل حيث لم يقض إلا بالحق ، فعند هذا يلتزم صحة القول بالحشر وإلاّ لزم التسوية بين من أصلح واتقى ومن افسد وفجر وذلك ضدّ الحكمة. وحين ذكر هذه الطيرقة الدقيقة في إلزام المنكرين وإفحامهم وصف القرآن بالبركة والإفادة والإرشاد ، لأن هذه اللطائف لا تستفاد غلا منه. وبعد تتميم قصة داود شرع في قصة ابنه سليمان ومدحه بقوله ) نعم العبد ( أي هو فحذف المخصوص للعلم به. وفي قوله ) إنه أوّاب ( كما مر في قصة داود غشارة إلى أنه كان شبيهاً بالأب في الفضيلة والكمال فلذلك استويا في جهة المدح. وفي القصة واقعتان يمكن تقيرر كل منهما كما في واقعة أبيه على وجه لا يقدح في الصعمة وهو المختار عند المحققين ، وعلى وجه دون ذلك وهو الأشهر فلنفسر كلاً منهما بالوجهين بتوفيق الله تعهالى. أما الأوّل من الواقعة الأولى فقوله ) إذ عرض عليه بالعشي الصافنات ( وهي جمع صافن وهو الذي يقوم على ثلاث قوائم وعلى طرف الرابعة وهو نعت جيد للخيل. قيل : الصافن الذي يجمع بين يديه. وفي الحديث ( من سرّه أن يقوم الناس له صفوفاً فليتبوّأ مقعده من النار ) أي واقفين مثل خدم الجبابرة. و ) الجياد ( جمع جواد وهو جيد الجري يعني في جريها ، فإذا طلبت لحقت ، وإذا طلبت لم تلحق. يروى أن رباط الخيل كان مندوباً في شرعهم كما في شرعنا. ثم إن سليمان سلام الله عليه احتاج إلى الغزو فجلس بعد صلاة الظهر على كرسيه وأمر بإحضار الخيلن وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا وحظ النفس وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله ) إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي ( سمى الخيل خيراً لتعلق الخير بها كما جاء في الحديث ( الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة ) أي آثرت حب الخير ولزمته لأن ربي أمرني بارتباطها ولم يصدر حب هذه المحبة الشديدة إلا عن ذكر الله وأمره. والضمير في قوله ) حتى توارت ( للخيل أي ما زالت تعرض(5/593)
" صفحة رقم 594 "
عليه ويأمر بإعدائها وسيرها إلى أن غابت عن بصره ، ثم قال ) ردّوها عليّ ( أي أمر الرائضين بان يردوا الخيل عليه ، فلما عادت عليه طفق يمسح مسحاً بوسقها وأعناقها تشريفاً لها وإظهاراً لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدوّ ، أو لأنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها ، أو أراد إظهار أنه بلغ في اختبار أمور المملكة إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه. ويل : مسح الغبار عن أعناقها وسوقها بيده. وقيل : وسم أعناقهن وارجلهن فجعلهن في سبيل الله. وأما الوجه الآخر في هذه الواقعة فما روي أن سليمان غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس. وقيل : ورثها من أبيه وكان أبوه اصابها من العمالقة. وقيل : أخرجها الشياطين من مرج من المروج أو من البحر وكانت ذوات أجنحة. فقعد يوماً بعد الظهر واستعرضها فلم يزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وذلك قوله ) حتى توارت ( أي الشمس بدليل ذكر العشي ) بالحجاب ( حجاب الأفق. وقيل : حتى توارت الخيل بحجاب الليل وغفل عن العصر ، أو عن ورد من الذكر كان له وقت العشي فقال ) إني أحببت حب الخير ( وهو متضمن معنى فعل يتعدى بعن أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي وجعلت حبها مغنياً عن ذكر ربي فاغتم لما فاته فاستردها وعقرها تقرباً لله وذلك قوله ) فطفق مسحاً ( قال جار الله : أي يمسح بالسيف سوقها وأعناقها فقلب لأمن الإلباس كقولهم ( عرضت الناقة على الحوض ) قال الراوي : قربها إلا مائة فما في ايدي الناس من الجياد فمن نسلها ، وحين عقرها أبدله الله خيراً منها وهي الريح تجري بأمره. وقيل : الضمير في ) ردّوها ( للشمس والخطاب للملائكة تضرع إلى الله فرد الله عليه الشمس فصلى العصر. ومحل القدح في هذه الرواية هو نسبة سليمان إلى حب الدنيا حتى شغل عن الصلاة وضم بعضهم إلى ذلك أن قطع أعناق الخيل وعرقبة أرجلها منهي عنه. وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله. وأجيب بأنه فعل ذلك لأنها منعته عن الصلاة أو لأنه ذبحها للفقراء والمساكين ، قال الزجاج : لم يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له وما أباح الله فليس بمنهي. قال الإمام فخر الدين الرازي : إن الكفار لما بلغوا في الإيذاء والسفاهة إلى حيث قالوا ) ربنا عجل لنا قطنا ( قال لنبيه : اصبر يا محمد على ما يقولون وذاكر عبدنا داود. ثم ذكر عقيبه قصة سليمان ، وهذا الكلام إنما يكون لائقاً لو قلنا إن سليمان أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله وأعرض عن الشهوات ، فاما لو كان المقصود أنه أقدم على الكبيرة لم يكن ذكره مناسباً. هذا تمام الكلام في الواقعة الأولى. وأما الثانية وإليها الإشارة بقوله. ) ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ((5/594)
" صفحة رقم 595 "
فالمحققون يروونه على وجوه : أحدها : أن سلميان ولد له ابن بعد أن ملك عشرين سنة فقالت الشياطين : إن عاش لم نتخلص من البلاء والتسخير فسبيلنا أن نقتله أو نخبله ، فعلم بذلك سليمان فأمر السحاب أن يحفظه ويغذوه خوفاً من مضرة الشياطين ، فما راعه غلا أن ألقي على كرسيه ميتاً فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه فاستغفر ربه وأناب. وثانيها روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن سليمان قال ذات ليلة : لأطوفن الليلة على سبعين أمرأة. وفي رواية على مائة وفي رواية على ألف - كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل : إن شاء الله. فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجميعن فذلك قوله ) ولقد فتنا سليمان ). وثالثها قال أبو مسلم : مرض سليمان مرضاً شديداً امتحنه الله به حتى صار جسداً على كرسيه ملقي كما جاء في الحديث ( لحم على وضم وجسد بلا روح ) لأن الجسد يطلق في الأكثر على ما لا روح له. ) ثم أناب ( أي رجع إلى حالة الصحة. والمشهور عند الجمهور أن الجسد الملقى على كرسيه كان شيطاناً جلس على سرير ملكه اربعين يوماً ، وذلك أن ملكه كان في خاتمة فأخذ شيطاناً يقال له آصف وقال : كيف تفتنون الناس ؟ قال : أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه. وعن علي رض 1 ي الله عنه أنه قال : بينما سليمان جالس على شاطئ البحر وهو يعبث بخاتمه إذ سقط في البحر. وقيل : إنه وطئ امرأة في الحيض فذلك ذنبه. وقال في الكشاف : وغيره حكوا أن سليمان بلغه خبر صيدون وهي مدينة في بعض الجزائر وأن بها ملكاً عظيم الشأن. فخرج غليه تحمله الريح حتى أناخ بهخا جنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وأصاب بنتاً له اسمها جرادة من أحسن الناس وجهاً ، فاصطفاها لنفسه وااسلمت وأحبها وكانت لا يرقأ دمعها حزنا على أبيها. فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة ابيها فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدون لها كعادتيهن في ملكه ، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها ، فوضعه عندها يوماً فأتاها الشيطان صاحب البحر وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس. واسمه صخر - على صورة سليمان فقال : يا أمينة أعطيني خاتمي فتختم به وجلس على كرسي سليمان وعكفت عليه الطير والجن والإنس. وغير سليمان عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته ، فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال : أنا سليمان. حثوا(5/595)
" صفحة رقم 596 "
عليه التراب وسبوه فمكث على ذلك أربعين يوماً عدد ما عبد الوثن في بيته. وكان ذلك الشيطان يقضي بين الناس ويتمكن من جميع ملكه إلا نساءه. وقيل : من جميع ملكه ونسائه وما يدع امرأة في دمها ولا يغتسل من جنابة ، فلما أراد الله أن يرد الملك إليه أنكر علماء بني إسرائيل قضية قضاها الشيطان فأحضروا التةوراة ، فلما قرؤها فرّ الشيطان وألقى الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فصادها صائد ووهبها لسليمان وأعطاها على أجره عمله يوماً فأخرج من بطنها الخاتم ) ثم أناب ( أي رجع على ملكه أو ثاب ووقع ساجداً. ثم إن سليمان ظفر بالشيطان فجعله في تابوت وسده بالنحاس وألقاه في البحر. والعلماء المتقنون أبوا قبول هذه الرواية وقالوا : إنها من اباطيل اليهود ، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل وإلا ارتفع الأمان عن الشرائع والأديان ، وكيف يسلطهم الله على آحاد عباده فضلاً عن أ ، بيائه حتى يغيروا أحكامهم ويفجروا بنسائهم. وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع والسجود للصورة إذا كان بغير إذنه فلا عتب عليه. وحكى الثعلبي هذه القصة بوجه أقرب إلى القبول وهو أن سليمان لما افتتن بأخذ التمثال في بيته سقط الخاتم من يده فأخذه سليمان فأعاده إلى يده فسقط ، فلما رآه لا يثبت في اليد ايقن بالفتنة فقال له آصف : إنك لمفتون فتب إلى الله واشتغل بالعبادة وأنا أقوم مقامك إلى أن يتوب الله عليك. فقام آصف في ملكه أربعة عشر يوماً وهو الجسد الذي ألقي على كرسيه ، فردّ الله إليه ملكه وأثبت الخاتم في يده. وعن سعيد بن السميب أن سليمان احتجب عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله إليه : يا سليمان احتجبت عن عبادي وما أنصفت مظلوماً عن ظالم ، ثم ذكر القصة وأخذ الشيطان الخاتم ورجوعه إليه. ثم حكى الله تعالى أن سليمان قال ) رب اغفر لي وهب لي ملكاً ( قدم المغفرة على طلب الملك كما هو دأب الصالحين تقديماً لأمر الدين على أمر الدنيا ، ولأن الاستغفار نفتح عليه أبواب الخيرات. والذين حملوا الفتنة على صدور الذنب عنه فوجوب الاستغفار عندهم واضح وحملوا قوله ) لا ينبغي لأحد من بعدي ( على أنه سأل ملكاً لا يقدر الشيطان على أن تقوم مقامه. والأوّلون ذهبوا إلى أنه لم يقل ذلك حسداً وإنما قصد به أن يكون معجزة له ، ومن شرط المعجز أن لا يقدر غيره على معارضته ولا سيما أمته الذين بعث إليهم ولهذا قال بعضهم : أراد غيري ممن بعثت إليهم ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة. وحقيقة لا ينبغي لا ينفعل من بغيت الشيء طلبته أي لا يصير مطلوباً لأنه سماوي فوق طوق البشر ، أو قصد أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق فإذا كان ملكه آية كان ثوابه على الصبر عنه غاية(5/596)
" صفحة رقم 597 "
ونهاية ، أو أراد أن يظهر للخلق أن حصول الدنيا لا يمنع من خدمة المولى ، وأن ملك سليمان إذا كان عرضة للفناء فالأولى بالعاقل أن يشتغل بالعبودية ولا يلتفت غلى الدنيا وما فيها. وقيل : إنه لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا زائلة منتقلة إلى الغير بإرث ونحوه فطلب ملكاً لا يتصور انتقاله إلى الغير وهو ملك الدين والحكمة. وقال أهل البيان : لم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته كما تقول لفلان : ما ليس لأحد من الفضل والمال. وربما كان للناس أمثال ذلك. والأقوى هو الأوّل بدليل قوله عقيبه ) فسخرنا له الريح ( ) والشياطين (. ولا ريب أن هذا معجزة وملك عجيب دال على نبوّته ويؤيده ما جاء في الحديث ( أردت أن اربطه - يعني الشيطان - على سارية من سواري المسجد إلا أني تذكرت دعوة أخي سليمان ) والضمير في ) بأمره ( لسليمان. وقيل : لله. والرخاء الرخوة اللينة ولا ينافي هذا وصفها بالعصوف في الأنبياء فلعلها تختلف باختلاف الأحوال والأوقات ، أو هي طيبة في نفسها ولكنها عاصفة بالإضافة غلى الرياح المعهودة. ومعنى أصاب قصد واراد من غصابة السهم. وقوله ( والشياطين ( معطوف على ) الريح ( وقوله ( كل بناء وغواص ( بدل الكل من الشياطين. كانوا يبنون لأجله الأبنية الرفيعة ويستخرجون اللؤلؤ من البحر وهو أوّل من استخراج الدر من البحر ) وآخرين ( عطف على الشياطين أو على كل داخل في حكم البدل ، وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد. والصفد القيد والعطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ومنه قول عليّ رضي الله عنه : من برك فقد أسرك
ومن جفاك فقد أطلقك
وقيل : حقيقته التفويض على الخير والشر. قال الجبائي : إن الشيطان كان كثيف الجسم في زمن سليمان ويشاهده الناس. ثم إنه لما توفي سليمان أمات الله ذلك الجنس وخلق نوعاً آخر لطيف الجسم بحيث لا يرى ولا يقوى على الأعمال الشاقة. قلت : هذا إخبار بالغيب إلا أن تكون رواية صحيحة. ولم لات يجوز أن تكون أجسامهم لطيفة بمعنى عدم اللون ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التمزق والتفرق. ) هذا عطاؤنا ( أي قلنا لسيلمان هذا الملك عطاؤنا والإضافة للتعظيم. وقوله : بغير حسابر يتعلق بالعطاء يعني أنه جم كثير لا يدخل تحت الضبط والحصر فأعط منه ما شئت أو أمسك مفوّضاً إليك زمام(5/597)
" صفحة رقم 598 "
التصرف فيه. ويجوز أن يتعلق بالأمرين أي ليس عليك في ذلك حرج ولا تحاسب على ما تعطي وتمنع يوم القيامة. عن الحسن : أن الله لم يعط أحداً عطية غلا جعل عليه فيها حساباً سوى سليمان فإنه أعطاته عطية هنيئة إن أعطى أجر وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة. ويحتمل أن يراد هذا التسخير تسخير الشياطين عطاؤنا فامنن على من شئت منهم الإطلاق ، أو أمسك منشئت منهم بالوثاق ، فأنت في سعة من ذلك لا تحاسب في إطلاق من أطلقت وحبس من حبست وحين فرغ من تعداد الدنيوية أردفه بما أنعم به عليه في الآخرة قائلاً : ( وإن له عندنا لزلفى وحسن مىب ( كما في قصة داود وفيه أن ثوابه كفء ثواب أبيه كما أن سيرته سيرة أبيه. التأويل بصاد صمديته في الأزل وصانعيته في الوسط وصبوريته إلى الأبد. أقسم بالقرآن ذي الذكر لأن القرآن قانون معالجات القلوب وأعظم مرض القلب من نسيان الله فأعظم علاجه ذكر الله. ثم أشار غلى انحراف مزاج الكفار بمرض نسيان الله من اللين والسلامة إلىالغلظ والقساوة ، ومن التواضع إلى التكبر ، ومن الوفاق إلى الخلاف ، ومن التصديق إلى التكذيب ، ومن التوحيد غلى تكثير الآلهة. وفي قوله ) واصبروا على آلهتكم ( إشارة إلى أن الكفار إذا تواصوا فيما بينهم بالصير والثبات فالمؤمنون أولى بالثبات على قدم الصدق في طلب المحبوب الحقيقي ) إن هذا لشيء يراد ( في الأزل من المقبول والمردود. ) بل لما يذوقوا عذاب ( لأنهم في النوم فإذا ماتوا انتبهوا وأحسوا بالأملم فعاينوا الأمر حين لا ينفع العيان ، ويزول الشك في يوم لا يجدي البرهان. ) عجل لنا قطنا ( النفوس الخبيثة تميل بطبعها إلى السفليات العاجلة كما أنالنفوس الكريمة تميل بطبعها إلى العلويات الباقية ، ولكل من الصنفين جذبة بالخاصية إلى شكله كجذب المغناطيس الحديد. ) له تسع وتسعون نعجة ( هن آثار فيوض الصفات الربانية بحسب السماء التسعة والتسعين ، فلكل منها مظهر في عالم الملك والخلق ) ولي نعجة واحدة ( هو ذات اللهوحده ) فقال أكفلنيها ( أي صيرني أجمع بين الله وبين ما سواه. ثم ههنا أسار كثيرة تفهمها إن شاء الله. ) وظن داود أنما فتناه ( امتحناه بالجمع بين الدين والدنيا ) فاستغفر ( للحق ) ربه ( ) ربه ( ) راكعاً وأناب ( إلى الله معرضاً عما سواه. وهذا التأويل مما خطر ببالي أرجو أن يكون مضاهياً للحق : ( إنا جعلناك خليفة ( فيه أن الخلافة عطاء من الله وأنها مخصوصة بالإنسان خلق مستعدّاً لها بالقوة ، وفيه أن الجعلية تتعلق بعالم المعنى كما أن الخلقية تتعلق بعالم المعنى كما أن الخلقية تتعلق بعالم الصورة. ) الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ) [ الأنعام : 1 ] ( فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً ) [ فاطر : 1 ] ووجه الخلافة هو أن(5/598)
" صفحة رقم 599 "
الروح الإنساني أوّل فيض بذاته وصفاته فذاته من ذات الله بلا واسطة ، وصفاته من صفاته محل استوائه ، ونصب له خادماً وهو النفس ، فلو بقي الإنسان على فطرة الله لكان روحه مستفيضاً من الله تعالى فائضاً لخلافة الحق على عرش القلب ، والقلب فائض لخلافة الروح على خادمه النلفس ، والنفس فائضه لخلافة القلب على القالب ، والقالب فائض لخلافة النفس على الدنيا ، وهي أرض الله فلا يجري شيء من الأمور إلا على نهج الحق. ) ووهبنا لداود ( الروح ) سليمان ( اقلب ) إذ عرض عليه بالعشي ( وهو بعد زوال شمس التجلي ) الصافنات الجياد ( وهي مركب الصفات البشرية. وفي قوله ) فطفق مسحاً ( إشارة إلى أن كل محبوب سوى الله إذا حجبك عنه لحظة يلزمك أن تقتله بسيف ( لا إله إلا الله ) وإليه الإشارة بقوله ثانياً ) ولقد فتنا سليمان والقينا على كرسيه ( صدره شيئاً من الشهوات الجسدانية فافتتن به فتاب ورجع إلى الحضرة. فإن قيل : قوله ) لا ينبغي لأحدمن بعدي ( هل يتناول نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ قلنا : يتناوله بالصورة لا بالمعنى : فإن الذي كان مطلوب سليمان من تزكية النفس عن محبة الدنيا مع القدرة عليها ، ومن تحلية القلوب بعلوّ الهمة وبذل المال والجاه وإفشاء العدل والنصفة وغير ذلك كان حاصلاً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) من غير زحمة مباشرة صورة الملك والافتنان به عزة ودلالاً ولهذا قال في حديث تسلطه على الشيطان ( ذكرت دعوة أخي سليمان فتركته ) وكان يعرض عليه مقاليد الخزائن فيقول : ( الفقر فخري ) على أن صورة الملك أيضاً مما سيحصل لبعض أمته كما قال ( وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ). ( ص : ( 41 - 88 ) واذكر عبدنا أيوب . . . .
" واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب جنات عدن مفتحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب وعندهم قاصرات الطرف(5/599)
" صفحة رقم 600 "
أتراب هذا ما توعدون ليوم الحساب إن هذا لرزقنا ما له من نفاد هذا وإن للطاغين لشر مآب جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار إن ذلك لحق تخاصم أهل النار قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين "
( القراآت )
مسني الشيطان ( بسكون الياء : حمزة. بنصب بضمتين : يزيد ، وقرأ يعقوب بفتحتين ، وقرأ هبيرة بالفتح والسكون. والباقون : باضم والسكون ) بخالصة ذكرى ( على الإضافة : أبو جعفر ونافع وهشام ) عبدنا إبراهيم ( على التوحيد : ابن كثير وعلى هذا يكون إبراهيم وحده عطف بيان ) ما يوعدون ( على الغيبة : ابن كثير وأبو عمرو ) وغساق ( بالتشديد حيث كان : حمزة وعليّ وخلف وحفص ) أخر ( بضم الهمزة على الجمع : أبو عمرو وسهل ويعقوب والمفضل. والباقون : بالمد على التوحيد. ) الأشرار ( بالإمالة والتفخيم مثل ) الأبرار ( غير ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ) الأشرار ( بالإمالة ) اتخذناهم ( موصولة والابتداء بكسر الألف : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. والآخرون : بفتح الهمزة على الاستفهام ) ما كان لي ( بفتح اياء : حفص ) إلا إنما ( بكسر الهمزة على الحكاية : يزيد ) لعنتي إلى ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع ) فالحق ( بالرفع : حمزة وخلف وعاصم غير المفضل وهبيرة ويعقوب غير رويس .(5/600)
" صفحة رقم 601 "
الوقوف : ( أيوب ( لا إذا جعل ( إذ ) بدلاً ) وعذاب ( 5 ط لتقدير القول أي فأرسلنا إليه جبريل فقال له اركض ) برجلك ( ج لأن هذا مبتدأ مع أه من تمام القول ) وشراب ( 5 ) الألباب ( 5 ) ولا تحنث ( ط ) صابراً ( ط ) العبد ( ط ) أوّاب ( 5 والأبصارر 5 ) الدار ( 5 ج للآية مع العطف ) الأخيار ( 5 ) وذا الكفل ( ط ) من الأخيار ( 5 ) ذكر ( 5 ط ) مآب ( 5 لا لأن ) جنات ( بدل أو عطف بيان. ) الأبواب ( 5 ج لاحتمال أن عامل ) متكئين ( محذوف أي يتنعمون متكئين وإن جعل حالاً من ) مفتحة ( فهي مقدّرة لأن الاتكاء لا يكون في حال فتح الأبواب ) وشراب ( 5 ) أتراب ( 5 ) الحساب ( 5 ) من نفاد ( 5 ج ) هذا ( ط أي هذا بيان جزاء المتقين أو الأمر هذا ) مآب ( 5 لا ) جهنم ( ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستئنافاً ) يصلونها ( ج ) المهاد ( 5 هذا ) لا لأن خبره ) حميم ( فقوله ) فليذوقوه ( اعتراض ) وغساق ( 5 لا للعطف ) أزواج ( 5 ط ) معكم ( ج لتصال المعنى مع الابتداء بما في معنى الدعاء ) بهم ( 5 ) النار ( ط ) بكم ( ط ) لنار ( ج ) القرار ( 5 ) النار ( 5 ) الأشرار ( 5 ط لمن قرأ بكسر الهمزة لاحتمال إضمار همزة الاستفهام واحتمال كونها خبرية صفة أو حالاً ومن صرح بالاستفهام فوقفه مطلق ) الأبصار ( 5 النار ) 5 ) القهار ( 5 ج لأن ما بعده يصلح بدلاً وخبراً لمحذوف أي هو الغفار ) عظيم ( 5 لا لأن ما بعده وصف ) معرضون ( 5 يختصمونر 5 ) مبين ( 5 ) طين ( 5 ) ساجدين ( 5 ) أجمعون ( 5 لا ) إبليس ( ط ) الكافروين ( 5 ) بيديّ ( ط للاستفهام ) العالين ( 5 ) منه ( ط لأن ما بعده جواب سؤال كأنه علل الخيرية ) طين ( 5 ) رجيم ( 5 ج والوصل أولى لاتصال لعنتي به ) الدين ( 5 ) يبعثون ( 5 ) المنظرين ( 5 لا لتعلق إلى ) المعلوم ( 5 ) أجميعن ( 5 للاستثناء ) المخلصين ( 5 ) فالحق ( ز على قراءة الرفع أي فهذا الحق مع اتحاد المقول ) أقول ( ج لاحتمال أن ما بعده قسم مستأنف أو بدل من قوله ) والحق (. ) أجمعين ( 5 ج ) المتكلفين ( 5 ) للعالمين ( 5 ) حين ( 5. التفسير : وجه النظم كأنه تعالى يقول : يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثر مالاً أو جاهاً من داود وسليمان ، ولم يكن أكثر بلاء ومحنة من أيوب ، ومع ذلك لم يبق حالهما وحاله على نسق واحد ، فالصبر مفتاح الفرج. ) وأيوب ( عطف بيان و ( إذ ) معمول فعل آخر أو بدل اشتكال من أيوب أي زمان بلائه وكان معاصراً ليعقوب ، وامرأته ليا بنت يعقوب ، ونداؤه دعاؤه والجار محذوف أي دعاه بأني مسني على الحكاية وإلا لقال بأنه مسه والنصب والنصيب كالرشد والرشد ، والنصب بالفتح والسكون على أصل المصدر ، وضمة الصاد لا تباع النون كقفل وقفل. ومعنى الكل التعب والمشقة. قيل : الضر(5/601)
" صفحة رقم 602 "
في البدن والعذاب في ذهاب المال والأهل وللناس في بلائه قولان : الأول أن الذي نزل به كان من الشيطان وقد مرّ تقريره في ( الأنبياء ) ومجمله ما روي أن إبليس سأل ربه فقال : هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني ؟ فقال : نعم ، عبدي أيوب. قال : فلسطني على ماله فكان يجيئه ويقول : هلك من مالك كذا فيقول : الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله. فقال : يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فلسطني على ولده. فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية فجاء وأخبره به فلم يلتفت إليه فقال : يا رب إنه لا يبالي بماله وولده فلسطني على جسده فأذن فيه ، فنفخ في جلد ايوب وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فمكث في ذلك البلاء سبع سنين أو ثمان عشرة ، وصار بحيث استقذره أهل بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته وقال : إن استعاذ بي زوجك خلصته من هذا البلاء فاشارت غلى أيوب بذلك فغضب لذلك - أو لوجوه أخر سبق ذكرها في سورة الأنبياء - وحلف إن عافه الله ليجلدتها مائة جلدة وعند ذلك دعا ربه شاكياً إليه لأمنه كقول يعقوب ) إنما اشكو بثي وحزني إلى الله ) [ يوسف : 86 ] فأجاب دعاءه وأوحى إليه ) أركض ( أي اضرب ) برجلك ( الأرض. عن قتادة : هي أرض الجابية من قرى الشام. فأظهر الله تعالى من تحت رجله عيناً باردة طيبة فاغتسل منها فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه وردّ عليه أهله وماله. القول الثاني : إن الشيطان لا قدرة له على إيقاع الناس في الأمراض والآفات وإلا لوقع في العالم مفاسد ولم يدع صالحاً إلا نكبه ، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة. فالمراد بمس الشيطان هو الأحزان الحاصلة في قلبه بسبب وساوسه من تعظيم ما نزل به من البلاء وإغرائه على الجزع والقنوط من روح الله إلى غير ذلك مما مر ذكره في سورة الأنبياء. ولناصر القول الأول أن يقول : سلمنا أن الشيطان باستقلاله لا يقدر على المفاسد ولكنه لم لا يجوز أن يقدر على المفاسد ولكنه لم لا يجوز أن يقدر بعد الالتماس والتسليط ؟. ولنعد إلى تفسير ما يختص بالمقام. قوله ) مغتسل بارد ( أي هذا مكان يغتسل فيه أي بمائة ويشرب منه ، والظاهر أنها كانت عيناً واحدة عذبة باردة ، وروى بعضهم أنه نبعث عينان ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها فبرأ ظاهره ، وضرب رجله اليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها فزال ما في بطنه من القروح. وزعم أن تقدير الكلام هذا مغتسل وشراب بارد. وقوله ( ووهبنا له أهله ومثلهم معهم ( قيل : أحياهم الله بأعيانهم وزاد مثلهم من أولاده. وقيل : من أولاد أولاده. وقيل : كانوا قد غابوا عنه وتفرقوا فجمع الله شملهم. وقيل : كانوا مرضى فشفاهم الله والأول اصح. وقوله ( رحمة منا وذكرى ((5/602)
" صفحة رقم 603 "
مفعول لهما فكانت الهبة رحمة له وتذكيراً لذوي العقول حتى لو ابتلوا بما ابتلي به صبروا كما صبر فيفوزوا كما فاز. وإنما لم يقل ههنا ) رحمة من عندنا ) [ الأنبياء : 84 ] مع أ ، ه أبلغ اكتفاء بما مر في سورة الأنبياء وفي قوله ) وذكرى لأولي الألباب ( مع قوله في ( الأنبياء ) ) وذكرى للعابدين ) [ الآية : 84 ] إشارة إلى أن ذا اللب هو الذي يعبد الله. وتخصص كل من السورتين بما خص لرعاية الفاصلة قوله ) وخذ ( معطوف على ) اركض ( والضغث الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو سنبلة. قال مجاهد : هو لأيوب خاصة. وعن قتادة : هو عام في هذه الأمة. والصحيح أنه باق في المريض والمعذور لما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتى بمخدج وقد زنى بأمة فقال : خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة حلل الله يمين أيوب بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها. ومعنى ) وجدناه صابراً ( علمنا منه الصبر. وههنا نكتة ذكرها بعض أرباب القلوب وهي أنه لما نزل في حق سليمان ) نعم العبد ( تارة وفي حق أيوب أخرى ، اغتم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا : هذا تشريف عظيم فإن كان سببه اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان فنحن لا نقدر عليه ، وإن كان سببه تحمل بلاء مثل بلاء أيوب فنحن لا نطيقه ، فكيف السبيل إلى تحصيله ؟ فأنزل الله تعالى قوله ) نعم المولى ونعم النصير ) [ الحج : 78 ] والمراد أنك إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى ، فإن كان منك الفضول فمني الفضل ، وإن كان منك التقصير فمني النصرة والتوفيق. قلت : وصف أنبياء سائر الأمم بقوله ) نعم العبد ( ووصف هذه الأمة بقوله ) كنتم خير أمة ) [ آل عمران : 110 ] فلا تشريف فوق هذا ثم أجمل ذكر طائفة من مشاهير الأنبياء. ومعنى ) أولي الأيدي والأبصار ( أولي العمل والعلم لأن اليد آلة لأكثر الأعمال ، والبصر آلة لأقوى الإِدراكات ، فحسن التعبير عن العمل باليد ، وعن الإدراك بالبصر ، وفيه تعريض بأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يتفكرون أفكار ذوي العقول والرعفان فهم في حكم الزمنى والعميان ، ولولا قرينة الأبصار لكان يحتمل أن الأيدي جمع اليد النعمة. قوله ) أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ( الخالصة صفة أو مصدر كالعاقبة ، والدار ظرف فهي الدنيا ، أو مفعول به فهي الآخرة. والمعنى جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة لا شوب فيها وهي ذكراهم الجنة بحيث لا يشوبون ذكرها بشيء من هموم الدنيا ، أو هي تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها ، أو بسبب خلوص ذكرى الجنة ، أو بما خلص من ذكراها ، أو جعلناهم مختصين بخلة صافية عن المنقصات وهي الثناء الحسن في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. و ) المصطفين ( جمع مصطفى وأصله مصطفين لأنه في حالة الجر بالياء قلبت الياء(5/603)
