" صفحة رقم 341 "
( من أعتق نصيباً من عبد حرم عليه الباقي ) فإن الحكم في الأمة والعبد يتساويان. وإما أن يكون الحكم في محل المسكوت أظهر وهو القياس الجلي ومثاله المنع من التأفيف فإنه مغاير للمنع من الضرب عقلاً ، لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكاً آخر عدواً له فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته. فهذا معقول في الجملة إلا أن قرينة تعظيم الوالدين صيره من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى ، فدل على المنع من جميع أنواع الإيذاء. ثم أكد هذا المعنى بقوله : ( ولا تنهرهما ( والنهر والنهي أخوان يقال : نهره وانتهره وإذا استقبله بكلام يزجره. ) وقل لهما ( بدل التأفيف والنهر ) قولاً كريماً ( جميلاً مشتملاً على حسن الأدب ورعاية دقائق المروة والحياء والاحتشام. وقال عمر بن الخطاب القول الكريم أن يقول له : ( يا أبتاه ) ( يا أماه ) دون أن يسميهما باسمهما. وقول إبراهيم لأبيه آزر بالضم على النداء ، تقديم لحق الله على حق الأبوين. قالوا : ولا بأس به في الغيبة كما قالت عائشة : نحلني أبو بكر كذا ، أو سئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال : هو قول العبد المذنب للسيد الفظ ) واخفض لهما جناح الذل ( ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين : الأول أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحيه فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير فكأنه قال للولد : اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك في حال صغرك. والثاني أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه ، وإذا أراد النزول خفض جناحه ، فصار خف الجناح كناية عن فعل التواضع وترك الارتفاع. وفي إضافة الجناح إلى الذل وجهان : الاول أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك : ( حاتم الجود ) فالأصل فيه الجناح الذليل أو الذلول. والثاني سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذل جناحاً ثم أثبت لذلك الجناح خفضاً كقول لبيد : إذ أصبحت بيد الشمال زمامها. فأثبت للشمال يداً ثم وضع زمام الريح في يد الشمال. وقوله : ( من الرحمة ( في ( من ) معنى التعليل أي من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس ، ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها ) و ( لكن ) قل رب ارحمهما كما ربياني ( ليس المراد رحمة مثل رحمتهما عليّ. وأما الكاف فلاقتران الشيئين في الوجود أي كما وقع تلك فتقع هذه. والتربية التنمية ربا الشيء إذا انتفخ وزاد. قال بعض المفسرين : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) [ التوبة : 113 ] وقيل : مخصوصة لأن التخصيص ألوى من النسخ ، وقيل : لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو فله أن يدعو الله لهما بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة(4/341)
" صفحة رقم 342 "
لهما بعد حصول الإيمان. ثم إن ظاهر الأمر للوجوب من غير تكرار فيكفي في العمر مرة واحدة ) رب رحمهما ( وسئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه أفي كل يوم مرة أو في كل شهر أو في كل سنة ؟ فقال : نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن الله تعالى قد قال : ( يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه ) [ الأحزاب : 56 ]. وكانوا يرون الصلاة عليه في التشهد. وكما قال الله تعالى : ( واذكروا الله في أيام معدودات ) [ البقرة : 203 ] فهم يذكرون في أدبار الصلاة. قلت : ويشبه أن يدعو لهما أيضاً كلما ذكرهما أو ذكر شيئاً نإنعامهما. وسئل أيضاً عن الصدقة عن الميت فقال : كل ذلك واصل إليه ولا شيء أنفع له من الاستغفار ، ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الأبوين ، وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما ) وروى سعيد بن المسيب أن البارَّ لا يموت ميتة سوء. وقالرجل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إن أبويّ بلغا من الكبر أنّى ، ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما ؟ قال : لا ، فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقائك وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما. وشكا رجل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال : إنه كان ضعيفاً وأنا قوي ، وفقيراً وأنا غني ، فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي. واليوم أنا ضعيف وهو قوي ، وأنا فقير وهو غني ويبخل عليّ بماله ، فبكى ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ما من حجر ولا مدر يسمع ذلك إلا بكى ، ثم قال للولد : أنت ومالك لآبيك. مرتين. وشكا إليه آخر سوء خلق أمه فقال : لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر. قال : إنها سيئة الخلق. قال : لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين. قال : إنها سيئة الخلق. قال : لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها وأظمأت نهارها. قال : لقد جازيتها. قال : ما فعلت ؟ قال : حججت بها على عاتقي. قال : ما جازيتها. وقال الفقهاء : لا يذهب بأبيه إلى البيعة وإذا بعث إليه واحد منهما ليحمله فعل ، ولا يناوله الخمر ويأخذ الإناء منه إذا شرب به. ثم قال سبحانه : ( ربكم أعلم بما في نفوسكم ( أي بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات ) أن تكونوا صالحين ( قاصدين الصلاح والبر إلى الوالدين ثم فرطت منكم بادرة في حقهما فأنبتم إلى الله واستغفرتم منها ) وإنه كان للأوابين غفوراً ( اللام للعهد كما روي عن سعيبد بن جبير هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلا الخير ، أو للجنس فيشمل كل من فرطت منه جناية ثم تاب منهما ، ويندرج تحته(4/342)
" صفحة رقم 343 "
عن أبي علي الجانويه النائب من جنايته لوروده على أثره. ثم وصى بغير الأبوين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال : ( وآت ذا القرى حقه ( قيل : الخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمره أن يؤتى أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة ، وأوجب عليه إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضاً من هذين المالين. والأظهر أنه خطاب لكل إنسان كل في قوله : ( وقضى ربك ( وأما الحق المأمور به للأقارب فهو إذا كانوا محارم كالأبوين والولد وكانوا فقراء عاجزين عن الكسب وكان الرجل موسراً أن ينفق عليهم بقدر الحاجة. وعند الشافعي : لا ينفق إلا على الولد والوالدين وإن كانوا مياسير ولم يكونوا محارم كأبناء العم فحقهم صلتهم بالمودة والزيارة وحسن المعاشرة على السراء والضراء. وفي عطف المسكين وابن السبيل على ذي القربى دليل على أن المراد بالحق الحق المالي ، وقد تقدم وصف المسكين وابن السبيل في ( البقرة ) وفي ( التوبة ). ثم نهى عن التبذير وهو تفريق المال كما يفرق البذر وهو الإسراف المذموم. كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتنفق أموالها في الفخر والسمعة كما ذكروا ذلك في أشعارها فنهوا عن ذلك وأمروا بالإنفاق فيما يقرب إلى الله. قال ابن مسعود : التبذير إنفاق المال في غير حقه. وعن مداهد : لو أنفق مداً في باطل كان تبذيراً. ثم بالغ في تفظيع شأن التبذير قائلاً : ( إن المبذرين كانوا غخوان الشياطين ( أي أمثالهم في الشرارة وأصدقاءهم من حيث إنهم يطيعونهم في الأمر بالإسراف ، أوهم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد ) وكان الشيطان لربه كفوراً ( لأنه يستعمل قواه البدنية في المعاصي والإفساد والإضلال ، وكذلك من رزقه الله مالاً أو جاهاً فصرفه إلى غير مرضاة الله كان كفوراً لنعمة الله. ثم علم أبداً حسناً في رد السائل إن أفضى الأمر إلى ذلك ضرورة فقال : ( وإما تعرضن عنهم ( وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا سئل شيئاً وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء. والقول الميسور الرد بالطريفة الأحسن. وقيل : اللين السهل. قال الكسائي : يسرت أيسر له القول أي لينته. وقيل : القول المعروف كقوله : ( قول معروف ومغفرة خير ) [ البقرة : 263 ] وذلك أن القول المتعارف لا يحتاج إلى تكلف. وقيل : ادع لهم بأن يسهل الله عليهم أسباب الرزق أي دعاء فيه يسرة. قال جار الله قوله : ( ابتغاء رحمة ( أما أن يتعلق بجواب الشرط متقدماً عليه أي فقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدهم وعداً جميلاً ابتغاء رحمة من الله ) ترجوها ( بسبب رحمتك عليهم ، وإما أن يتعلق بالشرط أي وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجوا أن يفتح لك فردهم رداً جميلاً ، فسمى الرزق رحمة وضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له. فالفقد سبب الابتغاء فأطلق(4/343)
" صفحة رقم 344 "
المسبب على السبب وجوز أن يكون الإعراض كناية عن عدم الإعطاء ، فإن من أبى أن يعطى أعرض بوجهه ، ولما ذكر أدب المنع ونهى عن التبذير صرح بأدب الإنفاق فقال : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ( وهو مثل لغاية الإمساك بحيث يضيق على نفسه وأهله في سلوك سبيل الإنفاق ) ولا تبسطها كل البسط ( أي لا توسع في الإنفاق بحيث لا يبقى في يدك شيء. وحين نهى عن طرفي التفريط والإفراط المذمومين بقي الخلق الفاضل المسمى بالجود وهو العدل والوسط ، ثم بين غاية استعمال الطرفين قائلاً : ( فتقعد ملوماً ( عند الناس بالبخل ) محسوراً ( بالإسراف أي منقطعاً عن المقاصد بسبب الفقر. فقير محسور منقطع عن السير. ولا شك أن المال مطية الحوائج والآمال وكثيراً ما يلام الرجل على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة. وعن جابر : بينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالس أتاه صبي فقال : إن أمي تستكسيك درعاً فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من ساعة إلى ساعة يظهر فعد إلينا. ) فذهب إلى أمه فقالت له : قل إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك. فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عرياناً وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة فنزلت الآية. وقيل : أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن فجاء عباس بن مرداس وأنشأ يقول : أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع. وما كان حصن ولا حابس ، يفوقان مرادس في مجمع وما كنت دون أمرىء منهما ، ومن تضع اليوم لا يرفع. فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ياأبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل ) فنزلت. ثم إنه تعالى سلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بأن الذي يرهقه من الإضافة ليس لهوان منه علىالله ولا لبخل به عليه ولكنه تاب لمشيئة الخالق الرازق فقال : ( إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ( أي يضيق ) أنه كان بعباده ( وبمصالحهم ) خبيراً بصيرا ( فالتفاوت في الرزاق ليس لأجل البخل ولكن لرعاية الصلاح. ويمكن أن يكون مراد الآية أن البسط الكلي والقبض الكلي من شأن الرب الخبير والبصير وليس للعباد الاقتصاد. ويحتمل أن يراد أنه تعالى مع غاية قدرته وسعة جوده يراعي أوسط الحالين. فلا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده ولا بالمقبوض عليه أقصى مكروهه ، فاستنوا بسنته وتخلقوا بأخلاقه. وفي الآية دلالة على أنه هو المتكفل بأرزاق العباد فلذلك قال بعده : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ( وأيضاً لما علم كيفية البر بالوالدين أراد أنيعلم كيفية البر بالأولاد ، فبر الآباء مكافأة وبر الأبناء ابتداء اصطناع. وفيه نظام العالم وبقاء النوع الإنساني لأن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو لسوء الظن بالله ، وإن كان لأجل الغيرة على(4/344)
" صفحة رقم 345 "
البنات فهو سعي في تخريب العالم. والأول ضد التعظيم لأمر الله الثاني ضد الشفقة على خلق الله ، ومن رغب عن محبة الوالد فكأنه رغب عن جزئه قال : ولد المرء منه جزء وما حا
ل امرىء يودع الثرى منه جزءاً
وكانوا يقتلون البنات لعجز عن الكسب وقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على القتل والغارة. وأيضاً كانوا يخافون أن فقرها ينفر أكفاءها فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء وفي ذلك عار شديدن فبين الله سبحانه أن الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولداً فلهذا قال : ( أولادكم ( وبين أن الخوف من الفقر لا وجه له لأن الله هو الرزاق للكل ، وكثراً ما يكون لابن أخرق من البنت بعد البلوغ ، وكلا الصنفين يشتركان في الإنفاق عليهما قبل البلوغ. ولما نهى عن قتل الأولاد المستدعي لإفناء النسل ذكر النهي عن الزنا المفضي إلى مثل ذلك ولا أقل من اختلاط النسب فقال : ( ولا تقربوا الزنا ( وهذ آكد من أن يقال ( لا تزنوا ) ثم علل النهي بقوله : ( إنه كان فاحشة ( أي خصلة متزايدة في القبح ) وساء سبيلاً ( سبيله فاستدل القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين بهذا التعليل في الأشياء لا تحسنولا تقبح لذواتها بل لوجوه عائد إليها في أنفسها ، وأن تكاليف العباد واقعة على وفق مصالحهم في المعاش والمعاد. ومن مفاسد الزنا اختلاط الأنساب وتضييع الأولاد وإهمال تربيتهم ؟ فإن الولد إذا لم يكن منسوباً إلى شخص معين لم يكن أحد بالتزام تربيته أولى من الآخرة كذا المرأة التي ولدته إذا لم يوجد سبب شرعي بالزاني صارت هي به أولى بالرجل فلا يحصل الألف والمحبة ، ولا يتم السكون والازدواج. ويتوائب كل رجل على امرأة أراد بحسب شهواته ومقتضى طبعه ، فتهيج بالفسوق الحروب بعد التشبه بالبهائم. وأيضاً ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة ولكن المقصود الكلي هو أن تكون شريكة له في ترتيب المنزل وإعداد مهماته والقيام بأمور الأولاد والعبيد ، ولن تتم هذه المقاصد إلا إذا كانت مقصورة الهمة على رجل واحد منقطعة الطمع عن غيره. وأيضاً الوطء يوجب الذل والعار ولهذا لا يرتكب إلا في الأماكن المستورة وفي الأوقات المعلومة. فاتقصار المرأة على الواحد من الرجال سعي في تقليل ذلك العمل ، وكفى في قبح الزنا مرتكبه من الرجال والنساء يستقذره كل عقل سليم وينحط بذلك عن درجة الاعتبار. وقد زعم في التفسير الكبير أنه تعالى وصف الزنا في آية أخرى بكونه مقتاً لأن الزانية تصير ممقوته مكروهة وهو وهم ، لأن ذلك قد ورد في أول سورة النساء في نكاح منكوحات الأب قال : ( ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء إلا ما(4/345)
" صفحة رقم 346 "
قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً ) [ النساء : 22 ]. وإنما نبهناك عليه لئلا يقتدي به غيره في السهو. ولما فرغ من التكليف بالاحتياط في مبدأ حال الإنسان شرع بالتكليف بالاحتياط في آخر عمره فقال : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله ( وفي التصريح بالتحريم بعد النهي تأكيد للخطر. ولا ريب أن الأصل في قتل الإنسان هو التحريم لأنه ضرر ، والأصل في المضار الحرمة ، ولأن الإنسان خلق للاشتغال بالعبادة وإنه لا يتم إلا بالحياة وكمال البنية ، ولكن الحل إنما يثبت لأسباب عرضية فلهذا قال : ( إلا بالحق ( وهذا بحمل فبين ذلك الحق بقوله : ( ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً ( أي تسلطاً على استيفاء القاص. فظاهر الآية دل على أنه لا سبب لحل القتل إلا إذا قتل مظلوماً ، وظاهر قوله عليه السلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ؟ وقتل نفس بغير حق ) يقتضي ضم شيئين آخرين إليه فرعاً على القول بتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. ويحتمل أن يقال قوله : ( ومن قتل مظلوماً (. كلام مستأنف ، والحديث بتمامه تفسر لقوله : ( إلا بالحق ( فلا يلزم التفريع المذكور. ثم إنه دلت آية أخرى على حصول سبب رابع هو قوله : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ( ) المائدة : 33 ] وآية أخرى على سبب خامس وهو الكفر الأصلي : ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) [ البقرة : 191 ] هذا وقد أبدى الفقهاء أسباباً أخر منها : أنتارك الصلاة يقتل عند الشافعي دون أبي حنيفة ، وكذا اللائظ. ومنها الساحر إذا قال : قتلت فلاناً بسحري. وجوز بعضهم قتل من يمنع الزكاة أو يأتي البهيمة ، والذين منعوا القتل في هذه الصور قالوا : الأصل حرمة القتل كا بيناه فلا يترك هذا الدليل إلا لمعارض أقوى لا أقل من المساوي وهو النص المتواتر. ثم إنه سبحانه أثبت لوليّ الدم سلطاناً. ولم يبين أن هذه السلطنة تحصل فيماذا فقيل : إنه قال : ( فلا يسرف في القتل ( عرف أن تلك السلطنة إنما تحصل في استيفاء القتل. وقيل : معنى قوله : ( فلا يسرف في القتل ( إنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص وسلطنة استيفاء الدية بقوله : ( كتب عليكم القصاص في القتلى ( إلى قوله : ( فمن عفى ) [ البقرة : 178 ] الآية. فالأولى به أن لا يقدم على استيفاء القتل(4/346)
" صفحة رقم 347 "
وأن يكتفي بالعفو وأخر الدية ، فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسك بها في مسألة أن موجب العمد هو القصاص. وعن الشافعي أن التنوين في قوله : ( مظلوماً ( للتنكير فيدل على أن المقتول ما لم يكن كاملاً في وصف المظلومية لم يدخل تحت هذا النص ، فيعلم منه أن المسلم لا يقتل بالذمي لأن الذمي مشرك فإن ذنبه غير مغفور كالمشرك ، ولأن النصارى قائلون بالتثليث وقد قال تعالى : ( اقتلوا المشركين ) [ التوبة : 5 ] فثبت أن الذمي غير كامل في المظلومية فلا يندرج في الآية. وأيضاً ليس فيها دلالة على أن الحر يقتل بالعبد لأنها وإن كانت عامة إلا أن قوله ) الحر بالحر والعبد بالعبد ) [ البقرة : 178 ] خاص والخاص مقدم على العام. من قرأ ) فلا تسرف ( بالتاء الفوقانية فعلى خطاب الولي أو قاتل المظلوم ، ومن قرأ على الغيبة فالضمير للولي أي فلا يتقل غير القاتل ولا اثنين والقاتل واحد كعادة الجاهلية. وعن مجاهد أن الضمير الأول للقاتل ، أما الضمير في قوله : ( إنه كان منصوراً ( فإما للولي أي حسبه أن الله قد نصره بإيجاب القصاص فلا يستزاد عليه ، أو نصره بمعونة السلطانوالمؤمنين فلا يتبع ما وراء حقه ، وإما للمظلوم فإن الله نصره في الدنيا بإيجاب القصاص على قاتله ، وفي الآخرة بإعطاء الثواب. وأما الذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في تله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف. ولما ذكر النهي عن إتلاف النفوس في المبادىء وفيما وراءها أتبعه النهي عن إتلاف الأموال وكان أهمها بالحفظ والرعاية مال اليتيم فقال : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي ( بالطريقة التي ) هي أحسن ( وهي تثميره وإنماؤه. وروى مجاهد عن ابن عباس : إذا احتاج الولي أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه وإن لم يوسر فلا شيء عليه ويتصرف الولي في مال اليتيم على الوجه المذكور ) حتى يبلغ ( اليتيم ) أشده ( بأن تكمل قواه العقلية والحسية كما مر في آخر ( الأنعام ) ) وأوفوا بالعهد ( يتناول كل عهد جري بين إنسانين على وفق الشرع وقانونه في المعاملات والمناحكات وغيرها إلا إذا دلّ دليل خاص على ضده. ) إن العهد كان مسئولا ( أي مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به ، أو هو على حذف المضاف والمراد أن صاحب العهد مسؤول أو هو تخييل كأنه يقال للعهد : فيما يكال تبكيتاً للناكث كقوله : ( وإذا الموءودة سئلت ) [ التكوير : 8 ] ثم أمر بإيفاء الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن. والقسطاس بضم القاف وكسرها هو القبان المسمى بالقرسطون. وقيل : كل ميزان صغير أو كبير والأصح أنه لغة العرب من القسط النصيب المعل ، وقيل رومي أو سرياني ) ذلك ( الإيفاء والوزن المعدل ) خير ( من التطفيف ) وأحسن تأويلاً ( عاقبة من آل إذا رجع. أما في الدنيا فلانة إذا اشتهرت بالحتراز عن الخيانة مالت القلوب إليه .(4/347)
" صفحة رقم 348 "
وعول الناس عليه فينفتح عليه أبواب المعاملات ، وأما في الآخرة فظاهر. وقال الحكيم : إن نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد عليه شدي والعار فيه عظيم فيجب على العاقل أن يحترز عنه. ثم أمر بإصلاح اللسان والقلب فقال : ( ولا تقف ( أي لا تتبع من قولك ( فقوت فلاناً ) أي اتبعت أثره ومنه قافية الشعر لأنها تقفو كل بيت ، والقبيلة المشهورة بالقافة لأنه يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوالهم في النسب. والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له به ، وهذه قضية كلية ولكن المفسرين حملوها على صور مخصوصة فقيل : نهى المشركين عن تقليد أسلافهم في الإلهيات والنبوات والتحليل والتحريم والمعاد كقوله : ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) [ النجم : 23 ] ( هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن ) [ الأنعام : 148 ] وعن محمد بن الحنفية : المراد شهادة الزور. ومثله عن ابن عباس : لا تشهد إلا رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك. وقيل : أراد النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكذايب. وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ويبالغون فيه. وقل قتادة : معناه لا تقل سمعت ورأيت وعملت ولم تسمع ولم تر ولم تعلم. وقيل : القفو هو البهت وهو في معنى الغيبة لأنه قول يقال في قفاه ومن الحديث : ( من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج ) أي يتوب. وردغة الخبال بفتح الدال وسكونها هي غسالة أهل النار من القيح والصديد. احتج نفاة القياس بالآية زعماً منهم أن الحكم في دين الله بالقياس حكم بغير المعلوم. وأجيب بأن العلم قد يراد به الظن قال تعالى : ( فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ) [ الممتحنة : 10 ] ولا ريب أنه إنما يمكن العلم بإيمانهن بناء على إقرارهن ، وإنه لا يفيد إلا الظن. سلمنا لكن الظن وقع في الطريق لأن الشرع قد أقام الظن الغالب مقام العلم وأمر بالعمل به ، وزيف بأنه لا دليل قاطعاً على وجوب العمل بالظن نقلاً متواتراً وكانت دلالته على ثبوت هذا الطلب دلالة قطعية غير محتملة للنقيض ، ولو حصل مثل هذا الدليل لوصل إلى الكل ولم يبق خلاف ، ونوقض بأن الدليل الذي عولتم عليه - وهو هذه الآية - تمسك بعام مخصوص للاتفاق على أن العمل بالشهادة عمل بالظن وهو جائز. وكذا الاجتهاد في القلبة وفي قيم المتلفات وأروش الجنايات ، وكذا الفصد(4/348)
" صفحة رقم 349 "
والحجامة وسائر المعالجات ، وكذا الحكم بكون الشخص المعين كالذبائح مؤمناً لتحل ذبيحته ، أو الوارث لحصول التوارث ، أو الميت ليدفن في مقابر المسلمين. وبالحقيقة أكثر الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المعينة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة. وقال صلى الله عليه سلم : نحن نحكم بالظاهر. والتمسك بالعام المخصوص لا يفيد إلا الظن. فلو دلت هذه الآية على أن التمسك بالظن غير جائز لزم أن لا يجوز التمسك بهذه الآية ، وكل ما يفضي ثبوته إلى نفيه يسقط الاستدلال به. وأجيب بأنا نعلم بالتواتر الظاهر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن التمسك بآيات القرآن جائز. ورد بأن كون العالم المخصص حجة غير معلوم بالتواتر ، ثم علل النهي بقوله : ( إن السمع والبر وكل أولئك ( إشارة إلى الأعضاء الثلاثة وإن لم تكن من ذوات العقول كقوله : والعيش بعد أولئك الأيام. ) كان عنه مسئولاً ( قال في الكشاف : ( عنه ( في موضع الرفع بالفاعلية مثل ) غير المغضوب عليهم ) [ الفاتحة : 7 ] وفيه نظر لأن المسند إليه الفعل أو شبهه لا يتقدم عليه. والصواب أن يقال : إنه فاعل ) مسئولاً ( المحذوف والثاني مفسر له. وكيف يسأل عن هذه الجوارح ؟ قيل : يسأل صاحبهما عما استعملها فيه لأنها آلات والمستعمل لها هو الروح الإنساني ، فإن استعملها في الخيرات استحق الثواب وإلا فالعقاب. وقيل : إنه تعالى ينطق الأعضاء ثم يسألها عن أفعالها. ) ولا تمش في الأرض مرحاً ( نصب على الحال مع أنه مصدر أي ذا مرح وهو شدة الفرح. وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع من التأكيد مثل ( أتاني ركضاً ) ونهي عن مشية أهل الخيلاء والكبر. ) إنك لن تخرق الأرض ( لن تثقبها بشدة وطأتك ) ولن تبلغ الجبال طولاً ( مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول ، أو تمييز ، أو مفعول له ، أو مصدر من معنى تبلغ. بيّن ضعف الآدمي بأنه في حال انخفاضه لا يقدر على خرق الأرض ، وحال ارتفاعه لا يقدر على الوصول إلى رؤوس الجبال ، فلا يليق به أن يتكبر. وبوجه آخر كأنه قيل له : إنك خلق ضعيف محصور بين حجارة من فوقك وتراب من تحتك ، فلا تفعل فعل المقتدير القوي. وقيل : إنه مثل ومعناه : كما أنك لن تخرق الأرض في مشيتك ولن تبلغ الجبال طولاً فكذلك لا تبلغ ما أردت بكبرك وعجبك وفيه يأس للإِنسان من بلوغ إرادته. ) كل ذلك كان سيئه ( من قرأ بالإضافة فظاهر لأن المذكور من قوله : ( لا تجعل مع الله إلهاً آخر ( بعضها أحسن وهو المأمورات وبعضها سيىء وهو المنهيات ، فالمعنى أن ما كان من تلك الأشياء سيئاً فإنه مكروه عند الله. ويمكن أن يراد بسيىء تلك الخصال طرف الإفراط أو التفريط. ومن قرأ ) سيئة ( على التأنيث فقوله : ( كل ذلك ( إشارة إلى(4/349)
" صفحة رقم 350 "
المنهيات خاصة. وقيل : إن الكلام قد تم عند قوله : ( وأحسن تأويلاً ( وقوله : ( كل ذلك ( إشارة إلى ما نهى عنه في قوله : ( ولا تقف ( ) ولا تمش ( وإنما قال : ( سيئة ( على التأنيث مع قوله : ( مكروهاً ( على التذكير لأنه جعل السيئة في معنى الذنب والإثم. قالت المعتزلة : الكراهة نقض الإرادة ففي الآية دلالة على أن المنهيات لا تكون مرادة لله تعالى لأنها مكروهة عنده. وإذا لم تكن مرادة لم تكن مخلوقة له لأن الخلق بدون الإرادة محال. أجابت الأشاعرة بأن المراد من كراهتها كونها منهياً عنها ، وزيف بأنه عدول عن الظاهر مع لزوم التكرار لأن كونها سيئة يدل على كونها منهية. وأجيب بأنه لابأس بالتكرار لأجل التأكيد ) ذلك ( الذي ذكر من قوله : ( لا تجعل ( إلى هذه الغاية وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفاً ) مما أوحى إليك ربك من الحكمة ( سمي حكمة لأنه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه. روي عن ابن عباس أنها كانت في ألواح موسى عليه السلام. وباصطلاح الحكماء أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به. لا ريب أن الأمر بالتوحيد رأس الحكمة النظرية وسائر التكاليف مشتملة على أصول مكارم الأخلاق وهي الحكمة العملية ، ولقد جعل الله سبحانه فاتحة هذه التكاليف النهي عن الشرك وكذا خاتمتها لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها ، ومن فقده لم ينفعه شيء من العلوم وإن بذ فيها الأقران والأكفاء وحك بيافوخه السماء. وقد راعى في هذا التكرار دقيقة فرتب على الأول كونه مذموماً مخذولاً وذلك إشارة إلى حال المشرك في الدنيا ، ورتب على الاثنية أنه يلقى في جهنم ملوماً مدحوراً وأنا حاله في الآخرة. وفي القعود هناك والإلقاء ههنا إشارة إلى أن للإنسان في الدنيا صورة اختيار بخلاف الآخرة والله أعلم بمراده. وقد يفرق بين الذم واللوم فيقال : الذم هو أن يذكر أن الفعل الذي قدم عليه قبيح منكر ، واللوم هو أن يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت من هذا العمل إلاَّ إلحاق الضرر بنفسك. ويفرق بين المخذول والمدحور بأن المخذول عبارة عن الضعيف يقال : تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت. والمدحور والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة. ثم أنكر على المشركين القائلين بأن الملائكة بنات الله فقال : ( أفأصفاكم ( أي أفخصكم ) ربكم ( على وجه الخلوص والصفاء ) بالبنين ( الذين هم أفضل الأولاد ) واتخذ من الملائكة ( أولاداً ) إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً ( بإضافة الأولاد إلى من لا يصح له الولد لقدمه وتنزهه عن صفات الأجسام ، ثم بأنكم تفضلون عليه أنفسكم حيث تجعلون ما تكرهون وهذا خلاف معقول لكم وعادتكم فإن العبيد لا(4/350)
" صفحة رقم 351 "
يؤثرون بالأجود والأصفى والسادة بالأدون والأردأ ، ثم بجعلكم الملائكة الذين هم أعلى خلق الله على الإطلاق أو التقييد على المذهبين أخس الصنفين وهو الإناث. التأويل : خاطب نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ليقطع تعلقه عن الكونين من بين الثقلين فقال : ( لا تجعل مع الله إلها آخر ( من الدنيا والآخرة ، ثم شرف أمته بتبعيته قائلاً : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلاَّ إياه ( وإنما قال : ( ربك ( لأنه أصل في التربية والأمة تبع له ، فمن حكم في الأزل أنه لا يعبد غير الله لم يعبد غير الله ) وبالوالدين ( والد الروح ووالدة البدن. والإحسان بهما أن يراقبهما في العبودية ليعبد الله كأنهما يريانه ) أما يبلغن عندك ( يخاطب القلب ويوصيه بأن يواسي والد الروح عند كبره وهو بلوغه أعلى مراتب القرب وعجزه عند سطوات تجلي صفا الألوهية ، ويداري والدة البدن حينئذ فلا يستعملها عند العجز ) ولا تنهرهما ( عند الاستراحة وأرفق بهما عند استعمالهما في العبودية ، ولا تتكبر عليهما فإنك أخذت التربية منهما لأن القلب طفل تولد بازدواج الروح والبدن ، وقد وجد التربية منهما صورة ومعنى إلى أن صار قابلاً للتجلي والخلافة ) ربكم أعلم بما في نفوسكم ( من الاستعداد ) أنتكونوا صالحين ( مستعدين للخلافة ) فإنه كان للأوابين ( الراجعين من أنانيته إلى هويته دون من كان مقيداً بنفسه ) غفوراً ( سائراً بأنوار جماله. ثم أخبر عن أداب الخلافة قائلاً ) وآت ذا القربى ( وهو النفس حقه فإن لنفسك عليك حقاً من غير إسراف وتقتير. ( الإسراء : ( 41 - 60 ) ولقد صرفنا في . . . .
" ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ربكم أعلم بكم إن يشأ(4/351)
" صفحة رقم 352 "
يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا "
( القراآت )
ليذكروا ( من الذكر وكذلك في ( الفرقان ) : حمزة وعلي وخلف. الآخرون بتشديد الذال والكاف من التذكر. ) كما يقولون ( على الغيبة : ابن كثير وحفص ) عما تقولون ( على الخطاب : حمزة وعلي وخلف. ) تسبح ( بتاء التأنيث : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل والخزاز عن هبيرة. الآخرون على التذكير ) أئذا ( ) أئنا ( القول فيه كما مر في ( الرعد ) وكذلك في آخر هذه السورة وفي سورة ( قد أفلح ) وفي سورة السجدة. الوقوف : ( ليذكروا ( ط ) نفوراً ( ه ) سبيلاً ( ه ) كبيراً ( ه ) فيهن ( ط ) تسبيحهم ( ط ) غفوراً ( ه ) مستوراً ( لا للعطف ) وقرأ ( ط ) نفوراً ( ط ) مسحوراً ( ه ) سبيلاً ( ه ) جديداً ( ه ) حديداً ( لا ) صدوركم ( ج للفاء مع أن السين للاستئناف ) بعيدنا ( ط ) أوَّل مرة ( ج لما قلنا ) متى هو ( ط ) قريباً ( ه ) قليلاً ( ه ) أحسن ( ط ) بينهم ( ط ) مبيناً ( ه ) أعلم بكم ( ه ) يعذبكم ( ط ) وكيلاً ( ط ) والأرض ( ط ) زبوراً ( ه ) شديداً ( ط ه ) مسطوراً ( ه ) الأوّلون ( ط لأن الواو للاستئناف ) فظلموا بها ( ط ) تخويفاً ( ه ) بالناس ( ط ) في القرآن ( ط الكل لما مر. ) ونخوّفهم ( لا لصحة عطف المستقبل على المستقبل ) كبيراً ( ه. التفسير : لما بين أنواع الحكم ومكارم الأخلاق ذكر غاية مظلومية الإنسان وجهوليته فقال : ( ولقد صرفنا ( أي بينا أحسن بيان لأن من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع ومن مثال إلى مثال حتى ينتهي به إلى ما هو مراده من الإيضاح. ومفعول التصريف متروك أي أوقعنا التصريف ) في هذا القرآن ( أو محذوف للعمل به والمراد(4/352)
" صفحة رقم 353 "
صرفنا فيه ضروباً ) من كل مثل ( وأراد بهذا القرآن إبطال إضافتهم البنات إلى الله أنه مما كرر ذكره ، والمقصود ولقد صرفنا القول في هذا المعنى. وقيل : لفظة ( في ) زائدة كقوله ) وأصلح لي في ذريتي ) [ الأحقاف : 15 ] قال الجبائي : في قوله : ( ليذكروا ( دلالة على أنه أراد منهم فهمها والإيمان بها. والمراد بالذكر ههنا فيمن قرأ مخففاً هو التذكر والتأمل لا الذكر الذي هو نقيض النسيان. وقالت الأشاعرة : قوله : ( وما يزيدهم إلا نفوراً ( دلت على عكس ذلك لأن الحكيم إذا أراد تحصيل أمر من الأمور وعلم أن الفعل الفلان يصير سبباً لعسره وتعذره والنفرة عنه يقبح منه الأمر بذلك الفعل ، ولما أخبر أن هذا التصريف يزيدهم نفوراً علمنا أنه ما أراد الإيمان منهم. عن سفيان الثوري أنه كان إذا قرأها قال : زادني ذلك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً. ثم دل على التوحيد الذي أمر به في قوله : ( ولا تجعل مع الله إلهاً آخر ( فقالك ) قل لو كان معه آلهة كما يقولون ( أي كما يقول المشركون من إثبات آلهة من دونه أو كما تقولون أيها المشركون. وفي قوله ) إذا ( دلالة على أن ما بعدها وهو ) لابتغوا ( جواب ع مقالة المشركين وجزاء ل ( لو ) قاله في الكشاف. قلت : ولعل ) إذا ( ههنا ظرف لما دل عليه ) لابتغوا ( أي لطلبوا إذا ذاك ) إلى ذي العرش سبيلاً ( بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم ببعض ومثله ) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [ الأنبيا : 22 ] ويسمى في عرف المتكلمين دليل التمانع وسيجيء بحثه في سورة الأنبياء إن شاء الله العزيز. وقيل : معنى الآية لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى لطلبت لأنفسها المراتب العالية والدرجات الرفيعة ، فلما لم تقدر أن تتخذ لأنفسها سبيلاً إلى الله فكيف يعقل أن تهديكم إلى الله. ثم نزه نفسه عن أقوالهم فقال ) سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً ( فوضع الثلاثة وهو العلوّ موضع المتشعبة وهو التعالي كقوله ) أنبتكم من الأرض نباتاً ) [ نوح : 17 ] ثم وصف العلو بالكبر مبالغة في النزاهة وتنبيهاً على أن بين الواجب لذاته والممكن لذاته وبين الغني المطلق والفقير المطلق مباينة لا تعقل الزيادة عليها. ثم بين غاية ملكه ونهاية عظمته بقوله : ( تسبح له ( الآية. قالت العقلاء : تسبيح الحي الملكلف يكون تارة باللسان بأن يقول ( سبحان الله ) وأخرى بدلالة أحواله على وجود الصانع الحكيم ، وتسبيح غيره لا يكون إلا من القبيل الثاني. وقد تقرر في أصول الفقه أن اللفظ المشترك لا يحمل على معنيية معاً في حالة واحدة فتعين حمل التسبيح ههنا على المعنى الثاني ليشمل الكل هذا ما عليه المحققون. وأورد عليه أنه لو كان المراد بالتسبيح ما ذكرتم لم يقل ) ولكن لا تفقهون تسبيحهم ( لأن التسبيح بهذا الوجه مفقوه معلوم .(4/353)
" صفحة رقم 354 "
وأجيب بأن دلالة كل شيء على وجود الصانع معلومة على الإجمال دون التفصيل لأنك إذا أخذت تفاحة واحدة فلا شك أنها مركبة من أجزاء لا تتجزأ ، ولكن عدد تلك الأجزاء وصفة كل منها من الطبع والطعم واللون والحيز والجهز والجهة وغيرها لا يعلمها إلا الله. وأيضاً الخطاب للمشركين ، وإنهم وإن كانا مقرين بالخالق ، إلا أنةهم لما أثبتوا له شريكاً وأنكروا قدرته على البعث والإعادة ولم ينظروا في المعجزات الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكأنهم لم يفقهوا التسبيح إذ لم يتوسلوا به إلى نتيجة النظر الصحيح ولهذا ختم الآية بقوله : ( إنه كان حليماً غفورا ( حين لا يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء نظركم ، وزعم بعض الظاهريين أن ما سوى الحي المكلف يسبح الله باللسان أيضاً كل بلغته ولسانه الذي لا نعرفه نحن ولا نفقهه. وزعم أيضاً أن الحيوان إذا ذبح لا يسبح وكذا غصن الشجرة إذا كسر ، فأورد عليه أن كونه جماداً لا يمنع من كونه مسبحاً فكيف صار ذبح الحيوان مانعاً لهن التسبيح. وكذا كسر الغصن ، ويمكن وفك ذلك النظم لم يبق مسبحاً مطلع مطلقاً ولا على ذلك النحو. مسبحة له مع أنها ليس بأحياء انسدّ علينا باب نستدل على حياته تعالى بالإذن الشرعي ، ولو سلم أن العلم يستلزم الحياة عقلاً فقد قيل : إن لكل موجود حياة تليق به. ولما فرغ من الإلهيات شرع في النبوّات فقال : ( وإذا قرأت القرآن ( قيل : نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قرأ القرآن عليهم. يروى أنه كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه وعن يساره أحزاؤ من ولد قصيّ يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار. وعن أسماء. كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالساً ومعه أبو بكر إذا أقبلت امرأة أبي لهب ومعها حجر فهر تريد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهي تقول : مذمماً أتينا ، ودينه قلينا ، وأمره عصينا. فقال أبو بكر : يا رسول الله إن معها حجراً أخشى عليك. فتلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآيات. فجاءت وما رأت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وقالت : إن قريشاَ قد علمت أني أبنة سيدها وإن صاحبك هجاني فقال أبو بكر : ورب هذه الكعبة ما هجاك. وعن ابن عباس : أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويسمعون حديثه. فقال النضر يوماً : ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحركان بشيء. وقال أبو سفيان : إني(4/354)
" صفحة رقم 355 "
أرى بعض ما يقوله حقاً. وقال أبو جهل : هو مجنون. وقال أبو لهب : كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى : هو شاعر فزلت. وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أراد تلاوة القرآن تلا قبلها ثلاث آيات وهن في سورة الكهف ) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً ) [ الآية : 57 ] وفي النحل : ( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ( ) الآية : 108 ] وفي ( حم الجاثية ) ) أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) [ الآية : 23 ]. وكان الله تعالى يجحبه ببركات هذه الآيات عن عوين المشركين وذلك قوله : ( جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً ( أي ذا ستر وقد جاء مفعلو بمعنى ذا كذا كما جاء فاعل على ذلك كثير نحو ( لابن وتامر ) من ذلك قولهم ( رجل مرطوب ) أي ذو رطوبة ، و ( مكان مهول ) و ( ذول ) و ( سبل مفعم ) ذو إفعام. وجوّز الأخفش مجيء مفعول بمعنى فاعل مثل ( مشؤوم ) و ( ميمون ). وقيل : إنه حجاب يخلقه الله في عيونه بحيث يمنعهم الحجاب عن رؤية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك الحجاب شيء لا يراه أحد فهو مستور. وعلى هذا يصح قول الأشاعرة إنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة والمرئي حاضراً والرؤية غير حاصلة لأجل أنه تعالى يخلق في العيون شيئاً يمنعهم من الرؤية ، ويحتمل أن يراد حجاب من دونه حجاب أو حجب فهو مستور بغيره أو حجاب يستر أن يبصر فكيف يبصر المحتجب به. والقول الثاني في الآية أن المراد بالحجاب الطبع والختم فاستدلت الأشاعرة به وبقوله : ( وجعلنا على قلوبهم ) [ الأنعام : 25 ] الآية. على صحة مذهبهم في خلق الكفر والإيمان كما مر في سورة الأنعام في قوله : ( ومنهم من يستمع إليك وجعلنا ( ) الأنعام : 35 ]. وأجاب الجبائي بأن المراد أنهم يطلبون موضعه بالليالي عن فهم القرآن وفي آذانهم ما منعهم عن سماع صوته. وقال الكعبي : أراد به الخلية والخذلان كالسيد إذا لم يراقب حال عبده فساءت أخلاق العبد يقول : أنا ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني خليتك ورآيك. وقال جار الله : هذه حكاية لما كانوا يقولونه من قولهم قلوبنا غلف وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب. ومن قبائح أهل الشرك أنهم كانوا يحبون أن تذكر آلهتهم كلما ذكر الله فإذا سمعوا ذكر الله دون ذكر آلهتهم نفروا وانهزموا عن المجلس فلذلك قال تعالى : ( وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ( وهو مصدر سدّ مسد الحال والتقدير يحد وحده مثل ( وأرسلها العراك ) ) ولوا على أدبارهم نفوراً ( مصدر من غير لفظ التولية أو جمع نافر كقاعد وقعود فأوعدهم الله على ذلك بقوله : ( نحن أعلم بما يستمعون به ( من الهزء بك وبالقرآن. قاتل جار الله ) به ( في مضوع الحال كما تقول يستمعون(4/355)
" صفحة رقم 356 "
بالهزء أي مصاحبين الهزء أو هازئين و ) إذ يستمعون ( نصب بما دل عليه أعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون ) وإذ هم نجوى ( أي يتناجون به إذ هم ذوو نجوى ) إذ يقول الظالمون ( ( إذ ) بدل من ( إذ هم ) ) إن تتبعون ( أي على تقدير الإتباع لأنهم لم يتبعوا رسول الله ) إلا رجلاً مسحوراً ( سحر فاختلط عقله وزال على حد الاعتدال. وقيل : المسحور الذي أفسد من قولهم ( طعام مسحور ) إذا أفسد عمله ( أرض مسحورة ) أصابها من المطر أكثر مما ينبغي فأفسدها. وقال مجاهد ) مسحوراً ( مخدوعاً لأن السحر حيلة وخديعة ، زعموا أن محمداً يتعلم من بعض الناس وولئك الناس كانوا يخدعونه بهذه الحكايات ، أو زعموا أن الشيطان يخدعه فيتمثل له بصورة الملك. وقال أبو عبيدة : يريد بشراً ذا سحر وهو الرئة. قال ابن قتيبة : لا أدري ما حمله على هذا التفسير المستنكر مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة. ) انظر كيف ضربوا لك الأمثال ( شبهك كل منهم بشيء آخر فقالوا : إنه كاهن وشار وساحر ومعلم ومجنون ) فضلوا ( في جميع ذلك عن طريق الحق ) فلا يستطيعون سبيلاً ( إلى الهدى والبيان ضلال من تحير في التيه الذ لا منار به. وحين فرغ من شبهات ا لقوم في النبوّات حكى شبهتهم ، في أمر المعاد. وأيضاً لما ذكر أن القوم وصفوه بأنه مسحور فاسد العقل ذكر ما كان في زعمهم الاً على اختلاط المفتتة من كل شيء ينكسر وهو اسم كالرضاض والفتات ويقال منه : رفت عظام الجزور رفتاً إذا كسرها. وتقرير الشبهة أن الإنسان إذا مات جفت أعضاؤه وتاثرت وتفرقت في جوانب العالم واختلطت بسائطها بأمثالها من العناصر ، فكيف يعقل بعد ذلك اجتماعها بأعيانها ثم عود الحياة إلى ذلك المجموع ؟ فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بأن إعادة بدن الميت إلى حالة الحياة أمر ممكن ، ولو فرضتم أن بدنه قد صار أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحي ورغضاضته ومن جنس ما ركب منه البشر كالحجارة أو الحديد فهو كقول القائل : أتطمع فيّ وأنا فلان ؟ فيقول : كن ابن الخليفة أو من شئت فسأطلب منك حقي. أما قوله : ( خلقاً مما يكبر في صدوركم (. فالمراد فرضوا شيئاً آخر أبعد عن قبول الحياة من الحجر والحديد بحيث تستبعد عقولكم كونه قابلاً لوصف الحياة ، وعلى هذا لا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء. وقال مجاهد : أراد به السموات والأرض. وعن ابن عباس أنه الموت أي لو صارت أبدانكم نفس الموت فإن الله يعيد الحياة إليها. وهذا إنما يحسن على سبيل المبالغة كما يقال : هو روح مجسم أو وجود محض وإلا فالموت عرض وانقلاب(4/356)
" صفحة رقم 357 "
الجسم عرضاً محال. وبتقدير التسليم فالموت كيف يقبل الحياة لأن الضد يمتنع أن يقبل الضد. وفي قوله : ( قل الذي فطركم أول مرة ( بيان كافٍ وبرهان شافٍ لأنه لما سلم أن خالق الحيوان هو الله فتلك الأجسام في الجملة قابلة للحياة والعقل وإله العالم عالم بجميع الجزئيات والكليات فلا يشتبه عليه أجزاء بدن كل من الأموات ، وإذا قدر على جعلها متصفة بالحياة في أول الأمر فلأن يقدر على إعادتها إلى الحياة في ثاني الحال أولى. ألزمهم أوّلاً بأن البعث أمر ممكن وإن فرضتم بدن الميت أي شيء أردتم فكأنهم سلموا إمكانه ولكن تجاهلوا وتغافلوا عن تعيين المعيد فقالوا : ( من يعيدنا ( فأجاب بأنه الفاطر الأول. ثم زادوا في الاعتراض فسألوا عن تعيين الوقت يقيناً وذلك قوله : ( فسينغضون إليك رؤوسهم ( أي فسيحركونها نحوك تعجباً واستهزاء. قال أبو الهيثم : يقال للرجل إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إلى فوق وإلى أسفل إنكار له أنض رأسه. قال المفسرون ( عسى ) من الله واجب فعلم منه قرب وقت البعث ، ولكن وقته على التعيين مما استأثر الله بعلمه. لا يقال كيف يكون قريباً وقد انقرض أكثر من سبعمائة سنة ولم يظهر لأنا نقول : كل ما هو آتٍ قريب ، وإذا كان ما مضى أكثر مما بقي فإن الباقي قليل. قوله : ( يوم يدعوكم ( منتصب ب ) اذكروا ( والمراد يوم يدعوكم كان ما كان ، أو هو بدل من ) قريباً ( وةالمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة. يروى أن إسرافيل ينادي : إيها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت. والاستجابة موافقة الداعي فبما دعا إليه وهو مثل الإجابة بزيادة تأكيد لما في السين من طلب الموافقة ، قال في الكشاف : الدعاء والاستجابة كلاهما مجاز ، والمعنى يوم يبعثكم فتبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون. وقوله : ( بحمده ( حال منهم أي حامدين وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بأمر يشق عليه : ستأتي به وأنت حامد شاكر أي متهيء إلى حالة تحمد الله وتشكره على أن اكتفي منك بذلك العمل ، وهذا يذكر في معرض التهديد. وقال سعيبد بن جبير : ( يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك. وقال قتادة : بحمده أي بمعرفته وطاعته لأن التسبيح والتحميد معرفة وطاعة ومن هنا قال بعضهم : حمدوا حين لا ينفعهم الحمد. وقال آخرون : الخطاب مختص بالمؤمنين لأنهم الذين يليق بهم الحمد لله على إحسانه إليهم ) وتظنون إن لبثتم إلاّ قليلاً ( عن قتادة : تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة ومثله قول الحسن : معناه تقريب(4/357)
" صفحة رقم 358 "
وقت البعث وكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل. وقال ابن عباس : يريد ما بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزول عنهم هول العذاب في ذلك الوقت. وقيل : أراد استقصار لبثهم في عرصة القيامة حين عاينوا هول النار. ثم أمر المؤمنين بالرفق والتدريج عند إيراد الحجة على المخالفين فقال : ( وقل لعبادي ( أي المؤمنين لأن لفظ العباد يختص بهم في أكثر القرآن ) فبشر عبادي الذين يستمعون القول ) [ الزمر : 17 ] ( عيناً يشرب بها عباد الله ) [ الدهر : 6 ] ( فادخل في عبادي ) [ البقرة : 29 ] ، ) يقولوا ( الكلمة أو الحجة ) التي هي أحسن ( وألين وهي أن لا تكون مخلوطة بالسب واللعن والغلظة. ثم نبه على وجه المنفعة بهذا الطريق فقال : ( إن الشيطان ينزغ بينهم ( أي بين الفريقين جميعاً فيزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود. ثم قال : ( ربكم أعلم بكم أن يشأ يرحمكم ( أيها المؤمنون بالإنجاء من كفار مكة إيذائهم ) أو إن يشأ يعذبكم ( بتسليطهم عليكم ) وما أرسلناك ( يا محمد عليهم وكيلاً أي حافظاً موكولاً إليك أمرهم إنما أنت بشير ونذير. والهداية إلى الله. وقال جار الله : الكلمة التي هي أحسن مفسرة بقوله : ( ربكم أعلم بكم ( إلى آخر أي قولوا لهم الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم إنكم من أهل النار ، وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يزيد غيظهم. وقوله : ( إن الشيطان ينزغ بينهم ( اعتراض. وقيل : المراد بالعياد الكفار أي قل لعبادي الذين أقروا بكونهم عباد إلي يقولوا الكلمة التي هي أحسن وهي كلمة التوحيد والبراءة من الشركاء والأضداد ، لأن ذلك أحسن بالبديهة من الإشراك. ووصفه بالقدرة على الحشر أحسن من وصفه بالعجز عنه ، والحامل على مثل هذه العقائد هو الشيطان المعادي. ثم قال لهم : ( ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم ( بتوفيق الهداية ، وإن يشأ يعذبكم بالإماتة على الكفر إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فلا تقصروا في الجد والطلب. ثم قال لرسوله : ( وما أرسلناك عليهم وكيلاً ( حتى تقسرهم على الإسلام وما عليك إلا البلاغ على سبيل الرفق والمداراة وهذا قبل نزول آية السيف. وقيل : نزلت في عمر بن الخطاب شتمه رجل فأمره الله بالعفو. وقيل : أفرط إيذاء المشركين للمسلمين فشكوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت. وحين قال : ( ربكم أعلم بكم ( عمم الحكم فقال : ( وربك أعلم بمن في السموات والأرض ( يعني أن علمه غير مقصور عليكم ولا على أحوالكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات وبما يليق بكل منها وبذلك حصل التمايز والتفاضل كما قال : ( ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ( وفيه رد على أهل مكة في إنكارهم أن يكون يتيم أبي طالب مفضلاً على الخلائق ونبياً دون صناديد قريش(4/358)
" صفحة رقم 359 "
وأكابرهم. وأنما ختم الآية بقوله : ( وآتينا داود زبوراً ( ليعلم أن التفضيل ليس بالمال والملك وإنما هو بالعلم والدين فإن داود كان ملكاً عظيماً ولم يذكره الله سبحانه إلا بمزية إيتاء الكتاب. وفيه أيضاً إشارة إلى أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم بدليل قوله : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) [ الأنبياء : 105 ] أي محمد وأمته. ومعنى التنكير في ( زبور ) أنه كامل في كونه كتاباً. والزبور وزبور كالعباس وعباس والحسن وحسن ، أو المراد بعض الزبر أو الزبور كما يسمى بعض القرآن قرآناً. وقيل : إن كفار قريش ما كانوا أهل نظر وجدال بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات ، وكانت اليهود تقول : إنه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة ، فنقض الله كلامهم بإنزال الزبور على داود بعد موسى. ثم رد على طائفة من المشركين كانوا يعبدون تماثيل على أنها صور الملائكة ، أو على طائفة من أهل الكتاب كانوا يقولون بآلهية عيسى ومريم وعزير فقال : ( قل(4/359)
" صفحة رقم 360 "
ادعوا الذين زعمتم من دونه ( وقيل : أراد بالذين زعمتم نفراً من الجن عبدهم ناس من العرب ثم أسلم الجن ولم يشعروا. وإنما خصصت الآية بإحدى هؤلاء الطوائف لأن قوله بعد ذلك ) يبتغون إلى ربهم الوسيلة ( لا يليق بالجمادات. قال ابن عباس : كل موضع في كتاب الله ورد فيه لفظ الزعم فهم بمعنى الكذب. وتقرير الرد أن المعبود الحق هو الذين قدر على إزالة الضر وتحويله من حال إلى حال أو مكان إلى مكان ، وهذه التي زعمتم أنها آلهية لا تقدر على شيء من ذلك فوجب القطع بأنها ليست بآلهة. سؤال : ما الدليل على أن الملائكة القدرة لها على كشف الضر ؟ فإن قلتم لأنا نرى أولئك الكفار كانوا يتضرعون إليها ولا تحصل الإجابة قلنا : إن المسلمين أيضاً يتضرعون إل الله ولا يجابون ، وبتقدير الإجابة في بعض الأوقات فالكفار أيضاً يحصل مطلوبهم أحياناً فيقولون إنه من الملائكة. جوابه أن الملائكة مقرّون بأن الإله الأعظم خالق العالم ، فكمال قدرته معلوم متفق عليه وكمال قدرته الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه ، بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة الله قليلة حقيرة ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الإله الأعظم أولى وأجدر أخذاً بالمعولم المتيقن دون المظنون الموهوم. على أن أهل السنة قاطعون بأنه لا تأثير لشيء في الوجود إلا لله تعالى. يقول مؤلف هذا التفسير : أضعف عباد الله تعالى وأحوجهم إليه الحسن بن محمد المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله في أولاه وأخراه. رأيت في بعض الكتب مروياً عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : من وقع في ملمة أو طلب كفاية مهم فليسجد في خلوة وليقل في سجدته إلهي أنت الذي قلت : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحولاً ( فيا من يملك كشف الضر عنا وتحويله اكشف ما بي ، فإنه إذا قال ذلك كشف الله عنه ضره وكفى مهمه. وقد جرب فوجد كذلك. ثم إنه تعالى أكد عدم اقتدار معبوديهم ببيان غاية افتقارهم إلى الله تعالى في جذب المنافع ودفع المضار فقال : ( أولئك ( وهو مبتدأ و ) الذين يدعون ( صفته ) ويبتغون ( خبره يعني أولئك المعبودين يطلبون ) إلى ربهم الوسيلة ( أي القربة في الحوائج و ) أيهم ( بدل من واو ) ويبتغون ( وهو موصول وصدر صلته محذوف أي يبتغي من هو أقرب الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب ؟ والدليل على هذا الافتقار إقرار جمع الكافر بإمكانهم الذاتي وجوز في الكشاف أن يضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون فكأنه قيل : يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله وذلك بازدياد الخير والطاعة والصلاح ، ويرجون ويخافون كغيرهم من العباد. وقيل : أولئك الذين يدعون هم الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله : ( لقد فضلنا بعض النبيين ( أي الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء الدعوان للأمم إلى الله ، لا يعبدون إلا الله ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه فأنتم أحق بالعبادة. واحتج هذا القائل على صحة قوله بأن الله تعالى قال : ( يخافون عذابه ( والملائكة لا يعصون الله فكيف يخافون عذابه ؟ وأجيب بأنهم يخافون عذابه لو أقدموا على الذنب لقوله : ( ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ) [ الأنبياء : 29 ] ، ) إن عذاب ربك كان محذوراً ( أي حقيقاً بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل فضلاً عن غيرهم ، فإن لم يحذره بعض الجهلة فإنه لا يخرج من كونه واجب الحذر. ثم بين مآل حال الدنيا وأهلها فقالك ) وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة ( بالموت والاستئصال ) أو معذبوها ( بالقتل وأنواع العذاب كالسبي والاغتنام. وقيل : الهلاك للصالحة والتعذيب للطالحة ) كان ذلك في الكتاب ( وهو اللوح المحفوظ ) مسطوراً ( فلا يوجد له تبديل قط. ثم ذكر نوعاً آخر من سننه فقال : ( وما منعنا ( استعار المنع للترك من أجل لزوم خلاف الحكمة والمشيئة. عن سعيد بن جبير أن كفار قريش اقترحوا منه آيات باهرة كإحياء الموتى ونحوه. وعن ابن عباس أنهم سألوا الرسول أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن يزيل عنهم الجبال حتى يزرعوا تلك الأرضاي ، فطلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الله تعالى ذلك فقال : إن شئت فعلت لكنهم إن كفروا بعد ذلك أهلكتهم. فقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : لا أريد ذلك أنزل اللهالآية. والمعنى وما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من(4/360)
" صفحة رقم 361 "
الآيات ) إلا أن كذب بها ( الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود ، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك واستوجبوا عذاب الاستئصال على ما أجرى الله تعالى به عادته. والحاصل أن المانع من إرسال الآيات التي اقترحوها هو أن الاقتراح مع التكذيب موجب للهلاك الكلي ، وقدعزمنا أن نؤخر أمر من بعث إليهم إلى يوم القيامة ، ويحتمل أن يراد أنهم مقلدون لآبائهم فلا يؤمنون ألبتة كما لم يؤمنوا فيكون إرسال الآيات ضائعاً. ثم استشهد على ما ذكر بقصة صالح وناقته لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة يبصرها صادرهم وواردهم وهذا معنى قوله ) مبصرة ( أو المراد حال كون الناقة آية بينة يبصر المتأمل بها رشده ) فظلموا ( أنفسهم بقتلها أو فكفروا ) بها ( بمعنى أنهم حجدوا كونها من الله قاله ابن قتيبة ) وما نرسل بالآيات ( المقترحة ) إلا تخويفاً ( من نزول العذاب العاجل بمعنى أن من أنكرها وقع عليه ، أو المراد وما نرسل بآيات القرآن وغيرها من المعجزات إلا إنذاراً بعذابب الآخرة على المعنى المذكور. وحين امتنع من إرسال الآيات المقترحة على رسوله للمصارف المذكورة قوى قلبه بوعد النصر بالغلبة فقال : ( وإذ قلنا لك إن ربك ( أي واذكر إذا أوحينا إليك أن ربك ) أحاط بالناس ( أي أنهم في قبضته وقدرته فلا يقدرون على خلاف إرادته فينصرك ويقويك حتى تبلغ الرسالة. عن الحسن : حال بينهم وبينه أن يقتلوه كما قال : ( والله يعصمك من الناس ) [ المائدة : 67 ] وقيل : أراد بالناس أهل مكة ، وأحاط في معنى الاستقبال إلا أن خبر الله تعالى لما كان واجب والوقوع عبر عنه بلفظ الماضي ، وعد نبيه بأنه سيهلك قريشاً في وقعة بدر. أما قوله : ( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ( ففيه أقوال : الأول أنه تعالى أراه في المنام مصارع كفار قريش حتى قال : والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يأتي الأرض ويقول : هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان ، فلما سمع قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية وكانوا يستعجلون بما وعد. الثاني : أنه رؤياه التي رأى أن يدخل مكة وبذلك أخبر أصحابه ، فلما منع من البيت الحرام عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم. وقال عمر لأبي بكر : قد أخبرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنا ندخل البيت فنطوف به. فقال أبو بكر : إنه لم يخبر أنا نفعل ذلك في هذه السنة فسنفعل ذلك في سنة أخرى. فلما جاء العام القابل دخلها وأنزول الله تعالى : ( لقد صدق الله رسول الرؤيا بالحق ) [ الفتح : 27 ]. الثالث : قول سعيبد بن المسيب وابن عباس في رواية عطاء أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك. الرابع وهو قول أكثر المفسرين : أن المراد بهذه الرؤيا هي حديث الإسراء. ثم اختلفوا ، فالأكثرون على أن(4/361)
" صفحة رقم 362 "
الرؤيا بمعنى الرؤية يقالك رأيت بعيني رؤية ورؤيا ، أو سماها رؤيا على قول المكذبين حين قالوا لعلها رؤيا رأيتها وخيال خيل إليك. والأقلون على أن الإسراء كان في المنام وقد مر هذ البحث في أول السورة. قوله : ( والشجرة ( فيه تقديم وتأخير ، والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس قال الأكثرون : إنها شجرة الزقوم لقيت في القرآن حيث لعن طاعموها. قال عز من قائل : ( إن شجرة الزقوم طعام الأثيم ( أو وصفت باللعن لأنه إلا بعاد وهي في أصل الجحيم أبعد مكان من الرحمة ، أو العرب تقول لكل طعام مكروه ضارّ ملعون. والفتنة فيها أن أبا جهل وغيره قالوا : زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر ثم يقول ينبت فيها الشجر فأنزل الله تعالى هذه الآية. ونظيره قوله : ( إنا جعلناها فتنة للظالمين ) [ الصافات : 63 ]. ومن شاهد حال السمندل والنعامة كيف يتعجب من قدرة الله على إنبات الشجرة من جنس لا تعمل فيه النار. وعن ابن عباس : الشجرة الملعونة بنو أمية. وعنه هي الكشوث التي تتلوى بالشجر تجعل في الشراب. وقيل : هي الشيطان. وقيل : اليهود سؤال : أي تعلق لحديث الرؤيا والشجرة إلى ما قبله من الكلام ؟ جوابه كأنه قيل : إنهم لما طلبوا هذه المعجزات ثم إنك لم تظهرها صار عدم ظهورها شبهة في أنك لست بصادق في دعوى النبوة إلا أن وقوع هذه الضبهة لا ينبغي أن يكون سبباً في توهين أمرك. ألا ترى أن ذلك تلك الرؤيا والشجرة صار سبباً لوقوع الشبهة العظيمة ، ثم إنها ما أوجبت ضعفاً في أمرك ولا فتوراً في اجتماع المحقين عليك. ثم ذكر سبباً آخر في أنه تعالى لا يظهر المقترحات عليهم فقال : ( ونخوفهم ( بمخاوف الدنيا والآخرة ) فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً ( متمادياً. التأويل : ( لاتبتغوا إلى ذي العرش سبيلاً ( يشتمل معنيين لأنهم إن كانوا أكبر منه أو أمثالاً له طلبوا طريقاً إلى إزعاج صاحب العرش ونزع الملك منه قهراً ، وإن كانوا أدون منه طلبوا إليه الوسيلة بالخدمة والعبودية على أن الناقص لا يصلح للإلهية وهذا قريب من التفسير : روإن من شيء إلا يسبح بحمده ( لكل ذرة من ذرات الموجودات ملكوت لقوله : ( فسبحان الذين بيده ملكوت كل شيء ) [ يس : 83 ] والملكوت باطن الكون وهو الآخرة ، والآخرة حيوان لا جماد لقوله : ( إن الدار الآخرة لهي الحيوان ) [ العنكبوت : 64 ] فلكل ذرة لسن ملكوتي ناطق بالتسبيح والحمد تنزيهخاً لصانعه وحمداً له على ما أولاه من نعمه ، وبهذا اللسان يطق الحصى في كف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبه تنطق الأرض يوم القيامة ) يومئذ تحدث أخبارها ( ) الزلزلة : 4 ] وبه تنطق الجوارح ) أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ) [ فصلت : 21 ] وبه نطق السموات والأرض ) قالتا أتينا طائعين ) [ فصلت : 11 ](4/362)
" صفحة رقم 363 "
) وإنه كان حليماً ( في الأزل إذا أخرج من العدم من يكفر به ويجحده ) غفوراً ( لمن تاب عن كفره. ) وإذا قرأت القرآن ( فيه إشارة إلى أن من قرأ القرآن بتمامه وصل إلى أعلى معارج القدس وأقصى مدارج الأنس كما جاء في الحديث ( يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ). قال أبو سليمان الخطابي : جاء في الأثر أن عدد آي القرآنعلى قدر درج الجنة فمن استوفى جميع آي القرآن استولى على أقصى درجات الجنة. قال المحققون : استيفاء جميع آي القرآن هو أن يتخلق بأخلاقه وصفاته بل بأخلاق الله وصفات الله. وهذا يكون بعد العبور عن الحجب الظلمانية والنورانية فيكون بينه وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً. لم يقل ( ساتراً ) لأن الحجاب يستر الواصل عن المنقطع ولا يستر المنقطع عن الواصل فيكون الواصل مستوراً بالحجاب المنقطع. ) ولّوا على أدبارهم ( لأنهم من سوء مزاجهم لا يكادون يقبلون الغذاء الصالح ، فالحلاوة في مذاهم مرارة ) إذ يقول الظالمون ( من ظلمهم لأنهم وضعوا المسحور مكان المبعوث أي ) خلقاً مما يكبر في صدوركم ( أي لو كانت قلوبكم التي في صدوركم أشد من الحجارة والحديد فالله قادر على إحيائه وتليينه في قيام قيامة العشق ) يقولوا التي هي أحسن ( من شرف من عبيده ، فبتشريف الإضافة يظهر منه القول الأحسن وهو الدعاء إلى الله بلا إله إلا الله مخلصاً ، والفعل الأحسن وهو أن يكونمتأدباً بآداب الشريعة والطريقة ، والخلق الأحسن وهو أن يكون محسناً إليهم بلا طمع الإحسان والشكر منهم ويتجاوز عن سيئاتهم ويعيش فيهم بالنصيحة ، يأمرهم بالمعروف بلا عنف وينهاهم عن المنكر بلا فضيحة ) إن الشيطان ينزغ بينهم ( إذ لم يعيشوا بالنصيحة. ) وآتينا داود زبوراً ( فيه أن فضل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على داود كفضل القرآن على الزبور. ) وإن من قرية ( من قرى قالب الإنسان ) إلا نحن مهلكونها ( بموت قلبه وروحه قبلموت قالبه فمن مات فقد قامت قيامته ) أو معذبوها ( بأنواع الرياضات والمجاهدات ففي السير إلى الله ذوبان الأفعال ، وفي السير بالله ذوبان الصفات ، وفي السير في الله ذوبان الذات : ( أحاط بالناس ( علم مقتضى كل نفس من الخير والشر ) وما جعلنا الرؤيا التي أريناك ( كان الوحي يصل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في مبدأ أمره بطريق المنام وكان في ذلك اختبار للناس ، فمن وقته يظهر الموافق من المنافق والصديق من الزنديق ، وهكذا كان في شجرة وجود إبليس ابتلاء للناس ولم يكن للمحيط بأحوال الناس حاجة إلى الابتلاء ولكنه يعامل معاملة المختبر والله أعلم بالصواب .(4/363)
" صفحة رقم 364 "
( الإسراء : ( 61 - 72 ) وإذ قلنا للملائكة . . . .
" وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا "
( القراآت )
اخرتني ( بالياء في الحالين : ابن كثير غير الهاشمي عن ابن فليح وسهل ويعقوب وافق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو في الوصل. الباقون بالحذف ) ورجلك ( بكسر الجيم : حفص وأبو زيد عن المفضل الآخرون بسكونها. ) أن نخسف ( ، ) أونرسل ( ، ) أن نعيدكم ( ، ) فنرسل ( ، ) فتغركم ( كلها بالنون : ابن كثير وأبو عمرو. والباقون على الغيبة إلا يعقوب ويزيد فإنهما قرأ ) فتغرقكم ( بالتاء الفوقانية على أن الضمير للريح من الرياح على الجميع يزيد : ( هذه أعمكى ( بالإمالة ) أعمى ( بالتفخيم : أبو عمرو ونصير والبرجمي ورويس. وقرأ حمزة وعلي غير نصير وخلف ويحيى وحماد جميعاً بالإمالة. الباقون جميعاً بالتفخيم. الوقوف : ( إبليس ( ط ) طيناً ( ه لاتحاد فاعل فعل قبله وفعل بعده بلا حرف عطف ) عليّ ( ز لحق القسم المحذوف مع اتحاد الكلام ) قليلاً ( ه ) موفوراً ( ه ) وعدهم ( ط للعدول ) غروراً ( ه ) سلطان ( ط ) وكيلاً ( ه ) من فضله ( ط ) رحيماً ( ه ) الا إياه ( ج ) أعرضتم ( ط ) كفوراً ( ه ) وكيلاً ( ه لا للعطف ) تبيعاً ( ه ) تفضيلاً ( ه ) بإمامهم ( ج ) فتيلاً ( ه ) سبيلاً ( .(4/364)
" صفحة رقم 365 "
التفسير : قال أهل النظم : إنه لما ذكر أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان من قومه في بلية عظيمة ومحنة شديدة ، أراد أن يبن أن جميع الأنبياء كانوا كذلك حتى آدم عليه السلام. وأيضاً إن القوم كان منشأ نزاعه واقتراحاتهم الفاسدة أمرين : الكبر والحسد. فبين الله سبحانه أن هذه عادة قديمة سنها إبليس لعنة الله عليه. وأيضاً لما وصف القوم بزيادة الطغيان عقيب التخويف أراد أن يذكر السبب لحصول هذا الطغيان وهو قول إبليس ) لأحتنكن ذريته ( وهذه القصة ذكرها الله تعالى في سبع سور : البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص. ونحن قد استقصينا القول فيه فلا حاجة إلى الإعادة فلنقتصر على تفسير الألفاظ ، قال جار الله ) طيناً ( حال إما من الموصول والعامل فيه ) أسجد ( معناه أأسجد له وهو طين في الأصل ؟ وإما من الراجع إلى الموصل من الصلة تقديره أأسجد لمن كان في وقت خلقه طيناً ؟ ومعنى الاستفهام إنكار أمر الأشرف على زعمه بخدمة الأدون ولذك ) قال أرأيتك ( أي أخبرني عن ) هذا الذي كرمته ( أي فضلته ) عليّ ( لم كرمته وأنا خير منه ؟ فاختصر الكلام لكونه معلوماً. ويمكن أن يقال : هذا مبتدأ والاستفهام فيه مقدر معناه أخبرني أهذا الذي كرمته عليّ ؟ والإشارة هنا تفيد الاستحقار. وقيل : إن هذا مفعول : ( أرأيت ( لأن الكاف لمجرد الخطاب كأنه قال على وجه التعجب والإنكار : أبصرت أو علمت هذا بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا يكرّم عليّ. ثم ابتدأ فقال لئن أخرتني ( واللوم موطئة للقسم المحذوف وجوابه ) لأحتنكن ذرّيته ( لأستأصلنهم بالإغواء من احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلاً من الحنك. ومنه ما ذكر سيبويه ( أحنك الشاتين ) أي آكلهما. وقال أبو مسلم : هو افتعال من الحنك يقال منه حنك الدابة يحنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به كأنه يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه. وإنما ظن إبليس به ذلك لأنه سمع قول الملائكة في حقهم ) تجعل فيها من يفسد فيها ) [ البقرة : 30 ] أو نظر إليه فتوسم أنه خلق شهواني إلى غير ذلك من قواه السبعية والهمية والبهيمية. أو قاس ذرية آدم عليه حين عمل وسوسته فيه. وضعفه جار الله بأن الظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجر ) قال ( أي الله تعالى ) اذهب ( ليس المراد منه نقيض المجيء وإنما المراد امض لشأنك اذي اختره خذلان وتخيلة وإمهالاً. ثم رتب على على الإمهال قوله : ( فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم ( أراد جزاؤهم وجزاؤك فغلب المخاطب على الغائب لأنه الأصل في المعاصي وغيره تبع له. وجوز في الكشاف أن يكون الخطاب لتابعيه على طريقة الألتفات. وانتصب ) جزاء موفوراً ( على المصدر والعامل فيه معنى تجازون المضمر ، أو(4/365)
" صفحة رقم 366 "
المدلول عليه بقوله : ( فإن جهنم جزاؤكوم ( أو على الحال الموطئة. والموفور الموفر من قولهم ( فر لصاحبك عرضه فرة ). وقيل : هو بمعنى الوافر. ثم أكد الإمهال والخذلان بقوله : ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك ( أفزه الخوف واستفزه أزعجه واستخفه ، وصوته دعاؤه إلى معصية الله. وقيل : الغناء واللهو واللعب ) وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ( قال الفراء وأبو عبيدة : أجلب من الجلبة والصياح أي صح عليهم. وقال الزجاج : أي أجمع عليهم كل من تقدر عليه من مكايدك. فالإجلاب الجمع والباء في ) بخيلك ( زائدة. وقال ابن السكيت : الإجلاب الإعانة ، والخيل يقع على الفرسان قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا خيل الله اركبي ). وعلى الأفراس جميعاً. والرجل بسكون الجيم جمع راجل كتاجر وتجر وصاحب وصحب. وبكسر الجيم صفة معناه وجمعك الرجل. تضم جيمه أيضاً مثل ندر وندس وحذر وحذر. عن ابن عباس : كل راكب وراجل في معصية الله فهو من خيل إبليس وجنوده. وقيل : يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضها راكب وبعضها راجل ، والأقرب أن هذا كلام ورد تمثيلاً فقد يقال للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك. قال في الكشاف : مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم ، وأجلب عليهم بجند من خيالة ورجالة حتى إذا استأصلهم. أما المشاركة في الأموال فهي كل تصرف في المال لا على وجه الشرع سواء كان أخذاً من غير عوض أو وضعاً في غير حق كالربا ولاغضب والسرقة. وقيل : هي تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة. والمشاركة في الأولاد دعوى الولد بغير سبب وتحصيله بالدعاء إلى الزنا ، أو تسميتهم بعبد اللات وعبد العزى ، أو تربيتهم لا كما ينبغي حتى ينشأوا غير راشدين ولا مؤدبين ولا متدينين بدين الحق. ) وعدهم ( بتزيين المعاصي في أعينهم وترغيبهم فيها وتثقيل الطاعات والعبادات عليهم وتنفيرهم عنها ، وهذه قضية كلية وربما يخصه المفسرون ، فعن بعضهم أن المراد وعدهم بأنه لا جنة ولا نار. وقيل : تسويف التوبة. وقيل : بالكرامة على الله بالأنساب والأحساب. وقيل : بشفاعة الأصنام والأماني الباطلة وإيثار العاجل على الآجل. ثم فنى أن يكون لوعد الشيطان عاقبة حميدة فقال : ( وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ( لأنه إنما يدعو إلى اللذات البهيمية أو السبعية أو الخيالية ، وأكثرها دفع الآلام وكلها لا أصل لها ولا دوام. ومن أراد الاستقصاء في هذا الباب فعليه بمطالعة باب ( ذم الغرور من كتاب إحياء علم الدين ) للشيخ الإمام محمد الغزالي رحمه الله .(4/366)
" صفحة رقم 367 "
ولما قال للشيطان على سبيل الوعيد والتهديد افعل ما تقدر عليه ربط جأش سائر المكلفين بقوله : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) [ الحجر : 42 ] قال الجبائي : المراد كل عباده لأنه استثنى متبعيه في غير هذا الموضع قائلاً : ( إلاَّ من تبعك ) [ الحجر : 42 ] وقال أهل السنة : المراد عباد الله المخلصين. ثم زاد في تقوية جانب الملكلف فختم الآية بقوله : ( وكفى بربك وكيلاً ( فهو يدفع كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه. ثم عدد على بني آدم بعض ما أنعم به عليهم ليكون تذكيراً لهم وتحذيراً فقال : ( ربكم الذي يزجى لكم ( أي يسيراً لأجلكم ) الفلك في البحر ( والإزجاء سوق الشيء حالاً بعد حال ) لتبتغوا من فضله ( الربح بالتجارة ) إنه كان بكم رحيماً ( فلذلك هداكم إلى مصالح المعاش المؤدية إلى منافع المعاد ) وإذا مسكم الضر ( أي خوف الغرق ) في البحر ضل من تدعون ( ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه في حوادثكم ) إلا إياه ( وحده فإنكم تعقدون برحمته رجاءكم ، أو المراد ضل من تدعون من الآلهة عن إثاتكم ولكن الله هو الذي ترجونه وحده فكان الاستثناء منقطعاً ) فلما نجاكم ( من ذلك الضر وأخرجكم ) إلى البر أعرضتم ( عن الإخلاص ) وكان الإنسان كفوراً ( لنعمة الله لأنه عند الشدة يتمسك برحمة الله وفي الرخاء يعرض عنه. ثم أنكر عليهم سوء معاملتهم قائلاً : ( أفأمنتم ( تقديره أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض ) أن يخسف ( أصله دخول الشيء في الشيء ومنه عين خاسفة للتي غارت حدقتها في الرأس ، وخسف القمر دخل تحت الحجاب وهو دائرة الظل عند الحكماء ) بكم ( حال ، وإنما قال : ( جانب البر ( لأنه ذكر البحر في الآية الأولى وهو جانب والبر جانب ، وخسف جانب ، وخسف جانب البر بهم قلبه وهم عليه فالخسف تغييب تحت التراب كما أن الغرق تغييب تحت الماء ، فهبوا أنكم نجوتم من هول البحر فهل أمنتم من هول البر فإنه قادر على تسليط آفات البر عليكم. إما من جانب التحت بالخسوف ، وإما من جانب الفوق بإمطار الحجارة وذلك أن ) يرسل عليكم ( حاصباً وهي الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء. ولا يخفى أن هذين العذابين أشد من غرق البحر. ) ثم لا تجدوا لكم وكيلاً ( يصرف ذلك عنكم ) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى ( بأن يقوي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى ركوب البحر ) فيرسل عليكم قاصفاً ( ) فيغرقكم بما كفرتم ( بسبب كفركم ) ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً ( مطالباً يتبعنا لإنكار ما نزل بكم أو لنصرفه عنكم فهو كقوله : ( ولا يخاف عقباها ) [ الشمس : 16 ](4/367)
" صفحة رقم 368 "
ثم أجمل ذكر النعمة بقوله : ( ولقد كرمنا بني آدم ( وقد ذكر المفسرون في تكريمه وجوهاً منها : الخط فيه يقدر الإنسان على إيداع العلوم التي استنبطها - هو أو غيره - الدفاتر فتبقى على وجه الدهر مصونة عن الاندراس محفوظة عن الانطماس ) اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ) [ العلق : 3 ، 4 ] ومنها الصورة الحسنة ) وصوركم فأحسن ) صوركم ) [ غافر : 64 ] ، ومنها القامة المعتدلة ) لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) [ التين : 4 ] ومنها أن كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم. يحكى عن الرشيد أنه حضر لديه طعام فأحضرت الملاعق - وعنده أبو يوسف - فقال له : جاء في تفسير جدك ابن عباس هذا التكريم هو أنه جعل لهم أصابع يأكلون بها فرد الملاعق وأكل بأصابعه. ومنها ما قال الضحاك : إنه النطق والتمييز فإن الإنسان يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه بخلاف سائر الحيوان. ويدخل الأخرس في هذا الوصف لأنه يعرف بالإشارة أو الكتابة ، ويخرج الببغاء ونحوه لأنه لا يقدر على تعريف جميع الأحوال على الكمال. ومنها تسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم ، فالأرض لهم كالأم الحاصنة ) منها خلقناكم وفيها نعيدكم ) [ طه : 55 ] وهي لهم فراش ومهاد ، والماء ينتفعون به في الشرب والزراعة والعمارة وماء البحر ينتفع به في التجارة واستخراج الحلي منه ، والهواء مادة الحياة ولولا هبوب الرياح لاستولى النتن على المعمورة ، والنار ينتفع بها في الطبخ والإنضاج ودفع البرد وغير ذلك ، وانتفاعهم بالمركبات المعدنية والنباتية والحيوانية ظاهر. وبالجملة فهذا العالم بأسره كقرية معمورة أو خوان معد ، والإنسان فيه كالرئيس المخدوم والملك المطاع ، فأي تكريم يكون أزيد من هذا ؟ ولا شك أن الإنسان - لكونه مستجمعاً للقوة العقلية القدسية وللقوتين الشهوية تالبهيمية والغضبية السبعية ولقوّتي الحس والحركة الإرادية وللقوى النباتية وهي الاغتذاء والنموّ والتوليد - يكون أشرف مما لم يستجمع الجميع سوى المجردات المحضة. وقال بعضهم : إن هذا التكريم هو أنه تعالى خلق آدم بيده وأبدع غيره بواسطة ( كن ). يروى عن زيد بن أسلم أن الملائكة قالت : ربنا إنك إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطنا في الآخرة. فقال : وعزيت وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له ( كن ) فكان. ثم خص بعض أنواع التكريم بالذكر فقال : ( وحملناهم في البر والبحر ( قال ابن عباس : في البر أي على الخيل والبغال والحمير وفي البحر أي على السفن ) ورزقناهم من الطيبات ( من كل غذاء نباتي أو حيواني ألطفه وأذله. واعلم أن التكريم لا يدل على التفضيل لأن تكريم زيد لا ينافي تكريم غيره بأزيد من ذلك ولذلك ختم التكريم بقوله :(4/368)
" صفحة رقم 369 "
) وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ( فسر بعض الأشاعرة الكثير ههنا بمعنى الجميع فشنع عليه جار الله بأنه شجى في الحلق وقذى في العين لبشاعة قول القائل : وفضلناهم على جميع ممن خلقنا. والإنصاف أن كون الكثير مفيداً لمعنى الجميع لا يوجب هذا التشنيع ، لأنه لا يلزم من إفادة اللفظ معنى لفظ آخر بمعنى أنه يرجع الحاصل إلى ذلك بدلالة الالتزام ، أو بحكم العرف أن يوضع ذلك اللفظ موضعه وينطق به على أن التفسير لا يقوم مقام المفسر ألبتة ، لأن هذا معجز دون ذلك فكيف يبقى الذوق بحاله ؟ وأيضاً فالحاصل هو قولنا على جميع من خلقنا لا على جميع ممن خلقنا ، فإن الدعوى هو أن كثيراً من الشيء أقيم مقام كل ذلك الشيء لا كل من ذلك الشيء حتى تلزم البشاعة من قبل الجمع بين لفظي الكل و ( من ) التبعيضية. هذا وإن الحق في المسألة هو إجراء الكلام على ظاهره ، وإن الآية تدل على أنه حصل في مخلوقات الله شيء لا يكون للإنسان تفضيل عليه ، لأنه سبحانه ذكر في هذا الكلام في معرض المدح ، ولو كان الإنسان مفضلاً على الكل لم يقع من الله تعالى الاقتصار على ذكر البعض ، وكل من أثبت هذا القسم قال : إنه هو الملائكة : فلزم القول بأن كل الإنسان ليس أفضلمن كل الملائكة بل بعض الملائكة أفضل من أكثر الإنسان وإن كان يوجد في خواص الإنسان من هو أفضل من عوام الملائكة بل من خواصهم ، وإلى هذا ذهب ابن عباس واختاره الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط. وأما أن كل الملائكة أفضل من كل البشر - على ما زعم جار الله وأمثاله - فإنه تحكم محض. ولما ذكر أنواع كرامات الإنسان في الدنيا شرح أحوال درجاته في الآخرة فقال : ( يوم ندعو ( وهو منصوب بإضمار ( اذكر ) أو بقوله : ( فضلناهم ( على عادة الله في الإخبار أي ونفضلهم في هذا اليوم بما نعطيهم من الكرامة والثواب ، وعلى هذا يكون التكريم في الدنيا والتفضيل في الآخرة ولا وقف على ) تفضيلاً ( والإمام في اللغة كل ما يؤتم به من نبي أو مقدّم في الدين أو كتاب أو دين. والباء في قوله : ( بإمامهم ( للإلصاق كما تقول أدعوك باسمك. عن أبي هريرة مرفوعاً أنه ينادى يوم القيامة يا أمة إبراهيم يا أمة موسى يا أمة عيسى يا أمة محمد ، فيقومأهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم ، ثم ينادى يا أتباع فرعون وفلان وفلان من رؤساء الضلال وأكابر الكفر. ويجوز أن يتعلق الباء بمحذوف وهو الحال والتقدير : تدعو كل أناس متلبسين بإمامهم أن يدعون القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل. وقال الحسن : يدعون بكتتابهم الذي فيه أعمالهم(4/369)
" صفحة رقم 370 "
فيقال : يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر. وهو قول الربيع وأبي العالية أيضاً. قال صاحب الكشاف : ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع ( أن ) وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهامتهم. والحكمة في ذلك في رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين عليهما السلام وأن لا يفتضح أولاد الزنا. ثم قال : وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بيان حكمته ؟ وقال في التفسير الكبير : كل خلق يظهر من الإنسان حسن العفة والشجاعة والعلم ، أوقبيح كأضادها فالداعي إلى تلك الأفعال خلق باطن كالإمام له وكالمنيع والمنشأ ، ويوم القيامة إنما يظهر الثواب والعقاب بناء على الأفعال الناشئة من تلك الأخلاق ) فمن أوتى ( هو في معنى الجمع ولذلك قيل في جزائه ) فأولئك يقرؤون ( اوخص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم لأن قراءة أصحاب الشمال كلا قراءة لما يعرض لهم فيه من الحياء والخجل والتتعتع ) ومن كان في هذه ( الدنيا ) أعمى ( لا خلاف أن المراد بهذا العمى عمى القلب. وأما قوله : ( فهو في الآخرة أعمى ( لا خلاف أن المراد البصر كقوله : ( ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ) [ طه : 25 ] وفي هذا زيادة العقوبة. ويحتمل أن يراد عمى القلب. قال ابن عباس : المراد ومن كان أعمى في هذه النعم التي عددها من قوله : ( ربكم الذي يزجى ( إلى قوله : ( تفضيلاً ( فهو في الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى بالطريق الأولى ، لأن الضلال عن معرفة أحوال الآخرة أقرب وقوعاً ، فعلى هذا يكون الأعمى في الموضعين في الدنيا ، ومثله ما روى أبو روق عن الضحاك. من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرته في خلق السماء والأرض والبحار والجبال والناس والدواب ، فهو عن أمر الآخرة وتحصيل العلم به أعمى. قال المفسرون : لا يبعد أن يكون أعمى على هذا التفسير ( أفعل ) التفضيل ودليله قراءة أبي عمر وبإمالة الأول وتفخيم الثاني فإن تمامه بمن فكانت ألفه في حكم وسط الكلمة. هذا قول صاحب الكشاف تابعاً لأبي علي الفارسي. وأقول : في هذا الوجه نظر ، لأن الإمالة ليست مختصة بآخر الكلمة مثل ( شيئان ) ( والكافرين ) ونحوهما ولهذا قرىء بإمالة كليهما مع قيام هذا الاحتمال في الثاني ، ولعل من لم يمل الثاني راعى المشاكلة بينه وبين أضل والله أعلم. قال الحسن : في الآخرة أي في الدار الآخرة وذلك أنه في الدنيا تقبل توبه وفي الآخرة لا تقبل. وقيل : المراد بالعمى في الآخرة أنه لا يهتدي إلى طريق الجنة وإلى طيباتها والابتهاج ، بها ولا يمكن أن يراد بها الجهل بالله لأن أهل الآخرة يعرفون الله بالضرورة .(4/370)
" صفحة رقم 371 "
التأويل : ( من استطعت منهم بصوتك ( أي بكلمات المبتدعة ومقالات أهل الطبيعة ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ( لأنهم بخصوصية العبودية تخلصوا عن رق الكونين وتعلق العالمين ) وكفى بربك وكيلاً ( في تربيتهم وتهيئة صلاح أحوالهم. ) ربكم الذي يزجى لكم ( فلك الشريعة في بحر الحقيقة ) لتبتغوا من فضله ( جذبه العناية ) فلما نجاكم ( إلى بر الوصول والوصال ) أعرضتم ( بحجب العجب ورؤية الأعمال ) حاصباً ( من مطر القهر ) قاصفاً ( من ريح الابتلاء ببليات البدع والأهواء ) فيغرقكم ( في بحر الشهوات ) ولقد كرمنا بني آدم ( بالكرامات البدنية العامة للمؤمن والكافر وهي تخمير طينته بيده وتصويره في الرحم بنفسه ، وبالكرامات الروحانية العامة وهي أن نفخ فيه من روحه وشرفه بخطاب ) ألست بربكم ( وأنطقه بجواب ) بلى ( وأولده على الفطرة وأرسل الرسل وأنزل الكتب ، وبالكرامات الروحانية الخاصة من النبوة والولاية والهداية والجذبة كما قال : ( وحملناهم في البر والبحر ( أي عبرنا بهم من بر البشرية وبحري الروحانية إلى ساحل الربانية ) ورزقناهم من ( طيبات المواهب ونوال الكشوف ) وفضلناهم على كثير ( أي على الملائكة لأنهم الخلق الكثير من مخلوقات الله. وبيان تفضيله حسن استعداده في قبول فيض نور الله بلا واسطة وهو المراد بالأمانة في قوله : ( إنا عرضنا الأمانة ) [ الأحزاب : 72 ] ( ندعو كل أناس بإمامهم ( من الدنيا والآخرة وغيرهما فيقال : يا أهل الدنيا ويا أهل الآخرة ويا أهل الله ) فمن أوتى كتابه بيمينه ( فيه إشارة إلى أن أهل الله لا يؤتون كتابهم كما لا يحاسبون حسابهم ، وأهل الشمال يؤتون الكتاب ولكنهم لا يقدرون على القراءة لأنهم عمي والقراءة تحتاج إلى الإبصار بالإبصار وبالبصائر والله أعلم. ( الإسراء : ( 73 - 89 ) وإن كادوا ليفتنونك . . . .
" وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوسا قل كل يعمل(4/371)
" صفحة رقم 372 "
على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا "
( القراآت )
خلفك ( ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وأبو بكر وحماد. الآخرون ) خلافك ( بكسر الخاء بالألف ) وننزل من ( مخففاً : أبو عمرو ويعقوب الياقوت بالتشديد وياء تحتانية ) وناء بجانبه ( مثل ( ناع ) : يزيد وابن ذكوان ) ونأى ( يفتح. النون وإمالة الهمزة مثل ( رمى ). حمزة غير خلف والعجلي وحماد ويحيى وعباس وأبو شعيب ونصير مثله ولكن بكسر النون على غير نصير ، وخلف والعجلي وخلف لنفسه. الباقون بفتحتين كرمى. الوقوف : ( خليلاً ( ه ) قليلاً ( ه لا لتعلق ( إذا ) ) بصيراً ( ه ) قليلاً ( ه ) تحويلاً ( ه ) وقرآن ( ه ) الفجر ( ط ) مشهوداً ( ه ) نافلة لك ( قف والوصل أولى لأن ( عسى ) وعد على التهجد ) محموداً ( ه ) نصيراً ( ه ) وزهق الباطل ( ط ) زهوقاً ( ه ) للمؤمنين ( ه لا لأن ما بعده من صلة ( ما ) ) خساراً ( ه ) بجانبه ( ج لعطف حملتي الظرف ) بؤساً ( ه ) شاكلته ( ط ) سبيلاً ( ه ) عن الروح ( ط ) قليلاً ( ه ) وكيلاً ( ه لا ) من ربك ( ط ) كبيراً ( ه ) ظهيراً ( ه ) مثل ( ز لعطف المتفقين معنى ا لمتخلفين لفظاً ) كفوراً ( ه. التفسير : لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على بني آدم وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس الأشقياء. عن ابن عباس في رواية عطاء أن وفد ثقيف قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالاً نفتخر بها على العرب ، لا نعشر - أي لا تؤخذ عشور أموالنا - ولا نحشر ولا نجبي في صلاتنا أي لا نسجد ، وكل رباً لنا فهو لنا ، وكل رباً لعينا فهو موضوع عنا ، وأن تمتعنا باللات سنة ولا نكسرها بأيدينا عند رأس الحول ، وأن تمنع من قصد وادينا وجّ فعضد شجره فإذا سألتك العرب لم فعلت ذلك ؟ فقل : إن الله أمرني به وجاؤوا بكتابهم فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لثقيف لا يشعرون ولا يحشرون فقالوا : ولا يجبون ، فسكت رسول الله ثم قالوا للكاتب : اكتب ( ولا يجبون )(4/372)
" صفحة رقم 373 "
والكاتب ينظر إلى رسول الله. فقام عمر بن الخطاب فسل سيفه وقال : أسعرتم قلب نبينا با معشر ثقيف أسعر الله قلوبكم ناراً. فقالوا : لسنا نكلمك إنما نكلم محمداً. وقال عمر : أما ترون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمسك عن الكلام كراهية إنها ليست بمكية. وروي أن قريشاً قالوا له اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة فنزلت. وقال الحسن : إن الكفارأخذوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة قبل الهجرة فقالوا : كف يا محمد عن ذم آلهتنا وشتمها ، ولو كان ذلك حقاً كان فلان وفلان بهذا الأمر أحق منك. فوقع في قلب رسول الله أن يكف عن شتم آلهتهم. وعن سعيبد بن جبير أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يستلم الحجر فتمنعه قريش ويقولون : من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأقصى ما يقدرون عليه ، فتارة كانوا يقولون : لو عبدت آلهتنا عبدنا آلهك فنزلت : ( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) [ الكافرون : 1 ، 2 ] وقوله : ( ودّوا لو تدهن فيدهنون ) [ القلم : 9 ] وتارة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والنسوان الجميلة ليترك ادعاء النبوة فنزلت ) ولا تمدّن عينيك إلى منا متعنا ) [ طه : 131 ] وأخرى دعوه إلى طرد المؤمنين فنزل : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم ) [ الأنعام : 52 ] وكل ذلك دليل على أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه ويزيلوه عن منهجه. فلو لم يكن شيء من الروايات المذكورة موجوداً لكان للآية محمل صحيح. والمعنى وإن الشأن قاربوا أن يخدعوك فاتنين. وأصل الفتنة الاختبار ومنه فتن الصائغ الذهب ثم استعمل في كل من أزال الشيء عن حده وجهته ، وذلك في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن وافتراء على الله من تبديل الوعد بالوعيد وغير ذلك ) وإذا لاتخذوك ( أي لو اتبعت مرادهم لاتخذوك ) خليلاً ( ولكنت لهم ولياً وخرجت من ولايتي ) ولولا أن ثبتناك ( لولا تثبيتنا وعصمتنا لك ) لقد كدت تركن إليهم ( لقاربت أن تميل إلى مرادهم ) شيئاً قليلاً ( أي ركوناً قليلاً. قال ابن عباس : يريد حيث سكت عن جوابهم. قال قتادة : لما نزلت هذه الآية قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللَّهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ). ثم توعده في ذلك أشد الوعيد فقال : ( إذا لأذقناك ( أي لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركون لأذقناك ) ضعف الحياة وضعف الممات ( أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. والضعف عبارة عن ضم الشيء إلى مثله. وقال صاحب الكشاف : المراد عذاب الممات وهو عذاب القبر ، وعذاب الحياة وهو عذاب حياة الآخرة أي عذاب النار. والعذاب(4/373)
" صفحة رقم 374 "
يوصف بالضعف كقوله : ( فزده عذابا ضعفاً في النار ) [ ص : 61 ] بمعني مضاعفاً فكان أصل الكلام عذاباَ ضعفاً في الحياة الدنيا وعذاباً ضعفاً في الممات ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، ثم أضيفت الصفة كإضافة الموصوف فقيل : ضعف الحياة وضعف الممات كما لو قيل : لأذقناك أليم الحياة وأليم الممات. وقال التفسير الكبير : حاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون إليه همك لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ، ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة. والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله تعلاى في حق الأنبياء أكثر فكانت ذنوبهم عقوبتهم أعظم نظير ) يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ) [ الأحزاب : 30 ] ثم إن إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه لأن دليل الخطاب لا حجة فيه فقد يرتقى الضعف إلى مالا حد له كما جاء في الحديث : ( من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من علم بها إلى يوم القيامة ) ) ثم لا تجد لك علينا نصيراً ( يعني لو أذقناك ذلك لم تجد أحداً يخلصك من عذابنا. واعلم أن القرب منالفتنة لا يدل على الوقوع فيها. والتهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها فلا يلزم من الآية طعن في عصمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . وفيه أنه لا عصمة منالمعاصي إلا بتوفيق الله وتثبيته على الحق. وقالت المعتزلة : المراد بهذا التثبيت الألطاف الصارفة عن ذلك وهي ما أخطر الله بباله من ذكر وعده ووعيده كونه نبياً من عنده. وأجيب بأنه لو لم يوجد المقتضى للإقدام على ذلك الفعل المحذور لم يكن إلى إيجاد المانع حاجة ، وليس ذلك المقتضي إلا القدرة مع الداعي ولا ذلك المانع إلا داعية أخرى معارضة للداعي الأول وقد أوجدها الله تعالى عقيب ذلك. ثم ذكر طرفاً آخر من مكايدهم فقال : ( وإن كادوا ليستفزوك ( ( إن ) مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة كما في الآية الأولى ومعنى ) ليستفزونك ( ليزعجونك كما من في قوله : ( واستفزز ) [ الآية : 64 ] والأرض إما أرض مكة ، كما قال قتادة ومجاهد ويرد عليه أن ( كاد ) للمقاربة لا للحصول لكن الإخراج قد حصل قوله : ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك ) [ محمد : 13 ] ويمكن أن يقال : إنهم هموا بإخراجه ولكن الله منعهم من ذلك حتى هاجر بأمر ربه ، فأطلق الإخراج على إرادة الإخراج مجوزاً(4/374)
" صفحة رقم 375 "
يؤيده قوله : ( وإذا لا يلبئون ( وهو معطوف على ) يستفزونك ( أي لا يبقون بعد إخراجك إلا زماناً قليلاً أي لو أخرجوك لاستؤصلوا لكنه لم يقع الاستئصال فدل ذلك على عدم وقوع الإخراج. ومن جوز وقوع الإخراج قال : المراد بعدم اللبث أنهم أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل. واما أرض المدينة على ما روي عن ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم وقالوا : يا أبا القاسم إن الأنبياء بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مهاجر إبراهيم ، فلو خرجت إلى الشام لآمنا بك واتبعناك. وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم ، فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم فعسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أميال من المدينة أو بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازماً على الخروج إلى الشأم لحرصه على دخول الناس في دين الله فنزلت الآية فرجع. وعلى هذا القول تكون هذه الآية أيضاً مدنية ، والخلاف في معنى الخلف كما مر في قوله : ( بمقعدهم خلاف رسول الله ) [ التوبة : 81 ] وقرىء : ( وإذا لا يلبثوا ( بحذف النون على إعمال ( إذن ) فتكون الجملة برأسها معطوفة على جملة قوله : ( وإن كادوا ليستفزونك (. ثم بين أن عادته تعالى جارية بأن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم فإنه يهلكهم ) فقال سنة من قد أرسلنا ( وهو منصوب على المصدر المؤكد أي سن الله ذلك سنة ) ولا تجد لسنتنا تحويلاً ( لأن الأسباب الكلية في الأزل اقتضت توزع كل من أجزاء الزمان على حادث معين بسبب معين ، فتبيدل إحدى الحوادث وتحويلها إلى قوت آخر يقتضي تغيير الأسباب عن أوضاعها وهو محال عقلاً وعادة. وقال أهل النظم : لما قرر الإلهيات والمعاد والجزاء أردفها بذكر أشرف الطاعات وهي الصلاة. وأيضاً لما قال : ( وإن كادوا ليستفزونك ( أمره بالاشتغال بعبادته تفويضاً للأمور إلى الله وتعويلاً على فضله في دفع شر أعدائه نظيره قوله في سورة طه : ( فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) [ طه : 130 ] ذهب كثير من المفسيرن كابن قتيبة وسعيد بن جبير منقولاً عن ابن عباس ، أن دلوك الشمس هو غروبها. وعلى هذا لا تشمل الآية صلاتي الظهر والعصر. وأكثر الصحابة والتابعين على أن دولك الشمس زوالها عن كبد السماء ويؤيده ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أتاني جبرائيل لدلوك الشمس حين زايت الشمس فصلى بي الظهر ). قالوا : واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان يدلك عينيه إذ ينظر إليها وهي في كبد السماء. وعلى هذا التفسير تشمل الآية جميع الصلوات الخمس. وحمل كلام الله على ما هو أكثر فائدة أولى واللام(4/375)
" صفحة رقم 376 "
بمعنى الوقت أو للتعليل أي أدم الصلاة في هذا الوقت أو لأجل دخول هذا الوقت ) إلى غسق الليل ( أي ظلمته. قال الكسائي : غسق الليل غسوقاً أي أظلم ، والاسم الغسق بفتح السين والتركيب يدور على السيلان ومنه يقال : غسقت العين إذا هملت وكأن الظلام الهمل على الدنيا وتراكم. وهذا عند سيبويه الشفق الأبيض ، فاستدل به بعض الشافعية على أن أول وقت العشاء الآخرة يدخل بغروب الشفق الأحمر لأأن المحدود إلى غاية يكون مشروعاً قبل حصول تلك الغاية. وهذا الاستدلال مبني على أن الغاية لا تدخل في ذي الغاية ، وعلى أن الآية يجب أن تشمل جميع الصلوات ، وللخصم المنع في المقامين. ثم إن المفسرين أجمعوا على أن المراد بقرآن الفجر هو صلاة الصبح تسمية للشيء ببعض أجزائه ، ومثله تسمية الصلاة ركوعاً وسجوداً وقنوتاً. قال جار الله : إنه حجة علي ابن علية والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن. قلت : أجزاء الصلاة أعم من أركانها ولهذا قسمت الفقهاء الصلاة إلى أركان وأبعاض وهيئات فلا يتم هذ الاعتراض. وفي الآية مسائل : الأولى : استدل بعض الشيعة بها على جواز الجميع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقاً. وأجيب بأن الآية مخصوصة بفعل الرسول أو بقوله : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ويستثنى منه عذر السفر والمطر لعدم الدليل المخصص في تلك الصورة فلزم إبقاؤها على الجواز الأصلي. الثاني : استدل بعض الشافعية بها على أن التغليس في صلاة الصبح أفضل من التنوير لوجوه منها : أنه أضاف القرآن إلى الفجر والتقدير : أقم قرآن الفجر. وظاهر الآية للوجوب فلا أقل من الندب حتى لا تكثر مخالفة الدليل. والفجر انفجار ظلمة الليل فيلزم أن تكون إقامة الفجر في أول الوقت أفضل. ومنها أنه خص الفجر بإضافة القراءة إليه فدل ذلك على أن طول القراءة في هذه الصلاة مطلوب ، ولن يتم هذا المطلوب إلا إذا شرع في أدائه في أول الوقت ، ومنها أنه وصف قرأن الفجر بكونه مشهوداً فقيل : أي يشهده الكثير من المصلين في العادة ، أو من حقه أن يكون مشهوداً بالجماعة الكثيرة. وقال أكثر المفسرين : معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح تنزل هؤلاء وتصعد هؤلاء في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار. وقيل : إنهم يجتمعون خلف الإمام تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الصبح قبل أن تعرج ملائكة الليل. فإذا فرغ(4/376)
" صفحة رقم 377 "
الأمام من صلاته عرجت ملائكة الليل ومكثت ملائكة النهار. ثم إن ملائكة الليل إذا صعدت قالت : يا رب إنا تركنا عبادك لك ، وتقول ملائكة النهار : ربنا لقينا عبادك وهم يصلون. فيقول الله لملائكته : اشهدوا فإني قد غفرت لهم. والغرض أن المكلف إذا شرع في صلاة الصبح في آخر الظلمة الذي هو أول الفجر كانت ملائكة الليل حاضرين بعد. ثم إذا امتدت هذه الصلاة بسب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة بالكل أو بالأكثر وحضرت ملائكة النهار ، وهذا المعنى لا يحصل إذا ابتدىء بها وقت التنوير. قال أهل التحقيق : إذا شرع في صلاة الصبح في أول وقتها شاهد في أثنائها انقلاب العالم من الظلمة - التي هي نظيره الموت - إلى الضياء الذي هو نظير الحياة ، فإنه يفيء عقله من هذه الحالة إلى عجيب صنع الخلاق المدبر للأنفس والآفاق ، فيزداد بصيرة وإيقاناً ومعرفة وإيماناً ، وتنفتح عليه أبواب المكاشفة والمشاهدة. وإذا كان هذا المعنى في الجماعة الكثيرة صارت نفوسهم كالمرايا المشرقة المتقابلة المتعاكسة أضواؤها الواقعة على كل منها ، فيزداد كل منهم نورية وبهاء. فيحتمل أن يكون قوله : ( مشهوداً ( إشارة إلى هذه الأحوال المشاهدة. ولا ريب أنه إذا شرع في الصلاة أول انتباهه من النوم قبل أن يرد على لوح عقله وفكره النقوش الفاسدة من الأمور الدنيوية الدنية ، كان أولى فإن الأنبياء ما بعثوا إلا لإزالة مثل هذه الأمراض عن النفوس. ثم حث على قيام الليل فقال : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك ( قال أبو عبيدة وابن الأعرابي : هذا من الأضداد لأنه يقال : هجد الرجل إذا نام وهجد أيضاً إذا صلى من الليل ، وبوسط الأزهري فقال : الهجود في الأصل هو النوم بالليل ، ولكن تاء التفعل فيه لأجل التجنب به ومنه ( تأثم ) ( وتحرج ) وإذا ألفى الإثم والحرج عن نفسه. فكأن به المتهجد يدفع الهجود عن نفسه. وبوجه آخر لما كان غرض المصلي بالليل أن يطيب رقاده وهجوده بعد الموت سمي بذلك الاعتبار متهجداً. وربما يقال : سمي تهجداً لأن الأصل فيه أن يرقد ثم يصلي ثم يرقد ثم يصلي ، فهو صلاة بعد رقاد كما كانت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولداود كما جاء في الحديث : ( أفضل القيام قيام داود كان ينام ثلثه ويقوم سدسه ثم ينام ثلثة ويقوم سدسه ) قال جار الله : معنى ) ومن الليل ( وعليك بعض الليل ) فهجد به ( وقال في التفسير الكبير : تقديره وأقم الصلاة في بعض الليل فتهجد به أي بالقرآن ومعنى نافلة زائدة كما مر في أول ( الأنفال ). ثم من ذهب إلى أن صلاة الليل(4/377)
" صفحة رقم 378 "
كانت واجبة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . زعم أن معناها كونها فريضة له زائدة على الصلوات الخمس ، أو المراد أن فرضيتها نسخت عنك فصارت تطوعاً زائدة على الفرائض. ويرد عليه أن الأمر ظاهره الوجوب فيكون بين قوله : ( فتهجد ( وبين قوله ) نافلة ( تعارض ، وكذا الاعتراض على قول من يقول إن صلاة الليل لم تكن واجبة عليه. ويمكن أن يجاب عنه بأن قوله : ( نافلة ( قرينة صارفة للوجوب إلى الندب. وعن مجاهد والسدي أن كل طاعة يأتي بها النبي سوى المكتوبة فإن تأثيرها لا يكون في كفارة الذنوب لأنه غفر له ذنبه ما تقدم منه وما تأخر ، وإنما تكون مؤثرة في زيادة الدرجات وكثر الثواب ولا كذلك حال الأمة فكأنه قيل للنبي : إن هذه الطاعات زوائد ونوافل في حقك لا في حق غيرك ، لأن غيرك يحتاج إليها في تكفير السيئات ومن تقييد التهجد بقوله : ( نافلة لك ( يعلم أن قوله : ( أقم الصلاة ( عام له ولكل أمته وإن كان ظاهره خطاباً معه. ثم وعده على إقامة الفرائض والنوافل بقوله : ( عسى أن يبعثك ربك ( ولا ريب أن ( عسى ) من الكريم أطماع واجب قال في الكشاف : انتصب ) مقاماً محموداً ( على الظرف أي عسى أن يبعثك يوم القيامة فيقيمك مقاماً محموداً ، أو ضمن يبعثك معنى يقيمك ، أو هو حال أي يبعثك ذا مقام محمود ، وقيل : إنه مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات. والأولى أن يخص ذلك بالشفاعة لأنه الحمد إنما يكون بإزاء إنعام ولا إنعام للنبي على أمته في الآخرة إلا إنعام الشفاعة ، أو لا إنعام أجل منها لأن السعي في تخليص الغير من العقاب أهم من السعي في إيصال الثواب إليه ، ويؤيده رواية أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي ). وأما ما روى عن حذيفة أن المقام المحمود هو أن يجمع الناس ي صعيد واحد ولا تتكلم نفسه ، فأول مدعو محمد فيقول : لبيك وسعديك والشر ليس إليك ، والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك رب البيت. فليس يقوي لأن هذا القول من محمد لا يوجب حمداً له من أمته إلا أن يكون من مقامات الشفاع فيرجع إلى الأول. وقيل : أراد مقاماً تحمد عاقبته. وروى الواحدي عن ابن مسعود أن ذلك حين يقعد محمد معه على العرش وزيف بلزوم التحيز له تعالى. قوله : ( مدخل صدق ( و ) مخرج صدق ( مصدران بمعنى الإدخال والإخراج ، والإضافة فيه الصدق لأجل المبالغة نحو ( حاتم الجود ) أي إدخالاً يستأهل أن يسمى إدخالاً ولا يرى فيه ما يكره. قال الحسن وقتادة : نزلت حين أمر بالهجرة يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة ، وقيل : إن اليهود لما قالوا له اذهب إلى الشام فإنه مسكن الأنبياء وعزم(4/378)
" صفحة رقم 379 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الذهاب إليه فكأنه قيل له المعبود واحد في كل البلاد ) وما النصر إلا من عند الله ( فداوم على الصلاة وارجع إلى مقرك ومسكنك. ) وقل رب أدخلني ( في المدينة ) مدخل صدق وأخرجني ( منها إلى مكة ) مخرج صدق ( أي افتحها لي فعلى هذين القولين يكون الكلام عوداً إلى الواقعة المذكورة في قوله ) وإن كادوا ليستفزونك ( والأولى أن يقال إنه عام في كل ما يدخل فيه ويلابسه ثم يتركه من أمر ومكان. وقيل : أراد إدخاله مكة ظاهراً عليها الفتح وإخراجه منها آمناً من المشركين. وقيل : إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً. وقيل : إدخاله فيما حمله من عظيم الأمر وهو النبوّة ، وإخراجه منه مؤدياً لما كلفه من غير تفريط. وقيل : أراد رب أدخلني الصلاة وأخرجني منها مع الصدق والإخلاص والقيام بلوازم الحضور ، أو أدخلني في مجاري دلائل التوحيد وأخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول. وقال صاحب الكشاف : أدخلني القر إدخالاً مرضياً وأخرجني منه عند البعث ملقى بالكرامة. يدل على هذا التفسير ذكره على أثر ذكر البعث ) واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً ( حجة ظاهرة تنصرني بها جميع من خالفني أو ملكاً وعزاً ناصراً للإسلام وذويه. ثم شرفه باستجابة دعائه بقوله : ( وقل جاء الحق ( أي الإسلام ) وزهق الباطل ( اضمحل الشرك من زهقت نفسه إذا خرجت ) إن الباطل كان زهوقاً ( غير ثابت في كل وقت وإن اتفقت له دولة وصولة كانت كنار العرف. عن ابن مسعود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً لقبائل العرب. فينكب كل - قوم بحيالهم - فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : جاء الحق وزهق الباطل. فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعاً وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة - وكان من قوارير صفر - فقال : يا علي ارم به. فحمله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى صعد فرمى به فكسره ، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون : ما رأينا رجلاً أسحر من محمد فلا جرم كذبهم الله وصدق نبيه بقوله : ( وننزل من القرآن ( ( من ) للبيان كقوله : ( من الأوثان ) [ الحج : 30 ] أو للتبعيض أي ننزل ما هو شفاء. وهو هذا القرآن أو بعض هذا الجنس. وقيل : زائدة ولما كانت إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة ذكر كون القرآن شفاء من الأمراض الروحانية كالعقائد الفاسدة والأخلاق الدميمة ومن الأمراض الجسمانية أيضاً لما في قراءته من التيمن والبركة وحصول الشفاء للمرض كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله ). ثم بين أنه رحمة للمؤمنين لما فيه من كيفية اقتناص العلوم الجليلة والأخلاق الفاضلة التي بها يصل الإنسان إلى جوار الملائكة(4/379)
" صفحة رقم 380 "
المقرّبين بل إلى جناب رب العالمين ، ولما كان قبول القابل شرطاً في ظهور الأثر من الفاعل فلا جرم ) لا يزيد ( القرآن ) الظالمين ( الذي وضعوا التكذيب مقام التصديق والشك موضع الإيقان والاطمئنان ) إلا خساراً ( لأن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شراً فلا يزال سماع القرآن يزيد المشركين غيظاً وحنقاً ويدعوهم ذلك إلى زيادة ارتكاب الأعمال القبيحة وهلم جراً إلى أن يدفع الله مكرهم ونكرهم. ثم ذكر قبح شيمة الإنسان الذي جبل عليه فقال : ( وإذا أنعمنا على الإنسان ( أي على هذا الجنس بالصحة والغنى. وعن ابن عباس أنه الوليد بن المغيرة. وفي التخصيص نظر إلا أن يكون سبب النزول ) أرض ونأى بجانبه ( النأي البعد ، والباء للتعدية أو للمصاحبة وهو تأكيد للإعراض ، لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه أي ناحيته. والنأي بالجانب أن يلوي عن عطفه ويوليه ظهره ، أو أراد الاستكبار لأن هذا الفعل من شأن المستكبرين. ومن قرأ ) ناء ( فإما من النوء بمعنى لانهوض مستثقلاً. وإما مقلوب كقوله : ( راء ) في رأى. ) وإذا مسه الشر ( من مرض أو فقر ) كان يؤساً ( شديد اليأس من روح الله. والحاصل أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي وظفر بالمقصود الدني نسي المنعم الحقيقي ، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف حتى كاد يتلف أو يدنف ، وكلتا الخصلتين مذمومة ولا مقتضى لهما إلا العجز والطيش وكل بقدر كما قال : ( قل كل يعمل على شاكلته ( أي كل واحد من الخلائق إنما يتيسر له أن يعمل على سيرته وطريقته التي تشاكل حاله التي جبل عليها من قولهم ( طريق ذو شواكل ) وهي الطرق التي تتشعب منه. ) فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً ( لأنه الذي خلق كل شيء ورباه وهو عالم بخاصية كل نفس وبمقتضى جوهرها المشرق ، أو المظلم سواء قلنا إن النفوس مختلفة بالماهيات ، أو هي متساوية الحقائق واختلاف أحوالها لاختلاف أمزجة أبدانها ، كما أن الشمس تعقد الملك وتلين الدهن والتبيض ثوب القصار وتسود وجهه. ولما انجر الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل هو عليه لزم البحث عن ماهية الروح فلذلك قال : ( ويسألونك عن الروح ( ذكر المفسرون في سبب نزوله أن اليهود قالوا لقريش : سلوا محمداً عن ثلاث : عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح. فإن أجاب عن الأولين وأبهم الثالث فهو نبي لأن ذكر الروح مبهم في التوراة ، وإن أجاب عن الكل أو سكت فليس بنبي. فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح إذا قال : ( قل الروح من أمر ربي ( أي مما استأثر الله بعلمه فندموا على سؤالهم. ومن الناس من طعن في هذه الرواية لوجوه منها : أن الروح ليس أعلى شأناً من الله تعالى ، وإذا كانت معرفة الله تعالى(4/380)
" صفحة رقم 381 "
ممكنة بل حاصلة فما المانع من معرفة الروح : ومنها أن هذه المسألة تعرفها الفلاسفة والمتكلمون فكيف يليق بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول إني لا أعرفها مع وفور علمه وما يعلم الروح. ومنها أن جعل الحكاية دليلاً على النبوة غير معقول. ونحن نتقصى عن المسألة فنقول : السؤال عن الروح إما أن يكون عن حقيقته أو عن حال من أحواله ككونة متحيزاً أو غير متحيز ، أو قديماً أو حادثاً أو باقياً بعد البدن أو فانياً ، وعلى تقدير البقاء ما سعادته وشقاوته. وبالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة. وقوله تعالى : ( وسألونك عن الروح ( ليس فيه ما يدل على تعيين شيء من هذه المسائل ، فالأولى أن يحمل السؤال على السؤال عن الحقيقة لأن معرفة حقيقة النبي أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله ، فيكون قوله : ( قل الروح من أمر ربي ( رمز إلى أن الروح جوهر بسيط مجرد حصل بمجرد الأمر وهو قوله : ( كن فيكون ) [ يس : 82 ] لأن الآية دلت على أن الروح من أمر الرب. وقال في آخر سورة يس ) إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) [ يس : 82 ] ينتج أن الروح إذا أراده فإنما يقول له كن فيكون ، ومنه يعلم أنه شيء مغاير للأجسام المتوقعة على المادة والمدة وللأعراض الموقوفة على الأجسام ، وأنه بسيط محض وإلا لتوقف على انضمام أجزائه. ولا يلزم من كون الروح كذلك كونه مشاركاً للباري تعالى في الحقيقة ، فإن الاشتراك في اللوازم لا يقتضي الاشتراك في الملزومات. وليس في الآية دلالة على حدوث الروح إلا بحسب الذات ، بل لمستدل أن يستدل بها على قدمه بالزمان إذا لو كان متوقفاً على الزمان لم يكن حاصلاً بمجرد الأمر والمفروض خلافه. ولما كان أمر الروح مشتبهاً على الناس كلهم أو جلهم ختم الآية بقوله : ( وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلاً ( وذلك أن الإنسان وإن كمل علمه وكثرت معرفته بحقائق الأشياء ودقائقها فإن ما علم يكون أقل ما لم يعلم ، فإذا نسب معلومه غلى معلومات الله المشار إليها بقوله : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ) [ لقمان : 27 ] ( قل لو كان البحر مداد الكلمات ربي ) [ الكهف : 109 ] كان كلا شيء فإنه لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلاً. وقال بعض المفسرين : هو خطاب لليهود خاصة لأنهم قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة وقد تلوت : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً ) [ البقرة : 269 ] فقيل لهم : إن علم التوراة قليل في جنب علم الله ، وذكر الإمام فخر الدين الرازي أن قوله : ( قل الروح من أمر ربي ( يدل على أن الروح حادث(4/381)
" صفحة رقم 382 "
لأن الأمر قد جاء بمعنى الفعل. قال تعالى : ( وما أمر فرعون برشيد ) [ هود : 97 ] أي فعله وقال : ( ولما جاء أمرنا ) [ هود : 94 ] أي فعلنا. وإذا حصل الروح بفعل الله وتكوينه كان من المحدثات. ثم ذكر حجة أخرى على حدوث الروح مستنبطة من قوله سبحانه : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ( ووجه تقريرها أن الإنسان بل روحه في مبدأ الفطرة خال عن العلوم والمعارف ، ثم لا يزال يحصل له المعارف فهو دائماً في التبدل والتغير من النقصان إلى الكمال وكل متغير محدث. ومنع كلية هذه القضية عند الخصم مشهور على أن حمل وقت قلة العلم على أول الفطرة تخصيص من غير دليل ، مع أن ظاهر الآية يدل على أن الإنسان وإن أوتي حظاً من العلم وافراً ، فإنه قليل بالإضافة إلى علم عالم الذات. وقيل : الروح المذكور في الآية هو القرآن الذي تسبب لحياة الروح كأن القوم استعظموا أمره فسألوا إنه من جنس الشعر أو من جنس الكهانة فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر وإنما هو كلام ظهر بأمر الله ووحيه وتنزيله. وقيل : هو ملك في غاية العظم والشرف وهو المراد من قوله تعالى : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا ) [ النبأ : 38 ] ونقل عن علي عليه السلام أن له سبعين ألف وجه ، ولكل وجه سبعون ألف لسان ، لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق الله من كل تسبيحة ملكاً لسان مع الملائكة يوم القيامةولم يخلق الله خلقاً أعظم من الروح غير العرش ، ولو شاء الله أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع بلقمة واحدة لفعل. وأمثال هذه الروايات مسرحة إلى بقعة الإمكان ولا وجه للاعتراض عقلاً عليه. وقال الحسن وقتادة : هذا الروح جبرائيل كأنهم سألوا الرسول كيف جبرائيل في نفسه وكيف قيامه بتبليغ الوحي ؟ فأمر بأن يقول الروح من أمر ربي أن نزوله بأمر الرب كقوله : ( ما نتنزل إلا بأمر ربك ) [ مريم : 64 ] وقال مجاهد : الروح خلق ليسوا بالملائكة على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس يأكلون كما يأكل الناس ، وليسوا بالناس. وزيفت هذه الأقوال بأن صرف السؤال عن الروح الإنساني الذي الذي تتوفر دواعي العقلاء على معرفته إلى أشياء مجهولة الوجود مستنكر. واعلم أن للعقلاء في حقيقة الإنسان اختلافات كثيرة ، وإذا كان حال العلم بأقرب الأشياء إلى الإنسان وهو نفسه هكذا ، فمنا ظنك بما هو الأبعد ولنذكر بعض تلك المذاهب فلعل الحق يلوح في تضاعيف ذلك فنقول : العلم الضروري حاصل بوجود شيء يشير إله كل واحد بقوله ( أنا ) فذلك المشار إليه إما أن يكونه جوهراً مفارقاً ، أو جسماً هو(4/382)
" صفحة رقم 383 "
هذه البنية ، أو جسماً داخلاً فيها أو خارجاً عنها أو عرضاً. أما المتكلمون فالجمهور منهم ذهبوا إلى أن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس ، وزيف بأن البدن دائماً في التغير والتبدل. والمشار إليه بأنا واحد من أول العمر إلى آخره ، وبأن الإنسان غير غافل عن نفسه حين ما يكون ذاهلاً عن أجزاء بدنه ، بأن النصوص الواردة في القرآن والخبر كقوله عز من قائل : ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتاً بل أحياء ) [ البقرة : 154 ] ، ) يا أيتهاالنفس المطمئنة ارجعي ) [ الفجر : 28 ] ( النار يعرضون عليها غدواً أو عشياً ( ) الزمر : 46 ] وكقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار ) ( القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ) وقوله في خطبة طويلة : ( حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش ويقول يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله وغير حله فالهناء لغيري والتبعة عليّ فاحذر وامثل ما حل بي ) توجب مغايرة النفس للبدن ، وبأن جميع فرق الدنيا من أرباب الملل والنحل يتصدقون عن موتاهم يزورونهم ويدعون لهم بالخير ، وبأن الميت قد يرى في المنام فيخبر عن أمور غائبه وتكون كما أخبر ، وبأن الإنسان قد يقطع عضو من أعضائه ويعلم يقيناً أنه هو الذي كان قبل ذلك ، وبثبوت المسخ في حق طائفة من أهل الكتاب وليس المسخ إلا تغيير البنية مع باء الحقيقة ، وبأن جبرائيل قد رؤي في صورة دحية ، وإبليس رؤي في صورة الشيخ النجدي ، فعلم أن لا عبرة بالبنية ، وبأن الزاني يزني بفرجه فيضرب على ظهره ، فعلم أن المتلذذ والمتألم شيء آخر سوى العضوين ، وبأنا نعلم ضرورة أن العالم الفاهم للخطاب إنما هو في ناحية القلب ليس جملة البدن ولا شيئاً من الأعضاء. أما إن قيل : الإنسان جسم هو في داخل البدن. فاعلم أن أحداً من العقلاء لم يقل بأن الإنسان عبارة عن الأعضاء الكثيفة الصلبة التي غلبت عليها الأرضية كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد ، ولكن منهم من قال : إنه الجسم الذي غلب عليه المائية من الأخلاط الأربعة ، أعني الدم بدليل أنه إذا خرج لزم الموت. ومنهم من قال : إنه الذي غلب عليه الهوائية والنارية وهو الروح الذي في القلب ، أو جزء لا يتجزأ في الدماغ ، ومنهم من يقول : أختلطت بهذه الأرواح القلبية والدماغية أجزاء نارية مسماة بالحرارة الغريزية وهي الإنسان. ومنهم من قال : إذا تكون بدن الإنسان وتم استعداده نفذت فيه أجرام سماوية نورانية لطيفة الجوهر على طبيعة ضوء الشمس غير قابلة للتبديل والتحويل ولا للتفرق والتمزق ، نفوذاً يشبه نفوذ النار في الفحم والدهن في(4/383)
" صفحة رقم 384 "
السمسم وماء الورد في الورد. وهذا النفوذ هو المراد بقوله : ( ونفخت في من روحي ) [ ص : 72 ] ثم إذا تولد في البدن من أخلاط غليظة منعت من سريان تلك الأجسام فيها ، فانفصلت لذلك عن البدن فحينئذ يعرض الموت للجوهر. وقال الإمام فخر الدين الرازي : هذا مما ذهب إليه ثابت بن قرة وغيره وهو مذهب قوي شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت. قلت : أما نفوذ الجوهر النوري في البدن كنفوذ الدهن في السمسم فمسلم ، وأما أنه أجرام وأجسام ففيه نظر ، واعلم أنه لم يذهب أحد إلى أن الإنسان جسم خارج عن البدن ، ولا إلى أنه عرض حال في البدن إلا ما نقل عن الأطباء ، وعن أبي الحسين البصري من المعتزلة ، أن الإنسانية عبارة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص وعلى نسبة معلومة تخص هذا الصنف. ومن شيوخ المعتزلة من قال : الإنسان عبارة عن أجزاء مخصوصة بشرط كونها موصوفة بأعراض مخصوصة هي الحياة والعلم والقدرة. ومنهم من قال : إنه يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده وهيئة أعضائه. والصحيح من المذاهب عند أكثر علماء الإسلام - كالشيخ أبي القاسم الراغب الأصفهاني والشيخ أبي حامد الغزالي ، من قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمي ، ومن الشيعة الشيخ المفيد رضي الله عنه ، ومن الكرامية جماعة ، ومن الفلاسفة الإلهيين كلهم - أن الروح الإنساني جوهر مجرد ليس داخل العالم الجسماني ولا خارجه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه ، ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف كما أن إله العالم لا تعلق بالعالم إلا على سبيل التصرف والتدبير ، ومهما انقطعت علاقته عن البدن بقي البدن معطلاً ميتاً ، واستدلوا على هذا الملطلوب بحجج منها ما اختاره الإمام فخر الدين الرازي وهي لو كان الإنسان جوهراً متحيزاً لكان كونه متحيزاً عن ذاته المخصوصة إذ لو كان صفة قائمة بها لزم كون الشيء الواحد متحيزاً مرتين ولزم اجتماع المثلين. وأيضاً لم يكن جعل أحدهما ذاتاً والآخر صفة أولى من العكس. وأيضاً التحيز الثاني إن كان عين الذات فهو المقصود ، وإن كان صفة لزم التسلسل ، وإذا كان التحيز عين ذاته لزم أنه متى عرف ذاته عرف تحيزه لكنا قد نعرف ذاتنا مع الجهل بالتحيز والامتداد في الجهات الثلاث وذلك ظاهر عند الاختبار والامتحان ، وإذا كان اللازم باطلاً فالملزوم منتفٍ وعورض بأنه لو كان الإنسان جَوهراً مجرداً لكان كل ن عرف ذاته عرف تجرده وليس كذلك. وأجيب بالفرق بين التحيز - وهو صفة ثبوتية - وبين التجرد وهو صفة سلبية ، ومنها أن الشيء الذي يشير إليه كل(4/384)
" صفحة رقم 385 "
واحداً بقوله : ( أنا واحد ) بالبديهة ، ولأن الغضب مثلاً حالة نفسانية تحدث عند محاولة دفع المنافي مشروطاً بالشعور بكون الشيء منافياً. فالذي يغضب لا بد أن يكون هو بعينه مدركاً ، ولأن اشتغال الإنسان بالغضب وانصاببه إليه يمنعه من الاشتغال بالشهوة والانصباب إليها. فعلمنا أنهما صفتان مختلفتان لجوهر واحد إذ لو كان لكل منهما مبدأ مستقل لم يكن اشتغال أحدهما بفعله مانعاً للآخر ، وأيضاً شيئاً فقد يكون الإدراك سبباً لحصول الشهوة ، وقد يكون سبباً للغضب ، فعلمنا أن صاحب الإدراك بعينه هو صاحب الشهوة والغضب. وأيضاً النفس لا يمكنها أن تتحرك بالإرادة إلا عند حصول الداعي ولا المتحرك بالإرادة هو بعينه المدرك للخير والشر واللذيذ والمؤذي والنافع والضار ، وهو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخّيل والمتفكر والمشتهي والغاضب بوساطة آلات مختلفة وقوى متغايرة. وإذا ثبت ذلك فلو كانت النفس عبارة عن جملة البدن كان للكل أثر واحد ، ولو كانت جزءاً من أجزاء البدن كانت قوة سارية في جميع أجزاء البدن ، والوجود بخلاف الكل فحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لكل البدن ولكل جزء من أجزائه. ومنها أن الاستقراء يدل على أحوال النفس بالضد من أحوال الجسد لأن الجسم إذا قبل شكل التثليث مثلاً امتنع أن يقبل حينئذ شكل التربيع ولا كذلك حال النفس ، فإن إدراك كل صورة يعينها على إدراك ما عداها ولذلك يزداد الإنسان فهماً وذكاء بازدياد العلوم. وأيضاً كثرة الأفكار توجب قوة للنفس وتستدعي استيلاء النفس على الدماغ وقد تصير أبدان أرباب الرياضة في غاية النحافة والهزال وتقوى نفوسهم بحيث لا يلتفتون إلى السلاطين وأصحاب الشوكة والقوة ، ومما يختص بهذه الآية التي نحن في تفسيرها أن الروح لو كان جسماً منتقلاً من حالة إلى حالة لكان مساوياً للبدن في كونه متولداً من أجسام متغيرة من صفة إلى صفة ، فحيث سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الروح كان الأنسب أن يقول : إنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا كما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم صار علقة ثم مضغة إلى آخره. والأحاديث الواردة في أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد تؤكد ذلك الرأي الذي ادعينا من أن النفس شيء مغاير للبدن ولأجزائه والله أعلم بحقائق الأمور. قال أهل النظم : لما بين أنه ما أتاهم من العلم إلا القليل أراد يبين أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل لقدر عليه فقال : ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ( قلت : في نسبة علم القرآن إلى لقلة خروج من الأدب فالأولى في وجه النظم أن يقال : إنه لما(4/385)
" صفحة رقم 386 "
كشف لهم الغطاء عن مسألة الروح ، وبين أن ذلك من العلوم الإلهية التي لا نهاية لها لا من العلوم الإنسانية القليلة ، وكان فيه بيان كمال علمه تعالى ونقصان علم الإنسان ، أراد أن يبين غاية قدرته ونهاية ضعف الإنسان أيضاً فبين أنه قادر على ذهاب القرآن ونحوه عن الصدور والمصاحف ، وسيكون ذلك في آخر الزمان كما جاء في الروايات ثم لا يجد النبي - الذي هو أكمل أنواع الإنسان - من يتوكل عليه باسترداده فضلا عن غير ) إلاَّ رحمة من ربك ( استثناء متصل أي إلا أن يرحمك بربك فيرده عليك كأن رحمته توكل عليه بالرد ، أو منقطع معناه ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به ) إن فضله ( بإيحاء القرآن إليك ثم إبقائه عليك أو بهذا وبسائر الخصائص والمزايا ) كان عليك كبيراً ( وفيه أن نعمه القرآن وبقاءه محفوظاً في الصدور مسطوراً في الدفاتر من أجلّ النعم وأشرفها ، فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن شكرها والقيام بمواجبها جعلنا الله ممن يراعي حق القرآن ويعمل بمقتضاه. واحتج الكعبي بالآية على أن القرآن مخلوق لن ما يمكن إزالته والذهاب به يستحيل أن يكون قديماً ، وأجيب بأن إزالة العلم عن القلوب والذهاب بالنقوش الدالة عليه في المصاحف لا يوجب حدوث الكلام النفسي الذي هو محل النزاع. ثم دل على أن الذي أوحى إليه ليس من جنس كلام المخلوقين فقال : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن ( الآية. وقد مرّ وجه إعجاز القرآن في أوائل سورة البقرة. فإن قيل : هب أنه ظهر عجز الإنسان عن معارضته فكيف يعرف عجز الجن عن معارضته ، ولم لا يجوز أن يقال : إن الجن أعانوه على هذا التأليف سعياً في إضلال الخلق ؟ وإخبار محمد بأنه ليس من كلام الجن يوجب الدور وليس لأحد أن يقول : إن الجن ليسوا بفصحاء ، فكيف يعقل أن يكون القرآن كلامهم لأنا نقول : التحدي مع الجن إنما يحسن لو كانوا فصحاء ؟ فالجواب أن عجز البشر عن معارضته يكفي في إثبات كونه معجزاً. ثم إن الصادق لذي ثبت صدقه بظهور المعجز على وفق دعواه أخبر أن الجن أيضاً عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن فسقط السؤال بالكلية. على أنه سبحانه قد أجاب عنه في آخر سورة الشعراء بقوله : ( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ) [ الشعراء : 221 ] وسوف يجيء تفسيره إن شاء الله تعالى. قالت المعتزلة : التحدي بالقديم محال. وأجيب بمثل ما مر أن محل النزاع هو الكلام النفس لا الألفاظ التي يقع التحدي بها وبفصاحتها. ثم بين أنهم مع ظهور عجزهم بقوا مصرين على كفرهم فقال : ( ولقد صرفنا ( رددنا وكررنا ) للناس في هذا القرآن من كل مثل ( ( من كل ) معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه وذلك كدلائل التوحيد والنبوة والمعاد وكالقصص اللائقة وغيرها من المواعظ والنصائح. ) فأبى أكثر الناس ( فيه معنى النفي كأنه قيل : فلم يرضوا ) إلا كفوراً ( وجحوداً. قال أهل البرهان : إنما لم يذكر الناس في أوائل السورة(4/386)
" صفحة رقم 387 "
حين قال : ( ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا ) [ الآية : 41 ] لتقدم ذكرهم في السورة. وذكرهم في ( الكهف ) إذا لم يجر ذكرهم وذكر الناس ههنا وإن جرى ذكرهم دفعاً للالتباس ، لأن ذكر الجن أيضاً قد جرى وقدم للناس على قوله : ( في هذا القرآن ( كما قدمه في قوله : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن ( وأما في ( الكهف ) فعكس الترتيب لأن اليهود سألته عن قصة أصحاب الكهف وغيرها. وقد أوحاها الله تعالى إليه في القرآن فكانت العناية بالقرآن أكثر فكان تقديمه أجدر. التأويل : ( وإن كادوا ليفتنونك ( أي من عمى قلوبهم ) ولولا أن ثبتناك ( بالقول الثابت وهو قول ( لا إله إلا الله ) إلى أن بلغت حقيقة ( لا إله إلا الله ) ) شيئاً قليلاً ( وإنما صوفه بالقلة لأن بشريته مغلوبة وروحانيته غالبة. ) ضعف الحياة وضعف الممات ( أي نحيي نفسك وأذقناك عذاب حياتها واستيلائها على الروح ونميت قلبك. وأذقناك عذاب مماته وضعف روحك وبعده عن الحق. ) سنة من قد أرسلنا ( أي جرت عادة الله تعالى بأن يجعل لكل نبي عدواً يؤذيه ويمكر به. ثم بين طريق خلاص الأنبياء والأولياء عن ورطة الابتلاء فقال : ( أقم الصلاة ( أي أدّها بالقلب الحاضر نهاراً وليلاً. ) إن قرآن الفجر كان مشهوداً ( بشواهد الحق بل الحق مشهود له. ثم ) أدخلني مدخل صدق ( يعني السير في الله بالله ) وأخرجني مخرج صدق ( من حولي وأنانيتي ) واجعل لي من لدنك ( لا من لدن غيرك. وفيه أن كل ذي مقام فإنه لا يصل إلى مقام إلا بسعي يلائم الوصول إلى ذلك المقام كقوله : ( وسعى لها سعيها ) [ الإسراء : 19 ]. روي أن رجلاً جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعرض حاجة فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما تريد ) فقال : مرافقتك في الجنة. فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أو غير ذلك ) فقال الرجل : بلى مرافقتك في الجنة. فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ) ) جاء الحق ( من الواردات والشواهد وتجلي صفات الجمال والجلال ) وزهق الباطل ( وهو كل ما خلا الله من الموجودات ومن الخواطر كقوله : ألا كل شيء ما خلا الله باطل ) وننزل من القرآن ما هو شفاء ( لأن كلام الحبيب طبيب القلوب إن الأحاديث من سلمى تسليني ) قل الروح من أمر ربي ( قال العارفون : لله تعالى عالمان : عالم الأمر الذي خلق لا من شيء ، وعالم الخلق الذي خلق من شيء ويعبر عنهما بالآخرة والدنيا والملكوت والملك والغيب والشهادة. والمعنى والصورة والباطن والظاهر والأرواح والأجسام ، وما روي(4/387)
" صفحة رقم 388 "
أنه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أول ما خلق الله جوهرة ) - وفي رواية - ( درّة فنظر إليها فذابت ) ( أول ما خلق الله اللوح ) ( أول ما خلق الله روحي ) وفي رواية ( نوري ) ( وأول ما خلق الله العقل ) ( وأول ما خلق الله القلم ) وما قيل عن بعض السلف إن أول ما خلق الله على الإطلاق ملك كروبي. فالأسماء مختلفة والمسمى واحد وهو روح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . فباعتبار أنه كان درة صدق الموجودات سمي درة وجوهرة ، وباعتبار نورانيته سمي نوراً ، وباعتبار وفور عقله سمي عقلاً ، إذ قال له أقبل إلى الدنيا رحمة للعالمين فأقبل. ثم قال له : أدبر أي ارجع إلى ربك فأدبر عن الدنيا ورجع إلى المعراج ، ثم قال له : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحب إليك منك ، بك أعرف ، وبك آخذ ، يعني طاعة من أخذ منك الدين والشريعة ، وبك أعطي أي بشفاعتك أعطي الدرجات العالية ، وبك أعاقب الكافرين وبك أثبت المؤمنين. وباعتبار جريان الأمور على وفق متابعته والاقتداء به سمي قلماً ، وباعتبار غلبات صفات الملائكة عليه سمي ملكاً كروبياً ، ولأ كل الأرواح خلقت من روحه كان أم الأرواح وروحها فلهذا قيل له ( أمي ). وقد ورد في الحديث : ( آدم ومن تدونه تحت لواتي يوم القيامة ) ولما كان الروح خليفة الله تعالى اتصف بالأزلية دون الأبدية ، ولما كان الجسد خليفة الروح فبالروح قوامه وقيامه لم يكن الجسد أزلياً ولا أبدياً إلا بتبعية الروح. ثم أخبر عن عزة القرآن وغيرة الرحمن بقوله : ( ولئن شئنا لنذهبن ( الآية. وفيه أنه لا يقدر على الإتيان والذهاب به إلا الله تعالى لكنه أكد هذا المعنى بقوله : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن ( والمراد بالجن كل ما هو مستور عن العيون فيتناول الملائكة أيضاً. وفيه أنه لا مثل لصفاته حتى الكلام كما أنه لا مثل لذاته والله تعالى أعلم بالصواب. ( الإسراء : ( 90 - 111 ) وقالوا لن نؤمن . . . .
" وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين(4/388)
" صفحة رقم 389 "
لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا "
( القراآت )
تفجر ( من الفجر : يعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف سوى المفضل وابن الغالب. الآخرون من التفجير تكثيراً للفعل وإن كان الفاعل والمفعول مفرداً ) حتى تنزل ( بالتخفيف : أبو عمرو ويعقوب. الآخرون بالتشديد ) كسفاً ( بفتح السين : أبو جعفر ونافع وعاصم وابن ذكوان. الباقون بالإسكان ) قال سبحان ( بلفظ الماضي : ابن كثير وابن عامر الباقون ) قل ( على الأمر هو المهتدي ( بإثبات الياء في الحالين : سهل ونافع وأبو عمرو وفي الوصل. الباقون بحذف الياء ) ربي إذا ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) خبت زدناهم ( بإدغام التاء في الزاي : أبو عمرو وحمزة وعل وخلف وهشام وسهل. ) لقد علمت ( بضم التاء ، على التكلم : عليّ. الآخرون بالفتح على الخطاب ) قل ادعو ( بكسر اللام للساكنين : عاصم وحمزة وسهل ويعقوب وعباس : الآخرون بضمها للإتباع ) أو ادعوا ( بكسر الواو : عاصم وحمزة وسهل. الباقون بالضم ) أيامّاً ( حمزة ورويس(4/389)
" صفحة رقم 390 "
يقفان على ) أيا ( ثم يبتدئان ) ما تدعوا ( ويسمى هذا الوقف وقف البيان. الباقون على كلمة واحدة. الوقوف : ( ينبوعاً ( ه لا ) تفجيراً ( ه لا ) قبيلاً ( ه لا ) في السماء ( ط لابتداء النفي بعد طول القصة. وقيل : الأصح الوصل لأن قوله : ( ولن نؤمن لرقيك ( من كلامهم ) نقرؤه ( ط ) رسولاً ( ه ) رسولاً ( ه ) رسولاً ( ه ) وبينكم ( ط ) بصيراً ( ه ) المهتد ( ج لعطف جملتي الشرط التضاد ) من دونه ( لا لأن الواو لا يحتمل الاستئناف ) وصماً ( ه ) جهنم ( ط ) سعيراً ( ه ) جديداً ( ه ) لا ريب فيه ( ط لتناهي الاستفهام إلى الإخبار ) كفوراً ( ه ) الإنفاق ( ط ) قتوراً ( ه ) مسحوراً ( ه ) بصائر ( ط للابتداء بأن مع اتحاد القائل ) مثبوراً ( ه ) جميعاً ( ه لا للعطف ) لفيفياً ( ، ط لانقطاع النظام والمعنى. ) نزل ( ط لابتداء النفي ) ونذيراً ( ، احترازاً من إيهام العطف ) تنزيلاً ( ه ) أولا تؤمنوا ( ط ) سجداً ( ، لا ) لمفعولا ( ه ) خشوعاً ( ه ) الرحمن ( ط لتصدير الشرط ) الحسنى ( ج لانقطاع نظم الشرط إلى النهي مع اتحاد المراد. ) سبيلاً ( ه ) تكبيراً ( ه. التفسير : ليس من شرط كون النبي صادقاً تواتر المعجزات وتتالي الآيات ، لأن فتح هذا الباب يوجب نقيض المقصود وهو أن لا تثبت نبوته أبداً ، ولكن المعجز الواحد يكفي في صدق النبي ، واقتراح الزيادة من جملة العناد فلا جرم لما بين الله سبحانه إعجاز القرآن حكى مقترحات المعاندين بياناً لتصميمهم على الكفر. قال ابن عباس : إن رؤساء مكة أرسلوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - وهم جلوس عند الكعبة - فأتاهم فقالوا : يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسير جبالها لتتسع وفجر لنا ينبوعاً نزرع فيها. فقال : لا أقدر عليه : فقال قائل له : أو يكون لك بيت من زخرف أي من ذهب فيغنيك عنا. فقال : لا أقدر عليه. فقيل له : فإذا كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً. فقال عبد الله ابن أمية المخزومي - وأمه عمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - لا والذي يحلف به لا أؤمن بك حتى تتخذ سلماً فتصعد عليه ونحن ننظر فتأتي بأربعة من الملائكة فيشهودن لك بالرسالة ، ثم بعد ذلك لا أدري أؤمن بك أم لا. فأنزل الله هذه الآيات. ولنشرع في تفسير اللغات. فقوله : ( ينبوعاً ( أي عيناً غزيرة من شأنها معناها هب أنك لا تفجر الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك. وقوله : ( كما زعمت ( إشارة إلى قوله سبحانه : ( إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء ) [ سبأ :(4/390)
" صفحة رقم 391 "
9 ] أو إشارة إلى ما مرّ في السورة من قوله : ( أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً ) [ الإسراء : 68 ] أي أجعل السماء قطعاً متفرقة كالحاصب واسقطها علينا. وقال عكرمة : كما زعمت يا محمد أنك نبي فاسقط السماء علينا. وقيل : كما زعمت أن ربك إن شاء فعل. قال في الكشاف : الكسف بسكون السين وفتحها جمع ( كسفة ) بالسكون كسدرة وسدر وسدر. وقال أبو علي : الكسف بالسكون الشي المقطوع كالطحن للمطحون. واشتقاقه - على ما قال أبو زيد - من كسفت الثوب كسفا إذا قطعته. وقال الزجاج : من كسفت الشيء إذا غطيته كأنه قيل : أو تسقطها طبقاً علينا ، وهو نصب على الحال في القراءتين. ومعنى ) قبيلاً ( كفيلاً بما تدعي من صحة النبوة والمراد أو تأتي بالله قبيلاً وبالملائكة قبيلاً فاختصر ، أو المراد المقابل كالعشير بمعنى المعاشر. وفيه دليل على غاية جهلهم حيث لم يعلموا أنه تعالى لا يجوز عليه المعاينة نظير قولهم : ( لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ) [ الفرقان : 21 ] وقال ابن عباس : أراد فوجاً بعد فوج. وقال الليث : كل جند من الجن والإنس قبيل وقد مر في تفسير قوله : ( إنه يراكم هو وقبيله ) [ الأعراف : 27 ] قوله : ( بيت من زخرف ( قال مجاهد : كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأينا في قراءة عبد الله ( أو يكون لك بيت من ذهب ). وقال الزجاج : هو الزينة ولا شيء في تحسين البيت وتزيينه كالذهب. ) أو ترقى في السماء ( أي في معارجها فحذف المضاف. يقال : رقي في السلم وفي الدرجة. والمصدر ( رقى ) وأصله ( فعول ) كقعود ) و ( معنى ) لن نؤمن لرقيك ( لن نؤمن لك لأجل رقيك ) حتى تنزل علينا كتاباً ( من السماء فيه تصديقك. قال الرسول : متعجباً من اقتراحاتهم أو تنزيهاً لله من تحكماتهم أو من قولهم : ( أو تأتي بالله ( ) سبحان ربي هل كنت ( أي لست ) إلا بشراً رسولاً ( فإن طلبتم هذه الأشياء أن آتي بها من تلقاء نفسير فالبشر لا يقدر على أمثلا ذلك فكيف أقدر أنا عليها ؟ وإن أردتم أن أطلب من الله إظهارها على يدي فالرسول إذا أتى بمعجز واحد وجب الاكتفاء به ، ولا ضرورة إلى طلب الزيادة وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على الله بما ليس بضروري في الدعوة. ثم حكى عنهم شبهة أخرى فقال : ( وما منع الناس أن يؤمنوا ( أي الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد ) إذ جاءهم الهدي ( وهو الوحي المعجز الهادي إلى طريق النجاة ) إلا أن قالوا ( منكرين ) أبعث الله بشراً رسولاً ( ثم أجاب عن شبهتهم بقوله : ( قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون ( على الأقدام كما يمشي الإنس ) مطمئنين ( ساكنين فيها ) لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً ( لأن الرسول لا بد أن يكون من جنس المرسل إليهم. فكأنه اعتبر(4/391)
" صفحة رقم 392 "
لتنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين : أحدهما كون سكان الأرض ملائكة ، والثاني كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء ، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا أن سمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه فلا يكون في بعثة الملك إليهم فائدة. وجوز في الكشاف أن يكون قوله : ( بشراً ( و ) ملكاً ( منصوبين على الحال من ) رسولاً ( بل زعم أن المعنى له أجوب ، ولعل ذلك لأن الإنكار توجه إلى كون الرسول متصفاً بحالة البشرية لا الملكية ، وإذا كان أحد الصنفين المقابلين حالاً لزم أن يكون الآخر كذلك. ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد قائلاً : ( قل كفى بالله ( الآية. وذلك أن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبي شهادة من الله تعالى له على الصدق. فإذا لم تسمع هذه الشهادة وهو عليم ببواطن الأمور وخفيات الضمائر فكيف بظواهرها ؟ علم أن هذا مجرد الحسد والعناد من العباد فيجزيهم على حسب ذلك. ثم بين أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته وتقديره فقال : ( ومن يهد الله ( الآية. وقد مر خلاف المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة في مثله في آخر ( الأعراف ) وغيره. وقوه : ( فهو المهتد ( حمل على اللفظ وقوله : ( فلن تجد ( حمل على المعنى. والخطاب في ) لن تجد ( إما للنبي أو لكل من يستحق الخطاب. والأولياء الأنصار ، والحشر على الوجوه إما بمعنى السحب عليها كقوله : ( يوم يسحبون في النار على وجوههم ) [ القمر : 48 ] وإما بمعنى المشي عليها كما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن ذلك فقال : ( إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم ) وقيل لابن عباس : قد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يرون وينطقون ويسمعون حيث قال : ( رأى المجرمون النار ( ) دعوا هنالك ثبوراً ( ) سمعوا لها ( الجمع بين ذاك تغيظاً وزفيراً فكيف وبين قوله : ( عمياً وبكماً وصماً ( ؟ فأجاب بأنهم لا يرون ما يسرهم ، ولا ينطقون بحجة تقبل منهم ، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم. وفي رواية عطاء أنهم عمي عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه ، بكم عن مخاطبة الله ، ومخاطبة الملائكة المقربين ، صم عن ثناء الله على أوليائه ، وقال مقاتل : هذه الأحوال بعد قوله تعالى لهم : ( خسؤوا فيها ولا تكلموا ) [ المؤمنون : 108 ] أو بعد أن يحاسبوا فيذهب بهم إلى النار. وإنما جعلوا مؤوفي الحواس جزاء على ما كانوا عليه في الدنيا من التعامي والتصامم عن الحق ومن عدم النطق به ) كلما خبت ( أي سكن لهبها .(4/392)
" صفحة رقم 393 "
خبت النار تخبوا خبواً وأخباها غيرها أي أخمدها ) زدناهم سعيراً ( قال ابن قتيبة : أي تسعراً وهو التهلب. ولا ريب أن خبو النار تخفيف لأهليها فكيف يجمع بينه وبين قوله : ( ا يخفف عنهم العذاب ) [ البقرة : 162 ] وأجيب بأنه يحصل لهم في الحال الأولى خوف حصول الحالة الثانية فيستمر العذاب ، أو يقال : لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في الوقتين غير مشعور به ، ويحتمل أن يقال : المراد بعدم التخفيف أنه لا يتخلل زمان محسوس أو معتد به بين الخبو والتعسر. وقال في الكشاف : لأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجرامهم تأكلها وتفنيها. ثم يعيدها. وفيه زيادة في تحسرهم وفي الانتقام منهم. ومما يدل على هذا التفسير قوله : ( ذلك جزاؤهم ( الآية. ثم أبدى للجاحدين حجة يستبصر المذعن للحق إذا تأمل فقال : ( أو لم يروا ( الآية. وذلك أن من قدر على خلق السموات والأرض كان على إعادة من هو أدون منها أقدر ، وعلى هذا فالمراد من خلق مثلهم إعادتهم بعد الإفناء كما يقول المتكلمون من أن الإعادة مثل الابتداء. ومن قال : أراد أنه قادر على إفنائهم وإيجاد غيرهم بصورتهم ليوحدوه ويتركوا الاتعراض عليه كقوله : ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ) [ فاطر : 16 ] أي يبعثهم. وحين بيّن أن البعث أمر ممكن في نفسه ذكر أن لوقوعه وقتاً معلوماً ما عنده فقال : ( وجعل لهم ( أي لبعثهم ) أجلاً لا ريب فيه ( قال جار الله : قوله : ( وجعل ( معطوف على قوله : ( أو لم يروا ( والمعنى قد علموا بدليل العقل أنه قادر على خلق أمثالهم وجعل لهم. وأقول : يحتمل أن يكون الواو للاستئناف ووجه النظم كما مر لما طلبوا إجراء الأنهار والعيون في أراضيهم لتتسع معايشهم بين الله تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله وهي رزقه وسائر نعمه على خلقه التي لا نهاية لها لبقوا على بخلهم وشحهم فضلاً أن يملكوا خزائن هن بصدد الفناء والنفاد. قال النحويون : كلمة ( لو ) حقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء ، لأنها حين تكون على معناها الأصلي تفيد انتفاء الشي لانتفاء غيره. والاسم يدل على الذوات والفعل هو الذي يدل على الآثار والأحوال لا الذوات. وأيضاً إنها ههنا بمعنى ( إن ) الشرطية وهي مختصة بالفعل فلا بد من تقدير فعل بعدها ، فأصل الكلام : لو تملكون تملكون مرتين : فأضمر ( تملك ) إضماراً على شريطة التفسير فصار الضمير المتصل منفصلاً لسقوط ما كان يتصل هو به ف ) أنتم ( فاعل الفعل المضمر ) تملكون ( تفسيره. وقال علماء البيان : فائدة هذا التصرف الدال على الاختصاص أنهم هم المختصون بالشح المتبالغ ، وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل(4/393)
" صفحة رقم 394 "
المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر من حيث إنه لا يقصد الفعل بل الفاعل كما في قول حاتم : لو ذات سوار لطمتني. لا يقصد اللطمة بل اللاطمة أي لو حرة لطمتني وقوله : ( خشية الإنفاق ( أي خوف الفقر من أنفق ماله إذا ذهب وأمسكتم متروك المفعول معناه لبخلتم ) وكان الإنسان قتوراً ( أي بخيلاً شحيحاً ، والقتر والإقتار والتقتير والتقصير في الإنفاق. وهذا الخبر لا ينافي ما قد يوجد في الإنسان من هو كريم جواد لأن اللام للجنس أي هذا الجنس من شأنه الشح إذ كان باقياً على طبعه لأنه خلق محتاجاً إلى ضرورات المسكن والملبس والمطعوم والمنكوح ، ولا بد له في تحصيل هذه الأشياء من المال فيه تندفع حاجاته وتتم الأمور المتوقفة على التعاون ، فلا جرميحب المال ويمسكه لأيام الضورة والفاقة. ومن الناس من يحب المال محبة ذاتية لا عرضية فإذاً الأصل في الإنسان هو البخل والجود منه إنما هو أمر تكلفي أو عرضي طلباً للثناء أو الثواب. وقيل : المراد بهذا الإنسان المعهود السابق ممن قالوا ) لن نؤمن لك حتى تفجر لنا ( بين الله تعالى أنهم لو ملكوا خزائن الأرض لبخلوا بها. ثم قال : ( ولقد آتينا موسى تسع آيات ( فكأنه أراد أنا آتيناه معجزات مساوية لهذه الأمور التي اقترحتموها بل أقوى منها وأعظم ، فليس عدم الاستجابة إلى ما طلبتموه من البخل ولكن لعدم المصحلة أو لعد استتباع الغاية لعلمنا بإصراركم والختم على قلوبكم ، عن ابن عباس : أن الآيات التسع هن : العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه على بني إسرائيل. وعن الحسن : الطوفان والسنون ونقص الثمرات. مكان الحجر والبحر والطور. وعن عمر بن عبد العزيز أنه سأل محمد بن كعب عنهن فذكر من جملتها : حل عقدة اللسان والطمس على أموالهم. فقال له عمر : لا يكون الفقيه إلا هكذا. أخرج يا غلام الجراب فأخرجه فنفضه فإذا بيض مكسور بنصفين وجوز مكسور وفوم وحمص وعدس كلها حجارة. وعن صوفان بن عسال أن بعض اليهود سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال : ( أوحى الله إلى موسى أن قل لبني إسرائيل : لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تفشوا سر أحد إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف ، وأنتم يا يهود خاصة لا تعدوا في السبت ، فقام اليهوديان فقبلا يديه ورجليه وقالا : ( إنك نبي ولولا أنا نخاف القتل لاتبعناك ( قال الإمام فخر الدين(4/394)
" صفحة رقم 395 "
الرازي : هو أجود ما قيل في الآيات التسع. وأقول : عد الأحكام من الآيات البينات فيه بعد ، اللَّهم إلا أن يقال : النهي عن مساوىء الأخلاق والعادات من جملة علامات النبوة. قال بعد العلماء : أجابهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بتسع وزاد واحدة تختص بهم. وروى أبو داود هذا الحديث ولم يذكر : ( ولا تقذفوا محصنة ( وشك شعبة في أنه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ولا تقذوفوا محصنة ( أو قال : ( تولوا الفرار (. وقيل : إنه كان لموسى آيات أخر كإنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه ، وكالآيات التي عدها بعضهم من التسع وتركها بعضهم. إلا أن تخصيص العدد بالذكر لا يقدح في الزيادة عليه. هكذا قال الأصوليون ، ولكن الذوق يأبى أن لا يكون للتخصيص فائدة. والذي يدور في خلدي أن سبب التخصيص هو أن مرجع جميع معجزاته إلى تسع أنواع كلمتين ونقص الثمرات مثلاً فإنهما نوع واحد وهو القحط وقد يعسر إبداء ما به الاشتراك ولكن لا بد عندي من اعتقاد الانحصار في التسع لأجل خبر الصادق. أما قوله : ( فاسأل بني إسرائيل ( فالخطاب فيه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والسؤال سؤال استشهاد لمزيد الطمأنينة والإيقان ، لأن الأدلة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت. والمسؤولون مؤمنوا بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقوله : ( إذا جاءهم ( يتعلق ب ) آتينا (. وينتصب بإضمار ) اذكر ( ، أو هو للتعليل. والمراد فاسألهم يخبرونك لأنه جاءهم أي جاء أباهم. ويحتمل أن يكون الخطاب لموسى بتقدير القول أي فقلنا له حين جاءهم سل بني إسرائيل أي سلهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل ، أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم أو سلهم عن أن يعاضدوك ويساعدوك في الأمور والمسحور الذي سحر فخولط عقله. وقيل : هو بمعنى الساحر كالمشؤوم والميمون قاله الفراء. وعن محمد بن جرير الطبري أن معناه أعطى علم السحر. ومن قرأ ) علمت ( بضم التاء فظاهر لأن موسى كان علماً بصحة الأمر وأن هذه الآيات منزلها رب السموات والأرض ، فأراد أني لا أشك في أمري بسبب تشكك مكذب مثلك. ومن قرأ بفتحها فالمارد تبين أن كفر فرعون كفر جحود وعناد كقوله ) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ) [ النمل : 14 ]. وقوله للآيات : ( هؤلاء ( كقوله : والعيش بعد أولئك الأيام ومعنى ) بصائر ( بينات مكشوفات وانتصابها على الحال كأنه أشار بقوله : ( ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض ( إلى أنها أفعال خالقة للعادة ، وبقوله : ( بصائر ( إلى أن فاعله إنما فعله لغرض تصديق المدعي فتم حد المعجز بمجموع القيدين. ثم قارع(4/395)
" صفحة رقم 396 "
موسى ظن فرعون بظنه فقال : ( إني لأظنك يا فرعون مثبوراً ( قال الفراء : أي ملعوناً محبوساً عن الخير من قولهم ) ما ثبرك عن هذا ( أي ما منعك وصرفك. وقال مجاه وقتادة ، أي هالكاً من الثبور الهلاك. ولا ريب أن ظن موسى أصح من ظنه لأن إنكار ما علم صحته يستعقب لا محالة ويلاً وثبوراً وحسرة وندامة ، ولهذا قال : ( فأراد ( أي فرعون ) أن يستفزهم من الأرض ( أي يستخف موسى وقومه من بسيط الأرض أو من أرض مصر بالقتل والاستئصال أبو بالنفي والإخراج. والحاصل أن فرعون عورض بنقيض المقصود فأغرق هو وقومه وأسكن بنو إسرائيل مكانة تحقيقاً لقوله : ( ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ) [ فاطر : 34 ] ثم أخبر عن المعاد قائلاً ) فإذا جاء وعد الآخرة ( وهو قيام الساعة ) جئنا بكم ( يعني معشر المكلفين كلهم ) لفيفاً ( جماعات من قبائل شتى ذوي أديان ومذاهب مختلفة ، وذلك لأجل الحكم والجزاء والفصل والقضاء. ولما بين إعجاز القرآن وأجاب عن شبهات القوم أراد أن يعظم شأن القرآن ويذكر جلالة قدره فقال : ( وبالحق أنزلناه ( التقديم للتخصيص أي ما أردنا بإنزاله إلا تقرير الحق في مركزه وتمكين الصواب في نصابه. قال جار الله : أي ما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله ، وما نزل إلا ملتبساً بالحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير ، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظ بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظاً بهم من تخليط الشياطين. وقال آخرون : الحق هو الثابت كما أن الباطل هو الزاهق ، ولا ريب أن هذا الكتاب الكريم يشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام ، وعلى تعظيم الملائكة وإقرار النبوات وإثبات المعاد ، وعلى أصول الأديان والملل التي لا يتطرق إليها النسخ والتبديل ، وكل هذه الأمور تدل على المعنى المذكور لأنها مما تبقى ببقاء الدهور. قال أبو علي الفارسي : بالبء في الموضعين بمعنى ) مع ( كما في قولك ) خرج بسلاحه ( أي أنزل القرآن مع الحق ونزل هو مع الحق. ويحتمل أن تكون الباء الثانية بمعنى ) على ( كما في قولك ) نزلت بزيد ( فيكون الحق عبارة عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن القرآن نزل به أي عليه ) وما أرسلناك إلا مبشراً ( بالجنة ) ونذيراً ( من النار ليس إليك وراء هذين شيء من إكراه على الدين والإتيان بشيء مما اقترحوه. ثم إن القوم كأنهم من تعنتهم طعنوا في القرآن من جهة أنه لم ينزل دفعة واحدة فأجاب عن شبهتهم بقوله : ( وقرآناً ( وهو منصوب بفعل يفسره ) فرقناه ( أي جعلنا نزوله مفرقاً منجماً. وعن ابن عباس أنه قرأه مشدداً وقال : إنه لم ينزل في يومين أو ثلاثة بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة يعني أن فرق بالتخفيف يدل على فصل مقارب. وقال أبو عبيدة : التخفيف(4/396)
" صفحة رقم 397 "
أعجب إليّ لأن تفسيره بيناه وليس للتشديد معنى إلا أنه نزل متفرقاً. فالفرق يتضمن التبين ويؤكده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال : فرقت أفرق بين الكلام وفرقت بين الأجسام. وأقول : إن ابن عباس اعتبر الفصل بين أول نزوله وبين آخره ، فرأى التشديد أولى. ولعل المراد الفصول المتقاربة التي فيما بين المدة بدليل قوله : ( لتقرأه على الناس على مكث ( بضم الميم أي على مهل وتؤدة ولقوله : ( ونزلناه تنزيلاً ( أي على حسب المصالح والحوادث. ثم خاطب نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقول للمقترحين ) آمنوا به أو لا تؤمنوا ( وهو أمر وعيد وتهديد وخذلان. قال جار الله : قوله : ( إن الذين أوتوا العلم من قبله ( إما أن يكون تعليلاً لقل على سبيل التسلية كأنه قيل : تسل عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء الذي قرأوا الكتب من قبل نزول القرآن. قال مجاهد : هم أناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خروا وسجدوا منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام ، وفي قوله : ( يخرون للأذقان سجداً ( دون أن يقول ) يسجدون ( مبالغة من وجهين : أحدهما إنه قيد الخرور وهو السقوط بالذقن. فقال الزجاج : لأن الذقن مجتمع اللحيين ، وكما يبتدىء الإنسان بالخرور للسجود فأول ما يحاذي به الأرض من وجهه الذقن. قلت : هذا تصحيح للمعنى ولا يظهر منه لتغيير العبارة فائدة. وقال غيره. المراد تعفير اللحية في التراب فإن ذلك غاية الخضوع وإن الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض مغشياً عليه. وثانيهما أنه لم يقل ) يخرون على الأذقان ( كما هو ظاهر وإنما قال ) للأذقان ( لأن اللام للاختصاص فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور ، أو خصوا الخرور بأذقانهم. ثم حكى أنهم في سجودهم أنهم يراعون شرائط التنزيه والتعظيم قائلين ) سبحان ربنا إن كان وعد ربنا ( بإنزال القرآن وبعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في كتبنا ) لمفعولاً ( أي منجراً ) وإن ( مخففة من الثقيلة ولهذا دخلت اللام في خبر كان ، ثم ذكر أنهم كما خروا لأذقانهم في حال كونهم ساجدين فقد خروا لها حال كونهم باكين ، ويجوز أن يكون التكرير لأجل الدلالة على تكرير الفعل منهم بدليل قوله ) ويزيدهم ( أي القرآن ) خشوعاً ( لين قلب ورطوبة عين ، ثم أرد أن يعلمهم كيفية الخشوع والدعاء فقال : ( قل ادعوا ( عن ابن عباس : سمعه أبو جهل يقول : يا الله يا رحمن. فقال : إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر. وقيل : أن أهل الكتاب قالوا : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت. قال جار الله : الدعاء بمعنى التسمية لا النداء وهو يتعدى إلى مفعولين. تقول : دعوته زيداً ثم تترك أحدهما استغناء عنه فتقول : دعوت زيداً و ) أو ( للتخيير والمعنى على السبب الأول سموه(4/397)
" صفحة رقم 398 "
بهذا الاسم أو بهذا ، وعلى السبب الثاني اذكروا إما هذا وإما هذا ) أياماً تدعوا ( يعني أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم فالتنوين عوض عن المضاف إليه ) وما ( صلة زيدت لتأكيد الإبهام. والضمير ) في ) فله ( لا يرجع إلى أحد الاسمين ولكن إلى مسماهما ، وكان أصل الكلام أن يقالك فهو أي ذلك الاسم حسن فوضع موضعه. قوله : ( فله الأسماء الحسنى (. لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان. ومعنى حسن الأسماء استقلالها بنعوت الجلال والإكرام وقد مر في آخر ( الأعراف ). ثم ذكر كيفية أخرى للدعاء فقال : ( ولا تجهر بصلاتك ( أي بقراءة صلاتك على حذف المضاف للعلم بأن الجهر والمخافتة من نعوت الصوت لا الصلاة أفعالها فهو من إطلاق الكل وإرادة الجز ، ومنه يقال : خفت صوته خفوتاً إذا انقطع كلامه أو ضعف وسكن ، وخفت الزرع إذا ذبل ، وخافت الرجل بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يرفع صوته لعله أو من إطلاق الصلاة على بعض أفعلاها فهو ألح تأمل. مصححه بالقراءة ، فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله إليه ) ولا تجهر بصلاتك ( فيسمعه المشركون فيسبوا الله عدواً بغير علم ) ولا تخافت بها ( فلا تسمع أصحابك ) وابتغ بين ذلك ( الذ ذكر من الجهر المخافتة ) سبيلاً ( وسطاً ، وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) طاف بالليل دو ر الصاحبة فكان أبو بكر يخفي صوته في صلاته ويقول : أناجي ربي وقد علم حاجتي. وكان عمر ييرفع صوته ويقول : أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان. فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر أن يرفع صوته قليلاً ، وأمر عمر أن يخفض قليلاً فنزلت الآية على حسب ذلك. وقيل : معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ، ولا تخافت بها كلها. وابتغ بين ذلك سبيلاً ههنا الدعاء. وقد يروى هذا مرفوعاً قال الحسن : لا يرائي بعلانيتها ولا يسيء بسريرتها ، وأيضاً في الجهر إسماع غيره الذنوب وهو الموجب للتغير والتوبيخ ، وعلى هذا ذهب قوم إلى أن الآية منسوخة بقوله : ( ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ) [ الأعراف : 55 ] قال جار الله : ابتغاء السبيل مثل لابتغاء الوجه الوسط في القراءة. ولما أمر أن لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحنسى نبه على كيفية التحميد بقوله : ( وقل الحمد لله ( الآية قال في الكشاف : كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكملة التحميد ؟ وأجاب بأن هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة ، فهو الذي(4/398)
" صفحة رقم 399 "
يستحق جنس الحمد ، وأقول : الولد يتولد من جزء من أجزاء الوالد ، فالوالد مركب وكل مركب محدث والمحدث محتاج والمحتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد ، وأيضاً الولد مبخلة لا يستحق الحمد والشركة في الملك إنما تتصور لمن لا يستقل بالمالكية فيفتقر إلى من يتم بمشاركته أمور مملكته ومصالح تمدنه ، وكل من كان كذلك كان عاجزاً بالنظر إلى ذاته ، فلا يتم فيضانه فلا يستحق الحمد على الإطلاق ، وهكذا حكم من كان له لي من الذل أي اتخذ حبيباً من أجل ذل به واستفادة لا من عزة وقوة إفاضة ، أو الولي بمعنى الناصر أي ناصر من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته. وأيضاً قد يمنعه الشريك من إصابه الخير إلى أوليائه ، والذي يكون له ولي من الذل يكون محتاجاً إليه فينعم عليه دون من استغنى عنه. أما إذا كان منزهاً عن الولد وعن الشريك وعن أن يكون له ولي ينصره ويلي أمره كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد ومستحقاً لأجلّ أقسام الشكر. قال الإمام فخر الدين الرازي : التكبير أنواع منها : تكبير الله في ذاته وهو أن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته غني عن كل ما سواه. ومنها تكبيره في صفاته بأن يعتقدها كلها من صفات الجلال والإكرام وفي غاية العظمة ونهاية الكمال وأنها منزهة عن سمات التغير والزوال والحدوث والانتقال. ومنها تكبيره في أفعاله وعند هذا تعود مسألة الجبر والقدر. قال : سمع أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفرايني كان جالساً في دار الصاحب بن عباد فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني. فلما رآه قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء. فقال الأستاذ : سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء. ومنها تكبير الله ف أحكامه وهو أن يعتقد أن أحكامه كلها جارية على سنن الصواب وقانون العدالة وقضية الاستقامة. ومنها تكبيره عن هذا التكبير وتعظيمه عن هذا التعظيم. وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية والله أعلم. التأويل : ( وقالوا لن نؤمن لك ( كانوا أرباب الحسن فلم يبصروا شواهد الحق ودلائل النبوة ولم يطلبوا منه ما كان هو عليه من تزكية النفوس وتصفية القلوب وتجلية الأرواح وتفجير ينابيع الحكمة من أرض القلوب لإنبات نخيل المشاهدات وأعناب المكاشفات في جنات المواصلات. ) أبعث الله بشراً رسولاً ( تعجبوا من كون البشر رسولاً حين ظن أن الملك أعلى حالاً من البشر ، وغفلوا عن رتبة الإنسان الكامل حيث جعل سجود الملائكة المقربين وأودع فيه سر الخلافة ) مأواهم جهنم ( الحرص والشهوات ، كلما سكنت نار شهوة باستيفاء حظها ) زدناهم سعيراً ( باشتعال طلب شهوة أخرى ) تسع آيات بينات ( قال الشيخ المحقق نجم الحق : والدين المعروف بداية أرادة الآيات التي تدل على نبوته فيما(4/399)
" صفحة رقم 400 "
يتعلق بنفسه خاصة كإلقائه في اليم وإخراجه منه وتربيته في حجر العدوة وتحريم المراضع عليه ونحو ذلك : ( وبالحق أنزلناه ( لأن الأرواح المتعلقة بالعالم السفلي احتاجت في الرجوع إلى عالم العو إلى حبل متين هو القرآن كقوله : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ( ) آل عمران : 103 ] ( وبالحق نزل ( التميز بين أهل السعادة والشقاوة بالاتباع وعدمه ) إن الذين أوتوا العلم من ( قبل نزوله في الأزل ) إذا يتلى عليهم ( في الأزل عند خطاب ) ألست بربكم ) [ الأعراف : 172 ] ( يخرون للأذقان سجداً ( للإجابة يقولون ( بلى ) ) ويخرون للأذقان ( في عالم الصورة يبكون. فالتواضع والسجود من شأن الأرواح والبكاء والخشوع عن شأن الأجساد. ثمبين أن الأرواح إنما أرسلت إلى الأبدان للعبودية وذكر الله فقال : ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ( أي كل اسم من أٍمائه حسن فادعوه حسناً وهو الدعاء بالإخلاص ) ولا تجهر بصلاتك ( رياء وسمعة ) ولا تخافت بها ( أن تخفيها بالكلية فيحرموا المتابعة والأسوة الحسنة ) وابتغ بين ذلك سبيلاً ( بإظهار الفرائض وإخفاء النوافل والله تعالى أعلم .(4/400)
" صفحة رقم 401 "
سورة الكهف
سورة الكهف مكية إلا قوله ) واصبر نفسك (
الآية حروفها ستة آلاف وثلثمائة وستون حرفا كلمها ألف وخمسمائة وسبعة وسبعون آياتها مائة وإحدى عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
( الكهف : ( 1 - 19 ) الحمد لله الذي . . . .
" الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن(4/401)
" صفحة رقم 402 "
يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبداً وكذلك أعثرنا عليهم ليعملوا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً سيقولون ثلاثةٌ رابعهم كلبهم ويقولون خمسةٌ سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعةٌ ثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدَّتهم مَا يعلمهم إلا قليلٌ فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهراً ولا تستفت فيهم منهم أحداً ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً ولبثوا في كهفهم ثلاث مائةٍ سنين وازدادوا تسعاً قل الله أعلم بما لبثوا له غيبُ السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من وليٍّ ولا يشرك في حُكْمهِ أحداً ) "
( القراآت )
من لدنه ( بإشمال الدال ) شيئاً ( بالضم وكسر النون ووصل الهاء بالياء : يحيى. الآخرون بضم الدال وسكون النون وضم الهاء ) ويبشر ( مخففاً. حمز وعلي. الباقون بالتشديد. ) هيىء لنا ( ) ويهيىء لكم ( بتليين الهمزة فيهما إلا أوقية والأعشى في الوقوف ) فاووا ( بإبدال الهمزة ألفاً : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمز في الوقف ) مرفقاً ( بفتح الميم وكسر الفاء : أو جعفر ونافع وابن عامر والأعشى والبرجمي ، الآخرون على العكس ) تزاور ( خفيفاً بحذف تاء التفاعل : عاصم وحمزة علي وخلف ) تزور ( بتشديد الراء : ابن عامر مثل ( تحمر ) ويعقوب. الباقون ) تزوار ( بتشديد الزاي لإدغام التاء فيه ) المهتدي ( كما مر في ( سبحان ) ) ولملئت ( مشددة للمبالغة : أبو جعفر ونافع وابن كثير ، وقرأ أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف غير مهموز : ( يورقكم ( بسكون الراء : أبو عمرو وحمزة وحماد وأبو بكر والخزاز عن هبيرة وعباس بكير الراء وإدغام القاف في الكاف الآخرون بكسر الراء مظهراً ) ربي أعلم ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ) أن يهديني ( و ) أن ترني ( و ) وأن يؤتيني ( و ) أن تعلمني ( بالياآت في الحالين : سهل ويعقوب وابن كثير غير ابن فليح كلها يغير ياء - في الحالين - وافقهم أبو جعفر ونافع وأبو عمرو بالياء في الوصل ) ثلثمائة سنين ( بالإضافة : حمزة وعلي وخلف الباقون بالتنوين ) ولا تشرك ( بالتاء على النهي. ابن عامر وروح وزيد. الآخرون ) ولا يشرك ( بياء الغيبة ورفع الكاف .(4/402)
" صفحة رقم 403 "
الوقوف : ( عوجاً ( ه ط لأن ) قيماً ( ليس بصفة له ولكنه انتصب بمحذوف دل عليه المتلو وهو أنزل أي أنزله قيما ، وللوصلو وجه وهو أن يكون حالاً من الكتاب أو العبد وما بينهما اعتراض ) حسناً ( ، ه لا ) أبداً ( ه ) ولداً ( ج ه ، لأن ما بعده يحتمل الصفة أو ابتداء وإخبار ، والوقف أوضح ليكون ادعاء الولد مطلقاً كما هو الظاهر ) لآبائهم ( ط ) من أفواههم ( ط ) كذبا ( ه ) أسفا ( ه ) عملا ( ه ) جرزا ( ، ه ط لتمام القصة ما بعده استفهام تقرير وتعجيب ) عجباً ( ه ) رشدا ( ه ) عددا ( ، لا للعطف ) أمدا ( ه ) بالحق ( ط ) هدى ( والوصل أولى للعطف ) شططاً ( ه ) آلهة ( ط لابتداء التحضيض ) بين ( ط ) كذبا ( ه ) مرفقاً ( ه ) فجوة منه ( ط ) آيات الله ( ط ) فهو المهتد ( ج ) مرشداً ( ه ) رقود ( قف والأولى الوصل على أن ما بعده حال أي رقدوا ونحن نقلبهم ) الشمال ( قف والوصل أحسن على أن المعنى نقلبهم وكلبهم باسط ) بالوصيد ( ط ) رعباً ( ه ) بينهم ( ط ) كم لبثتم ( ط ) بعض يوم ( ط ) أحداً ( ه ) أبداً ( ه ) لا ريب فيها ( ج لأن ( إذا ) يصلح أن يكون طرفاً للإعثار عليهم وأن يكون منصوباً بإضمار ( اذكر ) ) بنياناًؤ ط ) بهم ( ط ) مسجداً ( ه ) رابعهم كلبهم ( ج فصلاً بين المقالتين مع اتفاق الجملتين ) بالغيب ( ج لوقوع العارض ) كلبهم ( ط ) قليل ( ه ) ظاهراً ( ص ) أحداً ( ه ) يشاء الله ( ز لاتفاق الجملتين مع عارض الظرف والاستثناء ) رشداً ( ه ) تسعاً ( ه ) لبثوا ( ج لاحتمال أن ما بعده مفعول ( قل ) أو إخبار مستأنف ) والأرض ( ط لابتداء التعجب ) وأسمع ( ط ) من ولى ( ط لمن قرأ ) ولا تشرك ( على النهي ، ومن قرأ على الغيبة إخباراً جوز وقفه لاختلاف الجملتين ) أحداً ( ه. التفسير : ألصق الحمد والتكبير المذكورين في آخر السورة المتقدمة بالحمد على أجزل نعمائه على العباد وهي نعمة إنزال الكتاب على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . قال بعض العلماء : نزه نفسه في أوّل سورة ( سبحان ) عمَّا لا ينبغي وهو إشارة إلى كونه مكملاً في ذاته ، وحمد نفسه في أول هذه السورة وهو إشارة إلى كونه مكملاً لغيره ، وفيه تنبيه على أن مقام التسبيح مبدأ ومقام التحميد نهاية موافقاً لما ورد في الذكر ( سبحان الله والحمد لله ). وفيه أن الإسراء أول درجات كماله من حيث إنه يقتضي حصول الكمال له وإنزال الكتاب غاية درجات كماله لأن فيه تكميل الأرواح البشرية ونقلها من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية ولا شك أن المنافع المتعدية أفضل من القاصرة كما ورد في الخبر : ( من تعلم وعلم وعمل فذاك يدعى عظيماً في السموات ) وإنزال الكتاب على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نعمة عليه وعلينا. أما أنه نعمة عليه فلأنه اطلع بواسطته على(4/403)
" صفحة رقم 404 "
أسرار التوحيد ونعوت الجلال والإكرام وأحوال الملائكة والأنبياء وسائر النفوس المقدسة ، وعلى كيفية القضاء والقدر وتعلق أحوال العالم السفلي بالعالم العلوي والشهادة بالغيب وارتباط أحدهما بالآخر. وأما أنه نعمة علينا فلأنا نستفيد منه أيضاً مثل ذلك ونعرف منه الأحكام الشرعية المفضية إلى إصلاح المعاش والمعاد. وفي انتصاب ) قيماً ( وجوه فاختار صاحب الكشاف أن يكون منصوباً بمضمر أي جعله وأنزله قيماً. وأبى أن يكون حالاً لأن العطف يدل على تمام الكلام وجعله حالاً يدل على نقصانه. قال جامع الأصفهاني : هما حالان متواليان إلا أن الأولى جملة والثانية مفرد. وقيل : حال من الضمير في قوله : ( ولم يجعل له ( وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة هي التأكيد ، فرب مستقيم في الظاهر لا يخرج عن أدنى عوج في الحقيقة هذا تفسير ابن عباس. ويحتمل أن يراد أنه قيم على سائر الكتب مصدّق لها شاهد بصحتها ، وأنه قيم بمصالح العباد وما لا بد لهم منه من الشرائع والأحكام ، وعلى هذا يكون قوله : ( ولم يجعل له عوجاً ( إشارة إلى أنه كامل في ذاته ، مبرأ عن الاختلاف والتناقض ، مشتمل على كل ما هو في نفس الأمر حق وصدق. وقوله : ( قيماً ( إشارة إلى أنه مكمل لغيره مصلح بحسن بيانه وإرشاده لأحوال معاشه ومعاده ، فتكون الآية نظير قوله في أول ( البقرة ). ) لا ريب فيه هدى للمتقين ( ثم أراد أن يفصل ما أجمله في قوله فيما قال : ( لينذر بأساً شديداً من لدنه ( وحذف المنذر للعلم به بعمومه ولتطهير اللسان عن ذكره أي لينذر الذين كفروا عذاباً إليماً صادراً من عنده. والأجر الحسن الجنة بدليل قوله : ( ماكثين فيه ( وهو حال من الضمير في ) لهم ( ثم كرر الإنذار وذكر المنذر لخصوصه وحذف المنذر به وهو البأس الشديد لتقدم ذكره. وقد تذكر قضية كلية ثم يعطف عليها بعض جزيئاتها تنبيهاً على كونه أعظم جزيئات ذلك الكلي. ففي عطف الإنذار المخصوص على الإنذار المطلق دليل على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى على ما زعم بعض كفار قريش من أن الملائكة بنات الله ، وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله. ثم قال : ( ما لهم به ( أي بالولد أو باتخاذ الله إياه ) من علم ولا لآبائهم ( وانتفاء العلم بالشي إما بالجهل بالطريق الموصل إليه. وإما لأنه في نفسه محال فلا يتعلق به العلم لذلك وهو المراد في الآية ، أي قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط وتقليد لآبائهم الذين هم مثلهم في الجهالة. قال جار الله : الضمير في قوله : ( كبرت ( يعود إلى قولهم ( اتخذ الله ولداً ) وسميت ) كلمة ( كما يسمون القصيدة بها. قلت : ويجوز أن يعود إلى مضمر ذهني يفسره الظاهر كقوله ( ربه رجلاً ونعمت امرأة عندي ). قال الواحدي :(4/404)
" صفحة رقم 405 "
انتصبت ) كلمة ( على التمييز وذلك أنك لو قلت : كبرت المقالة أو الكلمة جاز أن يتوهم أنها كبرت كذباً أو جهلاً أو افتراءً ، فلما قلت : كلمة فقد ميزتها من محتملاتها. وقرىء بالرفع على الفاعلية كما يقال ( عظم قولك ). قال أهل البيان : النصب أقوى وأبلغ لإفادته التعب من جهتين : من جهة الصيغة ومن جهة التمييز كأنه قيل : ما أكبرها كلمة. وفي وصف الكلمة بقوله : ( يخرج من أفواههم ( مبالغة أخرى من وجهين : الأول أن كثيراً من وساوس الشيطان وهواجس القلوب لا يتمالك العقلاء أن يتفوهوا به حياء وخجلاً ، فبين الله تعالى أن هذا المنكر لم يستحيوا من إظهاره والنطق به فما أشنع فعلتهم وما أعظم فحشهم. الثاني أن هذا الذي يقولونه لا يحكم به عقلهم وفكرهم ألبتة لكونه في غاية البطلان ، وكأنه شيء يجري على لسانهم بطريق التقليد : احتج النظام على مذهبه أن الكلام جسم بأن الخروج عبارة عن الحركة من خواص الأجسام. والجواب أن الخارج من الفم هو الهواء لأن الحروف والأصوات كيفيات قائمة بالهواء فأسند إلى الحال ما هو من شأن المحل مجازاً. ثم زاد في تقبيح صورتهم بقوله : ( إن يقولون إلا كذباً ( وفيه إبطال قول من زعم أن الكذب هو الخبر الذي يطابق المخبر عنه مع علم قائله بانه غير مطابق وذلك لأن القيد الأخير غير موجود ههنا مع أنه تعالى سماه كذباً. ثم سلى رسول الله صلى الله عيله وسلم بقوله : ( فلعلك باخع ( قال الليث : بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظاً : وقال الأخفش والفراء : أصل البخع الجهد. يروى أن عائشة ذكرت عمر فقالت : بخع الأرض أي جهدها حتى لأخذ ما فيها من أموال الملوك. وقال الكسائي : بخعت الأرض بالزراعة إذ جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة ، وبخع الرجل نفسه إذا نهكها و ) أسفاً منصوب على المصدر أي تأسف أسفاً وحذف الفعل لدلالة الكلام عليه. وقال الزجاج : هو مصدر في موضع الحال أو مفعول له أي لفظ الحزن شبهه وإياهم حين لم يؤمنوا بالقرآن وأعرضوا عن نبيهم برجل فارقته أحبته فهو يتساقط حسرات عليهم. والحاصل أنه قيل له لا تعظم حزنك عليهم بسبب كفرهم فإنه ليس عليك إلا البلاغ ، فأما تحصيل الإيمان فيم فليس إليك. قال القاضي ، أطلق الحديث على القرآن فدل ذلك على أنه غير قديم. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الحروف والأصوات وإنما النواع في الكلام النفسي ، قوله سبحانه : ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ( قال أهل النظم : كأنه تعالى يقول : إني خلقت الأرض وزينتها ابتلاء للخلق بالكاليف ، ثم إنهم يتمردون ويكفرون ومع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذهالنعم ، فأنت أيضاً يا محمد لا تترك الاشتغال بدعوتهم بعد أن لا تأسف عليهم وما على الأرض المواليد الثلاثة أعنى المعادن والنبات والحيوان(4/405)
" صفحة رقم 406 "
وأشرفها الإنسان. وقال القاضي : الأولى أن لا يدخل المكلف فيه لأن ما على الأرض ليس زينة لها بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها الغرض الابتلاء ، فالذي له الزينة يكون خارجاً عن الزينة. ومضى أنه مجاز بالصورة والمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة لو صدرت تلك المعاملة عن غيره لكان من قبيل الابتلاء والامتحان. وقد مر هذا البحث بتمامه في سورة البقرة في تفسير قوله : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه ) [ البقرة : 124 ]. واللام في ) لنبلوهم ( للغرض عند المعتزلة ، أو العاقبة أو استتباع الغاية عند غيرهم والمعنى لنمتحن هذا ) أحسن عملاً ( أم ذلك. ثم زهد في الميل إلى زينة الأرض بقوله : ( وإنا لجاعلون ما عليها ( من هذه الزينة ) صعيداً جرزاً ( أي مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة في إزالة بهجته وإماتة سكانه. قال أبو عبيد : الصعيد المستوي من الأرض التي لا نبات فيها من قولهم ( امرأة جروز ) إذا كانت أكولاً ، ( وسيف جراز ) إذا كان مستأصلاً وجرز الجراد والشاء والإبل الأر إذا أكملت ما عليها. ثم إن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنه الرسول صلى الل عليه وسلم على سبيل الامتحان فقال سبحانه ) أم حسبت ( يعني بل أظننت يا إنسان أنهم كانوا عجباً من آياتنا فقط فلا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب ، فإن من كان قادراً على تخليق السموات والأرض ثم تزيين الأرض بأنواع المعادن والنبات والحيوان ، ثم جعلها بعد ذلك صعيداً خالياً عن الكل كيف تستبعدون قدرته وحفظه ورحمته بالنسبة إلى طائفة مخصوصة. وقال جار الله : يعني أن ذلك التزيين وغيره أعظم من قصة أصحاب الكهف يعني أنه ذكر أولاً عظيم قدرته ، ثم أضرب عن ذلك موبخاً للإنسان. والحاصل أنك تعجب من هذا الأدنى فكيف بما فوقه ، والكهف الغار الواسع في الجبل ، والرقيم اسم كلبهم ، وعن سعيد بن جبير ومجاهد أنه لوح من حجارة أو رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف ، فعلى هذا يكون اللفظ عربياً ( فعيلاً ) بمعنى ( مفعول ) ومثله ما روي أن الناس رقموا حديثهم نقرأ في الجبل. وعن السدي أنه القرية التي خرجوا منها. وقيل : هو الوادي أو الجبل الذي فيه الكهف. والعجب مصدر وصف به أو المراد ذات عجب. وقوله : ( إذا أوى الفتية إلى الكهف ( صاروا إليه وجعلوه مأواهم منصوب بإضمار ( اذكر ) ب ) حسبت ( لفساد المعنى ، ولا يبعد أن يتعلق ب ) عجباً ( والتنوين في ) رحمة ( إما للتعظيم أو للنوع. وتقديم ) من لدنك ( للاختصاص أي رحمة مخصوصة بأنها من خزائن رحمتك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء ) وهيىء لنا ( أي أصلح لنا من قولك هيئات الأمر فتهيأ ) من أمرنا ((4/406)
" صفحة رقم 407 "
الذي نحن عليه من مفارقة الكفار ) رشداً ( أي أمر إذا رشد حتى نكون بسببه راشدين غير ضالين فتكون ( من ) للابتداء. ويجوز أن تكون للترجيد كما في قولك ( رأيت منك أسداً ) أي اجعل أمرنا رشداً كله. ) فضربنا على آذانهم ( قال المفسرون : أي أنمناهم والأصل فيه أن المفعول محذوف وهو الحجاب كما يقال : ( بنى على امرأته ) أي بنى عليها القبة. و ) سنين ( ظرف زمان و ) عدداً ( أي ذوات عدد وهو مصدر وصف به والمراد بهذا الوصف إما القلة لأن الكثير قليل عند الله ) وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ) [ الحج : 47 ] وإما الكثرة. قال الزجاج : إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى العدد وإذا كثر احتاج إلى أن يعدّ ) ثم بعثناهم ( أيقظناهم ) لنعلم ( ليظهر معلومنا وفعل العلم معلق لما في ( أي ) من معنى الاستفهام فارتفع ) أي الحزبين ( على الابتداء وخبره ) أحصى ( وهو فعل ماض و ( ما ) في ) لما لبثوا ( مصدرية أي أحصى ) أحداً ( للبثهم فيكون الجار والمجرور صفة للأمد فلما قدم صار حالاً منه. وقيل : اللام ( زائدة ) و ( ما ) بمعنى الذي وأمداً تمييز والتقدير : أحصى لما لبثوه أمداً والأمد الغاية. وزعم بعضهم أن ) أحصى ( أفعل تفضيل كما في قولهم ( أعدى من الجرب ) و ( ألفس من ابن المذلق ) ، ولم يستصوبه في الكشاف لأن الشاذ لا يقاس عليه. واختلفوا في تعيين الحزبين فعن عطاء عن ابن عباس أن أصحاب الكهف حزب والملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك حزب. وقال مجاهد : الحزبان من أصحاب الكهف. وذلك أنهم لما انتبهوا اختلفوا فقال بعضهم : ( لبثنا يوماً أو بعض يوم ( وقال آخرون : ( ربكم أعلم بما لبثتم ( وذلك حين حدسوا أن لبثهم قد تطاول. وقال الفراء : إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم ) نحن نقص عليك نبأهم بالحق ( أي على وجه الصدق ) أنهم فتية ( شباب ) آمنوا بربهم ( أي بي فوضع الظاهر موضع المضمر ) وزدناهم هدى ( أي بالتوفيق والتثبيت ) وربطنا على قلوبهم ( قوّيناهم بإلهام الصبر على فراق الخلائق والأوطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران ) إذ قاموا ( وفي هذا القيام أقوال : فعن مجاهد أنهم اجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم : هو أكبر القوم إني لأجد في نفسي شيئاً ما أظن أحداً يجده ، أجد أن ربي رب السموات والأرض. فقالوا : نحن كذلك في أنفسنا فقاموا جميعاً ) فقالوا ربنا رب السموات والأرض ( وقال أكثر المفسرين : إنه كان لهم ملك جبار - يقال له دقيانوس - وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا بين يديه ) فقالوا ربنا رب السموات والأرض ( وعن عطاء ومقاتل أنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم. والشطط الإفراط في الظلم والإبعاد فيه من(4/407)
" صفحة رقم 408 "
شط إذا بعد والمراد قولاً ذا شطط أي بعيد عن الحق. ) هؤلاء ( مبتدأ و ) قومنا ( عطف بيان أبو بدل ) اتخذوا ( خير وهو إخبار في معنى إنكار. وفي اسم الإشارة تحقير لهم ) لولا يأتون عليهم ( هلا يأتون على حقيقة إلهيتهم أو على عبادتهم ) بسلطان بين ( بحجة ظاهرة ، استدل بعدم الدليل على عدم الشركاء والأضداد فاستدل بعض العلماء بذلك على أن هذه طريقة صحيحة ، ويمكن أن يجاب بأنه إنما ذكر ذلك على سبيل التبكيت ، فمن المعلوم أن الإتيان بسلطان على عباده الأوثان محال ، وفيه دليل على فساد التقليد ويؤكده قوله ) فمن أظلم من افترى على الله كذباً ( بنسبة الشريك إليه وخاطب بعضهم بعضاً حين صمم عزمهم على الفرار بالدين. وقوله : ( وما يعبدون ( عطف على المضمير المنصوب يعني وإذا اعتزلتموهم ومعبوديهم. وقوله : ( إلا الله ( استثناء منقطع على الدهر ، ويجوز أن يكون متصلاً بتاءً على أن المشركين يقرون بالخالق الأكبر. وقيل هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله ف ( ما ) نافية. قال الفراء رفأووا إلى الكهف ( جواب ( إذا ) ومعناه إذهبوا إليه واجعلوا مأواكم ) ينشر لكم ربكم من رحمته ( يبسطها لكم و ) مرفقاً ( على القراءتين مشتق من الارتفاق الانتفاع. وقلي : فتح الميم أقيس وكسرها أكثر. وقيل : المرفق بالكسر ما ارتفعت به ، والمرفق بالفتح الأمر الرافق. وكان الكسائي ينكر في مرفق اليد إلا كسر ما ارتفعت به ، ثقة بفضل الله وتوكلاً عليه ، وإما لأنه أخبرهم نبي في عصرهم منهم أو من غيرهم. ) وترى الشمس ( أيها الإنسان ) إذا طلعت تزاور ( أصله من الزور بفتح الواو وهو الميل ومنه زاره إذا مال إليه. والمراد أن الشمس تعدل عن سمتهم إلى الجهتين فلا تقع عليهم. والفجوة المتسع إن الشمس تعدل عن سمتهم إلى الجهتين فلا تقع عليهم. والفجوة المتسع من المكان ومنه الحديث ( فإذا وجد فجوة نص ) وللمفسرين في الآية قولان : أحدهما أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح وإلى هذا الحجب أشار بقوله : ( ذلك من آيات الله ( وثانيهما أن باب ذلك الكهف كان مفتوحاً يساره فلذلك كانت الشمس لا تصل إليهم. ثم إنهم كانوا مع ذلك في منفسح من الغار ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم ، واعترض بأن عدم وصول الشمس إليهم لا يكون آية(4/408)
" صفحة رقم 409 "
من آيات الله على هذا التقدير. وأجيب بأن المشار إليه حفظهم في ذلك الغار مدة طويلة ، والمقصود من بيان وضع الغار تعيين مكانهم. ثم بين الله سبحانه لطفه بهم بصون أبدانهم عن الفساد في تلك المدة المديدة كما لطف بهم في أول الأمر بالهداية فكان فيه ثناء عليهم وتذكير لغيرهم إن الهداية وضدها كليهما بمشيئة الله وعنايتها الأزلية وبلطفه وقهره الذي سبق به القلم ، قال جار الله : فيه تنبيه على أن من سلك طريق الراشدين المهديين فهو من غرائب أحوالهم فقال ) وتحسبهم أيقاظاً ( هي جمع يقظ بكسر القاف كأنكاد في جمع نكد ) وهم رقود ( جمع راقد كقعود في قاعد. واستبعده في التفسير الكبير. وقيل : عيونهم مفتحة وهم نيام فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظاً. وقال الزجاج : لكثرة تقلبهم. وقيل : لهم تقلبتان في السنة. وقيل : تقلبة واحدة في يوم عاشوراء. وعن مجاهد : يمكثون رقوداً على أيمانهم سبع سنين ثم يقلبون على شمائلهم فيمكثون رقوداً سبع سنين ، وفائدة تقلبهم ظاهرة وهي أن لا تأكل لحومهم الأرض. قال ابن عباس : وتعجب منه الإمام فخر الدين قال : وإن الله تعالى قادر على حفظهم من غير تقليب. وأقول : لا ريب في قدرة الله تعالى ولكن الوسائط معتبرة في أغلب الأحوال ) وكلبهم باسط ( حكاية الحال الماضية ولهذا عمل في المفعول به. والوصيد الفناء وقيل العتبة أو الباب. قال السدي : الكهف لا يكون له عتبة ولا باب وإنما أراد أن الكلب منه موضع العتبة من البيت. عن ابن عباس : هربوا ليلاً من ملكهم فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ومعه كلبه. وقال كعب : مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك ثلاث مرات فقال لهم الكلب : ما تريدون مني أنا أحب أحباء الله فناموا حتى أحرسكم. وقال عبيد بن عمرو : كان ذلك كلب صيدهم والاطلاع على الشيء الإشراف عليه. قال الزجاج قوله ) فراراً ( منصوب على المصدر لأنه بمعنى التولية. وسبب الرعب هيبة ألبسهم الله إياهم. وقيل طول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم ووحشة مكانهم منه يحكى أن معاوية غزا الروم فقال : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس : ليس لك ذلك قد منع الله منه من هو خير منك ؟ فقال : ( لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ( فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث ناساً فقال لهم : اذهبوا فانظروا ففعلوا ، فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحاً فأخرجتهم ) وكذلك ( إشارة إلى المذكور قبله أي وكما أنمناهم تلك النومة وفعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات كذلك ) بعثناهم ( وفيه تذكير لقدرته على الإنامة والبعث جميعاً ، ثم ذكر غاية بعثهم فقال : ( ليتساءلوا ( أي ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع(4/409)
" صفحة رقم 410 "
في مدة اللبث غرض صحيح لما فيه من انكشاف الحال وظهور آثار القدرة ) قال قائل منهم كم لبثتم ( قال ابن عباس : وهو رئيسهم يمليخارد علم ذلك الله تعالى حين رأى التغير في شهورهم وأظفارهم وبشرتهم. والفاء في ) فابعثوا ( للتسبيب كأنه قل : واذ قد حصل اليأس من تعيين مدة اللبث فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. والورق الفضة مضروبة أو غير مضرورة. وفيتزودهم الورق عند فرارهم دليل على أن إمساك بعض ما يحتاج إليه الإنسان في سفره وحضره لا ينافي التوكل على الله. والمدينة طرسوس. قال في الكشاف : ( أيها ( معناه أيّ أهلها ) أزكى طعاماً ( وأقول : يحتمل أن يعود الضمير إلى الأطعمة ذهناً كقوله : ( زيد طيب أباً ) على أن الأب هو زيد ، ويجوز أن يراد أي أطعمة المدينة أزكى طعاماً على الوجه المذكور. عن ابن عباس : يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوساً وفيهم قوم يخفون أديانهم. وقال مجاهد : احترزوا من المغصوب لأن ملكهم كان ظلماً. وقيل : أيها أطيب وألذ. وقيل : الرخص ) وليتلطف ( وليتكلف اللطف فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن. والأظهر أنهم طلبوا اللطف في أمر التخفي تى لا يعرف. يؤيده قوله ) ولا يشعرون بكم أحد ( أي لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور ويسبب له ) إنهم إن يظهروا ( يطلعوا على مكانكم أو ) عليكم يرجموكم ( يقتلوكم أخبث القتلة وهي الرجم وكأنه كانت عادتهم ) أو يعيدوكم في ملتهم ( بالإكراه العنيف. وقال في الكشاف : العود في معنى الصيرورة أكثر شيء في كلامهم يقولون ما عدت أفعل كذا يريدون ابتداء الفعل. قلت : يحتمل أن يكون العود ههنا على معناه الأصلي لاحتمال أن يكون أصحاب الكهف على ملة أهل المدينة قبل ان هداهم الله. وفي ( أذن ) معنى الشرط كأنه قال : إن رجعتم إلى دينهم فلم تفلحوا أبداً ، قال المحققون : لا خوف على المؤمن الفار بدينه أعظم من هذين. ففي الأول هلاك الدنيا ، وفي الثاني هلاك الآخرة. وإنما نفى الفلاح على التأبيد مع أن كفر المكره لا يضر ، لأنهم خافوا أن يجرهم ظاهر الموافقة غلى الكفر القلبي ، وكما أنمناهم وبعثناهم ) أعثرنا عليهم ( سمى الإعلام إعثاراً والعلم عثوراً لأن من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه وعرفه وكان الإعثار سبباً لحصول العلم واليقين. وفي سبب الإعثار قولان : أحدهما أنه طالت شعورهم وأظفارهم طولاً مخالفاً للعادة وتغيرت بشرتهم فعرفوا بذلك. ولأكثرون قالوا : إن ذلك الرجل لما ذهب بالورق إلى السوق وكانت دارهم دقيانوسية اتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملك فقال له : من أين وجدت هذه الدراهم ؟ قال : بعت به أمس شيئاً من التمر. فعرف الملك أنه ما وجد كنزاً وأن الله بعثه بعد موته فقص عليه القصة. ثم ذكر سبحانه غاية(4/410)
" صفحة رقم 411 "
الإعثار فقال : ( ليعلموا أن وعد الله حق ( يروى أن ملك ذلك العصر من كان ينكر البعث إلا أنه كان مع كفره منصفاً فجعل الله أمر الفتية دليلاً للملك. وقيل : بل اختلفت الأمة في ذلك الزمان فقال بعضهم : الجسد والروح يبعثان جميعاً. وقال آخرون : الروح تبعث وأما الجس فتأكله الأرض. ثم إن ذلك الملك كان يتضرع أن يظهر له آية يستدل بها على ما هو الحق في المسألة فأطلعه الله تعالى على أمر أصحاب الكهف حتى تقرر عنده صحة بعث الأجساد ، لأن انتباههم بعد ذلك النوم الطويل يشبه من يموت ثم يبعث. فالمراد بالتنازع هو اختلافهم في حقيقة البعث. والضمائر في قوله : ( إذ يتنازعون بينهم أمرهم ( تعود إلى تلك الأمة. قويل : أراد إذ يتنازع الناس بينهم أمر أصحاب الكهف ويتكلمون في قصتهم ، أو يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا كيف يخفون مكانهم وكيف يسدون الطريق إليهم. ) فقالوا ابنوا ( على باب كهفهم ) بنياناً ( يروى أنه انطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم وحمدوا الله على آياته الدالة على البعث. ثم قالت الفتية للملك : نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم ، فألقى الملك عليهم ثيابه وأمر فجعل لكل واحد تابوتاً من ذهب فرآهم في المنام كارهين للذهب ، فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجداً. فيكون فيه دليل على أن أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله تعالى ومعترفين بالعبادة والصلاة ، وقيل : إن الكفار قالوا : إنهم كانوا على ديننا ونتخذ عليهم بنياناً ، والمسلمين قالوا : بل كانوا على ديننا فنتخذ عليهم مسجداً ، وقيل : إنهم تنازعوا في عددهم وأسمائهم. قال جار الله : ( ربهم أعلم بهم ( من كلام المتنازعين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ، فلما لم يهتدوا إلى حقيقته قالوا ذلك ، أو هو من كلام الله عز وجل رد القول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين ، أو من الذين تنازعوا عوافيهم على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل الكتاب. والذين غلبوا على أمرهم المسلمون وملكهم المسلم لأنهم بنوا عليهم مسجداً يصلى فيه المسلمون وتبركون بمكانهم وكانوا أولى بهم بالبناء عليهم حفظاً لتربتهم بها وضناً بها ) سيقولون ( يعنى الخائضين في قصتهم من المؤمنين ومن أهل الكتاب المعاصرين وكان كما أخبر فكان معجزاً ، يروى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد وكان يعوقبياً هم ) ثلاثة رابعهم كلبهم ( وقال العاقب وكان نسطورياً هم ) خمسة وسادسهم كليهم ( فزيف الله قولهما بأن قال : ( رجماً بالغيب ( أي يرمون رمياً بالخبر الخفي يقال : فلان يرمي بالكلام رمياً أي يتكلم من غير تدبر. وكثيراً ما يقال رجم بالظن(4/411)
" صفحة رقم 412 "
مكان قولهم ظن. وقال المسلمون. هم سبعة ثامنهم كلبهم. قال العلماء : وهذا قول محقوق عرفه المسلمون بأخبار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن لسان جبرائيل عليه السلام. والذي يدل عليه أمور منها منا روي عن علي عليه السلام أنهم سبعة تقرأ أسماؤهم. يمليخا ومكشلينيا ومشلينيا - هؤلاء أصحاب يمين الملك - وكان عن يساره مرنوس ودبرنوش وشادنوش. وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره ، والسابع الراعي الذي وافقهم واسمه كفشططوش. واسم مدينتهم أفسوس ، واسم كلبهم قطمير. وقيل ريان. عن ابن عباس : أن أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب والهرب وإطفاء الحريق تكتب في خرقة ويرمى بها في وسط النار ، ولبكاء الطفل تكتب وتوضع تحت رأسه في المهد ، وللحرث تكتب على القرطاس. وترفع على خشب منصوب في وسط الزرع ، وللضربان وللحمى المثلثة والصداع الغنى والجاه. والدخول على السلاطين تشد على الفخذ اليمنى ، ولعسر الولادة تشد على فخذها الأيسر ، ولحفظ المال والركوب في البحار والنجاة من القتل. ومنها قول صاحب الكشاف إن الواو في قوله ) وثامنهم ( هي التي تدخل على الجملة والواقعة صفة للنكرة في قولك ( جاءني رجل ومعه آخر ) كما تدخل على الجملة الواقعة حالاً من المعرفة في قولك ( مررت بزيد ومعه سيف ) وفائدته توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر لأن الواو مقتضاها الجميعة وكأنهم وصفوا بكونهم سبعة مرتين بخلاف القولين الأولين فإنهم وصفوا بما وصفوا مرة واحدة. ولقائل أن يقول : إن العاطف لا يوسط بين الوصف والموصوف ألبتة لشة الاتصال بينهما ، ومقتضى الواو هو الحالة المتوسطة بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع. بل الواو للعطف الجملة على الجملة وإما للحال وجاز لأنهم لم يسوغوا إذا الحال نكرة ، لا مكان التباس الحاس بالصفة في نحو قولك ( رأيت رجلاً راكباً ) وههنا الالتباس مرتفع لمكان الواو. ومنها بعضهم إن الضمير في قوله : ( ويقولون سبعة ( لله تعالى والجمع للتعظيم. ومنها قول ابن عباس حين وقعت الواو انقطعت العدّة أي لم تبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات. ومنها أنه خص القولين الأولين بزيادة قوله : ( رحيماً بالغيب ( وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه ، فمن البعيد أن يذكر الله تعالى جملة الأقوال الباطلة ولا يذكر الحق على أنه سبحانه منعه عن المناظرة معهم وعن الاستفتاء منهم في هذا الباب ، وهذا المنع إنما يصح إذا علمه حكم هذه الواقعة. وأيضاً الله تعالى قال : ( ما يعلمهم إلا قليل ( ويبعد أن لا يحصل العلم بذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويحصل لغير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) (4/412)
" صفحة رقم 413 "
كعلي وابن عباس حسين قال : أنا من أولئك القليل. وقد عرفت قولهما في هذا الباب. وإذا حصل فالظاهر أنه حصل بهذا الوحي لأن الأصل فيما سواه العدم. وقيل : الضمير في ) سيقولون ( لأهل الكتاب خاصة أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وقوله سبحانه في الموضعين الأخيرين و ) يقولون ( بغير السين لا ريب أنهما للاستقبال أيضاً إلا أن ذلك يحتمل أن يكون لأجل الصيغة التي تصلح له ، وأن يكون لتقدير السين بحكم العطف كما تقول : قد أكرم وأنعم أي وقد أنعم. أما فائدة تخصيص الواو في قوله : ( وثامنهم ( فقد عرفت آنفاً وقد يقال : إن لعدد السبعة عند العرب تداولاً على الألسنة في مظان المبالغة من ذلك قوله تعالى : ( إن تستغفر لهم سبعين مرة ) [ التوبة : 8 ] لأن هذا العدد سبعة عقودٍ ، فإذا وصلوا إلى الثامنة ذكروا لفظاً يدل على الاستئناف كقوله في أبواب الجنة ) وفتحت أبوابها ) [ الزمر : 73 ] وكقوله ) ثيبات وأبكاراً ) [ التحريم : 5 ] وزيف القفال هذا الوجه بقوله تعالى : ( هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ) [ الحشر : 22 ] وذلك لم يذكر الواو في النعت الثامن. والانصاف أن هذا التزييف ليس في موضعه لأن وجود الواو هو الذي يفتقر إلى التوجيه ، وأما عدمه فعلى الأصل وبين التوجيه والإيجاب بون بعيد ، والقائل بصدد الأول دون الأخير. ثم نهى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن الجدال مع أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف ثم قال : ( الأمراء ظاهراً ( فقال جار الله : أي جد إلا غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما أوحىالله إليك فحسب ولا تزيد من غير تجهيل ولا تعنيف. وقال في التفسير الكبير : المراد أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه فوجب التوقف. ثم نهاه عن الاستفتاء منهم في شأنهم لأن المفتى يجب أن يكون أعلم من المستفتي وههنا الأمر بالعكس ولا سيما في باب واقعة أصحاب الكهف كما بينا. ولنذكر ههنا مسألة جواز الكرامات وما تتوقف هي عليه فنقول : الولي مشتق من الولي وهو القرب. فقيل : ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) كقتيل وذلك أن الحق سبحانه تولى حفظه وحراسته وقرب منه بالفضل والإحسان ، فإذا ظهر فعل خارق للعادة على إنسان فإن كان مقروناً بدعوى الإلهية كما نقل أن فرعون كانت تظهر على يده الخوارق ، وكما ينقل أن الدجال سيكون منه ذلك فهذا القسم جوزه الأشاعرة لأن شكله وخلقه يدل على كذبه فلا يفضي إلى التلبيس وإن كان مقروناً بدعوى النبوة. فإن كان صادقاً وجب أن لا يحصل له المعارض ، وإن كان كاذباً وجب. ويمكن أن يقال : إن(4/413)
" صفحة رقم 414 "
الكاذب يستحيل أن يظهر منه الفعل الخارق وإليه ذهب جمهور المعتزلة ، وخالفهم أبو الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي وجوزاً ظهور خوارق العادات على من كان مردوداً على طاعة الله وسموه بالاستدراج. وقد يفرق بين النبي الصادق والساحر الخبيث بالدعاء إلى الخير والشر وإن كان مقروناً بدعوى الولاية فصاحبه هو الولي ، ومن المحققين من لم يجوّز للولي دعوى الولاية لأنه مأمور بالإخفاء كما أن النبي مأمور بالإظهار. ثم إن المعتزلة أنكروا كرامات الأولياء وأثبتها أهل السنة مستدلين بالقرآن والأخبار والآثار والمعقول. أما القرآن فكقصة مريم ونبأ أصحاب الكهف. قال القاضي : لا بد أن يكون في ذلك الزمان نبي تنسب إليه تلك الكرامات. وأجيب في التفسير الكبير بأن إقدامهم على النوم أمر غير خارق للعادة حتى يجعل ذلك معجزة لأحد ، وأما قيامهم من النوم بعد ثلثمائة سنة فهذا أيضاً لا يمكن جعله معجزة لأن الناس لا يصدقونهم في هذه الواقعة لأنهم لا يعرف كونهم صادقين في هذه الدعوى إلا إذا بقوا طول هذه المدة وعرفوا أن هؤلاء الذين جاؤا في هذا الوقت هم الذين ناموا قبل ذلك بثلمائة وتسع سنين ، وكل هذه الشرائط لم توجد فامتنع جعل هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء ، فلم يبق إلا أن تجعل كرامة لهم. ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون نفس بعثهم معجز النبي هذا الزمان ؟ وأما أن ذلك البعث بعد نوم طويل فيعرف بأمرات أخر كما مر من حديث الدرهم وغيره. وأما الأخبار فمنها ما أخرج في الصحاح عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصبي في زمان جريج وصبي آخر. أما عيسى فقد عرفتموه ، وأما جريج فكان رجلاً عابداً في بني إسرائيل وكانت له أم وكان يوماً يصلي إذ اشتاقت إليه أمه فقالت : يا جريج فقال : يا رب الصلاة خير أم رؤيتها ثم صلى. فدعته ثانياً مثل ذلك حتى كان ذلك ثلاث مرار. وكان يصلي ويدعها فاشتد ذلك على أمة فقالت : اللَّهم لا تمته حتى تريه المومسات. وكانت في بني إسرائيل زانية فقالت لهم : أنا أفتن جريجاً حتى يزني فأتته فلم تقدر عليه شيئاً وكان هناك راع يأوى بالليل إلى أصل صومعته فأرادت الراعي على نفسها فأتاها فولدت غلاماً وقالت : ولدي هذا من جريج. فأتاه بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه فصلى ودعا ثم نخس الغلام. قال أبو هريرة : كأنى أنظر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال بيده يا غلام من أبوك ؟ فقال : فلان الراعي فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني صومعتك من ذهب وفضة فأبى عليهم وبناها كما كانت. وأما الصبي الآخر فإن امرأة كانت معها صبي ترضعه إذ مر بها شاب جميل ذو شارة فقالت : اللَّهم اجعل ابني مثل هذا فقال الصبي : اللَّهم لا تجعلني مثله .(4/414)
" صفحة رقم 415 "
ثم مر بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت : اللَّهم لا تجعل ابني مثل هذه. فقال : اللَّهم اجعلني مثلها. فقالت له أمه في ذلك فقال : إن الراكب جبار من الجبابرة وإن هذه قيل لها سرقت ولم تسرق وزنيت ولم تزن هي تقول حسبي الله ). ومنها ما روي عن ابن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فقالوا إنه والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت لا أغبق قبلهما فناما في ظل شجرة يوماً فلم أبرح عنهما وحلبت لهما غبوقهما فجئتهما به فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهماوكرهت أن أغبق قبلهما فقمت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى ظهر الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللَّهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه. ثم قال الآخر اللَّهم إنه كانت في ابنة عم وكانت أحب الناس إليّ فأردتها عن نفسها فامتنعت حتى ألمت سنة من السنين فجاءتني وأعطيتها مالاً عظيماً على أن تخلي بيني وبين نفسها فلما قدرت عليها قالت لا آذن لك أن تفك الخاتم إلا بحقه فتحرجت من ذلك العمل وتركتها وتركت المال معها اللَّهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ثم قال الثالث اللَّهم إني استأجرت أجراء أعطيتهم أجورهم غير رجل واحد منهم ترك الذي له وذهب فثمرت أجرته حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أدّ إليّ أجرتي فقلت له كل ما ترى من الإبل والغنم والرقيق من أجرتك فقال يا عبد الله لاتستهزىء بي فقلت إني لا أستهزىء بأحد فأخذ ذلك كله اللَّهم إن كنت فعلته ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة عن الغار فخرجوا يمشون ) وهذا حديث صحيح متفق عليه. ومنها قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ). ولم يفرق بين شيء وشيء فيما يقسم به على الله. ومنها رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها إذا التفتت البقرة وقالت إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس :(4/415)
" صفحة رقم 416 "
سبحان الله فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر ). ومنا رواية أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( بينا رجل سمع رعداً أو صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان. فقلت : فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها ؟ قال : ولم تسأل عن قال : فلان ابن فلان. فقالت : فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها ؟ قال : ولم تسأل عن ذلك ؟ قلت : لأني سمعت صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان. قال : ولم تسأل عن أجعلها أثلاثاً فأجعل نفسي ولأهلي ثلثاً وأجعل للمساكين وأبناء السبيل ثلثاً وأنفق عليها ثلثاً ) وأما الآثار فمن كرامات أبي بكر الصديق أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ونودي السلام عليك يا رسول الله هذا أبو بكر بالباب فإذا الباب قد فتح فإذا هاتف يهتف من القبر أدخلوا الحبيب إلى الحبيب. ومن كرامات عمر ما روي أنه بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً يدعى سارية بن حصين. فبينا عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في حطبته يا سارية الجبل الجبل. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : وكتبت تاريخ هذه الكلمة. فقدم رسول ذلك الجيش. فقال : يا أمير المؤمنين غدونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فدعمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزم الله الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة. قال بعض العلماء : كان ذلك بالحقيقة معجزة في وقت الخطبة فدهمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا إلى والبصر. فلما كان عمر بمنزلة البصر لا جرم قدر على رؤية الجيش من بعد. ومنها ما روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة الجيش من بعد. ومنها ما فيه جارية حسناء. فلما جاء الإسلام كتب عمر بن العاص بهذه الحالة إلى عمر. فكتب عمر على الخزف : من عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد فإن كنت تجري بأمرك فلا حاجة لنا فيك ، وإن كنت تجري بأمر الله فاجر على بركة الله. وأمر أن يلقى الخزف في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك. ووقعت الزلزلة بالمدينة فضرب عمر الدرة على الأرض وقال : اسكني بإذن الله فسكنت. ووقعت النار في بعض دورالمدينة فكتب عمر على خرزفة : يا نار اسكني بإذن الله تعالى فألقوها في النار فأنطفأت في الحال. ويروى أن رسول ملك الروم جاء إلى عمر واطلب داره فظن أن داره مثل قصور الملوك فقالوا : ليس له ذلك إنما هو في الصحراء يضرب اللبن. فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر وضعاً درته تحت رأسه وهو نائم على التراب فتعجب الرسول من ذلك وقال في نفسه : أهل الشرق والغرب يخافون منه وهو على هذه الصفة فسل سيفه ليقتله فأخرج الله أسدين من الأرض(4/416)
" صفحة رقم 417 "
فقصاده فخاف فألقى السيف فانتبه عمر وأسلم الرجل. قال أهل السير : لم يتفق لأحد من أول عهد إلى الآن ما تيسر له فإنه مغ غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات ، ولا شك أن هذا من أعظم الكرامات. وأما عثمان فعن أنس قال : مررت في طريق فوقعت عيني على امرأة ثم دخلت على عثمان فقال : ما لي أراكم تدخلون عليّ وآثار الزنا عليكم ؟ فقلت : أوحي نزل بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقال : لا ولكن فراسة صادقة. وقيل : لما طعن بالسيف فأول قطرة سقطت من دمه سقطت على المصحف على قوله : ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) [ البقرة : 137 ]. ويروى أن جهجاهاً الغفاري انتزع العصا من يده وكسرها في ركبته فوقعت الآكلة في ركبته. وأما علي صلوات الله عليه فيروى أن واحداً من أصحابه سرق وكان عبداً أسود فأتي به إلى علي عليه السلام فقال : ( أسرقت ؟ قال : نعم. فقطع يده فانصرف من عند علي رضي الله عنه فلقيه سلمان الفارسي وابن الكواء فقال ابن الكواء : من قطع يدك ؟ قال : أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول. فقال : قطع يدك وتمدحه. قال : ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النار. فسمع سلمان ذلك فأخبر به علياً رضي الله عنه فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل ودعا بدعوات ، فسمعنا صوتاً من السماء ارفع الرداء عن اليد فرفعنا الرداء فإذا اليد كما كانت بإذن الله تعالى. وأما سائر الصحابة فعن محمد بن المنذر أنه قال : ركبت البحر فانكسرت السفينة التي كنت فيها فركبت لوحاً من ألواحها فطرحني اللوحي في أجمة فيها أسد ، فخرج إليّ أسد فقلت : يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : فتقدم ودلني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودعني ورجع. وروى ثابت عن أنس أن أسيد بن حضير ورجلاً آخر من الأنصار خرجاً من عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين ذهب من الليل قطع ، وكانت ليلة مظلمة وفي يد كل واحد منهما عصاه فأضاءت عصا أحدهما حتى مشيا في ضوئها ، فلما افترقا أضاءت لكل واحد منهما عصاه حتى مشى في ضوئها وبلغ منزله. وقيل لخالد بن الوليد إن في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلاً فطاف في العسكر فرأى رجلاً على فرس ومعه زق من خر فقال : ما هذا ؟ فقال : خل. فقال خالد : اللَّهم اجعله خلاً. فذهب الرجل إلى أصحابه وقال : أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثلها. فلما فتحوا فإذا هي خل. فقالوا : والله ما جئتنا إلا بخل. فقال : هذه والله دعوة خالد. ومن الوقائع المشهورة أن خالد بن الوليد أكل كفاً من السم على اسم الله وما ضره. وعن ابن عمر أنه كان في بعض أسفاره فلقي جماعة على طريق خائفين من السبع فطرد السبع عن طريقهم(4/417)
" صفحة رقم 418 "
ثم قال : إنما يلسط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء. وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث العلاء بن الحضرمي في غزاة فحال بينه وبين المطلوب قطعة من البحر فدعا باسم الله الأعظم فمشوا على الماء. وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات كثيرة ولا سيما في كتاب تذكرة الأولياء ومن أرادها فليطالعها. وأما المعقول فهو أن الرب حبيب العبد والعبد حبيب الرب لقوله ) يحبهم ويحبونه ) [ المائدة : 54 ] فإذا بلغ العبد في طاعته مع عجه إلى حيث يفعل كل ما أمره الله. فأي بعد في أن يفعل الرب مع غاية قدرته وسعة جوده مرة واحدة ما يريد العبد. وأيضاً لو امتنع إظهار الكرامة فذلك إما لأجل أن الله تعالى ليس أهلاً له فذلك قدح في قدرته ، وإما لأن المؤمن ليس أهلاً له وهو بعيد لأن معرفة الله والتوفيق على طاعته أشرف العطايا وأجزلها ، وإذا لم يبخل الفياض بالأشراف فلأن لا يبخل بالأدون أولى ومن هنا قالت الحكماء : إن النفس إذا قويت بحسب قوتها العلمية والعملية تصرفت في أجسام العالم السفلي كما تنصرف في جسده. قلت : وذلك أن النفس نور ولا يزال يتزايد نوريته وإشراقه بالمواظبة على العلم والعمل وفيضان الأنوار الإلهية عليه حتى ينبسط ويقوى على إنارة غيره والتصرف فيه ، والوصول إلى مثل هذا المقام هو المعني بقول علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة ربانية. حجة المنكرين للكرامات أن ظهور الخوارق دليل على النبوة ، فلو حصل لغير النبي لبطلت هذه الدلالة. وأجيب بالفرق بين المعجز والكرامة بأن المعجز مقرون بدعوى النبوة والكرامة لا يقطع بها ، بدعوى الولاية. وأيضاً النبي يدعي المعجزة ويقطع بها. والولي إذا ادعى الكرامة. جميع هذا عند من وأيضاً أنه يجب نفي المعارضة عن المعجزة ولا يجب نفيها عن الكرامة. جميع هذا عند من يجوّز للولي دعوى الولاية ، وأما من لا يجوّز ذلك من حيث إن النبي مأمور بالإظهار لضرورة الدعوة والولي ليس كذلك ولكن إظهاره يوجب طلب الإشهار والفخر المنهي عنهما ، فإنه يفرق بينهما بأن المعجز مسبوق بدعوى النبوة ، والكرامة غير مسبوقة بشيء من الدعاوى قالوا : قال ( صلى الله عليه وسلم ) حكاية عن الله سبحانه : ( لن يتقرب إليّ المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم ) لكن المتقرب إلى الله بأداء الفرائض لا يحصل له شيء من الكرامات ، فالمتقرب إليه بأداء النوافل أولى بأن لا يحصل له ذلك. وأجيب بأن الكلام في المتقرب إليه بأداء الفرائض والنوافل جميعاً. قالوا : قال تعالى : ( وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه(4/418)
" صفحة رقم 419 "
إلا بشق الأنفس ) [ النحل : 7 ] فالقول بطيّ الأرض للأولياء طعن في الآية وطعن في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حين لم يصل من المدينة إلى مكة إلا في أيام. وأجيب بأن الآية وردت على أم هو المعهود المتعارف وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثناة من ذلك العموم ، وإن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن قاصراً عن رتبة بعض الأولياء ولكنه لم تفق له ذلك ، أو لعله اتفق له في غير ذلك السفر قالوا : إذا ادعى الولي على إنسان درهماً فإن لم يطالبه بالبينة كان تاركاً لقوله : ( البينة على المدعي ). وإن طالبه كان عبثاً لأن ظهور الكرامة عليه دليل قاطع على أنه لا يكذب ومع الدليل القاطع لا يجوز العمل بالظن. والجواب مثل ما مر من أن النادر لا يحكم به. قالوا : لو جاز ظهور الكرامة على بعض الأولياء لجاز على كله ، وإذا كثرت الكرامات انقلب خرق لعادة وفقاً لها. وأجيب بأن المطيعين فيهم قلة لقوله تعالى : ( وقليل من عبادي الشكور ) [ سبأ : 13 ] والولي فيهم أعز من الكبريب الأحمر ، واتفاق الكرامة للولي أيضاً على سبيل الندرة فكيف يصير ما يظهر عليه معتاداً ؟ في الفرق بين الكرامات والاستدراج هو أن يعطيه الله كل ما يريده في الدنيا ليزداد غيه وضلاله وقد يسمى مكراً وكيداً وضلالاً وإملاء ، والفرق أن صاحب الكرامة لا يستأنس بها ولكنه يخاف سوء الخاتمة ، وصاحب الاستدراج يسكن إلى ما أوتي ويشتغل به ، وإنما كان الاستئناس بالكرامات قاطعاً للطريق لأنه حينئذ اعتقد أنه مستحق لذلك وأن له حقاً على الخالق فيعظم شأنه في عينه ويفتخر بها لا بالمكرم ، ولا ريب أن الإعجاب مهلك ولهذا وقع إبليس فيما وقع ، والعبد الصالح هو الذي يزداد لله وتواضعه بين يدي مولاه بازدياد آثار الكرامة والولاية عليه ، قرأ المقترىء في مجلس الأستاذ أبى علي الدقاق ) إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) [ فاطر : 10 ] فقال : علامة رفع العمل أن لا يبقى منه في نظرك شيء ، فإن بقي فهو غير مرفوع. واختلف في أن الولي هل يعرف كونه ولياً ؟. قال الأستاذ أبو بكر بنفورك : لا يجوز لأن ذلك يوجب الأمن ) ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ يونس : 62 ] والأمن ينافي اعتقاد قهارية الله تعالى ويقتضي زوال العبودية الموجب لسخط الله. وكيف يأمن الولي وقد وصف الله عباده المخلصين بقوله : ( ويدعوننا رغباً ورهباً ) [ الأنبياء : 90 ] وأيضاً إن طاعة العباد ومعاصيهم لا تؤثر في محبة الحق وعداوته لأنها محدثة متناهية وصفاته قديمة غير متناهية ، والمحدث المتناهي لا يغلب القديم غير المتناهي. فقد يكون(4/419)
" صفحة رقم 420 "
العبد في عين المعصية ونصيبه في الأزل هو المحبة وقد يكون في عين الطاعة ونصيبه المبغضية ، ولهذا لا يحصل الجزم بكيفية الخاتمة. قيل : من هنا قال سبحانه : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) [ الأمثال : 160 ] ولم يقل منعمل حسنة. ومن كان محبته لا لعلة امتنع أن يصير عدوّاً لعله المعصية وبالعكس ، ومحبة الحق وعداوته من الأسرار التي لا يطلع عليها إلا الله أو من أطلعه عليها الله. وقال الأستاذ أبو علي الدقاق وتلميذه أبو القاسم القشيري : إن للولاية ركنين : أحدهما انقياد للشريعة في الظاهر ، والثاني كونه في الباطن مستغرقاً في نور الحقيقة فإذا حصل هذان الأمران وعرف الإنسان ذلك عرف لا محالة كونه ولياً ، وعلامته أن يكون فرحه بطاعة الله واستئناسه بذكر الله. قلت : لا ريب أن مداخل الأغلاط في هذا الباب كثيرة ، ودون الوصول إلى عالم الربوبية حجب وأستار من نيران وأنوار ، فالجزم بالولاية خطر والقضاء بالمحبة عسر والله تعالى أعلم. قال المفسرون : إن اليهود حين قالت لقريش : سلوا محمداً عن مسائل ثلاثة عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فسألوهن قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أجيبكم عنها غدً ولم يستثن فاحتبس الوحي عنه خمس عشرة ليلة ). وقيل : أربعين يوماً ثم نزل قوله : ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً ( أي لأجل شيء تعزم عليه ليس فيه بيان أنه ماذا ) إلا أن يشاء الله ( فقال العلماء : إنه لا يمكن أن يكون من تمام قوله ) إني فاعل ( إذا يصير المعنى إلا أن يشاء الله أن لا أفعله أي إلا أن تعرض مشيئة الله دون فعله وهذا ليس منهياً عنه. فالصواب أن يقال : إنه من تمام قوله : ( ولا تقولن ( ثم إن قدر المراد إلا أن يشاء الله أن تقول إني فاعل ذلك غداً أي فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد بعينه. وقوله : ( إلا أن يشاء الله ( أن تقوله بأن يأذن لك في ذلك الإخبار كان معنى صحيحاً ، ولكنه لا يكون موافقاً لسبب النزول. فالمعنى الموافق هو أن يكون قوله هذا في موضع الحال أي لا تقولنه إلا متلبساً بأن يشاء الله يعني قائلاً إن شاء الله. وهذا نهي تأديب لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) لأن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غداً لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد أو يعوقه عن ذلك عائق ، فلو لم يقل إن شاء الله صار كاذباً في هذا الوعد والكذب منهي وجوز في الكشاف أن يكون ) إن شاء الله ( في معنى كلمة تأبيد كأنه قيل : ولا تقولنه أبداً. قال أهل السنة : في صحة الاستثناء بل في وجوبه دلالة على أن إرادة الله تعالى غالبة وإرادة العبد مغلوبة ويؤكده أنه إذا قال المديون القادر على أداء الدين : والله لأقضين هذا الدين غداً ثم قال : إن شاء الله فإذا جاء الغد ولم يقض لم يحنث بالاتفاق ، وما ذاك إلا لأن الله ما شاء ذلك الفعل مع أنه أمره باداء الدين ، وإنما لم يقع الطلاق في قول الرجل لامرأته : أنت(4/420)
" صفحة رقم 421 "
طالق إن شاء الله ، لأن مشيئة الله غير معلومة فيلزم الدور لتوقف العلم بالمشيئة على العلم بوقوع الطلاق وبالعكس. واستدل القائلون بأن المعدوم شيء بقوله : ( ولا تقولن لشيء ( وذلك أن الشيء الذي سيفعله غداً معدوم مع أنه سماه شيئاً في الحال. وأجيب بأنه مجاز كقوله : ( أعصر خمراً ) [ يوسف : 36 ] ( واذكر ربك ( أي مشيئة ربك ) إذا نسيت ( كلمة الاستثناء. ثم تنبثهت لها ، وللعلماء في مدة النسيان إلى الذكر خلاف ، فعن ابن عباس : يستثني ولو بعد سنة ما لم يحنث. وعن سعيد بن جبير : ولو بعد يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة وهو قول ابن عباس بعينه. وعن طاوس : هو استثناء ما دام في مجلسه. وعن عطاء : يستثني على مقدار حلب ناقة غزيرة. وعند عامة الفقهاء لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً. قالوا : إن الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعهد والعقد فإذا أتى بالعهد وجب عليه الوفاء بمقتضاه خالقنا هذا الدليل فيما إذا كان الاستثناء متصلاً بناء على أن المستثنى منه مع الاستثناء وأداته كالكلام الواحد ، فإذا كان منفصلاً لم يمكن هذا التوجيه فوجب الرجوع غلى أصل الدليل. وقيل : أراد واذكر ربك بالتسبيح والأستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء ، وفيه بعث على الاهتمام بها. وقيل : اذكر إذا اعتراك النسيان في بعض الأمور لتذكر المنسي ، أواذكره إذا تركت بعض ما أمرك به ليس لهذين القولين شديد ارتباط بما قيل ، وكذا قوله من حمله على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها. واختلفوا في المشار إليه بقوله : ( لأقرب من هذا ( الظاهر عند صاحب الكشاف أن المراد إذا نسيت شيئاً فاذكر ربك ، وذكر ربك عند نسيانه أن تقول : عسى ربي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه ) رشداً ( وأدنى خيراً ومنفعة. وقيل : إن ترك قوله ( إن شاء الله ) ليس بحسن وذكره أحسن. فقوله ( هذا ) إشارة إلى الترك وأقرب منه ذكر هذه الكلمة ، وقيل : إنه إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والحجج على أني صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من نبئهم ، وقد فعل ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والأخبار بالمغيبات ما هو أعظم وأدل. عن قتادة. أن قوله سبحانه : ( ولبثوا في كهفهم ( حكاية لأهل الكتاب و ) قل الله أعلم بما لبثوا ( رد عليه ويؤيده قراءة عبد الله ) وقالوا لبثوا ( والجمهور على أنهبيان لما أجمل في قوله : ( فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً ( والمراد من قوله ) قل الله أعلم ( أن لا تتجاوزا الحق الذي أخبر الله به ولا تلتفتوا إلى ما سواه من اختلافات أهل الأديان نظيره قوله : ( قل ربي أعلم بعدّتهم ( بعد قوله : ( سبعة وثامنهم كلبهم ( قال النحويون : سنين عطف بيان لثلثمائة لأن مميز مائة وأخواتها مجرور مفرد. وقيل : فيه تقديم وتأخير أي لبثوا سنين ثلثمائة. ومن قرأ بالإضافة فعلى وضع الجميع(4/421)
" صفحة رقم 422 "
موضع الجميع موضع الواحد في التمييز كما مر في قوله : ( وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً ) [ الأعراف : 160 ] قوله : ( وازدادوا تسعاً ( أي تسع سنين لدلالة لما قبله عليه دون أن يقول ( ولبثوا ثلثمائة سنة وتسع سنين ). فعن الزجاج المراد ثلثمائة بحساب السنين الشمسية وثلثمائة وتسع بالسنين القمرية وهذا شيء تقريبي. وقيل : إنهم لما استكملوا ثلثمائة سنة قرب أمرهم من الانتباه. ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين ، ثم أكد قوله : ( الله ألعم بما لبثوا ( بقوله : ( له غيب السموات والأرض ( أي ليس لغيره ما خفى فيهما من أحوالهما وأحوال سكانهما وهو مختص بذلك. ثم زاد في المبالغة فجاء بما دل على التعجب من إدراكه للمبصرات والمسموعات. والضمير في قوله : ( مالهم ( لأهل السموات والأرض. وفيه بيان لكمال قدرته وأن الكل تحت قهره وتسخيره وأنه لا يتولى أمورهم غيره ) ولا يشرك في حكمه ( وقضائه قبل أصحاب الكهف ) أحداً ( أحداً عما أخبره الله به من نبأ أصحاب الكهف. واقتصر على بيانه. وقيل : الضمير في مالهم لأصحاب الكهف أي أنه هو الذي حفظهم في ذلك النوم الطويل وتولى أمرهم. وقيل : ليس للمختلفين في مدة لبثهم من دون الله من يتولى أمورهم فكيف يعلمو هذه الواقعة من دون إعلامه ؟ وقيل : فيه نوع تهديد لأنهم لما ذكروا في هذا الباب أقوالاً على خلاف قول الله فقد استوجبوا العقاب فبين الله تعالى أنه : ( ليس لهم من دونه ولي ( يمنع العقاب عنهم. واعلمأن الناس اختلفوا في زمان لبث أصحاب الكهف في مكانهم فقيل : كانوا قبل موسى عليه السلام وأنه ذكرهم في التوراة فلهذا سألت اليهود ما سألوا وقيل : دخلوا الكهف قبل المسيح وأخبروه بخبرهم ثم لبثوا في الوقت الذي بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وحكى القفال عن محمد بن إسحاق أنهم دخلوا كهفهم بعد عيسى. وقيل : إنهم لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة. وذكر أبو علي بن سينا في باب الزمان من أصحاب الكهف ثم قال أبو علي : ويدل التاريخ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف. وأما المكان فحكى القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم أن الواثق أنفذه إلى ملك الروم ليعرف أحوال أصحاب الكهف ، فوجهه مع طائفة إلى ذلك الموضع قال : وإن الرجل الموكل بذلك المقام فزعني من الدخول عليهم ، فدخلت فرأيت الشعور على صدوره فعرفت أنه تمويه واحتيال وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة الحافظة لأبدان الموتى عن البلى كالصبر وغيره. قلت : حين لم يملأ الخوارزمي(4/422)
" صفحة رقم 423 "
رعباً من الاطلاع عليهم حصل القطع بأنهم ليسوا أصحاب الكهف والرقيم ، ولو صح ما حكينا عن معاوية حين غزا الروم حصل ظن غالب بأنهم منهم والله تعالى أعلم. التأويل : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ( والعبد الحقيقي من يكون حراً عن الكونين وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إذ يقول : ( أمتي أمتي ) يوم يقول كل نبي ( نفسي نفسي ) ، ولأنه هو الذي صحح نسبة العبودية كما ينبغي أطلق عليه اسم العبد مطلقاً وقيد لسائر الأنبياء كما قال : ( عبده زكريا ) [ مريم : 2 ] ، ) واذكر عبدنا داود ) [ ص : 17 ] ، ولأنه كان خلقه القرآن قيل : ( ولم يجعل له ( أي لقلبه ) عوجاً ( لا يستقيم فيه القرآن ، ومن استقامة قلبه نال ليلة المعراج رتبة ) فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 10 ] بلا واسطة جبرائيل ، ونال قلبه الاستقامة بأمر التكوين بقوله : ( فاستقم كما أمرت ) [ هود : 112 ] ( أجراً حسناً (. هو التمتع من حسن الله وجماله. ) لعلك باخع نفسك ( كان من عادته عليه الصلاة والسلام أن يبالغ في المأمور به حتى ينهى عنه ، بالغ في الدعوة والشفقة على أمته حتى قيل له لا تبخع نفسك ، وبالغ في الإنفاق إلى أن أعطى قميصه فقعد عرياناً فنهى عنه بقوله : ( ولا تبسطها كل البسط ) [ الإسراء : 29 ] ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة ( أي زينا الدنيا وشهواتها للخلق ملائماً لطبائعهم وجعلناها محل ابتلاء للمحب وللسائل ) لنلوهم أيهم أحسن عملاً ( في تركها ومخالفة هوى نفسه طلباً لله ومرضاته. ثم أخبر عن سعادة السادة الذين أعرضوا عن الدنيا وأقبلوا على المولى بقوله : ( أم حسبت ( ومعناه لا تعجب من حالهم فإن في أمتك من هو أعجب حالاً منهم ، ففيهم أصحاب الخلوات الذين كهفهم بيت الخلوة ، ورقيمهم قلوبهم المرقومة برقم المحبة فإنهم أووا إلى الكهف خوفاً من لقاء دقيانوس وفراراً منه ، فهؤلاء أووا إلى الخلوة شوقاً إلى لقائي وفراراً إليّ. فهؤلاء طلبوا الخلاص من شر نفوسهم والخروج من الغار بالسلامة بقولهم ) ربنا آتنا ( الآية. فهؤلاء طلبوا الخلاص من شر نفوسهم والخروج من ظلمات الغار المجازي للوصول إلى نور الوجود الحقيقي. ) فضربنا ( على آذان باطنه وحواسهم الآخر في مدة الخلوة لمحو النقوش الفاسدة عن ألوح نفوسهم وانتقاشها بالعلوم الدينية والأنوا الإلهية ليفنيهم الله عنه ويبقيهم به وهو سر قوله : ( ثم بعثناهم ( اي أحييناهم بنا ) لنعلم أي الحزبين ( أصحاب الخلوة أم أصحاب السلوة : ( أحصى ( أي أكثر فائدة وأتم عائدة لأمد لبثهم في الدنيا التي هي مزرعة الآخرة ) وزدناهم هدى ( فإنهم كانوا يريدون الإيمان الغيبي فأنمناهم ) ثم بعثناهم ( حتى صار الإيمان إيقاناً والغيب عياناً ) اتخذوا من دونه آلهة ( من الدنيا والهوى. ) وترى الشمس إذا طلعت ( قال الشيخ المحقق نجم الدين(4/423)
" صفحة رقم 424 "
المعروف : بداية هذا أخبار من أصناف ألطافه بأضيافه ، وفيه إشارة إلى أن نور ولايتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم لقول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن المؤمن إذا ورد النار تستغيث النار وتقول : حزراً مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ) ) وهم في فجوة منه ( في متسع وفراغ من ذلك النور يدفع عنهم كل ضر ويراعيهم عن بلى أجسادهم وثيابهم. قلت : يحتل مأن يراد أن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردت - وهو حالة السكر وغلبات الوجد - لا تنصرف في حال خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين ) وإذا غربت ( أي سكنت تلك الغلبات وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال ، بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في حال دفاع وفراغ ما يشغلهم عن الله ) وتحسبهم إيقاظاً ( متصرفين في أمور الدنيا ) وهم رقود ( عنها لأنهم يتصرفون فيها لأجل الحق لا لحظ النفس ، أو تحسبهم أيقاظاً مشغولين بأمور الآخرة لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ، وهم رقود متصرفون في أمور الدنيا لأن الناس بهم يرزقون ويمطرون. وفي قوله : ( ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ( إشارة إلى أنهم في التسليم لمقلب القلوب في الأحوال كلها كالميت بين يدي الغسال. قيل : في الآية دلالة على أن المريد الذي يربيه الله بلا واسطة المشايخ تكامل أمره في ثلثمائة وتسع سنين ، والذي يربيه بواسطتهم تم أمره في أربعينات معدودة ولهذا تكون ثمرة البساتينالزهر وثمرة الجبال وفي قوله : ( وكلبهم باسط ( إشارة أن أكلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال بها. ربيت القلوب والأرواح معنى أن هذاالنوع من التربية من قبيل القدرة الإلهية التي اختصهم بها ، ويمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم في جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم ) ولملئت منهم رعباً ( بما شاهدت عليهم من آثار الأنوار التي زدنام ، ولجلاليب الهيبة والعظمة التي ألبسناهم ) لبثنا يوماً أو بعض يوم ( لأن أيام الوصال قصيرة ، فما رأوا أنهم في دهشة الوصال وحياة الأحوال ) قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ( لأنه كان حاضراً معكم وأنتم غيب عنكم ) فابعثوا أحدكم ( من العجب أنهم ما احتاجوا مدة ثلثمائة وتسع سنين بما نالوا من غذاء الروح كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني (. فلما رجعوا من عند الله الحق إلى عبدية أنفسهم احتاجوا إلى الغذاء الجسماني ) أزكى طعاماً ( لما رجعوا إلى العالم الجسماني ، تعللوا من جمال الله بمشاهدة كل جميل وتوسلوا إلى تلك(4/424)
" صفحة رقم 425 "
الملاطفات بلطافة الأغذية الجسمانية وزكائها. ) ولا يشعرنّ بكم أحد ( فيه أن أرباب المعرفة والمحبة يجب أن يحترزوا عن شعور أهل الغفلة والسلوة ) ليعلموا أن وعد الله حق ( بإحياء القلوب الميتة حق قدره ، الأمر فيما أظهر وأبدى أو أسر وأخفى. ) سيقولون ( أن القوى والأركان الأصلية للإنسان ) ثلاثة ( الحيوانية والطبيعية والنفسانية التي منشؤهن القلب والكبد والدماغ. ) رابعهم كلبهم ( هو النفس الناطقة. ) ويقولون خمسة ( هو الحواس الظاهرة ) سادسهم ( النفس ) ويقولون سبعة ( هو الحواس الظاهر مع الوهم المدرك للمعاني والخيال المدرك للصور ) وثامنهم كلبهم ( هو النفس المدرك للكليات ) قل ربي أعلم بعدتهم ( لأن القوى الباطنة والظاهرة وأفاعيلها وغاياتها لا يعلمهن إلا الله سبحانه ومن أطلعه الله عليه وذلك قوله : ( ما يعلمهم إلا قليل ( والله أعلم بالصواب. . ( الكهف : ( 27 - 46 ) واتل ما أوحي . . . .
" واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة(4/425)
" صفحة رقم 426 "
ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا "
( القراآت )
وفجرنا ( بالتخفيف : سهل ويعقوب غير رويس ) له ثمر ( وكذا ) بثمره ( بفتح الثاء والميم : يزيد. وعاصم وسهل ويعقوب وأبو عامر : بضم الثاء وإسكان الميم. الباقون بضم الثاء والميم جميعاً ) منها ( على الوحدة : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون على التثنية ) لكن ( بالتشديد من غير ألف في الحالين : قتيبة وابن عامر وابن فليح ويعقوب بالألف في الوصل. الباقون بغير الألف واتفقوا على الألف في الوقف ) بربي أحد ( مفتوحة الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ) أن ترني ( فتح الياء : السرانديبي عن قنبل ) غوراً ( بضم الغين وكذلك في ) الملك ( البرجمي الباقون بفتحها. ) ولم يكن له ( بياء الغيبة ) الولاية ( بكسر الواو : حمزة وعلي وخلف. الآخرون بتاء التأنيث وفتح الواو ) لله الحق ( بالرفع : أبو عمرو وعلي. الآخرون بالجر ) عقباً ( بسكون القاف : عاصم وحمزة وخلف. الباقون بضمها ) الريح ( على التوحيد : حمزة وعلي وخلف. الوقوف : ( من كتاب ربك ( ط لاختلاف الجملتين ) ملتحداً ( ه ) عنهم ( ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستفهاماً محذوف الألف لدلالة حال الغتاب. ) فرطاً ( ه ) فليكفر ( لا لأن الأمر للتهديد بدليل ) إنا أعتدنا ( فلو فصل صار مطلقاً ) ناراً ( ، لأن ما بعده صفة ) سرادقها ( ط ) الوجوه ( ط ) الشراب ( ط ) مرتفقاً ( ه ) عملاً ( ج ه لاحتمال كون ) أولئك ( مع ما بعده خبر ) إن الذين ( وقوله : ( إنا لا نضيف ( جملة معترضة ) الأرائك ( ط ) الثواب ( ط ) مرتفقاً ( ه ) زرعاً ( ه ، ط ) شيئاً ( لا للعطف ) نهراً ( ه ط ) ثمر ( ج للعدول مع الفاء ) نفراً ( ، ج ) لنفسه ( ج لاتحاد العامل بلا عطف ) أبداً ( ه ط ) قائمة ( لا لأن ما بعده شك من قول الكافر في البعث ) منقلباً ( ه ) رجلاً ( ، ه ط لتمام الاستفهام ) أحداً ( ه ) ما شاء الله ( لا لاتمام المقول ) إلا بالله ( ج لابتداء الشرط المحذوف جوابه مع اتحاد القائل والمقول له ) وولداً ( ه ، ج لاحتمال كون ما بعده جواباً للشرط ) زلقاً ( ه ) طلباً ( ه ) أحداً ( ه ) منتصرا ( ، ط وقيل : يوقف على ) هنالك ( والأوجه أن يبتدأ ب ) هنالك ( أي عند ذلك يظهر لكل شاك سلطان الله ونفاد أمره ) الحق ( ط على القراءتين ) عقباً ( ه ) الرياح ( ط(4/426)
" صفحة رقم 427 "
) مقتدراً ( ه ) زينة الحاية الدنيا ( ج مفصلاً بين المعجل الفاني والمؤجل الباقي مع اتفاق الجملتين ) أملاً (. التفسير : لما أجب عن سؤالهم بما أجاب أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحى إليه وعلى الصبر مع الفقراء الذين آمنوا بما أنزل عليه ، واحتمل أن يكون ) اتل ( أمراً من التلو لا من التلاوة أي اتبع ما أوحي إليك والزم العمل بمقتضاه وقوله : ( من كتاب ربك ( بيان للذين أوحي إليه. ثم بين سببب اللزوم فقال : ( لا مبدل لكلماته ( أي لا يقدر أحد على تغييرها وإنما يقدر على ذلك هو وحده فليس لك ولا لغيرك إلا المواظبة على العلم والعمل به يؤكده قوله : ( ولن تجد من دونه ملتحداً ( أي ملجأ تعدل إليه إن هممت بذلك فرضاً : وأصل اللحد الميل كما مر في قوله : ( يلحدون في أسمائه ) [ الأعراف : 18 ] نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سورة الأنعام عن طرد فقراء المؤمنين بقوله : ( ولا تطرد الذين ) [ الآية : 52 ] الآية وأمره في هذه السورة بحبس النفس معهم وبمراقبة أحوالهم بقوله : ( ولا تعد عيناك ( قال جار الله : إنما لم يقل ولا تعدهم عيناك من عداه إذا جاوزه لأنه ضمن عدا معنى نبا وفيه مبالغة من جهة تحصيل المعنيين جميعاً كأنه قيل : ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم. ثم نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء الكفرة الذين التمسوا منه طرد الفقراء حتى يؤمنوا به فقال : ( ولا تطع من إفلنا قلبه ( قال أهل السنة : معنى الإغفال إيجاد الغفلة وخلقها فيهم ، أو هو من إغفلها إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بالذكر ولم نجعله من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان ، ويؤيد هذا المعنى أن الغفلة عن الذكر لو كانت بإيجاد العبد والقصد إلى إيجاد الغفلة عن الشي لا يتصور إلا مع الشعور بذلك الشيء لزم اجتماع الضدين. وقالت المعتزلة : معنى إغفلناه وجدناه غافلاً بالخذلان والتخلية بينه وبين الأسباب المؤدية إلى الغفلة يؤيده قوله : ( واتبع هواه ( بالواو دون الفاء إذا لو كان اتباع الهوى من نتيجة خلق الغفلة في القلب لقيل ( فاتبع ) بالفاء. ويمكن أن يجاب بأنه لا يلزم من كون الشيء في نفس الأمر نتيجة لشيء أن يعتبر كونه نتيجة له والفاء من لوازم الثاني دون الأول ، على أن الملازمة بين الغفلة عن ذكر الله وبين متابعة الهوى غير كلية ، فقد يكون الإنسان غافلاً عن ذكر الله ومع ذلك لا يتبع هواه بل يبقى متوقفاً متحيراً ) وكان أمره فرطاً ( أي متجاوزاً عن حد الاعتدال من قولهم ( فرس فرط ) إذا كان متقدماً للخيل ، ويلزم منه أن يكون نابذاً للحق لأن هؤلاء الفقراء يدعون ربهم بالغداة والعشى ابتغاء وجه الله وطلباً لمرضاته فأقبلوا على(4/427)
" صفحة رقم 428 "
الحق وشغلوا عن الخلق ، والأغنياء قد أعرضوا عن المولى وأقبلوا على الدنيا فوقعوا في ظلمة الهوى وبقوا في تيه الجهل والعمى. وإنما لم يجز طرد الفقراء لأجل إيمان الأغنياء لأن إيمان من ترك الإيمان احترازاً من مجالسة الفقراء كلا إيمان فوجب أن لا يلتفت إليه. ثم بين أن الحق ما هو ومن أين هو قائلاً ) وقل الحق من ربكم ( أي الدين الحق حصل ووجد من عند الله ، ويحتمل أن يراد بالحق الصبر مع الفقراء. وقال في الكشاف : الحق خبر مبتدأ محذوف والمعنى جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختيار الإيمان أو الكفر ، وفيه دليل على أن الإيمان والكفر والطاعة والمعصية كلها مفوّضة إلى مشيئة العبد واختياره. وحمله الأشاعرة على أمر التهديد وقالوا : إن الفعل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه ، ثم ذلك القصد لا بد أن يقع بالاختيار والقصد فنقل الكلام إليه ولا يتسلسل فلا بد أن ينتهي إلى قصد واختيار يخلقه الله فيه. فالإنسان مضطر في صورة مختار وفي صورة هذا التخيير لالة على أنه سبحانه لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضر بكفر الكافرين. ثم بين وعيد الظالمين الذين وضعوا الكفر موضع الإيمان وتحقير المؤمنين لأجل فقرهم مكان تعظيمهم لأجل إيمانهم فقال : ( إنا أعتدنا ( أي أعددنا وهيأنا ) لللظالمينناراً أحاط بهم سرادقها ( وهو الحجرة التي تكون وحول الفسطاط فأثبت تعالى للنار شيئاً شبيهاً بذلك يحيط بهم من جميع الجهات ، والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرج. وقيل : هو حائط من نار يطبق بهم. وقيل : هو دخان محيط بالكفار قبل دخولهم النار وهو المراد بقوله ) انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ) [ المرسلات : 30 ] وقوله : ( يغثوا بماء ( وارد على سبيل التهكم كقولهم ( عتابك السيف ). والمهل كل ما أذيب من المعدنيات كالذهب والفضة والنحاس قاله أبو عبيدة والأخفش. وقيل في حديث مرفوع أنه درديّ الزيت. وقيل : الصديد والقيح أو ضرب من القطران. وهذه الاستغاثة إما لطلب الشراب كقوله : ( تسقى في عين آنية ) [ الغاشية : 5 ] وإما لدفع الحر ولأجل التبريد كقوله حكاية عنهم ) أفيضوا علينا من الماء ) [ الأعراف : 50 ] ويروى أنهم إذا استغاثوا من حر جهنم صب عليهم القطران الذي يعم كل أبدانهم كالقميص ، وقد يفسر بهذا قوله : ( سرابليهم من قطران ) [ إبراهيم : 50 ] عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( هو - يعني المهل - كعكر الزيت إذا قرب إليه سقطت فروة وجهه ) وهذا معنى قوله : ( يشوي الوجوه بئس الشراب ( ذلك لأن المقصود من الشراب إراحة الأحشاء وهذا يحرقها ويشويها ) وساءت ((4/428)
" صفحة رقم 429 "
أي النار ) مرتفقاً ( متكئاً لأهلها ومنه المفرفق لأنه يتكأ عليه. قال جار الله : هذا لمشاكلة قوله في أهل الجنة ) وحسنت مرفتقاً ( وإلا فلا ارتفاق لأهل النار إلا أن يقال : معنى ارتفق أنه نصب مرفقه ودعم به خده كعادة المغتمين. وقال قائلون : إن الشياطين رفقاء أهل النار من الإنس والمعنى ساءت النار مجتمعاً لأولئك الرفقاء. ثم شرع في وعد المؤمنين فقال : ( إن الذين آمنوا ( الآية فإن جعلت ) إنا لا نضيّع ( اعتراضاً فظاهر وإن جعلته خبراً و ) أولئك ( خبراً آخر أو كلاماً مستأنفاً للأجر أو بياناً لمبهم فمعنى العموم في ) من أحسن ( يقوم مقام الراطب المحذوف والتقدير ) من أحسن عملاً ( منهم. وتفسير جنات عدن قد مر في سورتي ( التوبة ) و ( الرعد ). ولأهل الجنة لباسان : لباس التحلي والباس الستر. ولم يسم فاعل ) يحلون ( للتعظيم وهو الله جل وعلا ، أو الملائكة بإن. و ( من ) في ) من أساور ( للابتداء وفي ) من ذهب ( للتبيين. وتنكير أساور لإبهام أمرها في الحسن ، وأساور أهل الجنة بعضها ذهب لهذه الآية ، وبعضها فضة لقوله : ( وحلوا أساور من فضة ) [ الدهر : 21 ] وبعضها لؤلؤ لقوله في الحج ) ولؤلؤاً ) [ الحج : 23 ] وجمع في لباس الستر بين السندس - وهو مارق من الديباج - وبين الاستبرق - وهو الغليظ منه - جمعاً بين النوعين والاستبرق عند بعضهم معرب استبره. قيل : إنما لم يسم فاعل ) يحلون ( إشارة إلى أن الحلي تفضل الله بها عليهم كرماً وجوداً ونسب اللبس إليهم تنبيهاً على أنه استوجبوه بعملهم ، ثم وصفهم بهيئة المتنعمين والملوك من الاتكاء على أسرتهم. والأرئك جمع أريكة وهو السرير المزين بالحجلة ، أما السرير وحده فلا يسمى أريكة. ثم إن الكفار كانوا يفتخرون بخدمهم وحشمهم وأموالهم وأصناف تمتعاتهم على الفقراء المؤمنين فضر بالله مثلاً للطائفتين تنبيهاً على أن متاع الدنيا لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الغني فقيراً والفقير غنياً غنما الفخر بالأعمال الصالحات. والمراد مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين وكانا أخوين من بني إسرائيل أحدهما كافر - اسمه فطروس - والآخر مؤمن - اسمه يهوذا - وقيل : هما المذكوران في سورة ( والصافات ) في قوله : ( قال قائل منهم أنى كان لي قرين ) [ الصافات : 51 ] ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراهما ، فاشترى الكافر أرضاً بألف فقال المؤمن : اللَّهم إن أخي اشترى أرضاً بألف دينار وأنا أشتري منك أرضاً في الجنة بألف فتصدق به. ثم بنى أخوه داراً بألف فقال : اللَّهم إن أخي بنى داراً بألف وإني أشتري منك داراً في الجنة بألف فتصدق به. ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال : اللَّهم إني جعلت ألفاً صداقاً للحور. ثم اشترى أخوه خدماً ومتاعاً بألف فقال : اللَّهم إشتريت منك الولدان المخلدين بألف فتصدق به. ثم أصابته(4/429)
" صفحة رقم 430 "
حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده وبخسه على التصدق بماله. وقيل : هما مثل لأخوين من بني مخزوم مؤمن وهو عبد الله بن الأشد زوج أم سلمة قبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكافر وهو الأسود بن عبد الأشد. أما قوله : ( وحففناهما بنخل ( فقال صاحب الكشاف : إنه يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء ومعناه جعلنا النخيل محيطاً بالجنتين وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار ولا سيما المثمرة منها وخاصة النخيل إذا أمكن. ) وجعلنا بينهما زرعاً ( فهما جامعتان للأقوات والفواكه. وفيه أنهما مع سعة أطرافهما وتباعد أكنافهما لم يتوسطهما بقعة معطلة ، وفيه أنهما أتاني كل وقت بمنعفة أخرى متواصلة متشابكة وكل منهما منعوتة بوفاء الثمار لتمام الأكل. ) وآتت ( محمول على لفظ ) كلتا ( لأن لفظه مفرد. ولو قيل : ( أتتا ). على المعنى لجاز. والظلم أصله النقصان وهو المراد ههنا. ) فجرنا ( من ق ) أ بالتخفيف فظاهر لأنه نهر واحد ، ومن قرأ بالتشديد فللمبالغة لأن النهر ممتد في وسطهما فهو كالأنهار ) وكان له ثمر ( قال الكسائي : الثمرة اسم الواحد والثمر جمع وجمعه ثمار ثم ثمر ككتاب وكتب بالكحركة أو بالسكون. وذكر أهل اللغة أن الثمر بالضم أنواع الأموال من الذهب والفضة وغيرهما ، والثمر بالفتح حمل الشجر. وقال قطرب : كان أبو عمرو بن العلاء يقول : الثمر المال والولد أي كان يملك مع الجنتين أشياء من النقود وغيرها وكان متمكناً من عمارة الأرض ومن سائر التمتعات كيف شاء. والمحاورة مراجعة الكلام من حار إذا رجع. والنفر الأنصار والحشم الذين يقومون بالذب عنه. وقيل : الأولاد الذكور لأنهم ينفرون معه دون الإناث. ثم إن الكافر كأنه أخذ بيد المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويفاخره بما ملك من المال دونه وذلك قوله سبحانه ) ودخل جنته ( فقال جار الله : معنى أفراد الجنة بعد التثنية أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون ، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا واحدة منهما أو جعل مجموع الجنتين في حكم جنة واحدة منهما يؤيده توحيد الضمير على أكثر القراآت في قوله : ( لأجدن خيراً منها ( وإنما وصفه بقوله : ( وهو ظالم لنفسه ( لأنه لما اغتر بتلك النعم لولم يجعلها وسيلة إلى الإيمان بالله والاعتراف بالعبث وسائر أن يستدل بها على أحوال النشور كقوله عز من قائل : ( وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ) [ الحج : 5 ] عكس الكافر القضيتين زعم دوام جنته التي هي بصدد الزوال قائلاً ) ما أظن أن تبيد ( أي تهلك ) هذه ( الجنة(4/430)
" صفحة رقم 431 "
) أبداً ( وذلك لطول أمله واستيلاء الحرص عليه واغتراره بالمهلة حتى أنكر المحسوس وادعى غلبة الظن بامتناع النشور مع قيام الدلائل العقلية والحسية على إمكانه ووجود الدلائل الشرعية على وجوبه قائلاً ) وما أظن الساعة قائمة ( ثم أقسم على أنه إن رد إلى ره فرضاً وتقديراً وكما يزعم صاحبه أن له رباً وأنه سيرد إليه وجد خيراً من جنته في الدنيا كأنه قاس الغائب على الشاهد أو ادعى أن النعم الدنيوية لن تكون استدراجية أصلاً وإنما تكون استحقاقاً وكرامة. ) منقلباً ( نصب على التمييز أي مرجع تلك وعاقبتها لكونها باقية بزعمكم خير من هذه لكونها فانية حساً أو في اعتقادكم. قال بعض العلماء : الرد يتضمن كراهة المردود إليه فلهذا قال : ( ولئن رددت ( أي عن جنتي هذه التي أظن أن لا تبيد أبداً إلى ربي ، ولما لم يبق مثل هذا المعنى في ( حم ) قال هناك : ( ولئن رجعت إلى ربي ) [ فصلت : 50 ] ، قوله : ( أكفرت ( زعم الجمهور أن أخاه إنما حكم بكفره لأنه أنكر البعث. وأقول : يحتمل أن يكون كافراً بالله أيضاً بل مشركاً لقوله بعد ذلك : ( يا ليتني لم أشرك بربي أحداً ( ولقول أخيه معرضاً به ) لكنا هو الله ربي ( وليس في قوله : ( ولئن رددت إلى ربي ( دلالة على أنه كان عارفاً بربه لاحتمال أن يكون قد قال ذلك بزعم صاحبه كما أشرنا إليه. وقوله : ( خلقك من تراب ( أي خلق أصلك وهو أشارة إلى مادته البعيدة. وقوله : ( من نطفة ( أشارة إلى مادته القريبة. ومعنى ) سوّاك رجلاً ( عدلك وكلك حال كونك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال المكلفين ويجوز أن يكون ) رجلاً ( تمييزاً. ولعل السر في تخصيص الله سبحانه في هذا المقام بهذا الوصف هو أن يكون دليلاً على وجود الصانع أولاً ، لأن الاستدلال على هذا المطلوب بخلق الإنسان أقرب الاستدلالات ، وفيه أيضاً إشارة إلى إمكان البعث لأن الذي قدر على الإبداء أقدر على الإعادة ، وفيه أنه خلقه فقيراً لا غنياً علم منه أنه خلقه للعبودية والإقرار لا للفخر والإنكار ، ثم استدرك لقوله ) أكفرت ( كأنه قال لأخيه : أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد. وأصل ) لكنا ( ( لكن أنا ) حذفت الهمزة بعد إلقاء حركتها على ما قبلها ، ثم استثقل اجتماع النونين فسكنت الأولى وأدغمت في الثانية وضمير الغائب للشأن ، والجملة بعده خبر للشأن ، والمجموع خبر ( أنا ) والراجع ياء الضمي وتقدير الكلام : لكن أنا الشأن الله ربي. قال أهل العربية : إثبات ألف ( أنا ) في الوصل ضعيف ، ولكن قراءة ابن عامر قوية بناء على أن الألف كالعوض عن حذف الهمزة ) ولولا ( للتخفيض وفعله. قلت : ( وإذ دخلت ( ظرف وقع في البين توسعاً. وقوله : ( ما شاء الله ( خبر مبتدأ محذوف أو جملة شرطية محذوفة الجزاء تقدير الكلام الأمر ما شاء الله أو أي شيء شاء الله كان. استدل أهل السنة بالآية في أنه لا يدخل في الوجود شيء إلا بأمر الله ومشيئته. وأجاب الكعبي(4/431)
" صفحة رقم 432 "
بأن المراد ما شاء الله مما تولى فعله لا ما هو من فعل العباد. والجواب أن هذا التقدير مما يخرج الكلام عن الفائدة فإنه كقول القائل ( السماء فوقنا ). وأجبا القفال بأنه أراد ما شاء الله من عمارة هذا البستان ويؤيده قوله ) لا قولة إلا بالله ( أي ما قويت به على عمارته وتدبير أمره فهو بمعونة الله ، وزيف بأنه تخصيص للظاهر من غير دليل على أن عمارة لك البستان لعلها حصلت بالظلم والعدوان ، فالتحقيق أنه لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله وإقداره. عن عروه بن الزبير أنه كان يثلم حائطه أيام الرطب فيدخل من يشاء ، وكان إذا دخله ردد هذه الآية حتى يخرج. ثم لما علمه الإيمان وتفويض الأمر إلى مشيئة الله أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال : ( إن ترن أنا أقل ( ف ( أنا ) فصل و ) أقل ( مفعول ثان ) مالاً وولداً ( نصب على التمييز ) فعسى ربي أن يؤتيني ( في الدنيا أو في الآخرة جنة ) خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً ( هو مصدر كالغفران بمعنى الحساب أي مقداراً وقع في حساب الله وهو الحكم بتخريبها. وعن الزجاج : عذاب حسبان وهو حساب ما كسبت يداك. وقيل : هو جمع حسبانة وهو السهم القصير يعني الصواعق. ) فتصبح صعيداً زلقاً ( أرضاً بيضاء يزلق عليها زلقأ لملاستها. وزلقاً وغوراً كلاهما بالمصدر كقولهم ( فلان زور صوم ). ثم أخبر سبحانه عن تحقيق ما قدر المؤمن فقال : ( وأحيط بثمره ( وهو عبارة عن أهلاكه وإفنائه بالكلية من إحاطة العدوّ بالشخص كقوله : ( إلا أن يحاط بكم ) [ يوسف : 66 ] ، ) فأصبح يقلب كفيه ( أي يندم ) على ما أنفق فيها ( لأن النادم يفعل كذلك غالباً كما قد يعض أنامله. ) وهي خاوية على عروشها ( أي سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم وقد مر في البقرة في قصة عزير. وقوله : ( يا ليتني لم أشرك ( تذكر لموعظة أخيه وفيه دلالة ظاهرة على ما قلنا من أنه كان غير عارف بالله بل كان عابد صنم ، ومن ذهب إلى أنه جعل كافراً لإنكاره البعث فسره بأن الكافر لما اغتر بكثرة الأموال والأولاد فكانه أثبت لله شريكاً في إعطاء العز والغنى ، أو أنه لما عجز الله عن البعث فقد جعله مساوياً لخلقه في هذا الباب وهو نوع من الإشراك. وليس هذا الكلام منه ندماً على الشرك ورغبة في التوحيد المحض ولكنه رغب في الإيمان رغبة في جنته وطمعاً في دوام ذلك عليه ، فلهذا لم يصر ندمه مقبولاً ووصفه بعد ذلك بقوله : ( ولم يكن له فئة ( طائفة ) ينصرونه من دون الله ( لأنه وحده قادر على نصرة العباد. ) وما كان منتصراً ( ممتنعاً بقوته عن انتقام الله. ولما علم من قصة الرجلين أن النصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر علم أن الأمر هكذا يكون في حق كل مؤمن وكافر فقيل ) هنالك ( أي في مثل ذلك الوقت والمقام والولاية الحق لله أو ) الولاية لله الحق ((4/432)
" صفحة رقم 433 "
والولاية بالفتح النصرة والتولي ، وبالكسر السلطان والملك ، أو المراد في مثل تلك الحالة الشديدة يتوب إلى الله ويلتجىء إليه كل مضطر يعني أن قول الكافر ) يا ليتني ( إنما صدر عنه إلجاءً واضطراراً وجزعاً ومما دهاه من شؤم كفره ولولا ذلك لم يقلها. وقيل : ( هنالك ( إِارة إلى الآخرة كقوله ) لمن الملك اليوم لله ) [ غافر : 16 ] ( عقباً ( بضم القاف وسكونها بمعنى العاقبة لأن من عمل لوجه الله لم يخسر قط. ثم ضرب مثلاً آخر لجبابرة قريش فقال ) واضرب لهم ( الآية. وقد مر مثله في أوائل ( يونس ) ) إنما مثل الحياة الدنيا كماء ( ومعنى ) فاختلط به ( التف بسببه. وقيل : معناه روى النبات ورف لاختلاط الماء به وذلك لأن الاختلاط يكون من الجانبيين. والهشيم منا تهشم وتحطم ، والذر والتطيير والإذهاب. تقول : ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه ذرواً وذرياً. ) وكان الله على كل شيء مقتدراً ( من تكونيه أوّلاً وتنميته وسطاً وإذهابه آخراً. ولا ريب أن أحوال الدنيا أيضاً كذلك تظهر أولاً في غاية الحسن والنضارة ، ثم تتزايد إلى أن تتكامل ، ثم تنتهي إلى الزوال والفناء ، ومثل هذا ليس للعاقل أن يبتهج به. وحين مهد القاعدة الكلية خصصها بصورة جزئية فقال : ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات ( هي أعمال الخير التي تبقى ثمرتها ) خير عند ربك ثواباً ( أي تعلق ثواب وخير أملاً لأن الجواد المطلق أفضل مسؤول وأكرم مأمول. وقيل : هن الصلوات الخمس. وقيل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ففي التسبيح تنزيه له عن كل مالاً ينبغي ، وفي الحمد إقرار له بكونه مبدأ لإفادة كل ما ينبغي ، وفي التهليل اعتراف بأنه لا شيء في الإمكان متصفاً بالوصين إلا هو ، وفي التكبير إذعان لغاية عظمته وأنه أجلّ من أن يعظم. وقيل : الطيب من لاقول. والأصح كل عمل أريد به وجه الله وحده قاله قتادة. التأويل : ( واتل ( على نفسك ) وما أوحي إليك من كتاب ( كتبه ) ربك ( في الأزل ) لا مبدل لكلماته ( إلى الأبد مع الدين ) يدعون ربهم ( وهم القلب والسر والروح والخفى في غداة الأزل إلى عشي الأبد فإنهم مجبولون على طاعة الله كما أن النفس جبلت على طاعة الهوى وطلب الدنيا. ) ولا تعد ( عينا همتك ) عنهم ( فإنك إن لم تراقب أحوالهم تصرف فيهم النفس الأمارة ) ولا تطع من إغفلنا ( يعني : النفس ناراً هي نار القهر والغضب ) أحاط بهم سرادقها ( يعني سرادق العزة ) بماء كالمهل ( كل ما هو لأهل اللطف أسباب لسهولة العيش وفراغ البال فإنه سبحانه جعل لأهل القهر سبباً لصعوبة الأمر وشدة التعلق حتى شوت الوجوه أي أحرقت مواد التفاتهم إلى عالم الأرواح ، وفسدت استعداداتهم(4/433)
" صفحة رقم 434 "
فبقوا في أسفل سافلين الطبيعة ) يحلون فيها من أساور ( والتحلية بالأساورة إشارة إلى ظهور آثار الملكات عليه وقوله : ( من ذهب ( رمز إلى أنها ملكات مستحسنة معتدلة راسخة ) يلبسون ثياباً ( فيه أن أنوار العبادات تلةح عليهم تشتمل بهم. وقوله : ( خضراً ( إشارة إلى أنها أنوار غير قاهرة و ) من سندس ( إشارة إلى ما لطف من الرياضيات ) واستبرق ( إلى ما شق منها ) متكئين فيها على الأرئك ( لأنهم فرغوا بها وكلفوا وقضوا ما عليهم من المجاهدات وبقي ما لهم من المشاهدات ) مثلاً رجلين ( هما النفس الكافرة والقلب المؤمن. ) جعلنا لأحدهما ( وهو النفس ) جنتين ( هما الهوى والدنيا ) من أعناب ( الشهوات ) وحففناهما بنخل ( حب الرياسة ) وجعلنا بينهما زرعاً ( من التمتعات البهيمية ) وفجرنا خلالهما نهراًؤ من القوى البشرية والحواس. ) وكان له ثمر ( من أنواع الشهوات ) وهو يحاوره ( يجاذب النفس والقلب ) أنا أكثر منك مالاً ( أي ميلاً ) وأعز نفراً ( من أوصاف المذمومات ) وهو ظالم لنفسه ( في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق الهوى ) لأجدن خيراً منها ( لأنه غر بالله وكرمه فلا جرم يقال له ما غرك بربك الكريم ، هلا قلت ) ما شاءالله ( أي أتصرف في جنة الدنيا كما شاء الله ) على ما أنفق فيها ( من العمر وحسن الاستعداد ) كما أنزلناه ( هو الروح العلوي الذي نزل إلى أرض الجسد ) فاختلط ( الروح بالأخلاق الذميمة ) فأصبح هشيماً ( تلاشت منه نداوة الأخلاق الروحانية ) تذروه ( رياح الأهوية المختلفة فيكون حاله خلاف روح أدركته العناية الأزلية فبعث إليه دهقان من أهل الكمال فرباه بماء العلم والعمل حتى يصير شرة طيبة. ) والباقيات الصالحات ( أي ما فني منك وبقي بربك والله أعلم بالصواب. ( الكهف : ( 47 - 59 ) ويوم نسير الجبال . . . .
" ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا وما منع الناس أن يؤمنوا(4/434)
" صفحة رقم 435 "
إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا "
( القراآت )
تسير الجبال ( على بناء الفعل للمفعول ورفع الجبال : ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو. الآخرون على بناء الفعل للفاعل ونصب الجبال. ما أشهدناهم يزيد. الآخرون ) ما أشهدتهم ( ) وما كنت ( على الخطاب روى ابن وردان عن يزيد. الباقون على التكلم ) ويوم نقول ( بالنون : حمزة الباقون على الغيبة ) قبلاً ( بضمتين : عاصم وحمزة الكسائي. الباقون بكسر القاف وفتح الباء. ) لمهلكهم ( بفتح الميم وكسر اللام : حفص ) لمهلكهم ( بفتحهما ، يحيى وحما والمفضل. الباقون بمض الميم وفتح اللام. الوقوف : ( بارزة ( لا لأن التقدير وقد حشرناهم قبل ذلك ) أحداً ( ه ج للآية مع العطف ) صفاً ( ط للعدول والحذف أي يقال لهم لقد جئتمونا ) أول مرة ( ز لأن ( بل ) قد يبتدأ به مع أن الكلام متحد ) موعداً ( ه ) أحصاها ( ج لاستئناف الواو بعد تمام الاستفهام مع احتمال الحال بإضمار ( قد ) ) حاضراً ( ه ط ) أحداً ( ه ) إلا إبليس ( ط ) أمر ربه ( ط ) جدلاً ( ه ) قبلاً ( ه ) ومنذرين ( ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف ) هزواً ( ه ) يداه ( ط ) وقراً ( ، ط لاختلفا الجملتين مع ابتداء الشرط ) أبداً ( ه ) الرحمة ( ط ) العذاب ( ط ) موئلاً ( ه ) موعداً (. التفسير : لما بين خساسة الدنيا وشرف الآخرة أردفه بأحوال يوم القيامة وأهواله ، وفيه رد على أغنياء المشركين الذي افتخروا بكثرة الأموال والأولاد على فقراء المسلمين والتقدير : واذكر يوم ذكا عطفاً على وأضرب. ويجوز أن ينتصب بالقول المضمر قبل ) ولقد جئتمونا ( وفاعل التسيير هو الله تعالى إلا أنه سمي على إحدى القراءتين ولم يسم في الأخرى ، فتسييرها إما إلى العدم لقوله : ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسئاً ) [ طه : 105 ] ، ) وبست الجبال بساً ، فكانت هباء منبثاً ) [ الواقعة : 5 ، 6 ] وإما إلى(4/435)
" صفحة رقم 436 "
موضع لا يعلمه إلا الله ) وترى الأرض بارزة ( لأنه لا يبقى على وجهها شيء سترها من العمارات ولا من الجبال والأشجار ، وإما لأنها أبرزت ما في بطنها من الأموات لقوله : ( وألقت ما فيها وتخلت ) [ الانشقاق : 4 ] فيكون الإسناد مجازياً أي بارزاً ما في جوفها ) وحشرناهم ( الضمير للخلائق المعلوم حكماً ) فلم نغادر منهم أحدا ( من الأوّلين والآخرين. يقال : غادره وأغدره إذا تركه والترك غير لائق ومنه الغدر ترك الوفاء. والغدير ما غادره السيل لأن اللائق بحال السيل أن يذهب بالماء كله. ولا يخفى أن اللائق بحال رب العزة أن لا يترك أحاً من خلقه غير محشور وإلا كان قدحاً في عمله وحكمته وقدرته. قالت المشبهة : في قوله : ( وعرضوا على ربك ( دليل على أنه سبحانه في مكان يمكن أن يعرض عليه أهل القيامة وكذلك في قوله : ( لقد جئتمونا ( وأجيب بأنه تعالى شبه وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم بالعرض عليه وبالمجيء إلى حكمه كما يعرض الجند على السلطان. وانتصب ) صفاً ( على الحال أي مصطفين ظاهرين ترى جماعاتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحداً أحداً. والصف إما واحد وإما جمع كقوله ) يخرجكم طفلاً ) [ غافر : 67 ] أي أطفالاً. وقيل : صفاً أي قياماً وبه فسر قوله : ( فاذكروا اسم الله عليها صواف ) [ الحج : 36 ]. وقال القفال : يشبه أن يكون الصف راجعاً إلى الظهور والبروز ومنه الصفصف للصحراء وهذا قريب من الأول. وقد مر في ( الأنعام ) أن وجه التشبيه في قوله ) خلقناكم ( أنم يبعثون عراةلا شيء معهم ، أو المراد بعثناكم كما أنشأناكم وزعمهم أن لن يجعل الله لهم موعداً. أي وقتاً لإنجاز ما وعدوا على ألسنة الأنبياء إما أن يكون حقيقة وإما لأن أفعالهم تشبه فعل من يزعم ذلك. ) ووضع الكتاب ( أي جنسه وهو صحف الأعمال. والوضع إما حسي وهو أن يوضع كتاب كل إنسان في يده إما في اليمين أو في الشمال ، وإما عقلي ومعناه النشر والاعتبار. ) فترى المجرمين مشفقين ( خائفين مما في الكتاب لأن الخائن خائف خوف العقاب وخوف الافتضاح. ومعنى النداء في ) يا وويلتنا ( قد مر في ( المائدة ) في ) يا ويلتي أعجزت ) [ الآية : 31 ] وقوله : ( صغيرة ولا كبيرة ( صفتان للهيئة أو المعصية أو الفعلة وهي عبارة عن الإحاطة وضبط كل ما صدر عنهم ، لأن الأشياء إما صغار وإما كبار ، فإذا حصر الصنفين فقد حصر الكل. وعن الفضيل : ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر. قلت : وذلك أن تلك الصغائر هي التي جرأتهم على الكبائر. وعن ابن عباس : الصغير التبسم والكبيرة القهقهة. وعن سعيد بن جبير : الصغيرة المسيس والكبيرة الزنا. وجوّز في الكشاف أن يريد ما كان عندهم صغائر وكبائر. وتمام البحث في المسألة أسلفناه في أوائل سورة النساء في تفسير قوله : ( أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) [ النساء : 31 ] فتذكر ) ووجدوا ما عملوا حاضراً ( في(4/436)
" صفحة رقم 437 "
الصحف مثبتاً فيها أو وجدوا أجزاء ما عملو ظاهراً على صفحات أحوالهم ) ولا يظلم ربك أحداً ( استدل الجبائي بهعلى بطلان مذهب الأشاعرة في أن الأطفار يجوز أن تعذب بذنوب آبائهم فإن ذلك ظلم. والجواب أن الظلم إنما يتصوّر في حق من تصرف في غير ملكه قالوا : لو ثبت أن له بحكم المالكية أن يفعل ما يشاء من غير اعتراض عليه لم يكن لهذا الإخبار فائدة. وأجيب بأن تلك القضية بعد الدلائل العقلية علمت من مثل هذه الآية. عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يحاسب الناس في القيامة على ثلاثة : يوسف وأيوب وسليمان يدعو المملوك فيقول له : ما شغلك عني ؟ فيقول جعلتني عبد الآدمي فلم تفرغني فيدعو يوسف فيقول : كان هذا عبداً مثلك ثم يمنعه ذلك أن عبدني فيؤمر به إلى النار. ثم يدعى بالمبتلى فإذا قال : أشغلتني بالبلاء دعا بأيوب فيقول : قد ابتليت هذابأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي ويؤمر به إلى النار ، ثم يؤتى بالملك في الدنيا مع آتاه الله من الغنى والسعة فيقول : ماذا عملت فيما تيتك فيقول : شغلني الملك عن ذلك فيدعى بسليمان فيقول : هذا عبدي سليمان آتيته أكثر مما أتيتك فلم يشغله ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك فيؤمر به إلى النار ) ثم إنه سبحانه عاد على أرباب الخيلاء من قريش فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه. قال جار الله : قوله : ( كان من الجن ( كلام متسأنف جار مجرى التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلاً قال : ما له يسجد فقيل : ( كان من الجن ففسق ( والفاء للتسبيب أي كونه من الجن سبب في فسقعه ولو كان ملكاً لم يفسق لثبوت عصمة الملائكة. وقال آخرون : اشتقاق الجن من الاستتار عن العيون فيشمل الملائكة والنوع المسمى بالجن. ثم من لم يوجب عصمة الملك فظاهر ، ومن أوجب قال : ( كان ) بمعنى ( صار ) أي مسخ عن حقيقة الملائكة إلى حقيقة الجن ، وقد سلف هذا البحث بتمامه في أول سوة البقرة. ومعنى ) فسق عن أمر ربه ( خرج عن طاعته. وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه أنه لما أمر فعصى كان سبب فسقه هو ذلك الأمر ولولا ذلك الأمر الشاق لما حصل ذلك الفسق فلهذا حسن أن يقال : ( فسق عن أمر ربه (. وقال قطرب : هو على حذف المضاف أي فسق عن ترك أمره. ثم عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر. والمعاصي وخالق أمر الله فقال : ( أفتتخذونه ( كأنه قيل أعقيب ما وجد منه من إلا باء والفسق تتخذونه ) وذريته أولياء من دوني ( وتستبدلونهم بي وقصة آدم وإبليس سمعها قريش من أهل الكتاب وعرفوا صحتها فلذلك صح الاحتجاج بها عليهم وإن لم يعتقدوا كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نبياً ) بئس للظالمين بدلاً ( أي بئس البدل من الله. إبليس لمن استبدل به فأطاعه بدل طاعته. قال الجبائي. في الآية دلالة على أنه لا يريد الكفر ولا يخلقه في العبد وإلا لم يصح هذا الذم(4/437)
" صفحة رقم 438 "
والتوبيخ ، وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً. قال أهل التحقيق : إن الداعي لكفار قريش إلى ترك دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هو النخوة والعب ولترفع والتبكر ، وهذا شأن إبليس ومن تابعه. فكل غرضه من العلم أو العمل الفخر على الأقران والترفع على أبناء الزمان فإنه مقتدٍ بإبليس وذريته وهذا مقام صعب نسأل الله الخلاص منه. ثم دل على فساد عقيدة أهل الشرك وبطلان طريقتهم بقوله : ( ما أشهدتهم ( فالأكثرون على أن الضمير للشركاء والمراد أنهم لو كانوا شركاء لي في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم يعني لو كان بعضهم شاهدين خلق بعض مشاركين لي فيه كقوله : ( ولا تقتلوا أنفسكم ( لأمكن أن يكونوا شركاء لي في العبادة لكن الملزوم المساوي منتف فاللازم مثله يؤيد هذا التفسير قوله : ( وما كنت متخذ المضلين ( أي متخذهم ) عضداً ( أعواناً فوضع المضلين موضع الضمير نعياً عليهم بالإضلال. وقيل : الضمير للمشركين الذي التمسوا طرد فقراء المؤمنين ، والمراد أنهم ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة ، بل هم قوم كسائر الخلق نظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له : لست سلطان البلد ولا مدبر المملكة حتى تقبل منك كل اقتراحاتك. وقيل : أراد أن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة وضدّها لأنهم لم يكونوا شاهدين خلق العالم ، فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله وبشرفهم ورفعتهم عند الخلق وبأضداد هذه الأحوال للفقراء. ومن قرأ ) وما كنت ( بفتح التاء فالخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم وما ينبغي لك أن تغترّ بهم ، ثم عاد إلى تهويلهم بأحول يوم القيامة وأضاف الشركاء إلى نفسه على معتقدهم توبيخاً لهم وفحوى الكلام : اذكر يا محمد أحوالهم وأحوال آلهتهم يوم القيامة إذ ) يقول ( الله لهم ) نادوا ( أي ادعوا من زعمتم أنهم ) شركائي ( فأهلتموهم للعبادة. قال المفسرون : أراد الجن ) فدعوهم ( لم يذكر في هذه الآية أنهم كيف دعوا تلك الشركاء ولعل المراد بما في الآية الأخرى ) إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا ) [ إبراهيم : 21 ] ( فلم يستجيبوا لهم ( ولم يدفعوا عنهم ضرراً ) وجعلنا بينهم موبقاً ( عن الحسن ) موبقاً ( عداوة والمعنى عداوة هي في شدتها الهلاك كقولهم ( لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفا ). وقال الفراء : البين الواصل والمراد جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكاً يوم القيامة. وفي الكشاف : الموبق المهلك وهو مصدر كالمورد أي جعلنا بينهم وادياً من أودية جهنم مشتركاً هو مكان الهلاك والعذاب الشديد يهلكون فيه جميعاً. وجوز أن يريد بالشركاء(4/438)
" صفحة رقم 439 "
الملائكة وعزيراً وعيسى ومريم. وبالموبق البرزخ أي وجعلنا بينهم أمداً بعيداً يهلك فيه السائرون لفرط بعده لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان. قوله : ( فظنوا ( قيل : علموا وأيقنوا : والأقرب أن الكفار يرون النار نم مكان بعيد فيغلب على ظنونهم أنهم مخالطوها واقعون فيها في تلك الساعة من غير تأخير ولا مهلة لشدة ما يسمعون من تغيظها نظيره ) إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً ) [ الفرقان : 12 ] ( ولم يجدوا عنها مصرفاً ( أي معدلاً إلى غيرها لأن الملائكة يسوقونهم إليها آخر الأمر. ولما ذكر أن الكفرة افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم ومتصرفاتهم وأجاب عن شبههم وأقوالهم الفاسدة وضرب الأمثال النافعة وحكى أهوال الآخرة قال : ( ولقد صرفنا ( وقد مر تفسيره في السورة المتقدمة. وحين لم يترك الكفار جدالهم وكانوا أبداً يتعللون بالأعذار الواهية ختم الآية بقوله : ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً ( يعني أن الأشياء التي يتأتى منها الجدل ان فصلتها واحداً بعد واحد فإن الإنسان أكثرها خصوة فقوله : ( أكثر شيء ( كقوله ) أول مرة ( وقد مر في ( الأنعام ). وكثرة جدل الإنسان لسعة مضطربه فيما بين أوج الملكية إلى حضيض البهيمية ، فليس له في جانبي التصاعد والتسافل مقام معلوم. قال أهل البرهان : قوله تعالى في سورة ( بني إسرائيل ) : ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ) [ الاسراء : 94 ] وقال في هذه السورة بزيادة ) ويستغفروا ربهم ( لأن المعنى هناك ما منعهم عن الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلا قولهم : ( أبعث الله بشراً رسولاً ، هلا بعث ملكاً ) وجهلوا أن التجانس يورث التوانس. ومعناه في هذا الموضع ما منعهم من الإيمان والاستغفار ) استغفروا ربكم إنه كان غفاراً ) [ نوح : 10 ] وكذا قوم هود ) ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) [ هود : 52 ] وقوم صالح ) فاسغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ) [ هود : 62 ] وقوم شعيب ) واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود ) [ هود : 90 ] فلما خوفهم سنة الأوّلين أجرى المخاطبين مجراهم. والحاصل أنهم لا يقدمون على الإيمان والاستغفار إلا عند نزول عذاب الاستئصال أو عند تواصل أصناف البلاء عياناً. ومن قرأ بضمتين أراد أنواعاً جميع قبيل. قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أنه لا مانع من الإيمان أصلاً. وقالت الأشاعرة : العلم بأنه لا يؤمن والداعي الذي يخلقه الله في الكافر يمنعانه ، فالمراد فقدان الموانع المحسوسة. ثم بين أنه إنما أرسل الرسل مبشرين بالثواب على الطاعة ومنذرين بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعاً وبين أن مع(4/439)
" صفحة رقم 440 "
هذه الأحوال ) يجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا ( ويزيلوا ويبطلوا ) به الحق ( من إدحاض القدم وهو إزلاقها ) واتخذوا آياتي وما أنذروا ( أي الذي أنذروا من العقاب أو إنذارهم ) هزوا ( موضع استهزاء. قال جار الله : جدالهم قولهم للرسل ) ما أنتم إلا بشر مثلنا ) [ يس : 15 ] ( ولو شاء الله لأنزل ملائكة ) [ المؤمنون : 24 ] وما أشبه ذلك. قال أهل العرفان : قوله : ( ومن أظلم ممن بآيات ربه ( أي بالقرآن بدليل قوله : ( أن يفقهوه ( وبتذكير الضمير. ) فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ( من الكفر والمعاصي فلم يتفكرون في عاقبتها ولم يتدبروا في جزائها متمسك القدرية. وإنما قال أهل الفرفان : قوله : ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ( أي بالقرآن بدليل قوله : ( أن يفقهوه ( وبتذكير الضمير. ) فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ( من الكفر والمعاصي فلم يتفكروا في عاقبتها ولم يتدبروا في جزائها متمسك القدرية. وإنما قال في السجدة ) ثم أعرض عنها ) [ الآية : 22 ] لأن ما في هذه السورة في الكفار الأحياء الذين إيمانهم متوقع بعد ، أي ذكروا فأعرضوا عقب ذلك. وما في السجدة في الكفار الأموات بدليل قوله : ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم ) [ السجدة : 12 ] أي ذكروا مرة بعد أخرى وزماناً بعد زمان ثم أعرضوا عنها بالموت فلم يؤمنوا وانقطع رجاء إيمانهم. وقوله ( إنا جعلنا ( وقد مر تفسيره في ( الأنعام ) إلى قوله : ( فلن يهتدوا إذا أبداً ( متمسك الجبرية وقلما تجد في القرآن دليلاً لأحد الفريقين إلا ومعه دليل للفريق الآخر فهذا شبه ابتلاء من الله ، ولعله أراد بذلك غظهار مغفرته. ورحمته على عباده كما قال : ( وربك الغفور ذو الرحمة ( قال المفسرون الضمير في قوله : ( ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس ( والموعد القيامة ، والمئل الملجأ يقال وأل إذا نجا ، ووأل إليه إذا لجأ إليه. قال الإمام فخر الدين الرازي : إنا ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار ، والرحمة إيصال النفع ، وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول ، لأن ترك أضرار لا نهاية لها ممكن ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال. أقول : هذا فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله ذو الرحمة أيضاً لا يخلو عن مبالغة ، وكثيراً ما ورد في القرآن إنه غفور رحيم بلفظ المبالغة في الجانبين. وفي تعلق القدرة بترك غير التمناهي أيضاً نظر ، لأن مقدورات الله متناهية لا فرق في ذلك بين المبقي والمتروك. ثم أشار إلى قرى الأولين اعتباراً لغيره فقال : ( وتلك القرى ( فاسم الإشارة مبتدأ وفيه تعظيم لشأنهم أو تبعيد لزمانهم ومكانهم ، والقرى صفة وما بعده خبره ولا يخفى حذف المضاف أي وتلك أصحاب القرى ) أهلكناهم ( ويجوز أن يكون ) تلك القرى ( منصوباً بإضمار أهلكنا على شريطة التفسير. ) وجعلنا ( لزمان إهلاكهم أو لإهلاكهم أو وقت هلاكم ) موعداً ( وعداً أو وقت وعد لا يتأخرون عنه كما ضربنا(4/440)
" صفحة رقم 441 "
لأهل مكة يوم بدر ، والمراد أنا عجلنا هلاكهم ومع ذلك لم ندع أن نضرب لهوقتاً يمكنهم التوبة قبل ذلك. التأويل : ( ويوم نسير الجبال ( وهي الأبدان الجامدة عن السلوك ، وترى أرض النفوس بارزة خالية عن موانع الطريق ، وحشرنا جميع القوى البشرية ) وعرضوا على ربك صفاً ( لكل قوة ولكل جوهر رتبة تليق بها ، فالروح في صف الأرواح ، والقلب في صف القلوب ، وذا النفس وقواها. ) ولقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ( على هيئة الفطرة ، وقيل الأنبياء في صف ، والأولياء في صف ، والمؤمنون في صف ، والكافرون والمنافقون في الصف الأخير ) لا يغادر صغيرة ( هي كل تصرف في شيء بالشهوة النفسانية وإن كان من المباحات. ) ولا كبيرة ( هي التصرف في الدنيا على حبها فحب الدنيا رأس كل خطيئة ) ما أشهدتهم ( لأني لا أشهد إلا أوليائي كما قلت ) سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) [ الكهف : 53 ] ( ورأى المجرمون النار ( رأوا في الدنيا أسباب النار من الشهوات والآثام فوقعوا فيها ولم يجدوا ما يصرفهم عنها من الديانة والإيمان الحقيقي ، فإذا رأوا النار في الآخرة أيقنوا أنهم مواقعوها ) ولم يجدوا عنها مصرفاً ( كما تعيشون تموتون كما تموتون تعبثون ) وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً ( فتارة مجادل في التوحيد وأخرى في النبوة ومرة في الأصول ومرة في الفروع ، ولهذا كثرت المذاهب والأديان والملل والنحل ونسأل الصواب من ملهمه ) وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم ( أسباب الهداية ) ويستغفروا ربهم ( إن كانوا مذنبين ) إلا أن تأتيهم سنة الأولين ( من الأنبياء والأولياء والمؤمنين وهو جذبات العناية لأهل الهداية كقوله في حضرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( والله لولا الله ما اهتدينا ) ) أو ما يأتيهم العذاب قبلاً ( كقوله : ( أنا نبي السيف أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. والله أعلم. ( م ( تم الجزء الخامس عشر ، ويليه الجزء السادس عشر أوله : ( وإذ قال موسى لفتاه. .. ((4/441)
" صفحة رقم 442 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء السادس عشر من أجزاء القرآن الكريم
( الكهف : ( 60 - 82 ) وإذ قال موسى . . . .
" وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا "
( القراآت )
أنسانيه ( بضم الهاء حفص والمفضل ، وقرأ عليّ بالإمالة مع كسر الهاء : ( نبغي ( بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب ، وافق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو(4/442)
" صفحة رقم 443 "
وعلي في الوصل. الباقون بحذف الياء في الحالين اتباعاً لخط المصحف. ) رشداً ( بفتحتين : أبو عمرو ويعقوب. بضمتين : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الباقون ) رشداً ( بضم الراء وسكون الشين. ) معي ( بفتح الياء : حفص ) ستجدني إن ( بفتح الياءك أبو جعفر ونافع ) فلا تسألني ( بنون التأكيد الثقيلة وإثبات الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر. بحذف الياء : ابن مجاهد عن ابن ذكوان والأحسن إثباتها لأنه شاذ عن أهل الشام. الآخرون بنون الوقاية وحذف الياء. ) ليغرق أهلها ( بياء الغيبة وفتحها مع فتح الراء ورفع الأهل : حمزة وعلي وخلق. الباقون بتاء الخطاب مضمومة وكسر الراء من الإغراق وبنصب الأهل ) زاكية ( على ( فاعله ) : أبو عفر ونافع وابن عارم ويعقوب. الآخرون ) زكية ( على ( فعليه ) ) نكراً ( بضمتين حيث كان : أبو جعفر ونافع غير إسماعيل وبان ذكوان وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد ) فلا تصحبني ( من الصحبة : روح وزيد. الآخرون من المصاحبة. ) من لدني ( خفيفاً : أبو جعفر ونافع وأبو بكر وحماد والمضفل. ) يضيفوهما ( من الإضافة : المفضل ) لتخذت ( من التخذ مدغماً : أبو عمرو وسهل ويعقوب ، وقرأ ابن كثير بالإظهار. الباقون : ( لاتخذت ( من الاتخاذ. وقرأ حفص والمفضل والأعشى والبرجمي مظهراً ) يبدلهما ( من التبديل وكذلك في سورة التحريم ونون والقلم : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. الآخرون من الإبدال ) رحماً ( بضمتين : ابن عامر ويزيد وعباس وسهل ويعقوب. الباقون بسكون الحاء. الوقوف : ( حقباً ( ه ) سرباً ( ه ) غداءنا ( ز لانقطاع النظم مع صدق اتصال المعنى ) نصباً ( ه ) الحوت ( ز لتمام استفهام العجب مع اتحاد الكلام وكون الواو حالاً ) أن أذكره ( ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال في البحر وقفة. قيل : عليه تم كلام يوشع ثم ابتدأ موسى فقال عجباً أي أعجب لذلك عجباً والوصل أجوز أن سبيلاً عجباً أو اتخاذاً ) عجباً ( ه ) نبغ ( قف قد قيل : لتمام قول أحدهما وابتداء فعلهما والوجه الوصل لعطف اللفظ وسرعة الرجوع على الفور ) قصصاً ( ه لا لاتصال النظم واتحاد الحال ) علماً ( ه ) رشداً ( ه ) صبراً ( ه ) خبراً ( ه ) أمراً ( ه ) ذكراً ( ه ) فانطلقا ( وقفة لأن حتى إذا للابتداء ) حرقها ( ط ) أهلها ( ج لانقطاع النظم واتحاد القائل ) إمراً ( ه ) صبراً ( ه ) عسراً ( ه ) فانطلقا ( وقفة لما مر ) فقتله ( لا لأن ( قال ) جواب ( إذا ) ) لغير نفس ( ط للفصل بين الاستخبار والإخبار ) نكراً ( ه ) صبراً ( ه ) فلا تصاحبني ( ج لاختلاف الجملتين ) عذراً ( ه ) فانطلقا ( وقفة ) فأقامه ( ط ) أجراً ( ه ) وبينك ( ج ) صبراً ( ه ) غصباً ( ه ) وكفراً ( ، ج للعطف مع الآية ) رحماً ( ه ) صالحاً ( ج لما قلنا ) من ربك ( ج ) عن أمري ( ط ) صبراً ( ، لانقطاع القصة .(4/443)
" صفحة رقم 444 "
التفسير : هذه قصة أوردها الله تعالى لتعين على المقاصد السابقة مع كونها مستقلة في الإفادة ، أما نفعها في قصة أصحاب الكهف فهو أن اليهود قالوا : إن أخبركم محمد عنها فهو نبي وإلا فلا ، فذكر الله تعالى قصة موسى والخضر تنبيهاً على أن النبي لا يلزم أن يكون عالماً بجميع القصص والأخبار. وأما نفعها في الرد على كفار قريش حين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار ، فهو أن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعلو منصبه واستجمام موجبات الشرف التام في حقه ذهب إلى الخضر وتواضع له لأجل طلب العلم فدل ذلك على أن التواضع خير من التكبر. وأكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية هو موسى بن عمران صاحب التوارة والمعجزات. وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس : إن نوفاً ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران وإنما هو صاحب موسى بن ميشا بن يعقوب وهو قد كان نبياً قبل موسى بن عمران. فقال ابن عباس : كذب عدو الله. واحتج الأكثرون على صحة قولهم بأن موسى حيث أطلق في القرآن أريد به موسى بن عمران ، فلو كان المراد ههنا شخصاً آخر لوجب تعريفه بحيث يتميز عن المشهور. حجة الأقلين - وإليه ذهب جمهور اليهود - أن موسى بن عمران بعد أن خصه الله تعالى بالمعجزات الظاهرة التي لم يتفق لمن قبله مثلها ، يبعد أن يؤمر بالتعلم والاستفادة. وأجيب بأن العالم الكامل في أكثر العلوم قد يجهل بعض المسائل فيحتاج في تعلمها إلى من يختص بعلمها. أما فتى موسى فالأكثر على أنه يوشع بن نون ، ويروى هذا القول عن سعد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . وقيل : هو أخو يوشع وكان مصاحباً لموسى في السفر. وعن الحسن : إنه أراد عبده ويؤيده ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي ). قال أهل السير : إن موسى لما ظهر على مصر مع نبي إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط ، أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيباً فذكر نعمة الله فقال : إنه اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له : قد علمنا هذا فأيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله حين لم يردّ العم إلى الله ، فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبد لي بمجمع البحرين وهو الخضر ، وكان الخضر عليه السلام في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام وكان عل مقدمة ذي القرنين الأكبر. وبقي إلى أيام موسى. ويروى أن موسى سأل ربه أيّ عبادك أحب إليك ؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني. قال : فأيّ عبادك أقضى ؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال : فأي عبادك أعلم ؟ الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على الهوى أو تردّه عن ردى. فقال : إن كان في عبادك من هو أعلم منى فادللني عليه. قال : أعلم منك الخضر. قال : فأين أطلبه ؟ قال : على الساحل عند الصخرة. قال : يا رب كيف لي به ؟ قال : تأخذ(4/444)
" صفحة رقم 445 "
حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني ، فذهبا يمشيان فرقد موسى عليه السلتام فاضطرب الحوت ووقع في البحر ، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فأتيا الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى عليه السلام فقال : وأنى بأرضنا السلام فعرفه نفسه فقال : يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا. فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع في حرفها فنقر في الماء فقال الخضر : ما ينقص علمي وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر. قلت : وهذا صحيح لأن علم الإنسان متناه وعلم الله غير متناه ، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلاً. ولنرجع إلى التفسير قال الزجاج وتبعه جار الله : ( لا أبرح ( بمعنى لا أزال ، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه ولأن قوله : ( حتى أبلغ ( غاية مضروبة فلا بد لها من ذي غاية. فالمعنى لا أزال أسير إلى أن أبلغ ، وجوز أن يكون المعنى لا أبرح سيري حتى أبلغ على أن ) حتى أبلغ ( هو الخبر ، وحذف المضاف وهو السير وأقيم المضاف إليه - وهو ياء المتكلم - مقامه فانقلب الفعل من لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم وجوز أيضاً أن يكون لا أبرح ، بمعنى لا أزول من برح المكان ، والمعنى لا أبرح ما أنا عليه أي لا أترك المسير والطلب حتى أبلغ ) مجمع البحرين ( يعني ملتقى بحري فارس والروم وقد شرحنا وضع البحار في سورة البقرة في تفسير قوله : ( الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ) [ الآية : 164 ]. وقيل : أراد طنجة ، وقيل أفريقية. ومن غرائب التفسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما بحر العلم ، وهذا مغ غرابته مستبشع جداً لأن البحرين إذا كان هو موسى عليه السلام فكيف يصح أن يقول : ( حتى أبلغ مجمع البحرين ( إذ يؤل حاصل المعنى إلى قولنا حتى أبلغ مكاناً يجتمع فيه بحران من العلم أحدهما أنا ) أو أمضي حقباً ( أسير زماناً طويلاً. قال جار الله : الحقب بالضم ثمانون سنة. ويقال : أكثر من ذلك. وقيل : إنه تعالى أعلم موسى حال هذا العالم وما أعلمه بعينه فقال موسى : لا أزال أمضي حتى يجتمع البحران فيصيرا بحراً واحداً أو أمضي دهراً طويلاً حتى أجد هذا العالم ، وهذا شرف العلم وأن طلب العلم يحق له أن يسافر ، ويتحمل المتاعب في الطلب من غير ملال وكلال. ) فلما بلغا مجمع بينهما ( قال جمهور المفسرين : الضمير للبحرين أي تحقق ما موسى وبلغ المكان الذي وعد فيه لقاء الخضر. ولا بد للبين من فائدة ، ولعل المراد حيث يكاد يلتقي وسط ما امتد من البحرين طولاً. والإضافة بمعنى ( في ) أي مجمعاً في وسط البحرين فيكون كالتفصيل لمجمع البحرين ، والبيان والإيضاح بكلام علام الغيوب تعالى(4/445)
" صفحة رقم 446 "
أولى منه بكلام موسى ، أو البين بمعنى الافتراق أي البحران المفترقان يجتمعان هناك. ويحتمل على هذا أن يعود الضمير إلى موسى والخضر أي وصلا إلى الموضع الذي وعد اجتماع شملهما هناك ، أو البين بمعنى الوصل لأنه من الأضداد فيفيد مزيد التأكيد كقولهم ( جد جده ). وهذه الوجوه مما لم يأجدها في التفاسير ، فإن كان صواباً فمن الله وإلا فمني ومن الشيطان ) نسيا حوتهما ( لأنه تعالى جعل انقلاب الحوت حياً علامة على مسكن الخضر قيل : إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملوحة فطفرت وسارت. وقيل : إن يوشع توضأ في ذلك المكان فانتضح الماء على الحوت المالح فعاش ووثب إلى الماء. وقيل : انفجرت هناك عين من الجنة ووصلت قطرات من تلك العين إلى السمكة فحييت وطفرت إلى البحر. ونسان الحوت للذهول عن الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب ، والسبب في هذا الذهول مع أن هذه الحالة كانت أمارة لهما على اللبة التي تناهضا من أجلها ، هو يوشع كان قد تعود مشاهدة المعجزات الباهرة فلم يبق لحياة السمكة ولقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب منه وقع عنده. وقيل : إن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الذي يشبه الضروري تنبيهاً لموسى عليه السلام ، على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله وحفظه على قلوب عباده. وانتصابه قوله : ( سرباً ( على أنه مفعول ثانٍ لاتخذ أي اتخذ سبيله سبيلاً سرياً وهو بيت في الأرض ، وذلك أن الله تعالى أمسك إجراء الماء عن الحوت وجعله كالكوة حتى سرى الحوتفيه معجزة لموسى عليه السلام وللخضر. وقيلك السرب هو الذهاب والتقدير سرب في البحر سرباً إلا أنه أقيم قوله : ( واتخذ سبيله ( مقام ( سرب ) ) فلما جاوزا ( أي موسى وفتاه الموعد المعين وهو الصخرة ) قال موسى فتاه آتنا غداءنا ( وهو ما يؤكل بالغداة ) لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً ( تعباً وجوعاً. قال المفسرون : قوله ) من سفرنا هذا ( إشارة إلى سيرهما وراء الصخرة ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك. قال الفتى متعجباً ) أرأيت ( ومفعوله محذوف لدلالة قوله : ( فإني نسيت الحوت ( عليه كأنه قال : أرأيت ما دهاني ووقع لي. ) إذ أوينا إلى الصخرة ( قيل : هي الصخرة التي دون نهر الزيت ) فإني نسيت الحوت ( عليها ثم ذكر ما يجري مجرى السبب في وقوع ذلك النسيان فقال : ( وما أنسانيه إلا الشيطان ( و ) أن أذكره ( بدل الاشتمال من الهاء ) في أنسانيه ( أي وما أنساني ذكره قال الكعبي : لو كان النسيان يخلق الله وإرادته لكان إسناد ذلك إلى الله تعالى أولى من إسناده إلى الشيطان إذ ليس له في وجوده سعي ولا أثر. قال القاضي : المراد بإنساء الشيطان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر ، لأن ذلك لا يصلح أن يكون(4/446)
" صفحة رقم 447 "
إلا من قبل الله تعالى. قال أهل البرهان : لما كان اتخاذ الحوت سبيله في البحر عقيب النسيان ذكر أوّلاً فاتخذ بالفاء ، ولما حيل بينهما ثانياً بجملة معترضة هي قوله : ( وما أنسانيه ( زال معنى التعقيب وبقي العطف المجرد فقال : ( واتخذ سبيله ( بالواو. وانتصاب ) عجباً ( كم امر في ) سرباً (. قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً ) ) قال ( موسى ) ذلك ( يعني اتخاذ الحوت السبيل في البحر ) ما كان ينبغي ( أي إنه الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب ) فارتدا على آثارهما ( فرجعا على طريقهما المسلوك ) قصصاً ( مصدر لأنه بمعنى الارتداد على الأثر يتبعان آثارهما اتباعاً ، أو هو مصدر في موضع الحال أي رجعا على الطريق الذي جاءا منه مقتصين ) فوجدا عبداً من عبادنا ( الأكثرون على أن ذك العبد كان نبياً لأنه تعالى وصفه بقوله : ( آتيناه رحمة من عندنا ( والرحمة هي الوحي والنبوّة بدليل قوله : ( أهم يقسمون رحمة ربك ) [ الزخرف : 32 ] وقوله : ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ) [ القصص : 86 ] ومنع أن كل رحمة نبوة قالوا : وصفه بقوله : ( وعلمناه من لدنا علماً ( والعلم المختص به تعالى هو الوحي والخبار بالغيوب. وأيضاً آخر القصة ) وما فعلته عن أمري ( أي عرفته وفعلته بأمر الله وذلك مستلزم للوحي. وروي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال : السلام عليك. فقال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. فقال : من عرّفك هذا ؟ قال : الذي بعثك إلي. والصوفية سمو العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية. والتحقيق فيه إذا ضعفت الوقوى الحسية والخيالية بواسطة الرياضة قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الألهية على جواهر العقل ، ويفيض عليه من عالم الأرواح أنوار يستعد بسببها لملاحظة أسرار الملكوت ومطالعة عالم اللاهوت. والأكثرون أيضاً على أن ذلك العبد هو الخضر سمي بذلك لأنه كان لا يقف موقفاً غلا اخضر ذلك الموقف. وقال الجبائي : روي أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل. فإن صحت الرواية لم يكن ذلك العبد هو الخضر لأنه بعض بعده ، وبتقدير كونه معاصراً له فإنه أظهر الترفع على موسى حين قال : ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً ( وأن موسى أظهر التواضع له حين قال ) ولا أعصي لك أمراً ( مع أنه كان مبعوثاً إلى كافة بني إسرائيل ، والأمة لا تكون أعلى حالا من النبي. وإن لم تكن الرواية صحيحة بأن الخضر لا يكون من بني إسرائيل ) وأني يجز أن يكون الخضر أفضل من موسى عليه السلام لأنه تعالى قال لبني إسرائيل ) وأني فضلتكم على العالمين ) [ البقرة : 47 ] وأجيب بأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها .(4/447)
" صفحة رقم 448 "
قال العلماء : إن موسى راعى مع الخضر في قوله : ( هل أتبعك ( أنواعاً من الأدب منها : أنه جعل نفسه تبعاً له مطلقاً ، وفيه أن المتعلم يجب عليه الخدمة وتسليم النفس والإتيان بمثل أفعال الأستاذ وأقواله على جهة التبعية لا الاستقلال ، فإن المتابعة هي الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير ، ولهذا لسنا متبعين لليهود في قولنا ( لا إله إلا الله ) لأنا نقول كلمة التوحيد لأجل أنهم قالوها بل لقيام الدليل على قولها ، ولكنا متابعون في الصلوات الخمس للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن انأتي بها لأجل أنه أتى بها. ومنها أنه استأذن في إثبات هذه التبعية. ومنها أنه قال : ( على أن تعلمني مما علمت ( وفيه إقرار على أستاذه بالعلم ، وفيه أنه لم يطلب منه إلا بعض علمه ولميطلب. منه أن يجعله مساوياً له في العلم كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءاً ن أجزاء ماله لأكله ، وفيه اعتراف بأن ذلك العلم علمه الله تعالى وإلا سمي فاعله ، وفيه إشعار بأن إنعامه عليه في هذا التعليم شبيه بإنعام الله عليه فيه ومن هنا قيل : أن عبد من علمني حرفاً. ومنها أن الخضر عرف أنه نبي صاحب المعجزات المشهورة ، ثم إنه مع هذه المناصب العلية والمراتب السنية لم يطلب منه المال والجاه وإنما طلب التعليم فقال : ( على أن تعلمني ( فدل ذلك على أنه لا كمال فوق كمال العلم ، وأنه لا يحسن صرف الهمة إلا إلى تحصيله. وفيه أن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر ، فكان حرصه على زيادتها أوفر. ومنها أنه قال ) رشداً ( وهو يصلح أن يكون مفعولاً ل ) تعلمني ( و ) علمت ( أي علماً ذا رشد أرشد به في ديني ، وفيه تعظيم لما سيعلمه فإن الإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل حصل الضلال. ثم إنه تعالى حكى عن الخضر أنه قال : ( لن تستطيع معي صبراً ( نفى استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد لعلمه بأنه يتولى أموراً هي في الظاهر منكرة ، والرجل الصالح لا سيما النبي الذي يحكم بظواهر الأمور شرعاً قلما يتمالك أن يصبر عليها. و ) خبراً ( تمييز أي لم يحط به. خبرك ، أو هو مصدر لكونه في معنى الإحاطة. استدلت الأشاعرة بالآية على أن الاستطاعة لا تحصل فيه الفعل وإلا لكانت الاستطاعة عل الصبر حاصلة قبل الصبر ، فيكون قول الخضر بنفي الاستطاعة كذباً. وكذا قوله : ( وكيف تصبر ( لأنه استفهام في معنى الإنكار أي لا تصبر ألبتة. أجاب الجبائي بأنه أراد بنفي الاستطاعة أن يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه. يقال في العرف : إن فلاناً لا يستطيع أن يرى فلاناً وأن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ولهذا ) قال ( له موسى ) ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصى ( أي ستجدني غير عاص ) لك أمراً ( ويجوز أن يكون قوله : ( ولا أعصي ( جملة مستأنفة معطوفة على مثلها أي ستجدني ولا أعصي. قال أهل السنة. في قوله : ( إن شاء الله ( بطريق الشك والصبر(4/448)
" صفحة رقم 449 "
مأمور به دليل على أنه تعالى قد لا يريد من العبد ما أوجبه عليه. قالت المعتزلة. إنما ذكره بطريق الأدب. وأجيب بأن هذا الأدب إن صح معناه فقد ثبت المطلوب ، وإن فسد فأيّ أدب في ذكر الكلام الباطل. قالت الأصوليون : في قوله : ( ولا أعصي لك أمراً ( دليل على أن ظاهر الأمر للوجوب ، لأن تارك الأمر عاص. بهذه الآية ، والعاصي يستحق العقاب لقوله : ( ومن يعصى الله ورسوله فإن له نار جهنم ) [ الجن : 23 ] قال المحققون : في قوله الخضر تغليظ وتجهيل ، وفي قول موسى تحمل وتواضع ، فدل ذلك على أن المعلم إن رأى التغليظ على المتعلم فيما يعتقده نفعاً وإرشاداً إلى الخير ، فالواجب عليه ذكره وعلى المتعلم أن يتلقاه بالبشر والطلاقة. ثم قال : ( فإن اتبعتني فلا تسألني ( شرط على موسى عليه السلام في اتباعه أن لا يسأل عما خفي عليه وجه صحته حتى يكون الخضر هو المبتدىء بتعليمه إياه بإخباره عن وجه الحكمة فيه ) فانطلقا ( على ساحل البحر يطلبان السفينة ، فما ركباها يروى أن أهلها قالوا : هما من اللصوص وأمروهما بالخروج فمنعهم صاحب السفينة وقال : أرى وجوه الأنبياء. وقيل : عرفوا الخضر فحملوهم بلا أجرة ، فلما حصلوا في اللجة أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء. وقيل : خرق جدار السفينة ليعيبها ولا يتسارع الغرق إلى أهلها فجعل موسى يسد الخرق بثيابه ويقول : ( أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً ( أتيت شيئاً عظيماً. يقال : أمر الأمر إذا عظم. ويقال في الشيء العجيب الذي يعرف له شبيه إنه أمر إمر. احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بأن موسى عليه السلام اعترض على الخضر بعد توكيد العهود والمواثيق وذلك ذنب. وأجيب بأنه لم يقل ذلك اعتراضاً وتوبيخاً ولكنه أحب أن يقف على حكمة ذلك الأمر الخارج عن العبادة ، أو أنه خالف الشرط بناء على النسيان ولهذا ) قال لا تؤاخذني بما نسيت ( ولا مؤاخذة على الناسي. و ( ما ) موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي بالذي نسيت وبشيء نسيته وبنسياني. وجوز في الكشاف أن لا يكون ناسياً في الحقيقة ولكنه أوهم بقوله : ( لا تؤاخذني بما نسيت ( أنه قد نسي لبسط عذره في الاعتراض على المعلم وهو من معاريض الكلام التي يتقي بها الكذب مع التوصل إلى الغرض. وجوز أيضاً أن يكون النسيان بمعنى الترك أي بما تركت من وصيتك أول مرة ) ولا ترهقني ( ولا تغشني ) من أمري عسراً ( وأراد بأمره أمر المتابعة أي يسر عليّ متابعتك بالإغضاء وترك المناقشة. وإنما قال في هذه القصة ) خرقها ( بغير ( فاء ) لأنه جعله جزاء للشرط ، وفي قصة الغلام جعل ) فقتله ( من جملة الشرط معطوفاً عليه بفاء التعقيب ، لأن القتل يعقب لقاء(4/449)
" صفحة رقم 450 "
الغلام ولفظ الغلام يتناول الشاب البالغ كما يتناول الصغير ومنه قولهم ( رأي الشيخ خير من مشهد الغلام ) وأصله من الاغتلام وهو شدة الشبق. وليس في القرآن أنهما كيف لقياه ، وهل كان يلعب مع جمع من الغلمان ، أو كان منفرداً ، وهل كان مسلماً أو كان كافراً ، وهل كان بالغاً أو كان صغيراً واسم الغلام بالصغير أليق ، إلا أن ) بغير نفس ( بالبالغ لأن الصبي لا يقتل قصاصاً. وعن ابن عباس أن نجدة الحروري الخارجي كتب إليه كيف جاز قتله وقد نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قتل الولدان ؟ فكتب إليه أن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل. قال الكسائي : الزاكية والزكية لغتان ومعناهما الطاهرة. وقال أبو عمرو : الزاكية التي لم تذنب ، والزكية التي أذنبت ثم تابت. ويجوز أن يكون وصفها بالزكاء لأنه لم يرها أذنبت فهي طاهرة عنده. قيل : النكر أقل من الأمر لأن قتل نفس واحدة أهو من إغراق أهل السفينة. وقيل : النكر أشد لأن ذلك كان خرقاً تداركه بالسد وهذا لا سبيل إلى تداركه. وأيضاً الأمر العجيب والعجب يستعمل في الخير والشر. والنكر ما تنكره العقول فهو شر ، وظاهر الآية يدل على أن موسى استبعد أن تقتل النفس إلا بالنفس وليس كذلك لأنه قد يحل القتل بسائر الأسباب ، ولعله اعتبر السبب الأغلب والأقوى واختلفوا في كيفية قتله فقيل : فتل عنقه. وقيل : ضرب برأسه الحائط. وعن سعيد بن جبير : أضجعه ثم ذبحه بالسكين. ثم إنه سبحانه حكى عن الخضر أنه ما زاد على أن أذكره ما عاهد عليه فقال : ( ألم أقل لك ( وإنما زاد ههنا لك لأن الإنكار أكثر وموجب العتاب أقوى. وقيل : أكد التقرير الثاني بقوله ) لك ( كما تقول لمن توبخه لك أقول وإياك أعني. وقيل : بين في الثاني المقول له لما لم يبين في الأول فعند هذا ) قال ( موسى ) إن سألتك عن شيء بعدها ( بعد هذه الكرة أو المسألة ) لا تصاحبني ( نهاه عن المصاحبة حينئذ مع حرصه على التعلم لظهور عذره كما قال : ( قد بلغت من لدني عذراً ( وهذا كلام نادم شديد الندامة جره المقال ، واضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف. عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( رحم الله أخي كموسى استحيا فقال ذلك ) ) فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية ( هي أنطاكية : وقيل : الأيلة وهي أبعد أرض الله من السماء. ) استطعما أهلها ( وكان حق الإيجاز أن يقال : ( استطعماهم ) فوضع الظاهر موضع المضمر للتأكيد كقوله : ليت الغراب غداة ينعب بيننا
كان الغراب مقطع الأوداج
وأيضاً لعله كره اجتماع الضميرين المتصلين في مثل هذا اللفظ لما فيه من الكلفة(4/450)
" صفحة رقم 451 "
والبشاعة والاستطالة ) فأبوا أن يضيفوهما ( يقال : أضافه وضيفه إذا أنزله وجعله ضيفه ، والتركيب يدور على الميل من ضاف السهم عن الغرض والضيف يميل إلى المضيف. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( كانوا أهل قرية لئاماً ). قيل : الاستطعام ليس من عادة الكرام فكيف أقدما عليه. وأيضاً الضيافة من المندوبات وترك المندوب غير منكر ، فكيف جاز لموسى أن يغضب عليهم حتى ترك عهد صاحبه. وقال : ( لو شئت لاتخذت عليه أجراً ( وأجيب بأن الرجل إذا جاع بحيث ضعف عن الطاعة أو أشرف على الهلاك لزمه الاستطعام ووجبت إجابته. ولقائل أن يقول : لو كان قد بلغ الجوع إلى حدّ الهلاك لم يقو على إصلاح الجدار. ولمجيب أن يقول : إنه أقام الجدار معجزة فقد يروى أنه مسحه بيده فقام واستوى. وقيل : أقامه بعمود عمده به. وقيل : نقضه وبناه. وروي أنه كان ارتفاع الجدار مائة ذراع. قال أهل الاعتبار : شر القرى التي لا يضاف الضيف فيها ولا يعرف لابن السبيل حق. ويحكى أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحمل الذهب فقالوا : يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء تاء أي ( فأتوا يضيفوهما ) فامتنع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك. قوله : ( يريد أن ينقض ( معناه يسرع سقوطه من انقض كاحمرّ من الحمرة ، فالنون تكون أصلية وإحدى الضادين مكررة زائدة عكس الأول. واستعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة تشبيهاً للجماد بالأحياء نظيره ) ولما سكت عن موسى الغضب ) [ الأعراف : 154 ] ( قالتا أتينا طائعين ) [ فصلت : 11 ]. ولما أقام الخضر الجدار ورأى موسى من الحرمان ومسيس الحاجة ) قال ( لصاحبه ) لو شئت لاتخذت عليه أجراً ( لطلبت على عملك جعلاً حتى نستدفع به الضرورة. واتخذ افتعل من تخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ على الأصح ) قال ( الخضر مشيراً إلى الفراق المتصور في قوله : ( فلا تصاحبني ( أو مشيراً إلى السؤال والاعراض ) هذا فراق بين ( الإضافة بمعنى في أي فراق أو سبب فرقا في بيني ) وبينك ( وحكى القفال أن البين ههنا بمعنى الوصل. ثم شرع في تقرير الحكم التي تضمنتها أفعاله وتلك الحكم تشترك في أصل واحد هو أنه أذا تعارض الضرر إن وجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى فقال : ( أما السفينة فكانت لمساكين ( قيل : كانت لعشرة إخوة خمسة منهم زمنى وخمسة ) يعملون في البحر ( وقد تقدم استدلال الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين ) وكان وراءهم ملك ( وهو مسى بجلندي والوراء ههنا بمعنى الأمام(4/451)
" صفحة رقم 452 "
وقد مر في قوله : ( ومن ورائه عذاب غليظ ) [ إبراهيم : 17 ] وقيل : أراد خلفهم وكان طريقهم في الرجوع وما كان عندهم خبرة ) يأخذ كل سفينة ( أي غير معيبة ) غصباً ( ولا يخفى أن الضرر الحاصل من التخريق أهون من فوات السفينة بالكلية والتخريق ، وإن كان تصرفاً في ملك الغير إلا أنه إذا تضمن نفعاً زائداً لم يكن به بأس. ولعل مثل هذا التصرف كان جائزاً في تلك الشريعة ، أو لعله كان من مخصوصات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . قال جار الله. قوله : ( فأردت أن أعيبها ( مسبب عن خوف الغصب عليها وكان حقه أن يتأخر عن السبب ولكنه قدم للعناية أي تتعجب من هذا وهو مرادي وأنا مأمور به. وأيضاً خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كون السفينة للمساكين فتوسط إرادة العيب بين المسكنة والغصب كتوسط الظن بين المبتدأ والخبر في قولك ( زيد ظني مقيم ) في أنه يتعلق بالطرفين ) وأما الغلام ( فقد قيل : إنه كان بالغاً قاطع الطريق يقدم على الأفعال المنكرة وكان أبواه مضطرين إلى التعصب له والذب عنه فكانا يقعان في الفسق لذلك واحتمل أن يؤدي ذلك إلى الكفر والارتداد كما قال : ( فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً (. يقال : رهقة أي غشيه وأرهقه إياه. وقيلك إنه كان صبياً إلا أنه تعالى علم من حاله أنه لو صار بالغاً صدرت عنه هذه المفاسد ، فأعلم الخضر بحاله وأمره بقتله لئلا يرتد الأبوان بسببه ومثل هذا لا يجوز إلا إذا تأكد الظن بالوحي. وقيل : أراد فخفنا أن يغشى الواليدن طغياناً عليهما وكفراً بنعمتهما بعقوقه ، أو خفنا أن يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر. وجوزوا أن يكون قوله : ( فخشينا ( من كلام الله تعالى أي كرهنا كراهة من خاف سوء عاقبة أمر فغيره. والزكاة الطهارة والنقاء من الذنوب وكأنه بإزاء قول موسى نفساً زاكية. والرحم الرحمة والعطف بمعنى الإشفاق على الأبوين. يروى أنهما ولدت لهما جارية فتزوجها نبي فولدت نبياً هدى الله على يديه أمة من الأمم. ويروى أنها ولدت سبعين نبياً. وقيل : أبدلهما ابناً مؤمناً. وقيل : اسم الغلام المقتول الحيسون وفي نسخة الحسين. ) وأما الجدار فكان لغلامين (. قيل : اسمهما أصرم وصريم. وقوله : ( في المدينة ( بعد قوله : ( أتيا أهل قرية ( فيه دلالة على أن القرية لا تنافي المدينة ومعنى الاجتماع والإقامة مراعى فيهما. أما الكنز فقيل : هو المال لقوله : ( ويستخرجا ( ولأن المفهوم منه عند إطلاقه هو المال. وقيل : صحف فيها علم لقوله : ( وكان أبوهما صالحاً ( ودفن المال لا يليق بأهل الصلاح. وعورض بقول قتادة : أحل الكنز لمن قبلنا وحرم علينا. وحرمت الغنيمة عليهم وأحلت لنا. وجمع بعضهم بين الأمرين فقال : كان لوحاً من ذهب مكتوباً(4/452)
" صفحة رقم 453 "
فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعبجت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله. وفي قوله : ( وكان أبوهما صالحاً ( دلالة على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء. عن جعفر بن محمد رضي الله عنه : كان بين الغلامين وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء ، وذكر من صلاح أبيهما ان الناس كانوا يضعون الودائع عنده فيردها إليهم سالمة. قالت العلماء : الأشبه أن اليتيمين كانا جاهلين بحال الكنز ووصيهما كان عالماً به إلا أنه غائب وق أشرف الجدار على السقوط و ) رحمة من ربك ( مصدر منصوب بأراد لأنه في معنى رحمهما أو مفعول له ) وما فعلته عن أمري ( أي اجتهادي ورأيي وإنما فعلته بأمر الله. سؤال : لم قال في الأول : ( فأردت أن أعيبها ( وفي الثاني : ( فأردنا ( وفي الثالث ) فأراد ربك ( ؟ الجواب : لأن الأول إفساد في الظاهر فأسنده إلى نفسه ، وفي الثالث إنعام محض فأسنده إلى الله سبحانه ، وفي الثاني إفساد من حيث القتل وإنعام من حيث التدبيل فجمع بين الأمرين. ويمكن أن يقال : إن القتل كان منه ولكن إزهاق الروح كان من الله ، ويحتمل أن يقال : الوحدة في الأول على الأصل ، والجمع في الثاني تنبيه على أنه من العلماء بالمؤيدين بالعلوم الدينية ، والإسناد إلى الله بالآخرة إشارة إلى أنه لا إرادة إلا إرادة الله وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ) ذلك ( الذي ذكر من أسرار تلك الوقائع ) تأويل ما لم تسطع عليه صبراً ( أي يرجع المقصود من تلك الأفاعيل إلى ما قررنا ، وأصل تشطع تستطيع كما في قوله : ( سأنبئك بتأويل ما لم تستطع ( إلا أن التاء حذفت لأجل التخفيف. وهذا شاذ من جهة القياس ولكنه ليس بشاذ في الاستعمال. عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( رحم الله أخي موسى لو لبيث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب ) التأويل : ( وإذ قال موسى لفتاه ( فيه أن المسافر لا بد له في الطريق من الرفيق ، وفيه أن من شرطهما أن يكون أحدهما أميراً والآخر مأموراً ، وأن يعلم الرفيق عزيمته ومقصده حتى يكون على بصيرة من صحبته ، وأن لا يسأم من متاعب السفر حتى يظفر بمقصوده ، وأن تكون نيته طلب شيخ يقتدي به فإن طلب الشيخ في الحقيقة هو طلب الحق. ومجمع البحرين هو مجمع ولاية الشيخ وولاية المريد وعنده عين الحياة الحقيقية ، فإذا وقعت قطرة منها على حوت قلب المريد حيي واتخذ سبيله في بحر الولاية سربا .(4/453)
" صفحة رقم 454 "
) فلما جاوزا ( فيه إشارة إلى إن المريد في أثناء السلوك لو تطرقت إليه الملالة أصاب قلبه الكلالة وسولت له نفسه التجاوز عن صحبة السيخ ظاناً أن مقصوده يحصل من غير وساطة الشيخ. هيهات فإنه ظن فاسد ومتاع كاسد إلا إن أدركته العناية الأزلية ورد إليه صدق الإرادة فيقول : الرفيق التوفيق. ) آتنا غداءنا ( وهو همة الشيخ وبركة صحبته ) لقد لقينا في سفرنا هذا ( الذي جاوزنا صحبة الشيخ ) نصباً ( فقال رفيقه ) أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة ( صخرة النفس وتسويلها ) فإني نسيت ( حوت القلب ) قال ذلك ما كنا نبغي من حوت القلب الميت المملح بملح حب الدنيا وزينتها أن يتخذ سبيله في بحر ولاية شيخ كامل ) فوجدا عبداً من عبادنا ( حراً من رق غيرنا. وفي قوله : ( وعلمناه في لدنّا علماً ( إشارة إلى أنه تعالى أطلعه على بواطن الأشياء وحقائقها ، وهذا النوع من العلم لا يمكن تعلمه وإنما يحصل بتصفية النفس وتجريد القلب عن العلائق الجسمانية ، وقد ذهب موسى إلى تعلم العلم فكان من الواجب على الخضر أن يظهر له علماً يمكن تعلمه ، فبين علم الخضر وبين مقصد موسى تباين وتنافٍ فلهذا قال الخضر : ( إنك لن تستطيع معي صبراً ( وفي إظهار المسائل الثلاثة إشارة إلى ما قلنا من أن العلم الظاهر يباين العلم اللدني وليس من التعليم والتعلم في شيء ، وإذا تأمل العاقل السالك في قول موسى : ( هل أتبعك ( الخ في قول الخضر. ) فإن اتبعتني فلا تسألني ( الخ. وجد أصول الشرائط التي شرطها الصوفية للمريد مودعة فيها ، وفي تفصيلها طول وقد أشرنا في التفسير إلى طرف منها ، ومن أراد الكل فعليه بمطالعة كتاب ( آداب المريدين ) للشيخ المحقق أبي النجيب السهرودي تغمده الله بغفرانه ) حتى إذا ركبا في السفينة ( هي سفينة الشريعة ) خرقها ( بهدم الناموس في الظاهر مع صلاح الحال في الباطن وفيما بينه وبين علام الغيوب ، ومثل هذا قد يفعله كثير من المحققين طرداً للعوام وحذراً من التباهي والعجب ) أخرقتها لتغرق أهلها ( في أودية الضلال إذا اقتدوا بك ) حتى إذا لقيا غلاماً ( هو النفس الأمارة ) فقتله ( بسكين الرياضة وسيف المجاهدة ) حتى إذا أتيا أهل قرية ( هي الجسد وهم القوى الإنسانية من الحواس وغيرها ) استطعما أهلها ( بطلب أفاعيلها التي تختص بها ) فأبوا أن يضيفوهما ( بإعطاء خواصها كما ينبغي لكلالها وضعفها ) فوجدا فيها جداراً ( هو التعلق الحائل بين النفس الناطقة وبين عالم المجردات ) يريد أن ينقض ( بقطع والعلاقة ) فأقامه ( بتقوية البدن والرفق بالقوى والحواس كما قيل : نفسك مطيتك فارفق بها. ) لو شئت لاتخذت عليه أجراً ( ثواباً جزيلاً أي لو شئت لصبرت على شدة الرياضة إلى إفاضة الأنوار ونيل الكشوف. ) أما السفينة فكانت لمساكين ( هم العوام الذين ) يعملون في ( بحر الدنيا وليس لهم في بر عالم الربوبية سير وسلوك حتى يصلوا إلى(4/454)
" صفحة رقم 455 "
ملوك تحت أطمار ) فأردت أن أعيبها ( في الظاهر لتسلطهم بالإخلاص في البواطن ) وكان وراءهم ملك ( هو الشيطان ) يأخذ كل سفينة ( عبادة ) غصباً ( لأن كل عبادة تخلو عن الانكسار والذل والخشوع فإنها للشيطان لا للرحمن ) وأما الغلام فكان أبواه ( وهما القلب والروح ) مؤمنين فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة ( هو النفس المطمئنة ) وأقرب رحماً ( أي نسبة إلى الأبوين. ) وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين ( هما النفس المطمئنة والملهمة ) وكان تحته كنز لهما ( هو حصول الكمالات النظرية والعملية ) وكان أبوهما ( وهو العقل المفارق ) صالحاً ( كاملاً بالفعل فلهذا ادخر لأجلهما ما ادخر ) فأراد ربك أن يبلغا أشدّهما ( بتربية لشيخ وإرشاده على سبيل الرفق والمداراة ) ويستخرجا ( ما كان كامناً فيهما. ( الكهف : ( 83 - 110 ) ويسألونك عن ذي . . . .
" ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا(4/455)
" صفحة رقم 456 "
بمثله مددا قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا "
( القراآت )
فأتبع ( ) ثم أتبع ( مقطوعة : ابن عامر وعاصم وحمزة وعلي وخلف الباقون بالتشديد موصولة. ) حامية ( الألف من غيرهم : ابن عامر ويزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. الباقون ) حمئة ( بالهمزة من غير ألف ) جزاء الحسنى ( بالنصب منوناً. يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون ) جزاء الحسنى ( بالرفع والإضافة. ) السدين ( بفتح السين : ابن كثير ، أبو عمرو وحفص وأبو زيد عن المفضل. الآخرون بضمها. ) يفقهون ( بضم الياء وكسر القاف : حمزة وعلي وخلف. الباقون بفتحهما ) يأجوج ومأجوج ( حيث كان مهموزاً : عاص غير الشموني ) فهل نجعل ( وبابه بإدغام اللام في النون : علي وهشام ) خراجاً ( بالألف : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحما والباقون ) خرجا ( بسكون الراء. ) سداً ( بفتح السين : ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وعاصم. والباقون بضمها ) مكننى ( : ابن كثير : الباقون بإدغام النون في النون ) ردماً ائتوني ( يحيى وحماد والابتداء بكسر الألف ) الصدفين ( بضم الصاد والدالك ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب المفضل مخير ، أبو بكر وحماد بضم الصاد وإسكان الدال. الآخرون بفتح الصاد والدال. ) قال ائتوني ( والابتداء بكسر الألف : يحيى وحماد وحمزة ) فما اسطاعوا ( بالإدغام : حمزة غير حماد وخلاد ، وقرأ أبو نشيط والشموني ) فما اصطاعوا ( بالصاد وهو الصحيح من نقل ابن مهران. ) دكاء ( بالمد : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل والخزاز عن هبيرة ) أفحسب الذين ( بسكو السين ورفع الباء : يزيد ويعقوب والأعشى في اختياره ) دوني أولياء ( بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) أن ينفد ( بياء الغيبة : حمزة وعلي وخلف وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الوقوف : ( القرنين ( ط ) ذكراً ( ه ط ) سبباً ( لا ) سبباً ( ه ) قولاً ( ه ط ) حسناً ( ه ) نكراً ( ه ) الحسنى ( ج لاختلاف الجملتين ) يسراً ( ه ط لأن ( ثم ) لترتيب الأخبار ) سبباً ( ه ) ستراً ( ه ) كذلك ( ط أي كذلك القبيل الذين كانوا عند مغرب الشمس. وقيل : يبتدأ بكذلك أي ذلك كذلك أو الأمر كذلك. وقيل : أي أحطنا بما لديه من العدد. والعدد كذلك أي كعلمنا بقوم سبق ذكرهم ) خبراً ( ه ) ثم أتبع سبباً ( ه ) قوماً ( لا ) قولاً ( ه ) سدّاً ( ه ) ردماً ( ه ) الحديد ( ط ) انفخوا ( ط ) ناراً ( لا لأن(4/456)
" صفحة رقم 457 "
( قال ) جواب ( إذا ) ) قطراً ( ه ط لأن ما بعده ابتداء إخبار ) نقبا ( ه ) من ربي ( ج لعطف الجملتين المختلفتين ) دكاء ( ج لذلك ) حقاً ( ه ط لانقطاع القصة ) جمعاً ( ه لا للعطف ) عرضاً ( ه لا ) سمعاً ( ه ) أوليا ( ط ) نزلاً ( ه ) أعمالاً ( ه ط للفصل بين الاستخبار والإخبار لأن التقدير هم الذين ، ويجوز أن يكون نصباً على الذم أو جراً على البدل ) صنعاً ( ه ) وزناً ( ه ) هزواً ( ه ) نزلاً ( ه ) حولاً ( ه ) مدداً ( ه ) واحد ( ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب ) أحداً ( ه. التفسير : ولما أجاب عن سؤالين من أسئلة اليهو وانتهى الكلام إلى حيث انتهى ، شرع في السؤال الثالث والجواب عنه. وأصح الأقوال أن ذا القرنين هو الإسكندر بن فيلقوس الرومي الذي ملك الدنيا بأسرها ، إذ لو كان غيره لانتشر خبره ولم يخف مكانه عادة. يحكى أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف ، ثم قصد ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في ذبحه ثم عطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العبرانيون والقبط والبربر ، ثم توجه نحو داراً ابن دارا وهزمه إلى أن قتله فاستولى على ممالك الفرس ، ثم قصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ، ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها. وقال الإمام فخر الدين الرازي : لما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلاً ملك الأرض بالكلية أو ما يقرب منها ، وثبت من علم التاريخ أن من هذا شأنه ما كان إلا الإسكند روجب القطع بأن ذا القرنين هو الإسكندر. قال : وفيه إشكال لأنه كان تلميذاً لأرسطا طاليس وكان علىمذهبه. فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطو حق وصدق ذلك وذلك مما لا سبيل إليه. قلت : ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلاً فلعله أخذ منهم ما صفا وترك ما كدر. والسبب في تسميته بذي القرنين أنه بلغ قرني الشمس أي مطلعهما ومغربها. وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها. وقيل : كان له قرنان ضفيرتان. وقيل : انقرض في وقته قرنان من الناس. وقيل : كان لتاجه قرنان. وعن وهب أنه سمي بذلك لأنه ملك الروم وفارس. ويروى الروم والترك. وعنه كانت صفحتا رأسه من نحاس. وقيل : كان على رأسه ما يشبه القرنين. وقيل : لشجاعته كما سمى الشجاع كبشاً كأنه ينطح أقرانه. وقيل : رأى في المنام كأنه صعد الفلك وتعلق بطفري الشمس أي بقرينها. وزعم الفرس أن دارا الأكبر تزوّج بابنة فيلقوس ، فلما قرب منها وجد رائحة منكرة فردها إلى أبيها وكانت قد حملت بالإسكندر(4/457)
" صفحة رقم 458 "
فولدت الإسكندر وبقي عند فيلقوس وأظهر أنه ابنه وهو في الحقيقة دارا الأكبر. وقال أبو الريحان : إنه من ملوك حمير والدليل عليه أن الإذواء كانوا من اليمن كذي يزن وغيره. ويروى أنه ملك الدنيا بأسرها أربعة : ذو القرنين وسليمان - وهما مؤمنان - ونمرود وبختنصر - وهما كافران - واختلفوا فيه فقيل : كان عبداً صالحاً ملكه الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة وسخر له النور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه. وعن علي رضي الله عنه : سخر له السحاب ومدت له الأسباب وبسط له النور وأبح الله وأحبه. وسأله ابن الكواء وكان من أصحابه ما ذو القرنين أملك أم نبي ؟ فقالك ليس بملك ولا نبي ولكن كان عبداً صالحاً ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله أي في جهاد فمات ، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله يعني نفسه. قالوا : وكان ذو القرنين يدعو الناس إلى التوحيد فيقتلونه فيحيه الله. وقيل : كان نبياً لقوله تعالى : ( إنا مكنا له في الأرض ( والتمكين المعتد به هو النبوة ، ولقوله ) وآتيناه من كل شيء سبباً ( وظاهره العموم فيكون قد نال أسباب النبوّة ، ولقوله : ( قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب ( وتكليم الله بلا واسطة لا يصلح إلا للنبي. وقيل : كان ملكاً من الملائكة عن عمر أنه سمع رجلاً يقول : يا ذا القرنين : فقال : اللَّهم غفراً أما رضيتم أن تمسوا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة. قوله : ( سأتلوا عليكم ( أي سأفعل هذا إن وفقني الله تعالى وأنزل فيه وحياً. والخطاب في ) عليكم ( للسائلين وهم اليهود أو قريش كأبي جهل وأضرابه ) وآتيناه من كل شيء سبباً ( طريقاً موصلاً إليه. والسبب في اللغة هو الحبل والمراد ههنا كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة ، وذلك أنه أراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً وصله إليه ، وكذلك أراد المشرق فاتبع سبباً موصلاً إليه ، وأراد بلوغ السدين فأتبع سبباً أدى إليه. ثم إلى سفر المغرب ، ومن قرأ بقطع الهمزة فمعناه اتبع نفسه سبباً ) حتى إذا مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حامية ( أي حارة ، ومن قرأ بحذف الألف مهموزاً فمعناه ذات حمأة أي طين أسود ، ولا تنافي بين القراءتين : فمن الجائز أن تكون العين جامعة للوصفين. عن أبي ذر قال : كنت رديف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال ( أتدري يا أبا ذر من أين تغرب هذه ) قلت : الله ورسوله أعلم : قال ( فإنها تغرب في عين حامية ). فقال حكماء الإسلام : قد ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كروية في وسط العالم ، وأن السماء محيطة بها من جميع الجوانب ، وأن الشمس(4/458)
" صفحة رقم 459 "
في فلكها تدور بدوران الفلك. وأيضاً قد وضح أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض بمائة وست وستين مرة تقريباً ، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض ؟ فتأويل الآية أن الشمس تشاهد هناك أعني في طرف العمار كأنها تغيب وراء البحر الغربي في الماء كا أن راكب البحر يرى المس تغيب في الماء لأنه لا يرى الساحل ولهذا قال : ( وجدها تغرب ( ولم يخبر أنها تغرب في عين ، ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية ، وأيضاً حمئة لكثرة ما في البحار من الطين الأسود. أما قوله ) ووجد عندها قوماً ( فالضمير إما للشمس وإما للعين ، وذلك أن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان ذلك الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس. قال ابن جريج : هناك مدينة لها اثناء عشر ألف باب لولا أصوات أهلها سمع الناس وجوب الشمس حين تجب ، كانوا كفرة بالله فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل وأن يتخذ فيهم حسناً وهو تركهم أحياء فاختار ا لدعوة والاجتهاد فقال ) أما من ظلم ( بالإصرار على الشرك ) فسوف نعذبه ( بالقتل في الدنيا ) ثم يرد إلى ربه ( في الآخرة ) فيعذبه عذاباً نكراً ( منكراً فظيعاً. روى صاحب الكشاف عن قتادة أنه كان يطبخ من كفر في القدور وهو العذاب النكر ، ومن آمن أعطاه وكساه وفيه نظر ، لأن العذاب النكر بعد أن يرد إلى ربه لا يمكن أن يكون من فعل ذي القرنين. ومن قرأ ) جزاء ( بالنصب أراد فله الفعلة ) الحسنى ( جزاء ، ومن قرأ بالرفع أراد فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كل الشهادة ، أو فله أن يجازى المثوبة الحسنى ) وسنقول له من أمرنا ( أي مما نأمر به الناس من الزكاة والخراج وغير ذلك ) يسراً ( أي قولاً ذا يسر ليس بالصعب الشاق. ثم حكى سفره إلى أقصى الشرق قائلاً ) ثم أتبع سبباً ( أي هيأ أسباباً بسفر المشرق ) حتى إذا بلغ مطلع الشمس ( أي مكان طلوعها ) وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً ( عن كعب أن الستر هو الأبنية وذلك أن أرضهم لا تمسكها فليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع شعاع الشمس وتدفع حره عنهم ، فإذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب لهم ، وإذا غربت اشتغلوا بتحصيل المعاش ، فحالهم بالضد من أحوال سائر الخلق. وعن مجاهد أن الستر الثياب وأنهم عراة كالزنج ، وحال كل من سكن في البلاد جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقيل : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة. فبلغتهم فإذا أجدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى. وحين قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصة فغشى عليّ ثم أفقت ، فلما طلعت الشمس إذ هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سرباً لهم. فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا(4/459)
" صفحة رقم 460 "
يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم. وللمفسرين في متعلق قوله : ( كذلك ( وجوه أحدها : كذلك أمر ذي القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به. الثاني : لم نجعل لهم ستراً مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية أو الثياب. الثالث : بلغ مطلع الشمس مثل الذي بلغ من مغربها. الرابع : تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم فقضى في هؤلاء كما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين ، وقد سبق بعض هذه الوجوه في الوقوف. ثم حكى سفره إلى ناحية القطب الشمالي بعد تهيئة أسبابه قائلاً ) ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدين ( قيل : السد إذا كان بخلق الله فهو بضم السين حتى يكون بمعنى ( مفعول ) أي هو مما فعله الله وخلقه ، وإذا كان ممن عمل العباد فهو بالفتح حتى يكون حدثاً قاله أبو عبيدة وابن الأنباري. وانتصب ) بين ( على أنه مفعول به كما ارتفع بالفاعلية في قوله : ( لقد تقطع بينكم ) [ الأنعام : 94 ] قال الإمام فخر الدين الرازي : الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال. فقيل جبلان بين أرمينية وأذربيجان ، وقيل في منقطع أرض الترك. وحكى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً من ناحية الخزر ، فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق وثيق منيع. وقيل : إن الواثق رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه ووصفوا أنه بناء من لبن من حديد مشددة بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل ، ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل إلى البقاع المحاذية لسمرقند ، قال أبو الريحان البيرني : ومقتضى هذا الخبر أن هذا الإسكندر ما بين الجبلين اللذين سد ما بينهما ) وجد من دونهما ( أي من ورائهما متجاوزاً عنهما قريباً ) قوماً لا يكادون يفقهون ( بأنفسهم أو يفقهون غيرهم قولهم لأنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم. سؤال : كيف فهم منهم ذو القرنين أن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض الخ ؟ وأجيب بأن ( كاد ) إثبات أو لعله فهم ما في ضميرهم بالقرائن والإشارات ، أو بوحي وإلهام. وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف. وقيل : مشتقان من أج الظليم في مشيه إذا هرول ، وتأجج النار إذا تلهبت ومن أجج الريق أو موج البحر ، سمو بذلك لشدتهم وسرعة حركتهم ، وهما من ولد يافث. وقيل : يأجوج من الترك ، ومأجوج من الجيل والديلم. ومن الناس من وصفهم بصغر الجثة وقصر القامة حتى الشبر ، ومنهم من(4/460)
" صفحة رقم 461 "
وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبت لهم مخالب وأضراساً كأضراس السباع. أما إفسادهم في الأرض فقيل : كانوا يقتلون الناس. وقيل : يأكلون لحومهم. وقي : يخرجون أيام الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ولا يابساً إلا احتملوه ) فهل نجعل لك خرجاً ( وخراجاً أي جعلاً نخرجه من أموالنا ونظيرهما النول والنوال. وقيل : الخرج ما يخرجه كل أحد من ماله ، والخراج ما يجبيه السلطان من البلد كل سنة. وقال قطرب : الخرج الجزية والخراج في الأرض ) قال ( ذو القرنين ) ما ملكني فيه ربي ( أي جعلني فيه مكيناً ذا مكانة من المال واليسار ) خير ( مما تبذلون لي من الخراج نظيره قول سليمان ) فما آتاني الله خير مما آتاكم ) [ النمل : 36 ] ( فأعينوني بقوة ( بآلات ورجال وصناع. وقيل : بمال أصرفه في هذا المهم ولا آخذه لنفسي والردم أكبر من السد من قولهم ( ثوب مردم رقاع فوق رقاع ) وزبر الحديد قطعه. قال الخليل : الزبرة من الحديد القطعة الضخمة. من قرأ ) آتوني ( بالمد فظاهر ، ومن قرأ ) ائتوني ( من الإتيان فعلى حذف باء التعدية والنصب بنزع الخافض. ثم ههنا إضمار أي فأتوه بها فوضع بعضها فوق بعض. ) حتى إذ ساوى بين الصدفين ( وهما على القراآت جانبا الجبلين لأنهما يتصادفان أي يتقابلان ) أفرغ عليه قطراً ( أصب عليه النحاس المذاب ) وقطراً ( منصوب بأفرغ والتقدير : آتوني قطراً أفرغ عليه قطراً فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه. وهذا محمل ما يستدل به البصريون في أن المختار عند تنازع الفعلين هو إعمال الثاني إذ لو عمل الأول لقال أفرغه عليه. يحكى أنه حفر الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت الحطب صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً. وقيل : بعد ما بين السدين مائة فرسخ. وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن رجلاً أخبره به فقال : كيف رأيته ؟ قال : كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء. قال : قد والله رأيته. قال العلماء : هذا معجز من ذي القرنين صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين. ) فما اسطاعوا أن يظهروه ( أي يعلوه لارتفاعه وملاسته ) وما استطاعوا له نقباً ( لصلابته وثخانته لما تكرر لفظ الاستطاعة مراراً ، حذف منها التاء تخفيفاً في الموضعين وأعاد ذكرها بالآخرة تنبيهاً على الأصل ورجوعاً إلى البداية. ثم ) قال ( ذو القرنين ) هذا ( السد أو هذا الإقرار والتمكين نعمة من الله عز وجل ورحمة على عباده(4/461)
" صفحة رقم 462 "
) فإذا جاء ( أي دنا مجيء القيامة ) جعله دكاً ( مدكوكاً مبسوطاً مستوي بالأرض وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك. ومن قرأ ) دكاء ( بالمد فعلى الوصف أي جعله أرضاً مستوية ) وكان وعد ربي حقاً ( وهذا آخر حكاية ذي القرنين. ثم شرع سبحانه في بقية أخبارهم فقال ) وتركنا بعضهم يومئذ يموجون ( أي حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد. ويروى أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به ممن لم يتحصن منهم من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة ولا المدينة وبيت المقدس. ثم يبعث الله نغفاً وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم فيدخل آذانهم فيموتون. وقيل : أراد أن قوم السد لما منعوا من الخروج ماج بعضهم في بعض خلفه. وقيل : الضمير للخلق واليوم يوم القيامة أي وجعلنا الخلق يضطربون ويختلط إنسهم وجنهم حيارى. ونفخ الصور نم آيات القيامة وسيجيء وصفه. ومعنى عرض جهنم إبرازها وكشفها للذين عموا عنها في الدنيا ، وفي ذلك نوع من العقاب للكفار لما يتداخلهم من الغم والفزع ) عن ذكري ( أي عن آياتي التي ينظر إليها فأذكر بالتعظيم فأطلق المسبب على السبب أو عن القرآن وتأمل معانيه. وصفهم بالعمى عن الدلائل والآثار فأراد أن يصفهم بالصمم عن استماع الحق فقال ) وكانوا لا يستطيعون سمعاً ( وهو أبلغ من أن لو قال ( وكانوا صماً ) لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به ، وهؤلاء زالت عنهم الاستطاعة بالكلية. احتجت الأشاعرة بالآية على أن الاستطاعة مع الفعل لأنهم لما لم يسمعوا لم يستطيعوا. وأجيب بأن المراد من نفي الاستطاعة النفرة والاستثقال. ثم أنفذ ف التوبيخ والوعيد قائلاً ) أفحسب الذين كفروا ( ولامراد أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر آيات الله وتمردهم عن قبول أمره وأمر رسوله ؟ وفيه إضمار تقديره أفحسبوا اتخاذ عبادي أولياء نافعاً. والعباد إما عيسى والملائكة ، وإما الشياطين الذين يطيعونهم ، وإما الأصنام أقوال. ومن قرأ بسكون السين فمعناه أفكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء على الابتداء والخبر ، أو على أنه مثل ( أقائم الزيدان ) يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا. قال الزجاج : النزل المأوى والمنزل وقيل : إنه الذي يعدّ للضيف فيكون تهكماً به نحو ) فبشرهم بعذاب ) [ آل عمران : 21 ] أما الذين ضل سعيهم أي ضاع وبطل فعن علي رضي الله عنه أنهم الرهبان كقوله : ( عاملة ناصبة ) [ الغاشية : 3 ] وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أن منهم أهل حروراء. وعن مجاهد : أهل الكتاب. والتحقيق أنه يندرج فيه كل ما يأتي بعمل خير لا يبتنى على إيمان وإخلاص. وعن أبي سعيد الخدري : يأتي الناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم(4/462)
" صفحة رقم 463 "
كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لم تزن شيئاً وذلك قوله : ( فلا تقيم لهم يوم القيامة وزناً ( قال القاضي : إن من غلبت معاصية طاعاته صار ما فعله من الطاعة كأن لم يكن فلا يدخل في الوزن شيء من طاعاته ، وهذا مبني على الإحباط والتكفير. وفي قوله : ( فحبطت أعمالهم ( إشارة إلى ذلك ، أو المراد فنزدري بهم ولا يكون له عندنا وزن ومقدار. وقيل : لا يقام لهم ميزان لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ) ذلك ( الذي ذكرناه من أنواع الوعيد ) جزاؤهم ( وقوله ( جهنم ( عطف للجزاء. والسبب فيه أنهم ضموا إلى الكفر بالله اتخاذ آيات الله واتخاذ كل رسله هزؤاً وتكذيباً ، ويجوز أن يكون كل من الأمرين سبباً مستقلاً للتعذيب ، ثم أردف الوعيد بالوعد على عادته. عن قتادة : الفردوس أوسط الجنة وأفضلها. وعن كعب : ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وعن مجاهد : الفردوس هو البستان بالرومية. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها درجة ، وفيها الأنهار الأربعة فإذا سألتم الله فاسألوه افردوس فإن فوقها عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ) قال أهل السنة : جعل جنات الفردوس نزلاً فالإكرام التام يكون وراء ذلك وليس إلا الرؤية ونظيره أنه جعل جهنم بأسرها نزلاً فما وراءها هو العذاب الحقيقي وهو عذاب الحجاب ) كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجبون ) [ المطففين : 15 ] والحول والتحول وفيه أنه لا مزيد على نعيم الفردوس حتى تنازعهم أنفسهم إلى تلك الزيادة ، ويجوز أن يراد به تأكيد الخلود أي لا تحوّل فيطلب كقوله : ولا ترى الضب بها ينجحر ولما ذكر أنواع الدلائل والبينات وشرح أقاصيص سئل عنها. نبه على كمال حال القرآن. والمداد اسم لما يمد به الشيء كالحبر والزيت للدواة والسراج ، والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمه وفرض أن جنس البحر مداد لهما لنفد البحر قبل نفاد الكلمات ولو جئنا بمثل البحر مدداً لنفد أيضاً وهو تمييز من مثله كقولك ( على التمرة مثلها زبداً ). والمدد والمداد واحد. يروى أن حيي بن أخطب قال : في كتابكم ) ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) [ البقرة : 269 ] ثم تقرأون ) وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ) [ الإسراء :(4/463)
" صفحة رقم 464 "
85 ] فنزلت هذه الآية. يعنى أن ذلك خير كثيرة ولكنه قطرة من بحر كلمات الله. قالت الأشاعرة : إن كلام الله تعالى واحد. واعترض عليهم بهذه الآية فإنها صريحة في إثبات كلمات كثيرة لله تعالى. وأجيب بأن المراد من الكلمات متعلقات علم الله تعالى. وزعم الجبائي أن قوله : ( قبل أن تنفد كلمات ربي ( يدل على أن كلمات الله قد تنفد بالجملة وما ثبت عدمه امتنع قدمه. وأجيب بأن المراد الألفاظ الدالة على تعلقات تلك الصفة الأزلية. قلت : الإنصاف أن نفاد شيء قبل نفاد شيء آخر لا يدل على نفاد الشيء الآخر ولا على عدم نفاده ، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا يضبطها عقول البشر. أما أنها متناهية أو غير متناهية فلا دليل في الآية على أحد النقيضين ، ولكن الحق في نفس الأمر أن كلمات الله لا تتناهى لأنها تابعة لمعلوماته وهي غير متناهية بالبرهان ، ثم أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يسلك سبيل التواضع وهو أن حاله مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى الملكية إلا أنه امتاز بنعت الإيحاء إليه وكفى به بوناً ومباينة. ثم بين أن الموحى هو ) إنما إلهكم إله واحد (. وفي تخصيص هذا الوحي بالذكر فائدة هي أن يستدل به على صدقه ، فإن من علامات صدق مدعي النبوة أن يدعو إلى التوحيد ، ثم أن يدعو إلى العمل الصالح المقترن بالإخلاص وذلك قوله : ( فمن كان يرجو ( أي يأمل حسن لقائه أو يخاف سوء لقائه. واللقاء بمعنى الرؤية عند الأشاعرة وبمعنى لقاء الثواب أو العقاب عند المعتزلة ) فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ( قال المفسرون : النهي عن الإشراك بالعبادة هو أن لا يرائي بعمله ولا يبتغي به إلا وجه ربه. يروى أن جندب بن زهير قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إني أعمل العمل لله فإذا اطلع عليه سرني فقال ( إن الله لا يقبل ما شورك فيه ). وروي أنه قال : لك أجران أجر السر وأجبر العلانية. قال العلماء : الرواية الأولى محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء والسمعة. والرواية الثانية محمولة على ما إذا قصد أن يقتدي به. قال في الكشاف : عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نوراً من قرنه إلى قدمه. ومن قرأها كلها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ عند مضجعه ) قل إنما أنا بشر مثلكم ( كان له من مضجعه نوراً يتلألأ إلى مكة ، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم وإن كان مضجعه بمكة كان له نوراً يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ ). التأويل : لما بين للإنسان كمالاً مكنوناً وكنزاً مدفوناً يمكن له تحصيله بالتربية(4/464)
" صفحة رقم 465 "
والإرشاد ، أراد أن يبين أن الإنسان الكال إنما هو مستحق الخلافة في الأرض وهو ذو القرنين الذي ملك الجانبين أعني جانب عالم الأرواح وجانب عالم الأشباح ، لأنه أوتي التمكين في الأرض وأتى أسباب كل شيء في عالم الوسائط والأسباب ، فبذلك يصير كاملاً في نفسه مكملاً لغيره. ) فأتبع سبباً ( من أسباب الوصول إلى عالم السفلي وهو مغرب شمس الروحي الإنساني ) فوجدها تغرب في عين حمئة ( هي عالم القوى والطبائع والأجساد ) ووجدنا عندها قوماً ( قم القوى البدنية والنفوس الأرضية ) قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذبهم ( بالقتل بسكين الرياضة وسيف المجاهدة ) وإما أن تتخذ فيهم حسناً ( هو الرفق والمداراة ) قال أما من ظلم ( بوضع خاصيته واستعمالها في غير موضعها ) فسوف نعذبه ( بقهره على خلاف ما هو مراده وهواه ) ثم يرد إلى ربه ( وهو الشيخ الكامل الذي يربيه ) فيعذبه عذاباً نكراً ( هو المنع عن مشتهياته ، أو يرد إلى الله تعالى فيعذبه بعذاب البعد والقطيعة. ) وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى ( هو مقام الوصول والوصال ) وسنقول له من أمرنا يسراً ( هو التخفيف والاستراحة بعد الفناء والمجاهدة ) ثم أتبع ( أسباب الوصول إلى عالم الأرواح وهو مطلع شمس النفس الناطقة الإنسانية ) فوجدها تطلع على قوم ( مجردين عن العلائق الجسمانية والعوائق الساترة الجسدانية ) حتى إذا بلغ بين السدين ( وهو عالم التعيش والتمدن والجولان في جو أسباب قوام البدن وقيامه على وجه الجسمانية إلى صلاح المعاد ونظامه ) وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً ( وهم العوام الذي قصارى أمرهم الجهل البسيط ) إن يأجوج ومأجوج ( القوى والطبائع البشرية ) مفسدون في الأرض ( البشرية باستعمال خواضها في غير ما خلقت هي لأجلها ) فهل نجعل لك مخرجاً ( هو ترك الوجود وبذلك الموجود. ) فأعينوني بقوة ( بهمة صارفة وعزيمة صادقة ) آتوني زبر الحديد ( ملكات راسخة وهيئات ثابتة أو قلوباً هن كالحديد في المضاء ، وكالجبال الراسيات في البقاء ) حتى إذا ساوى ( عرض ما بين طرفي العمر كما قيل من المهد إلى اللحد ) قال انفخوا ( بالمداومة على الأذكار والأوراد ) حتى إذا جعله ناراً ( بتأثير حرارة الطاعة والذكر في حديد القلب ) قال آتوني أفرغ عليه قطراً ( هو جوهر المحبة وكيمياء الإخلاص النافذ في سويدات القلوب بحيث لا ينفذ فيه كيد الشيطان ولا يعلوه ما سوى الرحمن الله حسبي .(4/465)
" صفحة رقم 466 "
سورة مريم
سورة مريم مكية
حروفها ثلاثة آلاف وثمانمائة وحرفان كلامها تسمائة واثنان وستون آياتها ثمان وتسعون بسم الله الرحمن الرحيم
( مريم : ( 1 - 15 ) كهيعص
" كهيعص ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا "
( القراآت )
كيهعص ( بإمالة الهاء فقط : أبو عمرو ) كهيعص ( بإمالة الياء فقط : حمزة وخلف وقتيبة وابن ذكوان ، وقرأ عليّ غير قتيبة ويحيى ويحيى وحماد بإمالتهما. وقرأ أبو جعفر ونافع والخزاعي عن البزي وابن فليح بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب. الباقون بتفخيمها ) صاد ذكر ( مدغماً : أبو عمرو وحمزة وخلف وابن عامر وسهل ) من ورائي ( بفتح الياء مهموزاً : ابن كثرا غير زمعة والخزاعي عن ا لبزي وقرأ زمعة عن ابن كثير والخزاعي عن البزي ) من وراي ( مثل ) عصاي ( ) يرثني ويرث ( بالجزم فيهما : أبو عمرو وعليّ. الباقون برفعهما ) يبشرك ( ثلاثياً وكذلك في آخر السورة : حمزة ) عتباً ((4/466)
" صفحة رقم 467 "
و ) جثياً ( و ) صلياً ( و ) بكياً ( بكسر الأوائل : حمزة وعلي وافق حفص إلا في ) بكياً ( الخزاز عن هبيرة ) عتباً ( الأولى بالكسر والثاني بالضم. ) وقد خلقناك ( حمزة وعلي. الآخرون ) خلقتك ( على التوحيد ) إلى آية ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن شنبوذ عن أهل مكة. الوقوف : ( كهيعص ( ه كوفى ) زكريا ( ه ح لجواز تعلق ( إذ ) ب ) ذكر رحمة ربك ( ولاحتمال انتصابه بأذكر محذوفاً. ) خفياً ( ه ) شقياً ( ه ) ولياء ( لا ) آل يعقوب ( ق والوجوه الوصل لعطف الجملتين المتفقتين ) يحيى ( لا لأن ما بعده صفة غلام والاستئناف ليس بقوي. ) سمياً ( ه ) عتياً ( ه ) كذلك ( ه بناء على أن التقدير الأمر كذلك ) شيئاً ( ه ) آية ( ط ) سوياً ( ه ) وعشياً ( ه ) بقوة ( ط ) صبياً ( ه لا للعطف أي آتيناه الحكم وحناناً منا عليه ) وزكاة ( ط ) تقياً ( ه ) عصياً ( ه ) حياً ( ه. التفسير : حروف المعجم في الوقف ثنائية وثلاثية ، وقد جرت عادة العرب بإمالة الثنائيات وبتفخيم الثلاثيات ، وفي الزاي اعتيد الأمران لأنه قد يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق فيصير ثنائياً ، ولا ريب أن التفخيم أصل والإمالة فرع عليه. فمن قرأ بإمالة الهاء والياء معاً فعلى العادة ، ومن قرأ بتفخيمهما جميعاً فعلى الأصل ومن قرأ بإمالة إحداهما فلرعاية الجانبين. وقد روى صاح بالكشاف عن الحسن أنه قرأ بضمهما فقيل : لأنه تصور أن عين الكلمة فيهما واو فنبه بالضم على أصلها. والبحث عن هذه الفواتح قد سلف في أول البقرة ، ومما يختص بهذا الموضع ما روي عن ابن عباس أن قوله ) كهيعص ( ثناء من الله تعالى على نفسه ، فالكاف كاف لأمور عباده ، والهاء هاد والعين عالم أو عزيز ، والصاد صادق. وعنه أيضاً أنه حمل الكاف على الكريم أو الكبير ، والياء عل ىالكريم مرة وعلى الحكيم أخرى. وعن الربيع بن أنس أن الياء من مجير ، وهذا التفسير لا يخلو من تحكم إلا أن يسند إلى الوحي أو الإلهام ، وارتفع ) ذكر رحمة ( على الخبر أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ) ربك ( وانتصب ) عبده ( على أنه مفعول لذكر و ) زكريا ( عطف بيان ، وقرىء برفعهما عل إضافة المصدر إلى المفعول ، وعن الكلبي والفاعل ضمير المتلو. ومخففاً أخرى و ) عبده ( مرفوع على الفاعلية. وقرىء ) ذكر ( على الأمر وهي قراءة ابن معمر. وقيل : يحتمل على هذا أن تكون الرحمة عبارة عن زكريا لأن كل نبي رحمة لأمته ، ويجوز أن يكون رحمة لنبينا صل الله عليه وسلم ولأمته لأن طريقه في الإخلاص والابتهال يصلح لأن يقتدى به وكان ذكره رحمة لنا ولنبينا. وفي خفاء ندائه .(4/467)
" صفحة رقم 468 "
وجوه منها : أن الإخفاء أبعد عن الرياء وأدخل في الخشية ولهذا فسره الحسن بأنه نداء لا رياء فيه. ومنها أنه أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في غير وقته. ومنها أنه أسره من مواليه الذين خافهم. ومنها أنه خفت صوته لضعفه وهرمه كما جاء في صفة الشيخ ( صوته خفات وسمعه تارات ) ولعله أتى بأقصى ما يقدر عليه من الصوت ومع ذلك كان خفياً لنهاية كبره. ثم شرع في حكاية ندائه قائلاً : ( قال رب إني وهن العظم مني ( إلى قوله : ( واجعله رب رضياً ( قال علماء المعاني : في الآية لطائف وذلك أصل الكلام : يا ربي قد شخت فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن وشيب الرأس ، ثم ترك الإجمال إلى التفصيل لتوخي زيادة التقرير فصار ضعف بدني وشاب رأسي ، ثم في القرينة الأولى عدل من التصريح إلى الكناية التي هي أبلغ منه فصار وهنت عظامي فإن وهن عظام البدن لازم لضعفه ، ثم بنيت الكناية على المبتدأ لتقوي الحكم فحصل أنا وهنت عظام بدني ، ثم سلك طريق الإجمال والتفصيل لمزيد البيان فصار : إني وهنت العظام من بدني ، ثم قلت إني وهنت العظام أفاد أن عظاماً واهنة عندك ، فإذا قلت : ( من بدني ) فقد فصلت ، ثم ترك توسيط البدن لطلب مزيد اختصاص العظام ، ثم لطلب شمول العظام فرداً فرداً قصدت مرتبة ثانية وهي ترك جمع العظم إلى الإفراد لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع فحصل ) إني وهن العظم مني ( فحصل أني وهنت العظام مني. وإذا حصل الوهن في هذا الجنس الذي هو أصلب الأعضاء وبه قوام البدن وقد يكون جنة لسائر الأعضاء الرئيسة كالقحف للدماغ والقص للقلب ففي الأعضاء الأخر أولى. وأما القرينة الأخرى فتركت الحقيقة فبها الاستعارة التي هي أبلغ فحصل اشتعل شيب رأسي. وبيان الاستعارة فيه أنه شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته ، وشبه وانتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار ، ثم أخرجه مجرج الاستعارة بالكتابة بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه فصار اشتعل شيب الرأسي ، ويمكن تقرير الاستعارة بوجه آخر وهو أن يكون استعمل ) اشتعل ( بدل ( انتشر ) فتكون الاستعارة تبعية تصريحية بوجه آخر وهو أن يكون تركت هذه المرتبة إلى أبلغ منها وهي ( اشتعل رأسي شيباً ). وكونها أبلغ من وجهات منها : إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادته شمول الاشتعال الرأس كما لو قلت : ( اشتعل بيتي ناراً ) مكان ( اشتعل النار في بيتي ). ومنها الإجمال والتصيل الواقعان في طريق التمييز ، ومنها تنكير ) شيباً ( للتعظيم كما هو حق التمييز. ثم عدل إلى مرتبة أخرى هي ( اشتعل الرأس مني شيباً ) لتوخي مزيد التقرير بالإبهام ثم البيان على نحو ) وهن العظم مني ( ثم ترك لفظ ( مني ) ذكره في القرينة الأولى ففي ذلك إحالة تأدية المعنى على العقل دون اللفظ. وكم بين الحوالتين مع أن بناء الكلام على الاختصار حيث قال ( رب ) بحذف حرف(4/468)
" صفحة رقم 469 "
النداء وياء المتكلم يناسب الاختصار في آخره. وإنما أطنب في هذا المقام لأن هذه الآية كالعلم فيما بين علماء المعاني. ثم إنه توسل إلى الله عز وجل بما سلف له معه من الاستجابة قائلاً ) ولم أكن بدعائك رب شقياً ( كما حكى أن محتاجاً قال لكريم : أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا فقال : مرحباً بمن توسل إلينا وقضى حاجته. تقول العرب : سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها ، وشقي بها إذا خاب ولم ينلها. ومعنى ) بدعائك ( أي بدعائي إياك. واعلم أن زكريا عليه السلام قدم على السؤال أموراً ثلاثة : الأول كونه ضعيفاً ، والثاني أنه تعلاى لم يرد دعاءه والثالث كون المطلوب بالدعاء سبباً للمنفعة في الدين وذلك قوله ) وإني خفت الموالي ( قال ابن عباس والحسن : أي الورثة. وعن مجاهد العصبة. وعن أبي صالح : الكلالة. وعن الأصم : بني العم وهم الذين يلونه في النسب. وعن أبي مسلم : المولى يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو ههنا من تقدم في ميراثة كالولد. والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين ، وكان من عاداتهم أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب كان متعيناً للحبورة. وقوله : ( من ورائي ( أي بعد موتي لا يتعلق ب ) خفت ( لأن الخوف بعد الموت محال ولكن بمحذوف أي الموالي الذين يخلفون من بعدي ، أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت ولايتهم وسوى خلافتهم بعدي ، فإن زكريا انضم له مع النبوّة الملك فخاف بعده على أحدهما أو عليهما. وسبب الخوف القرائن والأمارات التي ظهرت له من صفائح أحوالهم وأخلاقهم. وإنما قال : ( خفت ( بلفظ الماضي لأنه قصد به الإخبار عن تقادم الخوف ، ثم استغنى بدلالة الحال كمسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال. وقرىء ) خفت الموالي ( بتشديد الفاء. وعلى هذا فمعنى ورائي خلفي وبعدي أي قلوا وعجزوا عن أمر الدين والإقامة بوظائفه ، والظرف متعلق بالمولي ، أو معناه قدامي والظرف متعلق ب ) خفت ( أي درجوا ولم يبق من يعتضد به. ثم صرح بالمسألة قائلاً : ( فهب لي ( وأكده بقوله : ( من لدنك ( أي ولياً صادراً من عندك مضافاً إلى اختراعك بلا سبب لأني وامرأتي لا تصلح للولادة. من قرأ ) يرثني ويرث ( بالجزم فيهما فهو جواب الدعاء. ومن قرأ برفعهما فالأكثرون ومنهم جار الله قالوا : إنه صفة. وقال صاحب المفتاح : الأولى حمله على الاستئناف كأنه قيل : لم تطلب الولد ؟ فقال مجياً : يرثني أي لأنه يرثني لئلا يلزم منه أنه لم يوهب من وصف لهلاك يحيى قبل زكريا. واعترض بأن حمله على الاستئناف يوجب الإخبار عما لم يقع ، وكذب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .(4/469)
" صفحة رقم 470 "
أمنع من كونه غير مستجاب الدعوة. وأجيب بأن عدم ترتب الغرض من طلب الولد لا يوجب الكذب. وأقول : الاعتراض باق لأن المعنى يؤل إلى قولنا ( هب لي ولياً موصوفاً بالوراثة ) أو بأن الغرض منه الوارثة ، أو هب لي ولياً أخبر عنه بأنه يرثني. وعلى التقادير يلزم عدم الاستجابة أو الكذب. والحق في الجواب هو ما سلف لنا في قصة زكريا من سورة آل عمران ، أن النبي لا يطلب في الدعاء إلا الأصلح حتى لو كان الأصلح غير ما طلبه فصرفه الله تعالى عنه كان المصروف إليه هو بالحقيقة مطلوبه. ويمكن أن يقال : لعل الوراثة قد تحققت من يحيى وإن قتل قبل زكريا ، وذلك بأن يكون قد تلقى منه كتاب أو شرع هو المقصود من وجود يحيى وبقى ذلك الكتاب أو الشرع معمولاً به بعد زكريا أيضاً إلى حين. وقد روى صاحب الكشاف ههنا قراآت شاذة لا فائدة كثيرة في تعدادها إلى قوله عن علي وجماعة وأرث من آل يعقوب أي يرثني به وارث ويسمى التجريد في علم البيان. فقيل : هو أن تجرد الكلام عن ذكر الأول حتى تقول ( جاءني فلان فجاءني رجل ) لا تريد به إلا الأول ، ولذلك تذكر اسمه في الجملة الثانية ، وتجرد الكلام عنه. وأقول : يشبه أن يكون معنى التجريد هو أنك تجرده عن جيمع الأوصاف المنافية للرجولية. وكذا في الآية كأنه جرده عن منافيات الوارثية بأسرها. واختلف المفسرون في أنه طلب ولداً يرثه أو طلب من يقوممقامه ولداً كان أو غيره ؟ والأول أظهر لقوله في آل عمران ) رب هب لي من لدنك ذرية طيبة ) [ آل عمران : 38 ] ولقوله في سورة الأنبياء ) ربي لا ترذني فرداً ) [ الأنبياء : 89 ] حجة المخالفة أنه لما بشر بالولد استعظم وقال ) أنى يكون لي غلام ( ولو كان دعاؤه لأجل الولد منا استعظم ذلك. والجواب ما مر في آل عمران. واختلفوا أيضاً في الوراثة فعن ابن عباس والحسن والضحاك : هي وراثة المال. وعنهم أيضاً أن المراد يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوّة أو بالعكس. وفي رواية أبي صالح أن المراد في الموضعين النبوّة. فلفظ الإرث مستعمل ف يالمال ) وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم ) [ الأحزاب : 17 ] وفي العلم ) وأورثنا بني إسرائيل الكتاب ) [ غافر : 53 ] ( العلماء ورثة الأنبياء ) وحجة الأولين ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( رحم الله زكريا وما عليه من يرثه ) فغن ظاهره يدل على أنه أراد بالوراثة المال. وكذا قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ) ، وأيضاً العلم والنبوة كيف(4/470)
" صفحة رقم 471 "
يحصل بالميراث ولو كان المراد إرث النبوّة إلى قوله : ( واجعله رب رضياً ( لأن النبي لا يكون إلا مرضياً. وأجيب بأنه إذا كان المعلوم من حال الابن أنه يصير نبياً بعده فيقوم بأمر الدين جاز أن يقال ورثه. والمراد يكون رضياً أن لا يوجد منه معصية ولا همّ بها كما جاء في حق يحيى ، وقج مر الحديث هناك. ولا يلزم من هذا أن يكون يحيى مفضلاً على غيره من الأنبياء كلهم فلعل لبعضهم فضائل أخر تختص به. احتجت الأشاعرة بالآية في مسألة خلق الأعمال ، وأجابت المعتزلة بأنه يفعل به ضروب الألطاف فيختار ما يصير مرضياً عنده ، وزيف بأن ارتكاب المجاز على خلاف الأصل ، وبأن فعل الألطاف واجب على الله فطلب ذلك بالدعاء والتضرع عبث. واعلم أن أكثر المفسرين على أن يعقوب المذكور في الآية هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لأن زوجة زكريا كانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهودا بن بعقوب ، وأما زكريا فقد كان من ولد هرون أخي موسى وهرون وموسى ولد لاوى بن يعقوب بن إسحاق ، وكانت النبوّة في سبط وهو إسرائيل عليه السلام. وزعم بعض المفسرين أن المراد هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان وهذا قول الكلبي ومقاتل. وعن مقاتل : أن بني ماثان كانوا رؤوس بني إسرائيل وملوكها. قوله : ( يا زكريا ( الكثرون على أنه نداء من الله تعالى لقرينة التخاطب من قوله : ( رب إني وهو العظم مني ( إلى قوله : ( رب أني يكون لي غلام ( ومنهم من قول : هو نداء الملك لقوله في آل عمران ) فنادته الملائكة ) [ الآية : 49 ] وجوز بعضهم الأمرين. واختلفوا في عدم السمي فقيل : أراد أن لم يسم أحد بيحيى قبله. وقيل : أراد أنه لا نظير له كقوله ) هل تعلم له سيماً ) [ مريم : 65 ] وذلك أنه سيداً وحصوراً ولم يعص ولم يهم بمعصية فكأنه جواب لقوله : ( واجعله رب رضياً ( وأيضاً سمي بيحيى قبل دخوله في الوجود ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر فلا نظير له في هذه الخواص. قال بعض العلماء : القول الأول أظهر لما في الثاني من العدول عن الظاهر ولا يصار إليه لضرورة كما في قوله : ( فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً ) [ مريم : 65 ] لأنا نعلم أن مجرد كونه تعالى لا سميّ له لا يقتضي عبادته فنقول : السميّ هناك يراد به المثل والنظير. ويمكن أن يقال : إن التفرد بالاسم فيه ضرب من التعظيم فلا ضرورة في الآية أيضاً. قال جار الله : إنما قيل للمثل سميّ لأن كل متشاكلين يسمى كل منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير ، فكل واحد منهما سمي. قلت : ويقرب هذا من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم. ولم سمي بيحيى ؟ تكلفوا له وجوهاً. فعن ابن عباس لأنه تعالى أحيا عقر أمه. وعن قتادة لأنه تعالى أحيا قلبه بالإيمان والطاعة ) أو من كان ميتاً فأحييناه ) [ الأنعام : 122 ] ( إذا(4/471)
" صفحة رقم 472 "
دعاكم لما يحييكم ) [ الأنفال : 24 ]. ولهذا كان من أول من آمن بعيسى. وقيل : لأنه استشهد والشهداء أحيا. وقيل : لأن الدين أحيى به لأن زكريا سأله لأجل الدين. قوله : ( وقد بلغت من الكبر ( قال جار الله : أي من أجل الكبر والطعن في السن العالية ف ( من ) للتعليل ، ويجوز أن تكون للابتداء أي بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى ) عتياً ( وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام. يقال : عنا العود عتياً إذا غيره طول الزمان إلى حالة اليبس. سؤال : إنه قال في آل عمران ) وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ) [ آل عمران : 40 ] فلم عكس الترتيب في هذ السورة ؟ وأجيب بأن الواو لا تفيد الترتيب. قلت : إن ذاك ورد على الأصل وهو تقديم نقص نفسه وههنا راعى الفاصلة. ) قال ( الأمر ) كذلك ( تصديقاً له. ثم ابتدأ قائلاً ) قال ربك ( فمحل ) كذلك ( رفع ، ويحتمل أن يكون نصباً ) قال ( وذلك إشارة إلى قو زكريا ) أنى يكون لي غلام ( أي كيف تعطيني الغلام أبأن تجعلني وزوجتي شابين أو بأن تتركنا على الشيخوخة ؟ فأجيب بقوله : ( كذلك ( أي نهب الولد لك مع بقائك وبقاء زوجتك على حالتكما. ولفظ الهين مجاز عن كمال القدرة وهو فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ولم يمتنع عن المراد ) ولم تك شيئاً ( لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئاً بعتد به كالنطفة ، أو كالجواهر التي لم تتألف بعد ، فيه نفس استبعاد زكريا ، لأن خلق الذات ثم تغييرها في أطوار الصفات ليس أهون من تبديل الصفات وهو أحداث القوة المولدة في زكريا وصاحبته بعد أن لم تكن ) قال رب اجعل لي آية ( قد مر تفسير الآية في أول عمران. قوله : ( سوياً ( قيل : إنه صفة لليالي أي تامة كاملة. والأكثرون على أنه صفة زكريا أي وأنت سليم الحواس مستوى الخلق ما بك خرس ولا عيّ ) فخرج على قومه من المحراب ( قيل : كان له موضع ينفرد فيه للصلاة والعبادة ثم ينتقل إلى قومه. وقيل : كان موضعاً يصلي فيه هو وغيره إلا أنه مكانوا لا يدخلونه لصلاة إلا بإذنه. ) فأوحى إليهم ( عن مجاهد : أشار بدليل قوله في أول آل عمران ) إلا رمزاً ( وعن ابن عباس : كتب لهم على الأرض. و ) أن ( هي المفسرة و ) سبحوا ( أي صلوا أو على الظاهرة وهو قول سبحان الله. عن أبي العالية أن البكرة صلاة الفجرة والعشيّ صلاة العصر ، فلعلهم كانوا يصلون معه هاتين الصلاتين في محرابه ، وكان يخرج إليهم ويأذن لهم بلسانه ، فلما اعتقل لسانه خرج إليهم كعادته ففهمهم المقصود بالإشارة أو الكتابة. وههنا إضمار والمراد فبلغ يحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فقلنا له : ( يا يحيى خذ الكتاب ( أي التوراة لأنها(4/472)
" صفحة رقم 473 "
المعهود حينئذ ، ويحتمل أن يكون كتاباً مختصاً به وإن كنا لا نعرفه الآن كقول عيسى ) إني عبد الله آتاني الكتاب ) [ مريم : 30 ] والمراد بالأخذ إما الأخذ من حيث الحس ، وإما الأخذ من حيث المعنى وهوا لقيام بموابجه كما ينبغي وذلك بتحصيل ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهى عنه. ثم أكده بقوله : ( بقوة ( أي بجد وعزيمة. ) وآتيناه الحكم ( أي الحكمة. عن ابن عباس : هو فهم التوراة والفقه في الدين ولذلك لما دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبي قال : ما للعب خلقت. وعن معمر : ولذلك لما دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبي قال : ما للعب خلقت. وعن معمر : العقل. وقيل : النبوة. وكل هذه الأوصاف على الأقول من الخوارق كما حق عيسى فلا استبعاد إلا من حيث العادة. والحنان أصله توقان النفس ، ثم استعمل في الرحمة وهو المراد ههنا. وما قيل إنه يحتمل أن يراد حناناً منا على زكريا أو على أمة يحيى لا يساعده وجود الواو. وقيل : أراد آتيناه الحكم والحنان على عبادنا كقوله في نبينا ) فبما رحمة من الله لنت لهم ) [ آل عمران : 159 ] وأراد بقوله : ( وزكاة ( أنه مع الإشفاق عليهم كان لا يخل بإقامة ما يجب عليهم لأن الرأفة واللين ربما تورث ترك الواجب ولهذا قال : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) [ النور : 2 ] ولا يخفى أنه يساعد هذا القول وجود لفظة ) من لدنا ( وعن عطاء : أن معنى حناناً تعظيماً من لدنا. وعن ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جريج : أن معنى زكاة عملاً صالحاً زكياً. وقيل : زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكى الشهود. وقيل : بركة كقول عيسى ) جعلني مباركاً ( وقيل : صدقة أي ينعطف على الناس ويتصدق عليهم. ثم أخبر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عن جملة أحواله بقوله : ( وكان تقياً ( بحيث لم يعص الله ولا هم بمعصية قط ) وبرّاً بوالديه ( لأن تعظيم الوالدين تلو تعظيم الله ) ولم يكن جباراً عصياً ( وذلك أن الزاهد في الدنيا قلما يخلو عن طلب ترفع والرغبة في احترام ، فذكر أنه مع غاية زهده كان موصوفاً بالتواضع للخلق وتحقيق العبودية للحق. قال سفيان : الجبال الذي يقتل عند الغضب دليله قوله : ( أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض ) [ القصص : 19 ] ثم إنه سبحانه سلم عليه في ثلاثة مواطن هي أوحش المواطن وأحوجها إلى طلب السلامة فيها ، ويحتمل أن يكون هذا السلام من الملائكة عليه إلا أنه لما كان بإذن الله كان كلام الله ، وقيل : إنما قال : ( حياً ( مع أن المبعوث هو المعاد إلى حال الحياة تنبيهاً على كونه من الشهداء وهم أحياء إلا أنه يشكل بما يجيء في قصة عيسى ) ويوم أبعث حياً ) [ مريم : 33 ] وذلك أنه ورد في الأخبار أن عيسى سيموت بعد النزول. والظاهر أنه أراد ويوم يجعل حياً فوضع الأخص(4/473)
" صفحة رقم 474 "
موضع الأعم تأكيداً. قيل : السلام عليه يوم ولد لا بد أن يكون تفضلاً من الله تعالى لأنه لم يتقدم منه عمل يجزى عليه ، وأما الآخران فيجوز أن يكونا لأجل الثواب. قلت : أكثر أموره خارق للعادة ، فيحتمل أن يوجد منه في بطن أمه عمل يستحق الثواب كما يحكى أن أمه قالت لمريم وهما حاملان : إني أرى ما في بطني يسجد لمنا في بطنك. التأويل : إن زكريا الروح ) نادى ربه نداء خفياً ( من سر السر ) قال رب إني وهن ( مني عظم الروحانية واشتعل شيب صفات البشرية ، وإني خفت صفات النفس أن تغلب ) وكانت امرأتي ( يعني الجثة التي هي روح الروح ) عاقراً ( لا تلد إلا مبوهبة من الله ) فهب لي من لدنك ( سأل ) ولياً ( فأعطاه الله نبياً وهو في الحقيقة القلب الذي هو معدن العلم اللدني فإنه ولد الروح والنفس أعدى عدوه ) يرثني ويرث من آل يعقوب ( أي يتصف بصفة الروح وجميع الصفات الروحانية ) واجعله رب رضياً ( بأن توطنه من تجلي صفات ربوبيتك ما يرضى به نظيره ) ولسوف يعطيك ربك فترضى ) [ الضحى : 5 ] ( اسمه يحيى ( إن الله أحياه بنوره ) ولم نجعل له من قبل سمياً ( لا من الحيوانات ولا من الملائكة لأنه هو الذي يقبل فيض الألوهية بلا واسطة ، وهو سر حمل الأمانة كما قال : ( ولكن يسعى قلب عبدي المؤمن ) ) وقد بلغت من الكبر ( أي بسبب طول زمان تعلق القلب بالقالب ) عتياً ( يبساً وجفافاً من غلبات صفات النفس ) آيتك أن لا تكلم الناس ( لا تخاطب إلا الله ولا تلتفت إلى ما سواه ) ثلاث ليال ( هي ثلاث مراتب الجماديات والحيوانات والروحانيات ) سوياً ( متمكناً في هذا الحال من غير تلون ) فخرج ( زكريا الروح من محراب هواه وطبعه على قوم صفات نفسه وقلبه وأنانيته ، فأشار إليهم أن كونوا متوجهين إلى الله معرضين عما سواه آناء الليل وأطراف النهار بل بكرة الأزل وعشيّ الأبد ) يا يحيى ( القلب ) خذ ( كتاب الفيض الألهي المكتوب لك في الأزل ) بقوة ( ربانية لا بقوة جسدانية لأنه خلق ضعيفاً ) وآتيناه الحكم ( في صباه إذ خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره ) زكاة ( وتطهراً منالالتفات إلى غيرنا ) وبراً بوالديه ( الروح والقالب. أما البروح فلأن القلب محل قبول الفيض الألهي لأن الفيض نصيب الروح أوّلاً ولكن لا يمسكه لغاية لطافته كما أن الهواء الصافي لا يقبل الضوء وينفذ فيه ، وأما لاقلب ففيه صفاء وكثافة فبالصفاء يقبل الفيض وبالكثافة يمسكه ، وهذا أحد أسرار حمل الأمانة. وأما بر والدة القلب فهو استعمالها على وفق الشريعة والطريقة ) ولم يكن جباراً عصياً ( كالنفس الأمارة بالسوء ) وسلام عليه يوم يولد ( في أصل خلقه ) ويوم يموت ( من استعمال المعاصي بالتوبة ) ويوم يبعث حياً ( بالتربية والترقي إلى مقام السلامة الله حسبي .(4/474)
" صفحة رقم 475 "
( مريم : ( 16 - 40 ) واذكر في الكتاب . . . .
" واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون "
( القراآت )
إني أعوذ ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ) ليهب لك ( على الغيبة : أبو عمرو ويعقوب وورش والحلواني عن قالون وحمزة في الوقف. الآخرون ) لأهب ( على التكلم ) نسياً ( بفتح النون : حمزة وحفص. الباقون بكسرها. ) من تحتها ( بكسر الميم على أنه حرف جر وبجر التاء الثانية : أبو جعفر ونافع وسهل وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقونه بفتحهما على أن ( من ) موصولة والظرف صلتها ) تساقط ( بحذف تاء التفاعل : علي وحمزة والخزاز عن هبيرة. ) تساقط ( من المفاعلة : حفص غير الخزاز ) يساقط ( بياء الغيبة ، وعلى أن الضمير للجذع وبإدغام التاء في السين : سهل ويعقوب ونصير وحماد. الباقون مثله ولكن بتاء التأنيث على أن الضمير للنخلة ) آتاني الكتاب ( ممالة مفتوحة الياء : عليّ. وقرأ حمزة مرسلة الياء(4/475)
" صفحة رقم 476 "
مفخمة في الوصل ممالة في الوقف. ) وأوصاني ( بالإمالة : علي ) قول الحق ( بالنصب : ابن عامر وعاصم ويعقوب. ) وإن الله ( بكسر الهمزة : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وروح والمعدل عن زيد. الوقوف : ( مريم ( لا ليصير ( إذ ) ظرفاً لأذكر ) شرقياً ( لا للعطف ) زكياً ( ه ) بغياً ( ه ) كذلك ( ط لما مر ) هين ( ج لجواز كون الواو مقحمة أو معلقة بمحذوف كما يجيء ) منا ( ج لاختلاف الجملتين ) مقضياً ( ه ) قصياً ( ه ) النخلة ( ج لترتب الماضي من غير عاطف والأولى أن يكون استئنافاً ) منسياً ( ه ) سرياً ( ه ) جنياً ( ه ز ) عيناً ( ه ج للشرط مع الفاء ) أحداً ( لا لأن ما بعده جواب الشرط ) نسياً ( ه ج للعطف مع الآية ) تحمله ( ط ) فرياً ( ه ) بغياً ( ه ج ) إليه ( ج ) صبياً ( ه ) عبد الله ( ط لأن الجملة لا تقع صفة للمعرفة. ويمكن أن يجعل معنى التحقيق في ( إن ) عاملاً فيكون حالاً فلا يوقف ) أينما كنت ( ص لطول الكلام ) حياً ( ص ه لذلك والوصل أولى لأن قوله ) وبراً ( معطوف على قوله ) مباركاً (. ) بوالدتي ( ج لتبدل الكلام من الإثبات إلى النفي ) شقياً ( ، ) حياً ( ه ، ) عيسى ابن مريم ( ج على القراءتين لاحتمال أن يراد أقول قول الحق وأن يجعل حالاً ، وأما في قراءة الرفع فإما أن يكون بدلاً من عيسى أو يكون التقدير هو قول الحق ) يمترون ( ه ، ) من ولد ( ه استعجالاً للتنزيه ) سبحانه ( ط ) فيكون ( ه ط لمن قرأ ) وأن ( بالكسر ) فاعبدوه ( ط ) مستقيم ( ، ه ) من بينهم ( ج لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء ) عظيم ( ه ) وأبصر ( لا لأن ما بعده ظرف للتعجب ) مبين ( ه وسمعت عن مشايخي رحمهم الله أن الوقف على قوله ) قضى الأمر ( لازم لا أقل من المطلوب لأن ما بعده جملة مستأنفة ولو وصل لأوهم أن يكون حالاً من القضاء وليس كذلك ) لا يؤمنون ( ، ه ) يرجعون ( ه. التفسير : هذا شروع في ابتداء خلق عيسى ولا ريب أن خلق الولد بين شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد من غير أب ، فلهذا أخرت قصة عيسى عن قصة يحيى ترقياً من باب التفهم من الأدنى إلى الأعلى. وقوله ( إذ ) بدل الاشتمال من مريم لأن الأزمان مشتملة على ما فيها ، وفي هذا الإبدال تفخيم لشأ الوقت كوقوع قصتها العجيبة فيه. والانتباه ( افتعال ) من النبذ الطرح كأنها ألقت نفسها إلى جانب معتزلة عن الناس في مكان يلي شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها. قال ابن عباس : من ههنا اتخذت النصارى المشرق قبلة ) فاتخذت من دونهم حجاباً ( لا بد لهذا الاحتجاب من غرض صحيح فمن المفسرين من قال : إنها لما رأت الحيض تباعدت عن مكانها المعتاد لكي تنتظر الطهر فتغتسل وتعود ، فلما طهرت جاء جبريل عليه السلام ، وقيل : طلبت الخلوة لأجل العبادة .(4/476)
" صفحة رقم 477 "
وقيل : في مشربة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو شيء يسترها. وقيل : كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه ، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها بابها فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها ، فانفجر السقف لها فخرجت وجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك وذلك قوله : ( فأرسلنا إليها روحنا ( يعني جبرائيل لأن الين يحيا به وبوحيه ، والإضافة للتشريف والتسمية مجاز كما تقول لمن تحبه إنه روحي ) فتمثل لها ( حال كونه ) بشراً سوياً ( تام الخلق أو حسن الصورة. وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ، وتدرع الروحاني كجبريل مثلاُ تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالصغير غير مستبعد ، والذين اعتقدوا أن جبرائيل جسماني جوزوا أن يكون له أجزاء أصلية قللة وأجزاء فاضلة ، فبتلك الأجزاء الأصلية يكون متمكناً من التشبه بصورة الإنسان ، ولندرة أمثال هذه الأمور لا يلزم منها قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس. فلا يلزم الشك في أن زيداً الذي نشاهده الآن هو الذي شاهدناه بالأمس. قوله : ( إن كنت تقياً ( أي إن كان يرجى منك أن تتقيى الله وترجع بالاستعاذة به فإني عائذة به منك. وقيل : إنه كان في ذلك العصر إنسان فاجر اسمه تقي وكان يتتبع النساء فظننت أن ذلك المتمثل هو ذلك الشخص فاستعاذت بالله. وقيل : ( إن ) نافية أي ما كنت تقياً حين استحللت النظر إلي وخلوت بي. وحين علم جبريل خوفها ) قال إنما أنا رسول ربك ( أرسلني ) لأهب لك ( أو ليهب لك ) غلاماً زكياً ( طاهراً من الذنوب ينمو على النزاهة والعفة. وكيف زال خوفها بمجرد القيل ؟ احتمل أن يكون قد ظهر لها معجزة من جهة زكريا أو إرهاصاً لعيسى أو إلهاماً من الله سبحانه. وهل تقدر الملائكة على تركيب الأجزاء وخلق الحياةوالنطق حتى صح قول جبرائيل ) لأهل لك ( ؟ قال : اجتمعت على أن لا قدرة للأجسام على إيجاد الجواهر وإعدامها وإلا فلا استبعاد ف يتأثير بعض الأجسام في بعضها الخاصية خصها الله بها. ووجه صحة هذه القراءة أن جبرائيل صار سبباً في الهبة بالنفخ في الدرع. ) قالت ( استغراباً من حيث العادة لا تشكيكاً في قدرة الله ) أنى يكون لي غلام ( ولم تقل ههنا ( رب ) إما لأنها تخاطب جبرائيل ، وإما اكتفاء بما سلف في آل عمران ) ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ( هي الفاجرة التي تبغي الرجال. عن المبرد أن أصله يغوى على ( فعول ) قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء وكسرت الغين للمناسبة. وعن ابن جنىأنه ( فعيل ) وإلا لقيل بغو كنهو عن المنكر خصصت بعدما عممت لزيادة الاعتبار بهذا الخزي تبرئة لساحتها عن الفحشاء. ولما جرى في أول القصة من تمثل جبرائيل لها بصورة البشر(4/477)
" صفحة رقم 478 "
حتى ظنت أنه يريدها بسوء فاستعاذت بالرحمن منه بخلاف هذه القصة في آل عمران. فإنها بنيت على الأمن والبشارة بقوله : ( وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك ) [ آل عمران : 45 ] فلم تحتج إلى هذه الزيادة. وقال جار الله : المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه في قوله : ( من قبل أن تمسوهن ) [ البقرة : 237 ] ( أو لمستم النساء ) [ النساء : 43 ] وإنما يقال في الزنا ( فجر بها ( و ) خبث بها ( ونحو ذلك ولا يليق به الكنايات والآداب. قلت لو سلم هذا من حيث اللغة إلا أنه لا بد لزيادة قوله : ( ولم أك بغياً ( في هذا المقام من فائدة وقد عرفت ما سنح لنا والله أعلم. ) قال كذا قال ربك هو عليّ هين ( تفسيره كما مر في قصة زكريا ) لنجعله ( أي ولنجعل الغلام أو خلقه ) آية للناس ( يستدل بها على كمال اقتدارنا على إبداع الغرائب فلعنا ذلك ، ويجوز أن يكون معطوفاً على تعليل مضمر متعلق بما يدل عليه ) هين ( أي تخلقه لنبين به قدرتنا ) ولنجعله آية ( وقد مر مثل هذا في قوله : ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه ) [ يوسف : 21 ] ( ورحمة منا ( على عبادنا لأن كل نبي رحمة لأمته فبه يهدون إلى صلاح الدارين ) وكان أمراً مقضياً ( مقدراً في اللوح أو أمراً حقيقاً بأن يقضي به لكونه آية ورحمة ، وهذا مبني على أن رعاية الأصلح واجبة على الله. وههنا إضمار قال ابن عباس : فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخسة إلى بطنها فحملت. وقيل : في ذيلها فوصلت إلى الفرج. وقيل : في فمها. وقيل : إن النافخ هو الله كقوله ) ونفخت فيه من روحي ) [ ص : 72 ] وعلى هذا تقديم ذكر جبرائيل كالضائع ولا سيما في قراءة من قرأ ) لأهب لك ( قيل : حملته وهي بتي ثلاث عشر سنة. وقيل : بنت عشرين وقد حاضت حيضتين قبل أن تحمل. وكم مدة حملها ؟ عن ابن عباس في رواية تسعة أشهر كما في سائر النساء لأنها لو كانت مخالفة لهن في هذه العادة لناسب أن يذكرها الله تعالى في أثناء مدائحها. وقيل : ثمانية أشهر ولم يعش مولود لثمانية إلا عيسى. قال أهل التنجيم : إنما لا يعيش لأنه يعود إلى تربية القمر وهو مغير معفن بسرعة حركته وغلبة التبريد والترطيب عليه. وعن عطاء وأبي العالية والضحاك : سبعة أشهر. وقيل : ستة أشهر. وقيل : حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها. وعن ابن عباس في رواية أخرى : كما حملته نبذته لقوله تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله ( إلى قوله : ( كن فيكون ) [ آل عمران : 59 ] ولفاآت التعقيب في قوله : ( فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً فأجاءها المخاض ( وعلى هذا فالمكان القصي هو أقصى الدار أو وراء الجبل بعيداً من أهلها. ومعنى انتبذت به اعتزلت متلبسة به وهو في بطنها. وقصى مبالغة قاص .(4/478)
" صفحة رقم 479 "
وروى الثعلبي عن وهب قال : إن مريم لما حملت فأول من عرف هو يوسف النجار ابن عمها وكانت سميت له ، وكانا يخدمان المسجد ولا يعلم من أهل زمانهما أكثر عبادة وصلاحاً منهما. فقال لها : إنه وقع في نفسي من أمرك شيء ولا أحب أن أكتمه عنك. فقالت : قل قولاً جميلاً. فقال : أخبريني يا مريم هل نبت زرع بغير بذر ؟ قالت : نعم. ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر أو تقول : إن الله لا يقدر على الإنبات حتى يستعين بالماء ، ألم تعلم أن الله تعال خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى فقال يوسف : لا أقول هذا ولكني أقول : إن الله قادر على ما يشاء ، وزالت التهمة عن قلبه وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لضيق قلبها واستيلاء الضعف عليها من الحمل. فحين دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك ، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ، فلما بلغت تلك الدار أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة. قال جار ا لله : منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. لا يقال : جئت المكان وأجاءنيه زيد كما يقال بلغته وأبلغنيه ، ونظيره ) آتى ( حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ولم يقل ) أتيت المكان وآتانيه فلان (. قلت : حاصله تخصيص باء التعدية بعد تعميم و ) المخاض ( بفتح الميم وجع الولادة. قال الجوهري : مخضت الناقة بالكسر مخاضاً مثل سمع سماعاً. قيل : طلبت الجذع لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة. يروى أنه كان جذعاً لنخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة خضرة ، وكان الوقت شتاء والتعريف إما كتعريف النجم والصعق لكون ذلك الجذع مشهوراً هناك ، وإما للجنس أي جذع هذه الشجرة خاصة أرشدت إليها لتطعم منها الرطب الذي هو خرسة النفساء أي طعامها الموافق لها ، ولأن النخلة أقل الأشياء صبراً على البرد ولا تثمر إلا باللقاح فكان ظهور ذلك الرطب من ذلك الجذع في الشتاء من دون لقاح وإبار دليلاً على حصول الولد من غير ذكر قال في الكشاف : النسي اسم ما من حقه أن يطرح وينسى كخرقة الطامث ونحوها ، ونظير الذبح لما من شأنه أن يذبح. وعن يونس : أن العرب إذا ارتحلوا قالوا : انظروا أنساءكم يعنون العصا والقدح والشظاظ ونحوها. تمنت لو كانت شيئاً يعبأ به فحقه أن ينسى في العادة. ومعنى ) منسياً ( أنه قد نسي وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو حقه. وإنما تمنت ذلك لما لحقها من فرط الحياء والخجل ، أو لأنهم بهتوا وهي عارفة ببراءة ساحتها فشق ذلك عليها ، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله بسببها. ومن قرأ ) نسياً ( بالفتح فقد قال الفراء : هما لغتان كالوتر والوتر. ويجوز أن يكون تسمية بالمصدر كالحمل. وقرىء ) نسأ ( بالهمزو هو الحليب المخلوط بالماء ينسؤه أهله لقلته ونزارته ) فناداها من تحتها ((4/479)
" صفحة رقم 480 "
الذي هو تحتها أو إنسان تحتها يعني جبريل بناء على أنه كانت يقبل الولد كالقابلة ، أو أراد أسفل من مكانها لأن مريم كانت أقرب إلى الشجرة منه ، أو كان جبريل تحت ا لأكمة وهي فوقها فصاح بها لا تحزني. وعن الحسن وسعيد بن جبير أن المراد به عيسى لأن ذكر عيسى أقرب ، ولأن موضع اللوث لا يليق بالملك ، ولأن الصلة يجب أن تكون معلومة للسامع والذي علم كونه حاصلاً تحتها هو الولد ويجري القولان فيمن قرأ بكسر الميم. وعن عكرمة وقتادة أن الضمير في تحتها للنخلة. قوله : ( سرياً ( جمهور المفسرين على أن السريّ هو الجدول. وروي ذلك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمي بذلك لأن الماء يسري فيه. وقيل : هو من السر ومعناه سخاء في مروءة : ويقال : فلان من سروات قومه أي من أشرافهم. وجمع السري سراة وجمع سراة سروات. عن الحسن : كان والله عبداً سرياً حجة هذا القائل أن النهر لا يكون تحتها بل إلى جنبها ولا يمكن أن يقال : المراد أن النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كما في قوله : ( وهذه الأنهار تجري من تحتي ) [ الزخرف : 51 ] لأنه خلاف الظاهر. وأجيب بأن الملكان ا لمستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق. وكل من كان أبعد منه كان تحت. وأراد أن النهر تحت الأكمة وهي فوقها. وأيضاً حمل السري على النهر موافق قوله : ( واويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ) [ المؤمنون : 50 ] وقوله : ( فكلي واشربي ( يروى أن جبريل ضرب برجله فظهر ماء عذب. وقيل : كان هناك ماء جار ، والأول أقرب لأن قوله ) قد جعل ربك ( مشعر بالأحداث في ذلك الوقت. قال القفال : الجذع من النخلة هو الأسفل وما دون الرأس الذي عليه الثمرة. وقال قطرب : كل خشبة في أصل شجرة هي جذع ، والباء في قوله : ( بجذع النخلة ( كالزائد لأن العرب تقول هزة وهز به والمعنى حركي جذع النخلة أو افعلي الهز به. و ) رطباً ( تمييز ومفعول تساقط على حسب القراآت اللازمة والمتعدية. وعن الأخفش المسراد جوز انتصابه ب ) هزي ( أي هزي إليك رطباً جنياً بجذع النخلة أي على جذعها. والجني المأخوذ طرياً. والظاهر أنه ما أثمر إلا الرطب وقد صار نخلاً. وقيل : إنه كان على حاله وإنه أثمر مع الرطب غيره. قالوا : إذا عسر ولادة المرأة لم يكن لها خير من الرطب ، والتمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذا التحنيك. والمراد أنه جمع لها فائدتان من السري والرطب : إحداهما الأكل والشرب وقدم الأكل مع أن ذكر السري مقدم لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال من الدماء ، والثانية سلوة الصدر لكونهما معجزين لزكريا أو إرثاصاً لعيسى أو كرامتين لمريم وأشار إلى هذه قوله : ( وقري عيناً ( لأن قرّة العين تلزم قوة القلب والتسلي من الهموم والأحزان .(4/480)
" صفحة رقم 481 "
وقيل : إن ألم النفس أشد من ألم البدن ، فلم قدم دفع ألم البدن على دفع ألم القلب ؟ وأجيب بان الخوف النفسي كان قليلاً لتقدم بشارة جبريل فكان التذكر كافياً ) فإما ترين ( أصله ترأيين مثل تسمعين خففت الهمزة وسقطت نون الإعراب للجزم ثم ياء الضمير للساكنين وذلك بعد لحوق نون التأكيد وقد مر في قوله : ( وما يبلغن عندك الكبر ) [ الإسراء : 23 ] إذاً لتأكيد هذه الصورة يقصد به أن الشرط مما سيقع غالباً فإن مريم لا بأن ترى أحداً من البشر عادة. عن أنس بن مالك : الصوم هنا الصمت. وعن ابن عباس مثله. وقال أبو عبيدة : كان ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم. وعن ابن أراد الصيام إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم. قال القفال : لعل مثل هذا النذر يجوز في شرعنا لأن الاحتراز عن كلامالبشر يجرد الفكر لذكر الله تعالى وهو قربة ، ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق والتشديد ولا حرج في الإسلام. وفي الكشاف : نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن صوم الصمت. وروي أنه دخل أبو بكر الصديق على امرأة وقد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر : إن الإسلام هدم هذا فتكلمي. وفي أمرها بهذا النذر معنيان : أحدهما أن كلام عيسى أقوى في إزالة التهمة وفيه أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى ، والثاني أن السكوت عن جدال السفهاء أصون للعرض ومن أذل الناس سفيه لم يجد مشافهاً. وكيف أخبرتهم بالنذر ؟ قيل : بالإشارة وإلا لزم النقض. وقيل : خص هذا الكلام بالقرينة العقلية. وقوله : ( إنسياً ( أراد المبالغة في نفي الكلام أو أراد أني أكلم الملائكة دون الإنس وهذا أشبه بقوله : ( فإما ترين من البشر (. ) فأتت به ( أي بعيسى ) قومها تحمله ( الجملة حال. عن وهب : قال أنساها كربة الميلاد وما سمعت من الناس ما كان من بشارة الملائكة ، فلما كلمها جاءها مصداق ذلك فاحتملته فأقبلت به إلى قومها. وعن ابن عباس : أن يوسف النجار انتهى بمريم إلى غار فلبثوا فيه أربعين يوماً حتى طهرت من نفاسها ، ثم جاءت تحمله فكلمها عيسى في الطريق فقال : يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه. فلما دخلت به على قومها تباركوا وقالوا : ( لقد جئت شيئاً فرياً ( بديعاً من فرى الجلد ، وليس في هذا ما يوجب تعييراً أو ذماً لأن أمرها كان خارجاً عن المعتاد ، ويحتمل أن يراد إنه أمر منكر خارج عن طريق العفة والصلاح فيكون توبيخاً ويؤكده قولهم : ( يأخت هرون ( الآية. واختلفوا في هارون فقيل : كان أخاها من أبيها من أمثل بين إسرائيل وهذا أظهر لأن حمل اللفظ على الحقيقة أولى من غيره. وقيل : يروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم عنوا هارون النبي أخا موسى عليهما السلام وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة(4/481)
" صفحة رقم 482 "
الأخوة وبينهما ألف سنة وأكثر. وعن السدي : كانت من أولاده والمراد أنها واحدة منهم كما يقال يا اخا همدان أي يا واحداً منهم. وقيل : أرادوا رجلاً صالحاً في زمانها أي كنت عندنا مثله في الصلاح. ويحكى أنه تبع جنازته أربعون ألفاً كلهم يسمى هارون تبركاً به وباسمه. وقيل : كان رجلاً طالحاً معلناً بالفسق فسموها به وبالتشبيه بسيرته. ويروى أنهم هموا برجمها ) فأشارت إليه ( أي أن عيسى هو الذي يحكم. وبم عرفت ذلك ؟ إما بأن كلمها في الطريق أو بالإلهام أو بالوحي إلى زكريا أبو بقول جبريل على أن أمرها بالسكوت بعد ما سبق من البشارة قيل : كان المستنطق لعيسى زكريا. وعن السدي. لما أشارت إليه غضبوا وقالوا لسخريتها بنا أشد علينا من زناهم ثم ) قالوا كيف نكلم من كان في المهد ( قال جار الله : ( كان ( لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماضٍ مبهم يصلح للقريب والبعيد ، وههنا للزمان القريب عن الحال بدلالة الحال ، أو هو حكاية حال ماضية أي كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس ) صبياً ( في المهد حتى تكلم هذا ، ويحتمل أن يقال : ( كان ( زائدة نظراً إلى أصل المعنى وإن كان يفيد زيادة ارتباط مع رعاية الفاصلة ، أو هي تامة ) صبياً ( حال مؤكدة. ويرى أنه كان يرضع فلما سمع مقالتهم ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه وتكلم مع جاره وأشار بسبابته قائلاُ : ( إني عبد الله ( فكان فيه أوّلاً رد قول النصارى : ( آتاني الكتاب ( هو الإنجيل والتوراة أي فهمها. وقيل : أكلم الله عقله واستنبأه طفلاً بل في بطن أمه. وقيل : أراد أنه سبق في قضائه ، أو جعل الآتي لا محالة كأنه قد وجد والأول أظهر وصغر الجسم لا مدح في كمال العقل وخرق العادة فيه أكذا قالوا إن كمال عقله في ذلك الوقت خارق للعادة. فيكون المعجز متقدماً على التحدي وهو غير جائز ولو كان نبياً في ذلك الوقت وجب أن يشتغل ببيان الشرائع والأحكام ولو وقع ذلك لاشتهر ونقل. والجواب أن بعض معجزات النبي لا بد أن يكون مقروناً بالتحدي ، أما الكل فممنوع ، وبعبارة أخرى لا بد أن يكون مقروناً بفعل خارق عن العادة ، ولكن كل فعل خارق للعادة فإنه لا يلزم اقترانه بالتحدي ، وكذا الكلام في بيان الشرائع فإن بعض أوقات النبي لا بد ان يقترن به التحدي دون كل أوقاته وحالاته ، على أنه أشار إلى بعض التكاليف بقوله : ( وأوصاني بالصلاة والزكاة ( كما يجيء. وعن بعضهم أنه كان نبياً لقوله : ( وجعلني نبياً ( ولكنه ما كان رسولاً لأنه ما جاء بالشريعة في ذلك الوقت ومعنى كونه نبياً أنه رفيع القدر عليّ الدريجة ، وضعف بأن النبي في عرف الشرع أخص من ذلك. ومعنى قوله : ( مباركاً أينما كنت ( نفاعاً حيثما كنت روي ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وقيل معلماً للخير ، وضلال كثير من أهل الكتاب باختلافهم فيه لا يقدح في منصبه كما قيل :(4/482)
" صفحة رقم 483 "
عليّ نحت القوافي من معادنها
وما عليّ إذا لم تفهم البقر
وهذه سنة الله في أنبيائه ورسله كلهم ) وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّاً ) [ الفرقان : 31 ] يروى أن مريم سلمت عيسى إلى المكتب فقالت للمعلم. أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له : اكتب. فقال له : أي شيء أكتب ؟ فقال : اكتب ) أبجد ( فقال : لا أكتب شيئاً لا أدري. ثم قال : إن لم تعلم ما هو فأنا أعلمك. الألف من آلاء الله ، والباء من بهاء الله والجيم من جمال الله ، والدال من أداء الحق إلى الله. وقيل : البركة أصلها من بروك البعير والمعنى جعلني ثابتاً في دين الله مستقراً فيه. وقيل : البركة هي الزيادة والعلو فكأنه قال : جعلني في جميع الأشياء غالباً منجحاً إلى أن يكرمني الله بالرفع إلى السماء عن قتادة أنه رأته امرأته وهو يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص فقالت : طوبى لبطن حملتك وثدي أرضعت به. فقال عيسى عليه السلام مجيباً لها : طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يك جباراً شقياً. ) وأوصاني بالصلاة والزكاة ( أي بأدائهما إما في وقتهما المعين وهو وقت البلوغ ، وإما في الحال بناء على أنه كان مع صغره كامل العقل تام التركيب بحيث يقوى على أداء التكاليف ويؤيده قوله ) ما دمت حياً ( وقيل : الزكاة ههنا صدقة الفطر. وقيل : تطهير البدن البدن من دنس الآثام. وقيل : أوصاني بأن آمركم بهما. وفي قوله : ( وبراً بوالدتي ( دلالة وإشارة إلى تبرئة أمه من الزنا وإلا لم يكن الرسول المعصوم مأموراً بالبر بها. قال بعض العلماء : لا تجد العاق إلا جباراً شقياً وتلا قوله : ( وبراً بوالدتي ( ) ولم يجعلني جباراً شقياً ( ولا تجد سيىء الملكة إلا مختالاً فخوراً. وقرأ ) وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً ) [ النساء : 36 ] وإنما نفى عن عيسى الشقاوة ولم ينف عنه المعصية كما نفى عن يحيى لما جاء في الخبر ) ما أحد من بني آدم إلا أذنب أو هم بذنب إلا يحيى بن زكريا ( ومن عقائد أهل السنة أن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر. قوله : ( والسلام عليّ ( قالت العلماء : إنما عرف السلام ههنا بعد تنكيره في قصة يحيى لأن النكرة إذا تكررت تعرفت على أن تعريف الجنس قريب من تنكيره. وقيل : إن الأول من الله والقليل عنه كثير. قليل منك يكفيني
قليلك لا يقال له قليل
وإني لأرضى منك يا هند بالذي
لو أبصره الواشي لفرت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى
وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله(4/483)
" صفحة رقم 484 "
والثاني من عيسى والكثير منه لا يبلغ معشار سلام الله. عن بعضهم أن عيسى عليه السلام قال ليحيى : أنت خير مني سلم الله عليك وسلمت على نفسي. وأجاب الحسن بأن تسليمه على نفسه هو تسليم الله عليه. وقال جار الله : في هذا التعريف تعريض باللعنة على متهمي مريم وأعدائها من اليهود لأنه إذا زعم أن جنس السلام خاصته فقد عرض بأن ضده عليهم نظيره في قصة موسى ) والسلام على من اتبع الهدى ) [ طه : 47 ] يعني أن العذاب على من كذب وتولى. يروى أنه كلمهم بهذه الكلمات ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان. وعن اليهود والنصارى أنهم أنكروا تكلم عيسى في المهد قائلين إن هذه الواقعة مما يتوفر الدواعي على نقلها ، فلو وجدت لاشتهرت وتواترت مع شدة غلو النصارى فيه وفي مناقبه. وأيضاً إن اليهود مع شدة عداوتهم له لو سمعوا كلامه في المهد بالغوا في قتله ودفعه في طفوليته. وأجبا المسلمون من حيث العقل بأنه لولا كلامه الذي دلهم على براءتها من الذي قذفوها به لأقاموا عليها الحد ولم يتركوها ، ولعل حاضري يشتغلوا وقتئذ بدفعه والله أعلم. ) ذلك ( الموصوف بالصفات المذكورة من قوله : ( إني عبد الله ( إلى آخره هو ) عيسى ابن مريم ( وفي كونه ابن لهذه المرأة نفى كونه ابناً على ما زعمت الضالة وأكد هذا المعنى بقوله : ( قول الحق ( فإن كان الحق هو اسم الله فهو كقوله : ( كلمة الله ( وانتصابه على المدح ، وإن كان بمعنى الثابت والصدق فانتصابه على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة كقولك ) هو عبد الله الحق ( و ) قول الحق ( من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل ) حق اليقين ) [ الواقعة : 95 ] قد مر آنفاً. وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر ، أو بدل ، أو خبر مبتدأ محذوف. ومعنى ) تمترون ( تشكون من المرية الشك ، أو المراد يتمارون من المراء اللجاج وذلك أن اليهود قالوا : ساحر كذاب ، وقالت النصارى ابن الله وثالث ثلاثة. ثم صرح ببطلان معتقدم فقال : ( ما كان الله ( ما صح له وما استقام ) أن يتخذ من ولده ( كما لا يستقيم أن يكون له شريك ، وقد مر مثل هذه الآية في سورة البقرة. والذي نزيده ههنا أن بعضهم قال : معنى الآية ما كان لله أن يقول لأحد إنه ولدي لأن هذا الخبر كذب والكذب لا يليق بحكمته تعالى. وزعم الجبائي بناء على هذا التفسير أنه ليس لله أن يفعل كل شيء لأن قوله : ( ما كان لله أن يتخذ من ولد ( كقولنا ) ما كان لله أن يظلم ( فلا يليق شيء منها بحكمته وكمال إلهيته. وأجيب بأن الكذب على الله محال ، والظلم تصرف في ملك الغير فلا يتصوّر في حقه. فإن أردتم هذا المعنى فلا نزاع ، وإن أردتم شيئاً آخر(4/484)
" صفحة رقم 485 "
فما الدليل على استحالته ؟ احتج بعض الأشاعرة بالآية على قدم كلام الله لأن قوله : ( كن ( إن كان قديماً فهو المطلوب ، وإن كان محدثاً احتاج في حدوثه إلى قوله آخر وتسلسل. واستدلت المعتزلة بها على حدوث كلامه قالوا : إن قوله : ( إذا قضى ( للاستقبال وذلك القول متأخر عن القضاء المحدث ، والمتأخر عن المحدث محدث. وأيضاً الفاء في ) فيكون ( للتعقيب والقول متقدم عليه بلا فصل ، والمتقدم على المحدث بزمان قليل محدث ، وكلا الاستدلالين ضعيف لأنه لا نزاع في حدوث الحروف وإنما النزاع في كلام النفس. وأيضاً قوله : ( كن ( عبارة عن نفاذ قدرته ومشيئته وإلا فليس ثم قول لأن الخطاب مع المعدوم عبث ومع الموجود تحصيل الحاصل. ومن الناس من زعم أن المراد من قوله : ( كن ( هو صفة التكوين فإنها زائدة على صفة القدرة لأنه قادر على عوالم أخر سوى هذا وغير مكون لها ، ولعل هذا الزاعم سمى تعلق القدرة بالمقدور تكويناً. ومن قرأ ) وأن الله ( بالفتح فمعناه ولأن الله ) ربي وربكم فاعبدون ( وفيه أن الربوبية هي سبب العبادة فمن لم تصح ربوبيته لميستح قأن يعبد ، ولا رب بالحقيقة إلا الله لانتهاء جميع الوسائط والأسباب إليه ، فلا يستحق العبادة إلا هو. وههنا نكنة هي أن الله تعالى لا يصح أن يقول : إن الله ربي وربكم فاعبدوه ( فالتقدير قل : يا محمد بعد إظهار البراهين الباهرة على أن عيسى عبد الله ) إن الله ربي وربكم ( قال أبو مسلم لأصفهاني : إنه من تتمة كلام عيسى وما بينهما اعتراض. وعن وهب بن منبه : عهد إليهم حين أخبرهم عن حاله وصفته أن كلنا عبيد الله تعالى ) فاختلف الأحزاؤ من بينهم ( أي من بين أهل الكتاب. قال الكلبي : هم اليهود والنصارى. وقيل : النصارى اختلفوا ثم اتفقوا على أن يرجعوا إلى علماء زمانهم وهم يعقوب ونسطور وملكا فقيل للأول : ما تقول في عيسى ؟ فقال : هو الله هبط إلى الأرض فخلق وأحيا ثم صعد إلى السماء فتبعه على ذلك خلق كثير وهم اليعقوبية. وسئل الثاني فقال : هو ابن الله فتابعه جم غفير وهم وهم النسطورية ، وسئل الثالث فقال : كذبوا وإنما كان عبداً مخلوقاً نبياً يطعم وينام فصارا خصمه وهو المؤمن المسلم. وقيل : كانوا أربعة والرابع اسمه إسرائيل فقال : هو إله وأمه إله والثلاثة أقانيم والروح واحد. واعلم أن بحث الحلول والاتحاد فيه طول وقد ينجر الكلام فيه إلى مقامات يصعب الترقي إليها ، فلذلك ضل فيه من ضل وزل عنه من زل والله سبحانه أعلى من جميع ذلك وأجل ) فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ( أي من شهودهم هذا الجزاء والحساب في ذلك اليوم ، أو من زمان شهودهم ، أو من مكان شهودهم فيه وهو الموقف. ويحتمل أن يكون المشهد ومن الشهادة أي من يشهد عليهم(4/485)
" صفحة رقم 486 "
الملائكة والأنبياء أو جوارحهم فيه بالكفر والقبائح ، أو من مكان الشهادة أو وقتها. وقيل : هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه يو ولادته. ومعنى ) من ( التعليل أ ] الويل لهم من أجل المشهد وبسببه قال أهل البرهان : إنما قال ههنا ) فويل للذين كفروا ( وفي جم الزخرف ) فويل للذين ظلموا ) [ الآية : 65 ] لأن الكفر أبلغ من الظلم ، وقصة عيسى في هذه السورة مشروحة وفيها ذكر نسبتهم إياه إلى الله حتى قال : ( ما كان لله أن يتخذ من ولد ( فذكر بلفظ الكفر ، وقصتهم في الزخرف مهملة فوصفهم بلفظ دونه وهوالظلم. قلت : ويحتمل أن يقال : الظلم إذا أريد به الشرك كان أخص من الكفر فعمم أولاً ثم خصص لأن البيان بالمقام الثاني أليف ) أسمع بهم وأبصر ( صيغتان للتعجب والمراد أن هاتين الحاستين منهم جديران بتعجب منهما في ذلك اليوم بعد ما كانوا صماً وعمياً في الدنيا ، وذلك لكشف الغطاء ولحاق العيان بالخبر. والتعجب استعظام الشيء بسبب عظمه ، ثم جوز استعمال لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير سبب. قال سفيان : قرأت عند شريح ) بل عجب ويسخرون ) [ الصافات : 12 ] فقال : إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم. فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال : إن شريحاً شاعر يعجبه علمه وعبد الله أعلم بذلك منه. والمعنى أنه صدر من الله فعل لو صدر مثله عن الخلق لدل على حصول التعجب في قلوبهم. وقيل : معنى الآية التهدد بما سيسمعون وسيبصرون مما يسوءهم. وقيل : أراد أسمع بهؤلاء وأبصر أي عرفهم مآل القوم الذين يأتوننا ليعتبروا وينزجروا بسوء عاقبتهم والوجه هو الأول يؤيده قوله : ( لكن الظالمون ( أي لكنهم فوضع المظهر موضع المضمر. ) اليوم ( وهو يوم التكليف ) في ضلال مبين ( حيث أغفلوا النظر والاستماع وتركوا الجد والاجتهاد في تحصيل الزاد للمعاد وهو ) يوم الحسرة ( لتحسر أهل النار فيه. وقيل : أهل الجنة أيضاً إذا رأى الأدنى مقام الأعلى ، والأول أصح لأن هذه الخواطر لا توجد في الجنة لأنها دار السرور. و ) إذ ( بدل من يوم الحسرة أو منصوص بالحسرة. ومعنى ) قضي الأمر ( فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سئل عنه فقال : ( يؤتى بالموت فيذبح كما يذبح الكبش والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرح وأهل النار غماً إلى غم ( قال أرباب المعقول : إن الموت عرض فلا يمكن أن يضير حيواناً فالمراد أنه لا(4/486)
" صفحة رقم 487 "
موت بعد ذلك. عن الحسن ) وهم في غفلة ( متعلق بقوله : ( في ضلال مبين ( وقوله : ( وأنذرهم ( اعتراض. ويحتمل أن يتعلق ب ) أنذرهم ( أي أنذرهم على هذه الحال غافلين غير مؤمنين. ويحتمل أن يكون ) إذ ( ظرفاً ل ) أنذر ( أي أنذرهم حين قضي الأمر ببيان الدلائل وشرح أمر الثواب والعقاب. ثم أخبر عنهم أنهم في غفلة ) وهم لا يؤمنون ( ثم قرر بقوله : ( إنا نحن نرث ( أن أمور الدنيا كلها تزول وأن الخلق كلهم يرجعون إلى حيث لا يملك الحكم إلا الله وفيه من التخويف والإنذار ما فيه. التأويل : ( واذكر في الكتاب ( الأزلي ) مريم ( القلب ) إذا انتبذت من أهلها ( تفردت من أهل الدنيا متوجهاً إلى جانب شروق النور الإلهي ) فاتخذت من دونهم ( حجاب الخلوة والعزلة ) فأرسلنا إليها روحنا ( وهو نور الإلهام الرباني والخاطر الرحماني كقوله : ( وكذلك أويحنا إليك روحاً من أمرنا ) [ الشورى : 521 ] ( فتمثل لها بشراً سوياً ( كما تمثل روح التوحيد بحروف ) لا إله إلا الله ( لانتفاع الخلق به. و ) قالت إني أعوذ بالرحمن منك ( ظناً منها أنه يشغلها عن الله. ) قال إنما أنا رسول ( الوارد الرباني ) لأهب غلاماً زكياً ( طاهراً عن لوث الظلمة الأنسية وهو النفس المطمئنة القدسية. ولم يمسسني بشر ( خاطر من عالم البشرية ) ولم أك بغياً ( أطلب غير ما خلقت لأجله وهو التوجه إلى عالم الروح المجرد ) فحملته ( بالقوة القريبة من الفعل ) فانتبذت به مكاناً قصياً ( لافتقاره إلى العبور على منالز الشريعة والطريقة ) فأجاءها ( مخاض الطلب والتعب ) إلى جذع النخلة ( وهي كلمة ) لا إله إلا الله ( التي كان أصلها ثابتاً في أرض نفسها ) قالت يا ليتني مت قبل هذا ( قال بعض أهل التحقيق : هذه كلمة يذكرها الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم. قال عليّ عليه السلام يوم الجمل : يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وعن بلال : ليت بلالاً لم تلده أمه. وقيل : إن مريم قالت ذلك لعلمها بأن الله تعالى يدخل النار خلقاً كثيراً بسبب تهمتها وبسبب الغلو اولتقصير في حق ابنها قلت : إن مريم القلب قالت يا ليتني مت عن اللذت الجمسية قبل هذا الوقت الذي فزت باللذات الحقيقية وكنت نسياً منسياً ، لإإن الخمول راحة والشهرة آفة ) فناداها ( بلسان الحال من تحت تصرفها من آلات القوى ) أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك ( أي تحت تصرفك ) سرياً ( هو الغلام الموعود أو جدول الكشوف والعلوم الدينية ) وهزء إليك بجذع النخلة ( بالمداومة على الذكر ) تساقط عليك رطباً جنياً ( من المشاهدات والمكاشفات حالاً فحالاً ) فكلي واشربي ( من(4/487)
" صفحة رقم 488 "
خوان الأفضال وبحر النوال من مادته ) أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ( ) وقري عينا ( بأنوار الجمال في حجرة الوصال ) فأما ترين ( من السوانح البشرية ) أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً ( كما قيل الدنيا يوم ولنا فيه صوم أي الالتفات لغير الله. ) فأتت به قومها ( من عادة الجهال إنكار أحوال أهل الكمال. ) يا أخت هرون ( النفس المطمئنة أو الأمارة بناء على أن هارون كان صالحاً أو طالحاً ) وكان أبوك ( وهو الروح المفارق ) إمرأ سوء وما كانت أمك ( وهي القلب ) بغياً ( تستأنس إلى غير عالم الطبيعة التي خلقت لأجلها ) فأشارت إليه ( فيه أن هذه القوم هم أهل الإشارات ) في المهد ( مهد السر ولك المتولد من نفخ الروح في مريم القالب ليس ابناً لله ولا محلاً له ولا نفسه. ) فاختلف الأحزاب ( فقوم عبدوا الله لأجله ، وقم عبدوه طمعاً في جنته ، وقم عبدوا الهوى وذلك قوله : ( فويل للذين كفروا ( ) أسمع بهم ( أي بأهل الله ) وأبصر يوم يأتوننا ( فإنهم بالهه يسمعون وبه يبصرون. ( مريم : ( 41 - 65 ) واذكر في الكتاب . . . .
" واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن(4/488)
" صفحة رقم 489 "
التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا "
( القراآت )
ربي إنه ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) مخلصاً ( بفتح اللام : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل. الباقون بكسرها. ) إبراهام ( وما بعده : هشام والأخفش عن ابن ذكوان ) إذا ابتلي ( بالياء التحتانية وكذلك في سورة الحج : قتيبة ) نورث ( بالتشديد : رويس. الوقوف : ( إبراهيم ( ط ) نبياً ( ه ) شيئاً ( ه ) سوياً ( ه ) لا تعبد الشيطان ( ط ) عصياً ( ه ) ولياً ( ه ) يا إبراهيم ( ط ج وقد يوصل ويوقف على ) آلهتي (. ) ملياً ( ه ) سلام عليك ( ج للاتبداء بسين الاستقبال مع أن القائل واحد ) لك ربي ( ط ) حفياً ( ه ) وأدعو ربي ( ز لانقطاع النظم والوصل أولى لأن عيسى لطمع الإجابة بالدعا ) شقياً ( ه ) من دون الله ( لا لأن ما بعده جواب لما ) ويعقوب ( ط ) نبياً ( ه ) نبياً ( ه ) علياً ( ه ) موسى ( ز للأبتداء بأن مع أن المراد بالذكر إخلاص موسى ) نبياً ( ه ) نجياً ( ه ) نبياً ( ه ) إسماعيل ( ز لما مر ) نبياً ( ه ج للآية مع العطف ) والزكاة ( ط ) مرضيا ( ه ) إدريس ( ز ) نبياً ( ه ) علياً ( ه ) مع نوح ( ز على تقدير ومن ذريته إبراهيم وما بعده قوم إذا تتلى عليهم ، وكذا وجه من وقف على ) ذرية آدم ( أو على ) إسرائيل ( والأصح أن الكل عطف على ذرية آدم والوقف على قوله : ( واجتبينا ( لئلا يحتاج إلى الحذف وليرجع ثناء السجود والبكاء إلى الكل ) وبكي ( ه ) عياً ( ه ) شيئاً ( ه لا بناء على أن ) جنات ( بدل من ) الجنة ( ه ) بالغيب ( ط ) مأتيا ( ه ) سلاماً ( ه ) وعشياً ( ه ) تقياً ( ه ) بأمر ربك ( ج لاختلاف الجملتين ) ذلك ( ج لأن قوله : ( وما كان ( معطوف على ) نتنزل ( مع وقوع العارض ) نسياً ( ج ه ، لأن ما بعده بدل أو خبر مبتدأ محذوف ) لعبادته ( ط ) سمياً ( ه. التفسير : إن الذين أثبتوا معبوداً سوى الله منه من أثبت معبوداً حياً عاقلاً كالنصارى ، ومنهم من عبد جماداً كعبدة الأوثان ، وكلا الفريقين ضال إلا أن الفريقين الثاني أضل. وحين بين ضلال الفريق الأول شرع في بيان ضلال الفريق الثاني تدرجاً من الأسهل إلى الأصعب. وإنما بدأ بقصة إبراهيم عليه السلام لأنه كان أبا العرب وكانوا مقرين بعلوّ شأنه وكمال دينه فكأنه قال لهم : إن كنتم مقلدين فقلدوه في ترك عبدة الأوثان(4/489)
" صفحة رقم 490 "
وعبادتها ، وإن كنتم مستدلين فانظروا في الدلائل التي ذكرها على أبيه. والمراد بذكر الرسول إياه في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس كقوله : ( واتل عليهم نبأ إبراهيم ) [ الشعراء : 69 ] وإلا فهو سبحانه هو الذي يذكره في تنزيله. وقوله : ( إذ قال ( بدل من ) إبراهيم ( وما بينهما اعتراض ، ولمكان هذا الاعتراض صار الوقوف على ) إبراهيم ( مطلقاً. وجوز في الكشاف أن يتعلق ( إذ ) ب ) كان ( أو ب ) صديقاً نبياً ( أي كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات. والصديق من أبنية المبالغة فهي إما مبالغة صادق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ، وإما مبالغة مصدق وذلك تصديقه. إلا إذا كان صادقاً وهذا أيضاً بالحقيقة يعود إلى الأول ، لأن مصدق الحق لا يعتبر وكان نبياً في نفسه رفيع القدر عند الله وعند الناس بحيث جعل واسطعة بينه وبين عباده. وقيل : إن ( كان ) بمعنى ( صار ) والأصح أنه بمعنى الثبوت والاستمرار أي إنه لم يزل موصوفاً بالصدق والنبوة في الأوقات الممكن له ذلك فيها. والتاء في ) يا أبت ( عوض من ياء الإضافة وقد مر في أول سورة يوسف. أورد على أبيه الدلائل والنصائح وصدر كلاً منها بالنداء المتضمن للرفق واليين استمالة لقلب أبيه وامتثالاً لأمر ربه على ما رواه أبو هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أوحى الله إلى إبراهيم إنك خليلي وحسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس وأدنيه من جواري ). فقوله : ( لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ( منسيّ المفعول لا منويه فإن الغرض نفي الفعلين على الإطلاق دون التقييد. و ) ما ( موصولة أو موصوفة أي الذي لا يسمع أو معبوداً لا يسمع و ) شيئاً ( مفعول به من قوله : ( أغن عني وجهك ( أي ادفعه. ويجوز أن يكون بمعنى المصدر أي شيئاً من الإغناء ، وعلى هذا يجوز أن يقدر نحوه مع الفعلين السابقين أي لا يسمع شيئاً من السماع إلى آخره. وحاصل الدليل أن العبدة غاية الخضوع فلا يستحقها إلا أشرف الموجودات لا أخسها وهو الجماد غاية عذرهم عن تلك هي أنها تماثيل أشياء يتصوّر نفها أو ضرها كالكواكب وغيرها فيقال لهم : أليس الكواكب وسائر الممكنات تنتهي في الاحتياج إلى واجب الوجود ؟ فإذا جعل شيء من هذه الأشياء معبوداً فقد شورك الممكن والواجب في نهاية التعظيم وهذا مما ينبو عنه الطبع السليم ، ورفع الوسائط من البين أدخل في الإخلاص وأقرب إلى الخلاص. وقوله : ( يا أبت أني قد جاءني ( تنبيه ونصيحة وفيه أن هذا العلم تجدد له حصوله فيكون أقرب إلى التصديق. وفي قوله : ( من العلم ما لم يأنك ( فائدة(4/490)
" صفحة رقم 491 "
هي أنه لم يسم أباه بالجهل المفرط ولانفسه بالعلم الفائق ولكنه قال : إن معي طائفة من العلم ليست معك فلا تستنكف ، وهب أنا في مفازة وعندي معرفة بالدلالة دونك ) فاتبعني أهدك صراط سوياً ( مستوياً مؤدّياً إلى المقصود وهو صلاح المعاش والمعاد. استدل أرباب التعليم بالآية أنه لا بد من الاتباع. وأجيب بأنه لا يلزم من اتباع النبي اتباع غيره. والإنصاف أن هذه الطريق أسهل. ثم أكد المعنى المذكور بنصيحة أخرى زاجرة عما هو عليه فقال : ( يا أبت لا تعبد الشيطان ( أي لا تطعه فإن عبادة الأصنام هي طاعة الشيطان. ثم أسقط حصة نفسه إذ لم يقل إن الشيطان عدوّ لبني آدم بل قدّم حق ربه فقال : ( إن الشيطان كان للرحمن عصياً ( حين ترك أمره بالسجود عناداً واستكباراً لا نسياناً وخطأ ، نبهه بهذه النصيحة على وجود الرحمن ثم على وجود الشيطان ، وأن الرحمن مصدر كل خير ، والشيطان مظهر كل شر بدلالة الموضوع اللغوي ، وهذا القدر كافٍ من التنبيه لمن تأمل وأنصف. ثم بين الباعث على هذه النصحية فقال : ( يا أبت إني أخاف ( وفيه مع التخويف من سواء العاقبة أنواع من الأدب إذ ذكر الخوف والمس ونكر العذاب. قال الفراء : معنى أخاف أعلم. والأكثرون على أنه محمول على ظاهره لأن إبراهيم عليه السلام لم يكن جازماً بموت أبيه على الكفر وإلا لم يشتغل بنصحه. والخوف على الغير ظن وصول الضرر إلى ذلك الغير مع تألم قلبه من ذلك كما يقال : أنا خائف على ولدي. وذكروا في الولي وجوهاً منها : أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع اشيطان في النار والمعية سبب الولاية أو مسببها غالباً ، وإطلاق أحدهما على الآخر مجاز. وليس هناك ولاية حقيقة لقوله : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ ) [ الزخرف : 67 ] ( إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) [ إبراهيم : 22 ] ومنها أن حمل العذاب على الخذلان ومنها أن الولي بمعنى التالي والتابع قال جار الله : جعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أتباعه وأوليائه أكبر من نفس العذاب ، لأن ولاية الشيطان في مقابلة رضا الرحمن وقال ع من قائل : ( ورضوان من الله أكبر ) [ التوبة : 72 ] وإذا كان رضوان الله أكبر من نعيم الجنة فولاية ا لشيطان أعظم من عذاب النار. ثم إن الشيخ قبل ملاطفات إبراهيم بالفظاظة والغلظ قائلاً ) أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ( فقدم الخبر على المبتدأ إشعاراً بأنه عنده أعنى. وفي هذا الاستفهام ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته. وفي قوله : ( يا إبراهيم ( دون أن يقول : ( يا بني ( في مقابلة ) يا أبت ( تهاون به كيف لا وقد صرح بالإهانة قائلاً ) لئن لم تنته لأرجمنك ( باللسان أي لأشتمنك أو باليد أي لأقتلنك وأصله الرمي بالرجام. ثم ههنا إضمار أي(4/491)
" صفحة رقم 492 "
فاحذرني ) واهجرني ملياً ( أي زماناً طويلاً من الملاوة ، أو أراد ملياً بالذهاب والهجران. مطيقاً له قوياً عليه قبل أن أثخنك بالضرب. فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على التمرد والجهالة ) قال سلام عليك ( يعني سلام توديع ومتاركة كقوله : ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) [ الفرقان : 63 ] وفيه أن متاركة المنصوح إذا ظهر منه آثار اللجاج من سنن المرسلين ، ويحتمل أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له ورفقاً به بدليل قوله : ( سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيّاً ( بليغاً في البر والإلطاف وقد مر ي آخر ) الأعراف (. احتج بالآية بعض من طعن في عصمة الأنبياء قال : إنه استغفر لأبيه الكافر وهو منهي عنه لقوله : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) [ التوبة : 113 ] الآية. ولقوله في الممتحنة ) قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ( إلى قوله : ( إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ) [ الممتحنة : 4 ] فلو لم يكن هذا معصية لم يمنع من التأسي به. والجواب لعل إبراهيم عليه السلام في شرعه لم يجد ما يدل على القطع بتعذيب الكافر أو لعل بهذا الفعل منه منباب ترك الأولى ، أو لعل الاستغفار بمعنى الاستبطاء كقوله : ( قل للذين منوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) [ الجاثية : 14 ] والمعنى سأسأل ربي أن يخزيك بكفرك ما دمت حياً. والجواب في الحقيقة ما مر في آخر سورة التوبة في قوله عز من قائل ) وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ) [ التوبة : 114 ] والمنع من التأسي لا يدل على المعصية ، فلعل للرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هي محرمة علينا. ثم صرح بما تضمنه السلام من التوديع والهجروان فقال : ( وأعتزلكم ( أي أهاجر إلى الشام ) و ( أعتزل ) ما تدعون ( أي ما تعبدون ) من دون الله ( وقد يعبر بالدعاء عن العبادة لأنه منها ومن وسائطها ، يدل على هذا التفسير قوله : ( فلما أعتزلهم وما يعبدون ( أما قوله : ( وأدعو ربي ( فيحتمل معنيين : العبادة والدعاء كما يجيء في سورة الشعراء. وفي قوله : ( عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً ( تعريض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم وعبادتها مع التواضع وهضم النفس المستفاد من لفظ ) عسى (. قال العلماء : ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم لما ترك أباه الكافر وقومه فراراً بدينه عوّضه الله أولاداً مؤمنين أنبياء وذلك قوله : ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً ووهبنا لهم ( شيئاً ) من رحمتنا ( عن الحسن : هي النبوة. وعن الكلبي : المال والولد. والأظهر أنها عامة في ذلك كل خير ديني ودنيوي ولسان الصدق والثناء الحسن ، عبر(4/492)
" صفحة رقم 493 "
باللسان عما يوجد به كما عبر باليد عما يطلق بها وهو العطية وقد مر تحقيق الإضافة في أول يونس في قوله : ( قدم صدق ) [ يونس : 2 ] تبرأ إبراهيم من أبيه ابتغاء مرضاة الله فسماه الله أبا بالمؤمنين ) ملة أبيكم إبراهيم ) [ الحج : 78 ] ، وتل ولده للجبين ففداه الله بذبح عظيم ، وأسلم نفسه لرب العالمين فجعل النار عليه برداً وسلاماً ، وأشفق على هذه الأمة فقال وابعث فيهم رسولاً ، فأشركه الله في الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الصلوات الخمس ، ووفى في حق سارة كما قال تعالى : ( وإبراهيم الذي وفى ) [ النجم : 37 ] فجعل موطىء قدمه مباركاً ) واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) [ البقرة : 125 ] وعادى كل الخلق في الله حين قال ) فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين ) [ الشعراء : 77 ] فلا جرم اتخذه الله خليلاً. ثم وقفى قصة إبراهيم بقصة موسى عليه السلام لأنه تلوه في الشرف. والمخلص بكسر اللام الذي أخلص العبادة عن الشرك والرياء وأخلص وجه لله ، وبالفتح الذي أخلصه الله و ) كان رسولاً نبياً ( الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء والنبي الذي ينبىء عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب ، وكان المناسب ذكر الأعم قبل الأخص إلا أن رعاية الفاصلة اقتضت عكس ذلك كقوله في طه ) برب هرون وموسى ) [ طه : 7 ] ( الأيمن ( من اليمين أي من ناحية اليمنى من موسى أو هو من اليمن صفة للطور أو للجانب ) وقربناه ( حال كونه ) نجياً ( أي مناجياً شبه تكليمه إياه من غير واسطة ملك بتقريب بعض الملوك واحداً من ندمائه للمناجاة والمسارة. وعن أبي العالية أن التقري بحسي ، قربه حتى سمع صريف القلم الذي كتبت به التوراة والأول أظهر ، ومنه قولهم للعبادة ) تقرب ( وللملائكة ) أنهم مقربون (. ) ووهبنا له من رحمتنا ( أي من أجلها أي بعض رحمتنا فيكون ) أخاه ( بدلاً و ) هرون ( عطف بيان كقولك ) رأيت رجلاً أخاك زيداً (. و ) نبياً ( حال من هارون. قال ابن عباس : كان هارون أكبر من موسى فتنصرف الهبة إلى معاضدته وموازرته. وذلك بدعاء موسى في قوله : ( واجعل لي وزيراً من أهلي ) [ طه : 29 ] وخص إسماعيل بن إبراهيم بصدق الوعد وإن كان الأنبياء كلهم صادقين فيما بينهم وبين الله أو الناس ، لأنه المشهور المتواصف من خصاله من ذلك : أنه وعد نفسه الصبر على الذبح فوفى به. وعن ابن عباس أنه وعد صاحباً له أن ينتظره فانتظره سنة. عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه واعد رجلاً ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى قريب من غروب الشمس. وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاده إلى أي وقت ينتظره ؟ فقال : إذا واعدته في وقت الصلاة فانتظره إلى وقت الصلاة أخرى. وكان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لغيرهم ولأن الابتداء بالإحسان الديني والدنيوي بمن هو أقرب أولى ) قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ) [ التحريم : 6 ] ( بدأ من تعول ( ويحسن(4/493)
" صفحة رقم 494 "
أن يقال : أهله أمته كلهم أقارب أو أباعد من حيث إنه يلزمه في جميعهم ما يلزم المرء في أهله خاصة من قضاء حقوق النصيحة والشفقة ورعاية مصالحهم الدينية والدنيوية. وعلى القولين يندرج في الصلاة الصلوات المفروضة والمندوبة كصلاة التهجد وغيرها ، وأما الزكاة فالأقرب أنها الصدقة المفروضة. وعن ابن عباس أنها طاعة الله والإخلاص لأن فاعلها يزكو بها عند الله. وأما إدريس فالأصح أنه اسم عجمي بدليل منع الصرف كما مر مراراً في آدم ويعقوب وغيرهما. وقيل : ( افعيل ( من الدرس لكثرة دراسته كتاب الله ، ولعل معناه بالأعجمية قريب من الدراسة فظنه القائل مشتقاً منها. وفي رفعته أقوال منها : أن المكان العليّ شرف النبوة والزلفى عند الله ، وقد أنزل عليه ثلاثة ، صحيفة ، وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب ، وأول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود ، واسمه أخنوخ من أجداد نوح لأنه نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وأهل التنجيم بعضهم يسمونه هرمس ولهم نوادر في استخراج طوالع المواليد ينسبونه إليه. وقيل : إن الله تعالى رفعه إلى السماء وإلى الجنة وهو حي لم يمت. وقال آخرون : رفع إلى السماء وقبض روحه. عن ابن عباس أنه سأل كعباً عن قوله : ( ورفعنا مكاناً علياً ( قال : جاء خليل من الملائكة فسأله أن يكلم ملك الموت حتى يؤخر قبض روحه ، فحمله ذلك الملك بين جناحيه فصعد به ، فلما كان في السماء الرابعة إذ بملك الموت يقول : بعثت لأقبض روح إدريس في السماء الرابعة وأنا أقول : كيف ذلك وهو في الأرض ؟ فالتفت إدريس فرأى ملك الموت فقبض روحه هناك. وعن ابن عباس أنه رفع إلى السماء السادسة. وعن الحسن : المراد أنه رفع إلى الجنة ولا شيء أعلى منها. ) أولئك ( المذكورون من لدن زكريا إلى إدريس هم ) الذين أنعم الله عليهم من النبيين ( ) من ( للبيان لأن جميع الأنبياء منعم عليهم ) من ذرية آدم ( هي للتبعيض وكذا في قوله : ( وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل ( والمراد بمن هو من ذرية آدم إدريس لقربه منه ، وبذرية من حمل مع نوح إبراهيم عليه السلام لأنه من ولد سام بن نوح ، وبذرية إبراهيم وإسماعيل ، وبذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم لأن مريم من ذريته. وممن هدينا ( يحتمل العطف على من الأولى والثانية وفي هذا الترتيب تنبيه على أن هؤلاء الأنبياء اجتمع لهم مع كمال الأحساب شرف الأنساب ، وأن جميع ذلك بواسطة هداية الله وبمزية احتنائه واصطفائه. ثم إن جعلت ) الذين ( خبراً ) لأولئك ( كان ) إذا يتلى ( كلاماً مستأنفاً ، وإن جعلته صفة له كان خبراً وقد عرفت في الوقوف سار الوجوه من قرأ ) يتلى ( بالتذكير لأن تأنيث الآيات غير حقيقي(4/494)
" صفحة رقم 495 "
والفاصل حاصل. والبكي جمع باكٍ ) فعول ( كسجود في ) ساجد ( أبدلت الواو ياء وأدغمت وكسر ما قبلها للمناسبة. ومن زعم أنه مصدر فقدسها لأنها قرينة سجداً. عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتبكوا ( أراد بالآيات التي فيها العذاب وقال غيره : إطلاق الآيات والحديث المذكور يدل على العموم لأن كل آية إذا فكر فيها المفكر صح أن يسجد عندها ويبكي. قلت : لعل المراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة ، لأن القرآن حينئذ لم يكن منزلاً واختلفوا في السجود. فقيل : هو الخشوع والخضوع. وقيل : الصلاة. وقيل : سجدة التلاوة على حسب ما تعبدنا به. ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا يتعبدون بالسجود. عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اقرؤا القرآن بحزن فإنه نزل بحزن ( وعن ابن عباس : إذا قرأتم سجدة ) سبحان ( فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وقالت العلماء : يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال : اللَّهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة ) سبحان ( قال : اللَّهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك. وإن قرأ ما فيه هذه السورة قال : اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتديين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك. ولما مدح هؤلاء الأنبياء ترغيباً لغيرهم من سيرتهم وصف أضدادهم لتنفير الناس عن طريقتهم قائلاً ) فخلف من بعدهم خلف ( وهو عقب السوء كما مر في آخر ) الأعراف ( فأضاعة الصلاة في مقابلة الخرور سجداً ، واتباع الشهوات بإزاء البكاء. عن بان عباس : هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب. وعن إبراهيم النخعي ومجاهد : أضاعوها بالتأخير. وعن علي رضي الله عنه في قوله : ( واتبعوا الشهوات ( من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور. وعن قتادة : هو في هذه الأمة ) فسوف يلقون غياً ( قال جار الله : كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد. وقال الزجاج : هو على حذف المضاف أي جزاء غي كقوله : ( ويلق أثاماً ) [ الفرقان : 68 ] أي مجازاة أثام. وقيل : غياً من طريق الجنة. وقيل : هو وادٍ في جهنم تستعيذ منه أوديتها احتج بعضهم بقوله : ( إلا من تاب وآمن ( على أن تارك الصلاة كافر وإلا لم يحتج إلى(4/495)
" صفحة رقم 496 "
تجديد الإيمان. والجواب أنه إذا كان المذكورون هم الكفر أو اليهود - كما رويناه عن ابن عباس - سقط الاستدلال. واحتجت الأشاعرة في أن العمل ليس من الإيمان لأن العطف دليل التغاير. وأجبا الكعبي بأنه عطف الإيمان على التوبة مع أنها من الإيمان ، ومنع من أن التوبة من الإيمان ولكنها شرطه لأنها العزم على الترك والإيمان إقرار باللسان ، وإنما حذف الموصوف ههنا وقال في الفرقان ) وعمل عملاً صالحاً ) [ الفرقان : 70 ] لأنه أوجز في ذكر المعاصي فأوجز في التوبة وأطال هناك فأطال هناك. وهذا الاستثناء بحسب الغالب فقد يتوب عن كفره ويؤمن ولم يدخل بعد وقت الصلاة ، أو كانت المرأة حائضاً ثم مات فهو من أهل النجاة مع أنه لم يعمل صالحاً. ومعنى ) لا يظلمون شيئاً ( لا ينقصون شيئاً من جزاء أعمالهم بل يضاعف لهم تفضلاً تنبيهاً على أن تقدم الكفر لا يضرهم بعد أن يتوبوا ، ويحتمل أن ينتصب ) شيئاً ( على المصدر أي شيئاً من الظلم. ومعنى ) جنات عدن ( قد مر في سورة التوبة في قوله : ( ومساكن طيبة في جنات عدن ) [ التوبة : 72 ] وصفها الله تعالى بالإقامة والدوام خلاف ما عليه جنان الدنيا. ولما كانت الجنة مشتملة على جنات عدن أبدلت منها ، ويحتمل انتصابها عل الاختصاص وكذا انتصاب ) التي (. قال جار الله : عدن علم بمعنى العدن وهو الإقامة وهو علم لأرض الجنة لكونها مكان إقامة ولولا ذلك لما ساغ الإبدال ، لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة. ولما ساغ وصفها ب ) التي ( ومعنى ) بالغيب ( مع الغيبة أي وعدوها وهي غائبة عنهم غير حاضرة ، أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها ، أو الباء للسببية أي وعدها عباده بسبب تصديق الغيب والإيمان به خلاف حال المنافقين. وقوله : ( إنه كان وعده مأتياً ( بالأول أنسب وهو مفعول بمعنى ) فاعل ( ، أو على أصله لأن ما أتاك فقد أتيته. وجوز في الكشاف أن يكون من قولك : ( أتى إليك إحساناً ( أي كان وعده مفعولاً منجزاً. قوله : ( إلا سلاماً ( استثناء متصل على التأويل لأن اللغو فضول الكلام وما لا طائل تحته كما تقدم في يمين اللغو في ) البقرة ( وفي ) المائدة ( أي إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغواً فلا يسمعون لغواً إلا ذلك كقولهم ) عتابك السيف (. أو استثناء منقطع أي لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة ، ويجوز أن يكون متصلاً بتأويل آخر وهو أن معن السلام الدعاء بالسلامة وأهل دار السلام عن الدعاء بالسلامة أغنياء ، فكان ظاهره من بالب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام. وفي الآية تنبيه ظاهر على وجوب اتقاء اللغو حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها ثم إن سبحانه من عادتهترغيب كل قوم بما أحبوه في الدنيا فلذلك ذكر أساور من الذهب والفضة لبس الحرير التي كانت للعجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة ، وكانت من عادة أشراف(4/496)
" صفحة رقم 497 "
اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء لأنها العادة الوسطى المحمودة لمتنعمين منهم فوعدهم بذلك قائلاً : ( ولهم رزقهم فيها بكرة وعيشاً ( هذا قول الحسن. ولا يكون ثم ليل ولا نهار ولكن على التقدير أي يأكلون على مقدار الغداة على العشي. وقيل : أراد دوام الرزق كما تقول : أنا عند فلان صباحاً وسماء تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين. وقوله : ( تلك الجتة التي نورت ( كقوله في ) الأعراف ( ) ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها ) [ الأعراف : 43 ] وهي استعارة أي تبقى عليهم الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث منه. قال القاضي : في الآية دلالة على أن الجنة يختص بدخولها من كان متقياً غير مرتكب للكبائر. وأجيب بمنع الاختصاص وبأنه يصدق على صاحب الكبيرة. أنه اتقى الكفر. سئل ههنا أن قوله تعالى : ( تلك الجنة التي نورث ( كلام الله وقوله بعده : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ( خطاب ليس من كلام الله فما وجه العطف بينهما : وأجيب بأنه إذا كانت القريبنة ظاهرة لم يقبح ، فظاهر قوله : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ( خطاب جماعة لواحد وإنه لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول كما روي أن قريشاً بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهل يجدونه في كتابهم. فسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه ، وقالت اليهود : نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمان اليمامة عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن ، فإن أخبركم بخصلتين منها فاتبعوه ، فاسألوه عن فئة أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فلم يدر كيف يجيب ، فوعدهم الجواب ولم يقل : إن شاء الله. فاحتبس الوحي عليه أربعين يوماً - وقيل خمسة عشر يوماً - فشق عليه ذلك مشقة شديدة. وقال المشركون : ودعه ربه وقلاه. فنزل جبرائيل عليه السلام فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أبطأت عني حتى ساء ظني واشتقت إليك (. قال : كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذ حبست احتبست. فأنزل الله الآية وأنزل قوله : ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً ) [ الكهف : 23 ] وسورة الضحى. ومعنى التنزل على ما يليق بهذا الموضع هو النزول على مهل أي نزلنا في الأحايين وقتاً غب وقت ليس إلا بأمر الله والأماكن أو من الأزمنة الماضية بقوله : ( له ما بين أيدينا وما خلفنا ( من الجهات والأماكن أو من الأمنة الماضية والمستقبلة وما بينهما من المكان وزمان الذي نحن فيه فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ، أو من زمان إلى زمان إلا بأمر ربك ومشيئته. وقيل : له ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة ) وما بين ذلك ( وهو ما بين النفختين أربعون سنة. وقيل : ما مضى(4/497)
" صفحة رقم 498 "
من أعمارنا وما غبر منها والحال التي نحن فيها أو ما قبل وجودنا وبعد فنائنا. وقيل : الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا. والسماء التي وراءنا ، وما بين السماء والأرض وعلى الأقوال فالمراد أنه الميحط بكل شيء لا يخفى عليه خافية ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة فكيف يقدم على فعل إلا بأمره وقال أبو مسلم : في وجه النظم إن قوله : ( وما نتنزل ( من قول أهل الجنة لمن بحضرتهم أي ما ننزل الجنة إلا بأمر ربك. أما قوله : ( وما كان ربك نسياً ( فعلى القول الأول معناه أنه ما كان امتناع النزول إلا لعدم الإذن ولم يكن لترك الله إياكم لقوله : ( ما ودّعك ربك وما قلى ) [ الضحى : 3 ] وعلى قول غير أبي مسلم هو تأكيد لإحاطته تعالى بجميع الأشياء ، وأنه لا يجوز عليه أن يسهو عن شيء ما ألبته. وعلى قول أبي مسلم المراد أنه ليس ناسياً لأعمال العاملين فيثيب كلاً منهم بحسب عمله فيكون من تتمة حكاية قول أهل الجنة ، أو اتبداء كلام من الله تعالى خطاباً لرسوله ويتصل به قوله : ( رب العالمين سبب موجب لأن يعبد ) واصطبر لعبادته ( لم يقل ) على عبادته ( لأنه جعل العبادة بمنزلة القرن في قولك للمحارب ) اصطبر لقرنك ( أي أوجد الاصطبار لأجل مقاومته. ثم أكد وجوب عبادته بقوله : ( هل تعلم له سمياً ( أي ليس له مثل ونظير حتى لا تخلص العبادة له ، وإن عديم النظير لا بد أن يصبر على مواجب إرادته وتكاليفه خصوصاً إذا كانت فائدتها راجعة إلى المكلف. وقيل : أراد أنه لا شريك له في اسمه وبيانه في وجهين : أحدهما أنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله عى الوثنإلا أنهم لم يطلقوا لفظ الله على من سواه. وعن ابن عباس : أراد لا يسمى بالرحمن غيره. قلت : وهذا صحيح ولعله هو السر في أنه لم يكرر لفظ ) الرحمن ( في سورة تكريره في هذه السورة. وثانيهما هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل أن التسمية على الباطل كلا تسمية. التأويل : ( واذكر في الكتاب ( الأزلي ) إبراهيم ( القلب ) إنه كان صديقاً ( للتصديق ثلاث مراتب : صادق صدق في أقواله ، وصادق صدق في أخلاقه وأحواله ، وصديق صدق في قيامه مع الله في الله بالله وهو الفانى عن نفسه الباقي بربه ) إذ قال لأبيه ( الروح الذي يعبد صنم الدنيا بتبعية النفس ) فقد جاءني من العلم ( اللدني ) ما لم يأتك ( لما ذكرنا أن القلب محل للفيض الإلهي أقبل من الروح كالمرآة فإنها تقبل النور لصفائها وينعكس النور عنها لكثافتها وصقالتها ) وهبنا له إسحاق ( السر ) ويعقوب ( الخفي ) وناديناه من جانب الطور الأيمن ( أسمعنا موسى القلب من جانب طور الروح لا من جانب وادي النفس الذي(4/498)
" صفحة رقم 499 "
هو على أيسر ) وكان يأمر أهله ( أي الجسم والنفس والقلب والروح بالصلاة له توجه كل منهم توجبهاً يليق بحاله ، وبالزكاة أي تزكية كل واحد منهم من الأخلاق الذميمة ) ورفعناه مكاناً علياً ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) خروا ( بقلوبهم على عتبة العبودية ) سجداً ( بالتسليم للأحكام الأزلية ) وبكياً ( بكاء السمع يذوبان الوجود على نار الشوق والمحبة ) عباده بالغيب ( أي بغيبتهم عن الوجود قبل التكوين كقوله : ( غن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) [ التوبة : 111 ] ( ولهم رزقهم ( رؤية الله على ما جاء في الحديث : ( وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوّاً وعشياً ( ) وما نتنزل إلا بأمر ربك ( المقدور في علم الله ، وتنادى أهل العزة. إلا بأمر ربك ) وما كان ربك نسياً ( ليحتاج إلى تذكير متمن ، بل هو رب سموات الأرواح وأرض الأجساد وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار له ) فاعبده ( بأركان الشريعة بجسدك وبآداب الطريقة بنفسك وبالإعراض عن الدنيا والإقبال على المولى بقلبك وبالفناء في الله والبقاءبه بروحك وبسرك. ) هل تعلم له ( نظيراً في المحبوبية لك. والله أعلم بالصواب. ( مريم : ( 66 - 98 ) ويقول الإنسان أئذا . . . .
" ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا وقالوا اتخذ(4/499)
" صفحة رقم 500 "
الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا "
( القراآت )
أئذا ( مثل ) أئنكم ( في ( الأنعام ) ) يذكر ( من الذكر : ابن عامر ونافع وعاصم وسهل وروح والمعدل عن زيد. والآخرون بتشديد الذال من التذكر مدغماً. ) ثم ننجي ( من الإنجاء : عليّ وروح والمعدل عن زيد. الآخرون بالتشديد ) خير مقاماً ( بضم الميم : ابن كثير. الباقون بفتحها. ) رياً ( بالتشديد أبو جعفر ونافع عن ورش وابن ذكوان والأعشى وحمزة في الوقف ، وعن حمزة أيضاً بالهمزة في الوقف ليدل على أصل اللغة. الآخرون بهمز بعدها يا ) وولداً ( وما بعده بضم الواو سكون اللام : حمزة وعليّ. الآخرون بفتحهما ) يكاد ( على التذكير : نافع وعليّ ) ينفطرن ( من الانفطار : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وخلف وابن عامر والمفضل وأبو بكر وحماد والخزاز عن هبيرة. الباقون ) يتفطرن ( من التفطر. الوقوف : ( حياً ( ه ) شيئاً ( ه ) جثياً ( ه ج للآية وللعطف ) عتياً ( ه ج لذلك ) صلياً ( ه ) واردها ( ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى ) مقضياً ( ه تقريباً للنجاة من الورود مع أن ( ثم ) لترتيب الأخبار ) جثياً ( ه ) آمنوا ( لا لأن ما بعده مفعول ( قال ) ) ندياً ( ه ) ورئياً ( ه ) مدّاً ( ه لأن ( حتى ) لانتهاء مدد الضلالة أو لابتداء الرؤية وجواب ( إذا ) محذوف وهو ( آمنوا ) ) الساعة ( ط لابتداء التهديد ) جنداً ( ه ) هدى ( ه ) مرداً ( ه ) وولداً ( ه ط لأبتداء الاستفهام للتقريع ) عهداً ( ط ه للردع ) كلاً ( ط ) مداً ( ه لا للعطف ) فرداً ( ه ) عزاً ( ه ) كلاً ( ط ) ضدّاً ( ه أزاً ( ه لا للتعجيل ) عليهم ( ط ) عدّاً ( ه ط ) وفداً ( ه ط ) ورداً ( ه لئلا تشتبه الجملة بالوصف لهم ) عهداً ( ه حذرا من إيهام العطف ) ولداً ( ه ط إدّاً ( ه لا لأن ما بعده صفة ) هداً ( ه لا لأن التقدير لأن دعوا ) ولداً ( ه ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف ) ولداً ( ه ط ) عبداً ( ه ط ) فرداً ( ه ) ودّاً ( ه ) من قرن ( ط ) ركزاً ( ه(4/500)
" صفحة رقم 501 "
. التفسير : لما أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته بالتبعية أن يعبدوا الله ويصطبروا لعبادته كان لمنكر أن يعترض بأن هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا لأنها نشقة ولا في الآخرة لاستبعاد حشر الأجساد إلى حالها ، فلا جرم حكى قول المنكر ليجيب عن ذلك فقال : ( ويقول الإنسان ( وهو للجنس لأن هذ الاستغراب مركوز في الطباع قبل النظر في الدليل ، أو لأن هذا القول إذا صدر عن بعض الأفراد صح إسناده إلى بني نوعه لأنه منهم كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً وإنما القاتل واحد منهم. وقيل : المراد بالإنسان ههنا شخص معين هو أبو جهل أو أبي بن خلف. وقيل : بعض الجنس هم الكفرة. وانتصب ( إذا ) بفعل مضمر يدل عليه ) أخرج ( المذكور لا نفسه لأن ما بدعه لام الابتداء لا يعمل فيما قبله. لا تقول : اليوم لزيد قائم. وإنما جاز الجمع بين حرف الاستقبال وبين لام الابتداء المفيدة للحال ، لأن اللام ههنا خلصت لأجل التأكيد كما خلصت الهمزة في ( يا الله ) للتعويض ، واضمحل عنها معنى التعريف. و ( ما ) في ( إذا ) ما للتوكيد أيضاً وكأنهم قالوا مستنكرين : أحقاً أنا سنخرج أحياء حين تمكن فينا الفناء بالموت ؟ والمراد بالخروج إما الخروج من الأرض أو الخروج من حال الفناء أو الندور من قوله : ( خرج فلان عالماً ) إذا كان نادراً في العلم فكأنه قال على سبيل الهزء : سأخرج حياً نادراً. وإنما قدم الظرف وأولى حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هووقت كون الحياة منكرة ومنه جاء الإنكار كقولك لمن أساء إلى محسنه ( أحين تمت عليك نعمة فلان أسأت إليه ) ؟ ولما كان الإنسان لا يصدر عنه هذا الإنكار إلا إذا لم يتذكر أو لم يذكر النشأة الأولى قال سبحانه منبهاً على ذلك ) أو لا يذكر ( وههنا إضمار تقديره أيقول ذلك ولا يذكر. وزعم جار الله أن الواو عطفت لا يذكر على يقول في قوله : ( ويقول الإنسان ( ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف الجر. قال العقلاء : لو اجتمعت الخلائق على إيراد حجة في البعث أوجز من هذه لم قدروا عليها ، لأن خلق الذات مع الصفات أصعب من تغيير الذات في أطوار الصفات ، وهذا معلوم لكل صانع يتكرر عنه عمل ، لأن الأول لم يستقر بعد في خزانة خيال. والثاني قد ارتسم واستقر وثبت له مثال واحتذاء. وإذا كان حال من يتفاوت في دقرته الصعب والسهل كذلك ، فما الظن بمن لا يتوقف مقدوره إلا على مجرد تعلق الإرادة الأزلية به ؟ وفي قوله : ( ولم يك شيئاً ( بحث قد مر في أول السورة مثله. وحين نبه علىالنكتة الضرورية أكدها بالإقسام قائلاً ) فوربك لنحشرنهم ( الفاء للاستئناف وهو يفيد الإعراض عن قصة والشروع في أخرى عقيبها والواو للقسم وشرف(4/501)
" صفحة رقم 502 "
المقسم به دليل كمال العناية بالمقسم عليه ، وإضافة القسم إلى المخاطب وهو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بإجماع المفسرين تفخيرم لشأنه ورفعمن مقداره ، والواو في ) والشياطين ( إما للعطف وإما بمعنى مع بناء على أن كل كافر مقرون مع شيطانه وفي سلسلة ، وإذا حشر جميع الناس حشراً واحداً وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا مع الشياطين بل الكفرة ، وإن كان الضمير عائداً إلى منكري البعث فقط فلا إشكال. وكذا في قوله : ( لنحضرنهم حول جهنم جثياً ( أي جثياً على الركب غير مشاة على أقدامهم لما يدهشهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على الأرجل ، أو على العادة المعهودة في مواقف مطالبات الملوك ومقاولاتهم. ) ثم لننزعن ( لنميزن ) من كل شيعة ( طائفة شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة ، وقد سبق تفسير في الأنعام. ) أيهم أشد ( قرىء بالنصب وهو ظاهر ، وأما المقتصرون على الضم فذهب سيبويه إلى أنها مبنية كيلا يلزم خلاف القيسا من وجهين : أحدهما إعراب أيّ مع أن من حق الموصول أن يبنى ، والآخر حذف المبتدأ مع الأصل فيه أن يكون مذكوراً والتقدير : أيهم هو أشد. وذهب الخليل إلى أنها معربة ولكنها لمتنصب على أن تكون مفعول ) لننزعن ( بل رفعت بتقدير الحكاية أي من كل شيعة مقول فيم أيهم أشد ، فيكون من كل شيعة فمعول ) لننزعن ( كقولك ( أكلت من كل طعام ) أي بعضاً من كل. ويجوز أن يقدّر لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد ، قال سيبويه : لو جاز ( اضرب أيهم ) أفضل على الحكاية لجاز ( اضرب الفاسق الخبيث ) أي الذي يقال له الفاسق الخبيث وهذا باب قلما يصار إليه في سعة الكلام. ومذهب يونس في مثله أن الفعل الذي قبل ( أيّ ) معلق عن العمل ، ويجيز التعليق في غير أفعال القلوب. ثم إن علقت قوله : ( على الرحمن ( ب ) أشد ( كقولهم : ( هو أشد على خصمه ) فظاهر ، وإن علقته بالمصدر فذلك لا سبيل إليه عند النحويين لأن المصدرلا يعمل فيما قبله. فالوجه أن يقال : إنه بيان للمحذوف فكأنه سئل إن عتوَّه على من ؟ فقيل : على الرحمن. وكذا الكلام في ) أولى بها صلياً ( تعلق المجرور بأفعل من غير تأويل أو ب ) صلياً ( على التأويل. صلى فلان النار يصلى صلياً إذا احترق. أخبر أوّلاً أنه يميز من كل فرقة ضالة من هو أضل ثم بين بقثوله : ( ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً ( أنه يطرحهم أي أهل الضلال البعيد في النار على الترتيب يقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم ، ولا ريب أن الضال جميعاً مشتركين في شدة العتوّ. ويجوز أن يراد بالذين هم أولى المنتزعين كما هم كأنه قال : ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء وأنهم أولى بالصلى لكون دركاتهم أسفل .(4/502)
" صفحة رقم 503 "
) وإن منكم ( الخطاب للناس من غير التفات ، أو للإنسان المذكور فيكون التفاتاً ، وعلى التقديرين فإن أريد الجنس كأنه لم يكن في قوله : ( ثم ننجي الذين اقتوا ونذر الظالمين فيها جثيماً ( إشكال. ولكنه يشكل بأن المؤمنين كيف يردون النار ؟ وأجيب بما روي عن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال : ( إذا دخل أهل الجنة قال بعضهم لبعض : أليس وعدنا ربنا أن نرد النار ؟ فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة ). وعنه أيضاً رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم حتى إن للناس ضجيجاً من بردها ). وأما قوله : ( أولئك عنها مبعدون ( فالمراد عن عذابها. وعن ابن عباس : يردونها كأنها أهالة. ومنهم من لم يفسر الورود ههنا بالدخول لأن ابن عباس قال : قد يرد الشيء الشيء ولم يدخله كقوله تعالى : ( لما ورد ماء مدين ) [ القصص : 33 ] ومعلوم أن موسى لم يدخل الماء ولكنه قرب منه. ويقال : وردت القافلة البلد إذا قبت منه ، فالمراد بالورود جثوهم حولها وعن ابن مسعود والحسن وقتادة : هو الجواز على الصراط لأن الصراط ممدود عليها. وعن مجاهد : هو مس الحمى جسده في الدنيا قال عليه السلام : ( الحمى من فيح جهنم ) وفي رواية ( الحمى حظ كل مؤمن من النار ). وإن أريد بالناس أو بالإنسان الكفرة فلا إشكال في ورودهم النار ولكنه لا يطابقه قوله : ( ثم ننجي الذين اتقوا ( ووجه بأنه أراد أن المتقين يساقون إلى الجنة عقيب ورود الكفار لا أنهم يوردونها يتخلصون. أسئلة : كيف يندفع عنهم ضرر النار عند من فسر الورود بالدخول ؟ زعم بعضهم أن البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها مواضع خالية عن النار أشباه الطرق إلى دركات جهنم ، والمؤمنون يردون تلك المواضع. والأصح أنه سبحانه يزيل عنها طبيعة الإحراق بالنسبة إلى المؤمنين وهو على كل شيء قدير ، ولهذا لا تضر النار الملائكة الموكلين بالعذاب. ما الفائدة في إيراد المؤمنين النار إذا لم يعذبوا بها ؟ فيه وجوه منها : أن يزدادوا سروراً إذا رأوا الخلاص منها. ومنها افتصاح الكافرين إذا اطلع المؤمنون عليهم. ومنها أن المؤمنين يوبخون الكفار ويسخرون منهم كما سخروا في الدنيا. ومنها(4/503)
" صفحة رقم 504 "
أن يزيد التذاذهم بالجنة فبضدها تتبيّن الأشياء. هل ثبت في الأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها ؟ قد ثبت أن الحاسبة تكون في الأرض أو في موضعها لقوله : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض ) [ إبراهيم : 48 ] وجهنم قريبة من الأرض والجنة في السماء. فالاجتماع يكون في موضع الحساب ثم يدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم ، ثم يرفع الله أهل الجنة ويبقى أهل النار فيها. قلت : هذا على رأي الفلاسفة الإسلاميين ظاهر ، فالمحاسبة تكون في الأرض ومرور الكل يكون على كرة النار ، ثم يرفع أهل الكمال إلى السماء ويبقى الكفرة في النار ويؤيده قوله : ( كان ( أي الورود ) على ربك حتماً ( أي محتوماً مصدر بمعنى المفعول ) مقضياً ( قضى به وعزم أن لا يكون غيره ، وذلك أن العبور من جميع الجوانب على كرة النار. وأجمعت المعتزلة بذلك على أن العقاب واجب على الله عقلاً. وقال الأشاعرة : شبه بالواجب من قبل استحالة يطرق الخلف إليه. وقد سبق أن المتقي عند المعتزلة من يجتنب المعاصي كلها ، وعند غيرهم هو الذي اجتنب الشرك فقط ، وقد يهدم بالآية قاعدة القائل بمنزلة بين المنزلتين. وأجيب أن تنجية المتقين أعم من أن تكون إلى الجنة أو إلى غيرها ، هب أن تنجيتهم إلىالجنة إلا أن الذي طاعته ومعصيته سيان غير داخل في المتقين ولا في الظالمين فيبقى حكمة مسكوتاً عنه. ومن المعتزلة من تمسك بالوعيد بقوله : ( ونذر الظالمين ( ومنع أن الصيغة للعموم ، ولو سلم فمخصص بآيات الوعد لما ردّ على منكري البعث وقرر كيفية الحشر. قال : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا ( الآية ، والمراد أنهم عارضوا حجة الله بكلام أعوج فقالوا : لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا ولم يكن بالعكس ، لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعز أعداءه. يروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون ثم يدّعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله عز وجل منهم قال جار الله : معنى بينات مرتلات الألفاظ ملخصات المعاني مبينات المقاصد ، إما محكمات أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات ، أو بتبيين الرسول قولاً أو فعلاً ، أو ظاهرات الإعجاز تحدى بها فلم يقدر على ما معارضتها ، أو حججاً وبراهين ، وعلى التقادير تكون حالاً مؤكدة كقوله : ( وهو الحق مصدقاً ) [ البقرة : 91 ] لأن آيات الله لا تكون إلا بهذه الأوصاف. ومعنى ) للذين آمنوا ( أنهم يخاطبونهم بذلك أو يفوهون به لأجلهم في شأنهم. والمقام بالضم موضع الإقامة أي المنزل ، وبالفتح موضع القيام ، والنديّ المجلس ومجتمع القوم حيث ينتدون. قوله : ( أيّ الفريقين ( يعني المؤمنين بالآيات والجاحدين لها من(4/504)
" صفحة رقم 505 "
الكلام المنصف على زعمهم ، والمقصود نحن أوفر حظاً على ما يظهر منا في أحوال قيامنا قعودنا ، وحسن الحال في الدنيا ظاهر على الفضل والرفعة وضده أمارة على النقص والضعة ، فأجابهم الله تعالى بقول : ( وكم أهلكنا ( أي كثيراً من المرات أهلكنا قبلهم أهل عصر و ( من ) بيان الملهك. ويجوز أن تكون زائدة للتأكيد و ( كم ) استفهامية لتقرير التكثير ، أو خبرية عند من يجوّز زيادتها في الموجب. و ) هم أحسن ( في محل النصب صفة ل ( كم ) أو الجر صفة ) قرن ( والأثاث متاع البيت وقد مر في النحل في قوله : ( أثاثاً ومتاعاً إلى حين ) [ الآية : 80 ] قال الجوهري : من همز ) رئياً ( جعله من رأيت وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة ، ومن لم يهمزه فإما أن يكون على تخفيف الهمزة أي قلب الهمزة ياء وأدغم ، أو يكون من ( رويت ألوانهم وجلودهم رياً ) أي امتلأت وحسنت. وقال جار الله : الري هو المنظر والهيئة ( فعل ) بمعنى ( مفعول ). وقرىء بهمز قبله ياء على القلب كقولهم ( راء ) في ( رأي ). وقرىء بالزاي المنقوطة واشتقاقه من الزي بالفتح وهو الجمع لأن الزي محاسن مجموعة. وفي الآية حذ التقدير أحسن من هؤلاء ، والحاصل أنه تعالى أهلك من كان أكثر مالاً وجمالاً منهم وذلك دليل على إفساد إحدى مقدمتيهم وهي أن كل من وجد الدنيا كان حبيب الله ، أو على فساد المقدمة الأخرى وهي أن كل من كان حبيباً لله فإنه لا يوصل إليه غماً. ثم بين أن مآل الضال إلى الخزي والنكال وإن طالت مدته وكثرت عدته ، وقوله : ( فليمدد له الرحمن ( خبر مخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب الإمهال وأنه مفعول لا مالة لتنقطع معاذيرالضال ويقال له يوم القيامة ) أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) [ فاطر : 37 ] أو ليزدادوا إثماً كقوله ) إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ) [ آل عمران : 178 ] أو هو في معنى الدعاء بأن يمهله الله عز وجل وينفس في مدة حياته. والغاية أحد الأمرين المذكورين أي انقطاع العذر أو ازدياد الإثم. أما قوله : ( حتى إذا رأوا ( إلى آخر. فقد قال في الكشاف : إنه يحتمل أن يكون متصلاً بقوله : ( أي الفريقين ( إلى آخره ، وما بينهما اعتراض قالوا : أي الفريقين خبر مقاماً وأحسن ندياً حتى إذا رأوا ما يوعدون. والمعنى لا يزالون يتفوّهون بهذا القول مولعين به إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين ) أما العذاب ( في الدنيا وهو غلبة المسلمين بالقتل والأسر وتغير أحوالهم من العز إلى الذل ومن الغنى إلى الفقر ، وأما يوم القيامة ، ويحتمل أن تتصل بما يليها والمراد أنهم لا ينفكون عن ضلالتهم وسوء مقالتهم إلى أن يعاينوا عذاب الدنيا ، أو الساعة ومقدماتها. وقوله : ( فسيعلمون من هو شر مكاناً وأضعف جنداً ( في مقابلة قولهم : ( خير مقاماً وأحسن ندياًؤ لأن مقامهم هو مكانهم والنديّ المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم ، والجند(4/505)
" صفحة رقم 506 "
الأعوان ، ولا ريب أن مكان القتل والأسر شر مكان في الدنيا ومكان عذاب النار شر مكان في الآخرة. ولا شك أيضاً أنه لو كان لهم في الوقتين ناصر لم يلحقوهم من الخزي والنكال ما لحقهم. وحين بيّن حال أهل الضال أراد أن يبين حال أهل الكمال فقال : ( ويزيد يجر إلى الذين اهتدوا هدى ( وذلك أن بعض الهتداء يجر إلى البعض الآخر كالإيمان يجر إلى الإخلاص فيه كما أن بعض الغواية يجر إلى بعضها. ومنها من فسر الزيادة بالعبادات المرتبة على الإيمان. والواو في ) ويزيد ( للاستئناف. وقد تكلف جا رالله فقال : إنه للعطف على معنى ) فليمدد ( أي يزيد في ضلال الضال بخذلانه ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه. وقد مر في سورة الكهف أن الباقيات الصالحات فسرها الأكثرون بجميع الأعمال الصالحات المؤدية إلى السعادات الباقيات. وفسرها بعضهم بما هي أعظم ثواباً منها كالصلوات الخمس وغيرها. وقوله : ( خير ( يقتضي غيراً يكون مشاركاً له في أصل الخيرية ويكون هذا خيراً منه ، فإن قدرنا شيئاً فيه خيرية كبعض الأعمال الدنيوية المباحة أو كسائر الأعمال الصالحة عند من يفسر الباقيات بمعنى الأخص فظاهر أنها خير ) ثواباً وخير مرداً ( أي مرجعاً وعاقبة أو منفعة من قولهم : ( هل لهذا الأمر مرد ) إن قدرنا ذلك شيئاً لا ثواب فيه ولا خيرية كما زعم جار الله أن المراد هي خير ثواباً من مفاخرات الكفار ، فيكون إطلاق الثواب على عقاب الكفار من قبيل التهكم ومن باب قولهم : ( تحية بينهم ضرب وجيع ). ويكون وجه التفضيل في الخير ما قيل في قولهم : ( الصيف أحر من الشتاء ) أي هو أبلغ في حره من الشتاء في برده ، ثم أردف مقاتلهم الحمقاء بأخرى مثلها قائلا على سبيل التعجب ) أفرأيت ( كأنه قال : أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقيب حديث أولئك. وإنما استعملوا ( أرأيت ) بمعنى ( أخبر ) لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه. عن الحسن : نزلت في الوليد بن المغيرة ، والمشهور أنها في العاص بن وائل. قال خباب بن الأرث : كان لي عليه دين فاقتضيته ، وقيل : صاع له حلياً فاقتضاه الأجر فقالك إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً ، فأنا أقضيك ، ثم فإني أوتي مالاً وولداً حينئذٍ. من قرأ ) ولداً ( بفتحتين فظاهر ، ومن قرأ بالضم فالسكون ، فإما جمع ولد كاسد في أسداً ، أو بمعنى الولد كالعرب والعرب ، فأنكر الله سبحانه عليه بقوله مستفهماً ) أطلع الغيب ( من قولهم ( اطلع الجبل ) أي ارتقى إلى أعلاه ، ولاختيار هذه الكلمة شأن كأنه قال : أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى عالم الغيب الذي تفرد به علام الغيوب ) أم اتخذ عند الرحمن عهداً عن الكلبي : هل عهد الله إليه أن(4/506)
" صفحة رقم 507 "
يؤتيه لك. وعن قتادة : هل له عمل صالح قدمه فهو يرجوا بذلك ما يقول : وقيل : العهد كلمة الشهادة ) كلا ( ردع وتنبيه على الخطأ فيما تصوره لنفسه وتمناه وفي قوله : ( سنكتب ( بسين التسويف مع أن الحفظة يكتبون ما قاله في الحلل دليل على أن السين جرد ههنا لمعنى الوعيد ، أو أراد سيظهر له نبأ الكتابة بالتعذيب والانتصار يؤيده قوله : ( ونمد له ( أي نطوّل له ) من العذاب ( ما يستأهله أمثاله من المستهزئين أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد. مده وأمده معنى. ثم أكد المدد بالمصدر وهو مؤذن بفرط الغضب أعاذنا الله منه ، ثم عكس استهزاءه بقوله : ( ونرثه ما يقول ( أي نمنع عنه منتهى ما زعم أنه يناله في الآخرة من المال والولد لأنه تألى على الله في قوله : ( لأوتين ( ومن يتأل على الله يكذبه لأن ذلك غاية الجراءة ونهاية الأشعبية. والمراد هب أنا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة ) ويأتينا ( غداً ) فرداً ( بلا مال ولا ولد. وكلام صاحب الكشاف في الوجهين ملخبط فليتأمل فيه. وكذا في قوله : ( فرداً ( على الأول حال مقدر نحو ) فادخلوها خالدين ) [ الزمر : 73 ] لأنه وغيره سواء في إتيانه فرداً حين يأتي ، ثم يتفاوتون بعد ذلك. وذلك أن الخلود لا يتحقق إلا بعد الدخول ، أما انفراده فمحقق في حالة الإتيان وتفاوت الحال بعد ذلك ، واشتراك الكل في الإتيان منفرداً لا مدخل له في المقصود فلا أدري ما حمله على هذا التكليف. قال : ويحتمل أن هذا القول : إنما يقوله ما دام حياً فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ، ويأتينا منفرداً عنه غير قائل له ، أو أراد أن هذا القول لا ننساه ولا نلغيه بل نثبته في صحيفته لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به ، ويأتينا على فقره ومسكنته فرداً من المال والولد لم نعطه سؤله ومتمناه ، فيجتمع عليه خطبان تبعه قوله وفقد سؤله. وحين فرغ من الرد على منكري البعث شرع في الرد على عبدة الأصنام فبين أوّلاً عرضهم وذلك أن يتعززوا بآلهتهم وينتفعون بشفاعتهم ، ثم أنكر عليهم وردعهم بقوله : ( كلا ( ثم أخبر عن مآل حالهم بقوله ) سيكفرون ( فإن كان الضمير للمعبودين فهم إما الملائكة كقوله : ( قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن ) [ سبأ : 41 ] وإما الأصنام فلا يبعد أن ينطق الله الجماد بذلك كقوله : ( وألقوا إليهم القول إنهم لكاذبون ) [ النحل : 86 ] وإن كان الضمير للعابدين فهو كقوله : ( وألقوا إليهم القول إنهم لكابون ) [ النحل : 86 ] وإن ) الأنعام : 23 ] أما الضمير في يكونون فللمعبودين ، وقوله : ( عليهم ( في مقابلة قوله : ( لهم عزاً ( وضد العز الهوان كأنه قيل : ويكونون عليهم ذلاً لهم عزاً ويحتمل أن يراد بالضد العون لأنه يضاد العدو ، ووحد لاتفاق كلمتهم وفرط تضامهم وتوافقهم كقوله(4/507)
" صفحة رقم 508 "
( صلى الله عليه وسلم ) : ( وهم يد على من سواهم ) ومعنا كون الآلهة أضداداً أي أعواناً عليهم أنهم وقود النار وأن المشركين عذبوا بسبب عباتها ، ويحتمل أن يكون الضمير في ) يكونون ( للمشركين أي يكون المشركون كفرة بآلهتهم وأعداء لهم بعد أن كانوا يعبدونها. وحيث بيّن مذاهب الفرق الضالة أراد أن يبين منشأها فقال : ( ألم تر أنا أرسلنا ( الآية. والأز الهز التهييج. قالت : الأشاعرة : في الآية دلالة على أنه تعالى مريد لجميع الكائنات لأن قول القائل : ( أرسلت فلاناً على فلان ) يفيد أنه سلطه عليه منه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( سم الله وأرل كلبك عليه ) ويؤيده قوله : ( تؤزهم ( أي تغريهم على المعاصي وتحثهم عليها بالوسواس والتسويلات. وقالت المعتزلة : أراد بهذا الإرسال التخلية بينهم وبينهم كما إذا لم يمنع الرجل من دخول بيت جيرانه. وحاصل كلامهم أنه أرسل الأنبياء وأرسل الشياطين ، ثم خلى بين المكلفين وبين الأنبياء والشياطين إلا أنه خص أولياءه بمزيد الألطاف حتى قبلوا قول الأنبياء ، ومنع أعداءه تلك الألطاف وهو المسمى بالخذلان فقبلوا قول الشياطين. ولما كان هذا الإرسال سبباً لهلاك الكفارة عداه ب ( على ) لا ب ( إلى ) قلت : لا يخفى أن استناد الكل إلى الله تعالى فنزاع الفريقين لفظيّ أو قريب منه. ) فلا تعجل عليهم ( يقالك عجلت عليه بكذا إص استعجل منه أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا فتستريح أنت والمسلمون من شرورهم فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة. قال ابن عباس : نزلت في المستهزئين وهم خمسة رهط. وعنه أنه كان إذا قرأها بكى وقال : آخر العدد خروج نفسك ، وآخر العدد فراق أهلك ، وآخر العدد دخول قبرك. وعن ابن السماك أنه كان عن المأمون فقرأها فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد. وقال بعضهم : إن الحبيب من الأحباب مختلس
لا يمنع الموت بواب ولا جرس
وكيف يفرح بالدنيا ولذتها
فتى يعد عليه اللفظ والنفس
ثم لما قرر أمر الحشر وأجاب عن شبه منكريه أراد أن يشرح حال المكلفين وقتئذٍ فقال : ( يوم نحشر ( وانتصابه بمضمر متقدم أو متأخر أي اذكر يوم كذا وكذا ونفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف. ويجوز أن ينتصب ) بلا يملكون ( خص المتقون بالجمع إلى محل كرامة الرحمن وافدين. يقال : وفد فلان على الأمير وفادة أي ورد رسولاً فهو وافد والجمع وفد كصاحب وصحب. عن علي رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما يحشرون على أرجلهم ولكنهم على نوق رحالها ذهب وعلى(4/508)
" صفحة رقم 509 "
نجائب سروجها ياقوت ). وخص المجرمون بالسوق إلى جهنم ورداً أي وهم الذين يردون الماء ، وفيه من الإهانة ما فيه كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. وقال جار الله : حقيقة الورد المسير إلى الماء فسمي به الواردون. قال بعض العلماء : في الآية دلالة على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون على هذا النوع من الكرامة فكيف ينالهم بعد ذلك شدة ؟ قلت : يحتمل أن يكون الحشر إلى الرحمن غير الحشر إلى الموقف ، فيراد بالحشر إلى الرحمن أي إلى دار كرامته وسوقهم إلى الجنة لقوله : ( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجة زمراً ) [ الزمر : 73 ] وهذا بعد امتياز الفريقين ، فالأمن الكلي فيما بعد هذه الحالة لا ينافي الخوف والدهشة فيما قبلها كما ورد في حديث الشفاعة وغيره. وقوله : ( إلى الرحمن ( دون أن يقول إلينا من وضع الظاهر موضع المضمر ، وفيه من البشارة ما فيه ولا يلزم منه التجسم للتأويل الذي ذكرناه ، والضمير في ) لا يملكون ( للمكلفين المذكورين بقسمهم وفاعله ) من اتخذ ( على البدلية لأنه في معنى الجمع. ويجوز أن تكون الواو علامة للجمع كالتي في ( أكلوني البراغيث ) فيكون ) من اتخذ ( فاعلاً والاستثناء مفرغاً. ويجوز أن ينتصب ) من اتخذ ( على الاستثناء أو على تقدير حذف المضاف أي إلا شفاعة. من اتخذه واختلف المفسرون في الشفاعة فقيل : لا يملكون أن يشفعوا ليغرهم. وقيل : لا يملك غيرهم أن يشفعوا لهم. واتخاذ العهد الاستظهار بالأيمان والعمل ، أو بكلمة الشهادة وحدها والأول يناسب أصول المعتزلة ، والثاني يناسب أصول الأشاعرة. وعن ابن مسعود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأصحابه ذات يوم : ( أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهداً قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : يقول كل صباح ومساء : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك له وأن محمداً عبدك ورسولك فلا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهداً توفينه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ، فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أي الذي لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة ) ويجوز أن يكون من عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها كقوله : ( وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله ) [ النجم : 26 ] .(4/509)
" صفحة رقم 510 "
وحين رد على عبدة الأوثان عاد على الرد على من أثبت له ولداً من اليهود والنصارى والعرب ، ومنهم من خص الآية بالرد على العرب القائلين بأن الملائكة بنات الله لأن الرد على النصارى تقدم في أول السورة. وفي قوله : ( لقد جئتم ( التفات من الغيبة إلى المخاطبة تسجيلاً عليهم بالجراءة والتعرض لسخطه. والأد الأمر العجيب أو المنكر ، والتركيب يدل على الشدة والثقل ومنه أدت الناقة تؤد إذا رجعت الحنين في جوفها. ويقال : فطره بالتخفيف إذا شقه ، ومطاوعه انفطر وبالتشديد للتكثير ، ومطاوعه تفطر وهذا البناء للتكثير. وانتصب ) هذا ( إما على المصدر لأن الخرور في معناه ، وإما لأن التقدير يهد هداً ، أو على الحال أي مهدودة ، أو على العلة أي لأنها تهد. ومحل ) أن دعوا ( إما مجرور بدلاً من الهاء في ) منه ( وإما منصوب بنزع الخافض أي هدّاً لأن دعوا ، علل الخرور بالهد والهد بالدعاء ، وإما مرفوع بأنه فاعل هد أي هدها الدعاء ، وخير الوجوه أوسطها كما في الوقوف والدعاء. أما بمعنى التسمية فيكون المفعول الأول متروكاً طلباً للعموم لأنه محال. أما الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها ، وأما التبني فلأن القديم لا جنس له حتى يميل طبعه إليه ميل الوالد إلى الولد لمن أضاف إليه ولداً فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن المختص به ، فليس أصول النعم وفروعها إلا منه كما قيل : لينكشف عن بصرك غطاؤه فأنت وجميع ما عندك عطاؤه ، وهذا من فوائد تكرير هذا الاسم في هذا المقام. سؤال : كيف تؤثر الكلمة في الجمادات حتى تنفطر وتنشق وتخر ؟ أجيب بأنه سبحانه كأنه يقول : كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند دعائهم الولد لي غضباً مني على من تفوّه بها لولا حلمي ، أو هو تصوير لأثر هذه الكلمة في الدنيا ، أو المراد أن يعقل كادت تفعل ذلك. ثم بين أن العابدين والمعبودين في السموات أو في ) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [ الأنبياء : 22 ] وقال أبو مسلم : أراد أن هذه الأجرام كانت ممن يعقل كادت تفعل ذلك. ثم بين أن العابدين والمعبودين في السموات أو في الأرضين كلهم تحت قهره وتسخيره في الدنيا وفي الآخرة وأنه محيط بجهل أحوالهم وتفاصيلها فقال : ( إن كل ( ( إن ) نافية أي ليس فرد من أفراد الخلائق ) إلا أتى الرحمن ( إلا وهو ملتجىء إلى ربوبيته مقر بعبوديته. ثم أجمل حال المؤمنين بما لا مزيد عليه في باب الكرامة قائلاً ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً ( أي(4/510)
" صفحة رقم 511 "
سيحدث لهم في القلوب مودّة من غير ما سبب من الأسباب المعهودة كقرابة أو اصطناع وذلك كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب. والسين إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله المودة بين الناس عند إظهار الإسلام ، وإما أن يكونذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعلي ( يا عليّ قل اللَّهم اجعل لي عندك عهداً واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة ) فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعن ابن عباس : يعني يحبهم الله ويحببهم إلى خلقه. وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول الله عز وجل : ( يا جبرائيل قد أحببت فلاناً فأحبه فيحبه جبري ثم ينادي في أهل السماء : إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ) وعن قتادة : ما أقبل العبد إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه. وعن كعب قال : مكتوب في التوراة : لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله تعالى ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض ، وتصديق ذلك في القرآن ) سيجعل لهم الرحمن ودّاً ( هذا قول جمهور المفسرين. وعن أبي مسلم أن المراد أنه سهب لهم في الجنة ما يحبون ، واستعمال المصدر بمعنى المفعول كثير. وإنما صار إلى هذا القول لأن المسلم التقي يبغضه الكفار وقد يبغضه المسلمون أكثرهم ، وقد يحصل مثل هذه المحبة للكفار والفساق فيكونون مرزوقين بميل الناس إلى اختلاطهم ومحبتهم فكيف يمكن جعله إنعاماً في حق المؤمنين. وأيضاً إن محبتهم في قلبوهم من فعلهم لا من فعل الله ، فحمل الكلام على إعطاء المنافع به أولى. وأجيب بأن المراد بحبة الملائكة والأنبياء والصالحين ومثل هذه لا تحصل للكافر والفاسق ، وبأنه محمول على فعل الألطاف وخلق داعية إكرامه في قلوبهم. ثم عظم شأن ما في هذه السورة من التوحيد والنبوة وبيان الحشر والرد على الفرق الضالة قائلاً : ( فإنما يسرناه ( كأنه قال : بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر فإنما أنزلناه بلسانك أي بلغتك وسهلناه وفصلناه لتبشر به وتنذر. واللد جمع الألد الشديد الخصومة بالباطل كقوله في ( البقرة ) ) وهو ألد الخصام ) [ البقرة : 204 ] يريد أهل مكة. ثم ختم السورة بما هو غاية في الإنذار ونهاية في التخويف لأنبائه عن انقضاء القرون الخالية بالفناء أو بالإفناء بحيث لم يبق منهم شخص يرى ولا صوت يسمع فيعلم منه أن مآل الباقين أيضاً إلى ذلك فيجتهدوا في تحصيل الزاد للمعاد ولا يصرفوا همتهم إلى ما هو بصدد الزوال والنفاد. والركز الصوت الخفي وركز(4/511)
" صفحة رقم 512 "
الرمح تغيب طرفه في الأرض ولركاز المال المدفون. التأويل : ( ويقول ( النفس الإنسانية لجهلها بالحقائق إذا مات عن الصفات البشرية ) أخرج حياً ( بالصفات الروحانية. ) ولنحشرهم والشياطين ( فلكل شخص قرين من الشياطين ) ثم لنحضرنهم حول جهنم ( القهر والطبيعة ) وإن منكم ( من الأنبياء والأولياء والمؤمنين والكافرين إلا وارد هاوية الهوى بقدم الطبيعة ) حتماً مقضياً ( لأن حكمته الأزلية اقتضت خلق هذا النوع المركب من العلوي والسفلي ) ثم ننجي الذي اتقوا ( الهوى يقدم الشريعة على طريق الطريقة للوصول إلى الحقيقة ) آياتنا ( من الحاقئق والأسرار ) قال الذين كفروا ( ستروا الحق ) للذين آمنوا ( تحقيقاً وإيقاناً ) وكم أهلكنا ( بحب الدنيا والإغراق في بحر الشهوات والإحراق بنار المناصب للعرضيات ) أما العذاب ( وهو الموت على الإنكار والغفلة ) وإما الساعة ( وهي الإماتة عن الصفات البشرية عند قيام قيامة الشوق والمحبة. ) فسيعلمون ( حزب الله من حزب الشيطان ) ويزيد الله ( بالترقي من الإيمنان إلى الإيقان إلى العيان ) أن دعوا للرحمن ولداً ( من فوائد ذكر اسم الرحمن ههنا من الرحمانية أمهلتهم حتى قالوا ما قالوا وإلا فالألوهية مقتضية لإعدامهم في الحال ) وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً ( عن مشيئة وإرادة بخلافهم في الدنيا فإنهم يظنون أن لهم إرادة واختياراً. ) فإنما يسرنا ( فيه أنه لولا تيسير الله درايته على قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإلا فكيف يسع ظروف الحروف المحدثة المتناهية حقائق كلامه الأزلية غير المتناهية ) وكم أهلكنا ( في تيه الضلالة ) أو تسمع لهم ركزاً ( بالثناء الحسن عليهم والله أعلم بالصواب .(4/512)
" صفحة رقم 513 "
سورة طه
سورة طه مكية
حروفها خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون كلماتها ألف وثلثمائة وأربعون وآياتها مائة وخمس وثلاثون بسم الله الرحمن الرحيم
( طه : ( 1 - 36 ) طه
" طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى الرحمن على العرش استوى له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا قال قد أوتيت سؤلك يا موسى " ( القراآت : بإمالة الطاء والهاء. حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد وعباس وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب. وفي الكشاف أن أبا عمرو فخم الطاء لاستعلائها وأمال الهاء. والآخرون بتفخيهما ) لأهله امكثوا ( بضم الهاء وكذلك في ( القصص ) : حمزة ) إني آنست ( ) إني أنا الله ( بفتح ياء المتكلم فيهما : أبو جعفر وابن(4/513)
" صفحة رقم 514 "
كثير وأبو عمرو ) لعلي آتيكم ( بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر غير ابن مجاهد ) على النار هدى ( ممالة : عليّ غير ليث وأبي حمدون وحمدوية وحمزة في رواية ابن معدان وأبي عمر والنجاري عن ورش وأبي عمرو وغير إبراهيم وابن حماد ) أني أنا ربك ( بفتح الهمزة وياء المتكلم : ابن كثير وأبو عمرو ويزيد. بكسر الهمزة وفتح الياء : نافع الباقون : بكسر الهمزة وسكون الياء ) طوى ( منوناً حيث كان : عاصم وحمزة وفتح الياء : نافع الباقون : بكسر الهمزة وسكون الياء ) طوى ( منوناً حيث كان : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر ) وإنا اخترناك ( على الجمع : حمزة والمفضل ) لذكري ( ) إني ( ) لي ( ) أمري ( ) عيني ( ) برأسي ( ( إني ) بفتح الياآت : حمزة والمفضل ونافع وأبو عمرو. ( لي فيها ) بالفتح : حفص والمفضل والأعشى والبرجمي والأصبهاني عن ورش مخير ) أخي اشدد ( بفتح الياء موصولة : ابن كثير غير الخزاعي عن ابن فليح وأبو عمرو ) واشدد ( بفتح الياء موصولة : ابن كثير غير الخزاعي عن ابن فليح بضم الأول وفتح الثاني على الأمر ) سؤلك ( بالواو : أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف. الآخرون بالهمزة. الوقوف : ( طه ( ه كوفي ومن قال معناه يا رجل أو يا طالب أو يا هادي لم يقف ) لتشقى ( ه مبتدأ ) استوى ( ه ) الثرى ( ه ) وأخفى ( ه ) إلا هو ( ط ) الحسنى ( ه ) حديث موسى ( ه لئلا يوهم أن ( إذ ) ظرف للإتيان ) هدى ( ه ) يا موسى ( ه ) نعليك ( ج للابتداء بأن مع اتحاد القول ) طوى ( ه ط إلا لمن قرأ ) إنا اخترناك ( ) بوحي ( ه ) فاعبدني ( ه لا للعطف ) لذكرى ( ه ) تسعى ( ه ) فتردى ( ه ) يا موسى ( ه ) عصاي ( ج لا مكان أن يجعل ) أتوكأ ( مستأنفاً أو حالاً والعامل أضمر أو أشير بناء على أن ( هي ) بمعنى ( هذه ). ) أخرى ( ه ) يا موسى ( ه ) تسعى ( ه ) ولا تخف ( ق لحق السين ) الأولي ( ه ) آية أخرى ( ه لا لتعلق اللام. ) الكبرى ( ه ج للآية والاستئناف بالأمر على أن المقول متصل ) طغى ( ه ) صدري ( ه ) أمري ( ه لا ) لساني ( ه لا ) قولي ( ص لطول الكلام ) أهلي ( ه لا ) أخي ( ه لا وقف لمن قرأ ) أشدد ( بفتح الهمزة جواباً للدعا وفتح الياء فله الوصل ومن قرأ ) اشدد ( بضم الهمزة فله الجواز لاتساق الدعاء على الدعاء بلا عاطف ) أزري ( ه لا ) أمري ( ه لا لتعلق ( كي ) ) كثيراً ( ه ) بصيراً ( ) يا موسى ( ه. التفسير : في ) طه ( قولان للمفسرين : أحدهما أنه من حروف التهجي وقد سلف البحث في أمثالها ، والذي زادوه ههنا أمور منها : قول الثعلبي : الطاء شجرة طوبى ، والهاء الهاوية وكأنه أقسم بالجنة والنار. ومنها ما روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أن الطاء طهارة أهل الدين والهاء هدايتهم. وقيل : أراد يا طاهراً من الذنوب ويا هادياً إلى علام(4/514)
" صفحة رقم 515 "
الغيوب. ومنها قول سعيد بن جبير هو افتتاح باسمه الطيب الطاهر الهادي. قيل : الطاء تسعة في الحساب والهاء خمسة ومعناه : يا أيها البدر. القول الثاني أنها كلمة مفيدة ومعناها يا رجل. مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن بير وقتادة وعكرمة والكلبي. ثم قال سعيد بن جبير بلسان القبطية : وقال قتادة بلسان اليونانية والسريانية. وقال عكرمة بلسان الحبشة. وقال الكلبي بلسان عك وهو عك ابن عدنان أخو معد وهو اليوم في اليمن. وعن الحسن أن طه أمر وأصله طأ أمراً بالوطء فقلبت الهمزة هاء وذلك لما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معاً ، ويؤكده ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) بالليل حتى اسمعدّت قدماه - أي تورمتا - فقال له جبرائيل : أرفق على نفسك فإن لها عليك حقاً ونزلت ) طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ( أي تتعب بالعبادة ولكنك بعثت بالحنيفية السهلة. وعند الأكثرين معنى ) لتشقى ( لتتعب بفرط تأسفك عليهم وتحسرك على أن يؤمنوا. والشقاء يجيء بمعنى التعب ومنه المثل ( أشقى من رائض مهر وأتعب ). وقيل : إن أبا جهل والنضر بن الحرث قالا له : إن كل شقي لأنك تركت دين آبائك فرد الله عليهم بأن القرآن هو السبب في نيل كل سعادة. قال جار الله : إن جعلت ) طه ( تعديد الأسماء الحروف فقوله ) ما أنزلنا ( ابتداء الكلام ، وإن جعلته اسماً للسورة فمبتدأ وما بعده خبر وقد أقيم الظاهر - وهو القرآن - مقام الضمير الرابط ، وإن جعلته قسماً فما يتلوه جواب وكل واحد من ) لتشقى ( و ) تذكرة ( علة للفعل إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس فعلاً لفاعل الفعل المعلل والثاني جاز قطع اللام عنه لوجود الشرط. ولا يجوز أن يكون ) تذكرة ( بدلاً من محل ) لتشقى ( لاختلاف الجنسين ، فإن التذكرة لا يمكن أن تحمل على الشقاء ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي فيه ( إلا ) بمعنى ( لكن ). وفي قوله ليكون تذكرة أي ما أنزلنا عليك هذا التعب الشاق إلا لهذا الغرض كما يقال : ما شافهناك بذلك الكلام لتتأذى إلا ليعتبر بك غيرك. فانتصب ) تذكرةً ( على أنه حال أو مفعول له ، وإذا كانت حالاً جاز أن يكون ) تنزيلاً ( بدلاً منها ، وإذا كانت مفعولاً لأجله لم يجز أن يكون ) تنزيلاً ( بدلاً منها لأن الشيء لا يعلل بنفسه ، فالإنزال لا يعلل بالتنزيل في الظاهر. ويجوز أن ينتصب ) تنزيلاً ( بمضمر أي نزل تنزيلاً أو بأنزلنا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرةً أنزلناه تذكرةً ، أو على المدح والاختصاص ، أبو ب ) يخشى ( مفعولاً به أي أنزله الله تذكرةً لمن يخشى تنزيل الله عز وجلّ أي لمن يؤل أمره إلى الخشية لأنه هو المنتفع به. ومعنى كون القرآن تذكرةً أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يعظهم به وببيانه. ) ممن خلق ( متعلق ) بتنزيلاً ( فيكون الظرف لغواً أو بكائناً صفة له فيكون(4/515)
" صفحة رقم 516 "
مستقراً. وفائدة الانتقال إلى الغيبة من لفظ المتكلم حين لم يقل تنزيلاً منا أمور منها : الافتنان في الكلام على عادتهم. ومنها تنسيق الصفات مع لفظ الغيبة. ومنها التفخيم بالإسناد أولاً غلى ضمير المتكلمالمطاع في ) أنزلناه ( ثم إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد. وقيل : أنزلنا حكاية كلام جبرائيل فلا التفات. و ) العلى ( جمع العليا تأنيث الأعلى وفي وصف السموات بها دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها. ويحصل منه تعظيم شأن القرآن بالضرورة فعلى قدر المرسل يكون حال الرسالة. ومنه قول الحكماء : عقول الرجال تحت لسان أقلامهم. وارتفع ) الرحمن ( على المدح على تقدير هو الرحمن ، أو هو مبتدأ مشار بلامه إلى من خلق. والبحث في الاستواء على العرش من جانبي المشبهة والموحدة قد مر مشبعاً في ( الأنعام ) في قوله ) وهو القاهر فوق عباده ) [ الأنعام : 18 ] وفي الأعراف في قوله ) إن ربكم الله لاذي خلق السموات ) [ الآية : 54 ] فلا حاجة إلى الإعادة. ثم أكد كمال ملكه وملكه بقوله ) له ما في السموات ( الآية. عن محمد بن كعب : أن ما تحت الثرى هو ما تحت سبع الأرضين. وعن السدي : هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة. وقيل : الثور أو الحوت. والتحقيق أن الثرى هو التراب الندى وهو ما جاوز البحر من جرم الأرض ، فالذي تحته هو ما بقي من جرم الأرض إلى المركز فيحتمل أن يكون هناك أشياء لا يعلمها إلا الله سبحانه من المعادن وغيرها ، ولا ريب أن الكل لله سبحانه. ثم بيّن كمال علمه بقوله ) وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ( فالسر ما أسررته إلى غيرك وأخفى منذلك ما أخطرته ببالك ، أو السر هذا وأخفى منه ما استسره. وقيل : أخفى فعل ماضٍ أي يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلم هو. قلت : هذا المعنى صحيح لأنه تعالى محيط بجميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء قط ولا يحيط به شيء من الأشياء فلا يطلع على غيوبه أحد ، إلا أن اللفظ يحصل فيه بشاعة إذا حمل على هذا التفسير فلهذا قال صاحب الكشاف : وليس بذلك وكيف طابق الجزاء الشرط. وأجيب بأن معناه إن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك. فإما أن يكون نهياً عن الجهر كقوله ) واذكر ربك في نفسك ) [ الأعراف : 205 ] وإما أن يكون تعليماً للعباد أن الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر كأن يقتدى غيره به. ومن فوائد الآية زجر المكلف عن القبائح - ظاهرة كانت أو باطنة - وترغيبه في الطاعات - ظاهرة وباطنة - وقد شرحنا شمة من حقيقة علمه تعالى في تفسيره قوله ) وعلم آدم الأسماء كلها ) [ البقرة : 31 ] وفي غير ذلك من المواضع المناسبة ، فلنقتصر الآن على ذلك. ثم ذكر أن الموصوف بالقدرة والعلم على الوجه المذكور لا شريك له وهو الذي يستحق العبادة دون غيره. واعلم أن(4/516)
" صفحة رقم 517 "
مراتب التوحيد أربع : الإقرار باللسان ، ثم الإعتقاد بالقلب ، ثم تأكيد ذلك الإعتقاد بالحجة ، ثم الاستغراق في بحر المعرفة بحيث لا يدور في خاطره سوى الأحد الصمد. والأول بدون الثاني نفاق ، والثاني بدون الأول غير مفيد إلا إذا لم يجد مهلة كما إذا نظر وعرف فمات. ويروى أن ملك الموت مكتوب في جبهته ( لا إله إلا الله ) حتى إذا رآه المؤمن تذكر كلمة الشهادة فيكفيه ذلك ويؤيده ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) والإقرار بدون الثالث إيمان المقلد وفيه خلاف مشهور والأصح أنه مقبول ، وأما المقام الرابع فهو مقام الصديقين والخاصة من عباد الله ، ومبتداه تفريق ونقص وترك ورفض على ما قرره المحققون ، ، آخره الفناء في الله والبقاء به. قال النحويون : لا إله إلا الله تقديره لا إله في الوجود إلا الله. وقال أهل العرفان : معناه لا إله في الإمكان إلا الله. روي أن موسى بنعمران قال : يا رب علمني شيئاً أذكرك به. فقال : قل لا إله إلا الله. فقال : كل عبادك يقولز فقال : قل لا إله إلا الله. قال أهل العرفان : أردت شيئاً تخصني به. قال : يا موسى لو أن السموات السبع ومن فوقهم في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن ( لا إله إلا الله ). والبحث عن أسماء الله تعالى قد سلف في تفسير البسملة ، وعن أسمائه الحسنى قد مر في ( الأعراف ) في قوله ) ولله الأسماء الحسنى ) [ الأعراف : 180 ] واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام : كامل لا يحتمل الزيادة والنقصان وهو الله تقدس وتعالى ، وناقص لا يحتمل الكمال سوى الصورة الكمالية التي جبل عليها كصغيرة الغنسان من المخلوقات وناقص يتقلب بين الأمرين فتارةً يصعد إلى حيث يخبر عنه بأنه ) في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) [ القمر : 55 ] وتارةً يتسفل إلى أن يقال له ) ثم رددناه أسفل سافلين ) [ التين : 5 ] والكمال بالحقيقة لما ليس معرض والزوال فلا كمال في الصحة والجاه والمال وإنما الكمال في الانتساب إلى الكبير المتعال ، وهو تحقيق نسبة العبدية المنبئة عن عزة الربوبية ، وكل منتسب إلى بلد أو قبيلة فإنه يبالغ في مدحها حتى يلزم مدحه بالعرض فيجب على المكلف أن يذكر ربه بالأسماء الحسنى حتى يثبت بذلك شرفه ويحسن ذكره. إلهنا حسن الاسم دليل حسن المسمى ، وحسن المسمى يدل على أنه لا يفعل القبيح ولا يزال مواظباً على الإحسان كما قيل : يا حسن الوجه توق الخنا
لا تخلطن الزين بالشين(4/517)
" صفحة رقم 518 "
فيا حسن الأسماء والصفات لا تردّنا عن خوان إحسانك محرومين. ذكر أن صياداً اصطاد سمكةً وكانت له بنت فأخذتها وألقتها في البحر وقالت : إنها ما وقعت في الشبكة إلا لغفلتها. إلهنا تلك المرأة رحمت سمكة بسبب غفلتها ونحن قد اصطادنا إبليس وأخرجنا من بحر رحمتك لغفلتنا فردّنا إلى مقرنا وأنت أرحم الراحمين. عن محمد بن كعب القرظي أن موسى عليه السلام قال : يا رب أيّ خلق أكرم عليك ؟ قال : الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكري. قال : أيّ خلقك أعلم ؟ قال : الذي يلتمس علماً إلى علمه. قال : وأيّ خلقك أعدل ؟ قال : الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس. قال : وأيّ خلقك أعظم جرماً ؟ قال : الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قضيته له. إلهنا إنا نتهمك فإنا نعلم أن كل ما أحسنت فهو فضل ، وكل ما لا تفعله بنا من الإحسان فهو عدل ، فلا تؤاخذنا بسوء أعمالنا. وعن الحسن : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : سيعلم الجمع من أهل الكرم ، أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ؟ فيقومون فيتخطون رقاب الناس. ثم يقال : أين الذين لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله ؟ ثم ينادي أين الحمادون لله على كل حال ؟ ثم تكون التبعة والحساب على من بقي. إلهي فنحن حمدناك واثنينا عليك بمقدار قدرتنا وطاقتنا ، فاعف عنا بفضلك وحسن أسمائك. وحين عظم شأن القرآن وبيّن حال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما كلف من أعباء الرسالة قفاه بقصة موسى تثبيتاً وتقوية وتسلية. قال الكلبي : معنى ) وهل أتاك ( أي لم يأتك إلى الآن وقد أتاك الآن فتنبه له. ويقول المرء لصاحبه : هل بلغك خبر كذا ليتطلع السامع لما يومي إليه. وعن مقاتل والضحاك عن ابن عباس أن المراد منه تقرر الخبر في قلبه أي قد أتاك ذلك في الزمان المقتدم. ( وإذ ) ظرف للحديث لأنه حدث ، أو المراد اذكر وقت كذا ومظروفه محذوف أي حين رأى ناراً كان كيت وكيت. قال أهل السير : استأذن موسى شعيباً عليهما السلام في الخروج إلى أمه ، وخرج بأهله وولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده ، فرأى ناراً من يسار الطريق من بعيد. قال السدي : ظن أنها من نيران الرعاة. وقال الآخرون : إنه رآها في شجرة. واختلفوا أيضاً في أن الذي رآه كان ناراً أم لا. قالوا : والصحيح أنه كان ناراً ليكون صادقاً في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء. ويمكن أن يقال : إطلاق اللفظ على ما يشبه مسماه ليس بكذب. قيل : النار أربعة أقسام : نار تأكل ولا تشرب وهي نار الدنيا ، ونار تشرب ولا تأكل وهو نار الشجر ) جعل لكم من الجشرة الأخضر ناراً ) [ يس : 80 ] ونار تأكل وتشرب وهي نار موسى عليه السلام. وبعبارة أخرى نور بلا حرقة وهي نار موسى ، وحرقة بلا نور وهي نار جهنم ، وحرقة ونور وهي نار الدنيا ، ولا حرقة ولا نور(4/518)
" صفحة رقم 519 "
وهي نار الأشجار. ) فقال لأهله امكثوا ( إنما جمع لأن أهله جمع وهم المرأة والخادم والولد. ويجوز أن يخاطب المرأة وحها ولكن أخرج الخطاب على ظاهر لفظ الأهل فإنه اسم جمع. وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيماً أي أقيموا في مكانكم فقد ) آنست ناراً ( أي أبصرت إبصاراً لا شبهة فيه أو إبصاراً يؤنس به. والتركيب يدل على الظهور ، ومن ذلك إنسان العين لأنه يظهر الأشياء ، ومنه الإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم ، ومنه الأنس ضد الوحشة لظهور المطلوب وهو المأنوس به. قال جار الله. لما وجد الإيناس وكان مقطوعاً متيقناً حققه لهم بكلمة ( إن ) ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين بنى الأمر فيهما على الرجاء دون الجزم قائلاً ) لعلي آتيكم ( قال المحققون : فيه دلالة على أن إبراهيم عليه السلام لم يكذب ألبتة لأن موسى قبل نبوته احترز عن الكذب المظنون فلم يقل ( إني أتيكم ) لئلا يعد ما لم يستيقن الوفاء به ، فإبراهيم وهو أبو الأنبياء أولى بالاحتراز من الكذب الصريح. والقبس النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة ونحوهما. ) وهدى ( على حذف المضاف أي ذوي هدى ، أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى. والظاهر أنه أراد قوماً يهدونيي الطريق. وعن مجاهد وقتادة : قوماً ينفعونني بهداهم في أبواب الدين ، وذلك أن همم الأبرار معقودة في جميع أحوالهم بالأمور الدينية لا يشغلهم عنها شاغلٌ. ومعنى الاستعلاء في على النار وهو مفعول ثانٍ لأجد ، أو حال من ذوي هدى أن أهل النار يشغلون المكان القريب منها أو المصطلون بها كفنوها قياماً وقعوداً فهم مشرفون عليها وإن كان المكانان مسويين. ) فلما أتاها ( أي أتى النار. قال ابن عباس رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء تتقد ، وسمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً فخاف وبهت فألقيت عليه السكينة ، ثم نودي وكانت الشجرة عوسجة. وقال وهب : ظن موسى أنها أوقدت فأخذ من دقاق الحطب ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها ، ثم لم يزل تطمعه ويطمع فيها ، ثم لم يكن أسرع من خمودها فكأنها لم تكن ، ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها فإذا خضرته ساطعة في السماء ، وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار ، فلما رأى موسى ذلك وضع يده على عينيه فنودي ) يا موسى ( من قرأ ) أني ( بالفتح فتقديره نودي بأني ، ومن قرأ بالكسر فلأن النداء في معنى القول ، أو لأن التقدير نودي فقيل يا موسى. وتكرير الضمير في ( أني ) ) أنا ربك ( لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. روي أنه لما نودي يا موسى قال : من المتكلم ؟ فقال الله عزوجلّ : إني أنا ربك. فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان. فقال : أنا عرفت أنه كلام الله بأني أسمعه من جميع جهاتي الست وأسمعه بجميع أعضائي حتى كأن كل جارحات مني صارت(4/519)
" صفحة رقم 520 "
أذناً. وقيل : لعله سمع النداء من جماد كالحصا والشجر فيكون معجزاً. وأيضاً إنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث إن الخضرة ما كانت تطفىء تلك النار ولا النار تضر بالخضرة ، فعرف أنه لا يقدر عليه أحد إلا الله. وجوّز الأشاعرة أن يكون قد خلق الله تعالى علماً ضرورياً بذلك والمعتزلة منعوا منه قالوا إن حصول العلم الضروري بأن ذلك المتكلم هو الله يستلزم العلم الضروري بوجود الصانع لاسحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات معلوماً بالاستدلال ، وحصول العلم الضروري بوجود الصانع ينافي التكليف وبالاتفاق لم يخرج موسى عن التكليف. قال القاضي : إن كانت النبوة قد تقدمت لموسى فلا كلام في حصول هذه الخوارق وإلا وجب أن تكون المعجزات لغيره من الأنبياء في زمانه كشعيب مثلاً. قال : وهذا أولى لأن قوله ) وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ( دليل على أنه أوّل وحي يوحى إليه. وعند أهل السنة الإرهاص جائز فلم يوجبوا إحالة تلك الخوارق إلى غيره. وعندهم أن الله تعالى أسمعه الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت. والمعتزلة أنكروا وجود ذلك الكلام. وقالوا : إنه تعالى خلق ذلك النداء في سجم من الأجساد كالشجرة وهو قادر على ذلك. وأهل السنة مما وراء النهر أثبتوا الكلام القديم إلا أنهم زعموا أن الذي سمعه موسى صوت خلقه الله في الشجرة لأنه تعالى رتب النداء على أنه أتى النار ، والمرتب على المحدث. ومثله استدلال المعتزلة بقوله ) فاخلع نعليك ( على أن كلامه تعالى ليس بقديم لأن الأمر والمأمور معدوم سفه فلا بد أن يكون هذا الأمر عند وجود موسى فيكون محدثاً. أجابت الأشاعرة بأن كلامه الأزلي ليس بأمر ولا نهي ، ولو سلم فأمره بالأزل مستمر إلى أن صار الشخص مأموراً من غير تغير في أمره كالقدرة الأزلية تتعلق بالمقدور الحادث. وأما الحكمة في الأمر بخلع النعلين قال المفسرون : لأنهما كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ وهو قول علي ومقاتل والكلبي والضحاك وقتادة والسدي. وقال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد : ليباشر الوادي بقدميه متبركاً به. وقيل : عظم البقعة عن وطئها إلا حافياً يؤيده قوله ) إنك بالواد المقدس (. ومن هنا كره بعضهم الصلاة والطواف في النعل ، وكان السلف يطوفون بالكعبة حفاة. ومنهم من استعظم دخول المسجد بنعليه وكان إذا وقع منه ذلك تصدق. وعلى القول الأول لا يكره إلا إذا كان غير مدبوغ. وقد صلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال : ما لكم خلعتم نعالكم ؟ قالوا : خلعت فخلعنا. قال : فإن جبرائيل أخبرني أن فيهما قذراً. يروى أن موسى خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي. قال الجوهري ) طوى ( بكسر الطاء وضمها اسم موضع بالشأم. فمن صرفه جعله اسم واد ومكان ، ومن لم يصرفه جعله اسم بقعة. وقال بعضهم. طوى بالضم مثل طوى وهو الشيء المثنى(4/520)
" صفحة رقم 521 "
أي طوى مرتين أي قدس. وقال الحسن : ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين ، ويحتمل أن يراد نودي نداءين. وقيل : طوى مصدر كهدى ومعناه العلى. وعنابن عباس أنه مر بلك الوادي ليلاً فطواه فكان المعنى بالواد المقدس الذي طويته طياً أي قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه. ) وأنا أخترتك ( اصطفيتك للنبوة. قيل : فيه دلالة على أن النبوة لا تحصل بالاستحقاق وإنما هي ابتداء عطية من الله. وفي هذه الأخبار غاية اللطف والرحمة ولكن في قوله ) فاستمع ( نهاية الجلال والهيبة ففي الأول رجاء وفي الثاني خوف كأنه قال : جاءك أمر عظيم فتأهب له واجعل جميع همتك مصروفة إليه. ) لما يوحى ( أي للذي يوحى أو للوحي متعلق ب ) استمع ( أو ب ) اخترتك ( ثم قال ) إنني أنا الله لا إله إلا أنا ( ورتب عليه ) فاعبدني ( ليعلم أن عبادته إنما لزمت لإلهيته ومن هنا قال العلماء : إن الله معناه المستحق للعبادة. قال الأصوليون : تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ولكن عن وقت الخطاب جائز لأنه أمره بالعبادة ولم يذكر كيفيتها. وأيضاً قال ) وأقم الصلاة ( ولم يبين هيئاتاه. أجاب القاضي عن هذا الأخير بأنه لا يمتنع أن موسى عليه السلام عد عرق الصلاة التي تعبد الله بها شعيباً وغيره من الأنبياء ، فكان الخطاب متوجهاً إلى ذلك ، وزيف بأن حمل الخطاب متوجهاً على التأسيس أولى قال : قد بين له ولكن لم يحك الله تعالى سوى هذا القدر. ورد بأن البيان أكثر فائدة من المجمل ، فلو كان مذكوراً لكان أولى بالحكاية. ولقائل أن يقول : سلمنا أن المبين أكثر فائدةً للمخاطب ، ولكن لا نسلم أن حكاية المبين أولى فلعل حكاية المجمل تكفي لغيره لصيرورة بعض هيئات ذلك التكليف منسوخاً وإن كان أصله باقياً. وفيقوله ) لذكري ( وجوه. لأن اللام إما بمعنى الوقت أو هي للتعليل. والذكر إما بالجنان أو هو ضد النسيان. وياء المتكلم فاعل في الأصل أو مفعول. وهل يحتمل الكلام تقدير مضاف أم لا ؟. ولمثل هذه الاعتبارات تعددت الوجوه فمنها : أن اللام للتعليل والياء منصوب أي لتذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلى لي ، أو أرا لتذكرني في الصلاة لاشتمالها على الأذكار. عن مجاهد : والفرق أن إطلاق الذكر على العبادة والصلاة في الأول حقيقة شرعية ، وفي الثاني مجاز. أو نقول : في الأول تكون نفس الصلاة مطلوبة بالذات ، وفي الثاني تكون مطلوبة بعرض الذكر ، أو أراد لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. ومنها أن المضاف مع ذلك محذوف أي لإخلاص ذكري وطلب وجهي. ومنها أن الياء فاعل أي لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، أو لأن أذكرك بالمدح والثنا وأجعل لك لسان صدق. ومنها أن اللام للوقت كقولك ( جئتك لوقت كذا ) أي لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة. ومنها يحمل الذكر على ضد النسيان أي لتكون لي ذاكراً غير ناس فعل المخلصين في كونهم رطاب اللسان في جميع الأحيان بذكر مولى الأنعام ومولى الإحسان ) رجالٌ لا(4/521)
" صفحة رقم 522 "
تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله ) [ النور : 37 ] وأراد ذكر الصلاة بعد نسيانها وكان حق العبارة أن يقال لذكرها كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من نام عن صلاة أو سيها فليصلها إذا ذكرها ) فلعل المضاف محذوف أي لذكر صلاتي ، أو ذكر الصلاة هو ذكر الله فالياء في الأصل منصوب ، أو اذكر والنسيان من الله عز وجلّ في الحقيقة فلياء فاعل. قال الشافعي : من فاتته صلاة يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء ولو ترك الترتيب جا. ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة فإن كان في الوقت سعة يستحب أن يبدأ بالفائتة ، وإن بدأ بصلاة الوقت جاز إلا إذا ضاق الوقت فإنه يجب الابتداء بصلاة الوقت ، وإن تذكر الفائتة بعد ما شرع في صلاة الوقت أتمها ثم قضى الفائتة ، ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها. وقال أبو حنيفة : يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم يتزيد على صلاة يوم وليلة حتى لو تذكر خلال صلاة الوقت بطلت إلا أن يكون الوقت ضيقاً فلا تبطل. حجة الشافعي ما روي في حديث قتادة أنهم ناموا عن صلاة الفجر ثم انتبهوا بعد طلوع الشمس فأمرهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقودوا رواحلهم ثم صلاها ، ولو كان وقت الانتباه متعيناً للصلاة لما فعل كذلك. نعم إنه وقت لتقرير الوجوب عليه ثم الوقت موسع بعد ذلك. حجة أبي حنيفة قوله تعالى ) أقم الصلاة لذكري ( وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فليصلها ) إذا ذكرها ( وفي حديث جابر أن عمر جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الخندق يسب كفار قريش ويقول : يا رسول الله ما صليت صلاة العصر حتى كادت تغيب الشمس. فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأنا والله ما صليتها بعد (. قال : فنزل في البطحاء وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها. وأما القياس فهما صلاتان فريضتان جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة فأشبهتا صلاتي عرفة ومزدلفة. فلما لم يجز إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون كذلك حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة ، وأما إذا دخل في حد الكثرة فيسقط هذا الترتيب. ثم لما أمر موسى بالعبادة عامة وبالصلاة التي هي أفضلها خاصة علل ذلك بقوله ) إن الساعة آتية (. سؤال : ( كاد ( نفيه إثبات وإثباته نفي. فقوله ) أكاد أخفيها ( يكون عناه لا أخفيها وهو باطل لقوله ) إن الله عنده علم الساعة ) [ لقمان : 34 ] ولأن قوله. ) لتجزى كل نفس ( إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار إذ لو كان المكلف عارفاً وقت القيامة وكذا وقت الموتاشتغل بالمعاصي إلى قريب من ذلك الوقت ثم تاب فيكون إغراء على المعصية .(4/522)
" صفحة رقم 523 "
والجواب لا نسلم أن ) كاد ( إثباته نفي وإنما هو للمقاربة فقط. والباقي موكول إلى القرينة. ولئن سلم فالمراد بعدم الإخفاء إخباره بأنها آتية وإن كان وقتها غير معين كأنه قال : أكاد لا أقول هي آتية لفط إرادة الإخفاء ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعميمة وقتها من اللطف لما أخبرت به. وبالغ بعض المفسرين في هذا المعنى فقال : أراد أكاد أخفيها من نفسي أي لو صح إخفاؤها من نفسي لأخفيتها مني وأكدوا ذلك بأنهم وجدوه في مصحف أبيّ كذلك. فقال قطرب : هذا على عادة العرب في المخاطبة إذا بالغوا في كتمان الشيء قالوا : كتمته من نفسي. وقيل : ( كاد ( من الله واجب وأراد انا أخفيها من الخلق كقوله ) عسى أنيكون قريباً ) [ الاسراء : 51 ] أي هو قريب قاله الحسن. وعن أبي مسلم أن ) أكاد ( بمعنى أريد كقوله ) كذلك كدنا ليوسف ) [ يوسف : 21 ] ومنه قولهم ) لا أفعل ذلك ولا أكاد ( أي لا أريد أن أفعله. وقيل : أكاد صلة والمعنى أن الساعة آتية أخفيها. وقال أبو الفتح الموصلي : الهمزة للإزالة أي أكاد أظهرها معناه قرب إظهارها كقوله ) اقتربت الساعة ) [ القمر : 1 ] ومثله ما روي عن أبي الدرداء وسعيد بن جبير أخفيها بفتح الهمزة من خفاه إذا أظهره. وقوله ( لتجزى ( متعلق ) بأخفيها ( كما قلنا أو ب ) آتية ( ، فلولا القيامة لم يتميز المطيع من العاصي والمحسن من المسيء وذلك خلاف قضية العدالة والحكمة. واحتجاج المعتزلة بالآية ظاهر لأنه قال ) بما تسعى ( أي بسعيها. فلو لم يكن أعمال العباد بسعيهم لم يصح هذا الإسناد ، ولو لم يكن الثواب مستحقاً على العمل لم يكن لباء السببية معنى والجواب أن اعتبارها الوسط لا ينافي انتهاء الكل إلى الله ، واستناد الجزاء إلى عنايته الأزلية التي لا علة لها. ومعنى الفاء في ) فلا يصدّنك ( أنه إذا صح عندك أني أخبرتك بإتيان الساعة فلا تلتفت إلى قول المخالف الذي يصدك عن التصديق بالساعة ، لأن قوله ناشىء عن الهوى واتباعه. وجوّز أبو مسلم أن يكون الضمير في ) عنها ( للصلاة. والعرب تذكر شيئين لم ترمي بضميرها إلى السامع اعتماداً على أنه يرد كلاً منهما إلى ما هو له ، وزيف بأن هذا إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة هنا. وأما الخطلاب فالظاهر أنه لموسى لأن الكلام أجمع معه. وجوّز بعضهم أن يكون لنبينا عليه السلام والمقصود الأمة ، ولنهي عن الصد في الظاهر لمن لا يؤمن بالساعة وهو بالحقيقة نهي لموسى عن التكذيب. والوجه فيه أن صد الكافر عن التصديق سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب ، أو صدّ الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته فذكر المسبب ليدلعلى السبب كأنه قيل : كن في الدنيا صلباً حتى لا يطمع في إغوائك الكافر. والذي دعا إلى هذا النهي البالغ في معناه هو أن في المبطلين والجاحدين كثرة وهي مزلة قدم فعلى المرء أن يكون مع المحقين وإن قلوا لا مع غيرهم وإن كثروا. وفيه(4/523)
" صفحة رقم 524 "
حث بليغ على العمل بالدليل وزجر قويّ عن التقليد وإنذار بأن الردى والهلاك مع اتباع الهوى. وههنا استدل الأصوليون على شرف علمهم ووجوب تعلمه كيلا يتمكن الخصم من تشكيكه. وزعم القاضي أن في نسبة الصد إلى الكافر بالبعث دليلاً على أن القبائح إنما تصدر عن العباد. وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً. قال أهل التحقيق : قوله أوّلاً لموسى ) اخلع نعليك ( إشارة إلى التخلية وتطهير لوح الضمير عن الأغيار وما بعده إشارات إلى التحلية وتحصيل ما ينبغي تحصيلة. وأصول ذلك ترجع إلى علم المبدأ وهو قوله ) إني إنا الله ( وإلى علم الوسط وهو قوله ) فاعبدني ( وإنه مشتمل على الأعمال الجسمانية. وقوله ( لذكري ( وهو مشتمل الأعمال الروحانية وإلى علم المعاد وذلك قوله ) إن الساعة آتية (. وأيضاً إنه افتتح الخطاب بقوله ) وأنا اخترتك ( وهو غاية اللطف ، وختم الكلام بقوله ) فلا يصدّنك ( إلى آخره وهو قهر تنبيهاً على أن رحمته سبقت غضبه ، وأن العبد لا بد أن يكون سلوكه على قمي الرجاء والخوف. قوله ) وما تلك ( مبتدأ وخبر و ) بيمينك ( حال منتصب بمعنى الإشارة أو الاستفهام. وجوّز الكوفيون أن يكون ) تلك ( اسماً موصولاً صلته ) بيمينك ( أي ما التي بيمينك. قيل : لم يقل بيدك لأنه يحتمل أن يكون في يساره خاتم أو شيء آخر وكان يلتبس عليه الجواب. أسئلة : ما الفائدة في هذا السؤال ؟ جوابه أن الصانع الماهر إذا أراد أن يظهر من الشيء الحقير كقطعة من حديد شيئاً شريفاً كاللبوس المسرد عرضه على الحاضرين ويقول ما هذا حتى إنه بعد إظهار صنعته يلزمهم بقولهم ويقول : خذوا هذا من ذلك الذي قلتم فكأنه سبحانه قال لموسى : هل تعرف حقيقة ما في يمينك وأنه خشبة يابسة حتى إذا قلبه ثعباناً عظيماً كان قد نبهه على كمال قدرته الباهرة. وقال أهل الخطابة : إنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء ، وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه ممازجاً باللطف والقهر والتكاليف تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له ) وما تلك بيمنك يا موسى ( ليعرف موسى أن يمينه هي التي فيها العصا. وأيضاً إنه لما تكلم معه بالكلم الإلهية وقرب موسى أن يدهش تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة لا لأن المسؤول عنه مما يقع فيه الغلط كما أن السائل لا يجوز عليه الغلط نظيره حال المؤمن في القبر يغلبه الوجل والخجل فيسأل عن أمر لا يشك فيه في الدنيا وهو التوحيد دفعاً للإيحاش وجلباً للاستئناس. وأيضاً لما عرف موسى كمال الإلهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر ما ذكر ، فعرّفه الله تعالى أن فيها منافع أجل مما ذكر تنبيهاً على أن عقول البشر قاصرة عن خفيات الأمور لولا التوفيق والإرشاد. آخر : خاطب موسى بلا واسطة خاطب محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بواسطة جبرائيل ، فيلزم(4/524)
" صفحة رقم 525 "