" صفحة رقم 604 "
المتحركة ألفاً ثم حذفت ، أراد اخترناهم من بين أبناء جنسهم والأخيار جمع خير بالتشديد أو خير بالتخفيف كأموات في ميت أو موت ) إسماعيل واليسع وذا الكفل ( وقد مر ذكرهم في سورة الأنبياء. وحين تمم ذكر الصالحين وما لقي كل منهم من أنواع الابتلاء تثبيتاً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وهو باب من أبواب التنزيل ونوع من أنواع القرآن ، أراد أن يذكر على عقيبه باباً آخر وهو ذكر جزاء المتقين والطاغين قال ) هذا ذكر ( ثم قال ) وإن للمتقين ( كما يقول المصنف : إذا فرغ من فصل من كتابه هذا باب ثم يشرع في باب آخر. ويحتمل أن يكون مكن تتمة صفات الأنبياء أي هذا الذي قصصنا عليك من أحوال هؤلاء الأنبياء شرف وذكر جميل يذكرون به أبداً. قوله ) مفتحة ( حال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل. قال الزجاج ) الأبواب ( فاعل ) مفتحة ( والعائد محذوف أي الأبواب منها. وقال غيره. في ) مفتحة ( ضمير الجنات ) والأبواب ( بدل الاشتمال من الضمير تقديره مفتحة هي الأبواب نظيره في بدل البعض ( ضرب زيد اليد والرجل ) فكان اللام عوضاً من الضمير الراجع. والمعنى أن الملائكة الموكلين بالجنات إذا رأوا صاحب الجنة فتحوا له ابوابها وحيوه بالسلام فلا يحتاجون إلى تحصيل مفاتيح ومعاناة الفتح. وقيل : أراد به وصف تلك المساكين بالسعة وجولان الطرف فيها من غير حائل. وقوله ( متكئين ( حال مقدرة متداخلة كما مر أو حال بعد حال أو عامله مؤخر وهو ) يدعون ( أي يتحكمون في ثمارها وشرابها فإذا قالوا لشيء منها أقبل حصل عندهم. وقيل : يتمنون وقيل : يسألون. قال المفسرون : أراد وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول. وحين بين أكر المسكن والمأكول والمشروب ذكر أمر المنكوح. وقاصرات الطرف قد مر في ( الصافات ) أنهن اللواتي قصرن الطرف عن الالتفات إلى غير أزواجهن. والأتراب جمع ترب وهي اللدة. واشتقاقها قيل من اللعب بالتراب ، وقيل لأن التراب مسهن في وقت واحد. والسبب في اعتبار هذا الوصف أن التحاب بين الأقران أثبت. وقيل : هن و. واجهن واحدة في الأسنان. وقيل : اراد أنهن شواب لا عجوز ولا صبية. ويروى أنهن بنات ثلاث وثلاثين. ومعنى ) ليوم الحساب ( قيل : لأجل الحساب لأن الحساب على الوصول إلى جزاء العمل. والظاهر أن اللام للوقت أي ما وعدتم تعطونه في يوم الحساب. ) إن هذا لرزقنا ماله من نفاد ( انقطاع ونهاية ولا مزيد فوق ذلك فتمام النعم بدوامها. ثم بين أن حال الطاغين مضادّة لحال المتقين وأكثر المفسرين حملوا الطغيان ههنا على الكفر لأنه تعالى يحكي عنهم أنهم قالوا اتخذناهم سخرياً ، والفاسق لا يتخذ المؤمن هزواً لأن الطاغي اسم ذم ، والاسم المطلق محمول على الكامل والكامل في الطغيان هو الكافر ، ويؤيده قول ابن عباس : المعنى إن الذين طغوا عليّ وكذبوا رسلي لهم شر مصير. وحمله الجبائي على أصحاب الكبائر من أهل الإيمان وغيرهم(5/604)
" صفحة رقم 605 "
لأن كل من تجاوز عن تكاليف الله فقد طغا ، ومنه قوله تعالى ) إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى ) [ العلق : 6 ] والمهاد الفراش وقد مر مراراً. وقوله ( هذا ( قد مر بعض إعرابه في الوقوف ، ويحتمل أن يراد الع 1 ذاب هذا ثم ابتدأ فقال هو حميم أو منه ) حميم ( ومنه ) غساق ( أو ) هذا فليذوقوه ( معناه ليذوقوا هذا فليذوقوه كقوله ) فإِياي فارهبون ) [ النحل : 51 ] وقيل : ( حميم ( مبتدأ و ) هذا ( خبره. والغساق بالتخفيف والتشديد ما يغسق من صديد أهل النار. يقال : غسقت العين إذا سال دمعها. وذكر الأزهري أن الغاسق البارد ولهذا قيل الليل الغاسق لأنه أبرد من النهار. فالحميم يحرق بحرّه ، والغساق يحرق ببرده. وقال الزجاج : إنه المنتن لو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق يؤيده قول ابن عمر : هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه. وقال كعب : هو عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذي سم من عقرب وحية. وعن الحسن : هو عذاب لا يعلمه إلا الله. إن الناس أخفوا الله طاعة فأخفى لهم ثواباً في قوله ) فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ) [ السجدة : 17 ] وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة : ( وآخر من شكله ( أي ومذوقات أخر أو عذاب أو مذوق آخر من جنس هذا المذوق. و ) أزواج ( أي أجناس أو وقترنات صفة الآخر لأنه جاز أن يكن مختلفات أو صفة للثلاثة المذكورة وهي حميم وغساق وشيء آخر من شكله ، والمجموع خبر هذا أو خبر هو. وحين وصف مسكن الطاغين ومأكولهم ومشروبهم حكى أحوالهم مع الذين كانوا يعدونهم أحباءهم في الدنيا ثم مع الذين كانوا يعدونهم أعداءهم. أما الأوّل فقوله ) هذا ( اي يقول الطاغون بعضهم مع بعض وذلك إذا دخلت أمة ثم دخل آخرون. والفوج الأوّل الرؤساء والثاني الأتباع. وقيل : الأول إبليس وبنوه والثاني أبناء آدم هذا ) فوج ( اي جمع كثيف دخل النار في صحبتكم. والاقتحام الدخول في الشدة أرادوا أن أتباعهم اقتحموا معهم العذاب كما اقتحموا معهم الضلال. وقوله ( لا مرحباً بهم ( دعاء منهم على أتباعهم و ) مرحباً ( نصب على أنه مفعول به أو مصدر أي أتيت رحباً لا ضيقاً ، أو رحبت بلادك رحباً فإذا دخل عليه لا صار دعاء السوء وبهم بيان للمدعو عيلهم. وقوله إنهم صالو النار ( تعليل لاستيجابهم اللعن. قيل : إنما قالوا ذلك ولم يصدر من الأتباع ذنب في حق من قبلهم لأن النار تكون مملوءة منهم ، أو لأن عذابهم يضاعف بسببهم. وقيل : هو إخبار لا دعاء أي وقد وردوا مورداً لا رحب فيه ولا سعة. وقيل ) هذا فوج مقتحم معكم ( كلام الخزنة لرؤساء الكفرة فما بين أتباعهم. وقيل : هذا كله كلام الخزنة ) قالوا ( أي الأتباع. ) بل أنتم لا مرحباً بكم ( أي الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به وعللوا ذلك بقولهم(5/605)
" صفحة رقم 606 "
) أنتم قدمتموه لنا ( والضمير لما هم فيه من العذاب أو الصلي أي كنتم السبب في العمل الذي هو جزاؤه فجمعوا بين مجازين ، لأن الأتباع هم الذين عملوا عمل السوء لا رَؤساؤهم والعمل هو المقدّم لا جزاؤه. ومن جعل قوله ) لا مرحباً ( بهم من كلام الخزنة ، زعم أن تقدير الكلام هذا الذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحق به منا لإغوائكم إيانا وتسببكم لما نحن فيه. ) فبئس القرار ( أي المستقر النار ) قالوا ( أي الفوج وهو كالبدل من ) قالوا ( الأوّل والضعف المضاعف كما مر في ( الأعراف ) وأما الثاني فقوله ) ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدّهم من الأشرار ( أي في اعتقادنا لأن دينهم على خلاف ديننا ، أو أرادوا أ ، هم أراذل لا خير فيهم يعنون فقراء المسلمين. وعن بعضهم أن القائلين صناديد قريش كأبي جهل والوليد وأضرابهما والرجال عمار وبلال وصهيب وأمثالهم. من قرأ ) أتخذناهم ( بفتح الهمزة فعلى أنه إنكار منهم على أنفسهم وتأنيب لها بالاستسخار منهم ، وكذا فيمن قرأ ) اتخذناهم ( بكسر الهمزة ويقدر همزة الاستفهام محذوفة ، ومن جعلها صفة أو حالاً فلا إشكال وحينئذ يتصل ) أم زاغت ( بقوله ) ما لنا لا نرى ( أي الرجال الموصوفين في النار كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا وخفي علينا مكانهم فلا نراهم وهم فيها. فأم منقطعة وكذا إن اتصل بقوله ) اتخذناهم ( على الاستفهام لأن الأول للإِنكار ، والثاني للاستخبار. ويجوز أن يكون ( أم ) متصلة وكلاهما للإِنكار. ومعنى زيغ الأبصار ازدراؤهم وتحقيرهم يؤيده قول الحسن ، كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخرياً وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم واللام في الأبصار عوض من الضمير أي أبصارنا ) إن ذلك ( الذي حكينا عنهم ) لحق ( لا بد لهم من وقوعه لأنهم مالوا إلى عالم التضاد فيحشرون كذلك. ثم بين ما هو فقال هو ) تخاصم أهل النار ( لأن التلاعن والتشاتم نوع من أنواع الخصومة. واعلم أ ، ه سبحانه لما بدأ في أول السورة بأن محمداً يدعو إلى التوحيد وأن الكفار يستهزؤن منه وينسبونه إلى السخرية تارة وإلى الكذب أخرى. ثم ذكر طرفاً من قصص الأنبياء عليهم السلام ليعلم أن الدنيا دار تكليف وبلاء لا دار إقامة وبقاء. ثم عقبه بشرح نعيم الأبرار وعقاب الأشرار ، عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أوّل السورة وهي صحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصدق ما يدعو إليه من التوحيد والإخلاص فقال ) قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد ( من جميع الوجوه ) القهار ( لما دونه ثم أردف القهر باللطف والتربية قائلاً ) رب السموات والأرض وما بينهما ( ثم أكد صفتي القهر واللطف بقوله ) العزيز الغفار ( فمن عزته أدخل أهل الاستكبار النار ولمغفرته أعدّ الجنة لأهل الاستغفار. قوله ) قل هو نبأ عظيم ( أي القول بأن الله واحد نبأ عظيم أو القول بالنبوّة أو بإثبات الحشر(5/606)
" صفحة رقم 607 "
والقيامة ، وذلك لأن هذه المطالب كانت مذكورة في أوّل السورة ولأجلها سيق الكلام منجراً إلى ههنا. ويحتمل أن يراد ) كتاب أنزلناه ( فيه نبأ عظيم وهؤلاء الأقوام أعرضوا عن كل من هذه الأمور. ثم بين أنه حاصل من قبل الوحي بقوله ) ما كان لي من علم بالملأ الأعلى ( وهم الملائكة ) إذ يختصمون ( أي يتقاولون فيما بينهم بالوحي. والظرف متعلق بمحذوف أي بكلامهم وقت اختصامهم ، شبه التقاول بالتخاصم من حيث إن في كل منهما سؤالاً وجواباً والمشابهة علة لجواز المجاز. ثم صرح بما عليه مدار الوحي قائلاً ) إن يوحى إليّ إلا أنما أنا نذير مبين ( أي ما يوحى إليّ إلا هذا وهو إني نذير كامل في باب التبليغ ، ويؤيده قراءة كسر ) إنما (. وقيل : إن الجار محذوف أي لم يوح إليّ إلا لأن أنذر ولا أقصر. روى ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتاني الليل آت منربي وفي رواية ربي في أحسن صورة فقال لي : يا محمد. قلت : لبيك ربي وسعديك. قال : هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : لا أعلم. قال : فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السموات وما في الأرض. قال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : نعم ، في الدرجات والكفارات ونقل الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في السبرات المكروهات أي في البرد الشديد وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، ومن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) الحديث. قال : والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام. واعلم أن أشراف قريش إنما نازعوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب الحسد والكبر فختم الله تعالى السورة بذكر قصة آدم وما وقع فيه إبليس من الرجم واللعن حين حسد واستكبر ليصير سماع القصة زاجراً للمكلفين عن هاتين الخصلتين ، فعلى هذا يكون ) إذ قال ( معمولاً لمحذوف اي اذكر وقت قول ربك للملائكة. وقيل : النبأ العظيم قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد. وعلى هذا فالضمير عائد إلى ما ذكره عما قريب. والمعنى ما أحكيه خبر له شأن لأنه مستفاد من الوحي. وقوله ( إذ قال ( بدل من ) إذ يختصمون ( والملأ الأعلى اصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم حين قالوا ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) [ البقرة : 30 ] كأنهم قالوا : هؤلاء فيما بينهم. ثم خاطبوا بها الله سبحانه فلا يلزم أ ، يكون الله تعالى من الملأ الأعلى ويثبت له مكان. أو نقول : المراد علو الرتبة ولاشرف فيشمل تقاول الله وملائكته. وقال جار الله : كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك فكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط. وقصة(5/607)
" صفحة رقم 608 "
آدم مذكورة في ( البقرة ) وفي غيرها مشروحة. والتي في هذه السورة يوافق أكثرها ما في الحجر فلا فائدة في إعادتها فلنذكر ما يختص بالمقام قوله ) خلقت بيديّ ( كلام المجسمة فيه ظاهر وغيرهم حملوه على وجوه منها : أن اليد عبارة عن القدرة يقال ما لي بهذا الأمر يد أي قوّة وطاقة. ومنها أنها النعمة. ومنها أنها للتأكيد وليدل على عدم الواسطة كما مر في قوله ) مما عملت أيدينا ) [ يس : 71 ] وقد يقال في حق من جنى بلسانه وإن لم يكن له هذا مما كسبت يداك. والحق فيه أن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شيء بيديه إلا إذا كانت عنايته مصروفة إلى ذلك العمل ، فحيث كانت العناية الشديدة من لوازم العمل باليد أمكن جعله مجازاً عنها. ومنها قول أرباب التأويل إنه إشارة إلى صفتي اللطف والقهر وهما يشملان جميع الصفات فلا مخلوق إلا وهو مظهر لإِحدى الصفتين ، كالملك فإنه مظهر اللطف ، وكالشيطان فإِنه مظهر القهر إلا الإنسان فإِنه مظهر لكلتيهما وبذلك استحق الخلافة ومسجوديةو الملائكة ولهذا جاء في الأحاديث القدسية ( لا أجعل ذرّية من خلقت بيديّ كمن قلت له كن فكان ) قوله ) استكبرت أم كنت من العالين ( أي أطلبت الكبر من غير استحقاق أم كنت ممن علوت وقفت ؟ فأجاب بأنه من العالين حيث ) قال أنا خير منه ( وقيل : استكبرت الآن أو لم تزل منذ كنت من المتكبرين. ومعنى الهمزة التقرير. قوله ) فالحق ( من قرأ بالرفع فعلى أنه خبر لما مر أو مبتدأ محذوف الخبر مثل ) لعمرك ) [ الحجر : 72 ] أي فلاحق قسمي لأملالأن والحق أقوله وهو اعتراض. ومن نصبهما فعلى أن اثاني تأكيد للأوّل ، أو على أن الأوّل للإغراء أي اتبعوا الحق وهو الله سبحانه ، أو الحق الذي هو نقيض الباطل. وقوله ( منك ( أي من جنسك وهم الشياطين ) وممن تبعك منهم ( أي من ذرّية آدم. و ) أجمعين ( تأكيد للتابعين والمتبوعين. ثم ختم السورة بما يدل على الاحتياط والاجتهاد في طلب هذا الدين لأن النظر إما إلى الداعي أو إلى المدعو إليه. أما الداعي فلا يسأل أجراً على ما يدعو إليه وهو القرآن أو الوحي أو النبأ ، ومن الظاهر أن الكذاب لا ينقطع طمعه عن طلب المال ألبتة. وأما المدعو إليه فقوله ) وما أنا من المتكلفين ( الذين ينتحلون ما ليس عندهم ولا دليل لهم على وجوده ، بل العقل الصريح يشهد بصحته فإني أدعوكم إلى الإقرار بالله أوّلاً ثم إلى تنزيهه عما لا يليق به ثانياً ، ثم إلى وصفه بنعوت الجمال والجلال ثالثاً ومن جملة ذلك التوحيد ونفي الأنداد والأضداد ، ثم أدعو إلى تعظيم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة والأنبياء رابعاً ، ثم إلى الشفقة على خلق الله خامساً ، ثم أدعو إلى الإقرار بالبعث والقيامة سادساً ) ليجزي الذين أسؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) [ النجم : 31 ] فهذه أصول معتبرة في دين الإسلام يشهد بحسنها بداية العقول ويحكم ببعدها عن الباطل كل من يرجع إلى محصول وهو المراد بقوله ) إن هو إلا ذكر للعالمين ( عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( للمتكلف(5/608)
" صفحة رقم 609 "
ثلاث علامات : ينازع من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول مالا يعلم ) ) ولتعلمن نبأه بعد حين ( أي خبر حقيقة القرآن وما أدعو إليه بعد حين هو الموت لأن الناس نيام فإِذا ماتوا انتبهوا. وقيل : هو القيامة. وقيل : هو حين ظهور الإسلام ولا يخفى ما فيه من التهديد .(5/609)
" صفحة رقم 610 "
سورة الزمر
( سورة الزمر مكية إلا ثلاث آيات نزلت في وحشي بن حرب وأصحابه ) يا عبادي الذين أسرفوا ( إلى آخرهن حروفها أربعة آلاف وسبعمائة وثمانية وكلمها ألف ومائة وسبعون آياتها 75 ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الزمر : ( 1 - 31 ) تنزيل الكتاب من . . . .
" تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب قل إني(5/610)
" صفحة رقم 611 "
أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون "
( القراآت )
يرضه ( بالإِشباع : ابن كثير وعلي والمفضل وعباس وإسماعيل وابن ذكوان وخلف ) يرضه ( باختلاس ضمة الهاء : يزيد وسهل ويعقوب ونافع وعاصم غير يحيى وحماد والمفضل وحمزة وهشام وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الباقون ) يرضه ( بسكون الهاء ) ليضل ( بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. الباقون : بالضم ) أمن هو ( بتخفيف المميم : نافع وابن كثير وحمزة وأبو زيد ) يا عبادي الذين ( بفتح الياء : الشموني والبرجمي والوقف بالياء ) إني أمرت ( ) فبشر عبادي ( بفتح المتكلم فيهما : شجاع وأبو عشيب وعباس والشموني والبرجمي والوقف بالياء ) إني أخاف ( بالفتح :(5/611)
" صفحة رقم 612 "
أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ) سالماً ( بالألف : ابن كثير وأبو عمرو. والآخرون : بفتح السين واللام من غير ألف. الوقوف : ( الحكيم ( 5 ) له الدين ( 5 ط ) الخالص ( ط ) أولياء ( 5 التقدير يقولون ولو وصل لأوهم أن ما نعبدهم أخبار من الله قاله السجاوندي. وعندي أن هذا وهم بعيد والأولى أن لا يوقف لئلا يفصل بين المبتدأ وخبره ) زلفى ( ج لاحتمال أ ، خبر المبتدأ هو ما بعده ) يختلفون ( 5 ط ) كفار ( 5 ) ما يشاء ( ز لتعجيل التنزيه ) سبحانه ( ط ) القهار ( 5 ز ) بالحق ( ج لاحتمال كون ما بعده حالاً والاستئناف أفضل ) والقمر ( ط ) مسمى ( ط ) الغفار ( 5 ) أزواج ( ط ) ثلاث ( ط ) الملك ( ط ) تصرفون ( 5 ) الكفر ( ج لعطف جملتي الشرط مع وقوع العارض ) لكم ( ط ) أخرى ( ط لأن ( ثم ) لترتيب الأخبار ) تعلمون ( 5 ) الصدور ( 5 ) سبيله ( ط ) قليلاً ( ز ص والأولى والوصل أو التقدير فإنك ) النار ( 5 ) رحمة ربه ( 5 ) لا يعلمون ( 5 ) الألباب ( 5 ربكمر ط ) حسنة ( ط ) واسعة ( ط ) حساب ( 5 ) له الدين ( 5 ط ) المسلمين ( 5 ) عظيم ( 5 ) ديني ( 5 لا ) دونه ( ط ) يوم القيامة ( ط المبينر 5 ) ومن تحتهم ظلل ( ط ) عباده ( ط ) فاتقون ( 5 ) البشرى ( ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب ) عباد ( 5 لا ) أحسنه ( ط ) الألباب ( 5 ) العذاب ( 5 ) في النار ( 5 ج للآية مع الاستدراك مبنية لا لأن ما بعده وصف ) الأنهار ( ط ) وعد الله ( ط الميعادر 5 ) حطاماً ( ط ) الألباب ( 5 ) من ربه ( ط لحذف جواب الاستفهام من ) ذكر الله ( ط ) مبين ( 5 ) ربهم ( ج لأن الجملة ليست من صفة الكتاب مع العطف ) ذكر الله ( ط ) من يشاء ( ط ) هاد ( 5 ) يوم القيامة ( ط لحق الحذف كما مر ) تكسبون ( 5 ) لا يشعرون ( 5 ) الدنيا ( ج للام الابتداء مع العطف ) أكبر ( 5 ) يعلمون ( 5 ) يتذكرون ( 5 ج لاحتمال كون ) قرآنا ( نصباً على المدح أو على الحال المؤكدة كما يجيء ) يتقون ( 5 ) متشاكسون ( 5 ) لرجل ( ط ) مثلاً ( ط ) الله ( ج للإضراب مع اتفاق الجملتين ) لا يعلمون ( 5 ) ميتون ( 5 ) تحتصمون ( 5. التفسير : ( تنزيل الكتاب ( مبتدأ وخبره ) من الله ( وقيل : اصله هذا تنزيل الكتاب والجار صلة ، والأولى أقوى لأن الإِضمار خلاف الأصل ، ولأنه يلزم مجاز وهو كون التنزيل بمعنى المنزل فإن هذا إشارة إلى القرآن أو إلى جزء منه وهو هذه السورة. وفيه إبطال ما يقوله المشركون من أن محمداً يقوله من تلقاء نفسه. وفي قوله ) من الله ( إشارة إلى الذات المستحق للعبادة والطاعة كقولك : هذا كتاب من فلان. تعظم به شأن الكتاب : وفي قوله ) العزيز ( إشارة إلى أن هذا الكتاب يحق قبوله فكتاب العزيز عزيز ، وفيه أنه غني عن(5/612)
" صفحة رقم 613 "
إرسال الكتاب والاستكمال به وإنما ينتفع به المرسل إليهم. وفي قوله ) الحكيم ( إشارة إلى أنه مشتمل على الفوائد الدينية والدنيوية لا على العبث والباطل. وقوله ( إنا أنزلنا إليك ( ليس تكراراً من وجهين : أحدهما أن التنزيل للتدريج والإنزال دفعي كما مر مراراً. والثاني أن الأول كعنوان الكتاب ، والثاني يقرر ما في الكتاب. وقوله ( بالحق ( يعني أن كل ما أودعنا فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف فهو حق وصدق مؤيد بالبرهان العقلي وهو مطابقته للعقول الصحيحة ، وبالدليل الحسي وهو أن الفصحاء عجزوا عن معارضته. ثم اشتغل ببيان بعض ما فيه من الحق وهو الإقبال على عبادته بالإخلاص والالتفات عما سواه بالكلية. أما الأول فهو قوله ) فاعبد الله ( أي أنت أو أمتك ) مخلصاًً له الدين ( وآية الإخلاص أن يكون الداعي إلى العبادة هو مجرد الأمر لا طلب مرغوب أو هرب مكروه. وأما الثاني فذلك قوله ) الا لله الدين الخالص ( أي واجب اختصاصه بالطاعة من غير أن يشوب ذلك دعاء أو شرك ظاهر وخفي. وخصصه قتادة فقال : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله. وحين حث على التوحيد والإخلاص ذم طريقة الشرك والتقليد فقال ) والذين اتخذوا ( الضمير للمشركين ولكن الموصول يحتمل أن يكون عبارة عن المشركين والخبر ما أضمر من القول ، أو قوله ) إن الله يحكم بينهم ( والقول المضمر حال أو بدل فلا يكون له محل كالمبدل ، وأن يكون عبارة عن الشركاء والخبر ) إن الله يحكم بينهم ( والقول المضمر للحال أو بدل. وتقدير الكلام على الأول : والمشركون الذين اتخذوا من دونه أولياء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم. وعلى الثاني : والشركاء الذين اتخذهم المشركون أولياء قائلين أو يقولون كذا إن الله يحكم بينهم. وغذا عرفت التقادير فنقول : المراد بالأولياء ههنا الملائكة وعيسى واللات والعزى. قال ابن عباس : كانوا يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله أما الملائكة وعيسى فظاهر ، وأما الأصنام فلأنهم اعتقدوا أنها تماثيل الكواكب والأرواح السماوية أو الصالحين. ومعنى حكم الله بينهم أنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة ، ويدخلهم مع الأصنام النار. واختلافهم أن الملائكة وعيسى موحدون وهم مشركون والأصنام يكفرون يوم القيامة بشركهم وهم يرجون نفعهم وشفاعتهم. ويجوز أن يرجع الضمير في ) بينهم ( غلى الفريقين المؤمن والمشرك. ولا يخفى ما في الآية من التهديد. ثم سجل عليهم بالخذلان والحرمان فقال ) إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ( فكذبهم هو زعمهم شفاعة الأصنام وكفرانهم أنهم تركوا عبادة المنعم الحق وأقبلوا على عبادة من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً. ومن جملة كذبهم قولهم الملائكة(5/613)
" صفحة رقم 614 "
بنات الله فلذلك نعبد صورها فاحتج على إبطال معتقدهم بقوله ) لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء ( وهو الأفضل يعني البنين لا الأنقص وهن البنات. وقال جار الله : معناه لو اراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه وهم الملائكة ، لأن اتخاذ الولد ممتنع ، وفيه توبيخ لهم على أنهم حسبوا الاصطفاء اتخاذ الأولاد بل البنات. وأقول : إنه تعالى أراد إبطال قولهم بطريق برهان وهو صورة قياس استثنائي كقوله ) لو اراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى ( لأجل الاتخاذ مما يخلق ما يشاء لكنه ما اصطفى ينتج أنه لم يرد أما الشرطية فظاهرة بعد تسليم كما قدرته ، وأما الثانية فأشار إليها بقوله ) سبحانه هو الله الواحد القهار ( فقوله ) سبحانه ( إشارة إلى استحالة اصطفائه شيئاً لأجل اتخاذ الولد. وقوله ( هو الله الواحد القهار ( إشارة إلى البرهان على استحالة ذلك وتقريره من ثلاثة أوجه : الأول أنه هو الله وهو اسم للمعبود الواجب الذات الجامع لجميه نعوت الجمال والجلال واتخاذ الولد يدل على الحاجة والفقر حتى يقوم الولد بعده مقامه ، أو على والاستغناء المطلق. الثاني أ ، ه هو الواحد الحقيقي كما مر ذكره مراراً. والولد إنما يحصل من جزء من أجزاء الوالد ، ومن شرطه أن يكون مماثلاً لوالده في تمام الماهية حتى تكون حقيقة الوالد حقيقة نوعية محمولة على شخصين ، ويكون تعين كل منهما معلوماً لسبب منفصل وكل ذلك ينافي التعين الذاتي والوحدة المطلقة. وأيضاً إن حصول الولد من الزوج يتوقف على الزوجة عادةو هي لا بد أن تكون من جنس الزوج فلا يكون الزوج مما ينحصر نوعه في شخصه. الثالث أنه هو القهار والمحتاج إلى الولد هو الذي يموت فيقوم الولد مقامه والميت مقهور لا قاهر ، فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما اصطفى شيئاً لأن يتخذه ولداً فصح أنه لم يرد ذلك ، ونفي إرادة الاتخاذ أبلغ من نفي الاتخاذ فقد يراد ولا يتخذ لمانع كعجزه ونحوه. هذا ما وصل إليه فهمي في تفسير هذه الآية والله تعالى أعلم بأسرار كلامه. وحين طعن في إلهية الأصنام عدد الصفات التي بها يستدل على الإلهية الحقة وهي أصناف : أولها قوله ) خلق السموات والأرض بالحق ( أي متلبساً بالغاية الصحيحة وقد مر مراراً. الثاني. ) يكوّر الليل على النهار ( والتكوير اللف واللي يقال كار العمامة على راسه وكورها. وفي التشبيه أوجه منها : أن الليل والنهار متعاقبان غذا غشي أحدهما مكان الآخر فكأنما ألبسه ولف عليه. ومنها أنه شبه كل منهما إذا غيب صاحبه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن الأبصار. ومنها أن كلاً منهما يكر على الآخر كروراً متتابعاً أكوار العمامة. وقيل : أراد أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص من الآخر من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نعوذ بالله من(5/614)
" صفحة رقم 615 "
الحور الكور ) أي من الإدبار بعد الإقبال. الثالث ) وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ( وقد مر مثله في ( فاطر ) وغيره. وحيث كان الأجل المسمى شاملاً للقيامة عقبه بقوله ) الا هو العزيز الغفار ( وفيه ترهيب مع ترغيب. الرابع والخامس قوله ) خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ( وهما آيتان أوّلهما تشعيب الخلق الفائت للحصر من نفس آدم ، والثانية خلق حوّاء من ضلعه. ومعنى ( ثم ) ترتيب الأخبار لأن الأولى عادة مستمرة دون الثانية إذ لم يخلق أنثى غير حوّاء من قصيري رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجلب لعجب السامع. وقيل : هو متعلق بواحدة في المعنى كأنه قيل : خلقكم من نفس واحدة ثم شفعها الله بزوج منها. وقيل : إنه خلق آدم وأخرج ذريته من ظهره ثم ردهم إلى مكانهم ، ثم خلق بعد ذلك حوّاء. وقيل : ( ثم ) قد يأتي مع الجملة دالاً على التقدّم كقوله ) ثم اهتدى ) [ طه : 82 ] ( ثم كان من الذين آمنوا ) [ البلد : 17 ] وكقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير ) السادس قوله ) وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ( أما الأزواج فهي المذكورة في سورة الأنعم من الضأن اثنين الذكر والأنثى ، ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين. وأما وصفها بالإنزال فقيل : أنزلها من الجنة. وقيل : أراد إنزال ما هو سبب في وجودها وهو المطر الذي به قوام النبات الذي به يعيش الحيوان. وقيل : أنزل بمعنى قضى وقسم لأن قضاياه وقسمه مكتوبة في اللوح ومن هناك ينزل. وفي هذه العبارة نوع فخامة وتعظيم لإفادتها معنى الرفعة والاعتلاء ولهذا يقال : رفعت القضية إلى الأمير وإن كان الأمير في سرب. وخصت هذه الأزواج بالذكر لكثرة منافعها من اللبن واللحم والجلد والشعر والوبر والركوب والحمل والحرث وغير ذلك. السابع قوله ) يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق ( والمقصود ذكر تخليق الحيوان على الإطلاق بعد ذكر تخليق الإنسان والأنعام ، إلا أنه غلب أولي العقل لشرفهم. ويحتمل أن يكون ذكر الإنعام اعتراضاً حسن موقعه ذكر الأزواج بعد قوله ) جعل منها زوجها ( ليعلم أن كل حيوان ذو زوج وترتيب التخليق مذكور مراراً كقوله ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ( إلى قوله ) أحسن الخالقين ) [ المؤمنون : 14 ] والظلمات الثلاث : البطن والرحم والمشيمة ، أو الصلب والرحم والبطن. ) ذلكم ( الذي هذه أفعاله ) ربكم له الملك ( وقد مر إعرابه في ( فاطر ). ) لا إله إلا هو ( إذ لا موصوف بهذه الصفات إلا هو ) فأنى تصرفون ((5/615)
" صفحة رقم 616 "
أي كيف يعدل بكم عن طريق الحق بعد هذا البيان ؟ ثم بين أنه غني عن طاعات المطيعين وأنها لا تفيد إلا أنفسهم فقال ) وإن تكفروا فإن الله غنيّ عنكم ( قال المعتزلة : في قوله ) ولا يرضى لعباده الكفر ( دليل على أن الكفر ليس بقضائه وإلا لكان راضياً به. وأجاب الأشاعرة بأنه قد علم من اصطلاح القرآن أن العباد المضاف إلى الله أو إلى ضميره هم المؤمنون. قال ) وعباد الرحمن الذين يمشون ) [ الفرقان : 63 ] ( عيناً يشرب بها عباد الله ) [ الدهر : 6 ] فمعنى الآية : ولا يرضى لعباده المخلصين الكفر. وهذا مما لا نزاع فيه. أو نقول : سلمنا أن كفر الكافر ليس برضا الله بمعنى أنه لا يمدحه عليه ولا يترك اللوم والاعتراض إلا أنا ندعي أنه بإرادته ، وليس في الآية دليل على إبطاله. ثم بين غاية كرمه بقوله : ( وإن تشكروا يرضه لكم ( والسبب في كلا الحكمين ما جاء في الحديث القدسي ( سبقت رحمتي غضبي ) وباقي الآية مذكور مراراً مع وضوحه. ثم حكى نهاية ضعف الإنسان وتناقض آرائه بقوله ) وإذا مس ( إلى آخره. وقد مر نظيره أيضاً. وقيل : إن الإنسان هو الكافر الذي نقدّم ذكره. وقيل : أريد أقوام معينون كعتبة بن ربيعة وغيره. ومعنى خوّله أعطاه لا لاستجرار العوض. قال جار الله : في حقيقته وجهان : أحدهما جعله خائل مال من قولهم هو خائل مال وخال مال إذا كان متعهداً له حسن القيام به. ومنه ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يتخوّل أصحابه بالموعظة أي يتعهد ويتكفل أحوالهم إن رأى منهم نشاطاً في الوعظ وعظهم. والثاني أنه جعله يخول أي يفتخر كما قيل : إن الغني طويل الذيل مياس ومعنى ) نسي ما كان يدعو إليه ( نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه ، أو نسي ربه الذي كان يتضرع إليه و ( ما ) بمعنى ( من ). والمراد أنه نسي أن لا مفزع ولا إله سواه وعاد إلى اتخاذ الأنداد مع الله. واللام في ) ليضل ( لام العاقبة. ثم هدّده بقوله ) تمتع بكفرك ( كقوله ) اعملوا ما شئتم ) [ فصلت : 40 ] وفيه أن الكافر لا يتمتع بالدنيا إلا قليلاً ثم يؤل إلى النار. ثم أردفه بشرح حال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا إلى الله ولا اعتماد لهم إلا على فضله فقال ) أمن هو قانت ( قال ابن عباس : القنوت الطاعة. وقال ابن عمر : لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام. والمشهور أنه الدعاء في الصلاة والقيام بما يجب عليه من الطاعة. وعن قتادة ) آناء الليل ( أوّله ووسطه وآخره. وفيه تنبيه على فضل قيام الليل ولا يخفى أنه كذلك لبعده عن الرياء ولمزيد الحضور وفراغ الحواس من الشواغل(5/616)
" صفحة رقم 617 "
الخارجية ، ولأن الليل وقت الراحة فالعبادة فيه أشق على النفس فيكون ثوابه أكثر. والواو في قوله ) ساجداً وقائماً ( للجمع بين الصفتين. وفي قوله ) يحذر الآخرة ( أي عذابها ) ويرجو رحمة ربه ( إشارة إلى أن العابد يتقلب بين طوري القهر واللطف ، ويتردّد بين حالي القبض والبسط ولا يخفى أن في الكلام حذفاً فمن قرأ ) أمن ( بالتخفيف فالخبر محذوف والمعنى أمن هو مطيع كغيره ، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه وهو جري ذكر الكافر قبله وبيان عدم الاستواء بين العالم والجاهل بعده. ومن قرأ بالتشديد فالمحذوف جملة استفهامية والمذكور معطوف على المبتدأ والمعنى : هذا أفضل أمن هو قانت. وقيل : الهمزة على قراءة التخفيف للنداء كما تقول : فلان لا يصلي ولا يصوم فيا من تصلي وتصوم أبشر. وقيل : المنادي هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بدليل قوله ) قل هل يستوي الذين يعلمون ( الآية. قال جار الله : أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون فكأنه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون فيها ثم يفتنون بالدنيا. ويجوز أن يراد على وجه التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون كذلك لا يستوي القانتون والعاصون. قيل نزلت في عمار بن ياسر وأمثاله ، والظاهر العموم. وفي قوله ) إنما يتذكر أولو الألباب ( إشارة إلى أن هذا التفات العظيم بين العالم والجاهل لا يعرفه إلا أرباب العقول كما قيل : إنما نعرف ذا الفضل من الناس ذووه وقيل لبعض العلماء : إنكم تزعمون أن العلم أفضل من المال ونحن نرى العلماء مجتمعين على أبواب الملوك دون العكس ؟ فأجاب بأن هذا أيضاً من فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه ، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فتركوه. وحين بين عدم الاستواء بين من يعلم وبين من لا يعلم أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يخاطب المؤمنين بأنواع من الكلام. النوع الأوّل. ) قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم ( قال أهل السنة : أمر المؤمنين أن يضموا إلى الإيمان التقوى ، وفيه دلالة على أن الإيمان يبقى مع المعصية. وقالت المعتزلة : أمرهم بالتقوى لكيلا يحبطوا إيمانهم بارتكاب الكبائر بل يزيدوا في الإيمان حتى يتصفوا بصفة الاتقاء. ثم بين للمؤمنين فائدة الاتقاء قائلاً ) للذين أحسنوا ( الآية. وقوله ( في هذه الدنيا ( إما أن يكون صلة لما قبله أو صلة لما بعده وهو قول السدي. ومعناه على الأوّل : الذين أحسنوا في هذه(5/617)
" صفحة رقم 618 "
الدنيا لهم حسنة في الآخرة وهي الجنة. والتنكير للتعظيم أي حسنة لا يصل العقل إلى كنهها. وعلى الثاني : الذين أحسنوا فلهم في هذه الدنيا حسنة. قال جار الله : فالظرف بيان لمكان الحسنة. ويحتمل أن يقال : إنه نصب على الحال لأنه نعت للنكرة قدّم عليها. والقائلون بهذا القول فسروا الحسنة بالصحة والعافية وضم بعضهم إليها الأمن والكفاية. ورجح الأوّل بأن هذه الأمور قد تحصل للكفار على الوجه الأتم فكيف تجعل جزاء للمؤمن المتقي. وقيل : هي الثناء الجميل. وقيل : الظفر والغنيمة. وقيل : نور القلب وبهاء الوجه. وفي قوله ) وأرض الله واسعة ( إشارة إلى أن أسباب التقوى إن لم تتيسر في أرض وجبت الهجرة إلى أرض يتيسر ذلك فيها فيكون كقوله ) ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) [ النساء : 97 ] وعن أبي مسلم : هي أرض الجنة لأنه حين بين أن المتقي له الجنة وصف أرض الجنة بالسعة ترغيباً فيها كما قال ) نتبوّأ من الجنة حيث نشاء ) [ الزمر : 74 ] ( إنما يوفّى الصابرون ( على مفارقة الأوطان وتجرّع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وتكاليفه ) أجرهم بغير حساب ( أي لا يحاسبون أو بغير حصر. قال جار الله : عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صباً ) ثم تلا الآية وقال : حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل. النوع الثاني ) قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين ( قال مقاتل : إن كفار قريش قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به ؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدّك وسادة قومك يعبدون اللات والعزى ؟ فأنزل الله هذه الآية. وكأنه إشارة إلى الأمر المذكور في أوّل السورة ) فاعبد الله مخلصاً له الدين ( وقوله ( وأمرت لأن أكون ( ليس بتكرار لأن اللام للعلة والمأمور به محذوف يدل عليه ما قبله والمعنى : أمرت بإخلاص الدين وأمرت بذلك لأجل أن أكون أوّل المسلمين أي مقدّمهم وسابقهم في الدارين فنقول : فائدة التكرار أن ذكر التعليل مع نوع تأكيد. وقيل : اللام بدل من الباء أي أمرت بأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ليصح الاقتداء بي في قولي وفعلي. ولعل الإخلاص إشارة إلى عمل القلب والإسلام إلى عمل الجوارح ، فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسر الإسلام في خبر جبريل بالأعمال الظاهرة ، وفيه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ليس مثل الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلونها بل له سابقة في كل ما يأمر به وينهى عنه. وحين بين أن الله أمره بإخلاص القلب وبأعمال الجوارح وكان الأمر يحتمل الوجوب والندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال ) قل إني أخاف ( الآية. وذلك أن خوف العقاب لا يترتب إلا على ترك الواجب ، وإذا كان النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) مع جلالة قدره خائفاً من العصيان فغيره أولى. قيل : المراد به أمته. وقيل : نزلت قبل أن يغفر الله له. وقالت الأشاعرة : فيه دليل على أن صاحب الكبيرة(5/618)
" صفحة رقم 619 "
قد يعفى عنه لأنه بين أن اللازم عند حصول المعصية خوف العقاب لا نفس العقاب. النوع الثالث ) قل الله أعبد مخلصاً له ديني ( وليس بتكرار لما قبله وذلك أن الأوّل للإخبار بأنه مأمور من جهة الله بالعبادة الخالصة عن الشرك الجلي والخفي ، وهذا إخبار بأن الذي أمر به فإنه قد أتى به على أكمل الوجوه ، ولهذا أخر الفعل وضم إلى مضمونه التهديد بقوله ) فاعبدوا ما شئتم من دونه ( النوع الرابع ) قل أن الخاسرين ( الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه هم ) الذين خسروا أنفسهم ( لوقوعها في هلكة الإخلاد بعذابها ) و ( خسروا ) أهليهم ( لأن أهلهم وأولادهم إن كانوا في النار فلا فائدة لهم منهم لأنهم محجوبون عنهم ، أو لأن كلاً منهم مشغول بهمه وإن كانوا من أهل الجنة فما أبعد ما بينهم. وقيل : أهلوهم الحور العين في الجنة لو آمنوا. قال أهل البيان : في قوله ) ألا ذلك هو الخسران المبين ( تفظيع لشأنهم حيث استأنف الجملة وصدّرها بحرف التنبيه ووسط الفصل وعرف الخسران ووصفه بالمبين. قلت : التحقيق فيه أن للإنسان قوّتين يستكمل بإحداهما علماً وبالأخرى عملاً. والآلة الواسطة في القسم الأول هي العلوم المسماة بالبديهيات وترتيبها على الوجه المؤدّي إلى النتائج وهو بمنزلة الربح يشبه تصرف التاجر في رأس المال بالبيع والشراء ، والآلة في القسم العملي هي القوى البدنية وغيرها من الأسباب الخارجية المعينة عليها ، واستعمال تلك القوى في وجوه أعمال البر التي هي بمنزلة الربح يشبه التجارة فكل من أعطاه الله العقل والصحة والتمكين. ثم إنه لم يستفد منها معرف الحق ولا عمل الخير فإذا مات فقد فات ربحه وضاع رأس ماله ووقع في عذاب الجهل وألم البعد عن عالمه والقرب مما يضاده أبد الآباد ، فلا خسران فوق هذا ولا حرمان أبين منه وقد أشار إلى هذا بقوله ) لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ( أي أطباق من النار من ظلل الآخرين فإن لجهنم دركات كما أن للجنة درجات. وقال المفسرون : سمى النار ظلة بغلظها وكثافتها فصارت محيطة بهم من جميع الجوانب حائلة من النظر إلى شيء آخر. قلت : إن كانوا في كرة النار فوجهه ظاهر ونظيره في الأحوال النفسانية إحاطة نار الجهل والحرص وسائر الأخلاق الذميمة بالإنسان وقد مرّ في قوله ) لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ) [ الأعراف : 41 ] ( يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) [ العنكبوت : 55 ] وقيل : الظلة ما علا الإنسان فسمى ما تحتهم بالظلة إطلاقاً لأحد الضدين على الآخر ، أو لأن التحتانية مشابهة للفوقانية في الحرارة والإحراق و ) ذلك ( العذاب المعد للكفار ) يخوّف الله به عباده ( المؤمنين وقد مر أن العباد في القرآن إذا كان مضافاً إلى ضمير الله اختص بأهل الإيمان عند أهل السنة. وعندي أنه لا مانع من(5/619)
" صفحة رقم 620 "
التعميم ههنا. ثم عقب الوعيد بالوعد قائلاً ) والذين اجتنبوا الطاغوت ( وهو كل ما عبد من دون الله كما مر في آية الكرسي. وقوله ( أن يعبدوها ( بدل اشتمال منه ) وأنابوا إلى الله ( رجعوا بالكلية إلى تحصيل رضاه ، فالأول تخلية ، والثاني تحلية ، وحقيقة الإعراض عما سوى الله والإقبال على الله هي أن يعرف أنّ كل ما سواه فإنه ممكن الوجود لذاته فقير في نفسه وهو سبحانه واجب الوجود لذاته غني على الإطلاق لا حكم إلا له ولا تدبير إلا به وبأمره. ) لهم البشرى ( أي هم مخصوصون بالبشارة المطلقة وهي الخبر الأول الصدق الموجب للسرور بزوال المكاره وحصول الأماني ووقتها الموت ) الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ) [ النحل : 32 ] وعند دخول الجنة ) والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم ) [ الرعد : 24 ] وعند لقاء الله ) تحيتهم يوم يلقونه سلام ) [ الأحزاب : 44 ] وسماع هذه البشارات في الدنيا على ألسنة الرسل لا يخرجها عن كونها بشارة في هذه الأوقات لأنها في الأول عامة للمكلفين مبهمة فيهم ولا تتعين إلا في هذه الأحوال. وقيل : هذه أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها أو سمعوها نسأل الله الفوز بها. قال ابن زيد : نزلت في ثلاثة نفر كانوا يقولون في الجاهلية لا إله إلا الله : زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي. وعن ابن عباس أن أبا بكر آمن بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجاءه عثمان وعبد الرحمن وطلحة والزبير وسعد وسعيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فأنزل الله ) فبشر عبادي الذين يستمعون القول ( أي من أبي بكر ) فيتبعون أحسنه ( وهو لا إله إلا الله. وقال أهل النظم : لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأقلون جعل الحكم أعم إظهاراً للرحمة فقال : كل من اختار الأحسن في كل باب كان من زمرة السعداء أهلاً للبشارة. وقال جار الله : أراد بعباده الذين يستمعون القول الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم أي هم الذين ضموا هذه الخصلة إلى تلك ، ولهذا وضع الظاهر في موضع المضمر. وفي الآية دلالة على وجوب النظر والاستدلال وأنه إذا اعترض أمران واجب وندب ، فالأولى اختيار الواجب. وكذا الكلام في المباح والندب ، فالأولى اختيار الواجب. وكذا الكلام في المباح والندب كالقصاص والعفو وكل ما هو أحوط في الدين. مثاله في الأصول القول بأن للعالم صانعاً حياً قديماً عليماً قادراً متصفاً بنعوت الجلال والإكرام وصفات الكمال والتمام ، أولى وأحوط من إنكاره. وكذا الإقرار بالبعث والجزاء أحوط من الإنكار ، وفي الفروع الصلاة المشتملة على القراءة والتشهد والتسليم وغيرها من الأركان والأبعاض المختلف فيها أجود من الصلاة الفارغة عنها أو عن بعضها. وقال العارفون : يسمعون من النفس الدعوة إلى الشهوات ، ومن الشيطان قول الباطل(5/620)
" صفحة رقم 621 "
والغرور ، ومن الملك الإلهامات ، ومن الله ورسوله الدعاء إلى دار السلام ، فيقبلون كلام الله ورسوله والخواطر الحسنة دون غيرها. وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم فيستمع الحديث فيه محاسن ومساوٍ فيحدث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه. ومن الواقفين من يقف على قوله ) فبشر عبادي ( ويبتدئ ) الذين يستمعون ( وخبره ) أولئك الذين هداهم ( وهو إشارة إلى الفاعل ) وأولئك هم أولو الألباب ( إشارة إلى أن جواهر نفوسهم قابلة لفيض الهداية بخلاف من لم يكن له قابلية ذلك وهو قوله ) أفمن حق عليه كلمة العذاب ( قال جار الله : أصل الكلام أمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه فهي جملة شرطية دخل عليها الهمزة للإنكار ، وكررت الفاء الثانية للجزاء تأكيداً لمعنى الإنكار. ووضع من في النار موضع الضمير تصريحاً بجزائهم ، وأما الفاء الأولى فللعطف على محذوف يدل عليه سياق الكلام تقديره : أأنت مالك أمرهم ؟ فمن حق إلى آخره. وجوز أن يكون الكلام بعد المحذوف جملتين شرطية جزاؤها محذوف أيضاً ثم حملية والتقدير : أفمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تخلصه أفأنت تنقذ من في النار ؟ قلت : فالكلام على هذا التقدير يشتمل على أربع جمل : ثنتان بعد همزتي الإنكار محذوفتان والباقيتان ظاهرتان. ومن زعم أن الفاء بعد الهمزة لمزيد الإنكار لا للعطف فمجموع الآية شرطية كما ذكرنا ، أو هي مع حملية ثم صرح بجزاء المتقين فقال ) لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف ( وهو كالمقابل لما مر في وعيد الكفار ) لهم من فوقهم ظلل ( ومعنى قوله ) مبنية ( والله أعلم. أنها بنيت بناء المنازل التي على الأرض وسوّيت تسويتها وجعلت متساوية في أسباب النزاهة من الأشجار والأنهار لا مثل أبنية الدنيا فان الفوقاني منها يكون أضعف من التحتاني وأخف ، والتحتاني قد يجري من تحتها الأنهار ، وأما الفوقاني فلا يمكن فهيا ذلك. قال حكماء الإسلام : الغرف المبنية بعضها فوق بعض هي العلوم المكتسبة المبنية على الفطريات ، وأنها تكون في المتانة واليقين كالعلوم الغريزية البديهية. وحين وصف الآخرة بصفات توجب الرغبة فيها أراد أن يصف الدنيا بما يقتضي النفرة عنها فقدم لذلك مقدمة يستدل بها على حقية الصانع أيضاً فقال ) ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ( أي أدخله في الأرض حال كون ذلك الماء ) ينابيع ( مثل الدم في العروق. والينابيع جمع ينبوع وهو كل ماء يخرج من الأرض. وقيل : هو الموضع الذي يخرج منه الماء كالعيون والآبار فينصب على الظرف. وقوله ( ثم يخرج ( على لفظ المستقبل تصوير لتلك الحالة العجيبة الشأن وهي إخراج النبت المختلف الألوان والأصناف والخواص بسبب الماء المخالط للأرض ) ثم يهيج ( أي يتم جفافه. قال الأصمعي : لأنه إذا(5/621)
" صفحة رقم 622 "
تم جفافه جاز له أن يثور عن منابته ويذهب ) ثم يجعله حطاماً ( أي فتاتاً متكسراً ) إن في ذلك ( الذي ذكر من إنزال الماء وإخراج الزرع بسببه ) لذكرى ( لتذكيراً أو تنبيهاً على وجود الصانع ) لأولي الألباب ( وفيه أن الإنسان وإن طال عمره فلا بدّ له من الانتهاء إلى حالة اصفرار اللون وتحطم الأجزاء والأعضاء بل إلى الموت والفناء. وإنما قال ههنا ) ثم يجعله حطاماً ( وفي الحديد ) ثم يكون حطاماً ) [ الحديد : 20 ] لأن الفعل هناك مسند إلى النبات وهو قوله ) أعجب الكفار نباته ( وههنا مسند إلى الله من قوله ) أنزل ( إلى آخره. وحين بالغ في تقرير البيانات الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله والإعراض عن الدنيا الفانية بيّن أن ذلك البيان لا يكمل الانتفاع به إلا إذا شرح الله صدره ونور قلبه فقال ) أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ( ولا يخفى ما في لفظه ( على ) من فائدة الاستعلاء والتمكن كما مر في قوله ) أولئك على هدى ) [ البقرة : 5 ] والخبر محذوف كما ذكرنا في قوله ) أمن هو قانت ( يعني هذا الشخص المنشرح الصدر كمن طبع الله على قلبه يدل عليه ما بعده ) فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ( أي من أجل سماع القرآن. وإنما عدى ب ( من ) لأن قسوة القلب تدل على خلوه من فوائد القرآن ويجوز أن يكون ( من ) للتعليل وذلك أن جواهر النفوس مختلفة فبعضها تكون مشرقة بنور الله يزيدها نور القرآن بهاء وضياء ، بعضها تكون مظلمة كدرة لا ينعكس نور الذكر إليها ولا تظهر صور الحق فيها كالمرآة الصدئة. ثم أكد وصف القرآن وكيفية تأثيره في النفوس بقوله ) الله نزل أحسن الحديث ( عن ابن عباس وابن مسعود أن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ملوا ملة فقالوا له : حدثنا ، فنزلت الآية. والحديث كلام يتضمن الخبر عن حال متقدمة ووصفه بالحدوث من حيث النزول لا ينافي قدمه من حيث إنه كلام نفسي. ووجه كونه أحسن لفظاً ومعنى مما لا يخفى على ذي طبع فضلاً عن ذي لب. وقوله ( كتاباً ( بدل من أحسن أو حال موطئة. ومعنى ) متشابهاً ( أنه يشبه بعضه بعضاً في الإعجاز اللفظي والمعنوي والنظم الأنيق والأسلوب العجيب والاشتمال على الغيوب وعلى أصول العلوم كما مر في أوّل ( البقرة ) في تفسير قوله ) وإن كنتم في ريب ) [ البقرة : 23 ] وقيل : هو من قوله ) وأخر متشابهات ) [ آل عمران : 7 ] فيكون صفة لبعض القرآن. وقيل : يشبه اللفظ اللفظ والمعنى مختلف. وقوله ( مثاني ( جميع مثنى ومثنى بمعنى مكرر لما ثنى من قصصه وأحكامه ومواعظه ، أو لأنه يثني في التلاوة فلا يورث ملالاً كقوله ( ولا يخلق على كثرة الرد ) وقيل : المثاني لآي القرآن كالقوافي للشعر. وقد مر بعض هذه الأقوال في مقدمات الكتاب وفي سورة الحجر في قوله ) ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ) [ الحجر : 87 ](5/622)
" صفحة رقم 623 "
ومعنى اقشعرار الجلد تقبضه. قال جار الله : تركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس مضموماً إليها الراء ليصير رباعياً دالاً على معنى زائد ، وهو تمثيل لشدة الخوف أو حقيقة سببه الخوف. قال المفسرون : أراد أنهم عند سماع آيات العذاب يخافون فتقشعر جلودهم وعند سماع آيات الرحمة والإحسان أو تذكرهم لرأفته وأن رحمته سبقت غضبه تلين جلودهم وقلوبهم. ومعنى ( إلى ) في قوله ) إلى ذكر الله ( هو أنه ضمن لأن معنى سكن واطمأن. وقال العارفون : إذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا وإن راح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا. وقال أهل البرهان : إذا اعتبر العقل موجوداً لا أول له ولا آخر لا حين ولا جهة وقع في بادية التحير والهيبة ، وإذا اعتبر الدلائل القاطعة على وجود موجود واجب لذاته واحد في صفاته وأفعاله اطمأن قلبه إليه. قال جار الله : إنما ذكرت الجلود أوّلاً وحدها لأن الخشية تدل على القلوب لأنها محل الخشية فكأنه قيل : تقشعر جلودهم بعد خشية قلوبهم ، ثم إذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والرحمة استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة ليناً في جلودهم. ويحتمل أن يقال : الماشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف ، ومحل المكاشفات هو القلب ، فلذلك اختص ذكر القلب بجانب الرجاء. ثم أشار إلى الكتاب المذكور بقوله ) ذلك هدى الله ( كقوله ) هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ]. ثم بين أن القاسية قلوبهم حالين : أما في الدنيا فالضلال العام وهو قوله ) ومن يضلل الله فما له من هاد ( وأما في الآخرة فقوله ) أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب ( أي شدّته والخبر محذوف وهو كمن أمن العذاب واتقاء العذاب بوجهه إما حقيقة بأن تكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه ، وإما أن يكون كناية عن عجزه عن الاتقاء وذلك أن الإنسان إذا وقع في نوع من العذاب فإنه يجعل يديه وقاية لوجهه الذي هو أشرف الأعضاء ، فكأنه قيل : لا يقدرون على الاتقاء إلا بالوجه ، والاتقاء بالوجه غير ممكن فلا اتقاء أصلاً ) وقيل للظالمين ( القائلون هم خزنة النار. قوله ) كذب الذين من قبلهم ( تصوير لحال أمثالهم من الأمم الخالية بيناهم آمنون إذ أخذهم العذاب والخزي في الدنيا كالمسخ والقتل ونحوهما. ثم بين بقوله ) ولقد ضربنا ( إلى آخر الآيتين أن هذه البيانات بلغت في الكمال إلى حيث لا مزيد عليه. ثم ضرب من أمثال القرآن مثلاً لقبح طريقة أهل الشرك وهو رجل من المماليك قد اشترك ) فيه شركاء متشاكسون ( أي كلهم يسيء خلقه في استخدامه أو هم مختلفون في ذلك يأمره هذا بشيء وينهاه الآخر عن ذلك الشيء بعينه. والشكاسة سوء الخلق والاختلاف. ) ورجلاً سالماً لرجل ( أي خالصاً من الشرك. ومن قرأ بغير ألف فعلى حذف المضاف أي ذا سلامة وذا خلوص من الشركة. وقال جار الله : وإنما(5/623)
" صفحة رقم 624 "
جعله رجلاً ليكون أفطن لما شقي به أو سعد فان المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك. قلت : لا ريب أن الرجل أصل في كل باب فجعله مضرب المثل أولى نظيره ) وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم ) [ النحل : 76 ] ثم استفهم على سبيل الإنكار بقوله ) هل يستويان مثلاً ( وهو تمييز أي هل يستوي حالاهما وصفتاهما. واقتصر في التمييز على الواحد لقصد الجنس والمراد تجهيل من يجعل المعبود متعدداً ، فليس رضا واحد كطلب رضا جماعة مختلفين. وحاصله يرجع إلى دليل التمانع كما مرّ في قوله ) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [ الأنبياء : 22 ] وقال أهل العرفان : الشركاء المتشاكسون تجاذب شغل الدنيا وشغل العيال وغير ذلك من الأشغال ، فأين ذلك الرجل ممن ليس له في الدنيا نصيب ولا له في الخلق نسيب وهو عن الآخرة غريب وإلى الله قريب. قوله ) الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( كما مرّ في ( لقمان ) قوله ) إنك ميت ( وجه النظم أنه سبحانه كأنه قال إن هؤلاء الأقوام إن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة بسبب استيلاء الحرص والحسد عليهم في الدنيا ، فلا تبال يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضاً يؤلون إلى الموت فلو أنهم يتربصون بك الموت فإن الموت يعم الكل فلا معنى لشماتة المرء بعد وفاة صاحبه ) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ( تحتج عليهم بأنك قد بلغت وهم يعتذرون بما لا طائل تحته ، وقد يخاصم الكفار بعضهم بعضاً حتى يقال لهم ) لا تختصموا لديّ ) [ ق : 28 ] وقد يقع الاختصام بين أهل الملة في الدماء والمظالم التي بينهم والله أعلم. تم الجزء الثالث والعشرون ، وبه يتم المجلد الخامس من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري ، ويليه المجلد السادس ، وأوله : ( فمن أظلم ممن كذب على الله. .. ((5/624)
" صفحة رقم 3 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الرابع والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
( الزمر : ( 32 - 75 ) فمن أظلم ممن . . . .
" فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها(6/3)
" صفحة رقم 4 "
الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد(6/4)
" صفحة رقم 5 "
ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين "
( القراآت )
عباده ( على الجمع : يزيد وحمزة وعلي وخلف. ) أرادني الله ( بسكون الياء : حمزة. ) كاشفات ( بالتنوين ) ضره ( بالنصب وهكذا ) ممسكات رحمته ( أبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون : بالإضافة فيهما ) قضى عليها ( مجهولاً ) الموت ( بالرفع : حمزة وعلي وسهل ويعقوب ، والوقف للجميع بالياء لا غير. ) يا حسرتاي ( بياء بعد الف : يزيد. الآخرون : بالألف وحدها ) وينجي الله ( بالتخفيف : روح ) بمفازاتهم ( على الجمع : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل ) تأمرني ( بتشديد النون وفتح الياء : ابن كثير ) تأمرونني ( بنونين وسكون الياء : ابن عامر ) تأمروني ( بنون واحدة وفتح الياء : أبو جعفر ونافع. الباقون : بتشديد النون وسكون الياء. ) لنحبطن ( بالنون من الإحباط ) عملك ( بالنصب : يزيد. الآخرون : على الغيبة وفتح العين ) عملك ( بالرفع ) وسيق ( بضم السين وكسر الياء : ابن عامر وعلي ورويس ) فتحت ( بالتخفيف : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل في الحرفين. الوقوف : ( إذ جاءه ( ط ) للكافرين ( 5 ) المتقون ( 5 ) عند ربهم ( ط ) المحسنين ( 5 ج لاحتمال تعلق اللام بمحذوف كما يجيء. ) يعملون ( 5 ) عبده ( ط ) من دونه ( ط ) من هاد ( 5 ج ) مضل ( ط ) انتقام ( 5 ) لقولن الله ( ط ) رحمته ( ط ) حسبي الله ( ط ) المتوكلون ( 5 ) عامل ( ج لابتداء التهديد مع فاء التعقيب ) تعلمون ( 5 لا ) مقيم ( 5 ) بالحق ( ج لاختلاف الجملتين ) فلنفسه ( ج ) عليها ( ج للابتداء بالنفي مع العطف ) بوكيل ( 5 ج ) في منامها ( ج ) مسمى ( ط ) يتفكرون ( 5 ) شفعاء ( ط ) يعقلون ( 5 ) جميعاً ( ط ) والأرض ( ط بناء على أن ( ثم ) لترتيب الأخبار ) ترجعون ( 5 ) بالآخرة ( ط ج فصلاً بين الجملتين مع اتفاقهما نظماً ) يستبشرون ( 5 ) يختلفون ( 5 ) القيامة ( ط ) يحتسبون ( 5 ) يستهزؤن ( 5 ) دعانا ( ز فصلاً بين تناقض الحالين مع اتفاق الجملتين ) منا ( لا لأن ما بعده جواب ) على علم ( ط ) لا يعلمون ( 5 ) يكسبون ( 5 ) ما كسبوا ( الأولى ط ) ما كسبوا ( الثانية لا لأن الواو للحال ) بمعجزين ( 5 ) ويقدر ( ط ) يؤمنون ( 5 ) رحمة الله ( ط ) جميعاً ( ط ) الرحيم ( 5 ) لا تنصرون ( 5 ) لا تشعرون ( 5 لا ) الساخرين ( 5 لا ) المتقين ( 5 لا ) المحسنين ( 5 ) الكافرين ( 5 ) مسودّة ( ط ) للمتكبرين ( 5 ) بمفازتهم ( ز لاحتمال الاستئناف والحال أوجه(6/5)
" صفحة رقم 6 "
) يحزنون ( 5 ) كل شيء ( ز للفصل بين الوصفين تعظيماً مع اتفاق الجملتين ) وكيل ( 5 ) والأرض ( ط ) الخاسرون ( 5 ) الجاهلون ( 5 ) من قبلك ( ج لحق القسم المحذوف ) الخاسرين ( 5 ) الشاكرين ( 5 ) بيمينه ( ط ) يشركون ( 5 ) من شاء الله ( ج بياناً لتراخي النفخة الثانية عن الأولى مع اتفاق الجملتين ) ينظرون ( 5 ) لا يظلمون ( 5 ) يفعلون ( 5 ) زمراً ( ط ) هذا ( ط ) الكافرين ( 5 ) فيها ( ج ) المتكبرين ( 5 ) زمراً ( ط ) خالدين ( 5 ) نشاء ( ج ) العاملين ( 5 ) ربهم ( ج [ ن الماضي لا ينعطف على المستقبل ولا حتمال جعله حالاً وقد قضى بين الزمرين ) العالمين ( 5. التفسير : لما ضرب لعبدة الأصنام مثلاً أشار إلى نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو أنهم يضمون على على كذبهم على الله بإضافة الشريك والولد إليه تكذيبهم بالصدق يعني الأمر الذي هو الصدق بعينه أي القرآن. ومعنى ) إذ جاءه ( أنه لم يراع طريقة أهل الإنصاف والتدبر لكنه لما سمع به فاجأه بالتكذيب. واللام في قوله ) للكافرين ( لهؤلاء المعهودين الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق. قال جار الله : ويحتمل أن يكون للعموم فيشملهم وغيرهم من الكفرة. وحين بين وعيدهم عقبه بوعد الصادقين المصدّقين وهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه. وقيل : الرسول وأبو بكر والتعميم أولى لقوله ) أولئك هم المتقون ( قوله ) ليكفر ( ظاهره تعلقه ب ) يشاؤن ( فتكون لام العاقبة. ويحتمل تعلقه بمحذوف أي جزاؤهم وإكرامهم لأجل ذلك. قال جار الله : الأسوأ ههنا ليس للتفضيل وإنما هو كقولهم : الأشج أعدل بني مروان. وفائدة صيغة التفضيل استعظامهم المعصية حتى إن الصغائر عندهم أسوأ أعمالهم. وقال بعض المفسرين : أراد به الكفر السابق الذي يمحوه الإيمان. واستدل مقاتل وكان شيخ المرجئة بهذه الآية فإنها تدل على أن من صدّق الأنبياء فإنه تعالى يكفر عنه أسوأ الأعمال التي أتى بها بعد الإيمان والوصف بالتقوى وفيه نظر .
ثم إنهم كانوا يخوّفون المؤمنين والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) برفض آلهتهم وتحقيرها .
ويروى أنه بعث خالداً إلى العزى ليكسرها فقال له سادنها : أحذركها يا خالد ، إن لها شدّة .
فعمد خالد إليها فهشم أنفها فأنزل الله تعالى ) أليس الله بكاف عبده ( أي نبيه بدليل قوله ) ويخوّفونك ( ومن قرأ على الجمع فهي للعموم .
والآيات إلى قوله ) بوكيل ( ظاهرة مع أنها تعلم مما سبق ذكرها مراراً .
والعذاب الخزي عذاب يوم بدر ، والعذاب المقيم العذاب الدائم في الآخرة ، ومدار هذه الآي على تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم أكد كون الهداية والضلال من الله تعالى بقوله ) والله يتوفى الأنفس ( وذلك أن الحياة واليقظة تشبه الهداية ، والموت والنوم يضاهي الضلال .
فكما أن الحياة والموت واليقظة والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله وتكوينه(6/6)
" صفحة رقم 7 "
فكذلك الهداية والضلال ، والعارف بهذه الدقيقة عارف بسر الله في القدر ، ومن عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ، ففيه تسلية أخرى للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل في وجه النظم : إنه تعالى أراد أن يذكر حجة أخرى على إثبات الإله العليم القدير ليعلم أنه أحق بالعبادة من كل ما سواه فضلاً عن الأصنام .
ومعنى الآية أن الله تعالى يتوفى الأنفس حين موتها .
قال جار الله : أراد بالأنفس الجملة كما هي لأنها هي التي تنام وتموت ) و ( يتوفى الأنفس ) التي لم تمت في منامها ( أي يتوفاها حيت تنام تشبيهاً للنائمين بالموتى كقوله ) وهو الذي يتوفاكم بالليل ) [ الأنعام : 60 ] والحاصل أنه يتوفى مستعمل في الأول حقيقة وفي الثاني مجازاً ، ولم يجوّزه كثير من أئمة الأصول .
وقال الفراء : ( في ) متعلقة بالموت وتقديره : ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها عند انقضاء حياتها .
ثم بين الفرق بين الحالين بقوله ) فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الآخرى إلى أجل مسمى ( من غير غلط .
وقال حكماء الإسلام : النفس الإنسانية جوهر مشرق نوراني إذا تعلق بالبدن حصل ضوءه في جميع الأعضاء ظاهرها وباطنها وهو الحياة واليقظة .
وأما في وقت النوم فإن ضوءه لا يقع إلا على باطن البدن وينقطع عن ظاهره ، فتبقى نفس الحياة التي بها النفس وعمل القوى البدنية في الباطن ويفنى ما به التمييز والعقل ، وإذا نقطع هذا الضوء بالكلية عن البدن فهو الموت ، ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا من القدير الخبير الذي لا شريك له في ملكه ولا نظير ، ولهذا ختم الآية بقوله ) إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ( ثم كان لمشرك أن يقول : إنما نعبد الأصنام لأنها تماثيل أشخاص كانوا عند الله مقربين فنحن نرجو شفاعتهم فأنكر الله عليهم بقوله ) أم اتخذوا من دون الله ( أي من دون إذنه ) شفعاء ( و ( أم ) بمعنى ( بل ) ، والهمزة الإنكارية وتقرير الإنكار أن هؤلاء الكفار إما أن يطعموا في شفاعة تلك التماثيل وإما في شفاعة من هذه التماثيل تماثيلهم .
والأول باطل لأن هذه الأصنام جمادات لا تملك شيئاً ولا تعقل وأشار إلى هذا المعنى بقوله ) قل أولو كانوا ( يعني أيشفعون ولو كانوا بحيث ) لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ( والثاني أيضاً مستحيل لأن يوم القيامة لا يشفع أحد إلا بإذن الله وهو المراد بقوله ) قل لله الشفاعة ( وانتصب ) جميعاً ( على الحال .
ولو كان تأكيداً للشفاعة لقيل جمعاء .
وحين قرر أن لا شفاعة لأحد إلا بإذن الله برهن على ذلك بقوله ) له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون ( يوم القيامة ولا ملك في ذلك اليوم إلا له .
ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أفعال المشركين فقال ) وإذا ذكر الله وحده ( أي منفرداً ذكره عن ذكر آلهتهم(6/7)
" صفحة رقم 8 "
) واشمأزت ( أي نفرت وانقبضت منه ) قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دون ( سواء ذكر الله معهم أو لم يذكر ) إذا هم يستبشرون ( أي فاجأ وقت ذكر آلهتهم وقت استبشارهم .
وفي الآية طباق ومقابلة لأن الاستبشار أن يمتلىء قلبه سروراً حتى يظهر أثره في بشرته .
والاشمئزاز أن يمتلىء غماً وغيظاً حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه وذلك لاحتباس الروح الحيواني في القلب .
وقيل : معنى الآية أنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
نفروا لأن فيه نفياً لآلهتهم .
وفي بعض التفاسير أن هذا إشارة إلى ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما قرأ سورة النجم وسوس الشيطان إليه بقوله ( تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى ) فاستبشر المشركون وسجدوا .
ولما حكى عنهم هذا الجهل الغليظ والحمق الشديد وهو الاشمئزاز عن ذكره رأس السعادات وعنوان الخيرات والاستبشار بذكر أخس الأشياء وهي الجمادات ، أمر رسوله بهذا الدعاء ) اللهم فاطر السموات والأرض ( وهو وصفه بالقدرة التامة ) عالم الغيب والشهادة ( وهو نعته بالعلم الكامل .
وإنما قدم وصفه بالقدرة على وصفه بالعلم لأن العلم بكونه قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً كما بين في أصول الدين وقد أشرنا إلى ذلك فيما سلف ) أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ( يعني أن نفرتهم عن التوحيد وفرحهم بالشرك أمر معلوم الفساد ببديهة العقل فلا حيلة في إزالته إلا باستعانة القدير العليم .
عن عائشة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يفتتح صلاته بالليل فيقول : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك إنك لتهدي إلى صراط مستقيم .
وعن الربيع بين خثيم .
وكان قليل الكلام أنه أخبر بقتل الحسين عليه السلام وقالوا : الآن يتكلم ، فما زاد على أن قال آه أوقد فعلوا وقرأه هذه الآية .
وروي أنه قال على أثره : قتل من كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
يجلسه في حجره ويضع فاه في فيه .
ثم ذكر وعيدهم على ذلك المذهب الباطل بقوله ) ولو أن للذين ظلموا ( أي بالشرك وقد مر نظير الآية مراراً أوّلها في آل عمران وفيه قوله ) وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ( نظير قوله في أهل الوعد ) فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ) [ السجدة : 17 ] وقيل : عملوا أعمالاً حسبوها حسنات فإذا هي سيئات .
يروى أن محمد بن المنكدر جزع عند موته فقيل له في ذلك فقال : أخشى آية من كتاب الله وتلاها ، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم يكن في حسباني .
وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال : ويل لأهل الرياء .
ثم صرح بما أبهم قائلاً ) وبدا لهم سيئات ما كسبوا ( و ( ما ) موصولة أو مصدرية أي ظهرت لهم سيئات أعمالهم التي اكتسبوها ، أو سيئات كسبهم وذلك عند عرض الصحائف أو غير ذلك من المواقف .
وجوّز أهل البيان أن يراد بالسيئات جزاء أفعالهم كقوله ) وجزاء(6/8)
" صفحة رقم 9 "
سيئة سيئة ) [ الشورى : 40 ] وإنما قال في الجاثية ) سيئات ما عملوا ) [ الجاثية : 33 ] لمناسبة ألفاظ العمل ، وههنا قد وقع من ألفاظ الكسب .
ثم حكى نوعاً آخر من قبيح أعمالهم قائلاً ) فإذا مسّ الإنسان ( وقد مر مثله في مواضع أقر بها أول السورة إلا أنه ذكر ههنا بفاء التعقيب لأن هذا مناقض لما حكى عنهم عن قريب وهو أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده فكيف التجأوا إليه وحده عند ضر يصيبهم .
ومعنى ) أوتيته على علم ( أوتيته على علم لله بكوني مستحقاً لذلك أو على علم عندي صار سبباً لهذه المزية ككسب وصنعة ونحو ذلك .
ولا شك أن هذا نوع من الغرور فلهذا قال سبحانه ) بل هي فتنة ( بلاء واختبار يتميز بها الشاكر عن الكافر .
ذكر الضمير أوّلاً بتأويل المخوّل وأنثه ثانياً بتأويل النقمة .
ثم أشار بقوله ) قد قالها ( أي مجموع الكلمة التي صدرت عنهم و ) الذين من قبلهم ( هم قارون وقومه حيث ) قال إنما أوتيته على علم عندي ) [ القصص : 78 ] وقومه راضون بها فكأنهم قالوها .
ويجوز أن يكون في الأمم الخالية قائلون مثلها ) فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ( من الأموال أو من المعاصي وأشار بقوله ) هؤلاء ( إلى أهل مكة أصابهم قتل في يوم بدر وغيره وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين ثم بسط لهم فطروا سبع سنين فقيل لهم : أولم يعلموا أن الباسط والقابض هو الله وحده ؟ وذلك أن انتهاء الحوادث المتسلسلة يجب أن يكون إلى إرادته ومشيئته ، ولا ينافي هذا توسيط عالم الأسباب وأن يكون للكواكب كلها تأثيرات في عالمنا هذا بإذن مبدعها وفاطرها .
وقول الشاعر :
فلا السعد يقضي به المشتري
ولا النجس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السماء
وقاضي القضاة تعالى وجل
كلام من غير تبين واستبصار بسر القدر .
والذي يشكك به الإمام فخر الدين الرازي من أنه قد يولد إنسانان في طالع واحد ثم يصير أحدهما في غاية السعادة والآخر في غاية الشقاوة كلام غير محقق ، لأنا لو سلمنا وقوع ذلك فاختلاف القابل ، وليس تأثير العامل السماوي في طالع ولد السلطان مثله في طالع ولد الحمامي ، وكذا اختلافات أخر لا نهاية لها .
نعم لو ادعى عسر إدراك جميع الجزئيات فلا نزاع في ذلك إلا المنتفع بما ينتفع به عليه أن يقنع بما يصل إليه فهمه فلكل شيء حد وفوق كل ذي علم عليم .
وحين أطنب في الوعيد أردفه ببيان كمال رحمته ومغفرته فقال ) يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ( عن ابن عباس أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبدالأوثان وقتل النفس التي حرم الله لن يغفر له ونحن قد عبدنا الأوثان وقتلنا الأنفس فأنزل الله هذه الآية .
وعن ابن عمر : نزلت(6/9)
" صفحة رقم 10 "
في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين أسلموا ثم عذبوا فارتدوا فنزلت فيهم ، وكان عمر كاتباً فكتبها إلى عياش والوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا .
وقيل : نزلت بالمدينة في وحشيّ وقد سبق .
ثم إن قلنا : العباد عام فالإسراف على النفس يعم الشرك ، ولا نزاع أن عدم اليأس من الرحمة يكون مشروطاً بالتوبة والإيمان .
وإن قلنا : العباد المضاف في عرف القرآن مختص بالمؤمنين فالإسراف إما بالصغائر ولا خلاف في أنها مكفرة ما اجتنبت الكبائر ، وأما بالكبائر وحينئذ يبقى النزاع بين الفريقين .
فالمعتزلة شرطوا التوبة ، والأشاعرة العفو وقد مر مراراً .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية ) فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك ؟ فسكت ساعة ثم قال : ( ألا ومن أشرك ثلاث مرات ) رواه في الكشاف .
وعلى هذا يكون مخصوصاً بشرط الإيمان .
ولا يخفى ما في الآية من مؤكدات الرحمة : أوّلها تسمية المذنب عبداً والعبودية تشعر بالاختصاص مع الحاجة ، واللائق بالكريم الرحيم إفاضة الجود والرحمة على المساكين .
وثانيها من جهة الإضافة الموجبة للتشريف .
وثالثها من جهة وصفهم بقوله ) الذين أسرفوا على أنفسهم ( كأنه قال يكفيهم من تلك الذنوب عود مضرتها عليهم لا عليّ .
ورابعها نهاهم عن القنوط ، والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم .
وخامسها قوله ) من رحمة الله ( مع إمكان الاقتصار على الضمير بأن يقول ( من رحمتي ) فإيراد أشرف الأسماء في هذا المقام يدل على أعظم أنواع الكرم واللطف .
وسادسها تكرير اسم الله تعالى في قوله ) إن الله يغفر الذنوب جميعاً ( مع تصدير الجملة ب ( إن ) ، ومع إيراد صيغة المضارع المنبئة عن الاستمرار ، ومع تأكيد الذنوب بقوله ) جميعاً ( أي حال كونها مجموعة .
وسابعها إرداف الجملة بقوله ) إنه هو الغفور الرحيم ( ومع ما فيه من أنواع المؤكدات ومع جميع ذلك لم يخل الترغيب عن الترهيب ليكون رجاء المؤمن مقروناً بخوفه فقال ) وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ( وذلك أن الأشاعرة أيضاً يجوّزون أن يدخل صاحب الكبيرة النار مدة ثم يخرج منها .
ومع احتمال هذا العذاب يجب الميل إلى الإنابة والإخلاص لله في العمل على أن الخوف للتقصير في الطاعة يكفي عن الخوف للتصريح بالمعصية ، وللصديقين في الأول مندوحة عن الثاني .
وقال بعضهم : إن الكلام قد تم على الآية الأولى ، ثم خاطب الكفار بهذه الآيات من قوله ) وأنيبوا ( والمراد بالعذاب إما عذاب الدنيا كما للأمم السابقة ، وإما الموت لأنه أول أهوال الآخرة .
وقوله ( أحسن ما أنزل إليكم ( كقوله ) يستمعون القول فيتبعون أحسنه ( وقد مر الأقوال فيه .
وحين خوّفهم(6/10)
" صفحة رقم 11 "
بالعذاب حكى عنهم أنهم بتقدير نزول العذاب ماذا يقولون ؟ فذكر ثلاثة أنواع من الكلمات : الأوّل أن تقول والتقدير أنذرناكم العذاب المذكور كراهة أن تقول أو لئلا .
تقول .
قال جار الله : إنما نكرت نفس لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر ، أو نوع من الأنفس متميزة بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم .
وجوز أن يكون التنكير لأجل التكثير كقوله ( رب وفد أكرمته ) .
) يا حسرتا على ما فرّطت ( أي قصرت .
والتفريط إهمال ما ينبغي أن يقدّم ) في جنب الله ( واعلم أن بعض أهل التجسيم يحكمون بورود هذا اللفظ على إثبات هذا العضو لله سبحانه ولا يدري أنه بعد التسليم لا معنى للتفريط فيه ما لم يصر إلى التأويل .
والصحيح ما ذهب إليه علماء البيان أن هذا من باب الكناية ، لأنك إذا أثبت الشيء في مكان الرجل وحيزه وجانبه وناحيته فقد أثبته كقوله :
إن السماحة والمروءة والندى
في قبة ضربت على ابن الحشرج
وتقول : لمكانك فعلت كذا .
أي لأجلك .
وفي الحديث ( من الشرك الخفي أن يصلى الرجل لمكان الرجل ) ولا بد من تقدير مضاف سواء ذكر الجنب أو لم يذكر ، وللمفسرين فيه عبارات .
قال ابن عباس : أي ضيعت من ثواب الله .
وقال مقاتل : ضيعت من ذكر الله .
وقال مجاهد : في أمر الله .
وقال الحسن : في طاعة الله .
وعن سعيد بن جبير : في حق الله .
وقيل : في قرب الله من الجنة من قوله ) والصاحب بالجنب ) [ النساء : 36 ] وقال ابن جبير : في جانب هدى الله لأن الطريق متشعب إلى الهدى والضلال فكل واحد جانب وجنب .
والتحقيق في المسألة أن الشيء الذي يكون من لوازم الشيء ومن توابعه كأنه حدّ من حدوده وجانب من جوانبه ، فلما حصلت المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازماً للشيء وتابعاً له ، لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب في الآية على أحد هذه المضافات .
قال الشاعر وهو سابق البربري :
أما لتقين الله في جنب عاشق .
له كبد حرّى عليك تقطع ؟
ثم زاد في التحسر بقوله ) وإن كنت لمن الساخرين ( أي المستهزئين بالقرآن والنبي والمؤمنين .
( إن ) مخففة ، واللام فارقة ، والواو تحتمل العطف والحال .
قال قتادة .
لم يكفه ما ضيع من أمر الله حتى سخر من المصدّقين .
النوع الثاني من كلمات النفس المعذبة(6/11)
" صفحة رقم 12 "
) لو أن الله هداني ( يجوز أن يقول مرة هذا ومرة ذلك ، أو يكون قائل كل من الكلمتين بعد أخرى والمعنى لو أرشدني إلى دينه .
) لكنت من المتقين ( النوع الثالث قوله عند رؤية العذاب ) لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ( قال جار الله : لما حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب وهو الثاني ، صح أن تقع ( بلى ) جواباً له مع أنه غير منفي ، لأن قوله ) لو أن الله هداني ( في معنى ما هديت .
قلت : هذا يصلح جواباً للقولين الثاني والثالث أي بلى قد هديت بالوحي فكذبت واستكبرت عن قبوله فلا فائدة في الرجعة ، فإن عدم القابلية وكونه واقعاً في جانب القهر لن يزول عنه .
ثم صرح ببعض أنواع العذاب قائلاً ) ويوم القيامة نرى الذين كذبوا على الله ( وقوله ( وجوههم مسودّة ( مفعول ثان إن كانت الرؤية القلبية وإلا فموضعه نصب على الحال .
والظاهر أن الكذب على الله هو المشار إليه في قوله ) فكذبت بها ( ويشمل الكذب عليه باتخاذ الشريك والولد ، ونسبته إلى العجز عن الإعادة ، ونسبة القرآن إلى كونه مختلفاً ونحو ذلك .
وأما المسائل الاجتهادية التي يختلف فيها كل فريق إسلامي ولا سيما الفروعية ، فالظاهر أنها لا تدخل فيها والله أعلم .
وأما سواد الوجه فإن كان في الصورة فظاهر ويكون كسائر أوصاف أهل النار من زرقة العيون وغيره ، وإن كان المراد به الخجل وشدّة الحياء ونحو ذلك فالله تعالى أعلم بمراده .
ولا ريب أن الجهل والإخبار على خلاف ما عليه الأمر ونحو ذلك من الأخلاق الذميمة كلها ظلمات كما أن العلم والصدق ونحوهما أنوار كلها وفي ذلك العالم تظهر حقيقة كل شيء على المكلف ) هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ) [ يونس : 30 ] .
ثم حكى حال المتقين يومئذ قائلاً ) وينجي الله الذين اتقوا ( الشرك أو المعاصي كبائر وصغائر ) بمفازتهم ( هي ( مفعلة ) من الفوز .
فمن وجد فلأنه مصدر ، ومن جمع فلاختلاف أجناسها فلكل متق مفازة وهي الفلاح .
ولا شك أن الباء هي التي في نحو قولك ( كتب بالقلم ) .
فقال جار الله : تارة تفسير المفازة هي قوله ) لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ( فلا محل للجملة لأنه كأنه قيل : وما مفازتهم ؟ فقيل : ( لا يمسهم السوء ( أي في أبدانهم .
) ولا هم يحزنون ( يتألمون قلباً على ما فات .
وقال : أخرى يجوز أن يراد بسبب فلاحهم أو منجاتهم وهو العمل الصالح ، وذلك أن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة .
ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه مفازة لأنه سببها .
وعلى هذه الوجوه يكون قوله ) لا يمسهم ( منصوباً على الحال .
وعن الماوردي أن المفازة ههنا البرية أي بما سلكوا مفازة الطاعات الشاقة وهو غريب .
وحين تمم الوعد والوعيد أتبعه شيئاً من دلائل(6/12)
" صفحة رقم 13 "
المالكية قائلاً ) الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ( وقد مر في ( الأنعام ) .
ثم أكده بقوله ) له مقاليد السموات والأرض ( وهو كقوله في ( الأنعام ) ) وعنده مفاتح الغيب ) [ الآية : 59 ] والمقاليد المفاتيح أيضاً فقيل : لا واحد لها من لفظها .
وقيل : مقليد أو مقلد أو إقليد .
والظاهر أنه في الأصل فارسي والتعريب جعله من قبيل العربي .
ويروى أنه سأل عثمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن تفسير الآية فقال : يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك ، تفسير المقاليد لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير .
وقال العلماء : يعني أن هذه الكلمات مفاتيح خيرات السموات والأرض وقد يوحد الله بها ويمجد .
قال أهل العرفان : بيده مفاتيح خزائن اللطف والقهر ، فيفتح على من يشاء أبواب خزائن لطفه في قلبه فتخرج ينابيع الحكمة وجواهر الأخلاق الحسنة وللآخر بالضد .
قال في الكشاف قوله ) والذين كفروا ( متصل بقوله ) وينجي ( وما بينهما اعتراض دل على أنه خالق الأشياء كلها مهيمن عليها ، لا يخفى عليه أعمال المكلفين وجزاؤها فإن كل شيء في السموات والأرض فإن مفتاحه بيده .
هذا والظاهر أنه لا حاجة إلى هذا التقدير البعيد حتى يعطف جملة اسمية على جملة فعلية .
والأقرب أنه لما وصف نفسه بصفات المالكية والقدرة ذكر بعده ) والذين كفروا ( بدلائل ملكه وملكه مع كونها ظاهرة باهرة فلا أخسر منهم لأنهم عمي في الدارين فاقدون لأشرف المطالب ولذلك وبخ أهل الشرك بقوله ) قل أفغير الله ( أي قل لهم بعد هذا البيان أفغير الله وهو منصوب ) بأعبد ( و ) تأمروني ( اعتراض والمعنى أفغير الله ) أعبد ( بأمركم .
وذلك أن المشركين دعوه إلى دين آبائه .
وجوز جار الله : أن ينصب بما يدل عليه جملة قوله ) تأمروني أعبد ( لأنه في معنى تعبدونني غير الله وتقولون لي اعبد .
والأصل تأمرونني أن أعبد فحذف أن ورفع الفعل .
ويمكن أن يعترض عليه بأن صلة ( أن ) كيف تتقدّم عليه .
ويحتمل أن يجاب بأن العامل هو ما دل عليه الجملة كما قلنا لا قوله ) أن أعبد ( وقيل : التقدير أفبعبادة غير الله تأمروني ؟ وقوله ( أيها الجاهلون ( لا يكون أليق بالمقام منه لأنه لا جهل أشدّ من جهل من نهى عن عبادة أشرف الأشياء وأمر بعبادة أخس الأشياء .
ثم هددّ الأمة على الشرك مخاطباً نبيه بقوله ) ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك ( من الأنبياء مثله ) لئن أشركت ( فاقتصر على الأول ويجوز أن يراد ولقد أوحى إليك وإلى كل واحد ممن قبلك لئن أشركت كما تقول : كسانا حلة أي كل واحد منا وقد مر نظير هذه الآية بقوله ) ولئن أتبعت أهواءهم ) [ البقرة : 120 ] وبينا أن ذلك على سبيل الفرض والشرطية لا حاجة في صدقها إلى صدق جزأيها ، أو المراد الأمة كما قلنا .
وفي قوله ) ولتكونن من الخاسرين ( إشارة إلى أن منصب النبوة(6/13)
" صفحة رقم 14 "
الذي هو أشرف مراتب الإنسانية وأقربها من الله إذا بدل بضدّه الذي هو البعد عن الحضرة الإلهية لم يكن خسران وراء ذلك .
ثم ردّه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى ما هوالحق الثابت في نفس الأمر وهو تخصيص الله بالعبادة فقال ) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ( على ذلك لأن توفيق العبادة منه وحده ولذا جعله مظهر اللطف حتى صار سيد ولد آدم .
ثم بين أنهم لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة في العبادة ما عرفوا الله حق معرفته وقد مر في ( الأنعام ) و ( الحج ) .
ثم أردفه بما يدل على كمال عظمته قائلاً ) والأرض جميعاً قبضته ( قال جار الله : الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة حقيقة أو إلى جهة مجاز .
وكذلك حكم ما يروى عن عبدالله بن مسعود أن رجلاً من أهل الكتاب جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا أبا القاسم ، إن الله يمسك السموات يوم القيامة على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والجبال على أصبع ، والشجر على أصبع ، والثرى على أصبع ، وسائر الخلق على أصبع ، ثم يهزهن فيقول : أنا الملك .
فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تعجباً مما قال وأنزل الله الآية تصديقاً له .
وقال جار الله : وإنما ضحك أفصح العرب وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من غير ذلك ، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة ، وأن الأفعال العظام التي لا تكتنهها الأوهام هينة عليه ، ثم ذكر كلاماً آخر طويلاً .
واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي بأن هذا الكلام الطويل لا طائل تحته لأنه هل يسلم أن الأصل في الكلام حمله على حقيقته أم لا .
وعلى الثاني يلزم خروج القرآن بكليته عن كونه حجة فإن لكل أحد حينئذ أن يؤوّل الآية بما شاء .
وعلى الأول وهو الذي عليه الجمهور يلزمه بيان أنه لا يمكن حمل اللفظ الفلاني على معناه الحقيقي لتعين المصير إلى التأويل .
ثم إن كان هناك مجازان وجب إقامة الدليل على تعيين أحدهما ، ففي هذه الصورة لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الجوارح إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع الأعضاء والجوارح لله تعالى فوجب المصير إلى التأويل صوتاً للنص عن التعطيل .
ولا تأويل إلا أن يقال : المراد كونها تحت تدبيره وتسخيره كما يقال : فلان في قبضة فلان .
وقال تعالى ) وما ملكت أيمانهم ) [ الأحزاب : 50 ] ويقال : هذه الدار في يد فلان ويمينه ، وفلان صاحب اليد .
وأنا أقول : هذا الذي ذكره الإمام طريق أصولي ، والذي ذكره جار الله طريق بياني ، وأنهم يحيلون كثيراً من المسائل إلى الذوق فلا منافاة بينهما .
ولا يرد اعتراض الإمام وتشنيعه وقد مر لنا في هذا(6/14)
" صفحة رقم 15 "
الكتاب الأصل الذي كان يعمل به السلف في باب المتشابهات في مواضع فتذكر .
ولنرجع إلى الآية .
قوله ) والأرض ( قالوا : المراد بها الأرضون لوجهين : أحدهما قوله ) جميعاً ( فإنه يجعله في معنى الجمع كقوله ) كل الطعام ) [ آل عمران : 93 ] وقوله ( والنخل باسقات ) [ ق : 10 ] والثاني قوله ) والسموات ( ولقائل أن يقول : كل ما هو ذو أجزاء حساً أو حكماً فإنه يصح تأكيده بالجميع .
وعطف السموات على الأرض في القرآن كثير .
نعم قيل : إن الموضع موضع تعظيم وتفخيم فهو مقتض للمبالغة وليس ببعيد .
والقبضة بالفتح المرة من القبض يعني والأرضون جميعاً مع عظمهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته فهن ذوات قبضته .
وعندي أن المراد منه تصرفه يوم القيامة فيها بتبديلها كقوله ) يوم تبدل الأرض غير الأرض ) [ إبراهيم : 48 ] ( والسموات مطويات بيمينه ( كقوله ) يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ) [ الأنبياء : 104 ] وقيل : معنى مطويات كونها مستولى عليها استيلاءك على الشيء المطوي عندك بيدك .
وقيل : معنى مطويات كونها مستولى عليها بيمينه أي بقسمه لأنه تعالى حلف أن يطويها ويفنيها في الآخرة .
وفي الآية إشارة إلى كمال استغنائه ، وأنه إذا حاول تخريب الأرض والسموات وتبديلها .
وذلك في يوم القيامة سهل عليه كل السهولة ، ولذلك نزه نفسه عن الشركاء بقوله ) سبحانه وتعالى عما يشركون ( ثم ذكر سائر أهوال القيامة وأحوالها بقوله ) ونفخ في الصور فصعق ( الظاهر أن نفخ الصور مرتان ، وبعضهم روى أنه ثلاث نفخات الأولى للفزع كما جاء في ( النمل ) ، والثانية للموت وهو معنى الصعق ، والثالثة للإعادة .
والأظهر أن الفزع يتقدم الصعق فلا يلزم منه إثبات نفختين ، وقد مر في ( النمل ) تفسير باقي الآية .
قال جار الله : تقدير الكلام ونفخ في الصور نفخة واحدة ) ثم نفخ فيه أخرى ( وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان .
ومعنى ) ينظرون ( يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب ، أو ينظرون ماذا يفعل بهم .
ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجهود تحيراً .
ثم وصف أرض القيامة بقوله ) وأشرقت الأرض بنور ربها ( الظاهر أن هذا نور تجليه سبحانه .
وقد مر شرح هذا النور في تفسر قوله ) الله نور السموات والأرض ) [ الآية : 35 ] وفي غيره من المواضع .
وقال علماء البيان : افتتح الآية بذكر العدل كما اختتم الآية بنفي الظلم .
ويقال للملك العادل : أشرقت الآفاق بنور عدلك وأضاءت الدنيا بقسطك ، وفي ضدّه أظلمت الدينا بجوره .
وأهل الظاهر من المفسرين لم يستبعدوا أن يخلق الله في ذلك اليوم للأرض نوراً مخصوصاً .
وقيل : أراد أرض الجنة .
ثم إن أهل البيان أكدوا قولهم بأنه أتبعه قوله ) ووضع الكتاب ( إلى آخره .
وكل(6/15)
" صفحة رقم 16 "
ذلك من الأمور الدالة على غاية العدل .
والمراد بالكتاب إما اللوح المحفوظ يقابل به صحف الأعمال أو الصحف نفسها ولكنه اكتفى باسم الجنس .
) وجيء بالنبيين ( ليسألهم ربهم عن تبليغ الرسالة ويجيب قومهم بما يجيبون .
والمراد بالشهداء الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخيار ومن الجوارح والمكان والزمان أيضاً .
وقيل : هم الذين قتلوا في سبيل الله ولعله ليس في تخصيصهم بالذكر فائدة .
وحين بين أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الخصومات ذكر أنه يوصل أهل النار ، وختم السورة بذكر أهل الجنة فقال : ( وسيق ( وهو على عادة إخبار الله تعالى .
والزمر الأفواج المتفرقة واحدها زمرة وكذلك في صفة أهل الجنة ، وذلك أنه يحشر أمة بعد أمة مع إمامها إلى الجنة أو النار ، أو بعضهم قبل الحساب وبعضهم بعد الحساب على اختلاف المراتب والطبقات ، فلا ريب أن الناس محقين أو مبطلين فرق ذاهبون في طرق شتى جماعة جماعة .
والخزنة جمع خازن ، والمراد بكلمة العذاب قوله ) لأملأن جهنم ) [ السجدة : 13 ] أو علم الله السابق وكان القياس التكلم إلا أنه عدل إلى الظاهر فقيل على الكافرين ليعلم سبب العذاب .
سؤال السوق في الكفار له وجه لأنهم أهل الطرد والعنف فما وجهه في أهل الجنة ؟ الجواب من وجوه : قال جار الله : المضاف هنا محذوف أي وسيق مراكب الذين اتقوا لأنهم لا يذهبون إلا راكبين كالوافدين على ملوك الدنيا ، وحثها إسراع لهم إلى دار الكرامة والرضوان : وقيل : طباق .
وقيل : أكثر أهل الجنة البله فيحتاجون إلى السوق لأنهم لا يعرفون ما فيه صلاحهم .
وقيل : إنهم يقولون لا أدخلها حتى يدخلها أحبائي فيتأخرون لهذا السبب وحينئذ يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة .
وقال أهل العرفان : المتقون قد عبدوا الله لله لا للجنة فيصير شدة استغراقهم في مشاهدة مطالع الجمال والجلال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة ، فلا جرم يفتقرون إلى السوق .
وقال الحكيم : كل خصلة ذميمة أو شريفة في الإنسان فإنها تجره من غير اختياره شاء أم أبى إلى ما يضاهيه حاله فذاك معنى السوق .
سؤال آخر : لم قيل في صفة أهل النار ) فتحت أبوابها ( من غير واو وفي صفة أهل الجنة ) وفتحت أبوابها ( بالواو ؟ والجواب البحث عن مثل هذه الواو قد يقال له واو الثمانية قد مر في قوله ) التائبون العابدون ) [ التوبة : 112 ] وفي سورة الكهف إلا أن الذي اختص بالمقام هو أن بعضهم قالوا : إن أبواب جهنم مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها ، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها لقوله ) جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ) [ ص : 50 ] فلذلك جيء بالواو كأنه قيل : حتى إذا جاؤها وقد فتحت أبوابها ، وعلى هذا فجواب ) حتى إذا ( محذوف وحق موقعه ما بعد ) خالدين ( أي كان ما كان من أصناف الكرامات(6/16)
" صفحة رقم 17 "
والسعادات .
وقيل : حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها أي مع فتح أبوابها .
وقيل : لأهل التأويل أن يقولوا : إن أبواب الجنة وهي أسباب حصول الكمالات مفتوحة بمعنى أنها غير ممنوع عنها بل مندوب إليها مرغب فيها ، وأبواب جهنم مغلقة بمعنى أن أسبابها ممنوع عنها على لسان الشرع والعقل جميعاً .
ومعنى تسليم الخزنة الإكرام والتهنئة بأنهم سلموا من أحوال الدنيا وأهوال القيامة .
ومعنى ) طبتم ( قيل : إخبارهم عن كونهم طيبين في الدنيا بالأفعال الصالحة والأخلاق الفاضلة ، أو طبتم نفساً بما نلتم من الجنة ونعيمها .
وقيل : إن أهل الجنة إذا انتهوا إلى بابها وجدوا عنده عينين تجريان من ساق شجرة فيتطهرون من إحداهما فتجري عليهم نضرة النعيم فلن تتغير أبشارهم بعدها أبداً ، ويشربون من الأخرى فيذهب ما في بطونهم من أذى وقذى فيقول لهم الخزنة : طبتم .
وقال جار الله : أرادوا طبتم من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا ، ولهذا عقبه بقوله ) فادخلوها خالدين ( ليعلم أن الطهارة عن المعاصي هي السبب في دخول الجنة والخلود فيها لأنها دار طهرها الله من دنس فلا يدخلها إلا من هو موصوف بصفتها رزقنا الله تعالى بعميم فضله وحسن توفيقه نسبة توجب ذلك .
ثم حكى قول المتقين في الجنة فقال ) وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده ( أي الوعد بدخول الجنة ) وأورثنا الأرض ( أرض الجنة عبر عن التمليك بالإيراث وقد مرّ مراراً ) تتبوّأ منها حيث نشاء ( لأن لكل متق جنة توصف سعة فيتبوّأ من جنته كما يريد من غير منازع .
وقال حكماء الإسلام : الجنات الجسمانية كذلك ، أما الروحانية فلا مانع فيها من المشاركة وأن يحصل لغيره ما يحصل لبعض الأشخاص .
ثم وصف مآب الملائكة المقربين بعد بعثهم فقال ) وترى ( أيها الرائي أو النبي ) الملائكة حافين ( محدّقين وهو نصب على الحال .
قال الفراء : لا واحد له لأنه لا بد فيه من الجمعية .
وأقول : لعله عني من حيث الاستعمال .
وقيل : الحاف بالشيء الملازم له .
وقوله ( من حول العرش ( ( من ) زائدة أو ابتدائية أي مبتدأ خوفهم من هناك إلى حيث شاء الله أو متصل بالرؤية ) يسبحون بحمد ربهم ( تلذذاً لا تعبداً .
وكان جوانب العرش دار ثواب الملائكة وإنها ملاصقة لجوانب الجنة .
والضمير في قوله ) وقضي بينهم ( للعباد كلهم لقرائن ذكر القيامة فإن إدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة لا يكون الإقضاء بينهم بالحق والعدل .
وقيل : بين الأنبياء وأممهم .
وقيل : تكرار لقوله ) وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق ( وقيل : هو حال وقد مقدرة معه أي يسبحون بحمد ربهم وقد قضى بينهم يعني بين الملائكة على أن ثوابهم ليس على سنن واحد .
ويحتمل عندي أن يعود الضمير إلى البشر والملائكة جميعاً ، والقضاء بينهم هو إنزال البشر مقامهم من الجنة أو النار ، وإنزال الملائكة حول العرش .
ثم ختم السورة بقوله ) وقيل الحمد لله ( والقائل(6/17)
" صفحة رقم 18 "
المقتضي بينهم وهم جميع العباد كقوله ) وآخر دعواهم أن الحمد لله ) [ يونس : 10 ] جميع الملائكة حمدوا الله على إنزال كلّ منزلته .(6/18)
" صفحة رقم 19 "
سورة المؤمن
( سورة المؤمن وهي مكية إلا آية قوله إن الذين يجادلون حروفها أربعة آلاف وتسعمائة وسبعون كلمها ألف ومائتان غير كلمة آياتها خمس وثمانون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( غافر : ( 1 - 22 ) حم
" حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في(6/19)
" صفحة رقم 20 "
الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب "
( القراآت )
حم ( وما بعده بالإمالة : حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان .
وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب وذلك طبعاً لا اختلافاً لمعان مذكورة في ( ص ) .
) كلمات ربك ( على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر ) لتنذر ( بالتاء الفوقانية على أن الضمير للروح ، وقد تؤنث ، أو على خطاب الرسول : يعقوب غير رويس ) التلاقي ( بالياء في الحالين : ابن كثير ويعقوب وافق يزيد وورش وسهل وعباس في الوصل .
) والذين تدعون ( على الخطاب : نافع وهشام غير الرازي وابن مجاهد والنقاش وابن ذكوان ) أشد منكم ( ابن عامر .
الباقون ) منهم ( .
الوقوف : ( حم ( ط كوفي ) العليم ( 5 لا ) الطول ( ط ) إلا هو ( ط ) المصير ( 5 ) البلاد ( 5 ) من بعدهم ( ص لعطف الجملتين المتفقتين ) فأخذتهم ( ط للابتداء بالتهديد ) عقاب ( 5 ) النار ( لئلا يتوهم أن ما بعده صفة أصحاب النار ) آمنوا ( ج لحق القول المحذوف ) الجحيم ( 5 ) وذرياتهم ( ط ) الحكيم ( 5 وقد يوصل للعطف ) السيئات ( ط ) رحمته ( ط ) العظيم ( 5 ) فتكفرون ( 5 ) سبيل ( 5 ) كفرتم ( ج للابتداء بالشرط مع العطف ) تؤمنوا ( ط ) الكبير ( 5 ) رزقاً ( ط ) ينيب ( 5 ) الكافرون ( 5 ) ذو العرش ( ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال ) التلاق ( 5 لا ) بارزون ( ج لاحتمال الاستئناف وتعلقه بالظرف ) شيء ( ط ) اليوم ( ط فصلاً بين السؤال والجواب ) القهار ( 5 ) كسبت ( ط ) اليوم ( ط ) الحساب ( 5 ) كاظمين ( ط ) يطاع ( 5 ط ) الصدور ( 5 ) بالحق ( ط ) بشيء ( ط ) البصير ( 5 ) من قبلهم ( ط ) واق ( 5 ) فأخذهم الله ( ط ) العقاب ( 5 .
التفسير : ( حم ( اسم الله الأعظم .
وقيل : ( حم ( ما هو كائن أي قدّر .
وروي أن أعرابياً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ما حم ؟ فقال : أسماء وفواتح سور .
وقد تقدم القول في حواميم في مقدمات الكتاب وفي أول ( البقرة ) .
ومن جملة تلك التقادير أن يقال : السورة المسماة بحم .
) تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ( وقد مر نظيره في أول ( الزمر ) .
ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد فقال ) غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول ( قالت المعتزلة : معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بالتوبة إن كان كبيراً ، أو طاعة(6/20)
" صفحة رقم 21 "
أعظم منه ثواباً إن كان صغيراً .
وقال الأشعري : إنه قد يعفو عن الكائر بدون التوبة لئلا يلزم التكرار بقوله ) قابل التوب ( وليفيد المدح المطلق ويؤيده إدخال الواو بين هذين الوصفين فقط كأنه قيل : الجامع بين المغفرة إن كانت بدون توبة وبين القبول إن كانت بتوبة فقد جمع للمذنب بين رحمتين بحسب الحالتين .
وقيل : غفر الذنب الصغير وقابل التوب عن الكبير ، أو غافر الذنب بإسقاط العقاب وقابل التوب بإيجاب الثواب .
ثم إن قبول التوبة واجب على الله أم لا ؟ فيه بحث أيضاً للفريقين .
فالمعتزلة أوجبوه ، والأشعري يقول : إنه على سبيل التفضيل وإلا لم بتمدّح به .
والظاهر أن التوب مصدر .
وقيل : جمع توبة أي ما ذنب تاب منه العبد إلا قبل توبته .
وقد ذكر أهل الإعراب ههنا سؤالاً وهو أن غافر الذنب وقابل التوب يمكن بوجيههما بأنهما معرفتان كما سبق في ) مالك يوم الدين ( ) الفاتحة : 3 ( وهو أنهما بمعنى الماضي أو الاستمرار فيصح وقوعهما صفتين لله إلا أن قوله ) شديد العقاب ( لا يمكن فيه هذا الوجه لأنه في معنى شديد عقابه .
فإن قلنا إنه صفة لزم وقوع النكرة صفة للمعرفة ، وإن قلنا إنه بدل لزم نبوّ ظاهر للزوم بدل واحد فيما بين صفات كثيرة .
وأجيب على تقدير أن لا يكون الكل أبدالاً بأن الألف واللام من شديد محذوف لمناسبة ما قبله مع الأمن من اللبس ومن جهالة الموصوف ، أو تعمد تنكيره من بين الصفات للإبهام والدلالة على فرط الشدة .
وجوزوا أن تكون هذه النكتة سبباً لجعله بدلاً من بين سائر أخواته .
وهذا ما قاله صاحب الكشاف .
وعندي أنه لا مانع من جعل ) شديد العقاب ( أيضاً للاستمرار والدوام حتى يصير إضافة حقيقية .
قوله ) ذي الطول ( أي ذي الفضل بسبب ترك العقاب وقد مر في قوله ) ومن لم يستطع منكم طولاً ) [ النساء : 25 ] وإنما أورد هذا الوصف بعد وصفه نفسه بشدة العقاب ليعلم أن خاتمة أمره مبنية على التفضل كما أن فاتحته مبنية على الغفران وقبول التوبة وقد تقع عقوبة في الوسط أعاذنا الله منها ، إلا أنه لا يبقى مؤمن في النار خالداً ببركة قوله لا إله إلا الله وهو المبدأ وسبب علمه أنه إليه المصير وهو المعاد .
وفيه أن من آمن بالمبدأ والمعاد فإن أخل في الوسط ببعض التكاليف كان مرجواً أن يغفر الله له ويقبل توبته .
ثم بين أحوال من لا يقبل هذه التقريرات ولا يخضع لها فقال ) ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ( والجدال في آياته نسبتها إلى الشعر تارة وإلى السحر أخرى إلى غير ذلك من المطاعن وفضول الكلام .
فأما البحث عنها لاستنباط حقائقها والوقوف على دقائقها وحل مشكلاتها فنوع من الجهاد في سبيل الله ، ولمكان الفرق بين هذين الجدالين قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن جدالاً في القرآن كفر ) فنكر الجدال(6/21)
" صفحة رقم 22 "
ليشمل أحد نوعيه فقط وهو الجدال بالباطل كما يجيء في قوله ) وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ( ثم عقب الكلام بقوله ) فلا يغررك ( ليعلم أن جدالهم الصادر عن البطر والأشر والجاه والخدم لا اعتبار به وكذا ) تقلبهم في البلاد ( للتجارات والمكاسب فإن قريشاً كانت أصحاب أموال متجرين إلى الشام واليمن مترفين بأموالهم مستكبرين عن قبول الحق لذلك .
ثم مثل حالهم بحال الأمم السالفة الذين تحزبوا على الرسل وكادوا يقتلونهم فأهلكهم الله ودمرهم ونجى الرسل .
ثم بين بقوله ) وكذلك حقت ( أنهم في الآخرة أيضاً معذبون .
وقوله ( أنهم أصحاب النار ( بدل من ) كلمة ربك ( أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم في الآخرة من أصحاب النار .
وجوّز جار الله أن يكون ) أنهم ( في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل .
وقوله ( الذين كفروا ( قريش أي كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء لأن العلة الجامعة وهي أنهم أصحاب النار واحدة في الفريقين .
ومن قرأ ) كلمات ( على الجمع أراد بها علم الله السابق أو معلوماته التي لا نهاية لها ، أو الآيات الواردة في وعيد الكفار .
وحين بين أن الكفار بالغوا في إظهار عداوة المؤمنين حكى أن أشرف طبقات أكثر المخلوقات وهم حملة العرش ، والحافون حلوه يبالغون في محبتهم ونصرتهم كأنه قيل : إن كان هؤلاء الأراذل يعادونهم فلا تبال بهم ولا تقم لهم وزناً فإن الأشراف يحابونهم .
روى صاحب الكشاف أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يعرفون طرفهم .
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق من الملائكة فإن خلقاً من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع وهو طائر صغير شبه العصفور ) وروي أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائر الملائكة .
وقيل : خلق الله العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام ، وعدد حملة العرش يوم القيامة ثمانية لقوله عز وجل ) ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ( ) الحاقّة : 17 ( أما في غير ذلك الوقت فلا يعلم به إلا الله .
أما الذين حول العرش فقيل : سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ، ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر .
وهذه الآثار كلها منقولة من كتاب(6/22)
" صفحة رقم 23 "
الكشاف .
سؤال : ما فائدة قوله ) ويؤمنون به ( ولا يخفى أن حملة العرش ومن حوله مؤمنون ؟ أجاب في الكشاف بأن فائدته التنبيه على شرف الإيمان والترغيب فيه .
وأيضاً فيه تكذيب المجسمة فإن الأمر لو كان على زعمهم لكانت الملائكة يشاهدونه فلا يوصفون بالإيمان به لأنه لا يوصف بالإيمان إلا الغائب ، فعلم أن إيمانهم كإيمان أهل الأرض والكل سواء في أن إيمانهم بطريق النظر والاستدلال .
واستحسن هذا الكلام الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير حتى ترحم عليه وقال : لو لم يكن في كتابه إلا هذه النكتة لكفى به فخراً وشرفاً .
وأنا أقول : لا نسلم أن الإيمان لا يكون إلا بالغائب وإلا لم يكن الإيمان بالنبي وقت تحديه بالقرآن .
وإن شئت فتأمل قوله تعالى ) الذين يؤمنون بالغيب ( فلو لم يكن إيمان بالشهادة لم يكن لقوله ) بالغيب ( فائدة .
على أنه يحتمل أن يشاهد الرب وينكر كونه إلهاً ، ويمكن أن يكون محمول الشيء محجوباً عن ذلك الشيء فمن أين يلزم تكذيب المجسمة ؟ وقال بعضهم في الجواب : أراد أنهم يسبحون تسبيح تلفظ لا تسبيح دلالة .
وزعم فخر الدين أن في الآية دلالة أخرى على إبطال قول أهل التجسيم إن الإله على العرش فإنه لو كان كما زعموا وحامل الشيء حامل لكل ما على ذلك الشيء لزم أن تكون الملائكة حاملين لا إله العالم حافظين له ، والحافظ أولى بالإلهية من المحفوظ .
قلت : لا شك أن هذه مغالطة فإن جاز الحمل لأجل العظمة وإظهار الكبرياء على ما يزعم الخصم في المسألة كيف يلزم منه ذلك ؟ وهل يزعم عاقل أن الحمار أشرف من الإنسان الراكب عليه من جهة الركوب عليه ؟ وإنما ذكرت ما ذكرت لكونه وارداً على كلام الإمامين مع وفور فضلهما وبعد غورهما ، لا لأني مائل في المسألة على ما يزعم الخصم إلى غير معتقدهما .
قال جار الله : وقد روعي التناسب في قوله ) ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ( كأنه قيل : ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم ، وفيه أنهم بعد التعظيم لأمر الله يقبلون على الشفقة على خلق الله ولا سيما المؤمنين لأن الإيمان جامع لا أجمع منه يجذب السماوي إلى الأرضي ، والروحاني إلى العنصري .
احتج كثير من العلماء بالآية على أفضلية الملك قالوا : لأنها تدل على أنه لا معصية للملائكة وإلا لزم بحكم ( ابدأ بنفسك ) أن يستغفروا أوّلاً لأنفسهم قال الله تعالى ) واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) [ محمد : 19 ] ( وقال نوح رب اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمناً ) [ نوح : 28 ] قلت : لا نزاع بالنسبة إليهم وإلى غير المعصومين من البشر وإنما النزاع بينهم وبين المعصومين فلا دليل في الآية ، ولا يلزم من طلب الاستغفار لأحد .
لو سلم أن قوله ) للذين آمنوا ( عام أن يكون المستغفر له عاصياً على أنه قد خص الاستغفار في قوله(6/23)
" صفحة رقم 24 "
) فاغفر للذين تابوا ( وهذا فيه بحث يجيء .
وفي قولهم ) ربنا وسعت كل شيء رحمة ( ولو بإعطاء الوجود ) وعلماً ( وقد مر في ( الأنعام ) إشارة إلى أن الحمد والثناء ينبغي أن يكون مقدماً على الدعاء .
وفي لفظ ) ربنا ( خاصية قوية في تقديم الدعاء كما ذكرنا في آخر ( آل عمران ) كأن الداعي يقول : كنت نفياً صرفاً وعدماً محض فأخرجتني إلى الوجود وريبتني فاجعل تربيتك لي شفيعاً إليك ، ولا ريب أن ذكر الله أول كل شيء بمنزلة الإكسير الأعظم للنحاس من حيث إنه يقوّي جوهر الروح ويكسبه إشراقاً وصفاء .
وفي تقديم الرحمة على العلم فائدة هي أن مطلوب الملائكة في هذا المقام هو أن يرحم المؤمنين فكأنهم قالوا : ارحم من علمت منه التوبة واتباع الدين .
قالت علماء المعتزلة : الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون ، طلب مزيد الكرامة والثواب فهو بمنزلة الشفاعة ، وإذا ثبت شفاعة الملائكة لأهل الطاعة فكذلك شفاعة الأنبياء ضرورة أنه لا قائل بالفرق .
وقال علماء السنة : إن مراد الملائكة ) فاغفر للذين تابوا ( عن الكفر ) واتبعوا سبيلك ( الإيمان وهذا لا ينافي كون المستغفر لهم مذنبين ومما يؤيد ما قلنا أن الاستغفار طلب المغفرة والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العذاب ، أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفاراً .
قال أهل التحقيق : هذا الاستغفار من الملائكة يجري مجرى الاعتذار من قولهم ) أتجعل فيها من يفسد فيها ) [ البقرة : 30 ] أما قوله ) وقهم عذاب الجحيم ( فتصريح بالمطلوب بعد الرمز لأن دلالة المغفرة على الوقاية من العذاب كالضمنية .
وحين طلبوا لأجلهم إسقاط العذاب ضمناً وصريحاً طلبوا إيصال الثواب إليهم بقولهم ) ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ( قال علماء السنة : كل أهل الإيمان موعودون بالجنة وإن كانوا من أهل الكبائر غاية ذلك أنهم يعذبون بالنار مدّة إن لم يكن عفواً وشفاعة ثم يخرجون إلى الجنة .
قال الفراء والزجاج : قوله ) ومن صلح ( يجوز أن يكون معطوفاً على الضمير في ) وأدخلهم ( فيكون دعاء من الملائكة بإدخال هؤلاء الأصناف الجنة تكميلاً لأنس الأولين وتتميماً لابتهاجهم وإشفاقاً على هؤلاء أيضاً .
ويجوز أن يكون عطفاً على الضمير في ) وعدتهم ( لأنه تعالى قال في سورة الرعد ) أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ) [ الآية : 23 ] وعلى هذا لا يشمل دعاء الملائكة هؤلاء الأصناف اللهم إلا ضمناً .
قال أهل السنة : المراد بمن صلح أهل الإيمان منهم وإن كانوا ذوي كبائر .
ثم ختم الآية بقوله ) إنك أنت العزيز الحكيم ( لأنه إن لم يكن غالباً على الكل لم يصح منه وقوع المطلوب كما يراد ، وإن لم يكن حكيماً أمكن منه وضع الشيء في غير موضعه .
ثم قالوا ) وقهم السيئات ( فقيل :(6/24)
" صفحة رقم 25 "
يعني العقوبات أو عذاب السيئات على حذف المضاف .
واعترض بأنهم قالوا مرة وقهم عذاب الجحيم فيلزم التكرار .
وأجيب بأن الأوّل دعاء للأصول وهذه لفروعهم وهم الأصناف الثلاثة ، أو الأول مخصوص بعذاب النار وهذا شامل لعذاب الموقف وعذاب الحساب وعذاب السؤال ، أو المراد بالسيئات العقائد الفاسدة والأعمال الضارة ، وعلى هذا يكون ) يومئذ ( في قوله ) ومن تق السيئات يومئذ ( إشاة إلى الدنيا .
وقوله ( فقد رحمته ( يجوز أن يكون في الدنيا وفي الآخرة .
قال في الكشاف : السيئات هي الصغائر والكبائر المتوب عنها ، والوقاية منها التكفير أو قبول التوبة .
ثم إنه تعالى عاد إلى شرح أحوال الكفرة المجالدين في آياته وأنهم سيعترفون يوم القيامة بما كانوا ينكرونه في الدنيا من البعث ، وذلك إذا عاينوا النشأة وتذكروا النشأة الأولى فقال ) إن الذين كفروا ينادون ( أي يوم القيامة .
وفي الآية حذف وفيها تقديم وتأخير .
أما الحذف فالتقدير لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم ، فاستغنى بذكرها مرة .
وأما التقديم والتأخير فهو أن قوله ) إذ تدعون ( منصوب بالمقت الأول .
وفي المقت وجوه : الأول كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون ، وذلك أشد من مقتكم أنفسكم اليوم في النار إذ أوقعتكم فيها باتباعكم هواهنّ وفيه توبيخ .
ولا ريب أن سخط الله وبغضه الشديد لا نسبة له إلى سخط غيره ولهذا أوردهم النار .
الثاني عن الحسن : لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا بلسان خزنة جهنم لمقت الله وهو قريب من الأول .
الثالث قال محمد بن كعب : إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله ) وما كان لي عليكم من سلطان ( إلى قوله ) ولوموا أنفسكم ) [ إبراهيم : 22 ] وفي هذه الحالة مقتوا أنفسهم .
فلعل المعنى .
لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض ومن لعنه إياه .
وأما قول الكفرة في الجواب ) ربنا أمتنا اثنتين ( أي إماتتين اثنتين ) وأحييتنا ( إحياءتين ) اثنتين ( فللعلماء في تعيين كل من الاثنتين خلاف .
أما في الكشاف فذهب إلى أن الإماتتين إحداهما خلقهم أوّلاً أمواتاً ثم نطفة ثم علقة الخ كما في الآية الأخرى ) كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً ) [ البقرة : 28 ] ونسب هذا القول إلى ابن عباس ووجهه بأنه كقولك للحفار : ضيق فم الركية ووسع أسفلها وليس ثم نقل من كبر إلى صغر أو بالعكس ، وإنما أردت الإنشاء على هذه الصفة .
والسبب في صحته أن كلا النعتين جائز على المصنوع الواحد وللصانع أن يختار أحدهما .
قلت : ومما يؤيد قوله أنه بدأ بالإماتة وإلا كان الأظهر أن يبدأ بالإحياء .
قال : والإماتة الثانية هي التي في الدنيا والإحياءة الأولى هي التي في الدنيا ، والثانية هي التي بعد البعث .
وأورد على هذا القول أنه يلزم أن لا تكون الإحياءة في القبر(6/25)
" صفحة رقم 26 "
والإماتة فيه مذكورتين في القرآن بل تكونان منفيتين مع ورودهما في الحديث .
أجاب بعضهم بأن حياة القبر والإماتة ممنوعة لأنه تعالى لم يذكرها ، والأحاديث الواردة فيها آحاد ، ولأن الذي افترسه السبع لو أعيد حياً لزم نقصان شيء من السبع وليس بمحسوس ، ولأن الذي مات لو تركناه ظاهراً بحيث يراه كل أحد لم يحس منه حياة وتجويز ذلك مع عدم الرؤية سفسطة وفتح لباب الجهالات .
وزيف هذا الجواب أهل الاعتبار بأن عدم ذكر الشيء لا يدل على عدمه ، والأحاديث في ذلك الباب صحيحة مقبولة .
وإذا كان الإنسان جوهراً نورانياً مشرقاً مدبراً للبدن في كل طور على حد معلوم كما ورد في الشريعة الحقة زالت سائر الإشكالات ، ولا يلزم قياس ما بعد الموت على ما قبله وللشرع في إخفاء هذه الأمور عن نظر المكلفين حكم ظاهرة حققناها لك مرات .
وقال بعضهم : في الجواب هذا كلام الكفار فلا يكون حجة .
وضعف بأنه لو لم يكن صادقاً لأنكر الله عليهم .
وقيل : إن مقصودهم تعديد أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة : الموتة الأولى ، والحياة في القبر ، والموتة الثانية ، والحياة في القيامة .
فأما الحياة في الدنيا فإنها وقت ترفههم وتنعمهم فلهذا السبب لم يذكروها .
وقيل : أهملوا ذكر حياة القبر لقصر مدتها أو لأنهم لم يموتوا بعد ذلك بل يبقون أحياء في الشقاوة حتى اتصل بها حياة القيامة وكانوا من جملة المستثنين في قوله ) فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) [ الزمر : 68 ] ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال متكلفة ولا سيما الأخير فإن قوله ) الذين كفروا ( عام .
ولو فرض أنه مخصوص بكفار معهودين فتخصيصهم بالحياة في القبر حتى يكونوا من المستثنين بعيد جداً .
وقد يدور في الخلد أن هذا النداء يحتمل أن يكون في القبر ، وعلى هذا لا يبقى إشكال لأن الإماتة والإحياء التي بعد ذلك تخرج من غير تكلف وثبت سؤال القبر كما جاء في الحديث والله تعالى أعلم بمراده .
وقوله ( فهل إلى خروج من سبيل ( أي إلى نوع من الخروج والرد من القبر إلى الدنيا خروج سريع أو بطيء من سبيل قط أم اليأس الكلي واقع ، وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط .
وكان الجواب الصريح أن يقال : لا أو نعم إلا أنه سبحانه رمز إلى عدم الخروج بقوله ) ذلكم ( أي ذلكم اليأس وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم في وقت التمكن من التوحيد أو ان التكليف ) فالحكم لله العلي الكبير ( حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي وكما يناسب عظمته وكبرياءه .
قيل : إن تحكيم الحرورية وهو قولهم ( لا حكم إلا لله ) مأخوذ من هذه الآية .
ثم أراد أن يذكر طرفاً من دلائل وحدانيته وكماله فقال ) هو الذي يريكم آياته ( من الريح والسحاب والرعد والبرق ) وينزل لكم من السماء ( ماء هو سبب الرزق ) وما يتذكر إلا من ينيب ( أي ما يعتبر إلا الذي أناب إلى الله وأعرض(6/26)
" صفحة رقم 27 "
عن الشرك لينفتح عليه أبواب الأنوار والمكاشفات .
ثم قال للمنيبين ) فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ( قال جار الله : قوله ) رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح ( ثلاثة أخبار لقوله هو مترتبة على الأول وهو قوله ) الذي يريكم ( أو أخبار مبتدأ محذوف وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً أوسطها معرفة .
ثم إن الرفيع إما أن يكون بمعنى الرافع أو بمعنى المرتفع ، وعلى الأول فإما أن يراد رافع درجات الخلق في العلم والأخلاق الفاضلة كما قال ) يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) [ المجادلة : 11 ] وكذا في الرزق والأجل بل جعل للملائكة مقامات معينة وللأجسام البسيطة العلوية والسفلية درجات معينة كما يشهد به علم الهيئة ، وقد أشرنا إلى ذلك في أثناء هذا الكتاب .
أو يراد رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة .
وأما على الثاني فلا ريب أنه سبحانه أشرف الموجودات وأجلها رتبة من جهة استغنائه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه ، وافتقار كل ما سواه إليه في الوجود وفي توابع الوجود .
واعلم أن كمال كبرياء الله لا يصل إليه عقول البشر فالطريق في تعريفه أن يؤيد المعقول بنحو من المحسوس ، فلهذا عقب الله تعالى هذه الصفة بصفتين أخريين ، وذلك أن ما سوى الله إما جسمانيات وإما روحانيات .
أما الجسمانيات فأعظمها العرش فأشار بقوله ) ذو العرش ( إلى استيلائه على كلية عالم الأجسام ، وأما الروحانيات فأشار إلى كونها تحت تسخيره بقوله ) يلقي الروح ( أي الوحي ) من أمره ( أي من عالم أمره ) على من يشاء من عباده ( وقد مر نظيره في الآية في أول سورة النحل .
وقيل من أمره حال ثم بين الغرض من الإلقاء بقوله ) لينذر يوم التلاق ( ووجه التسمية ظاهر لتلاقي الأجساد والأرواح فيه ، أو لتلاقي أهل السماء والأرض كما قال عز من قائل ) ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً ) [ الفرقان : 25 ] ولأن كل واحد يلاقي جزاء عمله .
وقال ميمون بن مهران : يوم يلتقي فيه الظالم والمظلوم ، فربما ظلم رجل رجلاً وانفصل عنه ولم يمكن التلاقي أو استضعف المظلوم ففي يوم القيامة لا بد أن يتلاقيا .
وقوله ( يوم هم بارزون ( بدل من الأول .
ومعنى البروز ما مر في آخر سورة إبراهيم في قوله ) وبرزوا لله الواحد القهار ) [ الآية : 48 ] وقوله ( لا يخفى على الله منهم شيء ( تأكيد لذلك وهذا ، وإن كان عاماً في جميع الأحوال وشاملاً للدنيا والآخرة إلا أنه خصص بالآخرة لأنهم في الدنيا كانوا يظنون أن بعض الأعمال تخفى على الله عند الاستتار بالحجب كما قال ) ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون ( فهو نظير قوله ) مالك يوم الدين ) [ الفاتحة : 3 ] ثم أكد تفرّده في ذلك اليوم بالحكم والقضاء بقوله ) لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ( ولا ريب(6/27)
" صفحة رقم 28 "
أن الكلام مشتمل على جواب وسؤال وليس في لفظ الآية ما يدل على تعيين السائل ولا المجيب .
فقال جم من المفسرين ومن أرباب القلوب : إذا هلك كل من في السموات ومن في الأرض يقول الرب تعالى : لمن الملك اليوم ؟ فلا يجيبه أحد .
فهو سبحانه يجيب عن نفسه فيقول : لله الواحد القهار .
وأما الذين ألغوا صرف المعقول من أهل الأصول فقد أنكروا هذا القول إنكاراً شديداً لأنه تعالى بين أن هذا النداء في يوم التلاقي والبروز يوم تجزى كل نفس بما كسبت ، وكل هذا ينافي في كون الخلق هالكين وقتئذ ، ولأن التكلم من غير سامع ولا مجيب عبث إلا أن يكون هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء لكن المفروض فناء كل المخلوقين ، فأما أن يكون حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به وذلك أن ينادي مناد فيقول : لمن الملك اليوم ؟ فيجيبه أهل المحشر لله الواحد القهار ، يقوله المؤمن تلذذاً والكافر هواناً وتحسراً على أن فاتتهم هذه المعرفة في الدنيا فإن الملك كان له من الأزل إلى الأبد .
وفائدة تخصيص هذا النداء يوم القيامة كما عرفت في ) مالك يوم الدين ) [ الفاتحة : 3 ] يحكى أن نصر بن أحمد لما دخل نيسابور وضع التاج على رأسه ودخل عليه الناس فخطر بباله شيء فقال : هل فيكم من يقرأ آية ؟ فقرأ رجل روّاس ) رفيع الدرجات ذو العرش ( فلما بلغ قوله ) لمن الملك اليوم ( نزل الأمير عن سريره ورفع التاج عن رأسه وسجد لله تعالى وقال : لك الملك لا لي .
فلما توفي الروّاس رؤي في المنام فقيل له ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي وقال لي إنك عظمت ملكي في عين عبدي فلان يوم قرأت تلك الآية فغفرت لك وله .
ومما يدل على تفرده سبحانه قوله ) لله الواحد القهار ( فإن كل واحد من الأسماء الثلاثة ينبىء عن غاية الجلال والعظمة كما مر مراراً ، وباقي الآية أيضاً مما سلف تفسيره مرات .
ثم وصف يوم القيامة بأنواع أخر من الصفات الهائلة فقال ) وأنذرهم يوم الآزفة ( وهي فاعلة من أزف الأمر أزوفاً إذا دنا ، ولا ريب أن القيامة قريبة وإن استبعد الناس مداها لأن كل ما هو كائن فهو قريب .
قال جار الله : يجوز أن يريد بيوم الآزفة وقت لحظة الآزفة وهي مشارفتهم دخول النار فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارّها فتلصق بحناجرهم فلا هي تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا .
وقال أبو مسلم : يوم الآزفة يوم المنية وحضور الأجل لأنه تعالى ذكر يوم القيامة في قوله ) يوم التلاق يوم هم بارزون ( فناسب أن يكون هذا اليوم غير ذلك اليوم ، ولأنه تعالى وصف يوم الموت بنحو هذه الصفة في مواضع أخر قال ) فلولا إذا بلغت الحلقوم ) [ الواقعة : 83 ] ( كلا إذا بلغت التراقي ) [ القيامة : 26 ] ولا ريب أن الرجل عند معاينة(6/28)
" صفحة رقم 29 "
أمارات الموت يعظم خوفه ، فلو جعلنا كون القلوب لدى الحناجر كناية عن شدّة الخوف جاز ، ولو حملناه على ظاهره فلا بأس .
وقوله ( كاظمين ( أي مكروبين .
والكاظم الساكت حال امتلائه غماً وغيظاً قال عز من قائل ) والكاظمين الغيظ ( ) آل عمران : 134 ( وانتصابه على أنه حال عن أصحاب القلوب كأنه قيل : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها ، أو عن القلوب .
وجمع جمع السلامة بناء على أن الكظم من أفعال العقلاء كقوله ) فظلت أعناقهم لها خاضعين ) [ الشعراء : 4 ] أو عن ضمير المفعول في ) وأنذرهم ( أي وأنذرهم مقدّرين أو مشارفين الظم فيكون حالاً مقدّرة .
وفي قوله ) ما للظالمين من حميم ولا شفيع ( بحث بين الأشاعرة والمعتزلة حيث حمله الأوّلون على أهل الشرك ، والآخرون على معنى أعم حتى يشمل أصحاب الكبائر .
وقد مرّ مراراً ولا سيما في قوله ) وما للظالمين من أنصار ( ) آل عمران : 192 ( ومعنى قوله ) يطاع ( يجاب أي لا شفاعة ولا إجابة كقوله :
ولا ترى الضب بها ينجحر
وذلك أنه لا يشفع أحد في ذلك اليوم إلا بإذن الله ، فإن أذن له أجيب وإلا فلا يوجد شيء من الأمرين .
والفائدة في ذكر هذه الصفة أن يعلم أن الغرض من الشفيع منتفٍ في حقهم وإن فرض شفيع على ما يزعم أهل الشرك من أن الأصنام يشفعون لهم .
وقوله ( يعلم خائنة الأعين ( خبر آخر لقوله ) هو الذي يريكم آياته ( إلا أنه فصل بالتعليل وهو قوله ) لينذر ( وذكر وصف القيامة استطراداً ، قال جار الله : هي صفة للنظرة أو مصدر بمعنى الخيانة كالعافية ، والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الريب .
قال : ولا يحسن أن تكون الخائنة صفة للأعين مضافة إليها نحو ( جرد قطيفة ) أي يعلم العين الخائنة لأن قوله ) وما تخفي الصدور ( لا يساعد عليه .
قلت : يعني أن عطف العرض على الجوهر والمعنى على العين غير مناسب .
وقيل : هي قول الإنسان رأيت ولم ير وما رأيت ورأى .
ومضمرات الصدرو أي القلوب فيها لأنها فيها .
قيل : هي ما يستره الإنسان من أمانة وخيانة .
وقيل : الوسوسة .
وقال ابن عباس : ما تخفي الصدور بعد النظر إليها أيزني بها أم لا .
أقول : والحاصل أنه تعالى أراد أن يصف نفسه بكمال العلم فإن المجازاة تتوقف على ذلك .
ففي قوله ) يعلم خائنة الأعين ( إشارة إلى أنه عالم بجميع أفعال الجوارح ، وفي قوله ) وما تخفى الصدور ( دلالة على أنه عالم بجميع أفعال القلوب .
وإذا علمت هذه الصفة وقد عرفت من الأصناف السابقة كمال قدرته واستغنائه لم يبق شك في حقيّة قضائه فلذلك قال ) والله يقضى بالحق ( ثم وبخهم على عبادة من لا قضاء له ولا سمع ولا بصر(6/29)
" صفحة رقم 30 "
بقوله ) والذين يدعون ( الخ .
ثم وعظهم بالنظر في أحوال الأمم السالفة وقد مر نظير الآية في مواضع .
وإنما قال في هذه السورة ) ذلك بأنهم كانت ( وفي ( التغابن ) ) ذلك بأنه كانت ) [ الآية : 6 ] موافقة لضمير الفصل في قوله ) كانوا هم أشد ( .
التأويل : الحاء والميم حرفان من وسطاسم الرحمن ومن وسط اسم محمد ففي ذلك إشارة إلى سر بينه وبين حبيبه ( صلى الله عليه وسلم ) لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ) غافر الذنب ( للظالم ) وقابل التوب ( للمقتصد ) شديد العقاب ( للكافر ) ذي الطول ( للسابق ) وقهم عذاب الجحيم ( أي عن موجباتها كالرياء واتباع الهوى ) لمقت الله ( إياكم حين حكم عليكم بالبعد والحرمان ) أكبر من مقتكم أنفسكم ( لو كنتم تمقتونها في الدنيا فإنها أعدى عدوّكم .
ومقتها منعها من هواها ، ولا ريب أن عذاب البعد الأبديّ أشدّ من رياضة أيام معدودة قلائل .
) ذو العرش ( عرش القلوب استوى عليها بجميع الصفات وهم العلماء بالله المستغرقون في بحر معرفته .
( غافر : ( 23 - 50 ) ولقد أرسلنا موسى . . . .
" ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر(6/30)
" صفحة رقم 31 "
مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال "
( القراآت )
ذروني ( بفتح الياء : ابن كثير ) إني أخاف ( بفتح الياء : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو .
أو بصيغة الترديد : عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب .
الباقون : بواو العطف .
) يظهر ( بضم الياء وكسر الهاء من الإظهار الفساد بالنصب : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب والمفضل وحفص .
الآخرون : بفتحهما ورفع الفساد ) عذت ( مدغماً : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف ويزيد وإسماعيل وهشام ) التنادي ( بالياء في الحالين : ابن كثير ويعقوب وافق يزيد ورش وسهل وعباس في الوصل ) قلب متكبر ( بالتنوين فيهما على الوصف : أبو عمرو وقتيبة وابن ذكوان .
الباقون : على الإضافة .
) لعلي أبلغ الأسباب ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ) فأطلع ( بالنصب : حفص .
) اتبعوني ( بالياء في الحالين : سهل(6/31)
" صفحة رقم 32 "
وابن كثير ويعقوب وافق أبو عمرو ويزيد والأصفهاني عن ورش وإسماعيل وأبو نشيط عن قالون في الوصل .
) مالي ( بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع ) أمري إلى الله ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) تقوم ( بتاء التأنيث : الرازي عن هشام ) أدخلوا ( من الإدخال : أبو جعفر ونافع ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وحفص .
وعلى هذه القراءة الخطاب للزبانية .
وانتصب ) آل ( و ) أشدّ ( على أنهما مفعول بهما .
وعلى القراءة الأخرى هو لآل فرعون ، وانتصب ) آل ( على النداء لا على أنه مفعول به .
الوقوف : ( مبين ( 5 لا ) كذاب ( 5 ) نساءهم ( ط ) ضلال ( 5 ) رّبه ( ج لاحتمال اللام ) مؤمن ( قف قد قيل : بناء على أن الجار يتعلق بالفعل بعده والوصل أصح أنه كان من القبط ، ولو فرض أنه لم يكن منهم فالجملة وصف له ) من ربكم ( ج لانتهاء الاستفهام إلى الابتداء بالشرط ) كذبه ( ج للعطف والشرط ) بعدكم ( ط ) كذاب ( 5 ) في الأرض ( ز لابتداء الاستفهام والوجه الوصل لأن المقصود الوعظ به ) جاءنا ( ط ) الرشاد ( 5 ) الأحزاب ( 5 لا لأن ما بعده بدل ) بعدهم ( ط ) للعباد ( 5 ) التناد ( 5 ط لأجل البدل ) مدبرين ( ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستئنافاً ) من عاصم ( ج لاحتمال كون ما بعده ابتداء إخبار من الله سبحانه وكونه من كلام المؤمن ) من هاد ( 5 ) جاءكم به ( ط ) رسولاً ( ط ) مرتاب ( 5 ج لاحتمال البدل فإن ( من ) في معنى الجمع أو الاستئناف أي هم الذين أو أعني أنهم ) آمنوا ( ط ) جبار ( 5 ) الأسباب ( 5 لا ) كاذباً ( ط ) السبيل ( ط ) تباب ( 5 ) الرشاد ( ج لأن النداء يبدأ به مع أنه تكرار للأول ) متاع ( ز للفصل بين تنافي الدارين مع اتفاق الجملتين ) القرار ( 5 ) مثلها ( ج لعطف جملتي الشرط ) حساب ( 5 ) النار ( 5 ج لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار ولاحتمال ابتداء استفهام آخر ) الغفار ( 5 ) النار ( 5 ) لكم ( ط ) إلى الله ( ط ) بالعباد ( 5 ) العذاب ( 5 ج لاحتمال البدل والابتداء ) وعشياً ( ج لاحتمال ما بعده العطف والاستئناف ) الساعة ( قف لحق القول المحذوف أي يقال لهم أو للزبانية ) لعذاب ( 5 ) من النار ( 5 ) العباد ( 5 ) من العذاب ( 5 ) بالبينات ( ط ) بلى ( ط ) فادعوا ( ج لاحتمال أن ما بعده من قول الخزنة أو ابتداء إخبار من الله تعال ) ضلال ( 5 .
التفسير : لما وبخ الكفار بعدم السير في الأرض للنظر والاعتبار أو بعدم النظر في أحوال الماضين مع السير في الأقطار وقد وصف الماضين بكثرة العدد والآثار الباقية ، أراد أن يصرح بقصة واحدة من قصصهم تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وزيادة توبيخ وتذكير لهم .
وكان في قصة موسى وفرعون من العجائب ما فيها ، فلا جرم أوردها ههنا مع فوائد زائدة على ما في(6/32)
" صفحة رقم 33 "
المواضع الأخر منها : ذكر مؤمن من آل فرعون وما وعظ ونصح به قومه .
ولأن القصة قد تكررت مراراً فلتقتصر في التفسير على ما يختص بالمقام .
قوله ) بالحق ( أي بالمعجزات الظاهرة .
وقوله ( اقتلوا ( يريد به إعادة القتل كما مر في ( الأعراف ) في قوله ) سنقتل أبناءهم ) [ الآية : 127 ] قوله ) إلا في ضلال ( أي في ضياع واضمحلال .
فإن كان اللام في ) الكافرين ( للجنس فظاهر لأن وبال كيدهم يعود بالآخرة عليهم حين يهلكون ويدخلون النار ، وإن كان للعهد وهم فرعون وقومه فأظهر كما قص عليك من حديث إغراقهم وإستيلاء موسى وقومه على ديارهم .
قوله ) ذروني أقتل موسى ( ظاهره مشعر بأن قومه كانوا يمنعونه من قتله وفيه احتمالات : الأول لعله كان فيهم من يعتقد نبوّة موسى فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون .
الثاني قال الحسن : إن أصحابه قالوا لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكنه أن يغلب سحرتك ، وإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس وقالوا : إنه كان محقاً وعجزوا عن جوابه فقتله .
الثالث : لعل مراد أمرائه أن يكون فرعون مشغول القلب بأمر موسى حتى إنهم يكونون في أمن وسعة .
قال جار الله : إن فرعون كان فيه خب وجريرة وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء فكيف لا يقصد قتل من أحسن بأن في وجوده هدم ملكه وتغيير ما هو عليه من عبادة أصنامه كما قال ) إني أخاف أن يبدّل ( الآية .
ولكنه كان قد استيقن أنه نبي وكان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك .
قال : وقوله ( وليدع ربّه ( شاهد صدق على فرط خوفه من دعوة ربه .
وقال غيره : هو على سبيل الاستهزاء يعني إن أقتله فليقل لربه الذي يدّعي وجوده حتى يخلصه .
ومعنى تبديل الدين تغيير عبادة الأصنام كما مر في ( الأعراف ) في قوله ) ويذرك وآلهتك ) [ الآية : 127 ] والفساد التهارج والتنازع واختلاف الآراء والأهواء ، أراد أن يحدث لا محالة من إبقائه فساد الدين والدنيا جميعاً ، أو أحد الأمرين على القراءتين .
ثم حكى ما ذكره موسى في دفع شر فرعون وهو العوذ بالله .
وفي تصدير الجملة بأن دلالة على أن الطريق المعتبر في دفع الآفات الاستغاثة والاستعاذة برب الأرض والسموات .
وفي قوله ) بربي ( إشارة إلى أن الذي رباني وإلى درجات الخير رقاني سيعصمني من شر هذا المارد الجاني .
وفي قوله ) وربكم ( احتراز عن أن يظن ظانّ أنه يريد به فرعون لأنه رباه في صغره ) ألم نربك فينا وليد ) [ الشعراء : 18 ] وفيه بعث لقوم موسى على أن يقتدوا به في الاستعاذة فإن اجتماع النفوس له تأثير قوي .
وفي قوله ) من كل متكبر ( أي متكبر عن قبول الحق على سبيل العموم فائدتان : إحداهما شمول الدعاء فيدخل فيه فرعون بالتبعية .
والثانية أن فرعون رباه في الصغر فلعله راعى حسن الأدب في عدم تعيينه .
وأما وصف المتكبر بقوله ) لا يؤمن(6/33)
" صفحة رقم 34 "
بيوم الحساب ( فلأن الموجب لإيذاء الناس أمران : أحدهما قسوة القلب .
والثاني عدم اعتقاد بالجزاء والحساب .
ولا ريب أنه إذا اجتمع الأمران كان الخطيب أفظع لاجتماع المقتضى وارتفاع المانع .
ثم شرع في قصة مؤمن آل فرعون .
والأصح أنه كان قبطياً ابن عم لفرعون آمن بموسى سراً واسمه سمعان أبو حبيب أو خربيل .
وقيل : كان إسرائيلياً .
وزيف بأن المؤمنين من بني إسرائيل لو يعتلوا ولم يعزوا لقوله ) اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه ( فما الوجه في تخصيصه ؟ ولقائل أن يقول : الوجه تخصيصه بالوعظ والنصيحة إلا أن قوله : ( فمن ينصرنا من بأس الله ( وقوله ( يا قوم ( على رأس كل نصيحة يغلب على الظن أن يتنصح لقومه .
ومعنى ) أن يقول ( لأجل قوله أو وقت أن يقول كأنه قال منكراً عليهم أترتكبون الفعلة الشنعاء وهي قتل نفس محرمة أي نفس كانت لأجل كلمة حقة وهي قوله ) ربى الله ( والدليل على حقيتها إظهار الخوارق والمعجزات .
وفي قوله ) من ربكم ( استدراج لهم إلى الاعتراف بالله .
ثم احتج عليهم بالتقسيم العقلي أنه لا يخلو من أن يكون كاذباً أو صادقاً .
على الأول يعود وبال كذبه عليه ، وعلى الثاني أصابكم ما يتوعدكم به من العقاب .
واعترض على الشق الأوّل بأن الكاذب يجب دفع شره بإمالته إلى الحق أو بقتله ، ولهذا أجمع العلماء على أن الزنديق الذي يدعو الناس إلى دينه يجب قتله .
وعلى الشق الثاني بأنه أوعدهم بأشياء والنبي صادق في مقالته لا محالة فلم قال ) يصبكم بعض الذي يعدكم ( ولم يقل ( كل الذي ) ؟ والجواب عن الأوّل أنه إنما ردّد بين الأمرين بناء على أن أمره مشكوك فيما بينهم ، والزمان زمان الفترة والحيرة ، فأين هذا من زماننا الذي وضح الحق فيه وضوح الفجر الصادق بل ظهور الشمس في ضحوة النهار ؟ وعن الثاني أنه من كلام المنصف كأنه قال : إن لم يصبكم كل ما أوعد فلا أقل من أن يصيبكم بعضه ، أو أراد عذاب الدنيا وكان موسى أوعدهم عذاب الدنيا والآخرة جميعاً .
وعن أبي عبيدة : أن البعض ههنا بمعنى الكل وأنشد قول لبيد :
ترّاك أمكنه إذا لم أرضها
أو يرتبط بعض النفوس حمامها
وخطأه جار الله وكثير من أهل العربية وقالوا : إنه أراد ببعض النفوس فقط .
ثم أكد حقية أمر موسى بقوله ) إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ( وقد هداه الله إلى المعجزات الباهرة فهو إذن ليس بمتجاوز عن حدّ الاعتدال ولا بكذاب .
وقيل : إنه كلام مستأنف من الله عز وجل ، وفيه تعريض بأن فرعون مسرف في عزمه على قاتل موسى كذاب في ادّعاء الإلهية فلا يهديه الله إلى شيء من خيرات الدارين ويزيل ملكه ويدفع شره ،(6/34)
" صفحة رقم 35 "
وقد يلوح من هذه النصيحة وما يتلوها من المواعظ أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه إلى أن قصدوا قتل موسى وعند ذلك أظهر الإيمان وترك التقية مجاهداً في سبيل الله بلسانه .
ثم ذكرهم نعمة الله عليهم وخوّفهم زوالها بقوله ) يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض ( أي غالبين على أرض مصر ومن فيها من بني إسرائيل والقبط ) فمن ينصرنا من بأس الله ( من يخلصنا من عذابه ) إن جاءنا ( وذلك لشؤم تكذيب نبيه ) قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى ( أي ما أشير عليكم برأي إلا بما رأى من قبله ) وما أهديكم ( بهذا الرأي ) إلا سبيل الرشاد ( وصلاح الدين والدنيا ، أو ما أعلمكم من الصواب ولا أسر خلاف ما أظهر .
قال جار الله : وقد كذب فقد كان مستشعراً للخوف الشديد من جهة موسى ولكنه كان يتجلد .
وحكى أبو الليث أن الرشاد اسم من أسماء أصنامه .
قوله ) مثل دأب ( قال جار الله صاحب الكشاف : لا بد من حذف مضاف أي مثل جزاء دأبهم وهو عادتهم المستمرة في الكفر والتكذيب .
ثم قال : إنه عطف بيان للأوّل لأن آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح .
ولو قلت أهلك الله الأحزاب قوم نوح وعاد وثمود لم يكن إلا عطف بين لإضافة قوم إلى أعلام فسرى ذلك الحكم إلى أوّل المضافات .
قلت : لا بأس من جعله بدلاً كما مرّ .
وقوله ( وما الله يريد ظلماً للعباد ( أبلغ من قوله ) وما ربك بظلام للعبيد ) [ فصلت : 46 ] لأن نفي الإرادة آكد من نفي الفعل ولتنكير الظلم في سياق النفي .
وفيه أن تدميرهم كان عدلاً وقسطاً .
وقيل : معناه أنه لا يريد لهم أن يظلموا فدمرهم لكونهم ظالمين .
وحين خوّفهم عذاب الدنيا خوّفهم عذاب الآخرة أيضاً فقال ) ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد ( أما اليوم فيمكن انتصابه على الظرفية كأنه أخبر عن خوفه في ذلك اليوم لما يلحقهم من العذاب ، والأولى أن يكون مفعولاً به أي أحذركم عذاب ذلك اليوم .
وفي تسمية يوم القيامة يوم التناد وجوه منها : أن أهل الجنة ينادون أهل النار وبالعكس كما مر في سورة الأعراف .
ومنها أنه من قوله ) يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) [ الإسراء : 71 ] ومنها أن بعض الظالمين ينادي بعضاً بالويل والثبور قائلين يا ويلنا .
ومنها أنهم ينادون إلى المحشر .
ومنها أنه ينادي المؤمن هاؤم اقرؤا كتابيه والكافر يا ليتني لم أوت كتابيه .
ومنها أنه يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح وينادي في أهل القيامة لا موت فيزداد أهل الجنة فرحاً على فرح ، وأهل النار حزناً على حزن .
وقال أبو علي الفارسي : التناد مخفف من التنادّ مشدداً وأصله من ندّ إذا هرب نظيره ) يوم يفر المرء من أخيه وأمه ) [ عبس : 34 ] الخ .
ويؤيده قراءة ابن عباس مشدداً وتفسيره بأنهم يندون كما تند الإبل .
وقوله بعد ذلك ) يوم تولوّون مدبرين ( أنهم إذا سمعوا زفير النار ندّوا هاربين فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفاً فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه .
وقال قتادة : معنى تولون(6/35)
" صفحة رقم 36 "
مدبرين انصرافهم عن موقف الحساب إلى النار .
ثم أكد التهديد بقوله ) ما لكم من الله ( الآية .
ثم ذكر مثالاً لمن لا يهديه الله بعد إضلاله وهو قوله ) ولقد جاءكم يوسف ( وفيه أقوال ثلاثة أحدها : أنه يوسف بن يعقوب ، وفرعون موسى هو فرعون يوسف ، والبينات إشارة إلى ما روي أنه مات لفرعون فرس قيمته ألوف فدعا يوسف فأحياه الله .
وأيضاً كسفت الشمس فدعا يوسف فكشفها الله ، ومعجزاته في باب تعبير الرؤيا مشهورة ، فآمن فرعون ثم عاد إلى الكفر بعدما مات يوسف .
والثاني هو يوسف بن ابن إبراهيم بن يوسف ابن يعقوب ، أقام فيهم عشرين سنة قاله ابن عباس .
والثاني هو يوسف بن ابن إبراهيم بن يوسف إليهم رسولاً من الجن اسمه يوسف وأورده أقضى القضاة أيضاً وفيه بعد .
قال المفسرون في قوله ) لن يبعث الله من بعده رسولاً ( ليس إشارة إلى أنهم صدّقوا يوسف لقوله ) فما زلتم في شك ( وإنما الغرض بيان أن تكذيبهم لموسى مضموم إلى تكذيب يوسف ولهذا ختم الآية بقوله ) كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب ( قلت : هذا إنما يصح إذا لم يكن فرعون يوسف قد آمن به لكنه مرويّ كما قلنا اللهم إلا أن يقال : لولا شكه في أمره لما كفر بعد موته قال جار الله : فاعل كبر ضمير عائد إلى من هو مسرف لأنه موحد اللفظ وإن كان مجموع المعنى .
وجوّز أن يكون ) الذين يجادلون ( مبتدأ على تقدير حذف المضاف أي جدال الذين يجادلون كبر .
وجوّز آخرون أن يكون التقدير الذين يجادلون كبر جدالهم على حذف الفاعل للقرينة .
وفي قوله ) وعند الذين آمنوا ( إشارة إلى أن شهادة المؤمنين عند الله بمكان حتى قرنها إلى شهادة نفسه .
والمقصود التعجب والاستعظام لجدالهم وخروجه عن حدّ أشكاله من الكبائر ، ووصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه مركزهما ومنبعهما ، أو باعتبار صاحبه .
ومن قرأ بالإضافة فظاهر إلا أنه قيل : فيه قلب والأصل على قلب كل متكبر كما يقال : فلان يصوم كل يوم جمعة أي يوم كل جمعة .
ثم أخبر الله سبحانه عن بناء فرعون ليطلع على السماء وقد تقدّم ذكره في سورة القصص .
قال أهل اللغة : الصرح مشتق من التصريح الإظهار ، وأسباب السموات طرقها كما مر في أوّل ( ص ) ف ) ليرتقوا في الأسباب ) [ الآية : 10 ] فائدة بناء الكلام على الإبدال هي فائدة الإجمال ثم التفصيل والإبهام ثم التوضيح من تشويق السامع وغيره .
من قرأ ) فأطّلع ( بالرفع فعلى العطف أي لعلي أبلغ فأطلع .
ومن قرأ بالنصب فعلى تشبيه الترجي بالتمني .
والتباب الخسران والهلاك كما مر في قوله ) وما زادوهم غير تتبيب ) [ هود : 101 ] استدل كثير من المشبهة بالآية على أن الله في السماء قالوا : إن بديهة فرعون قد شهدت بأنه في ذلك الصوب وأنه سمع من موسى أنه يصف الله بذلك وإلا لما رام بناء الصرح .
والجواب أن بديهة فرعون لا حجة فيها ، وسماعه ذلك من موسى ممنوع .
وقد يطعن بعض اليهود بل كلهم في الآية بأن(6/36)
" صفحة رقم 37 "
تواريخ بني إسرائيل تدل على أن هامان لم يكن موجوداً في زمان موسى وفرعون وإنما ولد بعدهما بزمان طويل ، ولو كان مثل هذا الشخص موجوداً في عصرهما لنقل لتوفرت الدواعي عن نقله .
والجواب أن الطعن بتاريخ اليهود المنقطع الوسط لكثرة زمان الفترة أولى من الطعن في القرآن المعجز المتواتر أولاً ووسطاً وآخراً .
ثم عاد سبحانه إلى حكاية قول المؤمن وأنه أجمل النصيحة أوّلاً بقوله ) اتبعون أهدكم ( ثم استأنف مفصلاً قائلاً ) إنما هذه الحياة الدنيا متاع ( يتمتع به أياماً قلائل ثم يترك عند الموت إن لم يزل نعيمها قبل ذلك ) وإن الآخرة هي دار القرار ( المنزل الذي يستقر فيه .
ثم بين أنه كيف تحصل المجازاة في الآخرة وفيه إشارة إلى أن جانب الرحمة أرجح .
ومعنى الرزق بغير حساب أنه لا نهاية لذلك الثواب ، أو أنه يعطى بعد الجزاء شيئاً زائداً على سبيل التفضل غير مندرج تحت الحساب .
ثم صرح بأنهم يدعونه إلى النار وهو يدعوهم إلى الخلاص عنها وفسر هذه الجملة بقوله ) تدعونني لأكفر بالله ( الآية .
ليعلم أن الشرك بالله أعظم موجبات النار والتوحيد ضدّه .
وفي قوله ) ما لي أدعوكم ( من غير أن يقول ( ما لكم ) مع أن الإنكار يتوجه في الحقيقة إلى دعائهم لا إلى المجموع ولا إلى دعائه سلوك لطريق الإنصاف .
ووجه تخصيص العزيز الغفار بالمقام أنه غالب على من أشرك به غفور لمن تاب عن كفره .
قوله ) لا جرم ( لا ردّ لكلامهم ، وجرم بمعنى كسب أو وجب أو لا بد وقد سبق في ( هود ) و ( النحل ) .
ومعنى ) ليس له دعوة ( أنه لا يقدر في الدنيا على أن يدعو الناس إلى نفسه لأنه جماد ، ولا في الآخرة لأنه إذا أنطقه الله فيها تبرأ من عابديه .
ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي ليس له استجابة دعوة كقوله ) والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ) [ الرعد : 14 ] عن قتادة : المسرفين هم المشركون .
ومجاهد : السفاكون للدماء بغير حلها .
وقيل : الذين غلب شرهم خيرهم .
وقيل : الذين جاوزوا في المعصية حدّ الاعتدال كما بالدوام والإصرار وكيفا بالشناعة وخلع العذار ) فستذكرون ( أي في الدنيا عند حلول العذاب أو في الآخرة عند دخول النار ) وأفوّض أمري إلى الله ( قاله لأنهم توعدوه .
وفيه وفي قوله ) فوقاه الله ( قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه .
قوله ) وحاق بآل فرعون ( معناه أنه رجع وبال مكرهم عليهم فأغرقوا ثم أدخلوا ناراً .
ولا يلزم منه أن يكونوا قد هموا بإيصال مثل هذا السوء إليه ، ولئن سلّم أن الجزاء يلزم فيه المماثلة لعل فرعون قد همّ(6/37)
" صفحة رقم 38 "
بإغراقه أو بإحراقه كما فعل نمرود .
قوله ) يعرضون عليها ( أي يحرقون بها .
يقال : عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به .
وقوله ( غدوّاً وعشياً ( إما للدوام كما مر في صفة أهل الجنة ) ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً ) [ مريم : 62 ] وإما لأنه اكتفى في القبر بإيصال العذاب إليهم في هذين الوقتين .
وفي سائر الأوقات إما أن يبقى أثر ذلك وألمه عليهم ، وإما أن يكون فترة وإما أن يعذبوا بنوع آخر من العذاب الله أعلم بحالهم .
وفي الآية دلالة ظاهرة على إثبات عذاب القبر لأن تعذيب يوم القيامة يجيء في قوله ) ويوم تقوم الساعة ( قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد بعرض النار عرض النصائح عليهم في الدنيا لأن سماع الحق مرّ طعمه ؟ قلنا : عدول عن الظاهر من غير دليل .
ولما انجز الكلام إلى شرح أحوال أهل النار عقبة بذكر المناظرات التي تجري فيها بين الرؤساء والأتباع والمعنى : اذكر يا محمد وقت تحاجهم وقد مر نظير ذلك مراراً .
وفي قولهم ) إن الله قد حكم بين العباد ( أي قضى لكل فريق بما يستحقه إشارة إلى الإقناط الكليّ ، ولهذا رجعوا عن محاجة المتبوعين إلى الالتماس من خزنة النار أن يدعوا الله بتخفيف العذاب عنهم زماناً .
قال المفسرون : إنما لم يقل لخزنتها لأن جهنم اسم قعر الناس فكأن لخزنتها قرباً من الله وهم أعظم درجة من سائر الخزنة فلذلك خصوهم بالخطاب .
أما قول الخزنة لهم ) فادعوا ( ودعاء الكافر لا يسمع ؛ فالمراد به التوبيخ والتنبيه على اليأس كأنهم قالوا : الشفاعة مشروطة بشيئين : كون المشفوع له مؤمناً والشافع مأذوناًله فيها ، والأمر إن ههنا مفقودان على أن الحجة قد لزمتهم والبينة ألجأتهم .
ثم أكدوا ذلك بقولهم ) وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ( أي لا أثر له ألبتة .
( غافر : ( 51 - 85 ) إنا لننصر رسلنا . . . .
" إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي(6/38)
" صفحة رقم 39 "
سيدخلون جهنم داخرين الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون " }(6/39)
" صفحة رقم 40 "
القراآت : ( لا ينفع ( على التذكير : نافع وحمزة وعلي وخلف وعاصم ) تتذكرون ( بتاء الخطاب : عاصم وحمزة وعلي وخلف .
) ادعوني أستجب ( بفتح الياء : ابن كثير .
) سيدخلون ( من الإدخال مجهولاً : ابن كثير ويزيد وعباس ورويس وحماد وأبو بكر غير الشموني ) شيوخاً ( بكسر الشين : ابن كثير وابن عامر وحمزة وعلي وهبيرة والأعشى ويحيى وحماد .
الوقوف ) الأشهاد ( ولا لأن ) يوم ( يدل من الأول ) الدار ( 5 ) الكتاب ( 5 لا ) الألباب ( 5 ) والأبكار ( 5 ) أتاهم ( لا لأن ما بعده خبر ( إن ) ) ما هم ببالغية ( ج لاختلاف الجملتين ) بالله ( ط ) البصير ( 5 ) لا يعلمون ( 5 ) ولا المسيء ( ط ) يتذكرون ( 5 ) لا يؤمنون ( 5 ) أستجب لكم ( ط ) داخرين ( 5 ) مبصراً ( ط ) لا يشكرون ( 5 ) شيء ( لا لئلا يوهم أن ما بعده صفة شيء وخطؤة ظاهر ) إلا هو ( ز لابتداء الاستفهام ورجحان الوصل لفاء التعقيب ولتمام مقصود الكلام ) يؤفكون ( 5 ) يجحدون ( 5 ) الطيبات ( ط ) العالمين ( 5 ) الدين ( 5 ) العالمين ( 5 ) شيوخاً ( ج لاختلاف الجملتين ) تعقلون ( 5 ) ويميت ( ج لأجل الفاء مع الشرط ) فيكون ( 5 ) في آيات الله ( ط لانتهاء الاستفهام وابتداء آخر ) يصرفون ( 5 ج لاحتمال كون ) الذين ( بدلاً من الضمير في ) يصرفون ( ) رسلنا ( قف إن لم تقف على ) يصرفون ( ) يعلمون ( 5 لا لتعلق الظرف ) والسلاسل ( ط لأن ما بعده مستأنف .
وقيل : ( والسلاسل ( مبتدأ والعائد محذوف أي والسلاسل يجرون بها في الحميم ) يسجرون ( 5 ج للآية مع العطف ) من دون الله ( ط ) شيئاً ( ط ) الكافرين ( 5 ) تمرحون ( 5 ) خالدين فيها ( ج ) المتكبرين ( 5 ) حق ( 5 ) للشرط ( مع الفاء ) يرجعون ( 5 ) نقصص عليك ( ط ) بإذن الله ( ج ) المبطلون ( 5 ) تأكلون ( 5 ز للآية مع العطف وشدّة اتصال المعنى ) تحملون ( 5 ط لأن ما بعده مستأنف ولا وجه للعطف .
) تنكرون ( 5 ) من قبلهم ( ط للفصل بين الاستخبار والأخبار ) يكسبون ( 5 ) يستهزؤن ( 5 ) مشركين ( 5 ) بأسنا ( الثاني ط ) في عباده ( ج لأن الفعل المعطوف عليه مضمر وهو سن ) الكافرون ( 5 .
التفسير : هذا من تمام قصة موسى وعود إلى مقام انجر الكلام منه وذلك أنه لما قيل ) فوقاه الله ( وكان المؤمن من أمة موسى علم منه ومما سلف مراراً أن موسى وسائر قومه قد نجوا وغلبوا على فرعون وقومه فلا جرم صرح بذلك فقال ) إنا لننصر رسلنا ( الآية .
ونصرتهم في الدنيا بإظهار كلمة الحق وحصول الذكر الجميل واقتداء الناس بسيرتهم إلى مدة ما شاء الله ، وقد ينصرون بعد موتهم كما أن يحيى بن زكريا لما قتل قتل به سبعون(6/40)
" صفحة رقم 41 "
ألفاً .
وأما نصرهم في الآخرة فمن رفع الدرجات والتعظيم على رؤوس الأشهاد من الحفظة والأنبياء والمؤمنين وقد مر باقي تفسير الأشهاد في أوائل ( هود ) .
ثم بين أن يوم القيامة لا اعتذار فيه لأهل الظلم والغواية وإن فرض اعتذار فلا يقبل وسوء الدار عذاب الآخرة .
ثم أخبر عن إعطاء موسى التوراة وإيراثها قومه بعده .
والمراد بكون الكتاب هدى أنه دليل في نفسه ، وبكونه ذكرى أن يكون مذكراً للشيء المنسيّ .
وحين فرغ من قصة موسى وما تعلق بها خاطب نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) مسلياً له بقوله ) فاصبر إن وعد الله ( بالنصر وإعلاء كلمة الحق ) حق ( كما قص عليك من حال موسى وغيره .
ثم أمره باستغفاره لذنبه وقد سبق البحث في مثله مراراً .
والعشيّ والإبكار صلاتا العصر والفجر أو المراد الدوام .
قوله ) إن الذين يجادلون ( عود إلى ما انجر الكلام إليه من أول السورة إلى ههنا .
وفيه بيان السبب الباعث لكفار قريش على هذا الجدال وهو الكبر والحسد وحب الرياسة ، وأن يكون الناس تحت تصرفهم وتسخيرهم لا أن يكونوا تحت تصرف غيرهم فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا بد أن تكون الأمة تحت أمره ونهيه وذلك تخيل فاسد لأن الغلبة لدين الإسلام ولهذا قال ) ما هم ببالغيه ( ثم أمره أن يستعيذ في دفع شرورهم بالله السميع لأقوالهم البصير بأحوالهم فيجازيهم على حسب ذلك .
ثم إنهم كانوا أكثر ما يجادلون في أمر البعث فاحتج الله تعالى عليهم بقوله ) لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ( ومن قدر على الأصعب في نظر المخالف وقياسه كان على الأسهل أقدر ، فظاهر أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا برهان بل لمجرد الحسد والكبر بل لا يعرفون ما البرهان وكيف طريق النظر والاستدلال ولهذا قال ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( .
ثم نبه على الفرق بين الجدال المستند على العناد والتقليد وبين الجدال المستند إلى الحجة والدليل قائلاً ) وما يستوي الأعمى والبصير ( وحين بين التفاوت بين الجاهل والعالم أراد أن يبين التفاوت بين المحسن والمسيء ثم قال ) قليلاً ما تتذكرون ( وفيه مزيد توبيخ وتقريع ، وفيه أن هذا التفاوت مما يعثر عليه المكلف بأدنى تأمل لو لم يكن معانداً مصراً .
ثم صرح بوجود القيامة قائلاً ) إن الساعة لآتية ( أدخل اللام في الخبر بخلاف ما في ( طه ) لأن المخاطبين ههنا شاكون بخلاف المخاطب هناك وهو موسى ، وهذه الآية كالنتيجة لما قبلها .
ومعنى ) لا يؤمنون ( لا يصدّقون بالبعث .
ثم إنه كان من المعلوم أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بالطاعة فلا جرم أشار إليها بقوله ) وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ( أكثر المفسرين على أن الدعاء ههنا بمعنى العبادة ، والاستجابة بمعنى الإنابة بقوله سبحانه ) إن الذين يستكبرون عن عبادتي ( والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن(6/41)
" صفحة رقم 42 "
كقوله ) إن يدعون من دونه إلا إناثاً ) [ النساء : 117 ] روى النعمان بن بشير أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الدعاء العبادة ) وقرأ هذه الآية .
وجوّز آخرون أن يكون الدعاء والاستجابة على ظاهرهما ، ويراد بعبادتي دعائي لأن الدعاء باب من العبادة يصدّقه قول ابن عباس : أفضل العبادة الدعاء .
وقد مرّ تحقيق الدعاء في سورة البقرة في قوله ) أجيب دعوة الداع إذا دعان ) [ الآية : 186 ] وقد فسره ابن عباس بمعنى آخر قال : وحدوني أغفر لكم .
وفي الدعاء .
قال جار الله : وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ثم للعبادة بالتوحيد .
ومعنى ) داخرين ( صاغرين .
وقال أهل التحقيق : كل من دعا الله وفي قلبه مثقال ذرة من المال والجاه وغير ذلك فدعاؤه لساني لا قلبي ولهذا قد لا يستجاب لأنه اعتمد على غير الله .
وفيه بشارة هي أن دعاء المؤمن وقت حلول أجله يكون مستجاباً ألبتة لانقطاع تعلقه وقتئذ عما سوى الله .
ثم إنه تعالى ذكر نعمته على الخلائق بوجود الليل والنهار وقد مر نظير الآية مراراً ولا سيما في أواخر ( يونس ) وأواسط ( البقرة ) .
وكرر ذكر الناس نعياً عليهم وتخصيصاً لكفران النعمة بهم من بين سائر المخلوقات .
وأما وجه النظم فكأنه يقول : إني أنعمت عليك بهذه النعم الجليلة قبل السؤال فكيف لا أنعم عليك بما هو أقل منه بعد السؤال ؟ ففي تحريض على الدعاء .
وأيضاً الاشتغال بالدعاء مسبوق بمعرفة المدعوّ فلذلك ذكر في عدّة آيات دلائل باهرة من الآفاق والأنفس على وحدانيته واتصافه بنعوت الكمال .
قوله ) ذلكم الله ( إلى قوله ) إلا هو ( قد مر في ( الأنعام ) .
قوله ) كذلك يؤفك ( أي كل من جحد بآيات الله ولم يكن طالباً للحق فإنه مصروف عن الحق كما صرفوا .
قوله ) فأحسن صوركم ( كقوله ) ولقد كرمنا بني آدم ) [ الإسراء : 70 ] ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) [ التين : 4 ] قوله ) الحمد لله ربّ العالمين ( إما استئناف مدح من الله تعالى لنفسه ، وإما بتقدير القول أي فادعوه مخلصين قائلين الحمد لله .
قوله ) لما جاءني البينات ( شامل لأدلة العقل والنقل جميعاً .
قوله ) ثم لتبلغوا أشدكم ( متعلق بمحذوف أي ثم يبقيكم لتبلغوا وكذلك لتكونوا .
وأما قوله ) ولتبلغوا أجلاً مسمى ( فمتعلق بفعل آخر تقديره ونفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى هو الموت أو القيامة ، ورجاء منكم أن تعقلوا ما في ذلك من العبر .
وحيث أنجر الكلام إلى ذكر الأجل وصف نفسه بأن الإحياء والإماتة منه ، ثم أشار بقوله ) فإذا قضى ( الخ إلى نفاذ قدرته في الكائنات من غير افتقار في شيء مّا إلى آلة وعدّة .
وأشار إلى أن الإحياء والإماتة ليسا من الأشياء التدريجية ولكنهما من الأمور الدفعية المتوقفة على أمر كن فقط ، وذلك أن الحياة تحصل بتعلق النفس الناطقة بالبدن ، والموت يحدث من قطع ذلك التعلق ، وكل من الأمرين يحصل في آن واحد .
ويمكن أن(6/42)
" صفحة رقم 43 "
يكون فيه إشارة إلى خلق الإنسان الأوّل وهو آدم كقوله ) خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) [ آل عمران : 59 ] ثم عاد إلى ذم المجادلين وذكر وعيدهم قائلا ) ألم تر ( الآية والكتاب القرآن .
وما أرسل به الرسل سائر الكتب .
وقوله ( فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم ( ليس كقول القائل : سوف أصوم أمس .
بناء على أن سوف للاستقبال وإذ للمضي ، لأن ( إذ ) ههنا بمعنى ( إذا ) إلا أنه ورد على عادة أخبار الله نحو ) وسيق ) [ الزمر : 73 ] ( ونادى ) [ الأعراف : 48 ] وقال المبرد : إذ صارت زماناً قبل سوف لأن العلم وقع منهم بعد ثبوت الأغلال .
والمعنى علموا من الأغلال الذي كانوا أو عدوه من بعد أن حق بالوجود .
ومعنى ) يسجرون ( قال جار الله : هو من سجر التنور إذا ملأه بالوقود ، ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم وهم مسجورون بها مملوءة أجوافهم منها .
والحاصل أنهم يعذبون مرة بالماء الشديد الحرارة ومرة بالنار .
وقال مقاتل : في الحميم يعني في حر النار ) ثم قيل لهم ( على سبيل التوبيخ ) أينما كنتم ( ( ما ) موصولة مبتدأ و ( أين ) خبرها .
ومعنى ) ضلّوا ( غابوا وضاعوا ولم يصل إلينا ما كنا نرجوه من النفع والشفاعة ، وأكدوا هذا المعنى بقوله ) بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً ( يعتدّ به كما تقول : حسبت أن فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء أي ليس عنده خير .
ومن جوّز الكذب على الكفار لم يحتج إلى هذا التأويل وقال : إنهم أنكروا عبادة الأصنام .
ثم قال ) كذلك يضل الله الكافرين ( قالت الأشاعرة : أي عن الحجة والإيمان .
وقالت المعتزلة : عن طريق الجنة بالخذلان .
وقال في الكشاف : أي مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر .
واعترض عليه بأنهم مقرونون بآلهتهم في النار لقوله ) إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) [ الأنبياء : 98 ] والجواب أن كون الجميع في النار لا ينافي غيبة أحدهما عن الآخر .
وأجاب في الكشاف باختلاف الزمان وبتفسير الضلال بعدم النفع .
) ذلكم ( العذاب بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح أي النشاط ) بغير الحق ( وهو الشرك وعبادة الصنم .
ويجوز أن يكون القول محذوفاً أي يقال لهم ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكل طائفة مقدّرين الخلود فيها ) فبئس مثوى المتكبرين ( يعني الذين مر ذكرهم في قولهم ) إن في صدوركم إلاّ كبر ( والمخصوص بالذم محذوف وهو مثواكم أو جهنم .
قال جار الله : إنما لم يقل ( فبئس مدخل المتكبرين ) حتى يكون مناسباً لقوله ) ادخلوا ( كقولك : زر بيت الله فنعم المزار .
لأن الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء .
وحين زيف طريقة المجادلين مرة بعد مرة أمر رسوله بالصبر على إيذائهم وإيحاشهم إلى إنجاز الوعد بالنصرة قال ) فإما نرينّك بعض الذي نعدهم ( من عذاب الدنيا فذاك ) أو نتوفينك فإلينا يرجعون ( هذا التقدير ذكره جار الله ، وقد مر في ( يونس ) مثله .(6/43)
" صفحة رقم 44 "
وأقول : لا بأس أن يعطف قوله ) أو نتوفينك ( على ) نرينك ( ويكون الرجوع إلى الله جزاء لهما جميعاً ومعناه : إنا نجازيهم على أعمالهم يوم القيامة سواء عذبوا في الدنيا أو لم يعذبوا .
ثم سلاه بحال الأنبياء السابقة ليقتدي بهم في الصبر والتماسك فقال ) ولقد أرسلنا ( الآية .
ذهب بعض المفسرين إلى أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً .
وقيل : ثمانية آلاف ، نصف ذلك من بني إسرائيل والباقي من سائر الناس .
ولعل الأصلح أن عددهم لا يعلمه إلا الله لقوله تعالى ) ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ) [ إبراهيم : 9 ] لكن الإيمان بالجميع واجب .
عن علي رضي الله عنه .
بعث الله نبياً أسود لم يقص علينا قصته .
ثم إن قريشاً كانوا يقترحون آيات تعنتاً كما مر في أواخر ( سبحان ) وأول ( الفرقان ) وغيرهما فلا جرم قال الله تعالى ) وما كان لرسول أن يأتي بآياته إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله ( بعذاب الدنيا أو بالقيامة .
وقال ابن بحر : أمر الله الآية التي اقترحوها وذلك أنه يقع الاضطرار عندها ) وخسر هنالك ( أي في ذلك الوقت استعير المكان للزمان ) المبطلون ( وهم أهل الأديان الباطلة .
ثم عاد إلى نوع آخر من دلائل التوحيد قائلاً ) الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا ( قال جار الله : ظاهر النظم يقتضي إدخال لام الغرض في القرائن الأربع أو خلو الكل عنها فيقال : لتركبوا ولتأكلوا ولتصلوا إلى منافع ولتبلغوا .
أو يقال : منها تركبون ومنها تأكلون وتصلون وتبلغون إلا أنه ورد على ما ورد لأن الركوب قد يجب كما في الحج والغزو ، وكذلك السفر من بلد إلى بلد لهجرة أو طلب علم لا أقل من الندب فصح أن يكونا غرضين .
وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباح الذي لا تتعلق به إرادته كثير تعلق شرعاً .
وإنما قال ) على الفلك ( ولم يقل ( وفي الفلك ) مع صحته إذ هي كالوعاء إزدواجاً لقوله ) وعليها ) [ المؤمنون : 22 ] والحمل محمول على الظاهر .
وقيل : هو من قول العرب : حملت فلاناً على الفرس إذا وهب له فرساً .
ثم وبخهم بقوله ) ويريكم آياته فأيّ آيات الله تنكرون ( ثم حرضهم وزاد توبيخهم بقوله ) أفلم يسيروا ( الآية .
وقد سبق .
وقوله ( فما أغنى عنهم ( ( ما ) نافية أو استفهامية ومحلها النصب .
وقوله ( ما كانوا ( مصدرية أو موصولة أي كسبهم أو الذي كسبوا .
قوله ) فرحوا ( لا يخلو إما أن يكون الضمير عائداً إلى الكفار أو إلى الرسل .
وعلى الأول فيه وجوه منها : أنه تهكم بعلمهم الذي يزعمون كقولهم ) وما أظن الساعة قائمة ) [ الكهف : 36 ] ( أئذا كنا تراباً وعظاماً أئنا لفي خلق جديد ) [ ق : 4 ] ومنها أنه أراد بذلك شبهات الدهرية وبعض الفلاسفة كقولهم ) وما يهلكنا إلا الدهر ) [ الجاثية : 24 ] وكانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وحقروا علم الأنبياء بالنسبة إلى علمهم(6/44)
" صفحة رقم 45 "
كما يحكى عن سقراط أنه سمع بموسى عليه السلام فقيل له : لو هاجرت إليه ؟ فقال : نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا .
ويروى أن جالينوس قال لعيسى عليه السلام : بعثت لغيرنا .
ومنها أن يراد علمهم بظاهر المعاش كقوله ) يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ) [ الروم : 7 ] وذلك مبلغهم من العلم فرحوا به وأعرضوا عن علم الديانات .
وعلى الثاني يكون معناه أن الرسل لما رأوا جهل قومهم وسوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم .
ووجه آخر وهو أن يكون ضمير ) فرحوا ( للكفار وضمير ) عندهم ( للرسل أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء .
ثم بين أن إيمان البأس وهو حالة عيان العذاب أو أمارات نزول سلطان الموت غير نافع وقد مر مراراً .
ومعنى ) فلم يك ينفعهم ( لم يصح ولم يستقم لأن الإلجاء ينافي التكليف .
وترادف الفاءات في قوله ) فما أغني ( ) فلما جاءتهم ( ) فلما رأوا ( ) فلم يك ( لترتيب الأخبار ولتعاقب المعاني من غير تراخٍ .
وقال جار الله : فما أغنى نتيجة قوله ) كانوا أكثر منهم ( وقوله ( فلما جاءتهم ( جار مجرى البيان والتفسير لقوله ) فلما أغنى ( وقوله ( فلما رأوا بأسنا ( تابع لقوله ) فلما جاءتهم ( كأنه قال : فكفروا كقولك : رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء .
وقوله ( فلما رأوا بأسنا ( آمنوا وكذلك ) فلم يك ( تابع لإيمانهم بعد البأس .
قال أهل البرهان : وإنما قال ههنا ) وخسر هنالك الكافرون ( وفيما قبل ) المبطلون ( لأنه قال هناك ) قضى بالحق ( ونقيض الحق الباطل ، وههنا ذكر أن إيمان البأس غير مجد ونقيضه الكفر والله أعلم .(6/45)
" صفحة رقم 46 "
سورة فصلت
( سورة فصلت وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وثلثمائة وخمسون كلمها سبعمائة وأربع وتسعون آياتها 54 ) بسم الله الرحمن الرحيم
( فصلت : ( 1 - 24 ) حم
" حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم(6/46)
" صفحة رقم 47 "
سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين "
( القراآت )
سواء ( بالرفع : يزيد .
وقرأ يعقوب بالجر .
الباقون : بالنصب ) نحسات ( بسكون الحاء : ابن كثير وأبو عمرو ونافع وسهل ويعقوب ) وأما ثمود ( بالنصب : المفضل ) نحشر ( بالنون ) أعداء ( بالنصب : نافع ويعقوب .
الآخرون : بالياء مجهولاً ) أعداء ( مرفوعاً .
الوقوف : ( حم ( كوفي ) الرحيم ( 5 ج لأن قوله ) كتاب ( يصلح أن يكون بدلاً من ) تنزيل ( وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب .
ويجوز أن يكون ) تنزيل ( هو مع وصفه مبتدأ ) وكتاب ( خبره ) يعلمون ( 5 ج لأن ) وبشيراً ( صفة أخرى ل ) قرآناً ( ) ونذيراً ( 5 ج لاختلاف الجملتين ) لا يسمعون ( 5 ) عاملون ( 5 ) واستغفروه ( ج ) للمشركين ( 5 لا ) كافرون ( 5 ) ممنون ( 5 ) وأنداداً ( ط ) العالمين ( 5 لا للآية مع العطف ) أيام ( ط لمن نصب ) سواء ( أو رفع ومن خفض لم يقف ) للسائلين ( 5 ) كرهاً ( ط ) طائعين ( 5 ) أمرها ( ج للعدول ) بمصابيح ( ج لحق المحذوف أي وحفظناها حفظاً ولعل الوصل أولى لما يجيء ) وحفظاً ( 5 ) العليم ( 5 ) وثمود ( 5 بناء على أن ( إذ ) يتعلق بمحذوف هو اذكر أو بمعنى الفعل في الصاعقة أي يصعقون إذ ذاك ، ولا يجوز أن يتعلق ب ) أنذرتكم ( ) إلا الله ( ط ) كافرون ( 5 ) منا قوّة ( ط ) منهم قوّة ( ط للفصل بين الإخبار والاستخبار ) يجحدون ( 5 ) الدنيا ( ج ) لا ينصرون ( 5 ) يكسبون ( 5 ) يتقون ( 5 ) يوزعون ( 5 ) يعملون ( 5 ) علينا ( ط ) ترجعون ( 5 ) تعملون ( 5 ) الخاسرين ( 5 ) مثوى لهم ( ط ) المعتبين ( 5 .
التفسير : ( حم ( قال بعضهم : الحاء من الحكمة ، والميم من المنة أي منّ على عباده بتنزيل الحكمة من الرحمن في الأزل ، الرحيم في الأبد وهي ) كتاب فصلت آياته ( أي ميزت أمثالاً ومواعظ وأحكاماً وقصصاً إلى غير ذلك .
وقد مر في أوّل ( هود ) .
وانتصب ) قرآناً ( على المدح والاختصاص أو على الحال الموطئة ) لقوم يعلمون ( أي لقوم عرب يفهمون معانيه يعني بالأصالة وللباقين بعدهم ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منهم فالدعوة تحصل أوّلاً لهم .
والأظهر عندي أنه كقوله ) هدى للمتقين ) [ البقرة : 20 ] وذلك أنه لا ينتفع بالقرآن إلا أهل العلم به .
قال أهل السنة : الصفات المذكورة ههنا للقرآن توجب شدة(6/47)
" صفحة رقم 48 "
الاهتمام بمعرفته .
والوقوف على معانيه بيانه أن كونه نازلاً من الرحمن الرحيم دليل على أن تنزيله رحمة للعالمين ، وفيه شفاء لأمراض القلوب ، وكونه كتاباً .
والتركيب يدور على الجمع كما سبق في أول الكتاب يدل على أن فيه علوم الأوّلين والآخرين .
وقوله ( فصلت آياته ( دليل على أنه في غاية الكشف والبيان وكونه ) قرآناً عربياً ( ولغة العرب أفصح اللغات مما يوجب أن تتوفر عليه الرغبات ولا سيما للعرب ومن داناهم .
وكونه ) بشيراً ونذيراً ( يدل على أن الاحتياج إليه من أهم المهمات لأنه سعي في معرفة ما يوصل إلى الثواب الأبديّ ، ويخلص من العقاب السرمدي .
فإذا علم المخاطبون هذه الفوائد ثم أعرض أكثرهم عن القرآن ولم يسمعوه سماع قبول دل ذلك على أن المهديّ من هداه الله ومن يضلله فلا هادي له .
ثم أكد بيان إعراضهم بقوله ) وقالوا قلوبنا في أكنة ( ولا يخفى أنه سبحانه ذكر هذا في معرض الذم فوجه الجمع بينه وبين قوله ) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً ) [ الأنعام : 25 ] هو أن الذم إنما يتوجه على اعتقادهم أنهم إذا كانوا كذلك لم يجز تكليفهم ولا خطابهم بالأمر والنهي ، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء .
قال جار الله : فائدة ( من ) في قوله ) ومن بيننا وبينك حجاب ( دون أن يقول ( وبيننا ) هو أن العبارة الثانية تدل على مطلق الحجاب ، ولكن العبارة الواردة في القرآن تفيد أن المسافة التي بينهم وبين رسول الله مملوءة من الحجاب لا فراغ فيها كأنه قيل : إن الحجاب ابتدأ منا ومنك .
ثم حكى عنهم ما قالوا على سبيل التهديد أو التحلية ) فاعمل ( أي على دينك أو في إبطال ديننا ) إننا عاملون ( على ديننا أو في إبطال أمرك .
ثم أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجيب عن شبهتهم بقوله ) إنما أنا بشر مثلكم ( وتوجيه النظم إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبراً فإني بشر مثلكم ولا امتياز إلا أني أوحي إليّ بالتوحيد والأمر به ، فعليّ البلاغ وحده .
ثم إن قبلتم قولي أثابكم الله وإلا عاقبكم .
قال في الكشاف : أراد إن نبوّتي صحت بالوحي وإذا صحت وجب اتباعي ومن جملة ذلك القول بالتوحيد .
ثم بين أن خلاصة الوحي ترجع إلى أمرين : الاستقامة والإقامة على التوحيد المتوجهين إلى الله والاستغفار من تقصير قد يقع في الطاعة .
ثم هددّ أهل الشرك بقوله ) وويل للمشركين ( وقرن منع الزكاة بالكفر بالله أوّلاً وبالآخرة ثانياً ، لأن المال شقيق الروح ، وبه ويبذله في سبيل الله يعرف الموافق من المنافق ، ففيه بعث شديد لأهل الإيمان على أداء الزكاة ، وفيه أن الشفقة على خلق الله قرينة التعظيم لأمر الله .
وقيل : كانت قريش يطعمون الحاج ولا يطعمون المؤمنين فنزلت قاله الفراء .
وقيل : أراد بالزكاة ههنا الإيمان لأنه يزكي النفس من دون الشرك .
ثم ذكر جزاء المطيعين وهو ظاهر .
والممنون المقطوع .
وقيل : هو من المنة .
قال جمع من المفسرين : نزلت في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن(6/48)
" صفحة رقم 49 "
الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون .
لما حكى بعض قبائح المشركين وسائر الكفرة أراد أن يورد دليلاً على التوحيد فأمر رسوله أن يوبخهم بقوله ) أئنكم لتكفرون بالذي ( سمعتم ممن تصدّقونهم من أهل الكتاب غيركم أنه ) خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ( عمم الكفر أوّلاً ثم خصص بنوع الشرك ) وجعل فيها رواسي ( ومعنى ) من فوقها ( أي بالنسبة إلى سكان المعمورة تذكيراً لنعمة فوق نعمة فإن الجبال منافعها أكثر من أن تحصى يعرف بعضها أهلها ولعلنا قد عددنا في أوّل ( البقرة ) طرفاً منها .
) وبارك فيها ( بوضع الخيرات الكثيرة فيها .
قال ابن عباس : يريد شق الأنهار وخلق الجبال والأشجار والحيوانات وكل ما يحتاج إليه ) وقدّر فيها أقواتها ( عن مجاهد : يعني المطر فإنه بمنزلة الغذاء للأرض به حياتها .
وعن محمد بن كعب : أراد أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم .
وقيل : لا حاجة إلى الإضمار فإن الإضافة تحسن لأدنى ملابسة أي وقدر فيها أقواتها التي يختص حدوثها بها ) في أربعة أيام ( يعني مع اليومين الأوّلين فيكون إيجاد نفس الأرض في يومين وإيجاد هذه الأشياء في يومين آخرين والمجموع أربعة أيام وخلق السماء في تتمة ستة فتكون هذه الآية موافقة لسائر الآيات ، وقد سبق هذا المعنى في أوّل سورة البقرة .
من قرأ ) سواء ( بالرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سواء .
ثم إن كان الضمير للأربعة فمعناه أن تلك الأيام مستوية في الطول والقصر كأيام خط الاستواء ، أو هي تامة غير ناقصة بشيء فقد يطلق لفظ الكل على الأكثر ، وهذه إحدى فوائد العدول عن العبارة الصريحة وهي أن لو قال في يومين آخرين .
وقال بعضهم : من فوائده أنه لا يجوز عطف قوله ) وجعل ( على ) خلق ( لأن قوله ) وتجعلون ( معطوف على ) لتكفرون ( ولا يجوز أن يحال بين صلة الموصول وما يعطف عليه بأجنبي لا يقال : جاءني الذي يكتب وجلس يقرأ فلا بدّ من إضمار فعل مثل الأول فتقدير الكلام : ذلك أن رب العالمين خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام ، وهو كلام لا يرد عليه سؤال أصلاً .
ومن قرأ بالجر فعلى وصف الأربعة بالاستواء والمعنى كما مر .
ومن قرأ بالنصب فعلى المصدر أي استوت استواء .
ثم إن كان الضمير للأربعة فالمعنى كما قلنا ، وإن كان للأقوات .
وكذا في قراءة الرفع احتمل أن يكون ) للسائلين ( متعلقاً به أي الأقوات والأرزاق سواء لمن سأل ولمن لم يسأل لما روى عن ابن عباس قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا رديفه يقول : خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة ، وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة سواء لمن سأل ولمن لم يسأل ، وأنا من الذين لم يسألوا الله الرزق ، ومن سأل فهو جهل منه .(6/49)
" صفحة رقم 50 "
واحتمل أن يكون قوله ) للسائلين ( متعلقاً بقوله ) وقدّر ( أي قدّر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها وهم في الاحتياج سواء .
وقيل : إنه متعلق بمحذوف كأنه قيل : هذا الحصر والبيان لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها ، لأن اليهود سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك .
قوله ) ثم استوى إلى السماء ( أي توجه بداعي الحكمة بعد خلق الأرض لا دحوها إلى خلق السماء ، وقد مر في أول ( البقرة ) .
قوله ) وهي دخان ( ذكر أصحاب الأثر وجاء في أوّل توراة اليهود أن عرش الله قبل خلق السموات والأرض كان على الماء فأحدث في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان ، أما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله منه الأرض ، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السموات .
وزعم المتكلمون أن الله سبحانه خلق الأجزاء التي لا تتجزأ فكانت مظلمة عديمة النور ، ثم ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمساً وقمراً وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة فصحت تسمية تلك الأجزاء قبل استنارتها بالدخان ، لأنه لا معنى للدخان إلا أنها أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور .
واعلم أن ظاهر قوله ) ثم استوى ( يدل على أن خلق السماء متأخر عن خلق الأرض وقد جاء مثله في آيات أخر .
وفي الآثار ، إلا أن الواحدي نقل في البسيط عن مقاتل أنه قا ل : خلق الله السماء قبل الأرض فتأوّل الآية بأن لفظة كان مضمرة أي ثم كان قد استوى كما في قوله تعالى ) إن يسرق فقد ) [ يوسف : 77 ] أي إن يكن يسرق .
وزيف بأن الجمع بين ( ثم ) الدال على التأخر وبين إضمار ( كان ) الدال على التقدم جمع بين النقيضين .
ويمكن أن يجاب بأن ( ثم ) ههنا لترتيب الأخبار .
وقال الإمام فخر الدين الرازي : المختار عندي أن تكوين السماء مقدم على تكوين الأرض والخلق الوارد في الآية بمعنى التقدير كقوله ) خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) [ آل عمران : 59 ] فإن إيجاد الموجود محال .
فمعنى الآية أنه قضى بحدوث الأرض في يومين أي حكم بأنه سيحدث كذا في مدة كذا .
قلت : لو لم يكن قوله تعالى ) وجعل فيها رواسي من فوقها ( إلى قوله ) أربعة أيام ( لكان هذا التأويل له وجه .
وقال بعض الصوفية : خلق أرض البشرية في يومي الهواء والطبيعة وهما من الأنداد ، وجعل لها رواسخ العقل من فوقها لتستقر بها ، وبارك فيها بالحواس الخمسة ، وقدر فيها أقواتها من سائر القوى البشرية في تتمة أربعة أيام يعني في يومي الروح الحيواني والطبيعي ، ثم استوى إلى سماء القلب وهي دخان نار الروحانية فقضى سماء القلب أطواراً سبعة كقوله ) وقد خلقكم أطواراً ) [ نوح : 15 ] أوّلها الوسوسة ثم الهواجس ثم الرؤية ) ما كذب الفؤاد ما رأى ) [ النجم : 11 ] ثم الحكمة ( ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه ) ثم ظهور المغيبات ثم المحبة ثم التجلي في يومي الروح والإلهام(6/50)
" صفحة رقم 51 "
الرباني .
قوله ) فقال لها وللأرض ائتيا ( الآية .
للمفسرين فيه قولان : الأول إجراء الكلام على ظاهره فإنه ليس بمستبعد من الله إنطاق أيّ جسم فرض بل إيداع الحياة والفهم فيه ولهذا قال ) طائعين ( على لفظ جمع المذكر السالم ، فإن جمع المؤنث السالم لا يختص بالعقلاء .
ووجه الجمع أن أقل الجمع اثنان أو لأن كل واحد منهما سبع .
ومن هؤلاء من قال : نطق من الأرض موضع الكعبة ، ومن السماء ما بحذائها ، فجعل الله لها حرمة على سائر الأرض .
وعلى هذا القول لا بد أن يكون هذا التخاطب بعد الوجود فقالوا : معناه ائتيا بما خلقت فيكما أما أنت يا سماء فأطلعي الشمس والقمر والنجوم ، وأما أنت يا أرض فاخرجي ما خلقت فيك من النبات فقالتا : جئنا بما أحدثت فينا مستجيبين لأمرك .
ومعنى الإتيان الحصول والوقوع كما يقال : أتى عمله مرضياً .
ويجوز أن يراد لتأت كل منكما صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة من كون الأرض قراراً والسماء سقفاً لها .
وقوله ( طوعاً أو كرهاً ( إظهار لكمال القدرة والتقدير أبيتما أو شئتما كما يقول الجبار لمن تحت يده : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو كارهين .
والقول الثاني أن هذا تمثيل لنفوذ قدرته فيهما ولا قول ثمة ، وعلى هذا لا يبعد أن يكون المقصود إيجادهما على وفق إرادته وهما في حيز العدم ، وأن يكون المراد ما تقدم .
وقال بعضهم : الطوع يرجع إلى السماء لأن أحوالها على نهج واحد لا يختلف .
وشبه مكلف مطيع والكره يعود إلى الأرض لأنها مكان تغيير الأحوال ومحل الحوادث والمكاره .
قلت : لعل هذين الوصفين لهما باعتبار سكانهما .
قوله ) فقضاهن ( قضاء الشيء إتمامه والفراغ منه مع الإتقالن .
والضمير إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سموات سبع .
وانتصب ) سبع سموات ( على الحال .
وإما مبهم مميز بما بعده .
يروى أنه خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين ، وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم وأسكنه الجنة وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة .
) وأوحى في كل سماء أمرها ( أي أمر أهلها من العبادة والتكليف الخاص بكل منهم ، فبعضهم وقوف وبعضهم ركوع وبعضهم سجود ، وعلى هذا احتمل أن يكون خلق الملائكة مع السموات وقبلها .
وقيل : الإيحاء ههنا التكوين والإيجاد وأمرها شأنها وما يصلحها ) وزينا المساء الدنيا بمصابيح ( أي بالنيرات المضيئة كالمصباح ) وحفظناها ( حفظاً من الشياطين المسترقة للسمع كما مرّ مراراً .
وجوّز جار الله أن يكون ) حفظاً ( مفعولاً له على المعنى كأنه قال : وخلقنا المصابيح زينة ) وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم ( فلكمال عزته قدر على خلق ما خلق ولشمول علمه دبر ما دبر .(6/51)
" صفحة رقم 52 "
ثم قال لنبيه عليه السلام ) فإن أعرضوا ( على التوحيد بعد هذا البيان الباهر والبرهان القاهر ) فقل أنذرتكم صاعقة ( لأن الإصرار على الجهل بعد وضوح الحق عناد ، ولا علاج للمعاند سوى التأديب بما يناسبه .
ويروى أن أبا جهل قال في ملأ من قريش : قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان عن أمره .
فقال عتبة بن ربيعة : أنا ذاك ، فأتاه وقال : أنت خير أم هاشم ؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبدالله ؟ فبم تشتم آلهتنا وتضللنا .
وعرض عليه الرياسة والنساء والأموال إن ترك ذلك فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( بسم الله الرحمن الرحيم ( إلى قوله ) مثل صاعقة عاد وثمود ( فهال عتبة بذاك وناشده بالرحم ورجع ولم يأت قريشاً .
فلما احتبس عنهم قالوا : ما نرى عتبة إلا قد صبأ .
فانطلقوا إليه فقال : والله لقد كلمته فأجابني بشيء ، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ولما بلغ ) صاعقة عاد وثمود ( ناشدته بالرحم أن يكف .
ولقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب .
فإن قيل : كيف يصح هذا الإنذار وقد أخبر الله سبحانه في قوله ) وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) [ الأنفال : 33 ] وإن هذه الأمة آمنون من العذاب ؟ قلنا : الأنفال مدنية وهذه مكية .
قوله ) إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ( قيل : الضميران عائدان إلى الرسل أي جاءهم رسل بعد الرسل .
وقيل : من بين أيديهم أي حذروهم الدنيا ) ومن خلفهم ( الآخرة .
وقيل : من بين أيديهم الذين عاينوهم ، ومن خلفهم الذين وصل إليهم خبرهم وكتبهم .
وحقيقة بين يديه أن يستعمل للشيء الحاضر ، ومجازه أن يستعمل للشيء الماضي بزمان قريب .
وقال بعض المحققين : معناه أتاهم الرسل من كل جهة وأعملوا في إرشادهم كل حيلة ) أن لا تعبدوا ( ويجوز أن تكون ( أن ) مفسرة أو مخففة وضمير الشأن مقدر .
والفاء في قوله ) أن لا تعبدوا ( ويجوز أن تكون ( أن ) مفسرة أو مخففة وضمير الشأن مقدر .
والفاء في قوله ) فإنا ( للجزاء كأنه قيل : فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة فانا لا نؤمن بكم .
وقولهم ) ربنا ( وكذا بما أرسلتم أي على زعمكم ، أو أرادوا التهكم .
ثم فصل حال كل فريق قائلاً ) فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق ( وهذا إخلال بالشفقة على الخلق ) وقالوا من أشد منا قوّة ( وهذا إخلال بالتعظيم لأمر الله ولهذا وبخهم بقوله ) أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشدّ منهم قوة ( لأن الفاعل والعلة أقوى من القابل والمعلول ، والقوة في الإنسان نتيجة صحة البنية والاعتدال وحقيقتها زيادة القدرة فلذلك جاز أن يقال : الله أقوى منهم كما صح أن يقال : الله أقدر ، الله أكبر .
وإن كان لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي .
وقوله ( وكانوا بآياتنا يجحدون ( معطوف على قوله ) فاستكبروا ( وقالوا : إن التوبيخ المذكور وقع اعتراضاً في البين .
ثم أخبر عن إهلاكهم والصرصر الريح الباردة الشديدة(6/52)
" صفحة رقم 53 "
ضوعفت من الصر بالكسر وهو البرد الذي يصر أي يجمع ويقبض ، أو من صرير الباب .
والتركيب يدور على الضم والجمع .
عن ابن عباس أن الله تعالى ما أرسل على عاد من الريح إلا قدر خاتمي ومع ذلك أهلكت الكل .
والأيام النحسات هي التي فسرها الله سبحانه في الحاقة ) سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام ) [ الآية : 7 ] والنحس بالسكون ضد السعد وهو إما مخفف نحس بالكسر أو هل أصل في نفسه كضخم ، أو وصف لمصدر .
واستدل به بعض الأحكاميين على أن بعض الأيام يصح وصفه بالسعادة وبعضها بضدها .
وأجاب بعض المتكلمين بأن المراد بالنحوسة كونها ذات غبار وتراب وبرد .
والإنصاف أنه تكلف خارج عن قانون اللغة .
والإضافة في قوله ) عذاب الخزي ( كهي في قولك : رجل صدق .
وقوله ( ولعذاب الآخرة أخزى ( من الإسناد المجازي فإن الذل والهوان لصاحبه .
قوله ) وأما ثمود ( مرتفع على الابتداء .
قوله ) فهديناهم ( خبره قال سيبويه : هذا أفصح لأن أما من مظان وقوع المبتدأ بعده .
وقرىء بالنصب إضماراً على شريطة التفسير .
واتفقوا على أن المراد بالهداية ههنا الدلالة المجردة لقوله بعده ) فاستحبوا العمى ( يعني عمى البصيرة وهي الضلالة ) على الهدى ( إلا أن المعتزلة تأوّلوه بأنه إنما شاع استعماله في الدلالة المجردة لأنه مكنهم وأزاح علتهم فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها .
على أن المراد المعقولة ونقيضها ، وقد مر هذا البحث في أول ( البقرة ) في قوله ) هدى للمتقين ) [ الآية : 2 ] وصاعقة العذاب داهيته وقارعته ، والهون مصدر بمعنى الهوان وصف به العذاب مبالغة ، أو أبدله منه وكسبهم شركهم وتكذيبهم صالحاً وعقرهم الناقة .
ثم بين أحوال الذين آمنوا واتقوا المعاصي بقوله ) ونجينا ( الآية .
وحين بين عقوبتهم في الدنيا أخبر عن عذابهم وعذاب أمثالهم في الآخرة فقال ) ويوم يحشر ( الآية .
والعامل فيه ( اذكر ) محذوفاً ، أو هو ظرف لما يدل عليه ) يوزعون ( كأنه قيل : يمنعون يوم يحشر فيحبس أوائلهم حتى يلحق بهم أواخرهم .
قال جار الله : هو عبارة عن كثرة أهل النار .
قلت : وذلك لأن الإيزاع لا يحتاج إليه إلا عند كثرة العدد كما مر في ( النحل ) .
وما الإبهامية في قوله ) حتى إذا ما جاؤها ( تفيد التأكيد .
وهو أن عند وقت مجيئهم لا بد أن تحصل هذه الشهادة وشهادة الجلود بملامسة ما هو محرم .
وعن ابن عباس : المراد شهادة الفروج فيكون كناية .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أوّل ما يتكلم من الآدميّ فخذه وكفه ) وفيه وعيد شديد في فعل الزنا لأن مقدمته تحصل بالكف ونهايته تكون بمساعدة الفخذ .
قوله ) أنطق كل شيء ( من العمومات المخصوصة أي ممن يصح النطق منه .
والمراد أن القادر على خلقكم(6/53)
" صفحة رقم 54 "
وإنطاكم في المرة الأولى في الدنيا ، ثم خلقكم وإنطاقكم مرة أخرى ، وثالثة في القبر وفي القيامة ، كيف يستعبد منه إنطاق الجوارح والأعضاء ؟ وقد مر تمام البحث في ( يس ) .
عن ابن مسعود قال : كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر ثقفيان وقرشيّ فقال أحدهم : أترون الله يسمع ما نقول ؟ فقال آخر : إذا رفعنا أصواتنا يسمع وإلا لم يسمع .
وقال الآخر : إن كان يسمع إذا رفعنا أصواتنا يسمع إذا خفضنا .
فذكرت ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل ) وما كنتم تستترون ( الآية .
وذلك أنهم كانوا يستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب القبائح فقيل لهم : ما كان استتاركم ذلك خفية أن تشهد عليكم جوارحكم هذه ، لأن ذلك غير ممكن فإنها متصلة بكم وهي أعوانكم ومع ذلك لم يكن استتاركم في اعتقادكم أنها تشهد عليكم ولكنكم استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما كنتم تعملون وهو الخفيات من أعمالكم .
وفيه ردّ على بعض الجهلة الذين يستحفون من الناس ولا يمكنهم الاستخفاء من الله ، وفيه تنبيه على أن المؤمن يجب عليه أن يكون في أوقات خلواته أهيب لربه وأوفر احتشاماً ومراقبة .
ثم أخبر ) فإن يصبروا فالنار مثوى لهم ( ولا ينتج الصبر لهم فرجاً وخلاصاً ) وإن يستعتبوا ( يطلبوا من الله الرضا عنهم ) فما هم من المعتبين ( أي من المرضيين .
والمراد أنهم باقون في مكروههم أبداً ، سكتوا أو نطقوا .
قال الضعيف مؤلف الكتاب : إذا كان هذا وعيد من ظن أنه يمكن إخفاء بعض الأعمال من الله بالأستار والحجب فما ظنكم بوعيد من جزم أنه سبحانه غير عالم بالجزئيات نعوذ بالله من هذا الإعتقاد والله أعلم .
تم الجزء الرابع والعشرون ويليه الجزء الخامس والعشرون أوله : ( وقيضنا لهم قرناء. .. ((6/54)
" صفحة رقم 55 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الخامس والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
( فصلت : ( 25 - 54 ) وقيضنا لهم قرناء . . . .
" وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا(6/55)