أن يكون موسى أفضل. وجوابه المنع بدليل ) فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 10 ] وبيان الأفضلية أن كلامه مع موسى لم يكن سراً وكلامه مع محمد سر لم يستأهل له سواه. وأيضاً حصل لأمته في الدنيا شرف التكليم ؛ المصلي يناجي ربه ، وفي الآخرة شرف التسليم والتسليم ) سلامٌ قولاً من ربٍ رحيم ) [ يس : 58 ]. وأيضاً إن موسى كان عند استغراقه في بحر المحبة متعلقاً بالعصا ومنافعها ، ومحمد عليه السلام لم يلتفت إلى الكونين حين عرضا عليه ) ما زاغ البصر وما طغى ) [ النجم : 17 ] بل كان فانياً عن الأغيار باقياً بالواحد القهار ولهذا لم يزد في الثناء حينئذٍ على قوله ) أنت كما أثنيت على نفسك (. وههنا نكت منها : أنه سبحانه لما أشار إلى العصا واليد بقوله ) وما تلك بيمينك يا موسى ( حصل في كل منهما برهان باهر ومعجز ماهر فصار أحدهما - وهو الجماد - حيواناً والآخر - وهو الكثيف - نورانياً لطيفاً. ثم إنه تعالى ينظر في كل يوم ثلثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب أن ينقلب قلبه الجامد المظلم حياً مستنيراً. ومنها أن العصا صارت بين يمين موسى حياً فكيف لا يصير المؤمن الذي هو بين أصبعين من أصابع الرحمن حياً ومنها أن العصا بإشارة واحدة صارت بحيث ابتلعت سحر السحرة كلهم فقلب المؤمن أولى أن يصير بمدد نظر الرب في كل يوم مرات بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء. ثم إن جواب موسى عليه السلام يتم بقوله ) هي عصاي ( إلا أنه زاد على ذلك لأنه كان يحب المكالمة وكان المقام مقام انبساط وقرب فاغتنم الفرصة وجعل ذلك كالوسيلة إلى درك الغرض. وقيل : هو جواب سؤال آخر كأنه سئل فما تصنع بها فأخذ في ذكر منافعها. وقيل : خاف أن ينكر عليه استصحاب العصا كالنعلين. ومعنى ) أتوكأ عليها ( أغتمد عليها إذا أعييت أو قوفت على رأس القطيع وعند الطفرة والتركيب يدور على الشد والإيثاق. ) وأهش بها ( أي أخبط الورق بها على رؤوس غنمي لتأكله. والتركيب يدل على الرخاوة واللين ومنه ) رجل هش المكسر ( أي سهل الشأن فيما يطلب من الحوائج وهو مدح ) وهش الخبز ( يهش بالكسر إذا كان ينكسر لرخاوته. قال المحققون : إن موسى عليه السلام كان يتوكأ على العصا ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان يتكل على فضل الله ورحمته قائلاً مع أمته ) حسبنا الله ونعم الوكيل ) [ آل عمران : 173 ] فورد في حقه ) حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين ) [ الأنفال : 64 ] أي حسبك وحسب من اتبعك. وأيضاً إنه بدأ بمصالح نفسه في قوله ) أتوكأ عليها ( ثم بمصالح رعيته(4/525)
" صفحة رقم 526 "
بقوله ) وأهش بها على غنمي ( ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر أمته ) وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) [ الأنفال : 33 ( ) اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ( فلا جرم يقول موسى يوم القيامة ) نفسي نفسي ( ومحمد يقول ) أمتي أمتي (. ثم قال ) ولي فيها مآرب ( هي جمع المأربة بضم الراء الحاجة وقد تفتح الراء. وحكى ابن الأعرابي وقطرب بكسر الراء أيضاً ومثله الأرب بفتحتين والإربة بكسر الهمزة وسكون الراء. وإنما قال ) أخرى ( لأن المآرب في معنى جماعة ونظيره الأسماء الحسنى. ومن آياتنا الكبرى قالوا : إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فتطول مكالمته وقالوا : انقطع بالهيبة كلامه فأجمل. وقيل : في المآرب كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن ، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين ، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والجراب وغيرها ، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل ، وإذا قصر رشاؤه وصله بها ، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه. وقيل : إن موسى عليه السلام كان أحس بأنه تعالى إنما سأله عن أمر العصا لمنافع عظيمة فقال : إلهي ما هذه العصا إلا كغيرها ولكنك لما سألت عنها وكلمتني بسببها عرفت أن لي فيها مآرب أخرى. وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً وتكونان شمعتين بالليل. وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه ، وإذا اشتهى صمرة ركزها فأورقت وأثمرت ، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا فرعها نضب ، وكانت تقيه الهوام. قلت : هذه الخوارق إن كانت بعد نبوة موسى فلا كلام ، وإن اكنت قبلها ففي صحة الرواية بُعْدٌ وإلا كان الأنسب تقديمها عند تعدد المنافع. وعلى تقدير صحتها فلعلها إرهاص أو من معجزات شعيب على ما يروى أنه كان قد أعطاها إياه. قال أهل النكت : إن موسى لما قال ) ولي فيها مآرب أخرى ( أراد الله سبحانه أن يعرّفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها و ) قال ألقاها يا موسى ( وبوجه آخر كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا ، والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب ، فأمر بتركهما تنبيهاً على أن السالك ما دام في مقام الطلب والهرب كان مشتغلاً بنفسه وطالباً لحظه فلا يحصل له كمال الاستغراق في بحر العرفان. وفيه أن موسى عليه السلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن له الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل وألقى العصا ، فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه ؟ قال الكلبي : الاستطاعة قبل الفعل لأن القدرة على إلقاء العصا إما أن توجد والعصا في يديه فذاك قولنا ، أو توجد وهي خارجة عن يده وذلك تكليف بأنه يلقى من يده ما ليس في يده. ويمكن أن(4/526)
" صفحة رقم 527 "
يجاب بأن القدرة مع إلقاء العصا. قوله ) فإذا هي حية تسعى ) [ الأعراف : 107 ] وفي موضع آخر ) فإذا هي ثعبان ( وفي آخر ) كأنها جان ) [ النمل : 10 ] عبارات عن معبر واحد لأن الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والعظيم. وأما الثعبان - وهو العظيم من الحيات - والجان - وهو الدقيق منها - فبينهما تنافٍ في الظاهر لا في التحقيق ، لأنها حين انقلابها كانت تكون حية صفراء دقيقة كالجان ، ثم تتورم ويتزايد جرمها حتى يصير ثعباناً آخر الأمر. أو أنها كانت في شخص ثعبان وسرعة حركة الجان ولهذا وصفها بالسعي وهو المشي بسرعة وخفة حركة. والعجب أن موسى قال ) أتوكأ عليها ( فصدّفه الله تعالى في ذلك وجعلها متكئاً له بأن كانت أعظم معجزاته. وإنما قلبها حية في ذلك الوقت لتكون معجزة لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه فإن النداء والنور والكلام لم يكن في ظهور الدلالة كهذه ، ولأن توالي المعجزات كتتابع الخلع والكرامات. وأيضاً لأنه عرضها عليه ليشاهدها ويوطن نفسه عليها حتى لا يخافها عند عدوّه ؛ فالولي يستر العيوب والعدوّ يبرز المناقب في صورة المثالب ، فكيف إذا وجد مجال طعن وقدح ؟ وقد مر في ) الأعراف ( أن الحية كان لها عرف كعرف الفرس ، وكان بين لحييها أربعون ذراعاً ، فلما رأى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه من العزع والنفار ما يملك البشر عند الأهوال حتى ذهل عن الدلائل وأخذ يفر ، ولو أنه بلغ حينئذٍ مقام ) ففروا إلى الله ) [ الذاريات : 50 ] لم يفر عن شيء. أو لعله لما حصل له مقام المكالمة بقي في قلبه عجب فأراه الله تعالى أنه بعد في نقص الإمكان ولم يفاوت عالم البشرية وما النصر والتثبيت إلا من الله وحده. فقد روي أنه لما قال له ربه : ( لا تخف ( بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها ، قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري : ذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة ، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه ألبتة. وعن بعضهم أنه خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها. قلت : يحتمل أن يكون خوف موسى وهجره إياها من فوات المنافع المعدودة ولهذا علل عدم خوفه بقوله ) سنعيدها سيرتها الأولى ( قال جار الله : السيرة من السير كالركبة من الركوب. يقال : سار فلان سيرة حسنة. ثم استع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة ومنه سير الأولين ، فيجوز أن ينتصب على الظرف أي في طريقتها الأولى حال ما كانت عصاً ، أو يكون أعاد منقولاً بالهمزة من عاده بنزع الخافض بمعنى عاد إليه فيتعدى إلى مفعولين ، أو يكون المراد بالإعادة الإنشاء ثانياً. ونصب ) سيرتها ( بفعل مضمر في موضع الحال أي سنعيدها تسير سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها. ثم قوى أمره بمعجزة ثانية فقال ) وضامم يدك إلى جناحك ( يقال : لكل(4/527)
" صفحة رقم 528 "
ناحيتين جناحان ومنه ناحا العسكر وجناحا الإنسان لجنبهما. والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران أي يميلهما. فقيل : المراد بالآية تحت العضد بدليل قوله ) تخرج ( وعن ابن عباس : معناه إلى صدرك. وضعف بأنه لا يطابقه قوله ) تخرج ( قلت : لا شك أن الصدر مستور بالقميص فيظهر عند ذلك معنى الخروج ويفسره قوله في موضع آخر ) وأدخل يدك في جيبك ) [ النمل : 12 ] والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوءة. والبرص أبغض شيء عند العرب بحيث تمجه أسماعهم فكان جدير بأن يكنى عنه. ومعنى ) بيضاء ( أنها تنور كشعاع الشمس. قال في الكشاف : من غير سوء من صلة البيضاء كما تقول : ابيضت من غير سوء. قلت : لعله أراد أن ) من ( للتعليل أي ليس البياض والسوء وإنما السبب غيره وحقيقته ترجع إلى الابتداء. و ) بيضاء ( و ) آية ( حالان معاً أو متداخلتان. واحتمل أن ينتصب آية بمضمر يدل عليه الكلام نحو ) خذ ودونك (. وقوله ( لنريك ( إما أن يتعلق بهذا المحذوف أو بمحذوف آخر أي لنريك ) من آياتنا ( فلعنا ما فعلنا. ولا يبعد عندي أن يتعلق بالأمرين المذكورين أي ) ألقها ( و ) اضمم ( لنريك قال الحسن : اليد في الإعجاز أعظم من العصا لأنه تعالى وصفها بالكبرى. وضعف بأنه ليس في اليد إلا تغير اللون وأما في العطا ففيه تغير اللون والزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة ، فالمرا لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى. وجوز في الكشاف منحصرة فيهما وليس كذلك فإن معجزات نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أكبر من الكل ، وكفاك بالقرآن شاهداً على ذلك. ثم صرح بالمقصود من المعجزات فقال ) اذهب إلى فرعون ( وخصه بالذكر لأن قومه تبع له. ثم بين العلة في ذلك فقال ) إنه طغى ( وعن وهب أن الله تعالى قال لموسى : استمع كلامي واحفظ وصيتي برسالتي فإنك بعيني وبسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري ، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر تقديسي ، وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار شديدة ، ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقل له قولاً ليناً لا يغتر بلباس الدنيا ، وإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل. قال : فسكت موسى سبعة أيام ثم جاءه ملك فقال له : أجب ربك فيما أمرك فعنده ) قال رب اشرح لي صدري ( قال لعماء المعاني : أنهم أولاً بقوله ) ربي اشرح لي ( ) ويسر لي ( فعلم أن ثمة مشروحاً وميسراً. ثم بين فرفع(4/528)
" صفحة رقم 529 "
الإبهام بذكر الصدر والأمر وكان أوكد من جهة الإجمال. ثم التفصيل كان في صدر موسى ضيق كما جاء في موضع آخر ) ويضيق صدري ) [ الشعراء : 13 ] فسأل الله أن يبدل الضيق بالسعة حتى يفهم ما أنزل عليه من الوحي. وقيل : أراد شجعني على مخاطبة فرعون وعلى تحمل أعباء الرسالة. واعلم أن الكلام في الدعاء وشرائطه وفوائده وسائر ما يتعلق به قد سبق منا في ) البقرة ( في تفسير قوله سبحانه ) وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) [ الآية : 186 ]. ولنذكر ههنا نكتاً شريفة : الأولى أنه تعالى كامل في الأزل إلا أنه غير مكمل في الأزل لأن التكميل هو جعل الشيء كاملاً ولا شيء معه في الأزل فلا تكميل ، وذلك كما يقال : ( إنه سبحانه لايعلم عدداً مفصلاً لحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه وحركات أهل الجنة غير متناهية فامتنع ذلك لا لقصور في العلم بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول. ولما كان الغرض من التكوين تكميل الناقصين ، وكان الوجود أول صفة من صفات الكمال أجلس الله سبحانه لعى هذه المائدة بعض المعدومات ، لأنه لو أجلس الكل عليها لدخل في الوجود ما لا نهاية له ، والنتهت القدرة الذاتية لامتناع إيجاد الموجود. وكما أن رحمته اقتضت وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون بعض حتى صار ذلك البعض حياً مدركاً للمنافي والملائم واللذة والألم والخير الشر فقال : الأحياء عند ذلك يا رب الأرباب شرفتنا بخلعة الوجود وخلعة الحياة ، ولكن ازدادت حاجتنا لأنا - حال العدم وحال الجمادية - ما كانا نحتاج إلى الملائم والمخالف والموافق ، وما كنا نخاف المنافي والمؤذي ، والآن احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي ، فإن لم يكن لنا قدرة على الهرب والطلب كنا كالزمن المعقد في الطريق عرضة للآفان وهدفاً لسهام البليات ، فاقتضت الرحمة الكاملة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة كما اقتضت تخصيص بعض المعدومات بالوجود وتخصيص بعض الموجودات بالحياة فقالك القادرون عند ذلك : إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا للبهائم المسخرة في حمل الأثقال ، فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلقاتك. فأعطى بعضهم العقل فحصل في أرواحهم نور البصيرة وجوهر الهداية ختامه مسك كما أن خاتم النبيين ( صلى الله عليه وسلم ) كان أفضل المخلوقات ، فنظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالحقة المملوءة من الجواهر بل كسماء مزينة بالزواهر وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بداية العقول وصرائح الأذهان ، يهتدي بها السائرون في ظلمات بر الشكوك وبحر الشبهات ، فاستدل العقل بتلك الأرقام على رقام ، وبتلك النقوش على نقاش ، فغلبته دهشة الأنوار الأزلية وكاد يغرق في بحر الفكر ، ويضيق عليه نطاق التأمل والتدبر ، ويقع في تجاذب أيدي الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الجن والغنس فعند ذلك قال : ( رب اشرح لي صدري(4/529)
" صفحة رقم 530 "
ويسر لي أمري ( فانتهاء جميع الحوادث اليه وتيسير الأمور الكلية والجزئية من عنده ، وهو الذي يعطي القابل قابليته ولفاعل فاعليته. الثانية إنه تعالى خاطبه أولاً بالتويحد ) إنني أنا الله لا إله إلا أنا ( وثانياً بالعبادة ) فاعبدني ( وثالثاً بمعرفة المعاد ) إن الساعة آتية ( ورابعاً بمعرفة الحكمة في جملة أفعاله ) وما تلك بيمينك ( وخامساً بعرض المعجزات الباهرة عليه ) لنريك من آياتنا الكبرى ( وسادساً بإرساله إلى أعظم الناس كفراً وكانت هذه التكاليف الشاقة سبباً لضيق العطن وانحلال عقدة الصبر فلا جرم تضرع إلى الله سبحانه قائلاً ) رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري ( وههنا دقيقة هي أن شرح الصدر. مقدمة لسطوع الأنوار الإلهية في القلب ، والاستماع مقدذمة الفهم. ولما أعطى موسى المقدذمة بقوله ) فاستمع ( نسج موسى على ذلك المنوال فقال ) رب اشرح لي صدري ( ولما آل الأمر إلى محمد وكان خاتم النبيين ومقصوداً من الكائنات ومخاطباً بقوله ) ألم نشرح لك صدرك ) [ الشرح : 1 ] أوتي النتيجة فقيل له ) وقل ربي زدني علماً ) [ طه : 114 ] ووصف بقوله ) وسراجاً منيراً ) [ الأحزاب : 46 ] فشرح الصدر هو أن يصير الصدر قابلاً للنور ، والسراج المنير هو المعطي للنور : فالتفاوت بين موسى ومحمد عليهما السلام هو التفاوت بين الآخذ والمعطي ولهذا قال موسى : اللهم اجعلني من أمة محمد. الثالثة : إنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور أحدهما وصف ذاته بالنور ) الله نور السموات والأرض ) [ النور : 35 ] وثانيهما الرسول ) قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ) [ المائدة : 15 ] وثالثهما الكتاب ) واتبعوا النور الذي أنزل معه ) [ الأعراف : 157 ] ورابعها الإيمان ) يريدون أن يطفئوا نور الله ) [ التوبة : 32 ] وخامسها عدل الله ) وأشرقت الأرض بنور ربها ) [ الزمر : 69 ] وسادسها ضياء القمر ) جعل القمر فيهن نوراً ) [ نوح : 16 ] وسابعها النهار ) وجعل الظلمات والنور ) [ الأنعام : 1 ] وثامنها البينات ) إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ) [ المائدة : 44 ] وتاسعها الأنبياء ) نور على نور ) [ النور : 35 ] وعاشرها المعرفة ) مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ) [ النور : 35 ] فكأن موسى عليه السلام قال أوّلاً ) رب اشرح لي صدري ( بمعرفة أنوار جلال كبريائك. وثانياً ) رب اشرح لي صدري ( بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك. وثالثاً ) رب اشرح لي صدري ( باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك. ورابعاً ) رب أشرح لي صدري ( بنور الإيمان والإيقان بالهيتك. وخامساً ) رب أشرح لي صدري ( بالطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك. سادساً ) رب اشرح لي صدري ( بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلالك وعزتك كما فعله إبراهيم صلوات(4/530)
" صفحة رقم 531 "
الرحمن عليه. وسابعاً ) رب اشرح لي صدري ( عن مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك. وثامناً ) رب اشرح لي صدري ( بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمائك. وتاسعاً ) رب اشرح لي صدري ( في أن أكون خلف صدق أنبيائك المتقدمين متشبهاً بهم في الانقياد لحكم رب العالمين. وعاشراً ) رب اشرح لي صدري ( بأن تجعل سراج الإيمان كالمشكاة التي فيها المصباح. الرابعة : شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج ، ومستوقد السراج محتاج إلى سبعة أشياء : زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن. فالزند زند المجاهد ) والذين جاهدوا فينا ) [ العنكبوت : 69 ] والحجر حجر التضرع ) وادعوا ربكم تضرعاً وخيفةً ) [ الأعراف : 55 ] والحراق منع الهوى ) ونهى النفس عن الهوى ) [ النازعات : 40 ] والكبريت الإنابة ) وأنيبوا إلى ربكم ) [ الزمر : 54 ] والمسرجة الصبر ) واستعينوا بالصبر والصلاة ) [ البقرة : 45 ] والفتيلة الشكر ) لئن شكرتم لأزيدنكم ) [ إبراهيم : 7 ] والدهن الرضا ) واصبر لحكم ربك ) [ الطور : 48 ] ثم إذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن تطلب المقوصود من حضرة ربك بالتضرع والدعاء قائلاً ) رب اشرح لي صدري ( فهنالك تسمع ) قد أوتيت سؤلك يا موسى (. الخامسة : هذا النور الروحاني المسمى بشرح الصدر أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه أحدها : الشمس يحجبها الغيم ، وشمس المعرفة تحجبها السموات السبع ) إليه يصعد الكلم الطيب ) [ فاطر : 10 ] وثانيها الشمس تغيب ليلاً وشمس المعرفة لا تغيب ليلاً ) إن ناشئة الليل هي أِد وطئاً وأقوم قيلاً ) [ المزمل : 6 ] ( والمستغفرين بالأسحار ) [ آل عمران : 17 ] ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً ) [ الإسراء : 1 ] الليل للعاشقين ستير ياليت أوقاته تدوم وعند الصباح يحمد القوم السرى. وثالثهما الشمس تفنى ) إذا الشمس كورت ) [ التكوير : 1 ] والمعرفة لا تفنى ) أصلها ثابت وفرعها في السماء ) [ إبراهيم : 24 ] ( سلامٌ قولاً من ربٍ رحيمٍ ) [ يس : 58 ] ورابعها الشمس إذا قارنها القمر انكسفت وشمس توحيد المعرفة وهي ( أشهد أن لا إله إلا الله ) إذا لم تقرن بقمر النبوة وهي ( أشهد أن محمداً رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لم يصل نور إلى عالم الجوارح. وخامسها الشمس تسود الوجة والمعرفة تبيض الوجود ) يوم تبيض وجوه ) [ آل عمران : 106 ] وسادسها الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الإحراق ( جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ) وسابعها الشمس(4/531)
" صفحة رقم 532 "
تصدع والمعرفة تصعد ) إليه يصعد الكلم الطيب ) [ فاطر : 10 ] وثامنها الشمس منفعتها فيالدنيا والمعرفة منفعتها في الدارين ) فلنحيينه حياةً طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) [ النحل : 97 ] وبوجه آخر الشمس زينة لأهل الأرض ، والمعرفة زينة لأهل السماء. وتاسعها الشمس فوقاني الصورة تحتاني المعنى ، والمعارف الإلهية تحتانية الصورة فوقانية المعنى ، وفيه أن الخيبة مع الترفع والشرف مع التواضع. وعاشرها الشمس تعرّف أحوال الخلق ، والمعرفة تصل القلب إلى الخالق. والشمس تقع على الولي والعدوّ والمعرفة لا تحصل إلا للولي ، ولما كان شرح الصدر الذي هو أول مراتب الروحانيات أشرف من أعلى مراتب الجسمانيات بدأ موسى بطلبه قائلاً ) رب اشرح لي صدري (. السادسة : الشمس سراج أوقدها الله تعالى للفناء ) كل من عليها فان ) [ الرحمن : 26 ] والمعرفة سراج استوقده للبقاء ) يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) [ إبراهيم : 27 ] والذي خلقه للفناء إذا قرب منه الشيطان احترق ) يجد له شهاباً رصداً ) [ الجن : 9 ] والذي خلقه للبقاء كيف يقرب منه الشيطان ) رب اشرح لي صدري ( وأيضاً : الشمس في السماء ثم إنها مع بعدها تزيل الظلمة عن بيتك ، فشمس المعرفة مع قربا لأنها في قلبك أولى أن تزيل ظلمة المعصية والكفر عن قلبك. وأيضاً الغنسان إذا استوقد سراجاً فإنه لا يزال يتعهده ويمده ، والله تعالى هو الموقد لسراج المعرفة ) ولكنالله حبب إليكم الإيمان ) [ الحجرات : 7 ] أفلا يمده وهو معنى قوله ) رب اشرح لي صدري (. وأيضاً إذا كان في البيت سراج فإن اللص لا يقرب منه ، وإنه سبحانه قد أوقد سراج المعرفة في قلبك فكيف يقرب الشيطان منه ) رب اشرح لي صدري ( وأيضاً المجوس إذا أوقدوا ناراً لا يجوزون إطفاءها ، فالملك القدوس إذا أوقد سراج المعرفة في قلبك كيف يرضى بإطفائها ) رب اشرح لي صدري (. السابعة : أنه سبحانه أعطى قلب المؤمن تسع كرامات أحدها ) أوَمَنْ كان ميتاً فأحييناه ) [ الأنعام : 122 ] وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من أحيا أرضا ميتة فهي له ) فيعلم أنه لما خلق أرض القلب فأحياها بنور الإيمان لا يكون لغيره فيها نصيب. وثانيها الشفاء ) ويشف صدور قوم مؤمنين ) [ التوبة : 14 ] وفيه أنه إذا وضع الشفاء في العسل بقيت تلك الخاصية فيه أبداً. فإذا وضع الشفاء في الصدر فكيف لا يبقى أبداً ؟ وثالثها الطهارة ) أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ) [ الحجرات : 3 ] وفيه أن الصائغ إذا امتحن الذهب فبعد ذلك لا يدخله في النار ، فالله تعالى لما امتحن قلب المؤمن كيف يدخله النار بعده ؟ ورابعها الهداية ) ومن يؤمن بالله يهد قلبه ) [ التغابن : 11 ] وفيه أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) (4/532)
" صفحة رقم 533 "
يهدي نفسك والقرآن يهدي روحك والمولى يهدي قلبك ، والأول قد يحصل وقد لا يحصل ) إنك لا تهدي من أحببت ) [ القصص : 56 ] وكذا الثاني ) يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً ) [ البقرة : 26 ] وأما هداية القلب فلا تزول ألبتة لأن الهادي لا يزول ) ولكن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) [ القصص : 56 ] وخامسها الكتابة ) أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ) [ المجادلة : 22 ] وفيه أن القرطاس إذا كتب فيه القرآن لم يجز إحراقه ، فقلب المؤمن الذي فيه القرآن وجميع أحكام ذات الله وصفاته كيف يليق بالكريم إحراقه ؟ وأيضاً إن بشراً الحافي أكرم قرطاساً فيه اسم الله تعالى فنال سعادة الدارين ، فإكرام قلب فيه معرفة الله أولى بذلك. وأيضاً إن الرضاس إذا كتب فيه اسم الله الأعظم عظم قدره حتى إنه لا يجوز للجنب والحائض مسه ، فالقلب الذي فيه أكرم الموجودات كيف يجوز للشيطان الخبيث أن يمسه ؟ وسادسها ) هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ) [ الفتح : 4 ] وفيه أن أبا بكر لما نزلت عليه السكينة في الغار قيل له لا تحزن إن الله معنا. فالمؤمن إذا نزلت السكينة في قلبه لا بد أن يقال له عند قبض الروح : لاتخف ولا تحزن كما قال ) تنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا ) [ فصلت : 30 ] وسابعها المحبة والزينة كما قال ) ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ) [ الحجرات : 6 ] وفيه أن الدهقان إذا ألقى في الأرض حبة فهو لا يفسدها ولا يحرقها ، فهو سبحانه حين ألقى حبة المحبة في الأرض حبة يحرقها ؟ وثامنها ) وألف بين قلوبكم ) [ آل عمران : 103 ] وفيه أن محمداً حين ألف بين قلوب أصحابه ما تركهم غيبة ولا حضوراً سلام ( علينا وعلى عباد الله الصاحلين ) فأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين كيف يتركهم ) سلامٌ قولاً من ربٍ رحيم ) [ يس : 58 ] وتاسعها الطمأنينة ) ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [ الرعد : 21 ] وفيه أن الحاجات غير متناهية وما سوى الله فهو متناه ، المتناهي لا يقابل غير المتناهي. فالكافي للمهمات لا يكون إلا من له كمالات غير متناهيات فلا يزيل قلق الحوائج واضطراب الأماني إلا الله سبحانه ، وبإزاء هذه الكرامات ورد في حق الكفار أضدادها ) فما زاغزوا أزاغ الله قلوبهم ) [ الصف : 5 ] ( ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ) [ التوبة : 127 ] ( في قلوبهم مرض ) [ البقرة : 10 ] ( قلوبهم قاسية ) [ المائدة : 13 ] ( إنا جعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه ) [ الكهف : 57 ] ( وختم الله على قلوبهم ) [ البقرة : 7 ] ( أم على قلوب أقفالها ) [ محمد : 24 ] ( بل ران على قلوبهم ) [ المطففين : 14 ] ( طبع الله على قلوبهم ) [ النحل : 108 ] فلأجل تلك الكرامات والهرب من أضدادها قال موسى ) رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري (. الثامنة : في حقيقة شرح الصدر وذلك أن لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا إلا رغبة(4/533)
" صفحة رقم 534 "
بأن يكون متعلق القلب الأهل والولد وتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم ، ولا رهبة بأن يكون خائفاً من الأعداء والمنازعين فإن القوة البشرية لضعفها كينبوع صغير ، فإذا وزعت على جداول كثيرة ضعف الكل وضاعت وإذا انصب الكل في موضع واحد ظهر أثرها وقويت فائدتها ، فسأل موسى ربه أن يقوفه على معايب الدنيا وقبح صفاتها ليكون متوجهاً بالكلية إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات وهذا معنى قوله ) رب اشرح لي صدري (. أو نقول : إنه لما كلف بضبط الوحي في قوله ) فاستمع لما يوحى ( وبالمواظبة على خدمة الخالق في قوله ) فاعبدني ( فكأنه صار مكلفاً بتدبير العالمين ، والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر فسأل موسى ربه قوة وافية بالطرفين فقال ) رب اشرح لي صدري ( أو نقول : معدن النور هو القلب ، والاشتغال بما سوى الله - من الزوجة والولد ولاصديق والعدوّ بل الجنة والنار - هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر ، فإذا قوى الله بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه كالذباب والبق والبعوض فلا يدعوه رغبة إلى شيء مما يتعلق بالدنيا ولا رهبة من شيء منذلك فيصير الكل عنده كالعدم فعند ذلك يزول الحجاب وينفسخ القلب بل الصدر للنور ) رب اشرح لي صدري (. التاسعة : لنضرب مثلاً لذلك فنقول : البدن بالكلية كالمملة ، والصدر كالقلعة ، والفؤاد كالصفة ، والقلب كالسرير ، والروح كالملك ، والعقل كالوزير ، والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة ، والغضب كالاسفهيد الذي يشتغل بالضرب ، والتأديب والحواس كالجواسيس ، واسائر القوى كالمحترفين والعملة والصناع. ثم إن الشيطان كملك مطاع وإنه يخاصم هذه البلدة والقلعة والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده ، فإذا أخرج الروح وزيره وهو العقل أخرج الشيطان في مقابله الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى إلى الشيطان. ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الخصم في مقابلته الشهوة ، فالفطنة توقفك على معايب الدنيا ، والشهوة تحسن لذات الدنيا. ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتوقف على الحاضر والغائب من المعايب على ما قال ( تفكر ساعة خي رمن عبادة سنة ) فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة ، ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحاً والقبيح حسناً ، فأخرج اليطان بإزائه العجلة والسرعة فلهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما دخل الخرق في شيء إلا شانه ) وخلق السموات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه(4/534)
" صفحة رقم 535 "
هي الخصومة الواقعة بين الصفين وقلبك وصدرك هو المعركة. ثم إن لهذا الصدر الذي هو القلعة خندقاً وهو الزهد في الدنيا ، وله سور وهو الرغبة في الآخرة. فإن كان الخندق عظيماً والسور قوياً عجز عسكر الشيطان وجنوده فانهزموا ، وإن كان بالضد دخل الشيطان وجنوده من الكبر والهوى والعجب والبخل وسوء الظن بالله ومن النميمة والغيبة وسائر الخصال الذميمة ، وينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه ، ثم إذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح وانشرح ) رب اشرح لي صدري (. النكتة العاشرة : في الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب. الصدر مقر الإسلام ) أفمن شرح الله صدره للإسلام ) [ الزمر : 22 ] والقلب مقر الإيمان ) حبب إليكم الإيمان زينه في قلوبكم ) [ الحجرات : 6 ] ( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ) [ المجادلة : 22 ] والفؤاد مقر المشاهدة ) ما كذب الفؤاد ما راى ) [ النجم : 11 ] واللب مقام التوحيد ) إنما يتذكر أولوا الألباب ) [ الزمر : 9 ] أي الذين خرجوا من قشر الوجود المجازي ويقوا بلب الوجود الحقيقي. ثم إن القلب كاللوح المحفوظ في العالم الصغير فإذا ركب العقل سفينة التوفيق وألقاها في بحار أمواج المعقولات من عالم الروحانيات هبت من مهاب العظمة والكبرياء رخاء السعادة تارة ودبور الأدبار أخرى ، فحينئذٍ يضطر الراكب إلى التماس أنوار الهدايات وطلب انفتاح أبواب السعادات فيقول ) رب اشرح لي صدري ( وإنما سأل موسى شرح الصدر دون القلب لأن انشراح الصدر يستلزم انشراح القلب دون العكس. وأيضاً شرح الصدر كالمقدمة لشرح القلب والجواد يكفيه الإشارة ، فإذا علم أنه طالب للمقدمة فلا يليق بكرمه أن يمنعه النتيجة. وأيضاً إنه راعى الأدب في الطلب فاقتصر على طلب الأدنى. فلا جرم أعطى المقصود فقال ) قد أتيت سؤلك يا موسى ( وحين اجترأ في طلب الرؤية بقوله ) أرني أنظر إليك ) [ الأعراف : 143 ] أجيب بقوله ) لن تراني (. واعلم أن جميع المهيئات الممكنة كالبلور الصافي الموضع في مقابلة شمس القدس ونور العظمة ومشرق الجلال ، فإذا وقع للقلب التفات إليها حصلت له نسبة إليها بأسرها ، فينعكس شعاع كبرياء الإلهية من كل واحد منها إلى القلب فيحرق القلب. ومعلوم أن المحرق كلما كان أكثر كان الاحتراق أتم ، فلهذا قال موسى ) رب اشرح لي صدري ( حتى أقوى على إدراك درجات الممكنات وأصل إلى مقام الاحتراق بأنوار الجلال كما نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ( أرني الأشياء كما هي ) وههنا دقيقة وهي أن موسى لما زاد لفظة ) لي ( في قوله ) رب اشرح لي ( دون أن يقول ( رب اشرح صدّري ) علم أنه أراد أن تعود منفعة الشرح إليه فلا جرم يقول يوم القيامة ( نفسي نفسي ) وإن نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) لما لم(4/535)
" صفحة رقم 536 "
ينس أمته في مقام القرب إذ قيل له ( السلام عليك أيها النبي ) فقال ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) فلا جرم يقول يوم القيامة ( أمتي أمتي ) وشتان ما بين نبي يتضرع إلى الله ويقول ) رب اشرح لي صدري ( وبين نبي يخاطب أولاً بقوله ) ألم نشرح لك صدرك ) [ الشرح : 1 ]. ولا يخفى أن المراد بالشرح والتيسير عند أهل السنة هو خلقهما ، وعند المعتزلة تحريك الدواعي والبواعث بفعل الألطاف المسهلة ، فإنه يحتمل أن يكون هناك من الألطاف ما لا يحسن فعلها إلا بعد هذا السؤال. أما قوله سبحانه ) واحلل عقدةً من لساني ( فاعلم أن النطق فضيلة عظيمة وموهبة جسيمة ولهذا قال ) خلق الإنسان علمه البيان ) [ الرحمن : 3 ، 4 ] بغير توسط العاطف كأنه إنما يكون خالقاً للإنسان إذا علمه البيان. وفي لسان الشاعر وهو زهير : لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم .
وعن علي كرم الله وجهه : ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة مصورة أو بهيمة مهملة. وقالت العقلاء : المرء بأصغريه. المرء مخبوء تحت لسانه. وفي مناظرة آدم والملائكة لم تظهر الفضيلة إلا بالنطق. ومن التعريفات المشهورة : إن الإنسان هو الحيوان الناطق ، وهذا النطق وإن كان في التحقيق هو إدراك المعاني الكلية لكن النطب اللساني لا ريب أنه أظهر خواص الآدمي وقد نيط به أمر تمدنه والتعبير عما في ضميره فقول موسى ) رب اشرح لي صدري ( إشارة إلى طلب النور والواقع في القلب ، وقوله ( ويسر لي أمري ( رمز إلى تسهيل ذلك التحصيل ، وقوله ( واحلل ( طلب لسهولة أسباب التكميل لأن اللسان آلة إلافاضة والإفادة وبه يتيسر ذلك الخط الجسيم والمنصب العظيم. وحسبك يا فتى شرفاً وفخراً
سكوت الحاضرين وأنت قائل
ومن الناس من مدح الصمت بوجوه منها : قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الصمت حكمة وقليل فاعله ) وقوله : مقتل الرجل بين فكيه. وفي نوابغ الكلم : يا بني قِ فاك لا تقرع قفاك. ومنها أن الكلام خمسة أقسام : فالذي ضرره خالص أو غالب أو مساوٍ للنفع واجب الترك احترازاً من السفه والعبث ، والذي نفعه خالص أو غالب عسر المراعاة فالأولى تركه. ومنها أنه ما من موجود أو معدوم معلوم أو موهوم إلا واللسان يتناوله بإثبات أو نفي بحق أو بباطل ، بخلاف سائر الأعضاء. فالعين لاتصل إلا إلى الألوان والسطوح ، والأذن لا تصل إلا إلى الأصوات والحروف ، والي لا تصل إلا الأجسام ،(4/536)
" صفحة رقم 537 "
وكذا باقي الجوارح. أما اللسان فإنه رحب الميدان واسع المضطرب خفيف المؤنة سهل التناول لا يحتاج إلى آلات وأدوات للمعصية به فكان الأولى ترك الكلام وإمساك اللسان. والإنصاف أن الصمت في نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمي والنطق في نفسه فضيلة ، وإنما يصير رذيلة لأسباب عرضية مما عددها ذلك القائل فيرجع الحق إلى ما قله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( رحم الله امرأ قال خيراً فغنم أو سكت فسلم ) قالوا : ترك الكلام له أربعة أسماء : الصمت وهو أعمها حتى إنه يستعمل فيما ليس يقوى على النطق كقولهم ( مال ناطق أو صامت ). والسكوت وهو ترك الكلام ممن قدر على الكلام والإنصات هو السكوت مع استماع قال تعالى ) فاستمعوا له وأنصتوا ) [ الأعراف : 204 ] والإصاخة وهو الاستماع إلى ما يصعب إدراكه كالسر والصوت من المكان البعيد. أما العقدة فقيلك إنها كانت في أصل خلقته وعن ابن عباس أنه في حال صباه أخذ بلحية فرعون ونتفها فهم فرعون بقتله وقال : هذا هو الذي يزول ملكي على يده فقالت آسية : إنه صبي لا يعقل وإن شئت فامتحنه بالتمرة والجمرة. وقيل : بالياقوت والجمر. فأحضر بين يديه فأراد مد اليد إلى الياقوت فحول جبرائيل يده إلى الجمرة فأخذها ووضعها في فيه فظهر به تعقد وتحبس عن بعض الحروف. فإن صحت هذه الرواية فالنار إنما أحقته وأثرت فيه إطفاء لتاثره غضب فرعون وإلا فالله سبحانه قادر على دفع الإحراق عن طبع النار كما في حق إبراهيم صلوات الرحمن عليه ، وكما في حق موسى حين ألقي في التنور. ويروى أن يده احترقت أيضاً وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم يبرأ ولما دعاه قال : الي أيّ رب تدعوني ؟ قال : إلى الذين أبرأ يدي وقد عجزت عنها. وعن بعض العلماء أنه لم تبرأ يده لئلا ينعقد بينه وبين فرعون حرمة المؤاكلة من قصعة واحدة. وقيل : لم تحرق يده لأن الصولة ظهرت باليد ، وإنما احترق اللسان لأنه خاطبه بقوله ( يا أبت ). وما الحكمة في طلب حل العقدة ؟ الأظهر كيلا يقع في أداء الرسالة خلل فلهذا ) قال يفقهوا قولي ( وقيل : لأن العقدة في اللسان قد تقتضي الاستخفاف بالقائل وعدم الالفتات إليه. وقيل : إظهاراً للمعجزة فكما أن حبس لسان زكريا عن الكلام كان معجزاً له فكذا إطلاق لسان موسى كان معجزاً في حقه. وهل زالت تلك العقدة بالكلية ؟ فعن الحسن نعم لقوله ) قد أوتيت سؤلك يا موسى ( والأصح أنه بقي بعضها لقوله تعالى حكاية عن فرعون ) أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ) [ الزخرف : 52 ] أي يقارب أن لا يبين. وكان في لسان الحسين بن علي رضي الله عنه رتة أي عجمة في الكلام فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ورثها من عمه موسى ). وفي تنكير عقدة أيّ عقدة من عقد دلالة(4/537)
" صفحة رقم 538 "
على أنه طلب حل بعضها بحيث يفهم عنه فهماً جيداً ولم يطلب الفصاحة الكاملة. وقال أهل التحقيق : وذلك لأن حل العقدة بالكلية نصيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان أفصح العرب والعجم وقد قال تعالى ) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ الإسراء : 34 ] فلما كان ذلك حقاً ليتيم أبي طالب لا جرم ما دار حوله. ومن مطالب موسى قوله ) واجعل لي وزيراً من أهلي هرون ( قال أهل الاشتقاق : الوزير من الوزر بالكسر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤمنة ، أو من الوزر بفتحتين وهو الملجأ لأن الملك يعتصم برأيه ويلجيء إليه أموره ، أو من الموازرة وهي المعاونة فيكون من الأزر والقوة ومنه قوله تعالى ) اشدد به أزري ( أي ظهري لأنه محل القوة. قال الجوهري : آزرت فلاناً أي عاونته ، والعامة تقول : وازرته. وعلى هذا فيكون القياس أزيراً بالهمز على ما حكي عن الأصمعي ووجه القلب حمل ( فعيل على ) مفاعل ( لاتحاد معنييهما في نحو ) عشير ( و ) جلي ( و ) صديق ( وغيرها. وحمله على أخوته من نحو الموازرة ويوازر اولاستعانة بالوزير وبحسن رأيه دأب الملوك العقلاء وقد استحسنه نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ) إذا أراد الله بملك خيراً قيض له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن نوى خيراً أعانه عليه ، وإن أراد شراً كفه ( وكان أنو شروان يقول : لا يستغني أجود السيوف عن الصقل ، ولا أكرم الدواب عن السوط ، ولا أعلم الملوك عن الوزير. وكفى بمرتبة الوزارة منقبة وفخراً وشرفاً وذكراً أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المؤيد بالمعجزات الباهرة ابتهل إلى الله سبحانه في مقام القرب والمكالمة يطلبه منه ، فيجب على من أوتي هذه الرتبة أن يؤدي إلى الله حقها ولا يغتر بالدنيا وما فيها ، ويزرع في أرض الوزارة ما لم يندم عليه وقت حصاده. وقيل : إن موسى خاف على نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر العظيم والخطب الجسيم فطلب المعين. والأظهر أنه رأى أن التعاون على الدين والتظاهر عليه مع خلوص النية وصفاء الطوية أبعد عن التهمة وأعون على الغرض ، ولهذا حكى عن عيسى أنه قال ) من أنصاري إلى الله ) [ الصف : 14 ] وخوطب نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ) يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) [ الأنفال : 64 ] وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) إن لي في السماء وزيرين وفي الأرض وزيرين فاللذان في السماء جبرائيل وميكائيل واللذان في الأرض أبو بكر وعمر ( ثم إن موسى طلب أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه لتكون الثقة به أكثر وليكون الشرف في بيته أوفر وإنه كان واثقاً بأخيه هارون فأراد أن(4/538)
" صفحة رقم 539 "
يخصه بهذا المنصب الشريف قضاء لحقوق الإخاء ، فمن منع المستوجبين فقد ظلم وكان أفصح منه لساناً وأكبر سناً وألين جانبا. قال جار الله : ( وزيراً ( و ) هرون ( مفعولاً ) اجعل ( قدم ثانيهما عناية بأمر الوزارة ، أو ) لي ( و ) وزيراً ( مفعولان ) هرون ( عطف بيان للوزير و ) أخي ( في الوجهين بدل من ) هرون ( أو عطف بيان آخر. وقيل : يجوز فيمن قرأ ) اشدد ( على الأمر أن يجعل ) أخي ( مرفوعاً على الابتداء و ) اشدد ( خبره فيوقف على ) هرون ( وشد الأزر به عبارة عن تقويته به وأن يجعله ناصراً له فيما عسى يرد عليه من الشدائد والخطوب ، بل يجعله وسيلة له في أمر النبوة وطريق الرسالة لأنه صرح بذلك في قوله ) وأشركه في أمري (. ثم ذكر غاية الأدعية فإن المقصد الأسنى هو الاستغراق في بحر التوحيد ونفي الإشراك ، فإن التعاون مهيج الرغبات ومسهل سلوك سبل الخيرات فقال ) كي نسبحك كثيراً ( أي تسبيحاً كثيراً ) ونذكرك ( ذكراً ) كثيراً ( وقدم التسبيح وهو التنزيه لأن النفي مقدم على الإثبات ، فبالأول تزول العقائد الفاسدة ، وبالثاني ترتسم النقوش الحسنة المفيدة. ثم ختم الأدعية بقوله ) إنك كنت بنا بصيراً ( وفيه فوائد منها : أنه فوض استجابة الدعوات إلى عمله بأحوالهما وأنهما يصدد أهلية الإجابة أم لا ، وفيه من حسن الأدب ما لا يخفى. ومنها أنه عرض فقره واحتياجه على علمه وأنه مفتقر إلى التعاون والتعاضد ولهذا سأل ما سأل. ومنها أنه أعلم بأحوال أخيه هل يصلح لوزارته أم لا ، وأن وزارته هل تصير سبباً لكثرة التسبيح والذكر. وحين راعى من دقائق الأدب وأنواع حسن الطلب ما يجب رعايته فلا جرم أجاب الله تعالى مطالبه وأنجح مآربة قائلاً ) قد أوتيت سؤلك ( والسؤل بمعنى المسؤول كالخبز بمعنى المخبوز والأكل بمعنى المأكول. وزيادة قوله ) يا موسى ( بعد رعاية الفاصلة لأجل كمال التمييز والتعيين والله أعلم. بمصالح عبيده. التأويل : يا من طاب بطهارته بساط النبوة ) ما أنزلنا عليك القرآن ( إلا لتسعد بتخلقك بخلقه ويسعد بسببك الأولون والآخرون من أهل السموات وأهل الأرضين. ) تنزيلاً ممن خلق ( أرض بشريتك وسموات روحانيتك التي هي أعلى الموجودات الممكنات كما قال ) أول ما خلق الله روحي (. استوى بصفة الرحمانية على عرش قلبك ليكونمعه وقت لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل : ( له ما في السموات ( الروحانية من الصفات الحميدة ) وما في الأرض ( البشرية من الصفات الذميمة ) وما بينهما ( أي بين سماء الروح وأرض النفس وهو القلب بما فيه من الإيمان والإيقان والصدق والإخلاص ) وما تحت الثرى ( أي ما هو مركوز في جبلة الإنسانية : ( وإن تجهر(4/539)
" صفحة رقم 540 "
بالقول ( أن يظهر شيء من صفاتك بالقول ) فإنه يعلم السر ( وهو ما يظهر من سيرتك ) وأخفى ( هو ما أخفى الله من خفيك. السر في اصطلاح الصوفية لطيفة بين القلب والروح ، وهو معدن الأسرار الروحانية. والخفي لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية وهو مهبط أنوار الربوبية وأسرارها وجملتها المعقولات ، وقد يحصل لكل إنسان عند نشأته الأولى وإن كان كافراً. والأخفى لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية ويكون عند نشأته الأخرى ولا يحصل إلا لمؤمنموحد صار مهبط الأنوار الرباينة وجملتها المشاهدات والمكاشفات وحقائق العلوم اللدنية ، ولهذا قال عقيبه ) الله لا إله إلا هو ( لأن مظهر الألوهية وفاته العليا وأسمائه الحسنى هو الخفي الذي لا شيء أقرب إلى الحضرة منه إلا وهو سر ) وعلم آدم الأسماء كلها ) [ البقرة : 31 ] وهو حقيقة قوله ) إن الله خلق آدم فتجلى فيه ( ) وهل أتاك حديث موسى ( القلب ) إذا رأى ناراً ) [ طه : 10 ] وهو نور في الحقيقة مأنوس به من جانب طور الروح ) فقال لأهله ( وهم النفس وصفاتها ) امكثوا ( في ظلمة الطبيعة الحيوانية ) إني آنست ( نار المحبة التي لا تبقى ولا تذر من حطب الوجود المجازي شيئاً ) لعلي آتيكم منها بقبس ( يخرجكم من ظلمات الطبيعة إلى أنوار الشريعة ) أو أجد على النار هدى ( بآداب الطريقة إلى الحقيقة ) فلما أتاها نودي ( من شجرة القدس بخطاب الإنس ) فاخلع نعليك ( أي اترك الالتفات إلى الزوجة والولد فإن النعل يعبر في الرؤيا بهما ، أو اترك الالتفات إلى الكونين إنك واصل إلى جناب القدس ، أو هما المقدمتان في نحو قولنا ) العالم محدث وكل محدث فله محدث وموجد ( وذلك أنه إذا غرق في لجة العرفان بقيت المقدمات على ساحل الوسائل ) وأنا اخترتك ( يا موسى القلب من سائر خلق وجودك من البدن والنفس والسر والروح ) فاستمع ( بسمع الطاعة والقبول إنني لما تجليت بأنانية الوهيتي لأنانية وجودك المجازي لا يبقى إلا أنا ) فاعبدني ( بإفناء وجودك وأدم المناجاة معي لنيل ذكري إياك بالتجلي. إن قيامة العشق ) آتية أكاد أخفيها ( لعظم شأنها إلا أن متقاضى الكرم اقتضى إظارها لأخص عبيدي ) لتجزى كل نفس بما تسعى ( في العبودية من الروح والسر القلب والنفس والقالب فلما كان سعي الروح بحب الوطن الأصلي للرجوع إليّ أمكن إضافة ) ونفخت فيه من روحي ) [ ص : 72 ] فجزاؤه من تجلي صفات الجلال بانعدام الناسوتية في اللاهوتية وكان سعي السعي بالخلو عن الأكوان لقبول فيض المكون فجزاؤه بإفاضة الفيض الإلهي عليه. وسعي القلب بقطع تعلقات الكونين لتصفيته وقابليته لتجلي صفات الجمال والجلال ، فجزاؤه بدوام التجلي وأن يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه من الشراب الطهور الذي يزيل لوث الحدوث عن لوح القلوب لكشف(4/540)
" صفحة رقم 541 "
حقائق. وسعي النفس بتبديل الأخلاق وانتفاء الأوصاف الحيوانية ، فجزاؤوه بإشراق نور ربها لإزالة ظلمة صفاتها واطمئنانا إلى ذكر ربها لتصير قابلة لجذبه ) ارجعي إلى ربك ) [ الفجر : 28 ] وسعي القالب باستعمال أركان الشريعة وآدابت الطريقة ، فجزاؤه ورفعة الدرجات ونيل الكرامت في الدارين فلا يصدنك عن هذه السعادات النفس الأمارة بالسوء التي لا تؤمنبها. ويحتمل أن يقال : أكاد أخفي الساعة ودخول الجنة والنار لئلا تكون عبادتي مشوبة بطمع الجنة وخوف النار. قالوا : أخطأ موسى في قوله ) هي عصاي ( وكان عليه أن يقول ) أنت أعلم بحالها مني ( وفي قوله ) أتوكأ عليها ( وكان عليه أن يتكىء على لطف الله وكرمه فلهذا قيل له ) ألقها يا موسى ( وفي قوله ) وأهش بها على غنمي ( إذ نسي أن العصا لا تكون واسطة لرزق أغنامه وإنماالرزاق هو الله. ) خذها ولا تخف ( فإن الضار والنافع هو الله وحده فلا يكن خوفك إلا منه ولا رجاؤك إلا به ) واضمم ( يد همتك إلى جناح قنوعك ) تخرج بيضاء ( نقية عن درن السؤال وعن الطمع وباقي الحقائق مذكور في التفسير. وفي قوله ) قد أوتيت ( بلفظ الماي إشارة إلى أنه أعطي ذلك بالتقدير الأزلي لا بالتدبير العملي والله أعلم بالصواب. ( طه : ( 37 - 76 ) ولقد مننا عليك . . . .
" ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا(4/541)
" صفحة رقم 542 "
سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى "
( القراآت )
ولتصنع ( بسكون اللام والعين على الأمر : يزيد الآخرون بكسر اللام ونصب العين ) لنفسي اذهب ( ) في ذكري اذهبا ( تفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ) خلقه ( فتح اللام على أنه فعل : نصير الباقون بالسكون. ) مهداً ( وكذلك في ( الزخرف ) : عاصم وحمزة وعليّ وخلف وروح. الآخرون ) مهاداً ( ) سوى ( بكسر السين : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو عليّ الآخرون بالضم ) لا نخلفه ( بالجزم جواباً للأمر : يزيد ) يوم الزينة ( على الظرف : هبيرة : ( وقد خاب ( حيث كان بالإمالة : حمزة ) فيسحتكم ( من الإسحات : حمزة وعليّ وخلف ورويس وحفص. الباقون بفتح الياء والحاء ) إن ( مخففة : ابن كثير وحفص والمفضل. الباقون مشددة. ) هذين ( أبو عمرو و ) هذان ( بالتشديد : ابن كثير. الباقون بالتخفيف ) فاجمعوا ( بهمزة الوصل وفتح الميم أمراً من الجمع : أبو عمرو. والآخرون على لفظ الأمر من الإجماع : ( وقد أفلح ( بنقل الحركة إلى الدال حيث كان : ورش وعباس وحمزة في الوقف ) تخيل ( بالتاء الفوقانية : ابن ذكوان وروح والمعدل عن زيد الباقون وابن مجاهد عن ابن ذكوان بالتحتانية : ( تلقف ( بالتشديد والرفع على الاستئناف : ابن ذكوان : ( تلقف ( بالتخفيف والجزم : حفص والفضل. وقرأ البزي وابن فليح مشددة التاء ) كيد سحر ( على المصدر : حمزة(4/542)
" صفحة رقم 543 "
وعلي وخلف. الباقون ) كيد ساحر ( على الوصف. ) قال آمنتم ( بالمد : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن عامر وأبو جعفر ونافع وابن كثير عن ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل ) قال أمنتم ( على الخبر بغير مد : حفص وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل. الباقون ) أأمنتم ( بزيادة همزة الاستفهام ) ومن يأته ( مختلسة الهاء : يزيد وقلون ويعقوب غير زيد ، وأبو عمرو عن طريق الهاشمي عن اليزيدي ) ومن يأته ( بسكون الهاء : خلا دور جاء والعجلي وشجاع واليزيدي غير أبي شعيب ويحيى وحماد. الباقون ) يأته ( بالإشباع. الوقوف : ( أخرى ( ه لا لأن ( إذ ) تفسر المرة ) ما يوحى ( ه لا لأن ما بعده تفسير ) ما يوحى ( ) وعدوّ له ( ط ) مني ( ج لأن الواو وقد تكون مقحمة وتعلق اللام ب ) ألقيت ( وقد تكون عاطفة على محذوف أي لتحب ولتصنع ، ومن جزم اللام وقف على ) مني ( لا محالة ) على عيني ( لئلا يوهم أن ( إذ ) ظرف ) لتصنع ( ) من يكفله ( ط لانقطاع النظم وانتهاء الاستفهام على أن فاء التعقيب مع اتحاد القصة يجيز الوصل. ) ولا تحزن ( ط لابتداء منة أخرى ) فتوناً ( ه ط ) يا موسى ( ه ) لنفسي ( ه لاتساق الكلام مع حق الفاء مضمرة ) ذكري ( ه ج لمثل ما قلنا والمضمر واو ) طغى ( ه للآية مع الفاء ) يخشى ( ه ) يطغى ( ه ) وأرى ( ه ) ولا تعذبهم ( ط لأن ( قد ) لتوكيد الابتداء وقد انقطع النظم على أن اتحاد المقول يجيز الوصل ) من ربك ( ط لذلك فإن الواو للابتداء ) في كتاب ( ج لاحتمال ما بعده الصفة والاستئناف ) ولا ينسى ( ه بناء على أن ( الذي ) صفة الرب والأحسن تقدير هو الذي أو أعني الذي ) ماء ( ط للالتفات ) شتى ( ه ) أنعامكم ( ط ) انهى ( ه ) أخرى ( ه ) وأبى ( ه ) يا موسى ( ه ) سوى ( ه ) ضحى ( ه ) أتى ( ه ) بعذاب ( ج لاختلاف الجملتين ) افترى ( ه ) النجوى ( ه ) المثلى ( ه ) صفاً ( ه ) استعلى ( ه ) ألقى ( ه ) ألقوا ( ج لأن التقدير فألقوا ما ألقوه فإذا حبالهم مع فاءالتعقيب وإذا المفاجأة المنافيين للوقف ) تسعى ( ه ) موسى ( ه ) الأعلى ( ه ) ما صنعوا ( ط ) كيد ساحر ( ط ) أتى ( ه ) وموسى ( ه ) لكم ( ط ) السحر ( ق للقسم المحذوف ولانقطاع النظم مع فاء التعقيب وإتمام مقصود الكلام ) النخل ( ج لابتداء معنى القسم ولفظ استفهام يعقبه مع اتفاق الجملة واتحاد الكلام. ) وأبقى ( ه ) قاض ( ط ) الحياة الدنيا ( ط ) من السحر ( ط ) وأبقى ( ه ) جهنم ( ط ) ولا يحيى ( ه ) العلى ( ه لا لأن ما بعده بدل ) فيها ( ط ) تزكى ( ه. التفسير : منّ عليه مناً أنعم ، ومنّ عليه منة أي امتن عليه كأن الله سبحانه قال لموسى : إني راعيت صلاحك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال ، أو كنت(4/543)
" صفحة رقم 544 "
ربيتك من غير سابقة ق فلو منعتك الحال مطلوبك لكان ذلك رداً بعد القبول وحرماناً بعد الأحسان وذلك ينافي الكرم الذاتي. قالوا : المنة تهدم الصنيعة فهي نوع من الأذى. فقوله ) ولقد مننا عليك ( يكون من المن لا من المنة ، قلت : يحتمل أن لا تكون المنة من المنعم المطلق أذية وإنما تكون تنبهاً علىالنعم وإيقاظاً من سنة الغفلة حتى يتلقى المكاف النعمة بالشكر والطاعة. وإنما قال ) مرة أخرى ( لأن الجملة قصة واحدة وإن كانت مشتملة على منن كثيرة ، والوحى غلى أم موسى إما أن يكون على لسان نبي في عصرها كشعيب مثلاً ، أو عن لسان ملك لا على طريق النبوّة كالوحي إلى مريم في قوله ) وإذ قالت الملائكة يا مريم ) [ آل عمران : 42 ] أو أراها في المنام أنه وضع ولدها في التابوت وقذف في البحر ثم رده الله إليها ، أو ألهمها بذلك ، أو لعل الأنياء المتقدمين كإبراهيم وإسحق ويعقوب أخبروا بذلك وانتهى خبرهم إليها. ومعنى ) ما يوحى ( ما يجب أن يوحى لما فيه من المصلحة الدينية ولأنه أمر عظيم ولأنه مما لا يعلم إلا بطريق الوحي. ( وأن ) هي المفسرة لأن الإيحاء في معنى القول ، والقذف يستعمل بمعنى الوضع أي ضعيه في التابوت وقد مر معناه في ( البقرة ) في قصة طالوت. قال جار الله : الضميران الباقيان في قوله ) فاقذفيه في اليم فليلقه ( عائدان إلى موسى أيضاً لئلا يؤدي إلى تنافر النظم ، فإن المقذوف والملقى إذا كان موسى وهو في جوف التابوت لزم أن يكون التابوت أيضاً مقذوفاً وملقى ويؤيده أن الضميران في قوله ) عدوّ له ( لموسى بالضرورة لأن عداوة التابوت غير معقولة. وإذا كان الضمير الأول والضمير الأخير لموسى فالأنسب بإعجاز القرآن أن يكون الضمير المتوسط أيضاً له ، لأن المعنى صحيح واللفظ متناسب فلا حاجة إلى العدول اعتماداً على القرينة. واليم هو البحر ، والمراد ههنا نيل مصر والساحل شاطىء البحر. وأصل السحل القشر ولهذا قال ابن دريد : هو مقلوب لأن الماء سحله فهو مسحول. قال أهل الإشارة : من خصوصة انشراح الصدر بنور الوحي أن يقذف في قلبه قذف الولد الذي هو أعز الأشياء في تابوت التوكل وبحر التسليم حتى يلقيه اليم بساحل إرادة الله ومشيئته. يروى أنا جعلت في التابوت قطناً محلوجاً فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينا هو جالس على رأس بركة مع اسية إذا بالتابوت فأمر به فأخرج ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجهاً فأحبه عدوّ الله حباً شديداً لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر اللفظ يدل على أن التابوت التقط من الساحل ، فلعل اليم ألقاه بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون فأداه النهر إلى البركة. أما كون فرعون عدواً لله من جهة كفره وعتوه فظاهر ، وأما كونه عدوّاً لموسى وهو صغير(4/544)
" صفحة رقم 545 "
فباعتباره المآل ، أو لأنه لو ظهر له حاله لقتله فسبحان من يربي حبيبه في حجر عدوّه. قالوا : كان بحضرة فرعون حينئذٍ أربعمائة غلام وجارية ، فحين أشار بأخذ التابوت ووعد من يسبق إلى ذلك الإعتاق تسابقوا جميعاً ولم يظفر بأخذه إلا واحد منهم فأعتق الكل. والنكتة فيه أن عدو ّ الله لم يجوز من كرمه حرمان البعض إذ عزم الكل على الأخذ ، فأكرم الأكرمين كيف لا يعتبر عزائم المؤمنين على الطاعة والخير ؟ فالمرجو منه إعتاق الكل من النار وأن وقع لبعضهم تقصير في العمل. قوله ) مني ( إما أن يتعلق ب ) ألقيت ( أو يكون صفة للمحبة أي محبة حاصلة مني وعلى الوجهين فالمحبة إما محبة الله ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وإما محبة الناس التي زرعها الله في قلوبهم ، فقد يروى أنه كانت على وجهه مسحة جمال وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبرعنه من رآه. قال القاضي. هذا الوجه أقرب لأنه في الصغر لا يوصف بمحبة الله التي يرجع معناها إلى إيصال الثواب. ورد بأن محبة الله عبارة عن إرادة الخير والنفع وهو أعم من أن يكون جزاء على العمل أو لا يكون ولهذا بين المحبة بقوله ) ولتصنع على عيني ( أي لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعى الشيء بالعينين إذا عني بحفظه ، ولما كان العالم بالشيء حارساً له عن الآفات كما أن الناظر إليه يحرسه أطلق لفظ العين على العلم لاشتباههما من هذه الوجه. وأيضاً العين سبب الحراسة فأطلق السبب وأريد المسبب ، ويقال : عين الله عليك إذا دعي له بالحفظ والحياطة ، فالجار والمجرور في موضع الحال من ضميرالمبني للمفعول في ) لتصنع ( وجوز في الكشاف أن يكون ) إذ تمشي ( ظرفاً ) لتصنع ( وليس بذلك وإنما هو ظرف ب ) ألقيت ( أو بدل من ) إذا أوحينا ( على الوقتين من زمان واحد واسع يقول الرجل : لقيت فلاناً سنة كذا ، ثم تقول وأنا لقيته إذ ذاك ورما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها. يروى أنه لما فشا الخبر أن آل فرعون أخذو غلاماً في اليم وأنه لا يرتضع من ثدي امرأة كما قال سبحانه ) وحرمنا عليه المراضع ) [ القصص : 12 ] جاءت أخت موسى عليه السلام واسمها مريم متنكرة فقالت ) هل أدلكم على من يكفله ( فجاءت بالأم فقبل ثديها وذلك قوله ) فرجعناك إلى أمك ( وقال في القصص ) فرددناه إلى أمه ) [ القصص : 13 ] تصديقاً لقوله ) إنا رادوه إليك ) [ القصص : 7 ] ( كي تقر عينها ( بلقائك ) ولا تحزن ( بسبب وصول لبن غيرها إلى معدتك ) وقتلت ( وأنت ابن اثنتي عشرة سنة ) نفساً ( هو القبطي الذي يجيء ذكره في القصص ) فنجيناك من الغم ( وهو اقتصاص فرعون منك. وقيل : الغم هو القتل بلغة قريش ، أو أراد بالغم خوف عقاب الله وذلك قوله ) فاغفر لي(4/545)
" صفحة رقم 546 "
فغفر له ) [ القصص : 16 ] ( وفتناك فتوناً ( مصدر على ( فعول ) في المتعدى كالشكور والكفور ، أو جمع فتن كالظنون للظن ، أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كبدور في بدرة ، وحجوز في حجزة ، والقتنة المحنة والابتلاء بخير أو شر قال تعالى ) ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) [ الأنبياء : 35 ] وفيها معنى التخليص من قولهم ( فتنت الذهب ) إذا أردت تخليصه. عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عن الفتون فقال : أي خلصناك من محنة بعد محنة. ولد في عام كان يقتل فيه الولدان ، وألقته أمه في البحر ، وهمّ فرعون بقتله ، وقتل قبطياً ، وأجر نفسه عشر سنين ، وضل الطريق ، وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة ، وكان يقول عند كل واحدة فهذه فتنة يا ابن جبير. قال العلماء : لا يجوز إطلاق اسم الفتان على الله تعالى وإن جاء ) وفتناك ( لأنه صفة ذم في العرف وستجيء قصة لبثة في أهل مدين وأنه على ثمان مراحل من مصر في سورة القصص إن شاء العزيز. قوله ) على قدر ( أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك فيه ، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء وهو رأس أربعين سنة ، أو على موعد قد عرفته بأخبار شعيب أو غيره. والصنع بالضم مصدر صنع إليه معروفاً قبيحاً أي فعل ، والاصطناع ( افتعال ) منه استعماله في الخير أكثر ، واصطنع فلان فلاناً إذا اتخذه صنيعة ، واصطنعت فلاناً لنفسي إذا اصطنعته وخرجته ومعناه أحسنت إليه حتى إنه يضاف إليّ. وقوله ( لنفسي ( أي لأصرفن جوامع همتك في أوامري حتى لا تشتغل بغير ما أمرتك به من تبليغ الرسالة وإقامة الحجة. وقال جار الله : مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك أهلاً للتقريب والتكريم لخصائص فيه فيصطنعه بالكرامة ويستخلصه لنفسه فلا يبصر إلا بعينه ولا يسمع إلا بأذنه ولا يأتمن على مكنون سره سواه. وقال غيره من المعتزلة : إنه سبحانه إذا كلف عباده وجب عليه أن يلطف بهم ، وم حمله الألطاف ما لا يعلم إلا سمعاً ، فلو لم يصطنعه للرسالة لبقي في عهدة الواجب فهذا أمر فعله الله لأجل نفسه حتى يخرج عن عهدة ما يجب عليه. ولما عد عليه المنن السابقة بإزاء الأدعية المذكورة رتب على ذكر ذلك أمراً ونهياً. أما الأمر فقوله ) اذهب أنت وأخوك ( وفيه بيان ما لأجله اصطنعه وهو الإبلاغ وأداء الرسالة. ) بآياتي ( أي مع آياتي لأنهما لو ذهبا بدونها لم يلزمه الإيمان وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد. وما هذه الآيات غير العصا واليد لأنه لم يجر إلا ذكرهما فأطلق الجمع على الاثنين ، أو لأن كلاً منهما مشتملة على آيات أخر ، أو لأنه يستدل بكل منها على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل وعلى نبوة موسى وعلى جواز الحشر حيث(4/546)
" صفحة رقم 547 "
انقلب الجماد حيواناً والمظلم مستنيراً ومثله قوله ) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ) [ آل عمران : 97 ] وقيل : هما مع حل العقدة. وقيل : أراد اذهبا إني أمدكما بآياتي وأظهرها على أيديكما متى وقع الاحتياج إليها. وأما النهي فقوله ) ولا تنيا ( بكسر النون مثل تعدا وقرىء ) تنيا ( بكسر حرف المضارعة أيضاً للإتباع. والونى بفتحتين الضعف والفتور والكلال والإعياء ، والمعنى لا تنسياني بل اتخذا ذكري وسيلة في تحصيل المقاصد واعتقدا أن أمراً من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري فإن المداومة على ذكر الله توجب عدم الخوف من غيره. وأن يستحقر في نظرهما سواه لقوة نفسه واستنارة باطنه. وقيل : أراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على كل العبادات فضلاً عن أعظمها فائدة وأتمها عائدة. وقيل اذكرني عند فرعون وقومه بأني لا أرضى بالكفر وأعاقب عليه وأثيب على الإيمان وأرتضيه ، وبالجملة كل ما يتعلق بالترهيب والترغيب. ما الفائدة في تكرير قوله ) اذهبا إلى فرعون ( ؟ والجواب بعد التقرير والتأكيد أمرهما أن يشتغلا بأداء الرسالة معاً لا أن ينفرد به موسى ، أو الأول أمر بالذهاب إلى كل بني إسرائيل والقبط ، والثاني مخصوص بفرعون الطاغي. ثم إنه خوطب كلاهما وموسى حاضر فقط لأنه أصل ، أو هو كقوله ) وإذ قتلتم نفسا ) [ البقرة : 72 ] والقاتل واحد منهم. ويحتمل أن هارون قد حضر وقتئذ فقد روى أن الله عز وجلّ أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى. وقيل : ألهم بذلك. وقيل : سمع بخبره فتلقاه. سؤال : لم أمرا بتليين القول للعدوّ المعاند ؟ جوابه لأن من عادة الجبابرة إذا أغلظ لهم في الكلام أن يزدادوا عتواً وعلواً. وقيل : لما له من حق تربية موسى شبه حق الأبوة. وكيف ذلك القول اللين ؟ الأصح انه نحو قوله تعالى ) هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى ) [ النازعات : 18 ، 19 ] لأن ظاهره الاستفهام والمشورة وعرض ما فيه صلاح الدارين. وقيل : أراد عداه شباباً لا يهرم بعده ، وملكاً لا ينزع منه إلا بالموت ، وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته. حكى عمرو بن دينار قال : بلغني أن فرعون عمر أربعمائة وتسعاً وستين سنة. فقال له موسى : إن أطعتني فلك مثل ما عمرت فإذا مت فلك الجنة. وقيل : أراد كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث : أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة. ويحتمل أن يكون أمر بالقول اللين لأنه كان في موسى حدة وخشونة. بحيث إذا غضب اشتعلت قلنسوته ناراً فعالج حدته باللين ليكون حليماً في أداء الرسالة. ويعني الترجي في ) لعله ( يعود إلى موسى وأخيه أي اذهبا على رجائكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو أن يثمر سعيه فعساه يتذكر بأن يرجع من الإنكار إلى الحق رجوعاً كلياً(4/547)
" صفحة رقم 548 "
إذا تأمل فأنصف ) أو يخشى ( فيقل : إنكاره وإصراره. قالت المعتزلة : جدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن قطع المعذّرة وإلزامه الحجة. وقالت الأشاعرة : العقول قاصرة عن معرفة سر القدر ولا سبيل إلا التسليم وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان. قالوا : إنه كمن يدعف سكيناً إلى من علم قطعاً أنه يمزق بطن نفسه ثم يقول : إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان. ويروى عن كعب أنه قال : والذي يحلف به كعب إنه مكتوب في التوراة ( فقولا له قولاً ليناً ( وسأقسي قلبه فلا يؤمن ) ) قالا ربنا ( فيه دليل على أن هارون أيضاً كان حاضراً وقتئذ كما روينا. وسئل أن انشرح صدره وتيسر أمره فكيف قالا ) إننا نخاف ( فإن حصول الخوف ينافي شرح الصدر ؟ وأجيب بأن المراد من شرح الصدر ضبط الأوامر والنواهي وحفظ الشرائع والأحكام بحيث بحيث لا يتطرق إليه خلل وتحريف ، وهذا شيء آخر مغاير لزوال الخوف. قلت : لعلهما خافا أن لا يتمكنا من أداء الرسالة بدليل قوله ) أن يفرط علينا ( أي يسبق رسالتنا ويبادرنا بالعقوبة ) وأن يطغى ( أي يجاوز الحد بأن يقول فيك ما لا ينبغي أو يجاوز حد الاعتدال في معاقبتنا إن لم يعاجل بنا فلا نتمكن من إقامة وظائف الأداء. وأيضاً الدليل النقلي السمعي إذا انضاف إلى الدليل العقلي زاده إيقاناً وطمأنينة ولهذا ) قال لا تخافا إنني معكما ( أي بالنصرة والتأييد ) أسمع وأرى ( ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل فأفعل بكما ما يوجب عنايتي وحراستي ، فلا يذهب وهمكما إلى أن مواد كرامتي انقطعت عنكما إذا فارقتما مقام المكالمة فصار هذا الوهم سبب خوفكما. ويجوز أن يكون الفعلان متروكي المفعول كأنه قيل : أنا سامع مبصر وإذا كان الحافظ والناصر كذلك تم الحفظ وكملت النصرة. قال بعض الأصوليين : في الآية دلالة على أن الأمر لا يقتضي الفور وإلا كان تعللهما بالخوف معصية وإنها غير جائزة على الرسل في الأصح. وقال بعض المتكلمين : فيها دليل على أن السمع والبصر صفتان زائدتان عن العلم والإلزام التكرار فإن معيته هي بالعلم ولقائل أن يقول : الخاص يغاير العام ولكن لا يباينه. ثم كرر الأمر قائلاً : ( فأتياه فقولا ( فسئل إنهما أمرا بأن يقولا له قولاً ليناً فكيف غلظاه أوّلاً بقوله ) إنا رسولا ربك ( ففيه إيجاب انقياده لهما وإكراهه على طاعتهما وهذا مما يعظم على الجبار. وثانياً بقوله ) فأرسل معنا بني إسرائيل ((4/548)
" صفحة رقم 549 "
وفيه إدخل النقص في ملكه لأنه كان يستخدمهم في الأعمال الشاقة. وثالثاً بقوله ) ولا تعذبهم ( وفيه منعه عما يريده بهم ؟ وأجيب بأن هذا القدر من التغليظ ضروري في أداء الرسالة. قيل : أليس الأولى أن يقولا ) إنا رسولا ربك ( ) قد جئناك بآية من ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ( فيكون ذكر المعجز مقروناً بادعاء الرسالة. والجواب أن قوله ) فأرسل ( من تتمة الدعوى ، وإنما وحد قوله ) بآية ( ومعه آيتان بل آيات لقوله ) اذهب أنت وأخوك بآياتي ( لأنه أراد الجنس كأنه قيل : قد جئناك ببيان من عند الله وبرهان. قال في الكشاف : قلت : وفيه أيضاً نوع من الأدب كما لو قلت : أنا رجل قد حصلت شيئاً من العلم ولعل عندك علوماً جمة على أن تخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد عليه. وأيضاً الأصل في معجزات موسى كان هي العصا ولهذا وقعت في معرض المعارضة كما أن الأصل في المعجزات نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) كان هو القرآن فوقع لذلك في حيز التحدي ) والسلام ( أي دنس السلامة أو سلام خزنة الجنة ) على من اتبع الهدى ( يحتمل أن يكون هذا أيضاً مما أمر بأن يقولاه لفرعون ، ويحتمل أن تكون الرسالة قد تمت عند قوله ) بآية من ربك ( ويكون هذا وعداً بالسلامة من عقوبات الدارين لمن آمن وصدق. قالت الأشاعرة : في قوله ) أن العذاب ( أي جنسه أو كل فرد منه ) على من كذب وتولى ( دليل على أنه لا يعاقب أحداً من المؤمنين ترك العمل به في بعض الأوقات ، فوجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام على أن العقاب المتناهي لا نسبة له إلى النعيم المقيم الذي لا نهاية له فكأنه لم يعاقب أصلاً. وأيضاً العارف بالله قد اتبع الهدى فوجب أن يكون من أهل السلامة ) قال فمن ربكما يا موسى ( خاطب الاثنين ووجه النداء إلى موسى لأنه الأصل في ادعاء الرسالة وهارون وزيره ، ويجوز أنه خص موسى عليه السلام بالنداء لما عرف من فصاحة هارون والرتة التي كانت في لسان موسى. فأراد أن يعجز عن الجواب. قال أهل الأدب : إن فرعون كان شديد البطش جباراً ومع ذلك لم يبدأ بالسفاهة والشغب بل شرع في المناظرة وطلب الحجة ، فدل على أن الشغب من غير حجة شيء ما كان يرتضيه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم ؟ وفي اشتغال موسى بإقامة الدلالة على المطلوب دليل على فساد التقليد وفساد قول القائل بأن معرفة الله تستفاد من قول الرسول ، وفيه جواز حكاية كلام المبطل مقروناً بالجواب لئلا يبقى الشك. وفيه أن المحق يجب عليه استماع شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها. واعلم أن العلماء اختلفوا في كفر فرعون فقيل : كان عارفاً بالله إلا أنه كان معانداً بدليل قوله ) لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض ) [ الأسراء : 102 ] وقوله ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا ) [ النمل : 14 ] وقوله في سورة القصص ) وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ) [ الآية : 39 ] وليس فيه إلا إنكار المعاد دون إنكار المبدأ. وقوله في الشعراء ) وما رب العالمين ( إلى قوله ) إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ) [ الشعراء : 27 ](4/549)
" صفحة رقم 550 "
يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوجود فدل على أنه اعترف بأصل الوجود. وأيضاً إن مل كفرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام لأن موسى لما هرب إلى مدين قال لهشعيب ) لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) [ القصص : 25 ] فكيف يعتقد مثل هذا الشخص إنه إله العالم بل كل عاقل ملف يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم فلا يكون واجب الوجود. وأيضاً إنه سأل ههنا بمن طالبا للكيفية ، وفي ( الشعراء ) بما طالبا للماهية فكأن موسى لما أقام الدلالة على الجود ترك المناظرة والمنازعة معه في هذا المقام لظهوره وشرع في مقام أصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر. وأيضاً إنه قال في الجواب ) ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ( وصلة الذي لا بد أن تكون جملة معلومة الانتساب. ومن الناس من قال : إنه كان جاهلاً بالله بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما. فمنهم من قول : إنه كان دهرياً نافياً للمؤثر أصلاً. ومنهم من قال : إنه فلسفي قائل بالعلة الموجبة أو هو من عبدة الكواكب ، أو من الحلولية والمجسمة. وأم إدعاء الالهية والربوبية فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد لحكمه. قال بعض العلماء : إنما قال ) فمن ربكما ) [ طه : 49 ] ولم يقل ( فمن إلهكما ) تعريضاً بأنه رب موسى كما قال ) ألم نر بك وليداً ) [ الشعراء : 18 ] قلت : يحتمل أن يكون تخصيص موسى بالنداء تنبيهاً على هذا المعنى. ولم يعلم الكافر أن الربوبية التي أدعاها موسى لله في قوله ) إنا رسولا ربك ( غير هذه في الحقيقة ولا مشاركة بينهما إلا في اللفظ ، وهذا كما عارض نمرود إبراهيم صلوات الرحمن عليه في قوله ) أنا أحيي وأميت ) [ البقرة : 258 ] ولم يعلم أن إحياءه وإماتته ليسا من الإحياء والإماتة في شيء ثم شرع موسى في الدلالة على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات ، وفيه دلالة على أن موسى كان أصلاً في النبوة وأن هارون راعى الأدب فلم يشتغل بالجواب قبله لأن الأصل في النبوة هو موسى ، ولأن فرعون خصص موسى بالنداء. من قرأ ) خلقه ( بسكون اللام فإما بمعنى الخليقة والضمير المجرور لله وقدم المفعول الثاني ليتصل قوله ) ثم اهتدى ( والخليقة أعطى الخلائق ما به قوامهم من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح ، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها فيستخرجون الحديد من الجبال واللآلىء من البار ويركبون الأغذية والدوية والأسلحة والأمتعة ونظير هذا الكلام قوله ) الذي خلق فسوّى والذي قدر فهدى ) [ الأعلى : 2 ، 3 ] وقوله حكاية عن إبراهيم ) الذي خلقني فهو يهدين ) [ الشعراء : 78 ] وإما أن يكون الخلق بمعنى الصورة والشكل أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به فأعطى العين هيئتها التي تطابق الإبصار ، والأذن(4/550)
" صفحة رقم 551 "
ما يوافق الاستماع ، والأنف للشم ، واليد للبطش ، بل أعطى رجل الآدمي شكلاً يوافق سعيه ، ورجل الحيوانات الأخر شكلاً يطابق مشيها ، بل أعطى ذوات القرون رجلاً توافق حاجتهن ، وكذا الخف والحافر وذوات المخالب. وقيل : أراد وأعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة فجعل الحصان والحجر زوجين ، وكذا البعير والناقة والرجل والمرأة. ومن قرأ ) خلقه ( بفتح اللام صفة للمضاف أو المضاف إليه والمفعول الثاني متروك أي كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه. واعلم أن عجائب حكمة الله تعالى في مخلوقاته بحر لا ساحل له ، وقد دوّن العلماء طرفاً منها في كتب التشريح وخواص الأحجار والنبات والحيوان ، ولنذكر ههنا واحداً منها هي أن الطبيعي يقول : الثقيل هابط والخفيف صاعد ، فالماء لذلك فوق الأرض والهواء فوق الماء والنار فوق الكل. ثم إنه سبحانه جعل العظم والشعر أصلب الأعضاء على طبيعة الأرض وجعل مكانهما فوق البدن. وجعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء وجعل تحته النفس الذي هو الهواء ، وجعل تحته الحرارة الغريزية في القلب كالنار ليكون دليلاً على وجود الفاعل المختار خلاف ما يقول الدهري والطبيعي وسائر الكفار. وأيضاً اختصاص كل جسم بقوة وتركيب وهداية إما أن يكون واجباً أو جائزاً ، والأول محال وإلا لم يقع فيها تغير. والثاني يستدعي مرجحاً فإن كان ذلك المرجح واجب الوجود لذاته فهو المطلوب ، وإن كان جائز الوجود افتقر في اتصافه بالوجود إلى موجد ، ولا بد من الانتهاء إلى موجد يجب وجوده لذاته. ثم إنه يستغني عن سمات النقص وشوائب الافتقار وليس إلا الله الواحد القهار. قال أهل النظم : إن موسى عليه السلام لما قرر عليه أمر المبدأ ) قال ( فرعون إن كان وجود الواجب في هذه الحد من الظهور ) فما بال القرون الأولى ( لم يؤمنوا وجحدوا فعارض الحجة بالتقليد والبال الحال ؟ أو أنه لما هدده بالعذاب في قوله ) أن العذاب على من كذب وتولى ( قال فما بالهم كذبوا فما عذبوا ؟ فأجاب بأن هذا ما استأثر الله بعلمه وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما يخبرني به علام الغيوب. أو أنه سأله عن أحوال القرون الخالية وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد ليصرف موسى عن المقصود ويشغله بالحكايات خوفاً من أن يميل قلوب ملته إلى حجته الباهرة ودلائله الظاهرة ، فلم يلتفت موسى إلى حديثه بل ) قال علمها عند ربي ( ولا يتعلق غرضي بأحوالهم. ويجوز أن يكون الكلام قد انجر ضمناً أو صريحاً إلى إحاطة الله سبحانه بكل شيء فنازعه الكافر قائلاً : ما بال سوالف القرون في تمادي كثرتهم وتباعد أطرافهم كيف أحاط بهم وبأجزائهم(4/551)
" صفحة رقم 552 "
وجواهرهم ؟ فأجباب بأن كل كائن محيط به علمه ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل. وقوله ( علمها عند ربي ( مع قوله ) في كتاب ( لا يتنافيان ، بل المراد أنه تعالى عالم بجميع المغيبات مطلع على الكليات والجزئيات من أحوال الموجودات والمعدومات ، ومع ذلك فإن جميع الأحوال ثابتة في اللوح المحفوظ ثم كان لقائل أن يقول : لعلها أثبتت في اللوح لاحتمال الخطأ والنسيان فتدارك ذلك بقوله ) لا يضل ربي ولا ينسى ( قال مجاهد : هما واحد المراد أنه لا يذهب عنه شيء ولا يخفى عليه. والأكثرون على الفرق فقال القفال : الأول إشارة إلى كونه عالماً بالكل ، والثاني إشارة إلى بقاء ذلك العلم أي لا يضل عن معرفة الأشياء ، وما علم من ذلك لا ينساه ولا يتغير علمه ، يقال : ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له. وقال مقاتل : لا يخطىء ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه. وقال الحسن : لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه. وقال أبو عمر : ولا يغيب عنه شيء ولا يغرب عنه شيء. وقال ابن جرير : لا يخطىء في التدبير فيعتقد غير الصواب صواباً وإذا عرفه لا ينساه والوجوه متقاربة. والتحقيق ما قاله القفال. وعن ابن عباس : لا يترك من كفر حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه. ولم اذكر الدليل العام المتناول لجميع المخلوقات السمويات والأرضيات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النباتات والجمادات ذكر الدلائل الخاصة فقال : ( الذي جعل لكم الأرض مهدا ( أي كالمهد مصدر. وقال غيره : المهد اسم والمهاد جمع. وقال المفضل : هما مصدران ) وسلك ( أي حصل ) لكم فيها سبلاً ( ووسطها بين الجبال والأودية والبراري. يقال : سلكت الشيء في الشيء سلكاً بالفتح أي أدخلته فيه ) فأخرجنا به ( أي بواسطة إنزال الماء. ومن المتكلمين الأقدمين من أنكر تأثير الوسائط رأساً و ) أزواجاً ( أي أصنافاً فأسميت بذلك لأنها مزدوجة مقترن بعضها ببعض. و ) شتى ( صفة للأزواج جمع شتيت كمريض ومرضى ، أو صفة للنابت لا مصدر سمي به النابت كما سمي بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع يعني أنها مختلفة النفع والطبع والطعم واللون والرائحة والشكل. ثم ههنا إضمار والتقدير وقلنا أو قائلين ) كلوا وارعوا أنعامكم ( وذلك أن بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم ، وإباحة الأكل تتضمن إباحة سائر وجوه الانتفاع كقوله : ( ولا تأكلوا أموالكم ) [ البقرة : 188 ] ومن نعم الله تعالى أن أرزاق العباد إنما تتحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله. قال الجوهري : النهية بالضم واحدة النهى وهي العقول لأنها تنهى عن القيبح. وجوز أبو علي الفارسي أن يكون مصدراً كالهدى وخص أرباباً العقول بذلك لأنهم هم(4/552)
" صفحة رقم 553 "
المنتفعون بالنظر فيها والاستدلال بها على وجود صانعها. ) ومنها خلقناكم ( لأن آدم مخلوق من الأرض. أو لأن بني آدم خلقوا من النطفة ودم الطمث المتولدين من الأغذية المنتهية إلى العناصر الغالبة عليها الأرضية ، أو لما ورد في الخبر أن الملك يأخذ من تربة المكان الذي يدفن فيه الأدمي فيذرّها على النطفة. ) وفيها نعيدكم ( لأن الجسد يصير تراباً فيختلط بالأرض إلا من رفعه الله إلى السماء ، وهو أيضاً يحتمل أن يعاد إليها بعد ذلك. ) ومنها يخرجكم تارة أخرى ( بالحشر والبعث ، أو بأن نخرجكم تراباً وطيناً ثم نحييكم بعد الإخراج ، أو المراد الإحياء في القبر. وههنا بحث وهو أن يكون قوله : ( الذي جعل لكم الأرض ( إلى ههنا من تتمة كلام موسى ، أو هو ابتداء كلام من الله تعالى. وعلى الأول يمكن أو يوجه قوله : ( فأخرجنا ( بأن المراد فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة والزرع ) أزواجاً من نبات شتى ( إلا أن قوله : ( كلوا وارعوا ( إلى قوله : ( ومنها نخرجكم ( لم يصلح قوله : ( فأخرجنا ( ابتداء كلام من الله لمكان فاء التعقيب ، والصواب أن يتم كلام موسى عند قوله : ( ولا ينسى ( ثم إنه تعالى ابتداء فقال : ( الذي ( أي هو الذي جعل إلى آخره ، وعلى هذا يكون قوله : ( فأخرجنا ( من قبيل الالتفات علماً للكلام وإيذاناً بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره تخصيصاً بأن مثل هذا لا يدرك تحت قدرة أحد سواه. والحاصل أنه تعالى عدد عليهم ما علق بالأرض من المنافع حيث جعلها لهم فراشاً يتقلبون عليها عند الإقامة. وسوّى لهم فيها مسالك يتقلبون بها في أسفارهم ، وأنبت فيها أصناف النبات متاعاً لهم ولأنعامهم. ثم إن الأرض لهم كالأم التي منها انشئوا وهي التي تجمعهم وتضمهم إذا ماتوا. ثم يخرجون من الأجداث خروج الأجنة من الأرحام ، ومن ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( تمسحوا بالأرض ) أي ارقدوا واسجدوا عليها من غير حائل ، أو تيمموا بها فإنها بكم برة أي إنها لكم كالأم. ومنا خلقناكم وفيها معايشكم وهي بعد الموت كفاتكم. قوله عز وعلا : ( ولقد أريناه آياتنا ( أي عرفناه صحتها. ثم إن كان التعريف يستلزم حصول المعرفة فيكون كفره كفر جحود وعناد كقوله : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ) [ النمل : 14 ] وإلا كان كفر جهالة وضلالة. سؤال الجمع المضاف يفيد العموم ولا سيما إذا أكد بالكل ، لكنه تعالى ما أراه جميع الآيات لأن من جملتها ما أظهرها على الأنبياء الأقدمين ولم يتفق لموسى مثلها. الجواب هذا التعريف الإضافي محذوّ به حذو التعريف العهدي لو قيل الآيات كلها وهي التي ذكرت في قوله : ( ولقد آتينا موسى تسع آيات(4/553)
" صفحة رقم 554 "
بينات ) [ الإسراء : 101 ] ولو سلم العموم فالمراد أنه أراه الآيات الدالة على التوحيد في قوله : ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ( وعلى النبوة بإظهار المعجزات القاهرة وعلى المعاد لأن تسليم القدرة على الإنشاء يستلزم تسليم القدرة على الإعادة بالطريق الأولى ، أو أراد أنه أراه آياته المختصة به وعدد عليه سائر آيات الأنبياء وإخبار النبي الصادق جارٍ مجرى العيان ، أو إراءة بعض الآيات كإراءة الكل كما أن تكذيب بعض الآيات يستلزم تكذيب الكل كما قال : ( فكذب ( أي الآيات كلها ) وأبى ( قول الحق. قال القاضي : الإباء الامتناع وإنه لا يوصف به إلا من يتمكن من الفعل والترك وإلا لم يتوجه الذم. وجواب الأشاعرة أنه لا يسأل عما يفعل. ثم إن فرعون خاف أن تميل قلوب ملته إلى قول موسى فذكر ما يوجب نفار القوم عنه مع القدح في نبوته لادعاء إمكان معارضته قائلاً ) أجئتنا لتخرجنا ( فإن الإخراج من الديار قرينة القتل بدليل قوله : ( أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ) [ النساء : 66 ] ثم طالب للمعارضة موعداً فإن جعلته زمان الوعد بدليل قوله : ( موعدكم يوم الزينة ( بالرفع كان الضمير في ) لا نخلفه ( عائداً إلى الوعد المعلوم من الموعد أو إلى زمان الوعد مجازاً. وانتصب ) مكاناً ( على أنه ظرف للوعد المقدر ، وإن جعلته مكان الوعد ليكون قوله : ( مكاناً ( بدلاً منه فوجه عود الضمير في ) لا نخلفه ( مثل ما قلنا ، ويكون قوله : ( موعدكم يوم الزينة ( مطابقاً له معنى ، لأنه لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان مشتهر عندهم وكأنه قيل : موعدكم مكان الاجتماع في يوم الزينة. وإن جعلته مصدراً ليصح وصفه بعدم الإخلاف من غير ارتكاب إضمار ، أو تجوّز انتصب ) مكاناً ( على أنه ظرف. ثم من قرأ ) يوم الزينة ( بالنصب فظاهر أي وعدكم أو انجاز وعدكم في يوم الزينة ، أو وقت وعدكم في يوم الزينة. وفي يوم ) يحشر الناس ( هو ضحى أي ضحى ذلك اليوم. ومن قرأ بالرفع فيقدر مضاف محذوف أي وعدكم وعد يوم الزينة ومعنى ) سوى ( بالكسر والضم عدلاً ووسطاً بين الفريقين وهو معنى قول مجاهد. فوصف المكان بالاستواء باعتبار المسافة. وقال ابن زيد : أي مستوياً لا يحجب شيئاً بارتفاعه وانخفاضه ليسهل على كل الحاضرين ما يجري بين الفريقين وهو قول مجاهد. فوصف المكان المكان الذي نحن فيه الآن. قال القاضي : الأظهر أن قوله : ( موعدكم يوم الزينة ( من قول فرعون لأنه الطالب للاجتماع. وقال الإمام فخر الذين الرازي : الأقرب أنه من كلام موسى ليكون الكلام مبنياً على السؤال والجواب ، ولأن تعيين يوم الزينة يقتضي إطلاع الكل على ما سيقع وهذا إنما يليق بالمحق الواثق بالغلبة لا بالمبطل المزور ، على أن(4/554)
" صفحة رقم 555 "
موعدكم خطاب الجمع وليس هناك إلا موسى وهارون ، فإما أن يرتكب أن أقل الجمع اثنان وهو مذهب مرجوح ، وإما أن يقال الجمع للتعظيم ولم يكن فرعون ليعظمهما ، ويوم الزينة يوم عيد لهم يتزينون فيه. وعن مقاتل يوم النيروز ، وعن سعيد بن جبير يوم سوق لهم. وعن ابن عباس : هو يوم عاشوراء. وإنما قال : ( وأن يحشر ( من غير تسمية الفاعل لأنهم يجتمعون ذلك اليوم بأنفسهم من غير حشر لهم. ومحل ) أن يحشر ( رفع أو جر عطفاً على اليوم أو الزينة عين اليوم. ثم الساعة وهي ) ضحى ( ذلك اليوم. وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكونعلو كلمة الله وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عنبينة ، وليشيع أمره العجيب في الأقطار والأعصار والأطراف والأكناف ، ففي ذلك تقوية دين الحق وتكثير راغيبه وقلة شوكة المخالف وتوهين عزائمهم ) تولى فرعون ( انصرف إلى مقام تهيئة الأسباب المعارضة فإن صاحب السحر يحتاج في تدبير الحسر إلى طول الزمان ولهذا طلب الموعد وقال مقاتل : أعرض وثبت على إعراضه عن الحق ) فجمع كيده ( أي أسباب الكيد وأدوات الحيلة والتمويه من مهرة السحر وغير ذلك ) ثم أتى ( الموعد. عن ابن عباس : كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل واحد منهم حبل وعصا. وقيل : أربعمائة. وقيل : أكثر من ذلك فضرب لفرعون قبة طولها سبعون ذراعاً فجلس فيها ينظر إليهم فبين الله تعالى أن موسى قدم قبل كل شيء الوعيد والتحذير على عادة الصالحين من أهل النصح والإشفاق ، ولا سيما الأنبياء المبعوثين رحمة للأمم ) ويلكم ( نصب على المصدر الذي لا فعل له أو على النداء ) لا تفتروا على الله كذباً ( بأن تدعوا آياته ومعجزاته سحراً ) فيسحتكم ( الستحت لغة أهل الحجاز والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم ، ومعناه الاستئصال. حذرهم أمرين : أحدهما عذاب الدارين والتنوين للتعظيم ، والآخرة الخيبة والحرمان عن المقصود فإن التمويه لا بقاء له ) فتنازعوا أمرهم بينهم ( كقوله في الكهف : ( إذ يتنازعون بينهم أمرهم ) [ الكهف : 21 ] أي وقع التنازع بينهم ) وأسروا النجوى ( الضمير لفرعون وقومه. وقيل : للسحرة ويؤديه ما روي عن ابن عباس أن نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه. وعن قتادة : إن كان ساحراً فسنغلبه ، وإن كان من السماء فله أمر. وعن وهب : لما قال ) ويلكم ( الآية قالوا : ما هذا بقول ساحر. والأكثرون على الأول وذلك أنهم تفاوضوا وتشاوروا حتى استقروا على شيء واحد هو أنهم. ) قالوا إنْ هذان ساحران ( إلى آخر الآية : لا إشكال في قراءة أبي عمرو وكذا في قراءة ابن كثير وحفص ، لأنه كقولك ( إن زيداً لمنطلق ) واللام فارقة بين المخففة والنافية .(4/555)
" صفحة رقم 556 "
وأما من قرأ ( إن ) بالتشديد و ) هذان ( بالألف فأورد عليه أن ( إن ) لم يعمل في المثنى. وأجب بأنه على لغة الحرث بن كعب وخثعم وبعض بني عذرة ، ونسبها الزجاج إلى كنانة ، وابن جني إلى بعض بني ربيعة ، جعلوا التثنية كعصا وسعدى مما آخره ألف فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب. وقيل : ( إن ) بمعنى ( نعم ) واعترض أن ما بعده حينئذ يصير كقوله : أم الحليس لعجوز شهربة ولا يجوز مثله إلا في ضرورة الشعر. وإنما موضع لام الابتداء في السعة هو المبتدأ. والجواب أن القرآن حجة على غيره ، وذكر الزجاج في جوابه أن التقدير لهما ساحران فاللام داخلة على صدر الجملة الصغرى. قال : وقد عرضت هذا القول على محمد بن يزيد وعلي وإسماعيل بن إسحاق فارتضاه كل منهم وذكروا أنه أجود ما سمعنا في هذا الباب ، وضعفه ابن جنى بأن المبتدأ إنما يجوز حذفه لو كان أمراً معلوماً جلياً وإلا كان تكليفاً بعلم الغيب للمخاطب ، وإذا كان معروفاً فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام. وأيضاً إن الحذف من باب الاختصار والتأكيد من باب الإطناب ، فالجمع بينهما محال مع أن ذكر المؤكد وحذف التأكيد أحسن في العقول من العكس. فالجمع بينهما البصريون من جعل النفس في قولك : ( زيد ضرب نفسه ) تأكيداً للمستكن فدل ذلك على أن تأكيد المنوي غير جائز. وأيضاً لو كان ما ذهب إليه الزجاج جائزاً لحمل النحويون قول الشاعر على ذلك ولم يحملوه على الاضطرار ، ولمن تبصر قول الزجاج أن يجيب عن الأول بأن التأكيد إنما هو لنسبة الخبر إلى المبتدأ لا للمبتدأ وحده ، ولو سلم فذكر اللام يدل على المبتدأ المنوي وذكر المبتدأ لا يدل على التأكيد فكان حذف المبتدأ أولى. وعن الثاني بأن الكلام قد يكون موجزاً من وجه مطنباً من وجه آخر فلا منافاة ، وإنما المنافاة إذا كانت الجهتان واحدة. وعن الثالث بأنهم امتنعوا من حمل النفس على التأكيد في المثال المذكور لأنهم رأوا أن إسناد الفعل إلى المظهر أولى من إسناده إلى المضمر ، لا لأن تأكيد مذكور. وعن الرابع بأن ذهول المتقدمين عن هذا الوجه لا يقتضي كونه باطلاً لكم ترك الأول للآخر. ولنرجع إلى التفسير قال الفراء : الطريقة اسم لوجوه الناس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم. ويقال : هم طريقة قومهم وهو طريقة قومه ، قبح أمر موسى في أعين الحاضرين(4/556)
" صفحة رقم 557 "
ونفرقهم بأنه ساحر ، والطباع نفور عن السحر وبأنه يقصد إخراجكم من دياركم - وهذا أيضاً مما يبغض القاصد إليهم - وبأنه يريد أن يذهب بأشراف قومكم وأكابركم قالوا وهم بنوا إسرائيل لقول موسى أرسل معنا بني إسرائيل وجعلها الزجاج من باب حذف المضاف أي بأهل طريقتكم المثلى وسموا مذهبهم الطريقة المثلى والسنة الفضلى لأن كل حزبٍ بما لديهم فرحون. والمثلى تأنيث الأمثل أي الأشبه بالحق ، ومنهم من فسر الطريقة ههنا بالجاه والمنصب والرياسة وكان الأمر على ما يقال به. من قرأ ) فأجمعوا ( من الجمع فظاهر ، ومن قرأ من الإجماع فمعناه اجعلوا كيدكم مجمعاً عليه حتى لا تختلفوا نظيره ما مر في سورة يونس ) فأجمعوا أمركم وشركاءكم ) [ الآية : 71 ] سماه كيداً لأنه علم أن السحر لا أصل له. وقال الزجاج : معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعاً عليه. ثم أمرم بأن يأتوا صفاً أي مصطفين مجتمعين ليكون أهيب في الصدور وأوقع في النفوس. وعن أبي عبيدة أنه فسر الصف بالمصلى أي مصلى من المصليات أو هو علم لمصلى بعينه لأن الناس يصطفون فيه لعيدهم وصلواتهم. ) وقد أفلح اليوم من استعلى ( أي فاز من غلب وهو اعتراض. واعلم أن قصة السحرة أكثرها يشبه ما مر في ( الأعراف ) وقد فسرناها هنالك فنحن الآن نقتصر ونذكر ما هو المختص بهذه السورة. ) إما أن تلقي ( أي اختر أحد الأمرين إلقاءك أو إلقاءنا ) فإذا حبالهم ( هي ( إذا ) المفاجأة وأصلها الوقت أي فاجاً موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم. قال وهب : سحروا أعين موسى عليه السلام حتى تخيل ذلك. وقيل : أراد أن شاهد شيئاً لولا علمه بأنه لا حقيقة لذلك الشيء لظن فيها أنها تسعى فيكون تمثيلاً ) فأوجس ( أضمر ) في نفسه خيفةً ( هو مفعول ) أوجس ( و ) موسى ( فاعله أخر للفاصلة. وذلك الخوف إما من جبلة البشرية حين ذهل عن الدليل وهو قول الحسن ، وإما لأنه خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه قاله مقاتل ، أو خاف أن يتأخر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت ، أو خاف أن يتفرق بعض القوم قبل أن يشاهدوا غلبته ، أو خاف تمادي الأمر عليه وتكرره فأزال الله تعالى خوفه مجملاً بقوله ) إنك أنت إلاّ على ( وفيه من أنواع التأكيد ما لا يخفى وهي الاستئناف والتصدير بأن ، والتوسيط بالفصل ، وكون الخبر معرفاً ولفظ العلو ومعناه الغلبة وصورة التفضيل ولا فضل لهم ومفصلاً بقوله ) وألق ما في يمينك ( لم يقل عصاك لما علم في الأعراف ولما في هذه السورة ) وما تلك بيمينك ( وقال جار الله : هو تصغير لشأن العصا وتهوين لأمر السحرة أي ألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك فإنه بقدرة الله يبتلع ) ما صنعوا ( أي زوّروا وافتعلوا على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها ، أو هو تعظيم لشأنها أي لا تحفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة لأن في يمينك شيئاً أعظم شأناً من كلها ) إنما صنعوا ( إن(4/557)
" صفحة رقم 558 "
الذي افتعلوه ) كيد سحر ( أي ذي سحر ، أو ذوي سحر ، أو هم في توغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه ، أو الإضافة للبيان أي كيد هو سحر كقولك ( علم فقه ) وإنما وجد ساحر فيمن قرأ على الوصف ليعلم أن المقصود هو الجنس كما قال. ) ولا يفلح الساحر ( أي هذا الجنس ولو جمع لأوهم أن المراد هو العدد وإنما نكر أولاً لأن المراد تنكير الكيد كأنه قال : هذا الذي أتوا به قسم السحر أو من أفعال السحرة وجميع أقسام السحر ، وأفراد لا فلاح فيها ومن نظائره ( إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً لا في أمر دنيا ولا في أمر آخره ). ومعنى سبهللاً أنه يجيء ويذهب في غير شيء. ومعنى ) حيث أتى ( أينما كان وأية سلك ) فألقى السحرة سجداً ( قال جار الله : سبحان الله ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفرة والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر في السجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين. وروي أنهم لم يرفعوا رؤسهم حتى رأوا الجنة والنار أو أثواب أهلها ، وعن عكرمة : لما خروا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة. واستبعده القاضي لأنه كالإلجاء إلى الإيمان وأنه ينافي التكليف. وقلت : إذا كان الإيمان مقدماً على هذا الكشف فلا منافاة ولا إلجاء. ثم إن فرعون لعب لعب الحجل وأنكر عليهم إيمانهم وألفى شبهته في البين أنه كبيرهم أي أسحرهم وأعلاهم درجة في الصناعة ، أو معلمهم وأستاذهم من قول أهل مكة للمعلم ( أمرني كبيري ) أي أستاذي في العلم أو غير ، وأوعدهم بقطع الأيدي والأرجل ) من خلاف ( قال في الكشاف : ( من ) لابتداء الغاية لأن القطع مبتدأ وناشيء من مخالفة العضو والعضو لا من وفاقه إياه. قالت : الأولى أن يقال الخلاف ههنا بمعنى الجهة المخالفة حتى يصح معنى الابتداء أي لأقطعن أيديكم وأرجلكم مبتدأ من الجهتين المتخالفتين يميناً وشمالاً ، فيكون الجار والمجرور في موضع الحال أي لأقطعنها مختلفات الجهات. قيل ) في جذوع النخل ( أي عليها والأصوب أن يقال : هي على أصلها شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن المظروف في الظرف ) أينا أشد ( أراد نفسه وموسى وفيه صلف باقتداره وقهره وما ألفه من تعذيب الناس واستخفاف بموسى مع الهزء به ، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء قاله في الكشاف. قلت : يحتمل أن يريد بقوله ) أينا ( الله تعالى ونفسه لنقدم ذكر رب هارون وموسى ، وقد سبق عذاب الله في قوله ) أن العذاب على من كذب وتولى ( وفي قوله ) فيسحتكم بعذاب ( ويؤيده قول السحرة في جوابه ) والله خير وأبقى ( ) لن نؤثرك ( ين نختارك ) على ما جاءنا من البينات ( المعجزات الظاهرات ) و ( على ) الذي فطرنا ( أو الواو للقسم وعلى هذا يجوز أن يكون(4/558)
" صفحة رقم 559 "
على ما جاءنا بمعنى فيما جاءنا أي لن نميل إليك والحالة هذه. وعلى الوجه الأول ففحوى الكلام لن نترك طاعة خالقنا والتصديق بمعجزات نبيه لأجل هواك ) فاقض ما أنت قاضٍ ( بما شئت من العذاب ) إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ( أي في مدة الحياة العاجلة ، وقرىء ) تقضي ( مبنياً للمفعول هذه الحياة بالرفع إجراء للظرف مجرى المفعول به اتساعاً مثل صيم يوم الجمعة. والحاصل أن قضاءك وحكمك منحصر في مدة حياتنا الفانية. والإيمان وثمرته باقٍ لا يزول ، والعقل يقتضي تحمل الضرر الفاني للفوز بالسعادة الباقية وللخلاص من العقاب الأبدي وذلك قولهم ) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ( قال الحسن : سبحان الله قوم كفار ثبت ف قلوبهم الإيمان طرفة عين فلم يتعاظم عندهم أن قالوا في ذات الله تعالى ) فاقض ما أنت قاضٍ ( والله إن أحدهم ليصحب القرآن ستين عاماً ثم ليبيع دينه بثمن غبن. ولما كا أقرب خطاياهم عهداً ما أظهروه من السحر قالوا ) وما أكرهتنا عليه من السحر ( وفي هذا الإكراه وجوه : عن ابن عباس أن الفراعنة كانوا يكرهون فتيانهم على تعلم السحر ليوم الحاجة فكانوا من ذلك القبيل. وروي أنهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائماً ففعل فوجده تحرسه عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر الساحر لأن الساحر إذا نام بطل سحره فأبوا أن يعارضوه. وعن الحسن أنهم حشروا من المدائن مكرهين ، وزعم عمر بن عبيد أن دعوة السلطان إكراه ، وليس بقوي فلا إكراه إلا مع الخوف فحيثما وجد حكم بالإكراه وإلا فلا. وباقي الآيات ابتداء إخبار من الله أو هي من تتمة كلامهم فيه قولان ، ولعل الأول أولى ) إنه ( أي الشأن ) من يأت ربه ( أي حيث لا حكم إلا هو فيسقط استدلال المجسمة حال كون الآتي ) مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ( موتة مريحة ) ولا يحيى ( حياة ممتعة. قالت المعتزلة : صاحب الكبيرة مجرم وكل مجرم فإن له جهنم بالآية لعموم ( من ) الشرطية بدليل صحة الاستثناء فيحل القطع بوعيد أصحاب الكبائر. أجابت الأشاعرة بأن المجرم كثيراً ما يجيء في القرآن بمعنى الكافر كقوله ) يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر ( إلى قوله ) وكنا نكذب بيوم الدين ) [ المدثر : 46 ] ولا ريب أن التكذيب بالبعث والجزاء كفر ، وكقوله ) إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ) [ المطففين : 29 ] إلى آخر السورة. فلم قلتم : إن المجرم ههنا ليس بمعنى الكافر فتبطل المقدمة الأولى ؟ سلمنا لكن المقدمة الثانية كليتها ممنوعة على الإطلاق وإنما هي كلية بشرط عدم العفو ، وحينئذٍ لا يحصل القطع بالوعيد على الإطلاق. سلمنا المقدمتين والنتيجة لكنهمعارض بعموم الوعد في قوله ) ومن يأته مؤمناً ( فإن قيل :(4/559)
" صفحة رقم 560 "
صاحب الكبيرة لم يأته مؤمناً عندنا. قلنا : يصدق عليه المؤمن لأن الإيمان صدر عنه في الزمان الماضي كالضارب على من قد ضرب أمس وليس بين الحال والزمان الماضي منافاة كلية ولهذا صح ( جاءني زيد قد قام ) بل صح قوله ) قد عمل الصالحات ( وأنه حال آخر فكأنه قيل : ومن يأته قد آمن قد عمل. ولئن قيل : إن عقاب المعصية يحبط ثواب الطاعة ، قلنا : ممنوع بل العكس أولى لأن الدفع أسهل من الرفع وإقامة الحد على التائب في بعض الصور لأجل المحنة لا لأجل التنكيل. وقوله ( نكالاً من الله ( في حق من لم يتب بعد من السرقة سلمنا أن قوله ) ومن يأته مؤمناً ( لا يعم صاحب الكبيرة إلا أن قوله ) فأولئك لهم الدرجات العلى ( الجنة لمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحات أي الواجبات ، لأن الزائدة عليها غير محصور فسائر الدرجات التي غير عالية لا بد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الإيمان. ثم عظم شأن المذكور بقوله ) وذلك جزاء من تزكى ( أي قال ( لا إله لا إله الله ) قاله ابن عباس. وفيه دليل على أن قوله ) ومن يأته مؤمناً ( يشمل صاحب الكبيرة ، وقال آخرون ) تزكى ( أي تطهر من دنس الذنوب وعلى هذا يقع صاحب الكبيرة خارجاً. ( طه : ( 77 - 114 ) ولقد أوحينا إلى . . . .
" ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي(4/560)
" صفحة رقم 561 "
نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما "
( القراآت )
لا تخف دركاً ( بالجزم : حمزة الباقون ) لا تخاف ( بالرفع ) أنجيتكم ( و ) واعدتكم ( و ) رزقكم ( على التوحيد : حمزة وعلي وخلف ) ووعدناكم ( من الوعد. أبو عمرو وسهل ويعقوب ) فيحل ( ) ومن يحلل ( بالضم فيهما : عليّ. الآخرون بالكسر ) يملكنا ( بفتح الميم : أبو جعفر ونافع ، وعاصم غير المفضل بضمها حمزة ، وعلي وخلف بكسرها الباقون والمفضل ) حملنا ( بفتح الحاء والميم مخففة : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف سوى حفص. الآخرون بضم الحاء وكسر الميم مشددة ) تتبعني ( بالياء الساكنة في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو ونافع غير إسماعيل في الوصل ، وقرأ يزيد وإسماعيل بفتح الياء. الباقون بحذفها. ) يا ابن أم ( بكسر الميم : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. ) لم تبصروا ( بتاء الخطاب : حمزة وعلي وخلف الباقون على الغيبة ) فنبذتها ( مدغماً : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف ويزيد وهشام وسهل ) لن تخلفه ( بكسر اللام : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. الآخرون بفتحها ) لنحرقنه ( بفتح النون وضم الراء : يزيد. الآخرون من الحريق. ) فلا يخف ( بالجزم على النهي : ابن كثير ) أن نقضي ( النون مبنياً للفاعل ) وحيه ( بالنصب : يعقوب الباقون بالياء مضمومة وبفتضح الضاد ) وحيه ( بالرفع .(4/561)
" صفحة رقم 562 "
الوقوف : ( يبسا ( ج لأن قوله ) لا تخاف ( يصلح صفة للطريق مع حذف الضمير العائد أي لا تخاف فيه ، ويصلح مستأنفاً. ومن قرأ ) لا تخف ( فوقفه أجوز لعدم العاطف ووقوع الحئل مع تعقب النهي الأمر إلا أن يكون جواباً للأمر فلا يوقف ) ولا تخشى ( ه ) ما غشيهم ( ط لأن التقدير وقد أضل من قبل على الحال الماضية دون العطف لأنه عندما عشيه لم يتفرغ للإضلال. ) وما هدى ( ه ) والسلوى ( ه ) غضبي ( ج ) هوى ( ه ) اهتدى ( ه ) يا موسى ( ه ) لترضى ( ه ) السامري ( ه ) أسفاً ( ج لانتساق الماضي على الماضي بلا ناسق ) حسناً ( ط ) موعدي ( ه ) السامري ( ه لا ) فنسي ( ه ط ) قولاً ( لا للعطف ) ولا نفعاً ( ه ط ) فتنتم به ( ج للابتداء بأن مع اتصال العطف ) أمري ( ج ) موسى ( ه ) أن لا تتبعن ( ط ) أمري ( ه ) برأسي ( ج للابتداء ( بأن ) مع اتصال المعنى واتحاد القائل ) قولي ( ه ) يا سامري ( ه ) نفسي ( ه ) لا مساس ( ص ) لن تخلفه ( ج لاختلاف الجملتين ) عاكفاً ( ط للقسم المحذوف ) نسفاً ( ه ) إلا هو ( ط ) علماً ( ه ) سبق ( ج للإستئناف والحال ) ذكرا ( ج ه لأن الشرطية تصلح صفة للذكر وتصلح مبتدأ بها ) وزراً ( ه لا لأن قوله ) خالدين ( حال من الضمير في ) يحمل ( وهو عائد إلى ( من ) ومن للجمع معنى ) فيه ( ط ) حملاً ( ه لا لأن ) يوم ينفخ ( بدل من يوم القيامة. ) زرقاً ( ه ج لأن ما بعده يلح للصفة وللاستناف ) عشراً ( ه ) يوماً ( ه ) نسفاً ( ه لا ) صفصفاً ( ه لا ) أمتا ( ه ) لا عوج له ( ج لاختلاف الجملتين ) همساً ( ه ) قولاً ( ه ) علماً ( ه ) القيوم ( ط ) ظلماً ( ه ) هضماً ( ه ) ذكراً ( ه ) الحق ( ج ) وحيه ( ز لعطف الجملتين المتفقتين مع اعتراض الظرف وما أضيف إليه ) علماً ( ه. التفسير : هذا شروع في قصة إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوّهم وقد تقدم في ( البقرة ) وفي ( الأعراف ) وفي ( يونس ) ومعنى ) فاضرب لهم طريقاً ( إجعل لهم من قولهم ( ضرب له في ماله سهماً وضرب اللبن عمله ) أو أراد بين لهم طريفاً ) في البحر ( بالضرب بالعص حتى ينفلق فعدي الضرب إلى الطريق ، ثم بين أن جميع أسباب الأمن حاصلة في ذلك الطريق. وليبس مصدر وصف به ومثله اليبس ونحوهما العدم والعدم ويوصف به المؤنث لذلك فيقال : ناقتنا يبس إذا جف لبنها. والدرك. والدرك اسمان من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك. وفي ) لا تخشى ( إذا قرىء ) لا تخف ( أوجه الاستئناف أي وأنت لا تخشى ، وجوز في الكشاف أن يكون الألف للإطلاق من أجل الفاصلة كقوله ) ولا تظنون بالله الظنونا ) [ الأحزاب : 10 ] وأن يكون كقول الشاعر : كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانياً(4/562)
" صفحة رقم 563 "
أراد لم تر لأن ما قبله : وتضحك مني شيخة عبشمية قلت : لعل هذا إنما يجوز في الضرورة ولا ضرورة في الآية ) فأتبعهم فرعون ( الحق بهم جنوده أو تبعهم ومعه جنوده كما مر في ( يونس ) ) فغشيهم ( أي علاهم ورهقهم ) من اليم ما غشيهم ( وهذا من جملة ما علم في باب الإيجاز لدلالته على أنه غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله ، وقد سلف منه في السور المذكورة ما حكي في الأخبار وروي في الآثار. ونسبة الإضلال إلى فرعون لا تنافي انتهاء الكل إلى إرادة اللهومشيئته. وقوله ( وما هدى ( تأكيد للإضلال وفيه تهكم به في قوله ) وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) [ غافر : 38 ي ثم عدد ما أنعم به على بني إسرائيل ، ويجوز أن يكون خطاباً لليهود المعاصرين لأن النعمة على الآباء نعمة في حق الأبناء ومثله قوله ) وواعدناكم جانب الطور الأيمن ( أي الواقع على يمين من انطلق من مصر إلى الشام لأن منفعة المواعدة عادت إليهم وإن كانت المواعدة لنبيهم فبكتب التوراة في ألواح قام شرعهم واستقام أمر معاشهم ومعادهم. ) كلوا ( من تتمة القول. وطغيانهم في الرزق هو شغلهم باللهو والتنعم عن القيام بشكرها وتعدي حدود الله فيها بالإسراف والتقتير والغصب. ومن قرأ ) فيحل ( بالكسر فبمعنى الوجوب من قولهم ( حل الدين يحل ) إذا وجب أداؤه ، ومن قرأ بضم فبمعنى النزول ونزول الغضب نزول نتائجة من العقوبات والمثلات. ومعنى ) هوى ( هلك وأصله السقوط من مكان عالٍ كالجبل. وقيل : هوى أي وقع في الهاوية. سؤال : كيف أثبت المغفرة في حق من استجمع التتوبة والإيمان والعمل الصالح ، والمغفرة إنما تتصور في حق من أذنب ؟ وأيضاً ما معنى قوله ) ثم اهتدى ( بعد الأمور المذكور والاهتداء إنما يكون قبلها لا أقل من أن يكون معها ؟ الجواب أراد وإني لغفار لمن تاب من الكفر وآمن وعمل صالحاً. وفيه دليل لمن ذهب إلى وجوب تقديم التوبة من الكفر على الإيمان. والحاصل أن الغفران يعود إلى الذنوب السابقة على هذه الأمور ، ويجوز أن يراد أنه إذا تاب من الكفر وأقبل على الإيمان والعمل الصالح فإن الله يغفر الصغائر التي تصدر عنه في خلال ذلك كقوله ) إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) [ النساء : 31 ] وأما الاهتداء فالمراد به الاستقامة والثبات على الأمور المذكورة كقوله ) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) [ فصلت : 20 ] ومعنى ( ثم ) الدلالة على تباين المرتبتين ، فإن المداومة على الخدمة أصعب من الشروع فيها كما قيل : لكل إلى شأو العلى حركات
ولكن عزيز في الرجال ثبات
ونظير هذا العطف قوله ) أهلكناها فجاءها بأسنا ) [ الأعراف : 4 ] وقد مر البحث(4/563)
" صفحة رقم 564 "
فيه. ويروى أن موسى قد مضى مع النقباء السبعين إلى الطور على الموعد المضروب ، ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه وتنجز ما وعد به بناء على اجتهاده وظنه أن ذلك أقرب إلى رضا الله فأنكر الل تعالى تقدمه قائلاً ) وما أعجلك عن قومك ( أيّ شيء عجل بك عنهم ؟ فالمراد بالقوم النقباء لا جميع قومه على ما توهم بعضهم يؤكده قوله ) هم أولاء على أثري ( ولم يكن جميع قومه على أثره. قال ار الله : قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين : أحدهما إنكار العجلة في نفسها ، والثاني السؤال عن سبب التقدم فكان أهم الأمرين إلى موسى تمهيد العذر من العجلة نفسها فاعتل بأنه لم يوجد مني إلا تقدم يسير وليس بيني وبينهم إلا مسافة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم ، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال ) وعجلت إليك رب لترضى ( أي طلبت دوم رضاك عني أو مزيد رضاك بناء على اجتهادي أن التعجيل إلى مقام المكالمة والحرص على ذلك يوجب مزيد الثواب والكرامة. وقيلك لما أنكر عليه الاستعجال دهش خوفاً من العقاب فتجير في الجواب ) قال فإنا قد فتنا قومك ( يعني جميع قومه الذي خلفهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفاً. يروى أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوها أربعين مع أيامها وقالوا : قد أكملنا العدة. ثم كان أمر العجل بعد ذلك فسئل أنه تعالى كيف قال لموسى عنه مقدمه ) إنا قد فتنا قومك ( ؟ وأجيب بأنه على عادة الله تعالى في إخباره عن الأمور المترقبة بلفظ الماضي تحقيقاً للوقوع ، أو أراد بدء الفتنة لأن السامري افترض غيبة موسى فعزم على إضلال قومه غب انطلاقه. ولقائل أن يمنع كون هذه الأخبار عند مقدم موسى عليه السلام بل لعله عند رجوعه بدليل فاء التعقيب في قوله ) فرجع موسى ( قال جار الله إنه رجع بعدما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة وأوتي التوراة. وسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة. وقيل : السامرة قوم من اليهود يخالفوهم في بعض دينهم. وقيل : كان علجاً من كرمان واسمه موسى بن ظفر وكان منافقاً وكان من قوم يعبدون البقر. قالت المعتزلة : الفتنة بمعنى الإضلال لا يجوز أن تنسب إلى الله تعالى لأنه ينقض قوله ) وأضلهم السامري ( وإنما الفتنة بمعنى الامتحان بتشديد التكليف ومنه ( فتنت الذهب بالنار ) وبيان ذلك أن السامريّ لما أخرج لهم العجل صاروا مكلفين بأن يستدلوا بحدوث جملة الأجسام على أن العجل لا يصلح للإلهية. وقالت الأشاعرة : الشبهة في كون الشمس والقمر إلهاً أعظم من العجل الذي له خوار وهو جسد من الذهب وحينئذ لا يكون حدوث ذلك العجل تشديداً في التكليف ، فلا يكون فتنة من هذا الوجه فوجب حمله على خلق الضلال فيهم. وأجابوا عن إضافة الضلال إلى السامري بن جميع المسببات العادية تضاف إلى أسبابها في الظاهر وإن(4/564)
" صفحة رقم 565 "
كان الموجد لها في الحقيقة هو الله تعالى. قال بعضهم : الأسف المغتاظ ، وفرق بين الاغتياظ الغضب لأن الغيظ تغير يلحق المغتاظ فلا يصح إلا على الأجسام ، والغضب قد يراد به الإضار بالمغضوب عليه فلهذا صح إطلاقه على الله سبحانه. ثم عاتب موسى عليه السلام قومه بأمور منها : قوله ) ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً ( كأنهم كانوا معترفين بالرب الأكبر لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي تذكر عبدة الأصنام أو على تأويل الحلول. والوعد الحسن هو إنزال التوراة التي فهيا هدى ونور. وقيلك هو الثواب على الطاعات ومثله ما روي عن مجاهد أن العهد المذكور من قوله ) ولا تطغوا فيه ( إلى قوله ) ثم اهتدى ( وقيل : وعدهم إهلاك فرعون ووعدهم أرضهم وديارهم وقد فعل. ومنها قوله ) أفطال عليكم العهد ( أي الزمان يريد مدة مفارقته لهم وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان فاخلفوا موعده بعبادتهم العجل. وقيل : أراد عهدهم بنعم الله تعالى من الإنجاء وغيره. والأكثرون على الأول لما روي أنه وعدهم ثلاثين كما أمر الله تعالى ) وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ) [ الأعراف : 142 ] فجاء بعد الأربعين لقوله تعالى ) وأتممناها بعشر ( ولما روي أنهم حسبوا العشرين أربعين ومنها قوله ) أم أردتم أن يحل عليكم غضب ربكم ( قالوا : هذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر لأن أحداً لا يريد هلاك نفسه ولكن المعصية - وهو خلاف الموعد - لما كانت توجب ذلك صح هذا الكلام لأن مريد السبب مريد للمسبب بالعرض. احتج العلماء بالآية وبما مر من قوله ) فيحل عليكم غضبي ( أن الغضب من صفا الأفعال لا من صفات الذات لأن صفة ذات الله تعالى لا تنزل في شيء من الأجسام. وموعد اموسى هو ما ذكرنا من أنهم وعدوه الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل : وعدوه اللحاق به والمجيء على أثره ) قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ( بالحركات الثلاث أي بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفناه ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده. والظاهر أن القائلين هم عبدة العجل. وقيل : إنهم الذين لم يعبدوا العجل وقد ويضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه فكأنهم قالوا : الشبهة قويت على عبدة العجل فلم يقدر على منعهم ولم يقدروا أيضاً ) ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم ( أي أثقالاً من حلي القبط كما مر في ( الأعراف ). وقيل : الأوزار الآثام وإنها في الحقيقة أثقال مخصوصة معنوية سموا بذلك لأن المغانم لم تحل حينئذ أو لأنهم كانوا مستأنمنين في دار الحرب وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي. وقيل : إن تلك الحلي كان القبط يتزينون بها في مجامع الكفر ومجالس المعاصي فلذلك(4/565)
" صفحة رقم 566 "
وصفت بأنها أوزار كما يقال في آلات المعاصي ) فقذفناها ( أي في الحفرة ، كان هارون أمرهم بجمع الحلي انتظاراً لعود موسى ، أو في موضع أمرهم السامري بذلك بعد أن أوقد النار ) فكذلك ألقى السامري ( مثل فعلنا أراهم أنه يلقي حلياً في يده مثل ما ألقوه. وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطىء حافر فرس جبريل كما يجيء في قوله ) فقبضت قبضة من أثر السول فنبذتها ( ) فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار ( قد مر في ( الأعراف ) ) فقالوا ( أي السامري ومن تبعه ) هذا إلهم وإله موسى فنسي ( موسى أن يطلبه ههنا فذهب يطلبه عند الطور ، أو فنسي السامري وترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر ، أو نسي الاستدلال على أن العجل لا يجوز أن يكون إلهاً بقوله ) أفلا يرون أن لا يرجع ( ( أن ) مخففة من الثقيلة ولهذا لم تعمل. وقرىء بالنصب على أنها الناصبة. قال العلماء : ظهور الخوارق على يد مدعي الإلهية جائز لأنه لا يحصل الالتباس ، وههنا كذلك فوب أن لا يمتنع خلق الحياة في صورة العجل. وروى عكرمة عن ابن عباس أن هارون مر بالسامري وهو يصنع العجل فقال : ما تصنع ؟ فقال : أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي. فقال : اللهم أعطه ما سألك. فلما مضى هارون قال السامري : اللهم إني أسألك أن يخور فخار. وعلى هذا التقدير يكون معجزاً للنبي لا السامري. ثم إنه سبحانه أخبر أن هارون لم يأل نصحاً وإشفاقاً في شأن نفسه وفي شأن القوم قبل أن يقول لهم السامري ما قال. أما شفقته على نفسه فهي أنه أدخلها في زمرة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر ، أما الامتثال فإنه امتثل في نفسه وفي شأن القوم أمر أخيه حين قال لهم ) يا قوم إنما فتنتم به ( قال جار الله : كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة فتنوا به واستحسنوه فقبل أن يطق بالسامري بادرهم هارون فزجرهم عن الباطل أولاً بأن هذا من جملة الفتن. ثم دعاهم إلى الحق بقوله ) وإن ربكم الرحمن ( وم نفواءد تخصيص هذا الاسم بالمقام أنهم إن تابوا عما عزموا عليه لإن الله يرحمهم ويقبل توبتهم. ثم بين أن الوسيلة إلى معرفة كيفية عبادة الله هو اتباع النبي وطاعته فقال ) فاتبعوني وأطيعو أمري ( وهذا ترتيب في غاية الحسن. واعلم أن الشفقة على خلق الله أصل عظيم في الدين وقاعدة متينة. روى النعمان بن بشير عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) ويروى أن(4/566)
" صفحة رقم 567 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بينما هو جالس إذا نظر إلى شاب على باب المسجد فقال : من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه. فسمع الشاب ذلك فولى وقال : إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد عليّ بأني من أهل النار وأنا أعلم أنه صادق ، فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتشعل النار بي حتى يبر يمينه ولا تسفع النار أحداً. فهبط جبريل وقال : يا محمد بشر الشاب بأني قد أنقدته من النار بتصديقه لك وفداء أمتك بنفسه وشفقته على الخلق. قال أهل السنة ههنا : إن الشيعة بتصديقه بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ) ثم إن هارون ما منعته التقية في مثل ذلك الجمع بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعته ، فلو كانت أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على الخطأ لكان يجب على عليّ كرم الله وجهه أن يفعل ما فعل هارون من غير تقية وخوف. وللشعية أن يقولوا : إن هارون صرح بالحق وخاف فسكت ولهذا عاتبه موسى بما عاتب فاعتذر ب ) إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ) [ الأعراف : 15 ] وهكذا علي على سبيل البحث لا لأجل التعصب. ثم إن القوم قابلوا حسن موعظة هارون بالتقليد والجحود قائلين ) لن نبر عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ( ولا يخفى ما في هذا الكلام من أنواع التوكيد من جهة النفي ب ( لن ) ، وم لفظ البراح والعكوف ، ومن سيغة اسم الفاعلن ومن تقديم الخبر. ثم حكى ما جرى بين موسى وهارون بعد الرجوع وقوله ( ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن ( كقوله ) ما منعك ألا تسجد ) [ الأعراف : 12 ] في أن ( لا ) هذه مزيدة أم لا ؟. وقد مر في ( الأعراف ). وفي هذا الإتباع قولان : فعن ابن عباس ما منعك من إتباعي بمن أطاعك واللحوق بي وترك المقام بين أظهرهم. وقال مقاتل : أراد الإتباع في وصيته كأن قال : هلا قتلت من كفر بمن آمن ومالك لا تباشر الأمر كما كنت أباشره. قال الأصوليون : في قوله ) أفعصيت أمري ( دلالة على أن تارك المأمور به عاصٍ والعاصي يستحق العقاب لقوله ) ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم ) [ الجن : 22 ] فيعلم منه أن الأمر للوجوب. واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بأن موسى عليه السلام هل أمر هارون باتباعه أم لا ؟ وعلى التقدير فهارون أتبعه أم لا ؟ فإن لم يأمره أو أمره ولكن اتبعه فملامته لهارون من أي جرم تكون ذنباً ، وإن أمره ولم يتبعه كان هارون عاصياً. وأيضاً قوله ) أفعصيت ( بمعنى الإنكار. فإما أن يكون موسى(4/567)
" صفحة رقم 568 "
كاذباً في نسبة العصيان إلى هارون ، وإما أن يكون هارون عاصياً. وأيضاً أخذه بلحية هارون وبرأسه إن كان بعد البحث والتفتيش فهارون عاصٍ وإلا فموسى. وأجيب بأن كل ذلك أمور اجتهادية جائزة الخطأ أو هي من باب الأولى وقد مر في أوائل ( البقرة ) في آدم ما يتعلق بهذه المسألة. قوله : ( ولم ترقب قولي ( أي وصيتي لك بحفظ الدهماء واجتماع الشمل يؤيده قوله : ( إني خشيت أن تقول فرقت ( قال الإمام أبو القاسم الأنصاري : الهداية أنفع من الدلالة فإن السحرة ما رأوا إلا آية واحدة فآمنوا وتحملوا في الدين ما تحملوا ، وأما قوم موسى فقد رأو ذلك مع زيادة سائر الآيات التسع ومع ذلك اغتروا بصوت العجل وعكفوا على عبادته ، فعرفنا أن الغرض لا يحصل إلا بهداية الله تعالى. ولما فرغ موسى من عتاب هارون أقبل على السامري ، ويمكن أن يكون بعيداً ثم حصر أو ذهب إليه موسى من عتاب قال جار الله : الخطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه. فإذا قيل : لمن يفعل شيئاً ما خطبك ؟ فمعناه ما طلبك له والغرض منه الإنكار وتعظيم صنيعه ) قال ( أي السامري ( بصرت بما لم يبصروا به ( قال ابن عباس ورواه أبو عبيدة : علمت بما لم يعلموا به من البصارة. يعني العلم. وقال الآخرون : رأيت بما لم تروه فالباء للتعدية ، رجح العلماء قراءة الغيبة على الخطاب احترازاً من نسبة عدم البصارة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . والقبضة بالفتح مصدر بمعنى المفعول وهو المقبوض بجميع الكف. عامة المفسرين على أن المراد بالرسول جبريل عليه السالم وأثره التراب الذي أخذه من موقع حافر دابته واسمها حيزوم فرس الحياة. ومتى رآه ؟ الأكثرون على أنه رآه يوم فلق البحر كان جبريل على الرمكة وفرعون على حصان وكان لا يدخل البحر ، فتقدم جبريل فتبعه فرس فرعون. وعن علي رضي الله عنه أن جبريل لما نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامري من بين الناس وكان راكب حيزوم فقال : إن لهذا شأناً فقبض من تربة موطئه. فمعنى الآية فقبضت من أثر فرس المسل إليك يوم حلول الميعاد. ثم من المفسرين من جوز أن السامري لم يعرف أنه جبريل ومنهم من قال : إنه عرفه. عن ابن عباس : إنما عرفه لأنه رباه في صغره وحفظه من القتل حين أمر فرعون بقتل أولاد بني إسرائيل. فكانت المرأة تلد وتطرح ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون فتأخذ الملائكة الولدان فيربونهم حتى يترعرعوا وختلطوا بالناس. فكان السامري أخذه جبريل وجعل كف نفسه في فيه وارتضع منه العسل واللبن فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه. وقال أبو مسلم : إطلاق الرسول على جبريل في(4/568)
" صفحة رقم 569 "
المقام من غير قرينة تكليف بعلم الغيب. وأيضاً تخصيص السامري من بين الناس برؤية جبريل وبمعرفة خاصية تراب حافر دابته لا يخلو عن تعسف ، ولو جاز اطلاع بعض الكفرة على تراب هذا شأنه فلقائل أن يقول : لعل موسى اطلع على شيء آخر لأجله قدره على الخوارق. فالأولى أن يراد بالرسول موسى فقد يواجه الحاضر بلفظ الغائب كما يقال : ما قول الأمير في كذا ؟ ويكون إطلاق الرسول منه على موسى نوعاً من التهكم لأنه كان كافراً به مكذباً. وأراد بأثره سنته ورسمه من قولهم ( فلان يقفو أثر فلان ) أي عرفت أن الذي عليه ليس بحق وقد كنت قبضت شيئاً من سنتك فطرحتها. فعلى قول العامة يكون قوله : ( وكذلك سوّلت لي نفسي ( إشارة إلى ما أوحي إليه وليه الشيطان أن تلك التربة إذا نبذت على الجماد صار حيواناً. وعلى قول أبي مسلم يشير إلى أن اتباع أثرك كان من تسويلات النفس الأمارة فلذلك تركته. ثم بين موسى أن له عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة. يروى أنه أراد أن يقتله فمنعه الله من ذلك وقال : لا تقتله فإنه سخيّ. وفي قوله : ( لامساس ( وجوه : الأوّل إنه حرم عليه مماسة الناس لأنه إذا اتفق أن هناك مماسة فأحدهم الماس والثاني الممسوس فلذلك إذا رأى أحداً صاح لا مساس. ويقال : إن قومه باقٍ فيهم ذلك إلى الآن الثاني : أن المراد منع الناس من مخالطته. قال مقاتل : إن موسى أخرجه من محلة بني إسرائيل وقال له : اخرج أنت وأهلك طريداً إلى البراري. اعترض الواحدي عليه بأن الرجل إذا صار مهجوراً فلا يقول : هو لامساس. وإنما يقال له ذلك. وأجيب بأن هذا على الحكاية أي أجعلك يا سامري بحيث إذا أخبرت عن حالك لم تقل إلا لا مساس. والثالث : قول أبي مسلم إن المراد انقطاع نسله وأن يخبر بأنه لا يمكن له مماسة المرأة أي مجامعتها. وأما حاله في الآخرة فلذلك قوله : ( وإن لك موعداً لن تخلفه ( قال جار الله : من قرأ بكسر اللام فهو من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً. ثم بين مآل حال إلهه فالك ) وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً ( أي ظللت فحذف إحدى اللامين تخفيفاً ) لنحرقنه ( من الإحراق ففيه دليل على أنه صار لحماً ودماً لأن الذهب لا يمكن إحراقه بالنار ونسفه في الميم. قال السدي : أمر موسى بذبحه فسال منه الدم ثم أحرق ثم نسف. والنسف النقض ومن جعله من الحرق أي لنبردنه بالمبرد ففيه دلالة على أنه لم ينقلب حيواناً إلا إذا أريد برد عظامه. ومن جعله من التحريق فإنه يحتمل الوجهين والمراد إهدار السامري وإبطال كيده ومحق صنيعه والله خير الماكرين. ثم ختم الكلام ببيان الدين الحق فقال : ( إنما إلهكم ( أي المستحق للعباد والتعظيم ) الله الذي لا إله إلاَّ هو وسع كل شيء علماً ( قد مر مثله في ( الأنعام ) قال مقاتل : أي يعلم من يعبده .(4/569)
" صفحة رقم 570 "
وحين فرغ من قصة موسى شرع في تثبيت رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( كذلك ( أي نحو اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون والسامري ) نقص عليك من ( سائر أخبار الرسل مع أممهم تكثيراً لمعجزاتك. ثم عظم شأن القرآن بقوله : ( وقد آتيناك من لدنا ذكراً ( أي ما ذكر فيه كل ما يحتاج إليه المكلف في دنيه وفي دنياه والوزر العقوبة الثقيلة التي تنقض ظهر صاحبها ، أو المراد جزاء الوزر وهو الإثم ) خالدين فيه ( أي في ذلك الوزر أو في احتماله ) وساء ( فيه ضمير مبهم يفسره ) حملاً ( والمخصوص محذوف للقرينة أي ساء حملاً وزرهم. واللام في ) لهم ( للبيان كما في ) هيت لك ) [ يوسف : 23 ] ويجوز أن يكون ( ساء ) بمعنى ( قبح ) ويكون فيه ضمير الوزر. وانتصب ) حملاً ( على التمييز و ) لهم ( حال من ) حملاً ( ولا أدري لم أنكره صاحب الكشاف ، اللَّهم إلا أن يمنع وقوع الحال من التمييز وفيه نظر. قال ابن السكيت : الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة ، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس : وفي الصور قولان : أشهرهما أنه القرن يؤيده قوله : ( فإذا نقر في الناقور ) [ المدثر : 8 ] وإنه تعالى يعرّف أمور الآخرة بأمثال ما شوهد في الدنيا ومن عادة الناس النفخ في البوقات عند الأسفار وفي العساكر فجعل الله تعالى النفخ في تلك الآلة علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات. وأقربهما من المعقول أن الصور جمع صورة يؤكده قراءة من قرأ بفتح الواو. يقال : صورة وصور كدرة ودرر. والنفخ نفخ الروح فيها ولكنه يرد عليه أن النفخ يتكرر لقوله تعالى : ( ثم نفخ فيه أخرى ) [ الزمر : 68 ] والإحياء لا يتكرر بعد الموت إلا ما ثبت من سؤال القبر وليس هو بمراد من النفخة الأولى بالاتفاق ) ونحشر المجرمين ( عن ابن عباس : هم الذين اتخذوا مع الله إلهاً آخر. وقال المعتزلة : هم الكفار والعصاة. وفي الزرق وجوه : قال الضحاك ومقاتل : إن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب ، لأن الروم أعداؤهم وإنهم زرق العيون ، ومن كلامهم في صفة العدوّ ( أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين ). وقال الكلبي : ( رزقاً ( أي عمياً. قال الزجاج : يخرجون بصراء في أول أمرهم لقوله : ( ليوم تشخص فيه الأبصار ) [ إبراهيم : 42 ] ولقوله : ( اقرأ كتابك ) [ الإسراء : 14 ] ثم يؤل حالهم إلى العمى وإن دقة من يذهب نور بصرة تزرق. وقيل ) زرقاً ( أي عطاشا لقوله : ( ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً ) [ مريم : 86 ] فكأنهم من شدة العطش يتغير سواد عيونهم حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي ) يتخافتون ( يتسارون ) بينهم ( من شدة خوفهم أو لأن صدروهم امتلأت رعباً ، وهؤلاء يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا إما لأنها أيام سرورهم وهن قصار ، وإما لأنها قد انقضت والذاهب قليل وإن طال ولا سيما بالنسبة إلى الأبد السرمدي كأن ظنينهم يقول : قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى(4/570)
" صفحة رقم 571 "
لبثنا في الآخرة كعشرة أيام. فقال أعقلهم : بل كاليوم الواحد. وإنما قال : ( عشراً ( لأن المراد عشر ليال. وقال مقاتل : أراد عشر ساعات أي بعض يوم. وعلى هذا فأفضلهم رد عليهم استقصارهم وتقالهم. وقيل : المراد لبثهم في القبور. قال أهل النظم : كأن سائلاً سأل : كيف يصح التخافت بين المجرمين والجبال حائلة مانعة ؟ فلذلك قال : ( ويسألونك عن الجبال ( وقال الضحاك : إن مشركي مكة قالوا على سبيل الاستهزاء : يا محمد كيف يكون حال الجبال يوم القيامة ؟ فنزلت. ويحتمل أن يكون هذا جواب شبهة تمسك بها منكرو البعث - منهم جالينوس - زعم أن الأفلاك لا تفنى لأنها لو فنيت لابتدأت بالنقصان حتى تنتهي إلى البطلان ، وكذا الجبال وغيرها من الأجرام الكلية ، فأمر الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يبين لهم هذه المسألة الأصولية من غير تأخير ولهذا أدخل فاء التعقيب في الجواب. والنسف القلع. وقال الخليل : التطيير والإذهاب كأنه يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها. وحاصل الجواب أن كل بطلاً لا يلزم أن يكون ذبولياً بل قد يكون رفعياً. والضمير في ) فيذرها ( للمضاف المحذوف أي فيدع مقارها ومراكزها وهو للأرض للعلم بها كقوله : ( ما ترك على ظهرها ) [ فاطر : 45 ] والقاع المستوي من الأرض. وقيل : المكان المطمئن. وقيل : مستنقع الماء. والصفصف الأرض الملساء المستوية. وقيل : التي لا نبات فيها. والأمت النتوّ اليسير. وقيل : التلال الصغار. قالوا : العوج بالكسر في المعاني وكأنه سبحانه نفى العوج الذي يدق عن الإحساس ولا يدرك إلا بالقياس الهندسي. وإذ اكان هذا النوع من العوج الاعتباري منتفياً فكيف بالعوج الحسي وقد يستدل بالآية على أن الأرض يومئذ تكون كرة حقيقة إذ لو كانت مضلعة وقعت بين الأضلاع فصول مشتركة فيعوج الامتداد القائم عليها هناك. ثم إنه تعالى وصف ذلك اليوم بأن الخلائق فيه ) يتبعون الداعي ( قيل : هو النفخ في الصور وقوله : ( لا عوج له ( أي لا يعدل عن أحد بدعائه بل يحشر الكل. وقيل : إن إسرافيل أو ملكاً آخر يقوم على صخرة بيت المقدس ينادي : أيها العظام النخرة والأوصال المتفرقة واللحوم المتمزقة ، قومي إلى ربك للحساب والجزاء فلا يعوج له مدعوّ بل يتبعون صوته من غير انحراف. ) وخضعت الأصوات للرحمن ( خفضت من شدة الفزع ) فلا تسمع ( أيها السامع ) إلا همساً ( وهو الصوت الخفي. وذلك أن الجن والإنس علموا أن لا مالك لهم سواه ، وحق لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه ويضعف صوته ويختلط قوله ويطول عمه. وعن ابن عباس والحسن وعكرمة وابن زيد الهمس وطء الأقدام إلى المحشر. قوله : ( إلا من أذن له الرحمن ( يصلح أن يكون ( من ) منتصباً على(4/571)
" صفحة رقم 572 "
المفعولية وأن يكون مرفوعاً على البدلية بتقدير حذف المضاف أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة أذن له الرحمن ) ورضي له ( أي لأجله ) قولاً (. قال الإمام فخر الدين الرازي : الاحتمال الأول أولى لعدم التزام الإضمار ، ولأن درجة الشافع درجة عظيمة فلا تصلح ولا تحصل إلا لمن أذن له فيها وكان عند الله مرضياً. فلو حملنا الآية على ذلك كان من إيضاح الواضحات بخلاف ما لو حملت على المشفوع. وأقول : الاحتمالان متقاربان متلازمان لأن المشفوع لا تقبل الشفاعة في حقه إلا إذا أذن الرحمن لأجله فيعود إلى الثاني. قالت المعتزلة : الفاسق غير مرضي عند الله تعالى فوب أن لا ينتفع بشافعة الرسول. وأجيب بأنه قد رضي لأجله قولاً واحداً من أقواله وهو كلمة الشهادة. قاتلوا : هب أن الفاسق قد رضي الله قولاً لأجله ، فلم قلتم إن الإذن حاصل للشافع في حقه ؟ والجواب أنا أيضاً نمنع من أن الإذن غير حاصل في حقه على أنه قال في موشع آخر ) ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) [ الأنبياء : 28 ] فلم يعتبر إلا أحد القيدين. ثم أخبر عن نهاية علمه بقوله : ( يعلم ما بين أيديهم (. الضمير للذين يتبعون الاعي أي يعلم ما يقدمهم من الأحوال وما يستقبلونه ) ولا يحيطون ( بمعلومه ) علماً (. وقال الكلبي ومقاتل : الضمير للشافعين من الملائكة والأنبياء كما مر في آية الكرسي. وفيه تقريع لمن يعبد الملائكة ليشفعوا له أي يعلم ما كان قبل خلقهم وما كان منهم بعد خلقهم من أمر الآخرة والثواب العقاب وإنهم لا يعلمون شيئاً من ذلك فكيف يصلحون للمعبودية. ثم ذكر غاية قدرته فقال : ( وعنت الوجوه ( أي زلت رقاب الممكنات منقادين لأمره كالأسارى. عنا يعنو عنوّاً إذا صار أسيراً. وقيل : أراد وجوه العصاة في القيامة كقوله : ( سيئت وجوه الذي كفروا ) [ الملك : 27 ] ولعله خص الوجوه بالذكر لأن أثر الذل والانكسار فيها أبين وأظهر ، قال جار الله : ( وقد خاب ( وما بعده اعتراض أي كل من ظلم فهو خائب خاسر. ولأهل السنة أن يخصوا الظلم ههنا بالشرك أو يعارضوا هذا العموم بعمومات الوعد. من قرأ فلا يخاف ( بالرفع فعلى الاستئناف أي فهو لا يخاف كقوله : ( فينتقم الله منه ) [ المائدة : 95 ] ومن قرأ ) فلا يخف ( فمعناه فليأ من له لأن النهي عن الخوف أمر بالأمن. من فسر الظلم بأنه الأخذ فوق حقه بالنقص من حقه كصفة المطففين فيقدر مضافاً محذوفاً أي فلا يخاف جزاء ظلم ولا هضم لأنه لم يظلم ولم يهضم ، ومن فسر الظلم بأنه العقاب لا على جريمة والهضم بأنه النقص من الثواب فلا يحتاج إلى تقدير المضاف. قال أبو مسلم : الظلم أن ينقص من الثواب والهضم أن لا يوفى حقه من التعظيم لأن الثواب مع كونه من اللذات لا يكون ثواباً إلا إذا قارنه التعظيم .(4/572)
" صفحة رقم 573 "
قال جار الله : ( وكذلك ( عطف على قوله : ( كذلك نقص ( أي ومثل ذلك الإنزال وعلى نهجه ، وكما أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المضمنة للوعيد أنزلنا القرآن كله عربياً لأن العرب أصل وغيرهم تبع لأن النبي عربي. ) وصرفنا فيه من الوعيد ( كررناه وفصلناه ويدخل في ضمنه الفرائض والمحارم لأن الوعيد يتعلق بترك أحدهما وبفعل الآخر ) لعلهم يتقون أن يحدث لهم ذكراً ( حمل جار الله الأول على إرادة ترك المعاصي والثاني على فعل الخبر والطاعة ، لأن الذكر قد يطلق على الطاعة والعبادة. قلت : لا ريب أن القرآن ينفر عن السيئات ويبعث على الطاعات من حيث إن فهم معانيه يؤدّي إلى ذلك ، وإنما قدم الأول على الثاني لأن التخلية مقدمة على التحلية. ويحتمل أن تكون التقوى عبارة عن فعل الخيرات وترك المنكرات جميعاً. والذكر يكون محمولاً على ضد النسيان أي إن نسوا شيئاً من التروك والأفعال أحدث لهم ذكراً إذا تأملوا معانية. وكلمة ( أو ) على الأول للتخيير والإباحة لا للتنافي ، وعلى الثاني يجوز أن تكون للتنافي. وقيل : أراد أنزلنا القرآن ليتقوا فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يوجب القرآن لهم ذكراً أي شرفاً ومنصباً كقوله : ( وإنه لذكر لك ولقومك ) [ الزخرف : 44 ] وعلى التقديرين يكون ي إنزال القرآن نفع. ثم عظم شأن القرآن من وجه آخر وهو عظمة شأن منزلة قائلاً ) فتعالى الله الملك الحق ( ارتفع صفاته عن صفات المخلوقين أنزل القرآن ليحترزوا عما لا ينبغي وأنه منزه عن الانتفاء والتضرر بطاعاتهم ومعاصيهم. ومعنى الحق قد مر في البسملة. قال جار الله : فيه استعظام له ولما يصرّف عليه عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده والإدارة بين ثوابه وعقابه وغير ذلك كما يجري عليه أمر ملكوته. قال أبو مسلم : إن قوله : ( ويئلونك عن الجبال ( إلى ههنا كلام تام. وقوله : ( ولا تعجل ( خطاب مستأنف. وقال آخرون : إنه نفع القرآن للمكلفين وبينأنه سبحانه متعال عن الانتفاع والتضرر بالطاعات والمعاصي. وأنه موصوف بالملك الدائم والعز بالباقي ، وكل من كان كذلك وجب أن يصون رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي وما يتعلق بصلاح العباد في المعاش والمعاد. قال : ( ولا تعجل بالقرآن ( لأنه حصل لك الأمان من السهو والنسيان ) من قبل أن يقضي إليك وحيه ( أي من قبل أن تتم قراءة جبريل ونحوه قوله ) لا تحرّك به لسانك لتعجل به ) [ القيامة : 16 ] قاله مقاتل والسدي وابن عباس في رواية عطاء. وقال مجاهد وقتادة : أراد ولا تعجل بالقرآن فتقرأ على أصحابك من قبل أن يوحى إليك بيان معانية أي لا تبلغ ما كان مجملاً حتى يأتيك البيان. وقال الضحاك : إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا :(4/573)
" صفحة رقم 574 "
يا محمد ، أخبرنا عن كذا وكذا وقد ضربنا لك أجلاً ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة أن اليهود قد غلبوا فنزلت هذه الآية. أي لا تعجل بنزول القرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه من اللوح المحفوظ إلى إسرافيل ومن جبرائيل ومنه إليك. وعن الحسن : أن امرأة أتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : زوجي لطم وجهي فقال : بينكما القصاص فنزلت الآية فأمسك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن القصاص. وإنما نشأت هذه الأقوال لأن قوله : ( ولا تعجل بالقرآن ( يحتمل التعجيل بقراءته في نفسه ، أو في تأديته إلى غيره ، وأو في اعتقاده ظاهره ، أو في تعريف الغير ما يقتيه الظاهر. وقوله : ( من قبل أن يقضى إليك وحيه ( احتمل أن يراد من قبل أن يقضى إليك تمامه ، أو من قبل أن يقضى إيلك بيانه فقد يجوز أن يحصل عقيبه استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات والمبينات ويؤكد هذه المعاني قوله : ( وقل رب زدني علماً ( لأن معرفة البيان علم زائد على معرفة الإجمال. والظاهر أن هذا الاستعجال كان أمراً اجتهادياً وكان الأولى تركه فلذلك نهى عنه. قال جار الله : هذا الأمر متضمن للتواضع لله والشكر له عندما علم من ترتيب التعلم أي علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم وأدباً جميلاً ما كان عندي فزدنى علماً إلى علم. ومن فضائل العلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما أمر بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم. وفيه إشارة إلى أن أسرار القرآن غير متناهية ، اللَّهم إن هذا العبد الضعيف معترف بقصوره ونقصانه فأسألك مما سألك به نبيك أن ترزقني بتبعيته علماً ينفعني في الدارين. التأويل : ( ولقد أوحينا إلى موسى ( القلب ) أن أسر بعبادي ( وهم صفات القلب من الأخلاق الحميدة سر بهم من مصر البشرية إلى بحر الورحانية. ) فاضر لهم ( بعصا الذكر ) طريقاً يبساً ( من ماء الهوى وطين الصفات الحيوانية وباقي التأويل كما مر في ( يونس ) ) ونزلنا عليكم ( منّ صفاتنا وسلوى أخلاقنا فاتصفوا بطيبات أخلاقنا ) ولا تطغوا فيه ( بإفشاء أسرار الربوبية إلى غيرنا كمن قال : أنا الحق وسبحاني. فإن الحالات لا تصلح للمقاولات. ) وإني لغفار لمن ( رجع عن الطغيان ) وآمن ( بالربوبية ) وعمل صالحاً ( في مقام العبودية ) ثم اهتدى ( فتحقق أن حضرة الربوبية منزهة عن دنس الوهم والخيال ومقام الوصال مباين للقيل والقال. ) وعجلت إليك ( فيه أن الشوق إذا غلب انقطع العلائق وأن مطلوب السائل لا ينبغي أن يكون إلا رضا الله. ) قد فتنّا قومك من بعدك ( فيه أن فتنة الأمة والمريد مقرونة بالنبي والشيخ. ) بملكنا ( أي بإيرادتنا ومشيئتنا ولكن بإرادة الله ومشيئته. ) فكذلك ألقى السامري ( من غير اختيار منه ولكن باضطرار من(4/574)
" صفحة رقم 575 "
القدر ) با ابن أم ( قيل خاطبه بذلك ليذكره قول الملائكة : يا ابن النساء الحيض ما للتراب ورب الأرباب. ) فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها ( فيه أن الكرامة لأهل الكرامة كرامة ولأهل الغرامة استدراج وفتنة فيصرفونها في الباطل والطبيعة لا في الحق والحقيقة. قوله : ( لامساس ( فيه معارضة بنقيض مقصو من أراد الجمعية والغلبة واتباع الناس إياه ، فعدت بالتفرد والتوحش والنفار عن الخلق ) زرقا ( إن الوجه أشرف أعضاء الإنسان والعين أشرف أعضاء الوجه ، وزرق العين دلالة على خروجها عن الاعتدال ، وإذا كان أشرف الأعضاء خارجاً عن الاعتدال فما ظنك بغيرها ؟ وكذا بالأخلاق التابعة للأمزجة. ) وعنت الوجوه ( أي كل جهة بها يستند الممكن إلى الواجب. ) يتبعون الداعي ( لأن كل ناس تدعى بإمامهم فيتبعونه ألبتة وأهل الله لا يفرون إلا إلى الله في قوله : ( والله يدعوا إلى دار السلام ) [ يونس : 25 ] وعلى الله المستعان. ( طه : ( 115 - 117 ) ولقد عهدنا إلى . . . .
) ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآياتٍ ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خيرٌ وأبقى وأمر أهلك بالصلاة واصبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى قل كل متربصٌ فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ( ((4/575)
" صفحة رقم 576 "
القراآت : ( وإنك ( بالكسر : أبو بكر وحماد والخراز ونافع. الباقون بالفتح عطفاً على ) أن لا تجوع ( ولا يلزم منه دخول ( إن ) المكسورة على المفتوحة للفصل بالخبر ، ولأنه يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه ) أعمى ( بالإمالة. حمزة وعلي وخلف ) حشرتني ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير. ) ترضى ( مبيناً للمفعول : علي وأبو بكر وحماد والمفضل ) زهرة ( بفتح الهاء : قتيبة وسهل ويعقوب. الآخرون بسكونها. وقرأ حمزة وعلي وخلف هذه السورة وكل سورة آياتها على الياء بالإمالة المفرطة وإن شاء بين الفتح والكسر. الوقوف : ( عزماً ( ه ) إلا إبليس ( ط ) أبى ( ه ) فتشقى ( ه ) ولا تعرى ( ه ، لمن قرأ ) وإنك ( بالكسر ) ولا تضحى ( ه ) لا يبلى ( ه ) الجنة ( ز لنوع عدول عن ذكر حال اثنين إلى بيان فعل من هو المقصود ) فغوى ( ه ص ) وهدى ( ه ) عدوّ ( ج لابتداء الشرط مع الفاء ) ولا يشقى ( ، ه ) يوم القيامة أعمى ( ه ) بصيراً ( ه ) فنسيتها ( ج لعطف المختلفين ) تنسى ( ه ) يآت ربه ( ط ) وأبقى ( ه ) مساكنهم ( ط ) النهي ( ه ) مسمى ( ه ط ) غروبها ( ج لعطف الجملتين مع اختلاف النظم ) يرضى ( ه ) لنفتنهم فيه ( ط ) وأبقى ( ه ) عليها ( ط ) رزقاً ( ط ) نرزقك ( ط ) للتقوى ( ه ) من ربه ( ط ) الأولى ( ه ) ونخزى ( ه ) فتربصوا ( ج لسين التهديد مع الفاء ) اهتدى ( ه. التفسير : في تعلق قصة آدم بما قبلها وجوه منها : أنه لما قال : ( كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق ( ثم عظم شأن القرآن وبالغ القصة إنجازاً للوعد. ومنها أنه لما قال : ( وصرفنا فيه من الوعيد ( أردفه بهذه القصة ليعلم أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم وخلة موروثة ، وذلك أنه عهد إلى آدم من قبل هؤلاء الذين صرف لأجلهم الوعيد فنسي وترك العهد. ومنها أن قوله : ( ولا تعجل بالقرآن ( دليل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) زاد على قدر الواجب في رعاية أمر الدين وكان مفرطاً في أداء الرسالة وحفظ ما أمر به فناسب أن يعطف عليه قصة آدم لأنه كان موسوماً بالتفريط والإفراط والتفريط كلاهما من باب ترك الأولى ، وإذا كان أوّلا الأنبياء وخاتمهم موصوفين بما فيه نوع تقصير فلما ظنك بغيرهما ومن هنا يعرف أفضلية الخاتم فإنه سعى في طلب الكمال إلى أن عوتب بالخروج عن حد الاعتدال ، وآدم توسط في حيز النقصان فلا جرم وسم بالظلم والعصيان. ومنها أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بأن يقول ) رب زدني علماً ( ثم ذكر عقيبة قصة آدم تنبيهاً على أن بني آدم مفتقرون في جميع أحوالهم إلى التضرع واللجأ إلى الله حتى ينفتح عليهم أبواب التيسير في العلم والعمل. ومعنى ) عهدنا إلى آدم ( أمرناه ووصيناه(4/576)
" صفحة رقم 577 "
) من قبل ( أي من قبل محمد والقرآن. وفي النسيان قولان : أحدهما أنه نقيض الذكر. عن الحسن : والله ما عصي قط إلا بنسيان. والثاني أن معناه الترك وعلى هذا يحتمل أن يقال : أقدم على الأكل من غير تأويل. وأن يقالك أقدم عليه بتأويل قد مر في ( البقرة ). قال أهل الإشارة : عهد إليه أن لا يعلق نوره فانقاد للشيطان وهو النسيان. والعزم أيضاً فيه أقوال : أحدهما عزماً على الذنب لأن أخطأ ولم يتعمد. وثانيها عزماً في العود إلى الذنب ثانياً. وثالثها رأياً وصبراً أي لم يكن من أهل العزيمة والثبات إذ كان من حقه أن يتصلب فيالمأمور به تصلباً يؤيس الشيطان من التسويل. قال جار الله : قوله : ( ولم نجد له ( يجوز أن يكون مبعنى العلم ومفعولاه ) له عزماً ( وأن يكون بمعنى نقيض العدم كأنه قال : وعد مثاله عزماً. قوله : ( وغذ قلنا للملائكة ( سلف في ( البقرة ) مستقصى قوله : ( إن هذا عدوّ لك ( ذكروا في سبب عداوته إياه أنه كان شاباً عالماً لقوله : ( وعلمآدم الأسماء كلها ( وإبليس كان شيخاً جاهلاً لأنه أثبت فضله بفضيلة أصله ، والشيخ الجاهل أبداً يكون عدوّاً للشاب العالم. وأيضاً الماء والتراب مضادان للنار ) فلا يخرجنكما ( فلا يكون سبباً لإخراجكما لأن الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه ) فتشقى ( فتتعب في طلب القوت وسائر ما يتعيش به الإنسان أسند الشقاء إليه وحده مع اشتراكهما في الخروج لأن الرجل أصل في باب الإنفاق والكسب والمرأة تابعة له. ثم بين ذلك الشقاء بقوله : ( إن لك أن تجوع فيها ( إلى آخره. والظمأ العطش وتقول : ضحيت للشمس بالكسر أضحى ضحاء ممدوداً إذا برزت لها. والمراد به الكن مع أن الجنة ليس فيها شمس حتى يتصور فيها الضحاء ، نفى كون هذه الأمور في الجنة ليثبت حصولها في غيرها. ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي : الشبع والري الكسوة والكن. وأما المنكوح فمشترك إلا أن مؤن النكاح تختص بالدنيا وأنها أيضاً ترجع إلى المذكورات. يروى أنه كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع. ) فوسوس إليه الشيطان ( أنهى إليه وسوسة كما مر في ( الأعراف ). بيان السوسة أنه ) قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد ( أضافها إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها بزعمه كما قيل لحيزوم فرس الحياة لأنه من باشر أثره حيي ) وملك لا يبلى ( أي لا ينقطع ولا يزول. قال القاضي : ليس في الظاهر أنه قيل ذلك منه لأنه لا بد أن يحصل بين حال لتكليف وحال المجازاة فصل بالموت ، والنبي يمتنع أن لا يعلم هذا القدر. وأجيب بالمنع ولو سلم فلم لا يكفي الفصل بغشي أو نوح خفيف. ولو سلم أنه لا يكفي فلم استحال أن يجهل النبي ذلك كما جهل عدم جواز الرؤية زعمكم حين قال : ( أرني(4/577)
" صفحة رقم 578 "
أنظر إليك ) [ الأعراف : 143 ] ومما يدل على أن آدم قبل وسوسته قوله تعالى : ( فأكلا بالفاء مشعر بالعلية كقول الصحابي : ( زنى ماعز فرجم ) وما في الآية قد مر تفسيره في ( الأعراف ) إلا قوله : ( وعسى آدم ربه فغوى ( قال بعض الناس : إن آدم ذنبه كبيرة وإلا لم يوصف بالعصيان والغواية فإن العاصي والغاوي اسمان مذمومان عرفاً وشرعاً وقد ترتب الوعيد عليهما. وأجيب بأن المعصية مخالفة الأمر والأمر قد يكون مندوباً. وزيف بالمنع من أن المندوب غير مأمور به. ثم أن مخالفة عاص وإلا كان الأنبياء كلهم عصاة لأنهم لا ينفون عن ترك المندوب. قالوا : يقال أشرت إليه في أمر كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني. وأجيب بالمنع من أن هذا من مستعملات العرب العاربة ، ولو سلم فلعله إنما يقال ذلك إذا عرف أن المستشير لا بد له أن يفعل ذلك ، وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلاً وإن لم يكن وجوب شرعي لأن ذلك الإيجاب لم يصدر عن الشارع. ومنهم من زعم أنه ذنب صغير وهم عامة المعتزلة ورد بأن المعاصي إسم من يستحق العقاب وهذا لا يليق بالصغير. وأجباب أبو مسلم الأصفهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف ولهذا قال سبحانه ) فغوى ( أي خاب من نعيم الجنة لأن الرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء فيصل إلى المقصود والغي ضده ، وأنه سعى في طلب الخلود فنال ضد المقصود. وعن بعضهم ) فغوى ( أي بشم من كثرة الأكل وزيفه جار الله. ورد قول أبي مسلم بأن مصالح الدنيا تكون مباحة فلا يوصل تاركها بالعصيان. قلت : في هذا نظر ، والأحوط في هذا الباب أن يعتقد كون هذه الواقعة قبل النبوة بدليل قوله : ( ثم احتباه ربه ( أي اختاره للرسالة ) وهدى ( لحفظ أسباب العصمة. أصل الاجتباء هو الجمع كما مر في آخر ( الأعراف ). يروى عن أبي أمامة : لو وزنت أحلام بني آدم لرجح حلمه. وقد قال الله تعالى : ( ولم نجد له عزماً ( قال العلمالء : فيه دليل على أنه لا رادَّ لقضائه وما قدره كائن لا محالة ، وإذا جاء القضاء عمي البصر والدليل قد يكون غاية الظهور ومع ذلك يخفى على أعقل الناس كما خفي على آدم عداوة إبليس ، وأنه تعرّض لسخط الله في شأنه حين امتنع من سجوده فكيف قبل من وسوة ) لولا كتاب من الله سبق ) [ الأنفال : 68 ] قال المحققون : الأولى أن لا يطلق لفظ العاصي والغاوي على آدم عليه السلام وإن ورد في القرآن ) وعسى آدم ربه فغوى ( لأنه لم تصدر عنه الزلة إلا مرة واحدة. وصيغة اسم الفاعل تنبىْ عن المزاولة ، ولأن المسلم إذ تاب عن الشرب أو الزنا وحسنت توبته لا يقال له شارب وزان ، ولأن السيد يجوز له أن يشتم عبده بما شاء وليس لغيره ذلك. ) قال اهبطا ( قد مر تفسير مثله في ( البقرة ) خاطبهما بالهبوط لأنهما أصلا(4/578)
" صفحة رقم 579 "
البشر ثم عم الخطاب لهما ولذريتهما في قوله ) فأما يأتينكم ( أما قوله : ( بعضكم لبعض عدوّ ( فقد قال القاضي : يكفي في توفية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء الناس والناس أعداء لهم ، فإذا انضاف إلى ذلك عداوة بعض الفريقين لبعض لم يمتنع دخوله في الكلام. عن ابن عباس : ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا قوله : ( فمن ابتع 9 هداي فلا يضل ولا يشقى ( والسبب فيه أن العقاب ف يالآخرة لأجل أنه قد ضل عن الدين في مدة التكليف ، واتباع كتاب الله يستلزم عدم الضلال عن الدين المستتبع للنجاة من العقاب في الآخرة. وأما الشقاء الذي قد يلحق المؤمن في الدنيا فلا اعتداد به لقصر مدته على أن الرضا بالقضاء يهوّ عليه مصائب الدنيا وآفاتها. ثم ذكر وعيد من أعرض عن ذكره ظاهر الكلام يدل على أن الذكر ههنا هو الهدى المذكور لأن قوله : ( ومن أعرض عن ذكري ( في مقابلة قوله : ( فمن اتبع هداي (. وقد مر في أول ( البقرة ) أن المراد به الشريعة والبيان. وقال كثير من المفسرين : إن الذكر هو القرآن وسائر وسائر كتب الله وفيه نوع تخصيص. والضنك الضيق مصدر وصف به. ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث. يقال : منزل ضنك ومعيشة ضنك كأنه قيل : ذات ضنك. قالت الحكماء : عيش الدنيا ضنك ضيق لانقضائه وقصر مدّته وكثرة شوائبه ، وإنما العيش الواسع عيش الآخرة. وهذا الضيق المتوعد به إما في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة مال إلى كل طائفة. أما لأول فلأن المسلم الراضي بقضاء ربه معه من التسليم والتوكل والقناعة ما يعيش به عيشاً رافغاً. والمعرض عن الدين متول عليه الحرص والشح فلا ينفك عن الانقباض ولطموح ما ليس يناله من الفراغ والرفاغ الكلي فلا هم له إلا هم الدنيا. عن ابن عباس : المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها ، ومن الكفرة من ضربت عليه الذلة والمسكنة. وسئل الشبلي عن قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية ) فقالك أهل البلاء هم أهل الغفلات عن الله تعالى فعقوبتهم أن يردهم الله تعالى إلى أنفسهم وأيّ معيشة أضيق وأشد من أن يرد الأنسان إلى نفسه. قلت : التحقيق أن بعض البليات من العقوبات فطلب العافية منها لازم ، وبعضها لمزيد الدرجات ولكن الإنسان خلق ضعيفاً فكثيراً ما يؤل أمر المبتلي إلى الجزع والفزع فيحرم الثواب فتطلب العافية من هذا القسم أيضاً خوفاً من المآل. وأما الثاني فعن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري ورفعه أبو هريرة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه : ( عذاب القبر للكافر ) وعن ابن عباس أن الآية نزلت في الأسود بن عبد الله المخزومي والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه. وأما الثالث فعن الحسن وقتادة والكلبي أنه ضيق(4/579)
" صفحة رقم 580 "
في الآخرة وفي جهنم ، وأ طعامهم فيها الضريع والزقوم والحميم والغسلين ، فلا يموتون فيها ولا يحيون. أما قوله : ( ونحشره يوم القيامة أعمى ( كقوله : ( ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً ) [ طه : 102 ] فيمن فسر الزرق بالعمى ) ونحشرهم يوم لقيامة على وجوههم عمياً ) [ الإسراء : 97 ] ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ) [ الإسراء : 72 ] قال الجبائي : أراد أنه لا يهتدي يوم القيامة إلى طريق ينال منه خيراً كالأعمى. وعن مجاهد والضحاك ومقاتل أنه أراد أعمى عن الحجة وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس : قال القاضي : هذا القول ضعيف لأنه لا بد في القيامة أن يعلمهم الله تعالى بطلان ما كانوا عليه بتمييزه لهم الحق من الباطل ، ومن هذه حاله لا يوصف بذلك إلا مجازاً باعتبار ما كان ، لكن قوله : ( وقد كنت بصيراً ( ينافيه. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : ومما يؤكد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بما أن المكلف نسي الدلائل في الدنيا ، فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر كما في الدنيا. قال : والتحقيق في الجواب عن الاعتراض هو أن النفوس الجاهلية في الدنيا إذا فارقت أبدانها تبقى على جهالتها في الآخرة فتصير تلك الجاهة سبباً لأعظم الآلام الروحانية. وأقول على القاضي : يحتمل أن يكون مجازاً باعتبار الغاية. فقد ينفي الشيء باعتبار عدم غايته وثمرته فلا ينافي كونه أعمى في الآخرة بهذه الاعتبار إعلام الله تعالى إياه الحجة ، ولا كونه بصيراً في الدنيا كونه أعمى في الآخرة بالاعتبار المذكور لأن المعرض عن الدليل يشبه أن يكون كافراً معانداً ، ويكون الغرض من الإعلام التوبيخ والإلزام يؤيده قوله تعالى في جوابه : ( كذلك ( أي مثل ذلك فعلت أنت. ثم فسر ذلك بقوله : ( أتتك آياتنا ( أي دلائلنا وضاحة مستنيرة ) فنسيتها ( أي تركت العمل بها والقيام بموجبها ) وكذلك اليوم تنسى ( تترك بلا فائدة النظر والاعتبار. وعلى الإمام الرازي : إنه لا يلزم من كون المكلف غير متضرر بنسيان الدلائل في الدنيا كونه غير متضرر به في الآخرة وأما قوله في الجواب المحقق بناء على قاعدة الحكيم إن جهل النفس يصير سبباً بتعذيبها فإن كان منعاً لقول المعتزلة إنه تعالى يعلم المكلف بطلان ما كان عليه في الدنيا فذاك لا يفتقر إلى العدول ، وإن كان تسليماً لقولهم فمن أين يتحمل الاعتراض هذا وقد رأيت في بعض الآثار أن أشد الناس عمى يوم القيامة هم الذين حفظوا القرآن ثم نسوه. دليله قوله تعالى : ( أتتك آياتنا فنسيتها ( اللَّهم اجعلني ممن يواظب على تلاوة كتابك حتى لا أنساه يوم ألقاك. ) وكذلك نجزي من أسرف ( قيل : عصى ربه. والأظهر أنه أراد أشرك وكفر(4/580)
" صفحة رقم 581 "
بدليل قوله : ( ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة ( وهو الحشر على العمى ) أشد وأبقى ( من شيق المعيشة في العاجل أو أراد ، وتركنا إياه في العمى أشد وأبقى من تركه لآياتنا. ثم وبخ المعرضين عن الدلائل بعدم الاعتبار بأحوال القرون الخالية فقال : ( أفلم يهد لهم ( بالفاء وفي السجدة بالواو ، لأن الكلام ههنا كالمتصل بقوله : ( ومن أعرض عن ذكري ( وهناك كالمنفصل عن الإعراض لأنه قال : ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ) [ السجدة : 22 ]. وبعد ذل أورد قصة موسى فناسب الاستئناف بالواو ، وأما حذف من ههنا وإثباته هنالك فلما مر من أن ( من ) تفيد الاستيعاب وهنالك قد زاد في القرون بشرح قصة بني إسرائيل وما فيهم من الملوك والأنبياء. قال في الكشاف : فاعل : ( لم يهد ( الجملة بعده. وأنكر البصريون مثل هذا لأن الجملة لا تقع فاعلاً فلهذا قال : يريد أو لم يهد لهم هذا المعنى أو مضمون هذا الكلام. قال القفال : جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيناً لهم. وقال الزجاج : أراد أَوَ لَمْ نبين لهم ما يهدون به لو تدبروا وتأملوا. وقيل : فيه ضمير الله أو الرسول والجملة بعده تفسره يريد أن قريشاً يتقلبون في السورة. قال بعض أهل اللغة : إن للنبيه مزية على العقل فلا يقال إلا لمن له عقل ينتهي به عن القبائح فقالوله : ( أولي النهى ( كقوله : ( أولي العزم ) [ الأحقاف : 35 ] والحزم ومن هذا فسره بعضهم بأهل الورع والتقوى. ثم بين ا لوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلاً على من كذب من هذه الأمة فقال : ( ولولا كلمة ( هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة كتبها في اللوح المحفوظ وأخبر بها ملائكته ورسله لأن فيهم أو في نسلهم من يؤمن ، أو لمصلحة أخرى خفية. قال أهل السنة : إنه بحكم الماليكية له أن يفعل ما يشاء من غير علة. واللزام مصدر لازم وصف به. وقبل : فعال لما يفعل به فهو بمعنى ملزم كأنه آلة اللزوم أي ) لكان ( الأخذ العاجل ) لزاماً وأجل مسمى ( وهو عذاب الآخرة. وقيل : يوم بدر معطوف على ) كلمة ( وجوز في الكشاف أن يكون معطوفاً على الضمير في كان. ولعله إنما جوز ذلك للفصل أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود ، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. وحين بين أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر على ما يقولون من التكذيب وسائر الأذيات. زعم الكلبي ومقاتل أنها منسوخة بآية القتال وليس بذلك فإن كلاً منهما معمول بها في موضعها ) وسبح بحمد ربك ( أي متلبساً بحمده على(4/581)
" صفحة رقم 582 "
أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه ، والأكثرون أنها بمعنى الصلاة ليكون كقوله : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) [ البقرة : 45 ] ولأنه بين أوقاتها فقبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر ، وقبل غروبها صلاة الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار ) ومن آناء الليل فسبح ( المغرب والعتمة. وقوله ( وأطراف النهار ( أي في طرفيه فجمع للمبالغة وأمن الإلباس ، أو لأن أقل الجمع اثنان. أو أراد طرفي كل نهار تكرار لصلاتي الفجر والعصر لا المغرب على ما ظن اعتناء بشأنهما كقوله ) والصلاة الوسطى ) [ البقرة : 238 ] وآناء جمع ( أنى ) وهو الساعة وقد مر في ( آل عمران ). وإنما قدم آنا الليل وأدخل الفاء في ) فسبح ( المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها تنبيهاً على زيادة الاهتمام بشأن صلاة الليل ، لأن ا لليل وقت السكون والراحة وهدوّ الأصوات فالصلاة فيه أشق على النفس وأدخل في الإخلاص وأقرب من المحافظة على الخشوع والإخبات. وبعضهم أخرج من الآية صلاة الظر لانه خصص قبل الغروب بصلاة العصر. ومنهم من زاد فيها النوافل لأن الصلاة في الأوقات المذكورة تشملها والأمر قد يكون للندب لا أقل من التغليب. وقال أبو مسلم : الأقرب حمل التسبيح على التنزيه والإجلال كأنه لما أمره بالصبر على أذية القوم بعثه على الاشتغال بالتقديس والمواظبة عليه في كل الأوقات. وقوله : ( لعلك ترضى ( كقوله : ( عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ) [ الإسراء : 79 ] ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) [ الضحى : 5 ] ولا ريب أن الأطماع من الكريم واجب الوقوع اللَّهم ارزقنا شفاعته. ولما حث رسوله على الأمور الدينية نهاه عن الميل إلى الزخارف الدنيوية فقال : ( ولا تمدّن عينك ( أي نظر عينيك. ومد النظر تطويله استحساناً للمنظور إليه ، وفيه أن النظر الغير الممدود معفوّ عنه كما لو نظر فغض. وقال أبو مسلم : المنهي عنه في الآية ليس هو التطويل وإنما هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوا من حظ الدنيا. قال أبو رافع : نزل ضيف بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فبعني إلى يهوديّ يستقرضه فقال : لا أقرضه إلا برهن. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني لأمين في السماء وإني لأمين في الأرض ) أحمل إليه درعي الحديد فنزلت. والأزواج الأصناف. وقيل : أي أشكالاً وأشباهاً من الكفار لأنهم أشكال في الذهاب عن الصواب. وقد مر في آخر الحجر. ولقد شدد العلماء المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وملابسهم ومراكبهم لأنهم اتخذوها. قال جار الله : انتصب ) زهرة ( على الذم ، أو(4/582)
" صفحة رقم 583 "
على تضمين متعنا بمعنى خولنا وأعطينا ، أو على إبداله من محل ) به ( أو على إبداله من ) أزواجاً ( والتقدير ذوي زهرة وهي الزينة والبهجة. ومن قرأ بفتح الهاء فبمعناها أيضاً أو هي جمع زاهر كأنهم لصفاء ألوانهم وظهور آثار النعومة عليهم زاهر وهذه الدنيا بخلاف ما عليه المؤمنون الصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب. وقوله : ( لنفتنهم ( أي لنبلوهم كقوله : ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم ) [ الكهف : 7 ] وقيل : لعذبهم كقوله : ( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم ) [ التوبة : 55 ]. وقال الكلبي ومقاتل : لنشدد عليهم في التكليف لأن الاجتناب عن المعاصي مع القدرة يكون أشق على النفس. ) ورزق ربك ( هو ثواب الآخرة أو ما رزقت من الإسلام والنبوّة ) خير وأبقى ( وقيل : أراد به الحلال الطيب الذي يحق أن ينسب إلى ربك خير من أموالهم التي غلب عليها الغصب والسرقة وسائر وجوه الخيانة ، وأبقى بركة ونماء وحسن عاقبة. ) وأمر أهلك ( في سورة مريم ) وكان يأمر أهله بالصلاة ) [ الآية : 55 ] أي أقبل أنت مع أهلك على عبادة الله. ومن اسلف من كان إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا بهذا أمر الله رسوله ثم يتلو هذه الآية. وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ ) ولا تمدنّ عينيك ( الآية. ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله. وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعليّ كل صباح ويقول ( الصلاة وكان يفعل ذلك شهرأ ). وقوله : ( واصطبر عليها ( أراد أنك كما تأمرهم بها فحافظ عليها فإن الوعظ بلسان الفعل أثم منه بلسان القول ) لا نسألك رزقاً ( كما يريد الملوك خراجاً من رعيتهم والسادة خرجاً من عبيدهم ) بل نحن نرزقك ( كقوله : ( وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) [ الذاريات : 57 - 58 ] والحاصل أنا إنما أمرناك بالصلاة فذلك لأجل انتفاعك بثوابها لا لأنا ننتفع بها. وقيل : لا نسألك رزقاً لنفسك ولا لأهلك بل نحن نرزقك وإياهم فلا تهتم بأمر الرزق والمعيشة وفرغ بالك لأمره الآخرة وفي معناه قولهم ( من كان في عمل الله كان الله في عمله ). وقال أهل الإشارة ) ورزق ربك ( رمز إلى قوله : ( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ) قال عبد الله بن سلام : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا نزل بأهله ضيق أو شدة أمرهم بالصلاة. ) والعاقبة ( أي الجميلة ) للتقوى ( .(4/583)
" صفحة رقم 584 "
ثم عاد إلى قوله : ( فاصبر على ما يقولون ( فحكى واحدة من شبهاتهم هي قولهم : ( لولا يأتينا بآية من ربه ( كأنهم لم يتعدّوا بالقرآن الذي أخرس شقاشقهم فرد الله عليهم بقوله : ( أولم تأتيهم بينة ما في الصحف الأولى ( لأن القرآن برهان سائر الكتب المنزلة لأنه معجز دونها فهو شاهد لها بالصحة وأنها من عند الله. وقيل : أراد بالبينة ما فيها من بشارة مقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن ابن جرير أنه ما رأوا فيها من قصص الأمم المكذبة وبيان إهلاكهم بعد اقتراح الآيات وإنما أتاهم هذا البيان في القرآن فلهذا وصف القرآن بكونه ) بينة ما في الصحف الأولى ( ثم بين الحكمة في نزول القرآن فقال : ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله ( أي من قبل البرهان المذكور الدال عليه البينة ) لقالوا ( أي في القيامة لأن الهالك لا قول له في الدنيا. وعن أبي سعيد الخدري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة : الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلا كنت أطوع خلقك ) وتلا قوله : ( ) لولا أرسلت إلينا رسولاً ( والمغلوب على عقله يقول لم تجدعل لي عقلاً أنتفع به. ويقول الصبي : كنت صغيراً أعقل. فيرفع لهم نار ويقال لهم ادخلوها فيدخلها من كان في عالم الله أنه سعيد ويتلكأ من كان في علمه أنه شقى. فيقول الله تعالى : عسيتم اليوم فكيف برسولي لو أتاكم ؟ ). وطعن المعتزلة في هذا الخبر قالوا : لا يحسن العقاب على ما لم يفعل. وقال الجبائي : في الآية دلالة على وجوب فعل اللطف والمراد أنه يجيب أن يفعل بالمكلفين ما يؤمنون عنده وإلا كان لهم أن يقولوا : هلا فعلت ذلك بنا لنؤمن. وقال الكعبي : فيها أوضح دليل على أنه تعال يقبل الاحتجاج من عباده. وليس معنى قوله : ( لا يسأل عما يفعل ) [ الأنبياء : 23 ] أن الجور منه يكون قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه أعظم حجة. واستدل أهل السنة بها على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع وإلا لكان العقاب حاصلاً قبل مجيئه. ثم ختم السورة بوعيد إجمالي فقال : ( قل كل ( أي كل منا ومنكم ) متربص ( عاقبة أمره وهذا الانتظار إما قبل الموت بسبب الأمر بالجهاد أو ظهور الدولة والغلبة ، أو بالموت فإن كان واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه ، وإما بعد الموت وهو ظهور أثر الثواب والعقاب وتمييز المحق المبطل ويؤديه قوله : ( فستعلمون ( إلى آخره وهذا من كلام المنصف وبالله المستعان. ( تم ) .
تم الجزء السادس عشر وبه يتم المجلد الرابع من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري ، ويليه المجلد الخامس ، وأوله تفسير سورة الأنبياء .
.(4/584)
" صفحة رقم 3 "
سورة الأنبياء
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء السابع عشر من أجزاء القرآن الكريم
( سورة الأنبياء مكية حروفها أربعة آلاف وثمانمائة وتسعون كلمها ألف ومائة وثمان وسبعون آياتها مائة وست عشرة ( بسم الله الرحمن الرحيم ( الأنبياء : ( 1 - 20 ) اقترب للناس حسابهم . . . .
" اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون " ((5/3)
" صفحة رقم 4 "
القراآت ) قال ربي ( بالألف : حمزة وعلي وحفص. الباقون ) قل ( على الأمر ) نوحي ( بالنون مبنياً للفاعل : حفص غير الخراز. الباقون : بالياء مجهولاً. الوقوف : ( معرضون ( ح للآية مع احتمال كون ما بعده صفة أو استئنافاً. ) يلعبون ( لا لأن ) لاهية ( حال أخرى مترادفة أو متداخلة من ضمير ) يلعبون ( وهي لقلوبهم في المعنى. ) قلوبهم ( ط ) مثلكم ( ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول ) تبصرون ( 5 ) والأرض ( ز لاتفاق الجملتين مع استغناء الثانية عن الأولى ) العليم ( 5 ) شاعر ( ج لاختلاف النظم مع اتحاد المقول ) الأولون ( 5 ) أهلكناها ( ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول ) يؤمنون ( 5 ) لا تعلمون ( 5 ) خالدين ( 5 ) المسرفين ( 5 ) ذكركم ( 5 ) تعقلون ( 5 ) آخرين ( 5 ) يركضون ( 5 ط لتقدير القول ) تسألون ( 5 ) ظالمين ( 5 ) خامدين ( 5 ) لاعبين ( 5 ) من لدنا ( 5 على جعل ( إن ) نافية والأصح أنها للشرط ) فاعلين ( 5 ) زاهق ( لا ) تصفون ( 5 ) والأرض ( ط لأن ما بعده مبتدأ ) يستحسرون ( 5 ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستئنافاً ، ) لا يفترون ( 5. التفسير : قال جار الله : اللام في قوله ) للناس ( إما صلة لاقترب أو تأكيد لإضافة الحساب إليهم كقولك في أزف رحيل الحي أزف للحي الرحيل ، فيه تأكيد إن من جهة تقديم الحي ومن جهة إظهار اللام ، ثم تزيد تأكيداً آخر من جهة وضع ضمير الحي مضافاً إليه الرحيل ، موضع لام التعريف فيه فتقول : أزف للحي رحيلهم. والمراد اقترب للناس وقت حسابهم وهو القيامة كقوله ) اقتربت الساعة ) [ القمر : 1 ] فإذا اقتربت الساعة فقد إقترب ما يكون فيها من الحساب وغيره ، كأنه لما هدد في خاتمة السورة المتقدمة بقوله ) فستعلمون ( بين في أول هذه السورة أن وقت ذلك العلم قريب. فإن قيل : كيف وصف بالاقتراب وقد مضى دون هذا القول أكثر من سبعمائة عام فالجواب أن كل ما هو آتٍ قريب ، وإنما البعيد الذي دخل في خبر كان قال القائل : شعر فلا زال ما تهواه أقرب من غد
ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
على أنه لم يمض بعد يوم من ايام الله ) وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ) [ الحج : 47 ] ومما يدل على أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) وقد وعد خاتم النبيين في آخر الزمان ، وفي ذكر هذا الاقتراب تنبيه للغافلين وزجر للمذنبين. فالمراد بالناس كل من له مدخل في الحساب وهم جميع(5/4)
" صفحة رقم 5 "
المكلفين. وما روي عن ابن عباس أن المراد بالناس المشركون فمن باب إطلاق اسم الجنس على بعضه بالدليل القائم وهو ما يتلوه من صفات المشركين من الغفلة والإعراض وغيرهما. والذكر الطائفة النازلة من القرآن ، وقرئ ) محدث ( بالرفع صفة على المحل ، واحتجت المعتزلة بالآية على أن القرآن محدث ، وأجاب الأشاعرة بأنه لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف لأنه متجدد في النزول ، وإنما النزاع في الكلام النفسي الذي لا يصح عليه الإتيان والنزول. وزعم الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه أن حاصل قول المعتزلة في هذا المقام يؤل إلى قولنا القرآن ذكر ، وبعض الذكر محدث لأن قوله ) من ذكر من ربهم محدث ( لا يدل على حدوث كل ما كان ذكراً بل على أن ذكراً ما محدث ، كما أن قول القائل : لا يدخل هذا البلد رجل فاضل إلا يبغضونه ، لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون فاضلاً ، وإذا كان كذلك فيصير صورة القياس كقولنا ( الإنسان حيوان وبعض علم الميزان. قلت : إن المعتزلة لا يحتاجون في إثبات دعواهم إلى تركيب مثل هذا القياس لأن مدعاهم يثبت بتسنيم إحدى مقدمتي القياس الذي ركبه وهي قوله طبعض الذكر محدث ) لأنه نقيض ما يدعيه الأشاعرة وهو لا شيء من القرآن بمحدث. وإذا صدق أحد النقيضين كذب بالضرورة ، فظهر أن الإمام غلطهم في هذا القياس الذي ركبه ، ثم لقائل أن يقول تتميماً لقول المعتزلة : إذا ثبت أن بعض القرآن محدث لزم أن يكون كله محدثا لأن القائل قائلان : أحدهما ذهب إلى قدم كله ، والثاني إلى حدوث كله ، ولم يذهب أحد إلى قدم بعضه وحدوث بعضه. قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة ) من ربهم محدث ( لموافقة قوله بعد هذا ) قل ربي يعلم ( وقال في الشعراء ) من ذكر من الرحمن محدث ) [ الآية : 5 ] لكثرة الرحيم فيها. فكان ( الرحمن بالرحيم ) أنسب. قوله تعالى ) يلعبون ( اللعب الاشتغال بما لا يعني قوله ) لاهية ( هي من لهى عنه بالكسر إذا ذهل وغفل. وفيه إن هم كالأنعام بل هم لا يحصلون من الاستماع والتذكير إلا على مثل ما تحصل هي عليه آذانهم تسمع وقلوبهم لا تعي ولا تفقه. ومعنى ) وأسروا النجو ( بالغوا في إخفائها وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لها ولا يعلم أنهم متناجون وفي ( واو ) اسروا وجهان : أحدهما أن على لغة من يجوز إلحاق علامة(5/5)
" صفحة رقم 6 "
التثنية والجمع بالفعل إذا كان مقدماً على فاعله ، وثانيهما وهو الأقوى أن الواو ضمير راجع إلى الناس المقدم ذكرهم و ) الذين ظلموا ( بدل منهم. أو هو منصوب المحل على الذم ، أو هو مبتدأ خبره ) أسروا النجوى ( مقدماً عليه. وعلى التقادير أراد وأسروا النجوى هءلاء فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم ثم أبدل من النجوى قوله ) هل هذا إلا بشراً ( إلى قوله ) وأنتم تبصرون ( أي أتقبلون سحره وتحضرون هناك وأنتم ترون أنه رجل مثلكم ، أو تلعمون أنه سحر وأنتم من أهل البصر والعقل ؟ وجوز بعضهم أن يكون قوله ) هل هذا ( إلى آخره مفعولاً لقالوا مضمراً ، وإنما أسروا نجوى هذا الحديث لأنهم أرادوا شبه التشاور فيما بينهم تحرياً لهدم أمر النبي كما جاء في كلام الحكماء. ويرفع أيضاً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( استعينوا على حوائجكم بالكتمان ) ويجوز أن يسروا بذلك ثم يقولوا للرسول والمؤمنين : إن كان ما تدعون حقاً فأخبرونا بما اسررنا. من قرأ ) قال ربي ( فعلى حكاية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه قال : إنكم وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فإن ربي عالم بذلك ، وإنه من وراء عقابه يصف نفسه في بعض المواضع بأنه يعلم السر وذلك حين يريد تخصيصه بعلم الغيب ، ووصف نفسه ههنا بأنه يعلم القول. قال جار الله : هذا آكد لأنه عام يشمل السر والجهر ، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة ، وأقول هذا إذا كان اللام في القول للاستغراق ، أما إذا كان للجنس فلا يلزم زيادة العلم إذ لا دلالة للعام على الخاص. بل نقول : العلم بالسر يستلزم العلم بالجهر بالطريق الأولى فلا مزية لإحدى العبارتين على الأخرى ) وهو السميع العليم ( خصص علمه بالمسموعات أولاً ثم عمم وقال الإمام قدم ( السميع ) على ( العليم ) لأنه لا بد من استماع الكلام أولاً ثم من حصول العلم بمعناه. قلت : هذا قياس للغائب على الحاضر قوله ) بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر ( معنى هذه الإضطرابات مع ملاحظة ما قبلها أنهم أنكروا أولاً كون الرسول من جنس البشر ، ثم كأنهم قالوا : سلمنا ذلك ولكن الذي ادعين أ ، ه معجز ليس بمعجز غايته أنه خارق للعادة ، وليس كل ما هو خارق للعادة معجزاً فقد يكون سحراً هذا إذا ساعدنا على أن فصاحة القرآن خارجة عن العادة ، لكنا عن تسليم هذه المقدمة بمراحل فإنا ندعي أنه في غاية الركاكة وسوء النظم كأضغاث أحلام وهي الأحلام المختلطة التي لا أصل لها وقد مر في سورة يوسف. سلمنا ولكنه من جنس كلام الأوساط افتراه من عنده ؟ سلمنا أنه كلام فصيح ولكنه لا يتجاوز فصاحة الشعراء ، وإذا كان حال هذا المعجز هكذا. ) فليأتنا بآية ( لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات ) كما أرسل الأولون ( اي كما أى الأولون بالآيات لأن إرسال الرسل متضمن لإتيانهم بالآيات. ومن تأمل في هذه الأقوال المحكية عن أولئك الكفرة علم أ ، ها كلام مبطل متحير هائم في أودية الضلال وألا يكفي في إعجاز القرآن أنهم عدلوا حين تحدوا به عن(5/6)
" صفحة رقم 7 "
المعارضة بالحروف إلى المقارعة بالسيوف. ثم بين أن الآيات التي يقترحونها لا فائدة لهم فيها لأنهم أعتى من الأمم السالفة وأنهم ما آمنوا عند مجيء الايات المقترحة فأهلكوا لأجل ذلك رافهم يؤمنون ( مع شدة شكيمتهم فيه معنى الإنكار أي لا يؤمنون ألبتة وحينئذ يجب إهلاكهم ، ولكن قد سبق القول من الله أن هذه الأمة أمنوا من عذاب الاستئصال. ثم أجاب عن شبهتهم الأولى وهي قولهم ) هل هذا إلا بشر مثلكم ( بقوله ) وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً ( وقد مر مثله في آخر سورة يوسف وفي النحل. وإنما جاز الأمر بالرجوع إلى أهل الكتاب وإن كانوا من الكفرة ، لأن هذا الخبر قد تواتر عندهم وبلغ حد الضرورة على أن أهل الكتاب كانوا يتابعون المشركين في معادة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكان قولهم عندهم حجة. وقيل : أهل الذكر أهل القرآن. وضعف بأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكيف يؤمرون بالرجوع إلى قولهم ؟ واستدل كثير من الفقهاء بالآية في أن للعاميّ أن يرجع غلى فتيا العلماء ، وللمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر وأجيب بأنها خطاب مشافهة وارد في الواقعة المخصوصة ، وفي السؤال عن أهل الكتاب فلا يتعدى عن مورد النص وقد مر في آخر سورة يوسف الفرق بين قوله ) وما ارسلنا من قبلك ( وقوله ( وما أرسلنا قبلك ( بغير ( من ) وليس إلا ههنا وفي أوائل الفرقان ) وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ) [ الآية : 20 ] ثم أكد كون الرسل من جنس البشر بقوله ) وما جعلناهم جسداً ( الآية كأنهم قالوا : إنه بشر يأكل كما نأكل ويموت كما نموت ، فلعلهم اعتقدوا خلود الملائكة لا أقل من العمر الطويل ، ولا بد من تقدير مضاف محذوف اي وما جعلنا الأنبياء قبلك ذوي جسد غير طاعمين وإلا قيل : وما جعلنا لهم جسداً. ووحد الجسد لإرادة الجنس اي ذوي ضرب من الأجساد وأراد كل واحد منهم قوله : ( صدقناهم الوعد ( أصله في الوعد فنصب بنزع الخافض ، ثم فسر الوعد بقوله ) فأنجيناهم ومن نشاء ( وهم المؤمنون ، ثم نبههم على عظيم نعمه عليهم بقوله ، ) لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم ( أي شرفكم وصيتكم ، أو فيه بيان مكارم الآخلاق التي بها يبقى الذكر الجميل مع الثواب الجزيل ، ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة فقال ) وكم قصمنا ( والقصم القطع الكبير وهو الذي يبين تلاؤم الأجزاء ، وإذا لم يبين فهو الفصم بالفاء ، وذلك أن القاف حرف شديد والفاء رخو لوحظ جانب المعنى في اللفظ ومعنى ) من قرية ( من أهل قرية لقوله روأنشأنا بعدها قوماً آخرين ( وللضمائر في قوله ) فلما أحسوا ( إلى آخر القصة. والمراد بالإحساس الإدراك بحاسة اللمس أو علم لا شك فيه كالمحسوس الشماهد. والركض ضرب الدابة بالرجل كأنهم ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم حين أدركتهم مقدمة العذاب ، قال الجوهري :(5/7)
" صفحة رقم 8 "
الركض تحريك الرجل على الدابة استحثاثاً لها ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا ، فعلى هذا يجوز أن القوم كانوا يعدون على أرجهلم فقيل لهم لا تركضوا. والقائل إما من الملائكة أو من المؤمنين أو يجعلون أحقاء بأن يقال لهم ذلك ، أو أسمع رب العزة ملائكته هذا القول لينفعهم في دينهم ، أو ألهم الله الكفار ذلك فحدثوا به أنفسهم : ( وارجعوا غلى ما أترفتم فيه ( من العيش الهنيء والإتراف إبطار النعمة ) لعلكم تسألون ( غداً عما جرى عليكم وعلى أموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، أو أجلسوا في مجالسكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم بما تأمرون وماذا ترسمون فينفذ فيهم أمركم ونهيكم ، أو يسألكم الناس مستعينين بتدابيركم بآرائكم ، أو يسألكم الوافدون وأرباب الطمع مستمطرين سحاب أكفكم إما لأنهم كانوا أسخياء ولكن سمعة ورياء ، إما لأنهم بخلاء وفي كل هذه الوجوه تهكم بهم وتوبيخ لهم ) فما زالت تلك ( الدعوى وهي قولهم ) يا ويلنا ( لأن المولول كأنه يدعو الويل ) دعواهم ( الأول اسم ( ما زال ) والثاني خبره أو بالعكس. والدعوى بمعنى الدعوة وقد مر في قوله ) وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] والحصيد المحصود كقوله ) منها قائم وحصيد ( شبهوا بالزرع المستأصل والنار التي تخمد فتصير رماداً أي جعلناهم مشبهين بالمحصود والخامد ، ووحد ) حصيداً ( لأن المراد زرعاً حصيداً ، ولأن ( فعيلاً ) قد يستوي فيه الواحد والجمع ، عن ابن عباس أن الآية نزلت في حضور وسحول قريتين باليمن تنسب غليهما الثياب. وفي الحديث كفن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ثوبين سحوليين. وروى حضوريين بعث الله غليهم نبياً فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم فكأن القوم حصدوا بالسيف وروي أنه لما أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء بالثارات الأنبياء. قال أهل النظم : لما بين إهلاك كثير من القرى لأجل ظلمهم وتكذيبهم منها اللتان رواهما ابن عباس ، أتبعه ما يدل على أنه فعل ذلك عدلاً ومجازاة لا عبثاً ولا مجازفة فقال : ( وما خلقنا السماء والأرض ( الاية أي وما سوينا هذا لسيقف المرفوع والمهاد الموضوع ) وما بينهما ( من الأركان والمواليد كما تسوي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم للهو أو اللعب ، وإنما سويناهما لغايات صحيحة ومنافع للخلق دينية ودنيوية كما مر طرف منها في أول ( البقرة ) ويمكن أن يقال : المقصود من سياق الآية تقرير نبوة محمد والرد على منكريه لأنه ظهر المعجز عليه ، فإن كان صادقاً فهو المطلوب ، وإن كان كاذباً كان إظهار المعجز عليه من باب اللعب وهو منفي عنه سبحانه. قال القاضي عبد الجبار : فيه دليل على أنه لا يخلق اللعب وكل قبيح وإلا كان لاعباً وعورض بمسألتي العلم والداعي. ثم بين أن(5/8)
" صفحة رقم 9 "
السبب في ترك اتخاذ اللهو اللعب ليس هو العجز والضعف ولكن لأن الحكمة تنافيه ، معنى ) من لدنا ( من جهة قدرتنا وقيل : اللهو الولد بلغة اليمن أو المرأة ، وقيل : من لدنا اي من الملائكة لا من الإنس رداً على من قال : عزير ابن الله والمسيح ابن الله. ويحتمل أن يقال من لدنا أي من عندنا على سبيل الخفية فلا تعرفونه ولا ستمعون اسمه فيكون الرد شاملاً لكل من ادعى الله ولداً ولو من الملائكة. ثم اضرب عن اتخاذ اللهو واللعب فوصف نفسه بما يضاد فعل العبث قائلاً ) بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو ( يعني الباطل ) زاهق ( اي ففاجأ الدمغ زهوق الباطل ، قال علماء المعاني : هذا من باب استعارة المحسوس للمعقول بجامع عقلي : فأصل استعمال القذف والدمغ في الأجسام لأن القذف الرمي بنحو الحجارة ، والدمغ من دمغه إذا شجه حتى بلغت الشجة الدماغ ، ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل ، والدمغ لإذهاب الباطل بجامع الزهوق ، ثم وبخهم ونعى عليهم بما وصفوه بالولد وغير ذلك مما لا يجوز عليه وينافي وجوب الوجود بما وصفوا رسوله به من السحر والشعر وغير ذلك من الأوصاف المضادة للرسالة فقال ) ولكم الويل مما تصفون ( اي تصفونه به. ثم بين كمال قدرته ونهاية حلمه وحكمته فقال ) وله من السموات والأرض ( والمراد بمن عنده الملائكة المقربون والمقصود عندية الشرف والرتبة. فأما عندية المكان ففيها بحث طويل. قال الزجاج : ( لا يستحسرون ( أي لا يتعبون ولا يمسهم الإعياء. قال جار الله : كان الأبلغ في وصفهم أن يينفي عنهم أدنى الحسور ولكنه ذكر بلفظ المبالغة وهو ( استفعل ) لبيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور ، وأنهم أحقاء بتلك العبادات الشاقة بأن يستحسروا ومع ذلك لا يعدُّونها تعباً عليهم. ثم أكد ذلك بقوله ) يسبحون الليل والنهار ( منصوبان على الظرفية ) لا يفترون ( لا يلحقهم الفتور والكلال. وحاصل الآية أؤن الملائكة مع غاية شرفهم ونهاية قربهم لا يستنكفون عن طاعة الله ، فكيف يليق بالبشر مع ضعفهم ونقصهم أن يتمردوا عن طاعته ؟ وقد مر في أول سورة البقرة استدلال مفضلي الملائكة على الأنبياء بهذه الآية وبغيرها فلا حاجة إلى إعادته عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال : قلت لكعب الأحبار : أرايت قول الله عز وجل ) يسبحون الليل والنهار ولا يفترون ( ثم قال : ( جاعل الملائكة رسلاً ) [ فاطر : 1 ] ( أولئك عليهم لعنة الله والملائكة ) [ البقرة : 161 ] أليس الرسالة واللعن ما نعين لهم عن التسبيح ؟ أجاب كعب بأن التسبيح لهم كالنفس لنا لا يمنعهم عن الاشتغال بشيء آخر. واعترض بأن ىلة التنفس فينا مغايرة للسان فلهذا صح اجتماع التنفس والتكلم. وأجيب بأ ، ه لا استبعاد في أن يكون لهم ألسن كثيرة ، أو يكون المراد بعدم الفتور أنهم لا يتركون التسبيح في أوقاته اللائقة به. التأويل : اقترب لأهل النسيان أن يحاسبوا أنفسهم ) ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع(5/9)
" صفحة رقم 10 "
قلوبهم لذكر الله ) [ الحديد : 16 ] ( وما يأتيهم من ذكر ( وعظ وتذكير من عالم رباني ) محدث ( إلهامه إلا أنكروه عليه ونسبوه إلى التخليط ونحوه ) وما جعلناهم جسداً ( فيه أن الله قادر على أن لا يجعل النبي الولي ذا جسد ولكن اقتضت حكمته كونهم ذوي أجساد آكلين للطعام فإن الطعام للروح الحيواني الذي هو مركب الروح الإنساني كالدهن للسراج ، وبالقوى الحيوانية تتم الكمالات النفسانية وتدرك المحسوسات وتستفاد العلوم المستندة إلى الإحساس والتجربة وتفصيله أكثر من أن يحصى. قال بعض المشايخ ، لولا الهوى ما سلك أحد طريقاً غلى الله ) وما كانوا خالدين ( والسر فيه أن يعلموا من الموت حقيقة اسم المميت كما علموا من الحياة حقيقة اسم المحيي. ) ثم صدقناهم الوعد ( الذي وعدناهم حين أهبطوا إلى الأرض ) فأنجيناهم ومن نشاء ( من متابعيهم من هاوية الهوان وعالم الطبيعة ) وأهلكناهم المسرفين ( الذين اسرفوا على أنفسهم بالكون إلى أسفل سافلين الطبائع. ) وكم قصمنا من ( أهل ) قرية ( قالت ) فلما أحسوا بأسنا ( وهي شدة قطع التعلق عن الكونين فإن الفطام عن المألوف شديد ) لا تركضوا ( منا بل ففروا إلينا ) وارجعوا ( غلى التنعمات الروحاينة ) ومساكنكم ( الصلية ) لعلكم تسألون ( عزة وكرامة ) وما خلقنا ( سموات الأرواح وأرض الأجساد ، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار من غير غاية ، وإنما خلقناها لتكون لطفنا وقهرنا ) بل نقذف بالحق على الباطل ( للحق ثلاث مراتب : مرتبة أفعال الحق ومرتبة صفات الحق ومرتبة ذات الحق ، ففي كل مرتبة يتجلى الحق فيها للعبد ، ارهق باطل تلك المرتبة عن العبد حتى إذا تجلى له بأفعاله ذهب عنه باطل الأفعال ، وإذا تجلى له بصفاته ذهب باطل صفاته ، وإذا تجلى له بذاته في ذاته فيقول : أنا الحق وسبحاني والويل لمن لم يذهب باطله بإحدى هذه المراتب فيبقى متصفاً بالوجود المجازي. ( الأنبياء : ( 21 - 50 ) أم اتخذوا آلهة . . . .
" أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين أولم ير الذين كفروا أن السماوات(5/10)
" صفحة رقم 11 "
والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون "
( القراآت )
إلا نوحي إليه ( بالنون : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد ) إني إله ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ابن ذكوان. ) ألم ير ( بغير واو : ابن كثير الآخرون بواو متوسطة بين همزة الاستفهام والفعل ونظائرها كثيرة ) ترجعون ( بفتح التاء وكسر الجيم : يعقوب وابن مجاهد عن ابن ذكوان. ) ولا تسمع ( من الاسماع خطأ بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) الصم بالنصب : ابن عامر. الآخرون على الغيبة من السماع. ) الصم ( بالرفع ) مثقال حبة ( بالرفع على ( كان ) التامة وكذلك في سورة لقمان : أبو جعفر ونافع. الباقون بالنصب .(5/11)
" صفحة رقم 12 "
الوقوف : ( ينشرون ( 5 ) لفسدتا ( ج للابتداء ) سبحان ( للتعظيم مع فاء التعقيب تعجيلاً للتنزيه ) يصفون ( 5 ) يسالون ( 5 ) آلهة ( ط ) برهانكم ( ج لاتحاد المقول من غير عاطف ) قبلي ( ط ) لا يعلمون ( 5 لا لأن ما بعده مفعول ) معرضون ( 5 ) فاعبدون ( 5 ) سبحانه ( ط ) مكرمون ( 5 ط لأن ما بعده صفة بعد صفة ) يعملون ( 5 ) ولا يشعفون ( 5 لا للاستثناء ) مشفقون ( 5 ) جهنم ( ط ) الظالمين ( 5 ) ففتقناهما ( ط لانتهاء الاستفهام إلى الإخبار ) حي ( ط ) يؤمنون ( 5 ) يهتدون ( 5 ) محفوظاً ( ج لاحتمال الواو الاستئناف والحال ) معرضون ( 5 ) والقمر ( ط ) يسبحون ( 5 ) الخلد ( ط ) الخالدون ( 5 ) الموت ( ط ) فتنة ( ط ) ترجعون ( 5 ) هزوا ( ط ) آلهتكم ( ج لاحتمال الواو الإستئناف والحال ) كافرون ( 5 ) من عجل ( ط ) فلا تستعجلون ( 5 ) صادقين ( 5 ) ينصرون ( 5 ) ينظرون ( 5 ) يستهزئون ( 5 ط ) من الرحمن ( ط ) معرضون ( 5 ) من دوننا ( ط فصلاً بين الاستفهام والإخبار ) يصبحون ( 5 ) العمر ( ط ) من أطرافها ( ط ) الغالبون ( 5 ) بالوحي ( ط لاستئناف ولا يسمع بالياء التحتانية والوصل أجوز لتتميم المقول ، ومن قرأ على الخطاب وقف لأنه خرج عن المقول ) ينذرون ( 5 ) ظالمين ( 5 ) شيئاً ( ط ) أتينا بها ( ط ) حاسبين ( 5 ) للمتقين ( 5 لا لاتصال الصفة ولا يخفى أنه يحتمل النصب أو الرفع على المدح فيجوز أن لا يوصل. ) مشفقون ( 5 ) أنزلناه ( ط ) منكرون (. التفسير : إنه سبحانه بدأ في أول السورة بذكر المعاد ثم انجر الكلام إلى النبوات وما يتصل بها سؤالاً وجواباً فختم الكلام بالإلهيات لأنها المقصود بالذات فقال على سبيل الإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها بواسطة ( أم ) المنقطعة ) أم اتخذوا آلهة من الأرض ( نسبت غلى الأرض كما يقال ( فلان من مكة ) لأنها اصنام تعبد من الأرض ، لأن الالهة على ضربين أرضية وسماوية. أو أراد أنها من جنس الأرض لأنها تنحت من حجر أو تعمل من جوهر آخر أرضي. ويقال : أنشر الله الموتى ونشرها اي أحياها. ومن أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات كأ ، هم بإدعائهم لها الإلهية أدعوا لها الإنشار وإن كانوا منكرين البعث فضلاً عن قدرة الأصنام عليه لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور. والإنشار من جملة المقدورات بالدلائل الباهرة وفيه باب من التهكم والتسجيل وغشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده ، لأن الاقتدار على الإبداء والإعادة من لوازم الإلهية. ومعنى ) هم ( افادت الخصوصية كأنه قيل : أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم ، وفيه رمز إلى أن الأمر المختص بالاهتداء هو وحده. ولما قدم الإنكار شرع في دليل التوحيد فقال : ( لو كان فيهما ( أي في السموات والأرض وقد مر ذكرهما ) آلهة إلا(5/12)
" صفحة رقم 13 "
الله ( اي غير الله. قال النحويون : إلا ههنا بمعنى لتعذر حمل إلا على الاستثناء لأنها تابعة لجمع منكور غير محصور ، والاستثناء لا يصح إلا إذا كان المستثنى داخلاً في المستثنى منه لولا الاستثناء وقد يقال : إن ( إلا ) في هذه المادة لا يمكن أن تكون للاستثناء لأنا لو حملناها على الاستثناء لصار المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله لم يحصل الفساد. وللمفسرين في تفسير الآية طريقان : أحدهما حمل الغائب على الشاهد والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة غير الواحد الذي هو فاطرهما ) لفسدتا ( وفيه دلالة على أمرين : الأول وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحداً
والثاني أن لاي كون ذلك الواحد إلا إياه لقوله رغير الله ( وإنما وجب الأمر أن لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف. وثانيهما طريق التمانع بأن يقال : لو فرضنا غلهين واراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه ، فإن وقع مرادهما لزم اجتماع الضدين في محل واحد ، وإن لم يقع مرادهما لزم عجزهما ، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر فذلك الآخر عاجز لا يصلح لإلهية. والاعتراض على هذا التقدير من وجهين : الأول أن اختلافهما في الإرادة أمر ممكن والممكن لا يجب أن يقع. والثاني أن الفساد في السموات والأرض كيف يترتب على اختلافهما وفي الجواب طريقان : أحدهما الرجوع إلى التفسير الأول وهو إحالة الأمر على ما هو الغالب المعتاد من أن الملك عقيم ولا يجتمع فحلان على شول ، والشول جماعة النوق التي جف لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية ، فلا بد من وقوع التنازع والاختلاف وحدوث الهرج والمرج عند ذلك. الطريق الثاني العدول إلى ضرب آخر من البيان ، وهو أن اتفاق الإلهين على مقدور واحد محال لأن كلاً منهما مستقل بالتأثير كامل في القدرة ، فإذا وقع المقدور بأحدهما استحال أن يقع بالآخر مرة أخرى على أنه لو اراد كل واحد منهما أن يوجده لا بعينه فهذه إرادة مبهمة لا تصلح للتأثير ، فلا بد من الاختلاف وقد عرفت حاله ولزوم الفساد حينئذ ظاهر ، لأن كل ما يصدر عن إلهين عاجزين أو غله عاجز لم يكن على الوجه الأصلح والنمط الأصوب ، بل العاجز لا يصلح للإيجاد اصلاً فلا يوجد على ذلك التقدير شيء من الممكنات وهو الفساد الكلي. ومنهم من يقرر دليل التمانع على وجوه أخر منها : أنا لو قدرنا إلهين فهل يقدر كل واحد منهما على أن يمنع صاحبه عن مراده أم لا ؟ فإن قلت : يقدر. كان كل منهما مقهوراً للآخر ، وإن قلت : لا يقدر فقد ثبت عجز كل واحد(5/13)
" صفحة رقم 14 "
منهما. ومنها أن أحدهما هل يقدر على أن يستر شيئاً من أفعاله عن الآخر أو لا ؟ فإِن قدر فالمستور عنه جاهل عاجز وإلا فالأول عاجز. ولا يخفى ما في أمثال هذين الوجهين من الضعف لأن عدم القدرة على المحال لا يسمى عجزاً ولهذا لا يمكن أن يقال : إنه تعالى عاجز عن خلق مثله أو إنه إذا أوجد شيئاً نفذت قجرته عن خلق ذلك الشيء وحصل له عجز. ومن الطاعتين في دليل التمانع من فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله كما تزعم عبدة الأصنام لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على وجوه التدبير والتصرف لأنفسها فضلاً عن غيرها. ولقائل أن يقول : إن الآلهة لو كانت منفردة بالتدبير يلزم الفساد. أما أنها لو كانت وسائط أو معاونة لإله الأعظم كما تزعم عبدة الأوثان فمن أين يلزم الفساد. واعلم أنا قد بينا دلائل التوحيد في مواضع من هذا الكتاب ولا سيما في سورة البقرة في تفسير قوله ) وإلهكم إله واحد ) [ الآية : 163 ] ولنا في هذا المقام طريقة أخرى ما أظنها وطئت قبلي فأقول وبالله التوفيق : إن الوحدة من صفات الكمال وقد ركز ذلك في العقول حتى إن كل عامل مهما تم له أمر بواحد لم يتعد فيه إلى اثنين ، وإذا اضطر إلى الشركة والتعاون راعى فيه الأبسط فالأبسط لا يزيد العدد إلا بقدر الافتقار وعلى هذا مدار الأمور السياسية والمنزلية هذا في المؤثر. وأما في الأثر فلا ريب أنه استند إلى ما هو بسيط حقيقي لم يكن فيه إلا جهة واحدة افتقارية وإذا استند إلى ما فوق ذلك كان فيه من الجهات الافتقارية بحسب ذلك فيكون النقص تابعاً لقلة جهات الافتقار وكثرتها ، وكل مرتبة للممكنات تفرض من العقول والنفوس والأفلاك والعناصر والمواليد ، فإن كان مبدأ تلك السلسلة الطويلة واحداً كانت الجهات الاعتبارية الافتقارية فيها أقل مما لو كان المبدأ أزيد من واحد. وهذه قضية يقينية إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه سبحانه أراد أن يدفع هذا النقص من الممكنات و ( لو ) هذه بمعنى ( أن ) والمراد أن هذا انلقص والفساد لازم لوجود ىلهة غير الله سواء كان الله من جملتهم أم لا ، ولن يرضى العاقل بما فيه نقصه وفساده فوجب أن لا يعتقد إلهاً غير الله وهذه النتيجة هي المراد بقوله ) فسبحان الله رب العرش عما يصفون ( من الأنداد والشركاء فتكون هذه الآية نظيره قوله ) ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً ) [ الزمر : 29 ] وفيه قول زيد بن عمرو بن انفيل حين فارق قومه : أرباً واحداً أم الف رب
أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعاً
كذلك يفعل الرجل البصير
ثم أكد تفرده بالإِلهية بقوله ) لا يسأل عما يفعل ( وفيه رد على الثنوية والمجوس(5/14)
" صفحة رقم 15 "
الذين أثبتوا لله شريكاً فاعلاً للشرور والآلام ، وذلك أنهم طلبوا الحكمة في أفعال الله تعالى فقالوا : لو كان مدبر العالم واحداً لم يخص هذا بأنواع الخيرات من الصحة والغنى وذلك بأصناف الشرور من المرض والفقر ، فذكر سبحانه أن الاعتراض على أفعاله ينافي الديانة وأن له أن يفعل ما يشاء ولا مجال للسؤال عن أفعاله ، فكل من الأشاعرة والمعتزلة سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت ، ولكنهم حملوا عدم جواز السؤال على مأخذ آخر. أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن أفعاله لا تعلل بالمصالح والأغراض ولم بحكم الماليكة أن يفعل في مخلوقاته ما شاء فإن من تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت ، وكيف يتصور في حقه استحقاق الذم واستحقاق المدح له قديم ؟ وما يثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات. وكما أ ، ذاته غير معللة بشيء فكذلك صفاته وأفعاله ، وإنه غير محتاج غلى الأسباب والوسائط والأغراض والمقاصد. وأما المعتزلة فقد قالوا : إنه تعالى عالم بقبح المقابح وعالم بكونه غنياً عنها ، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح. وإذا عرف المكلف إجمالاً أن كل ما يفعله الله فهو حكمة وصواب وجب أن يسكت عن ( لم ) وإذا كان الملوك المجازيون لا يسألهم من في مملكتهم عما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيباً وإجلالاً لهم مع جواز الخطأ والزلل عليهم ، فملك الملوك ورب الأرباب أولى بأن لا يسال عن أفعاله مع ما ركز في العقول من أن كل ما يفعله فهو حسن مشتمل على الغايات الصحيحة. ثم زاد الإلهية تأكيداً بقوله ) وهم يسألون ( وفيه رد على منكري التكليف الذاهبين إلى أن العباد لا يسألون عما فعلوا في دار الدنيا قالوا : إن التكليف أمر غير معقول لأنه إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته غلى الفعل والترك وهو محال لأن صدور الفعل عن المكلف يستدعي الترجيح فالتكليف بالترجيح في حال عدم الترجيح تكليف بالمحال ، وإما أن يتوجه حال الرجحان ويكون الفعل حينئذ واجب الوقوع فيكون التكليف عبثاً. وأيضاً التكليف بما هو معلوم الوقوع لله عبث لأنه واجب الوقوع وبما هو غير معلوم الوقوع تكليف بما لا يطاق ، وأيضاً سؤال العبد لعبد إن لم يكن فيه فائدة فعبث ، وإن ، كان فيه فائدة فإِن عادت إلى الله تعالى كان محتاجاً مستكملاً ، وإن عادت غلى العبد فالله تعالى قادر على إيصالها إليه من غير واسطة التكليف ، على أن السؤال إن كان لأجل إيصال الضرر فذلك لا يليق بالكريم الرحيم ، وجوابهم أن السباب والوسائط معتبرة في كل شيء من عالم الأسباب حتى الثواب والعقاب ، على أن حاصل الشبهات يرجع إلى أن المنكر كأنه قال : إنه تعالى لم كلف عباده ولم كلفهم مالا يطيقون وهو يناقص القاعدة الممهدة أنه لا يسال عما يفعل. ثم كرر رأم اتخذوا من دونه آلهة ( استفظاعاً لكفرهم وليرتب عليه قوله ) قل هاتوا برهانكم ( على ذلك عقلاً أو نقلاً. أما العقل فقد مر أنه يقضي بعدم الشريك حذراً من(5/15)
" صفحة رقم 16 "
الفساد ، وأما النقل فقوله ) هذا ذكر من معي ( هو من إضافة المصدر إلى المفعول أي عظة لأمتي. عن ابن عباس واختاره القفال والزجاج أنه اراد هذا هو الكتاب المنزل على من معي من الأمة وهذا هو الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وأممهم يعني التوراة والإنجيل والزبور والصحف والكل وارد في معنى التوحيد ونفي الشركاء. وعن سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله ) وذكر من قبلي ( صفة للقرآن ايضاً لأنه اشتمل على أحوال الأمم الماضية كما اشتمل على أحوال هذه الأمة. ثم ختم الآية بقوله ربل أكثرهم ( تنبيهاً على أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد وهو عدم العلم وفقد التمييز بين الحق والباطل ، فلذلك أعرضوا عن استماع الحق وطلبه ، وفي لفظ الأكثر غشارة إلى أن فيهم من يعلم ولكنه يعاند ، أو أجري لفظ الأكثر على الكل على عادة الفصحاء كي لا يكون الكلام بصدد المنع. ثم قرر آي التوحيد خصوصاً قوله ) هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ( على أحد التفسيرين بقوله ) وما أرسلناك ( الآية. ثم رد على خزاعة وأمثالهم القائلين بأن الملائكة بنات الله بقوله ) وقالوا اتخذ الرحمن ولداً ( ثم نزه نفسه عن ذلك بقوله ) سبحانه ( ثم أخبر عما هم عليه في الواقع وهو أن الملائكة عباد الله ) مكرمون ( مقربون ) لا يسبقونه بالقول ( أي بقولهم اي يتبعون قوله ولا يقولون شيئاً حتى يقوله ) وهم بأمره يعملون ( فهم التابعون لأمر الله في أقوالهم وافعالهم ) يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ( وقد مر تفسيره في ( طه ) وفي آية الكرسي ) ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ( كقوله في طه ) لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً ) [ طه : 109 ] وقد مر البحث فيه. قال في الكشاف ) وهم من خشيته مشفقون ( أي متوقعون من أمارة بخلاف البشر فإنهم لا يتوقعون ذلك غلا من أمارة قوية. ويحتمل أن يقال : إنهم يخشون الله ومع ذلك يحذرون من أن تلك الخشية يقع فيها تقصير. عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه رأى جبرئيل عليه السلام ليلة المعراج ساقطاً كالحلس من خشية الله عز وجل. ثم نبه على غاية عظمته ونهاية جبروته بقوله ) ومن يقل منهم إني إله من دونه ( فيحتمل أن يدعي الإلهية لنفسه دون الله أو يدعي أنه إله مع الله أي بعد مجاوزة إلهيته وهذا على سبيل الفرض والتقدير كقوله ) ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) [ الأنعام : 88 ] وفي قوله ) فذلك ( دون أن يقول فهو تبعيد للمشرك الاحد عن ساحة عزته وفيه تفظيع لأمر الشرك وتهديد عظيم لمن أشرك ، وأراد بالظلم ههنا الشرك ، والمعتزلة عمموه والأول أظهر. ثم عدل في أدلة التوحيد إلى منهج آخر من البيان وهو الاستدلال بالآفاق(5/16)
" صفحة رقم 17 "
والأنفس قائلاً ) أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض ( أي جماعة السموات وجماعة الأرض ) كانتا تقاً ففتقناهما ( الرتق بالسكوت السد. رتقت الشيء فارتتق أي التأم ومنه امرأة رتقاء ومصدرها الرتق بالتحريك ، والفتقاء ضدها أي كانتا مرتوقتين فجعلناهما مفتوقتين. عن ابن عباس في رواية عكرمة وهو قول الحسن ، وقتادة أن المراد كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض. ومثله قول كعب : خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ، ثم خلق ريحاً توسطتهما فحصل الفتق ، وقال أبو صالح ومجاهد : كانت السموات متلاصقات لا فرج بينها ففتقها الله بأن جعلها سبعاً وكذلك الأرضون. وعنابن عباس في رواية أخرى وعليه كثير من المفسرين ، أن السموات والأرض كانتا رتقاً بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر. ويشبه أن يراد بالسموات على هذا التفسير السحب نظيره قوله ) والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع ) [ الطارق : 12 ] ويؤيده قوله عقيبه ) وجعلنا من الماء كل شيء حي ( وقيل : إنهما جمع السموات وإن كان نزول المطر من السماء الدنيا فقط باعتبار الجهة لأن جهتها هي جهتين ، أو باعتبار أن كل قطعة منها سماء فيكون كقولهم ( ثوب أخلاق ) ( وبرمة أعشار ) وقريب من هذا قول من قال : المعنى أن السموات والأرض كانتا مظلمتين ففتقهما الله تعالى بإظهار النور فيهما كقوله ) وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ) [ يس : 37 ] وقال أبو مسلم الاصفهاني : الرتق حالة العدم إذ ليس فيها ذوات متميزة فكأنها أمر واحد متصل متشابه ، والفتق الإِيجاد لحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض فيكون كقوله ) فاطر السموات والأرض ) [ الأنعام : 14 ] والفطر الشق. وعن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثنية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة ، والفتق افتراقهما المقتضي لإمكان العمارة ولتغير الفصول وفيه بعد. وههنا سؤال : وهو أن الكفار متى رأوهما رتقاً حتى صح هذا الاستفهام للتقرير ؟ كيف وقد قال الله تعالى ) ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ( ؟ [ الكهف : 51 ] والجواب على الأقوال الأخيرة ظاهر فإن فتق السماء بالمطر والأرض بالنبات أو فتقهما بتنفيذ النور فيهما وإظهاره عليهما أمور محسوسة ، وكذا إدخالهما من العدم غلى الوجود مما يشهد به الحس السليم والعقل المستقيم. وأما على القولين الأولين فلعلهم علموا ذلك من أهل الكتاب وكانوا يقبلون قولهم لما بينهما من التوافق في عداوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . وقال صاحب الكشاف في الجواب : إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد ، أو أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من(5/17)
" صفحة رقم 18 "
مخصص وهو القديم سبحانه. قوله ) وجعلنا من الماء كل شيء حي ( قال السكاكي صاحب المفتاح : اي جعلنا مبدأ كل حي من هذا الجنس الذي هو جنس الماء. واعترض عليه بأنه كيف يصح ذلك وآدم من تراب والجن من نار والمشهور أن الملائكة ليست أجساماً مائية ؟ وأجاب بأنه يأتي في الروايات أنه جل وعز خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء ، والجن من نار خلقها منه ، وآدم من تراب خلقه منه. وقال صاحب الكشاف : إنما قال خلقنا كل شيء حي من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله ) خلق الإنسان من علق ( وجوز أن لا يكون الجعل بمعنى الخلق بل يكون بمعنى التصيير متعدياً إلى مفعولين ، فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه. وقال في التفسير الكبير : اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة قائمة فإن الدليل لا بد أن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب غلى المقصود ، فبهذا الكريق تخرج الملائكة والجن وآدم لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك : قلت : فعلى هذا يكون قوله ) وجعلنا ( داخلاً في حيز الاستفهام كأ ، ه قيل : ألم يروا أنا فتقنا السموات والأرض بعد رتقهما وجعلنا من الماء كل حيوان. ومن المفسرين من جعل الحي شاملاً للنبات أيضاً كقوله ) فأحيا به الأرض بعد موتها ) [ الجاثية : 5 ] قوله ) وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم ( قد مر تفسيره في أول ( النحل ) وباقي الآية كقوله في طه ) وسلك لكم فيها سبلاً ) [ الاية : 53 ] والفجاج جمع الفج وهو الطريق الواسع وهي صفة ) سبلاً ( قدمت عليه فصارت حالاً عنه أراد أنه حين خلقها جعلها على تلك الصفة فهذا كالبيان لما أبهم في قوله : ( لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً ) [ نوح : 20 ] والاهتداء إما حسي أي تهتدون غلى البلاد ، وإما عقلي وهو الاهتداء إلى وحدانية الله تعالى. ومنهم من زعم أن الضمير في قوله ) وجعلنا ( فيها عائد إلى الجبال منضمة فلما أغرق قوم نوح فرقها فجاجاً وجعل فيها طرقاً. قال علماء الإسلام : ليس في قوله ) وجعلنا السماء سقفاً ( إن السماء للأرض كالسقف للبيت لأنها فوق لا يقابله مثله ، ولكنه أطلق عليها اسم السيقف لأنها كذلك في النظر بالنسبة غلى سكان كل بقعة. وفي المحفوظ وجهان : أي ) محفوظاً ( بقدرته من أن يقع على الأرض أو محفوظ بالشهب عن الشياطين. ) وهم عن آياتها معرضون ( فلا يتدبرون في ترتيبها ومسيراتها وطلوع أجرامها وغروبها واتصالاتها وانصرافاتها وتأثيراتها فيما دونها بإذن خالقها ومبدعها. قوله ) كل في فلك ( من مقلوب الكل. والفلك في اللغة ل شيء دائر وجمعه أفلاك. وزعم الضحاك أنه ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم. والأكثرون على أن الفلك جسم تدور النجوم عليه. ثم اختلفوا في حقيقته فقال الكلبي : ماء مكفوف أي مجموع تجري فيه الكواكب بدليل قوله ) يسبحون ((5/18)
" صفحة رقم 19 "
والسباحة لا تكون إلا في الماء. ورد بأنه يقال فرس سابح إذا امتد في الجري. وقالت الحكماء : هو جسم كروي لا ثقيل ولا خفيف غير قابل للخرق والاتئام والنمور والذبول ، ولذلك منعوا من كون الفلك ساكناً ، والكواكب متحركة فيه كالسمك في الماء واعتذروا عن السباحة بأ ، ها في النظر كذلك. قال صاحب الكشاف : التنوين في كل عوض من المضاف إليه أي كلهم فورد عليه إشكالان : أحدهما أنه لم يسبق إلا ذكر الشمس والقمر فكيف يعود ضمير الجمع إليهما ؟ وأجاب بأن ذلك باعتبار كثرة مطالعهما كما يجمع بالشموس والقمار لذلك. ويمكن أن يقال : أقل الجمع اثنان أو أنه جعل النجوم تبعاً لذكرهما. الثاني أن كلهم ليسوا في فلك ولكن كل منهم في فلك آخر على ما يشهد به علم الهيئة ، وأجاب بأنه اراد جنس الفلك كقولك ( كسانا الأمير حلة ) ، أو اراد كل واحد. قلت : لو صح هذا التقدير الثاني لم يرد الإشكال الأول ولكنه ينافي قوله ) يسبحون ( مجموعاً. قال بعض الحكماء في هذا الجمع دلالة على أن الكواكب أحياء ناطقة. وأجيب بأنه إنما جمع جمع العقلاء لأن السباحة من فعلهم. قلت : قد يسبح كثير من الحيوانات ، فلعل المختص بالعقلاء هو السباحة الصناعية المكتسبة. وههنا بحث وهو أن الإمام فخر الدين الرازي استحسن قول بعض الأوائل أن الحركة السماوية صنف واحد وهي الآخذة من المشرق إلى المغرب إلا أن بعضها أبطأ من البعض كالحركات الغربية ، وكذا اختلافات تلك الحركات بسبب تلك المختلفات. قال : وهذا أقرب ليكون غاية سرعة الحركة للفلك الأعظم وغاية السكون للجرم الذي هو أبعد عن المحيط تحرك الجرم الواحد في زمان واحد بحركتين مختلفتين غلى جهتين فإنه يستلزم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين. قلت : أما حديث كون ما هو أبعد عن المركز اسرع حركة فإقناعي ، وأما لزوم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين فممنوع لأن التي تظهر في المتحرك هي الحركة المركبة الحاصلة من فضل الأسرع على الأبطأ لا كل من الحركتين ، وهذا مشاهد من حركة الملة إلى خلاف جهة حركة الرحى ، ومن حركة راكب السفينة فيها إلى خلاف جهة حركتها. وأما الذي استحسنه من كلام الأوائل فباطل لأنه لو كان كذلك لحصلت الأظلال اللائقة بكل جزء من أجزاء فلك البروج في يوم بليلة ، وكذا الارتفاعات المناسبة لها في البلاد المتفقة العرض وليس كذلك ، وقد ذكرنا هذا المعنى في كتبنا النجومية أيضاً. وحين فرغ من بيان طرف من هيئة الأجرام السماوية ومنافعها الدنيوية نبه بقوله ) وما جعلنا البشر من قبل الخلد ( على أن هذه الآثار لا تدوم ولا تخلق للبقاء وإنما(5/19)
" صفحة رقم 20 "
خلقت للابتداء والامتحان ولكي يتوصل بها المكلفون إلى السعادات المدخرة لهم في الآخرة وهي دار الخلود. وبوجه آخر لما فرغ من دلائل الآفاق شرع في دلائل الأنفس فقال : ( وما جعلنا ( الآية ، عن مقاتل أن ناساً كانوا يقولون إن محمداً لا يموت فنزلت وقيل : لعلهم ظنوا أنه لو مات لتغير الشرع وهذا ينافي كونه خاتم الأنبياء ، فبين الله سبحانه أن حاله كحال من تقدمه من الأنبياء في المفارقة من دار الدنيا. والأكثرون على أن سبب النزول هو أنهم كانوا يقدرون أ ، ه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله عنه الشماتة لهذه وفي معناه قول القائل : فقل للشامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا .
قوله ) كل نفس ذائقة الموت ( قد تقدم في آخر ىل عمران تفسيره. قوله ) ونبلوكم ( أي نعاملكم معاملة المختبر بما نسوق إليكم من الشرور والخيرات فيظهر عندهما صبركم وشكركم. وقدم الشر لأن الموت من باب الشرور في نظر أهل الظاهر. و ) فتنة ( مصدر مؤكد ) لنبلوكم ( من غير لفظه. وحين أثبت الموت الذي هو الفراق عن دار التكليف بين بقوله ) وإلينا ترجعون ( أن الجزاء على الأعمال ثابت مرئي ألبتة بعد المفارقة. استدلت المجسمة بقوله ) وإلينا ( أنه تعالى جسم ليمكن الرجوع إلى حيث هو ، والتناسخية بأن الرجوع مسبوق بالكون في المكان المرجوع إليه ، وجواب الأولين أنه أراد الرجوع إلى المبدأ غير الرجوع إلى دار الدنيا ، واعلم أن مثل هذه الآية سيجيء في سورة العنكبوت إلا أنه قال هناك ) ثم إلينا ( ولم يذكر قوله ) ونبلوكم بالشر والخير فتنة ( فكأن هذه الفاصلة قامت مقام التراخي في ( ثم ) قال السدي ومقاتل : مر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأبي جهل وأبي سفيان فقال أبو جهل لأبي سفيان : هذا نبي بني عبد مناف. فقال أبو سفيان : وما تنكر أن يكون نبياً في بني عبد مناف فسمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قولهما فقال لأبي جهل : ما اراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة ، وأما أنت يا أيا سفيان فإنما قلت ما قلت حمية فأنزل الله تعالى ) وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك ( أي ما يتخذونك ) إلا هزوا ( ثم فسر ذلك بقوله ) أهذا الذي يذكر آلهتكم ( والذكر أعم من أن يكون بالخير أو بالشر إلا أنه إذا كان من العدو يفهم منه الذم لا الثناء ، والمعنى أنه يبطل معبوديتها وينكر عبادتها ويقبح أمرها ثم بين غاية جهالتهم وتعكيس قضيتهم بقوله ) وهم بذكر الرحمن هم كافرون ( قدم الجار والمجرور وكرر الضمير ليفيد أنهم عاكفون هممهم على ذكر آلهتم من(5/20)
" صفحة رقم 21 "
كونها شفعاء وشهداء ، ولو ذكرها بخلاف ذلك ساءهم. وأما ذكر الرحمن الذي منه جلائل النعم ودقائقها وأصولها وفروعها فلا يخطر منهم ببال ، ولو ذكره ذاكر استهزؤا به حتى إن بعضهم يقولون : ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة فهم أحق أن يتخذوا هزواً. ويحتمل أن تكون الباء للسببية أي هم كافرون بسبب ذكرهم الرحمن لا على ما ينبغي ، فيكون الذكر في الموضعين بمعنى واحد. وقيل ) بذكر الرحمن ( أي بما أنزل إليك من القرآن وكانوا يستعجلون بعذاب الله كما يجيء من قوله ) ويقولون متى هذا الوعد ( فقدم لذلك أولاً مقدمة هي قوله ) خلق الإنسان ( أي هذا الجنس ) من عجل ( أراد أنه مجبول على إفراط العجلة كما مر في قوله ) وكان الإنسان عجولاً ) [ الإسراء : 11 ] وعن ابن عباس أنه آدم اراد أن يقوم حين بلغ الروح صدره ، وعن مجاهد أن آدم لما دخل الروح رأسه وعينيه رأى الشمس قاربت الغروب فقال : يا رب عجل خلقي قبل أن تغيب الشمس. وعن ابن عباس أيضاً أ ، ه النضر بن الحرث والأول أظهر. وقيل : العجل الطين بلغة حمير ، وقال الأخفش : اي من العجل في الأمر وهو قوله ) كن ( وقيل : هو على القلب أي خلق العجل من الإنسان ) سأريكم آياتي ( وهي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة ) فلا تستعجلون ( فإنها كائنة لا محالة في وقتها وقيل : هي أدلة التوحيد وصدق الرسول. وقيل : آثار القرون الخالية بالشام وايمن. سؤال : ( خلق الإنسان من عجل ( فيه أن الآدمي معذور على الستعجال لأنه له كالأمر الطبيعي الذي لا بد منه ، فلم رتب عليه النهي بقوله ) فلا تستعجلون ( ؟ وأجيب بأن فيه تنبيهاً على أن ترك العجلة حالة شريفة وخصلة عزيزة. وقال جار الله : هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها. آخر : القوم استعجلوا الوعد على جهة التكذيب ، ومن هذا حاله لا يكون مستعجلاً في الحقيقة ؟ أجيب بأن الاستعجال على هذا الوجه أدخل في الذم لأنه استعجال على أمر موهوم عندهم لا معلوم ) لو يعلم ( جواب ( لو ) مخحذوف و ) حين ( مفعول به ) ليعلم ( والمعنى لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه وهو وقت إحاطة النار بهم ، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال. ويجوز أن يكون ) يعلم ( متروك المفعول أي لو كانوا من أهل العلم لما كانوا مستعجلين ، وعلى هذا يكون ) حين ( منصوباً بمضمر أي حين لا يكفون يعلمون أنهم كانوا على الباطل ، وخص الوجوه والظهور بالذكر لأن نكاية النار في هذين العضوين اشد مع أن الإحاطة التامة تفهم منهما. ثم بين أن وقت مجيء العذاب غير(5/21)
" صفحة رقم 22 "
معلوم لهم فإن مجيء الساعة مخفي عن المكلفين ليكونوا أقرب غلى تلاقي الذنوب فقال ) بل تأتيهم بغتة فتبهتهم ( قال جار الله : أي لا يكفونها بل تفجؤهم فتغلبهم. قلت : فائدة ( بل ) في هذه المقامات للانتقال من جملة إلى أخرى أهم من الأولى ، ويحتمل أن تكون ( لو ) لظاهر التمني والضمير للنار. وقيل : للساعة. وفي قوله ) ولا هم ينظرون ( تذكير بإمهالهم في دار الدنيا أي ثم يهلكون بعد طول الإمهال. ثم سلى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ) ولقد استهزئ ( الآية. وقد مرت في أول الأنعام. ولما بين أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجوههم النار ذكر أنهم في الدنيا ايضاً مفترقون غلى حراسة الله وكلاءته فقال ) قل من يكلؤكم بالليل ( إذا نمتم ) والنهار ( إذا تقلبتم في وجوه المصالح ) من الرحمن ( أي من بأسه وعذابه كالقتل والسبي ونحوهما. قيل : إنما خص الرحمن بالذكر تلقيناً للجواب حتى يقول العاقل أنت الكالئ يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك ونظيره ) ما غرك بربك الكريم ) [ الإنفطار : 6 ] ثم أضرب عن الأمر بالاستفهام قائلاً ) بل هم عن ذكر ربهم معرضون ( لا يخطرونه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه كأنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكالئ ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. أما قوله ) أم لهم آلهة تمنعهم ( فذكر في الكشاف أنه إضراب عن الكلام السابق بما في ( أم ) من معنى ( بل ). وقال غيره : الميم زائدة وإنه استفهام مستأنف والتقدير ألهم ىلهة تمنعهم من دوننا من العذاب ، ومعنى ) من دوننا ( أن تلك الآلهة لا تتجاوز منعنا وحفظنا ثم استأنف فقال ) لا يستطيعون ( ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف اي تلك الآلهة ليست تقدر على نصر أنفسها فكيف تحفظ غيرها وتنصرها. وقوله ( ولا هم منا يصبحون ( قال المازني : هو من أصحبت الرجل إذا منعته. والأكثرون على أ ، ه من الصحبة بمعنى النصرة والمعونة ومنه قولهم ( صبحك الله ). والحاصل أن من لا يكون قادراً على دفع الآفات ولا يكون مصحوباً من الله بالإعانة والنصرة كيف يتوقع منه دفع ضر أو جلب نفع ولما ابطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلاً إلى بيان أن ما هم فيه من الحفظ والكلاءة والتمتع بالحياة العاجلة هو من الله لا من مانع يمنعهم من الإهلاك ولا من ناصر يعينهم على أسباب التمتع سوى الله. وفي قوله ) حتى طال عليهم العمر ( إشارة إلى أنه لما امتدت أيام الروح والطمأنينة حسبوا أن ذلك لن يزول عنهم فاغتروا به ونسوا المنعم فاستأهلوا العقاب كما أشار إليه بقوله ) أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ( وفي لفظ الإتيان تصوير ما كان الله يجريه على أيدي السملمين الذين هم حزب الله من نقص ديار الكفر وتخريبها وعمارة حوزة الإسلام وتشييد مبانيه وقد مر مثله في آخر سورة الرعد. والاستفهام في قوله ) أفهم الغالبون ( للتقرير أي لنحن الغالبون وهم المغلوبون .(5/22)
" صفحة رقم 23 "
ثم بين أن هذه الإنذارات ليست من قبل الرسول ولكنه بالوحي ، ثم مهد عذر الرسول إن لم تنجع فيهم رسالته بأن الصم لا يسمعون دعاء المنذر. واللام في ) الصم ( للعهد أي لا يسمع هؤلاء الإنذار فوضع ) الصم ( في موضع اسم الإشارة إيذاناً بأنهم هم الموسومون بالصمم عن استماع الحق ، ولو كان اللام للجنس لكان الأنسب إطلاق الدعاء لأن الصم لا تسمع الدعاء بشروا أو أنذروا. ثم ذكر أنهم لا يعترفون بالتقصير والظلم إلا عند معاينة العذاب فقال : ( ولئن مستهم نفحة ( وفي ذكر المس وبناء المرة من النفح الذي هو بمعنى القلة والنزارة. منه قولهم ( نفحه بعطية ) اي رضخة ، ( ونفحته الدابة ) وهو رمح يسير دليل على أنهم في غاية الضعف يجزعون من أدنى أثر من عذاب الله. قوله ) ونضع الموازين القسط ( المراد من الوضع الإحضار والقسط اي العدل صفة الموازين وإن كان موحداً كقولهم للقوم ( إنهم عدل ) قاله الفراء. وعن الزجاج أراد ذوات القسط. واللام في ) ليوم القيامة ( بمعنى الوقت كما يقال ( جئت لتاريخ كذا ). وقيل : أراد لأجل الحساب يوم القيامة. وقد مر تحقيق الوزن وما يتعلق به من الأبحاث في أول سورة الأعراف. يروي أن داود عليه السلام سال ربه أن يريه الميزان ، فلما رآه غشي عليه ثم افاق فقال : يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات ؟ فقال : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة. وفي قوله ) فلا تظلم نفس شيئاً ( بحث بين المعتزلة والأشاعرة وقد مر مراراً ) وإن كان ( أي الوزن والعمل ) مثقال حبة من خردل أتينا بها ( أنت ضمير المثقال باعتبار إضافته إلى الحبة. قيل : الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال : حبة من خردل ؟ وأجيب بأن الوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار ، والظاهر أنه أراد الحبة من حيث اللغة. وقوله ( من خردل ( بيان لها لأن الحبة أعم من أن تكون من الخردل أو من الحنطة أو من غيرهما ولكن المبالغة في الأول أكثر ، وذلك أن الخردلة سدس شعيرة وهي نصف سدس ثمن الدينار عند الحساب ونصف سدس سدس سدسه في الشرع ، والحبة ثمن تسع الدينار في عرف حساب فارس والعراق ، فمثقال حبة من خردل يكون على الوجه الأول ثمن تسع خردلة ، وعلى ما قلنا يكون هو الخردل بعينه. والحاصل أن شيئاً من الأعمال صغيراً كان أو كبيراً غير ضائع من علم الله وأنه يجازي عليه. رؤي الشبلي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : حاسبوني فدققوا
ثم منوا فأعتقوا
قال في التفسير الكبير : زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة(5/23)
" صفحة رقم 24 "
يستحق بها خمسين جزءاً من الثواب فهذا الأقل منحبط بالأكثر كما كان. والآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط ، ولو كان الأمر كما قاله الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة. قلت : للجبائي أن يقول : الإتيان بالطاعة مشروط عندي بعدم الإحباط كما أن العقاب على المعصية مشروط عندكم بعدم العفو. ) وكفى بنا حاسبين ( كقوله ) وكفى بالله حسيباً ) [ النساء : 6 ] وحين فرغ من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في قصص الأنبياء تسلية لنبيه وتثبيتاً وعظة لأمته وتذكيراً ، وقد مر قصة موسى إلا أنه أوجز فيها ههنا والموجز تقدمه الفصحاء غالباً ، ولأن موسى أقوى حالاً ومعجزة ، ولأن ذكر التوراة يناسب ما تقدم من قوله ) قل إنما أنذركم بالوحي ( وصف التوراة بأنها جامعة لكونها فرقانا يفرق به بين الحق والباطل ، وقد مر سائر تفاسير الفرقان في أول البقرة ) وضياء ( كقوله ) فيها هدى ونور ) [ المائدة : 44 ] ( وذكر للمتقين ( اي شرفاً وموعظة ، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم وقوله ( بالغيب ( إما حال من الرب أي حال كونه غائباً عنحسهم والله لا يغيب عنه شيء فيكون كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) وإما حال منهم أي حال كونهم غائبين عن عذاب الآخرة وأهوالها ، أو غائبين عن الناس أي يخشون ربهم في الخلوات. ثم عظم شأن القرآن بقوله ) وهذا ذكر مبارك ( أي كثير البركة ) أنزلناه أفأنتم له منكرون ( أي أنتم دون سائر الناس مع علمكم بفصاحته وإعجازه تخصونه بالإنكار. ولا يخفى ما فيه من التوبيخ للعرب ومن داناهم. التأويل : ( أم اتخذوا آلهة ( من ارض البشرية ثم هم يحيون القلوب الميتة بل الله يحييها بنور ذكره وطاعته لو كان في سماء الروحانية وأرض البشرية ) آلهة إلا الله ( كالعقل والهوى ) لفسدتا ( كما فسد سماء أرواح الفلاسفة حين اثبتت عقولهم للواجب صفات لا تليق به ، وفسد أرض بشرية الطبائعية حين زلت قدمهم عن استعمال قوانين الشريعة بمقتضى هوى الطبيعة ) لا يسأل عما يفعل ( لأن أفعاله تعالى صادرة عن الحكمة والقدرة ) وهم يسألون ( لأن أفعالهم منشؤها الظلومية والجهولية ) لا يسبقونه بالقول ( لأنه ليس فيهم ما يخالف داعية العقل وهو الطبع الذي يجذب صاحبه إلى السفل ، ولهذا وصفهم بالإكرام ووصف بني آدم بالتكريم في قوله ) ولقد كرمنا بني آدم ) [ الإسراء : 70 ] ففي التكريم تكثير ليس في(5/24)
" صفحة رقم 25 "
الإكرام والسبب أن أمر بني آدم أشكل وحالهم أصعب ) يعلم ما بين أيديهم ( من خجالة قولهم ) أتجعل فيها من يفسد فيها ) [ البقرة : 30 ] ( وما خلفهم ( من الأمر بسجود آدم والاستغفار لمن في الأرض ) أو لم ير الذين كفروا ( يعني أنهم رأوها في عالم الأرواح لأنها خلقت قبل الأجساد بألفي عام ، وفي رواية بأربعة ألاف سنة ) كانتا رتقاً ( أي كانت سموات الأرواح متعلقة بأرض القوالب ) ففتقناهما ( بالمفارقة وقطع التعلق ) وجعلنا من ( ماء حياة العلم ) كل شيء حي ( بالحياة الأبدية ) وجعلنا في الأرض ( أرض القالب ) رواسي ( هي هموم العلائق البدنية ) أن تميد بهم ( فلولاها لمالت كل نفس إلى عمالها وبطل الغرض من التكليف ، ويمكن أن يكون الرواسي إشارة إلى الأبدال الذين هم أوتاد الأرض بهم يرزق ويمطر الناس ) فجاجاً سبلاً ( هي طرق الإرشاد والتسليك ) وجعلنا ( سماء القلب ) سقفاً محفوظاً ( من وساوس شياطين الإنس والجن ) وهو الذي خلق ( ليل البشرية ونهار الروحانية وشمس المعرفة وقمر الإسلام ) كل في فلك يسبحون ( فأهل الإسلام في فلك الشريعة ، وأهل الإيمان في فلك الطريقة ، وأهل الولاية في فلك اطوار الحقيقة ) كل نفس ذائقة الموت ( أما النفس الحيوانية فلأن من خواصها أن تصير الغذاء من جنسها فلا جرم إذا عجز الغذاء عن التشبيه بها لعجز القوة الغاذية حل أجلها ، وأما النفس الناطقة فلأن من خواصها أنها تصير من جنس غذائها وهو الكمالات العلمية والعملية التي هي فيوض ربانية يتجوهر الروح بجوهرها فيحصل له الفناء عن وجوده والبقاء بشهود ربه ) ونبلوكم ( بالمكروهات التي تسمونها شراً بالمحبوبات التي تحسبونها خيراً ) فتنة ( فربما كان الأمر عكس ما تصورتم ) وإلينا ترجعون ( اختياراً وقهراً ) وإذا رآك الذين كفروا ( فيه أن الأغيار لا ينظرون إلى الأخيار إلا بعين الإنكار ) خلق الإنسان من عجل ( بالنسبة غلى خلق السموات والأرض وما بينهما فإنها خلقت في ستة أيام وخمرت طينة آدم أربعين صباحاً مع أن فيها أنموذجاً من الكل واستعداداص لقبول الخلافة وقابلية تجلي الذات والصفات ومظهرية الكنز الخفي وأشار غلى هذه المعاني بقوله ) سأريكم آياتي ( اي في مظاهر الآفاق ومرايا أنفسكم بالتدريج وبالتربية في كل طور ) فلا تستعجلون ( فإن حد الاستكمال من المهد إلى اللحد بل من الأزل إلى الأبد وهذا منطق الطير لا يفهمه إلا سليمان الوقت. ويمكن أيضاً أن يقال : إن الروح الإنساني أول شيء تعلقت به القدرة وهذا معنى العجلة ) قل من يكلؤكم ( فيه أن ملوك الأرض لو حرسوهم ) بالليل والنهار ( من الخصوم والأعداء فمن لهم حتى يحفظونهم في ليل البشرية ونهار الروحانية من سطوات قهر الجلال الذي الرحمانية من صفاته كما أن الرحيمية من صفات الجمال ، فلو وكلهم بالخذلان إلى ظلمة البشرية بقوا في الجهل ، ولو وكلهم بالإضلال في نور المعقولات تاهوا في أودية الحيرة والحجب النورية ، والمنع من(5/25)
" صفحة رقم 26 "
الحجب الظلمانية والجهل البسيط أسرع من إزالة الجهل المركب ) بل متعنا هؤلاء ( الجهال ) وآباءهم ( الذين علموهم تلك المعقولات التي صارت حجباً نورية لهم حتى اغتروا بظاهر الحال وأنكروا المعاد والشريعة. ثم بين أن الحق يغلب على الباطل ألبتة فقال ) أو لم يروا أنا نأتي الأرض ( البشرية ) ونضع الموازين ( ميزان الفضل قد نصب في الأزل ) نحن قسمنا ( ) تلك الرسل فضلنا ( وميزان العدل ينصب في الأبد ) ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ( فالأول كالبزرة والثاني كالثمرة. ( الأنبياء : ( 51 - 91 ) ولقد آتينا إبراهيم . . . .
" ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه(5/26)
" صفحة رقم 27 "
غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين " ( القراآت ) جذاذاً بكسر الجيم ( : علي. الآخرون بضمها ) اف ( بفتح الفاء : ابن كثير وابن عامر وسهل ويعقوب ) أف ( بالكسر والتنوين : أبو جعفر ونافع وحفص. الباقون بالكسر من غير تنوين ) لنحصنكم ( بالنون : أبو بكر وحماد ورويس وبالتاء الفوقانية والضمير للصنعة أو للدرع لأنها مؤنثة سماعاً : ابن عامر ويزيد وحفص والمفضل وروح وزيد. الباقون بالياء التحتانية والضمير لداود عليه السلام أو للبوس والكل بتخفيف الصاد والرياح على الجمع : يزيد بطريق المفضل الآخرون على التوحيد. ) مسني الضر ( و ) عبادي الصالحون ( في آخر السورة مرسلة الياء : حمزة. الباقون بفتحها ) وأن لن ( يقدر بالياء مجهولاً : يعقوب ) ننجي ( بضم النون الواحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء : ابن عامر وعباس وأبو بكر وحماد. الآخرون من الإنجاء مخففاً. الوقوف : ( عالمين ( ج 5 لأن ( إذ ) يصلح ظرفاً لآتينا أو ) لرشده ( أو للعلم به مفعولاً لأذكر محذوفاً ) عاكفون ( 5 ) عابدين ( 5 ) مبين ( 5 ) لاعبين ( 5 ) فطرهن (. لواو الابتداء والحال أولى ) الشاهدين ( 5 ) يرجعون ( 5 ) الظالمين ( 5 ) إبراهيم ((5/27)
" صفحة رقم 28 "
5 ) يشهدون ( 5 ) يا إبراهيم ( 5 ط ) فعله (. وفيه بعد ويجيء في التفسير ) ينطقون ( 5 ) الظالمون ( 5 لا للعطف ) على رؤوسهم ( ج لاتحاد المقصود مع إضمار القول ) ينطقون ( 5 ) ولا يضركم ( ط لاستئناف الدعاء عليهم ) من دون الله ( ط ) تعقلون ( 5 ) فاعلين ( 5 ) على إبراهيم ( 5 لا بناء على أن التقدير وقد أرادوا ) الأخسرين ( ج 5 للعطف والآية ) للعالمين ( 5 ) إسحق ( ط بناء على أن المراد ووهبنا له يعقوب حال كونه نافلة ) نافلة ( ط ) صالحين ( 5 ) الزكاة ( ج لاحتمال الاستئناف والحال ) عابدين ( 5 وكان ينبغي أن لا يوقف للعطف ولكنهم حكموا بالوقف لتمام القصة وكذلك أمثالها ) الخبائث ( ط ) فاسقين ( 5 لا بناء على أن التقدير وقد أدخلناه ) رحمتنا ( ط ) الصالحين ( 5 ) العظيم ( 5 ج للعطف مع الآية ) بآياتنا ( ط ) أجميعن ( 5 ) غنم القوم ( ج لاحتمال الواو بعده الاستئناف والحال ) شاهدين ( 5 لا للعطف بالفاء ) سليمان ( ج لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتحاد الكلام ) وعلماً ز لعطف المتفقين مع نوع عدول ) والطير ( ط ) فاعلين ( 5 ) من بأسكم ( ج للاستفهام مع الفاء ) شاكرون ( 5 ) فيها ( ط ) عالمين ( 5 ) دون ذلك ( ج لاحتمال الاستئناف والحال ) حافظين ( 5 ) الراحمين ( 5 ط للفاء وللآية ) للعابدين ( 5 ) وذا الكفل ( ط ) الصابرين ( 5 وقد يوصل لعطف ) وأدخلناهم ( على ) نجينا ( للقدرة ) في رحمتنا ( ط الصالحين 5 ) سبحانك ( قد يوقف لأجل ( أن ) ولكنه داخل في حكم النداء ) الظالمين ( ج 5 على ما ذكر في الوجهين فاستجبنا لهر لا لاتفاق الجملتين واتصال النجاة بالاستجابة ) من الغم ( ط ) المؤمنين ( 5 ) الوارثين ( 5 فاستجبنا لهر 5 لا مكان الفصل بين الإستجابة المعجلة وحصول الولد الموهوب على المهلة ) زوجه ( ط ) ورهباناً ( ط ) خاشعين ( ط ) للعالمين ( 5. التفسير : الرشد الاهتداء لوجوه المصالح في الدين والدنيا وقد يخص ههنا بالنبوة لقوله ) رشده ( ومعنى الإضافة أن لهذا الرشد شأناً ولقوله ) وكنا به عالمين ( وفيه أنه علم منه أسراراً عجيبة وأحوالاً بديعة حتى اتخذه خليلاً واصطفاه نبياً نظيره ) الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] وعلى هذا فمعنى قوله ) من قبل ( اي من قبل موسى وهارون قاله ابن عباس : وعلى الأول يحتمل هذا وأن يراد من قبل البلوغ حين استدل بالكواكب قاله مقاتل. وعن ابن عباس في رواية الضحاك حين أخذ الله ميثاق النبيين في صلب آدم. قالت الأشاعرة : أراد بإيتاء الرشد خلق ذلك فيه إذ لو حمل على أسباب ذلك تناول الكفار. أجاب الكعبي بأن هذا إنما يقال فيمن قبل لا فيمن رد ، نظيره بأن يعطي الأب كل واحد من ولديه ألفاً فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه فيقال : أغنى(5/28)
" صفحة رقم 29 "
فلان ابنه فيمن ثمر المال ، ولا يقال مثله فيمن ضيع. واعترض بأن قبوله على هذا التقدير يكون جزءاً من مسمى الرشد وحينئذ لا يصح إستناد إيتاء الرشد إلى الله وحده ، وهذا بخلاف نص القرآن. والتمثال اسم للشيء الصمنوع مشبهاً بخلق من خلق الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء شبهته به ، وإسم ذلك الممثل تمثال جعل إبراهيم عليه السلام هذا التجاهل والتغابي ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيحلها لهم مع ما في هذا السؤال من تحقير آلهتهم وتسفيه أخلافهم. وفي قوله ) أنتم لها عاكفون ( دون أن يقول عليها كقوله ) يعكفون على أصنام لهم ) [ الأعراف : 138 ] نوع آخر من التجهيل والتوبيخ لأنه ادعى عليهم أنهم جعلوا العكوف مختصاً بها دون خالقها وخالق كل شيء ) قالوا وجدنا آبائنا لها عابدين ( لا يمكن لهم أن يتمسكوا بشيء آخر سوى التقليد فزيف طيقتهم بالتنبيه على خطئهم وخطأ أسلافهم فقال : ( لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ( لأن كل مذهب لا يستند إلى دليل كان صاحبه ضالاً أو في حكم ذلك. ثم إن القوم تعجبوا من تضليلهم مع كثرتهم ووحدته ومنعهم عما ألفوه وضروا به فقالوا ) أجئتنا بالحق ( أي بما ليس بهزل ودعابة ) أم أنت من اللاعبين ( فحينئذ عدل إبراهيم عن مجرد التنبيه إلى إثبات الدعوى بالبينة والدليل وجاهدهم أولاً باللسان قائلاً ) بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن ( الظاهر أن الضمير للسموات والأرض إلا أنه قيل : كونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم. وقوله ( وأنا على ذلكم من الشهداء ( فيه تأكيد وتحقيق لما قاله كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه ( أشهد إنه كريم أو لئيم ) لأن الشهادة خبر قاطع. وفيه أنه قادر على إثبات ما ادعاه بالحجج والبينات كما شاؤوا ثم أخبر أنه سيجاهدهم جهاداً بالفعل من غير تقية وخوف قال ) وتالله لأكيدن أصنامكم ( قال جار الله : في تاء القسم مع أنه عوض عن الباء زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من سهولة الكيد على يده لأن ذلك لصعوبته كان كالمقنوط منه خصوصاً في زمن نمرود مع شدة شكيمته وقوة سلطانه. قلت : لا ريب أن هذا مستبعد عادة ولكنه سهل لمن ايده الله ونصره كما قال علي رضي الله عنه : والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة رحمانية. سؤال : الكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به فكيف يتصور ذلك في حق الأصنام ؟ وجوابه أنه قال ذلك بناء على زعمهم أنه يجوز ذلك عليها ، أو أراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل أهمهم وأحزنهم. قال السدي : كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا ثم عادوا إلى منازلهم ، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم : لو خرجت معنا ؟ فخرج معهم. فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي(5/29)
" صفحة رقم 30 "
رجلي ، فلما بقي هو وضعفاء الناس نادى وقال الله لأكيدن أصنامكم. وروى الكلبي أن إبراهيم كان من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا غلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضاً ، فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال لصحابه : إني أراني أشتكي عدا فذلك قوله في الصافات ) فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) [ الصافات : 88 ، 89 ] وأصبح من الغد معصوباً رأسه ، فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلف أحد غيره فقال سراً : أما والله لأكيدن أصنامكم ، فسمعه رجل واحد وأخبر به غيره وانتشر الخبر. وعلى الوجهين يصح قوله فيما بعد ) قالوا سمعنا فتى يذكرهم ( وروي أن آزر خرج به في عيد لهم فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم وقالوا : إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا ، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنماً مصطفة وثمة صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل ، فكسرها كلها بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه ) فجعلهم جذاذاً ( قال الجوهري : جذذت الشيء جذاً قطعته وكسرته ، والجذاذ ما كسر منه وضمه أفصح من كسره. قلت : فعلى هذا هو اسم جمع لا جمع ) إلا كبيراً لهم ( أي في الخلقة كما روينا. وقيل : في التعظيم. ويحتمل أن يكون جامعاً للأمرين. أما الضمير الواحد في قوله ) لعلهم إليه يرجعون ( فيحتمل عوده إلى إبراهيم أي جعلهم جذاذاً واستبقى الكبير رجاء أنهم يرجعون غلى دينه أو غلى السؤال عنه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بقوله ) بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم ( ويحتمل عوده الكبير كما ذهب إليه الكلبي. والمعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحاً والفأس على عاتقك ، وهذا بناء على ظنهم أن الأصنام قد تتكلم وتجيب ، على أن نفس ذلك الكبير كان دليلاً على فساد مذهبهم لأن الآلهة يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء لأنهم كانوا يعظمونها ويقولون : إن المستخف بها يلحقه ضرر عظيم ، فحين كسرها إبراهيم ولم ينله ضرر من تلك الجهة بطل ما اعتقدوه. فلما انكشفت لهم جلية الحال و ) قالوا من فعل هذا ( الكسر والحطم والاستخفاف ) بآلهتنا إنه لمن الظالمين ( المعدودين في جملة من يضع الشيء في غير موضعه لأنه وضع الإهانة مكان التعظيم ) قالوا سمعنا ( احتمل أن يكون القائل واحداً ، ونسب القول إلى الجماعة لأنه منهم ، واحتمل أن يكون جمعاً على الوجهين اللذين رويناهما ، أو لأنهم سمعوا منه قوله على وجه الاستهزاء ) ما هذه التماثيل ( والفعلان بعد ) فتى ( صفتان له إلا أن ، الأول ضروري ذكره لأنك لا تقول ( سمعت زيداً ) وتسكت حتى تذكر شيئاً مما تسمع ، والثاني ليس كذلك. والأصح أن قوله ) إبراهيم ( قاعل ) يقال ( لأن(5/30)
" صفحة رقم 31 "
المراد الاسم لا المسمى وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف أو منادى. ) قالوا ( اي فيما بينهم ) فأتوا به على أعين الناس ( الجار والمجرور في محل الحال اي بمرأى منهم ومنظر أو معايناً ومشاهداً شقال. في الكشاف : معنى الاستعلاء في ( على ) أنه يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه ) لعلهم يشهدون ( عليه بما سمع منه وبما فعله فيكون حجة عليه قاله الحسن وقتادة والسدي وعطاء عن ابن عباس. وقال محمد بن إسحاق : معناه لعلهم يحضرون عقوبتنا له ليكون ذلك زاجراً لهم عن الإقدام على مثل فعله. وههنا إضمار أي فأتوا به ثم ) قالوا أأنت فعلت هذا ( الظلم والاستخفاف ) بآلهتنا يا إبراهيم ( طلبوا منه الاعتراف ليقدموا على إيذائه ) فقال بل فعله كبيرهم ( وقوله ( هذا ( صفة كبيرهم. زعم الطاعنون في عصمة الأنبياء أن هذا القول من إبراهيم كذب وأكدوا قولهم بما جاء في الحديث ( إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات ) وللعلماء في جوابهم طريقان : أحدهما تسليم أنه كذب ولكنهم قالوا : الكذب ليس قبيحاً لذاته وإنما يقبح لاشتماله على مفسدة. وقد يحسن الكذب إذا اشتمل على مصلحة كتخليص نبي ونحوه ، وزيف هذا الطريق بأنا لو جوزنا أن يكذب النبي لمصلحة لبطل الوثوق بالشرائع ، فلعل الأنبياء أخبروا عما أخبروا لمصلحة المكلفين في باب المعاش مع أنه ليس للمخبر عنه وجود كما في الواقع. الطيق الثاني وعليه جمهور المحققين المنع من أنه كذب وبيانه من وجوه : الأول أنه من المعاريض التي يقصد بها الحق وهو إلزام الخصم وتبكيته كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط في غاية الحسن ، أنت كتبت هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط فقلت له : بل كتبته أنت. كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع استهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي. الثاني أن إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزينة ، وكان غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها. الثالث أن يكون ذلك حكاية لما يؤل إليه مذهبهم كأ ، ه قال : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبدو يدعى إلهاً أن يقدر على أمثال هذه الأفعال ، ويؤيد هذا الوجه ما يحكى أنه قال ) فعله كبيرهم هذا ( غضب أن تعبد معه هذه الصغار ، الرابع ما يروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله ) بل فعله ( ثم يبتدئ ) كبيرهم هذا ( أي فعله من فعله. الخامس عن بعضهم أنه يقف عند قوله ) كبيرهم هذا فاسئلوهم ( وأراد بالكبير نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم. السادس أن في الكلام تقديماً وتأخيراً والتقديم ( بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم ). فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطاً(5/31)
" صفحة رقم 32 "
بكونهم ناطقين ، فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين ، السابع قراءة محمد بن السميفع ) فعله كبيرهم ( بالتشديد أي فلعل الفاعل ) كبيرهم ( وفيه تعسف. وأما قول إبراهيم عليه السلام ) إني سقيم ( فلعله كان به سقم قليل وسوف يجيء تمام البحث فيه. وأما قوله لسارة ( إنها أختي ) فالمراد أنها أخته في الدين فلم يكن وقتئذ على وجه الأرض مسلم سواهما ) فرجعوا إلى أنفسهم ( حين نبههم على قبح طريقتهم ) فقالوا إنكم أنتم الظالمون ( لأنكم تعبدون من لا يستحق العبادة. وقال مقاتل : معناه فلاموا أنفسهم فقالوا : إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير. وقيل : أنتم الظالمون لأنفسكم إذا سألتم منه ذلك حتى أخذ يستهزئ بكم في الجواب. يقال : نكسته اي قلبته فجعلت أسفله أعلاه ، وانتكس انقلب ، وانتكاس الإنسان هو أن يكون رأسه من تحت فلهذا قال ) ثم نكسوا على رؤوسهم ( والمراد أنهم استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤوا بالفكرة الصالحة ، ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة قائلين ) لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ( وفيه أنهم رضوا بإلاهتها مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق. وقال ابن جرير : المعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم وبيان انتكاس الحجة قولهم ) لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ( فإن هذه حجة عليهم لا لهم. وقيل : المراد بانتكاس رؤوسهم إطراقهم خجلاً وانكساراً. ثم زاد إبراهيم في توبيخهم قائلاً ) افتعبدون ( الآية وقد مر في سورة سبحان أن ( أف ) صوت يدل على التضجر ، والام لبيان المتأفف به ، أي لكم ولآلهتكم هذا التأفف وذلك أنه أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم. ) قالوا حرقوه ( المشهور أن الذي اشار بتحريقه هو نمرود بن كنعان ابن سنجاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح. وقال مجاهد : سمعت ابن عمر يقول : إنه رجل من أعراب العجم يريد الأكراد. وعن ابن جريج عن وهب أن الذي قال هذا القول قد خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. روى مقاتل أن نمرود وقومه أجمعوا على إحراقه فحبسوه ثم بنوا بيتاً كالحظيرة بكوثى وهي من قرى الأنباط وذلك قوله ) ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم ) [ الصافات : 97 ] ثم جمعوا له الحطب الكثير اربعين يوماً حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول : إن عافاني الله لأجمعن حطباً لإبراهيم. فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق ثم أخذوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً فضجت السماء والأرض ومن فيهما من الملائكة إلا الثقلين ضجة واحدة : أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم وإنه يحرق فيك ، فأذن لنا في نصرته ، فقال سبحانه : إن استغاث بأحد(5/32)
" صفحة رقم 33 "
منكم فأغيثوه وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه بيني وبينه. فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الرياح وقال : إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليك. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل. وروي أنه قال : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين ، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك. ثم أاه جبرائيل في الهواء فقال : يا إبراهيم هل لك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا. قال : فسل ربك. قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي : فأرسل الله ملائكة أخذوا بضبعيه وأقعدوه في الأرض ، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار منه إلا وثاقه. وأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة وقال : يا إبراهيم إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبائي. قال المنهال بن عمرو : أخبرت أن إبرايهم مكث في النار أربعين يوماً أو خمسين. وقال : ما كنت أياماً أطيب عيشاً مني إذ كنت فيها قلت : وذلك لاستغراقه في بحر الفيوض والآثار الربانية ولو لم يكن فيه إلا القرب من لطف خليله والبعد من قهر عدوه لكفى. ثم نظر نمرود من صرح له مشرف على إبراهيم فرآه جالساً في روضة ومعه جليس له من الملائكة والحطب يحترق حواليه فناداه يا إبراهيم : هل تستطيع أن تخرج منها ؟ قال : نعم. فقام يمشي حتى خرج. فقال نمرود : إني مقرب إلى ربك قرباناً فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم ، وكان إبراهيم عليه اسللام إذ ذاك ابن ست عشرة سنة. قال العلماء : اختاروا العقاب بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه ولهذا جاء في الحديث ( لا يعذب في النار إلا خالقها ) ومن ثم قالوا ) وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ( أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً قوياً فاختاروا له أشد العقاب وهو الإحراق وإلا كنتم مقصرين في نصرتها ) قلنا ( عن السدي أن القائل هو جبرائيل عليه السلام والأكثرون على أنه سبحانه. وذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أنه لا قول هناك بل أراد به الجعل لأن النار جماد فلا فائدة في خطابه. ويمكن أن يجاب بأن الله قادر على أن يخلق لها فهماً يصح به التخاطب ، ولو سلم فلعل في ذلك الخطاب مصلحة للملائكة. والظاهر أن قوله ) يا نار ( خطاب لتلك النار المخصوصة فإن الغرض يتعلق ببردها فقط وفي النار منافع للخلائق ، فلا يحسن من الكريم إبطالها. وقيل : المذكور اسم الماهية فلا بد من حصول البرد في تلك الماهية أينما وجدت ، ويناسبه رواية مجاهد عن ابن(5/33)
" صفحة رقم 34 "
عباس أنه لم يبق يومئذ في الدنيا ونار إلا طفئت. واختلفوا في أن النار كيف بردت ؟ فقيل : إنه تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق والله على كل شيء قدير. وقيل : خلق في جسد إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار كما يفعل بخزنة جهنم ، وكذلك في النعامة لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة ، والسمندل ولا يؤذيه المقام في النار. وقيل : جعل بينه وبين النار حائلاً منع وصول اثر النار إليه. والمحققون على القول الأول لأن النص دل ظاهره على أن نفس النار صارت باردة ، وليست الحرارة جزءاً من مسى النار حتى يمتنع كونها ناراً وهي باردة ، وأما على القولين الآخرين فيلزم أن لا يحصل البرد فيها وهو خلاف النص قوله ) وسلاماً ( أي ذات برد وسلام فبولغ في ذلك حتى كأن ذاتها برد وسلام. والمعنى ابردي حتى يسلم منك إبراهيم ، أو ابردي برداً غير ضار ويناسبه ما روي عن ابن عباس لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وقوله على إبراهيمر حال من فاعل الكون أو متعلق بالبرد والسلام ، ولولا هذا القيد لكانت النار برداً على كافة الخلق ، قوله ) فجعلناهم الأخسرين ( وفي الصافات ) فجعلناهم الأسفلين ) [ الآية : 98 ] لأن في هذه السورة كادهم إبراهيم لقوله ) لأكيدن أصنامكم ( وكادوه لقوله ) وارادوا به كيداً ( فغلبهم إبراهيم لأنه كسر أصنامهم وسلم من نارهم فكانوا هم الأخسرين. وفي الصافات ) قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم ) [ الصافات : 97 ] فأججوا ناراً عظيمة وبنوا بناء عالياً ورفعوه إليه ورموا به غلى أسفل فرفعه الله وجعلهم في الدنيا من السافلين وفي العقبة في السافلين. ويروى أنهم بنوا لإبراهيم بنياناً وألقوه فيه ، ثم أوقد عليه النار سبعة أيام ثم أطبقوا عليه ، ثم فتحوا عنه فإذا هو غير محترق يعرق عرقاً. فقال لهم حارث أبو لوط : إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله ، فجعلوا فوق بئر وأوقدوا تحته فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته فآمن له لوط كما يجيء في العنكبوت ، وهاجر إلى ارض الشام فذلك قوله ) ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها ( اي بالخصب وسعة الأرزاق أو بالمنافع الدينية لأن أكثر الأنبياء بعثوا فيها. وقيل : ما من أرض عذب إلا وينبع أصله من تحت صخرة بيت المقدس. يروى أنه نزل بفلسطين ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة. وقيل : الأرض مكة ) ووهبنا له ( أي لإبراهيم ) إسحق ويعقوب نافلة ( هي ولد الولد وهي حال من يعقوب فقط ، وقيل : النافلة العطية الزائدة ومنه الصلاة النافلة. ونوفل للرجل الكثير العطاء ، وعلى هذا احتمل أن يكون حالاً من يعقوب فقط أي سأل إسحق فأعطيه وأعطى يعقوب زيادة وفضلاً من غير سؤال .(5/34)
" صفحة رقم 35 "
واحتمل أن يكون حالاً من كليهما أي وهبناهما له عطية منا ، والأول قول مجاهد وعطاء ، والثاني وهو أن النافلة العطية قول ابن عباس وأبي بن كعب وقتادة والفراء والزجاج ) وكلا ( من إبراهيم وإسحق ويعقوب ) جعلنا صالحين ( قال الضحاك : اي مرسلين وقال غيره : عالمين عاملين. وفي قوله ) جعلنا صالحين ( وكذا قوله ) وجعلناهم أئمة ( دلالة الأشاعرة على أن الصلاح بجعل الله وكذا الإمامة وغيرها من الأفعال أجاب الجبائي بأنه اراد تسميتهم بذلك ومدحهم وأنه حكم به لهم كما يقال : إن الحاكم عدل فلاناً وجرحه إذا حكم بالعدالة والجرح ، وضعف بأنه خلاف الظاهر. وقوله ( يهدون بأمرنا ( اي يدعون الناس إلى دين الله بأمرنا وإرادتنا. قال أهل السنة : فيه أن الدعوة إلى الحق والمنع من الباطل لا يجوز إلا بأمر الله تعالى. وقالت المعتزلة : فيه أن من صلح لأن يقتدي به في الدين فالهداية واجبة عليه ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها. ولا خلاف في أن الهادي إذا كان مهتدياً بنفسه كان الإنتفاع بهداه أعم والنفوس غلى الاقتداء به أميل فلذلك قال ) وأوحينا إليهم فعل الخيرات ( اي أن يفعلوها لأن المراد هو إيحاء أن يحدثوا الخيرات من انفسهم ونفس الفعل الخير لا يمكن إيحاؤه فرد غلى فعل الخيرات تخفيفاً ، فإن المقصود معلوم ، ثم أضيف المصدر غلى المفعول لإفادة تخفيف آخر في اللفظ وكذلك ) إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ( أي أوحينا إليهم أن يقيموا ويؤتوا ، قال الزجاج ، حذف الهاء من إقامة لأن المضاف إليه عوض منها. وقال غيره : الإقام والإقامة مصدران. ولا ريب أن تخصيص هاتين الخصلتين بالذكر دليل على شرفهما والأولى أصل التعظيم لأمر الله ، والثانية أصل الشفقة على خلق الله. ) وكانوا لنا عابدين ( فيه أنه سبحانه لما وفى بعهد الربوبية فآتاهم النبوّة والدرجات العالية فهم ايضاً وفوا بعهد العبودية فلم يغفلوا عنها طرفة عين. قوله ) ولوطاً ( عن الزجاج أنه معطوف على ) أوحينا ( وعن أبي مسلم أنه معطوف على قوله ) ولقد آتينا إبراهيم ( والحكم الحكمة ، وقيل الفصل بين الخصوم ، وقيل النبوة والقرية سذوم والمراد أهلها وخبائثهم مشهورة قد عددت في ( الأعراف ) وفي ( هود ). و ) قوم سوء ( نقيض رجل صدق ) وأدخلناه في رحمتنا ( أي أهل رحمتنا أو في الجنة والثواب. عن ابن عباس والضحاك. وقال مقاتل : هي النبوة أي أنه لما كان من الصالحين آتيناه النبوة كي يقوم بحقها. وقال أهل التحقيق : حين آتاه الحكم والعلم وتخلص من جلساء السوء فتحت عليه أبواب المكاشفات وتجلت له أنوار الذات والصفات وإنها هي الرحمة في الحقيقة. قوله ) ونوحاً ( وكذا نظائره معطوف على قوله ) ولقد آتينا ( أو المراد واذكر نوحاً. و ) إذ نادى ( بدل منه اي اذكر وقت ندائه ) من قبل ( هؤلاء المذكورين والنداء(5/35)
" صفحة رقم 36 "
هو دعاؤه على قومه بنحو قوله ) رب إني مغلوب فانتصر ) [ القمر : 10 ]. وقوله ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ) [ نوح : 26 ] بدليل قوله ) فاستجبنا له فنجيناه وأهله ( أي أهل دينه وهم من معه في الفلك ) من الكرب العظيم ( وهو الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه وإيذائهم. وفي لفظ الكرب وهو الغم الذي يأخذ بالنفس ، ثم وصفه بالعظم إشعار بأنه عليه السلام لقي من قومه أذى شديداً لا يكتنه كنهه. ثم زاده بياناً بقوله ) ونصرناه ( الاية. تقول : نصرته منه فانتصر إذا جعلته منتصراً منه أي منتقماً. ) وداود وسليمان إذ يحكمان في ( شأن ) الحرث إذ نفشت ( ظرف ) ليحكمان ( وهو حكاية حال ماضية. قال ابن السكيت. النفش بالتحريك أن ينتشر الغنم بالليل من غير راع وعليه جمهور المفسرين. وعن الحسن : إنه يكون ليلاً ونهاراً. وليس في قوله ) وكنا لحكمهم ( دلالة على أن أقل الجمع اثنان لاحتمال أ ، ه أرادهما والمتحاكمين إليهما. والضمير في ) ففهمناها ( للحكومة أو الفتوى. ويروى أنه دخل رجلن على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث. اي زرع. وقيل كرم - والآخر صاحب غنم. فقال صاحب الحرث : إن غنم هذا دخلت حرثي وأكلت منه شيئاً. فقال داود : اذهب فإن الغنم لك. فخرجا فمرا على سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال : كيف قضى بينكما ؟ فأخبراه. فقال : لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا. فأخبر بذلك أبوه فدعاه وقال : كيف كنت تقضي بينهما ؟ قال : أدفع الغنم غلى صاحب الحرث فتكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا عاد الحرث من العام القابل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم غلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه. قال أبو بكر الأصم : الحكمان واحد لأن الثاني بيان للأول. والمشهور عن الصحابة ومن بعدهم أنهما متغايران لقوله ) وكنا لحكمهم ( ولقوله : ( ففهمناها ( والفاء للتعقيب فدل على أنه فهم حكماً خلاف الأول. وعلى تقدير الاختلاف فهما بالوحي أو بالاجتهاد ، فيه خلاف بين العلماء ، فمنهم من لم يجوز الاجتهاد على الأنبياء أصلاً كالجبائي لقوله : ( وما ينطق عن الهوى ) [ النجم : 3 ] ( أن أتبع إلا ما يوحى إليّ ) [ الأنعام : 50 ] ولأن النبي قادر على تحصيل حكم الواقعة بالنص ، ولأن مقتضى الاجتهاد مظنون وخلاف المظنون لا يوجب الكفر وخلاف الرسول يوجب الكفر ، ولما ثبت أن النبي صلى الله عليه سولم كان يتوقف في بعض الأحكام انتظاراً للوحي ولو جاز له الاجتهاد لم يتوقف ، ولأنه لو جاز على النبي لجاز على جبرائيل ايضاً وحينئذ يرتفع الأمان عن الوحي فلعل هذه الشرائع من مجتهدات جبرائيل. وأجيب بأنه إذا أوحي إليه جواز الاجتهاد له صح قوله : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) [ النجم : 3 - 4 ] وبأن الحكم الحاصل عن الاجتهاد مقطوع لا مظنون لأنه تعالى إذا قال له(5/36)
" صفحة رقم 37 "
مهما غلب على ظنك كون الحكم في الأصل معللاً بكذا ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فهذا الحكم مقطوع به والظن واقع في طريقه. سلمنا جواز المخالفة لكنه مشروط بصدوره عن غير معصوم ، ولهذا لو اجتمعت الأمة على مسألة اجتهادية امتنع خلافهم. وكان الرسول أوكد ، وبأن التوقف لعله وجد منه حين لم يظهر له وجه الاجتهاد وبأن الأمة أجمعوا على عدم جواز اجتهاد جبرائيل. ومما يدل على جواز الاجتهاد لنا أنه إذا غلب على ظن المجتهد أحد الطرفين فإن عمل بهما كان جمعاً بين النقيضين ، وان أهملهما لزم ارتفاع النقيضين ، وإن عمل بالمرجوح دون الراجح فذلك باطل بالاتفاق فلم يبق إلا العمل بالراجح. قال الجبائي : ولئن سلمنا أن الاجتهاد على الأنبياء جائز لكن هذه المسألة غير اجتهادية لأن الذي أتلفه صاحب الماشية مجهول المقدار ، فكيف يجعل الغنم في مقابلة ذلك ؟ وأيضاً إن اجتهاد داود إن كان صواباً فالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ، وإن كان خطأ فكيف لم يذكر الله توبته بل مدحه بقوله ) ( وكلا آتينا حكماً وعلماً ( وايضاً لو حكم بالاجتهاد لم يسم ذلك علماً ، وأيضاً قوله ) ففهمناها ( يدل على أنه من الله لا من سليمان. ولأأجيب بأن الجهالة بعد تسليمها قد تكون معفواً عنها كما في حكم المصراة ، ولعل الخطأ في اجتهاده كان من الصغائر فلهذا أهمل ذكره والاجتهاد من باب العلوم والظن في الطريق كما مر ، والذي يحصل في نظر المجتهد مستند إلى الله. أما الذين منعوا من الاجتهاد مطلقاً أو في هذه المسألة ، فذهبوا غلى أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان ، ولا استبعاد في أن يوحي الناسخ غلى غير من أوحى غليه المنسوخ. قال الفقهاء : مثال حكومة داود في شرعنا قول أبي حنيفة في العبد إذا جنى على النفس خطأ يدفعه المولى بذلك أو يفديه ، وعند الشافعي يبيعه في ذلك ويفديه ، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث. ومثال حكومة سليمان قول الشافعي فمن غصب عبداً فأبق من يده فإنه يضمن القيمة فينتفع به المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد ، فإذا ظهر العبد يرد ويقال له ضمان الحيلولة. هذا ولو وقعت هذه القضية في شرعنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه لا بالليل ولا بالنهار ، لأن جرح العجماء جبار. غلا أن يكون معها راع. والشافعي يوجب الضمان بالليل دون النهار لأن الليل وقت الهدوء وجمع الماشية ، فتسريحها تقصير من صاحبها بخلاف النهار. وعن البراء بن عازب أنه كانت له ناقة ضاربة فدخلت حائطاً فأفسدته ، فذكروا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها ، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها ، لأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل. قال بعض الأصوليين : كل مجتهد مصيب لقوله ) وكلا آتينا حكماً وعلماً ( وقال(5/37)
" صفحة رقم 38 "
بعضهم : المصيب واحد لقوله ) ففهمناها سليمان ( ولو كان كلاهما مصيباً لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم فائدة. وضعف بعضهم كلا الاستدلالين بعد تسليمهما بأن ما ثبت في شرعهم لا يلزم أن يكون ثابتاً في شرعنا. ولما مدح داود على سبيل الاشتراك ذكر ما يختص بكل منهما فبدأ بداود قائلاً : ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن ( أي حال كونهن مسبحات أو هو استئناف كأنه قيل : كيف سخرهن ؟ فقال : ( يسبحن ( ) والطير ( وهو معطوف على الجبال أو مفعول معه ، وتسبيح الجبال إما حقيقة أو مجاز وعلى الأول قال مقاتل : كان إذا سبح داود سبح الجبال والطير معه. وقال الكلبي : إذا سبح داود أجابته الجبال. وقال سليمان بن حيان : كان داود إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطاً واشتياقاً. وعلى الثاني قيل : كانت الجبال تسير معه حيث سار فكل من رآها كان يسبح الله تعالى ، فلما حملت على التسبيح وصفت به وهذا القول اختيار كثير من أصحاب المعاني والمعتزلة ، لأن الجماد غير قابل للحياة والفهم عندهم ، ولأن المتكلم هو الذي يفعل الكلام لا الذي يكون محلاً للكلام ، ولهذا يقال : إن المتكلم هو الله حين كلم موسى لا الشجرة. وإنما قدم التسبيح الجبال على الطير لأن ذلك أدل على القدرة وأدخل في الإعجاز ، فإن الطير أقرب إلى الحيوان الناطق من الجماد ولا يلزم من نطق الطير أو الجبل أن يكونا مكلفين فليس كل ناطق مكلفاً كالأطفال والمجانين : ( وكنا فاعلين ( اي قادرين على أن نفعل أمثال هذه الخوارق على أيدي الأنبياء لأجلهم وإن كانت عجيبة عندكم. واللبوس اللباس يقال : البس لكل حالة لبوسها والمراد الدرع. عن قتادة أ ، ها كانت صفائح فسردها وحلقها داود فجمعت الخفة والتحصين وتوارث الناس منه وعمت النعمة بها لكل المحاربين فلذلك قال ) فهل أنتم شاكرون ( قال علماء المعاني : هذا التركيب أدخل في الإنباء عن طلب الشكر من قولنا ( فهل أنتم تشكرون ) إذ المختار فيه أن يقدر مفسر محذوف اي هل تشكرون تشكرون. ومن قولنا ( أفأنتم شاكرون ) لأنه وإن كان ينبئ عن عدم التجدد لمكان الجملة الاسمية إلا أنه دون المذكور في القرآن فإن ( هل ) ادعى للفعل من الهمزة ، فترك الفعل معه يكون أدخل في الإنباء عن استدعاء المقام عدم التجدد لأن تخلف المعلوم عن العلة القوية يدل على وجود مانع أقوى منه إذا تخلف عن العلة الضعيفة. ثم حكى ما أنعم به على سليمان فقال ) ولسليمان ( أي وسخرنا له ) الريح ( حال كونها ) عاصفة ( ولا ينافي هذا قوله في ) فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ) [ ص : 36 ] لأن المراد أنها مع كونها في نفسها رخية طيبة كالنسيم كانت في عملها(5/38)
" صفحة رقم 39 "
عاصفة تحمل كرسيه من اصطخر إلى الشام ، أو أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفاً لهبوبها على حسب إرادته وأمره. وفي قوله ) وكنا بكل شيء عالمين ( غشارة أنه فعل كل ما فعل بالأنبياء المذكورين عن حكمة بالغة وتدبير محكم وإحاطة بأحومالهم وعلم باستئهالهم. قوله ) ومن الشياطين ( أي سخرنا من الشياطين ) من يغوصون له ( ويجوز أن يكون الكلام خبر أو مبتدأ و ( من ) موصولة أو موصوفة. كانوا يغوصون لأجله في البحار فيستخرجون الجواهر ) ويعملون عملاً دون ذلك ( أي متجاوزاً ما ذكر من بناء المدائن والقصور وسائر الصنائع العجيبة. قالت العلماء : الظاهر أن التسخير لكفارهم دون المؤمنين منهم لإطلاق الشياطين ولقوله : ( وكنا لهم حافظين ( أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يوجد منهم فساد في الجملة إذ كان من دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار. والحفظ إما بسبب الملائكة أو مؤمني الجن الموكلين بهم ، أو بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم مخالفته. قال ابن عباس في تفسيره : يريد أن سلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء. قبل الجبائي : كيف تتهيأ منهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة وإنما تمكنهم الوسوسة فقط ، فلعل الله تعالى كثف أجسامهم خاصة وقواهم على تلك الأعمال الشاقة وزاد في عظمهم معجزة لسليمان فلما مات سليمان ردهم إلى الخلقة الأولى. إذ لو أبقاهم على الخلقة الثانية لكان شبهة على الناس ، فلعل بعض الناس يدعي النبوة ويجعله دلالة عليها. واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه بأنك لم قلت : إن الجن أجسام فلعلهم من الموجودات التي ليست متحيزة ولا حالة في المتحيز. ولا يلزم منه الاشتراك مع الباري فإن الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فضلاً عن اللوازم السلبية. سلمنا أن الجن أجسام لكن لم قلت : إن البنية شرط للقدرة وليس في يدكم إلا الاستقراء الضعيف ؟ سلمنا أنه لا بد من تكثيف أجسامهم فمن اين يلزم ردهم إلى الخلقة الأولى ؟ فإن قال : لئلا يفضي غلى التلبيس. قلنا : إذا ثبت أن ذلك كان معجزة لنبي قبله لم يتمكن المتنبي من الاستدلال ومن عجيب قدرة الله سبحانه أن أصلب الأجسام في هذا العالم الحجارة والحديد ، وقد سخرهما الله تعالى لداود فأنطق الحجر ولين الحديد ، وفي ذلك دلالة باهرة على أ ، ه تعالى قادر على إحياء العظام الرميمة. ومن الغرائب أن الشياطين مخلوقة من النار وكان يأمرهم بالغوص في الماء ، وفيه إظهار الضد بالضد فتبارك الله رب العالمين. ومن عجائب القصص والأخبار حكاية أيوب عليه السلام وصبره على بلائه حتى صار مثلاً. عن وهب بن منبه أ ، ه كان من الروم من ولد عيص بن إسحاق وكانت أمه من ولد لوط اصطفاه الله وجعله نبياً ، ومع ذلك بسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله وكان له سبعة بنين وسبع(5/39)
" صفحة رقم 40 "
بنات وله أصناف المواشي وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ونخيل. وكان إبليس لا يحجب عن السموات حين أخرجه الله من الجنة حتى رفع عيسى عليه السلام فحجب عن أربع حتى إذا ولد نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) حجب عن جميع السموات إلا من استرق السمع. قال : فسمع غبليس تحاور الملائكة في شأن أيوب فأدركه الحسد فقال : يا رب إنك أنعمت على عبدك ايوب فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجرّبه بشدة ولا بلاء ، وأنا زعيم إن ضربته بالبلاء ليكفرن بك. فقال الله تعالى : انطلق فقد سلطتك على ماله. فجمع إبليس عفاريت الجن وقال لهم : ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال ايوب. فقال عفريت أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من النار فأحرقت كل شيء فقال إبليس : فأت الإبل ورعاتها. فذهب ولم يشعر الناس حتى ظهر من تحت الأرض ، إعصار لا يدنو منها شيء إلا احترق ، فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها. فذهب إبليس على شكل أولئك الرعاء إلى أيوب فوجده قائماً يصلي ، فلما فرغ من الصلاة قال : يا ايوب هل تدري ما الذي صنع ربك ؟ وأخبره بحال الإبل ورعاتها. فقال أيوب : إنها ماله إذا شاء نزعه. فقال إبليس : إن الناس منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان إلا في غرور ، ومنهم من يقول : لو كان إلهه يقدر على شيء لمنع من وليه. ومنهم من يقول : بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به أعداءه ويفجع به أصدقاءه فقال أيوب : الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني ، خرجت من بطن أمي عرياناً وأضجع في التراب عرياناً وأحشر إلى الله عرياناً ، ولو علم الله عرياناً ، ولو علم الله فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الرواح وصرت شهيداً وأوجر فيك. فرجع غبليس إلى أصحابه خاسئاً فقال عفريت آخر : عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتاً لا يسمعه ذو روح غلا خرجت روحه. فقال إبليس : فأت الغنم ورعاءها فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاؤها ، فخرج إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة غلى أيوب فقال له القول الأول ، ورد عليه أيوب الرد الأول ، فرجع غبليس صاغراً فقال له عفريت آخر : عندي من القوة إذا شئت تحولت رياحاً عاصفة أقلع كل شيء أتيت عليه قال : فاذهب إلى الحرث والثيران ، فأتاهم فأهلكهم وأخبر إبليس به ايوب فرد عليه مثل الرد الأوّل ، فجعل إبليس يصيب أمواله شيئاً فشيئاً حتى أتى على جميعها. فلما رأى غبليس صبره على ذلك صعد إلى السماء وقال : إلهي هل أنت مسلطي على ولده فإنها الفتنة الكاملة. فقال الله : انطلق فقد سلطتك ، فأتى أولاد ايوب في قصرهم فقلب القصر عليهم ثم جاء إلى أيوب متمثلاً بالمعلم وهو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه ودماغه فقال : لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل جميع أدمغتهم من أنوفهم لتقطع قلبك فلم يزل يقول هذا ويرققه حتى رق أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فحثاها على رأسه ، فاغتنم(5/40)
" صفحة رقم 41 "
ذلك إبليس ، ثم يلبث أيوب حتى استغفر واسترجع فصعد إبليس ووقف موقفه وقال : إلهي إنما هون أيوب خطب المال والولد لعلمه أنك تعيد له المال والولد ، فهل أنت مسلطي على جسده وإني لك زعيم لو ابتليته في جسده ليكفرن بك. فقال تعالى : انطلق فقد سلطتك على جسده وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه. فأتاه فنفخ في منخره حين هو ساجد فاشتعل منه جسده وخرج من فرقه إلى قدمه ثآليلن وقد وقعت فيه حكة لا يملكها فكان يحك بأظفاره حتى كشطت أظفاره ، ثم حكها بالمسوح الخشنة ثم حكها بالفخار والحجارة ، ولم يزل يحكها حتى تقطع لحمه وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشاً ، ورفضه الناس كلهم غير امرأته رحمة بنت إفرايم بن يوسف عليه السلام فكانت تصلح أموره. ثم إن وهباً طول في الحكاية غلى أن قال : إن أيوب عليه السلام أقبل على الله تعالى مستغيثاً متضرعاً إليه قائلاً : يا رب لأي شيء خلقتني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي ، يا ليتني كنت عرفت الذي أذنبته والعمل الذي عملت حتى صرفت وجهك الكريم عني. ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم ولياً وللأرملة قيماً. إلهي أنا عبد ذليل فإن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي. جعلتني للبلاء غرضاً وسلطت عليّ ما لو سطته على جبل لضعف عن حمله. غلهي تقطعت أصابعي وسقطت لهواتي وتناثر شعري وذهب المال وصرت أسال اللقمة فيطعمني من يمن بها عليّ ويعيرني بفقري وهلاك أولادي. قال الإمام أبو القاسم الأنصاري في جملة هذا الكلام : ليتك لو كرهتني لم تخلقني. ثم قال : ولو كان ذلك صحيحاً لاغتنمه إبليس فإن قصده أن يحمله على الشكوى وأن يخرجه من زمرة الصابرين. قلت : إن غرض إبليس لا يحصل بمجرد الشكوى وإنما كان عرضه أن يرتد أيوب عليه السلام ولهذا قال سفيان بن عيينة : من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعاً إذا كان في شكواه راضياً بقضاء الله تعالى إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء. الم تسمع قول يعقوب عليه السلام : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) [ يوسف : 86 ]. ومما حكاه الله سبحانه من شكوى أيوب قوله ) إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ( الضر بالفتح الضرر في كل شيء ، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال. قال جار الله : ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة عليه وذكر ربه بما يجب أن يصدر دعاء الرحمة عنه ولم يصرح بالمطلوب ، وحسن الطلب باب من أبواب الأدب. يحكى أن عجوزاً تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت : يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصا. فقال لها : ألطفت في السؤال لا جرم لأردنها تثب وثبة الفهود وملأ بيتها(5/41)
" صفحة رقم 42 "
حباً. وفي قوله : ( وأنت أرحم الراحمين ( رمز إلى أنه جواد مطلق لا يرحم لمنفعة تعود إليه ، ولا لمضرة يدفعها عنه ، ولا يطلب شيئاً ، ولا يجلب مدحاً وكل رحيم سواه. فأما رحمته لغرض من الأغراض أو لرقة طبع ونحو ذلك على أن تلك الرحمة أيضاً تتوقف على داعية يخلقها الله فيه ، والآفات والآلام التي تراها في هذا العالم كلها مستندة إلى صفة قهره التي لا بد لكل ملك منه أو مستتبعة لمصالح وغايات لا يعلمها إلا هو ، وإنها ضرورية في الوجود لاشتمالها على خيرات أكثر من الشرور. واختلف العلماء في السبب الذي لأجله دعا الله ايوب ؛ فعن أنس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : إن أيوب عليه السلام بقي في البلاء ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب ولابعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فدخلا عليه ذات يوم فوجدا ريحاً فقالا : لو كان أيوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة. قال : فما شق على أيوب شيء مما ابتلي به مثل ما سمع منهما. فقال : اللهم إن كنت تعلم إني لم أبت شبعان وأنا أعلم بمكان جائع فصدق وهما يسمعان ثم خر أيوب ساجداً. وقال : اللهم إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي فكشف الله ما به. وقال الحسن : مكث ايوب بعدما ألقي على الكناسة سبع سنين وأشهراً ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته صبرت معه وكانت تأتيه بالطعام. وكان أيوب مواظباً على حمد الله والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه فصرخ إبليس صرخة جزعاً من صبر أيوب فاجتمع جنوده من أقطار الأرض قالوا له : ما خبرك ؟ قال : أعياني هذا العبد الذي سالت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فإنه لا يزيد بالبلاء إلاّ صبراً وحمداً لله تعالى. فقالوا له : أي مكرك أين عملك الذي أهلكت به من مضى ؟ من اين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة ؟ قال : من قبل امرأته. قالوا : فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإِنه لا يستطيع أن يعصيها لأنه لا يقربه أحد غيرها. قال : أصبتم فانطلق حتى إذا أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل فقال : أين بعلك يا أمة الله ؟ قالت : هو هذا يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده. فظن إبليس أنها جزعت فطمع فيها ووسوس إليها وذكر لها ما كان بها من النعم والمال ، وذكرها جمال أيوب وشبابه. قال الحسن : فصرخت فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاها بسخلة وقال : لتذبح هذه باسم أيوب ويبرأ. قال : فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال وأين الماشية ؟ أين الولد ؟ أين الصديق ؟ أين اللون ؟ أين الحسن ؟ أين جسمك الذي قد بلى وقد صار مثل الرماد وتتردد فيه الدواب ؟ اذبح هذه السخلة واسترح ، فقال أيوب : أتاك عدوّ الله ونفخ فيك ويلك من أعطانا الذي تذكرين من المال والولد والصحة ؟ قالت : الله. قال : كم متعنا به ؟ قالت : ثمانين سنة. قال : فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء ؟ قالت : منذ سبع سنين وأشهر. قال : ويلك(5/42)
" صفحة رقم 43 "
ما أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة ، أمرتني أن نذبح لغير الله وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابك الذي تأتيني به فطردها. فلما نظر ايوب في شأنه وليس عنده لا طعام ولا شراب ولا صديق وقد ذهبت امرأته خر ساجداً وقال ) إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ( فقال : ارفع رأسك فقد استجبت لك ) اركض برجلك ) [ ص : 42 ] فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابة. إلا سقطت ثم ضرب رجله مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وقام صحيحاً ، وعاد غلى شبابه وجماله حتى صار أحسن مما كان حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب فجعل يضكه بيده فأوحى إليه : يا أيوب ألم أغنك ؟ قال : بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها. قال : فخرج حتى جلس على مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت : هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت وتأكله السباع لأرجعن إليه. فلما رجعت ما رأته في تلك الكناسة ولا تلك الحالة فجعلت تطوف وتبكي فدعاها أيوب وقال : ما تريدين يا أمة الله ؟ فقالت : أردت ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة. فقال : تعرفينه إذا رايته ؟ قالت : وهيل يخفى علي أحد يراه. فتبسم قائلاً : أنا هو. فعرفته بضحكه فاعتنقته ثم قال : إنك أمرتني أن أذبح لإبليس وإني أطعت الله وعصيت الشيطان فعافاني الله ببركة ذلك. الرواية الثالثة : قال الضحاك ومقاتل : بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات ، فلما غلب أيوب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والحجسم والجمال على مركب ليس كمراكب الناس وقال لها : أنت صاحبة أيوب ؟ قالت : نعم. قال : فهل تعرفيني ؟ قالت : لا. قال : أنا إله الأرض ، أنا صنعت بأيوب ما صنعت وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك جميع ما لكما من مال وولد فإن ذلك عندي. قال وهب : وسمعت أنه قال : لو أن صاحبك أكل طعاماً ولم يسم الله تعالى لعوفي مما فيه من البلاء. وايضاً قال لهاك لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى ارد عليك المال والولد وأعافي زوجك. فرجعت إلى أيوب فأخبرته فقال : أتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك ، ثم أقسم لئن عافاني الله لأجلدنك مائة جلدة وقال عند ذلك ) مسني الضر ( يعني من طمع إبليس في سجودي وسجود زوجتي له. الرواية الرابعة قال إسماعيل السدي : غن إبليس تمثل للقوم في صورة بشر وقال : تركتم أيوب في قريتكم أعدى إليكم ما به من العلة ، فأخرجوه غلى باب البلد ثم قال لهم :(5/43)
" صفحة رقم 44 "
إن امرأته تدخل عليكم وتعمل وتمس زوجها أما تخافون أن تعدي غليكم علته ، فحينئذ لم يستعملها أحد فتحيرت وكان لها ثلاث ذوائب فعمدت غلى إحداها وقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزاً ولحماً فقال أيوب : من أين هذا ؟ قالت : كل فإنه حلال. فلما كان من الغد لم تجد شيئاً فباعت الثانية ، وكذلك فعلت في اليوم الثالث وقالت : كل فإنه حلال. فقال : لا آكل أو تخبريني فأخبرته فبلغ ذلك من أيوب ما الله به عليم فقال : ( رب إني مسني الضر (. والرواية الخامسة قيل : سقطت دودة من فخذه فرفعها وردها غلى موضعها وقال : قد جعلني الله طعمة لك فعضته عضة شديدة فقال : ( مسني الضر ( فأوحى الله إليه : لولا أني جعلت في كل شعرة منك صبراً لما صبرت. واعلم أن مس الضر ههنا مطلق إلا أنه ورد في ( ص ) مقيداً وذلك قوله ) أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) [ ص : 41 ] فصح أن يكون سنداً لهذه الروايات إلا أن الجبائي طعن فيها بأن الشيطان كيف يقدر على إحداث الأمراض والاسقام والقادر على ذلك قادر على خلق الأجسام وحينئذ يكون إلهاً. وأيضاً إن هذه التأثيرات تنافي قوله سبحانه حكاية عنه ) وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم ) [ إبراهيم : 22 ] والجواب أنه كان بإذن من الله كما حكينا أن الأمور مرهونة بأوقاتها. وقال انتهاء أمراض الأنبياء إلى حد التنفير من القبول غير جائز. والجواب المنع ولا سيما بشرط العافية في العاقبة. قوله سبحانه ) فكشفنا ما به من ضر ( مجمل يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله. وقوله : ( وآتيناه أهله ومثلهم معهم ( تفصيل لذلك المجمل وفيه قولان : الأول قال ابن عباس وابن مسعود وقتادة ومقاتل والكلبي : إن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم. والثاني قال الليث : ارسل مجاهد غلى عكرمة وسئل عن الآية فقال : أراد أهلك لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا. فقد روي أن زوجته ولدت بعد ذلك ستة وعشرين ابناً له. ثم بين الحكمة في ذلك الابتلاء ثم الاستجابة بقوله ) رحمة من عندنا ( لأيوب ) وذكرى ( لغيره من العابدين للرحمن أو الرحمة والذكرى كلاهما ) للعابدين ( لكي يتفكروا فيصبروا كما صبر حتى يثابوا في الدارين كما أثيب. وإنما خص الرحمة والتذكرة بالعابدين لأنهم هم المنتفعون بذلك لا الذين يعبدون الهوى والشيطان. قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة ) رحمة من عندنا ( وقال في ( ص ) ) رحمة منا ) [ ص : 43 ] لأنه بالغ ههنا في الدعاء بزيادة قوله : ( وأنت أرحم الراحمين ( فبالغ في الاستجابة لأن لفظ ( عند ) يدل على مزيد التخصيص وأنه سبحانه تولى ذلك من غير واسطة. وحين ذكر صبر أيوب وانقطاعه إليه ذكر غيره من الأنبياء المشهورين بالصبر منهم(5/44)
" صفحة رقم 45 "
إسماعيل عليه السلام ، صبر على الانقياد للذبح وعلى الإقامة بوادٍ لا زرع فيه ولا ضرع ، وصبر على بناء البيت ورفع قواعده ، فلا جرم أخرج الله ببركة ذلك من صلبه خاتم النبيين ، ومنهم إدريس وقد مر ذكره في سورة مريم. قال ابن عمر : بعث إلى قومه داعياً لهم غلى الله فأبوا فأهلكهم الله ورفع إدريس إلى السماء. ومنهم ذو الكفل قيل : هو زكريا وعلى هذا فقد تقدمت قصته أيضاً. وفي هذا القول نظر ، لأن قصة زكريا تجيء عن عقيب فيلزم التكرار. وقيل : هو غلياس وكان خمسة من الأنبياء ذوي اسمين : إسرائيل ويعقوب ، وإلياس وذو الكفل ، وعيسى والمسيح ، ويونس وذو النون ، ومحمد وأحمد. وقيل : يوشع بن نون سمي بذلك لأنه ذو الحظ من الله ديناً ودنيا ، أو لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم. وقال أبو موسى الأشعري ومجاهد : إنه لم يكن نبياً ولكن كان عبداً صالحاً ، وقال الحسن والأكثرون : إنه من الأنبياء وهذا أقرب لأنه معطوف عليهم معدود فيما بينهم. يروى عن ابن عباس أن اليسع أو نبياً آخر في بني إسرائيل قربت وفاته فأراد أن يستخلف رجلاً على الناس فقال : من يقبل مني خلافتي على أن يصلي بالليل ويصوم بالنهار ويقضي بين الناس فلا يغضب ؟ فقام رجل وقال : أنا أتكفل لك هذه الثلاثة فدفع إليه ملكه ووفى بما ضمن ، فحسده إبليس فأتاه وقت القيلولة فقال : إني لي غريماً قد ظلمني حقي وقد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به ، فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة وعاد إلى صلاته وصلى ليله إلى الصباح ، ثم أتاه من الغد وقال مثل ذلك حتى شغله عن القيلولة وهكذا في اليوم الثالث. وقيل : إنه في اليوم الثالث قال للبواب : قد غلب عليّ النعاس فجاء إبليس فلم يأذن له البواب فدخل من كوة البيت ودق الباب من داخل ، فاستيقظ الرجل وعاتب البواب فقال : أما من قبلي فلم تؤت فقام إلى الباب ، فإذا هو مغلق وإبليس على صورة شيخ في البيت فقال له : أتنام والخصوم على الباب فعرفه وقال : إبليس ؟ قال : نعم. أعييتني في كل شيء فعلت هذه الأفعال لأغضبك فعصمك الله مني فسمي ذا الكفل لأنه قد وفى بالكفالة. ولا خلاف أن ذا النون هو يونس لأن النون هو المسكة والاسم إذا دار بين أن يكون لقباً مخصاً وتبين أن يكون مقيداً فحمله على المقيد أولى. واختلفوا في أن وقوعه في بطن الحوت كان قبل اشتغاله بأداء الرسالة أو بعد. أما القول الأوّل فعن ابن عباس أن يونس وقومه كانوا من فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف ، فأوحى الله تعالى إلى شعيب عليه السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له حتى يوجه نبياً قوياً فإني ألقي في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فقال له الملك : من ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ؟ فقال :(5/45)
" صفحة رقم 46 "
يونس بن متى. فإنه قويّ أمين. فدعاه الملك وأمره أن يخرج فقال له يونس : هل أمرك الله بإخراجي ؟ قال : لا. قال : فههنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضباً للملك ولقومه فأتى بحر الروم فوجد قوماً هناك وسفينة فركب معهم فاضطربت السفينة حتى كادوا أن يغرقوا فقال الملاحون : ههنا رجل عاصٍ أو عبد ىبق لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح ، إلا وفيها رجل عاصٍ ، ومن عادتنا في مثل هذا البلاء أن نقترع فمن خرجت له القرعة ألقيناه في البحر حتى تسلم السفينة. فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة كلها على يونس. فقال : أنا الرجل العاصي والعبد الآبق وألقى نفسه في البحر فابتلعه حوت ، فأوحى الله تعالى إلفى الحوت لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجناً له ولم أجعله طعاماً لك. ثم نجاه الله من بطن الحوت فنبذه بالعراء كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا جلد ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرتها حتى اشتد ، فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس فقيل له. أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب سلامتهم ؟. فتوجه يونس نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فقال لملكهم : إن الله أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل. فقالوا : ما نعرف ما تقول ولو علمنا أنك صادق لفعلنا ولقد أتيناكم في دياركم وسبيناكم ، فلو كان كما تقول لمنعنا الله منكم. فطاف فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله إليه قل لهم : إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب. فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه. فقال علماؤهم : اطلبوه فإِن كان في المدينة فليس ما ذكره بشيء ، وإن كان قد خرج فهو كما قال. فطلبوه فلم يجدوه ، فلما أيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم وغنمهم وعزلوا الوالدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمعات ، فلما طلع الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاح الصبيان وثغت المواشي فرفع الله عنهم فبعثوا إلى يونس وآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل. القول الثاني وعليه أكثر المفسرين : أن قصة الحوت كانت بعد دعائه أهل نينوى وتبليغه رسالة الله إليهم كما مر في سورة يونس. واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه القصة من وجوه : الأوّل أنه ذهب مغاضباً لربه هكذا فسره ابن عباس وابن مسعود والحسن والشعهبي وسعيد وابن جبير ووهب واختاره ابن قتيبة ومحمد بن جرير ، ومن المعلوم أن مغاضبة الله من أعظم الذنوب. ولئن سلم أنه كان مغاضباً لقومه فذلك ايضاً محظور لأنه كان يجب أن يصبر معهم. الثاني قوله ) فظن أن لن نقدر عليه ( وهو شك في قدرة الله. الثالث اعترافه بأ ، ه من الظالمين والظلم من صفات الذم. الرابع : إخبار الله تعالى في موضع آخر(5/46)
" صفحة رقم 47 "
بقوله ) فالتقمه الحوت وهو مليم ) [ الصافات : 142 ] والمليم ذو الملامة. الخامس : قوله للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولا تكن كصاحب الحوت ) [ القلم : 42 ] وقال في موضع آخر ) فاصبر كما صبر ألوا العزم ) [ الأحقاف : 35 ] والجواب أ ، ه عليه السلام غضب لأجل ربه أنفة لدينه وبغضاً للكفر وأهله ، وغاضب قومه بمفارقته كي يخوّفهم حلول العقاب عليهم عندها. فغاية ما في الباب أن تلك المغاضبة ترك الأولى وهو الصبر على مشاق الرسالة بعد ادائها إلى أن يأذن الله له في المهاجرة. وعن الثاني أن معنى. ) لن نقدر عليه ( لن نضيق كقوله ) الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) [ الرعد : 26 ] ( ومن قدر عليه رزقه ) [ الطلاق : 7 ] فهو من القدر لا من القدرة ، ويجوز أن يكون من القدر بمعنى القضاء. قال الزجاج : يقال قدر الله الشيء قدراً وقدره تقديراً. والمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وابن عباس في رواية واختاره الفراء والزجاج. يقال : قدر الله عليه الضراء وقدر له السراء كما يقال : قدر القاضي على فلان أوله. ولئن سلمنا أنه من القدرة فالمراد القدرة بالفعل أي فظن أن لن نعمل فيه قدرتنا ، فالقدرة غير وإعمالها غير ، فظن انتفاء الأول كفر دون الثاني أو هو وارد على سبيل التمثيل والاستعارة أي كانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله ، أو هو استفهام بمعنى التوبيخ معناه أفظن أن لن نقدر عليه : عن ابن زيد. سلمنا الكل لكن هذه الواقعة لعلها قبل رسالته كما حكينا ومثل هذا الظن في حق غير الأنبياء لا يبعد بوسوسة الشيطان ، ولكن المؤمن يرده بعد ذلك بالبرهان. وعن البواقي أن الكل راجع إلى ترك الأولى ونحن لا ننكر ذلك وكفى بذكر يونس في عدد الأنبياء الصابرين الصالحين دليلاً على أنه لم يصدر عنه شيء ينافي عصمته والله تعالى أعلم. أما قوله ) فنادى في الظلمات ( فمعنى الجمع راجع إلى شدة الظلمة وتكاثفها أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله ) يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) [ البقرة : 257 ] وقيل : ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل : ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطن الحوتين وظلمة البحر. وقيل : إن الحوت إذا عظم غوصه في البحر كان ما فوقه من البحر ظلمة في ظلمة. ومعنى ) أن لا إله إلا أنت ( أي لا إله إلا أنت أو بأنه لا إله إلا أنت ) سبحانك ( تنزيه له عن كل النقائص. منها الظن المذكور على أي وجه فرض ، ومنها العجز عن تخليصه ، ومنها خلو ذلك الفعل عن حكمة كاملة. ) إني كنت من الظالمين ( بالفرار من غير إذن وأنا الآن من التائبين وفيه من حسن الطلب ما فيه فلذلك قال ) فاستجبنا له ( ثم بين الاستجابة بقوله ) ونجيناه من الغم ( أي من غمه بسبب كونه في(5/47)
" صفحة رقم 48 "
بطن الحوت وبسبب خطيئته ) و ( كما أنجينا يونس من كرب الحبس إذ دعانا ) كذلك ننجي المؤمنين ( من كل كرب إذا استغاثوا بنا. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له ). وعن الحسن : ما نجاه الله إلا إقراره على نفسه بالظلم. وقد بقي في الآية بحث لفظي وهو أن بعض أهل العربية غلطوا عاصماً في قراءته ) نجي ( بالتشديد والنون لا تدغم في الجيم. واستخرج بعضهخ له وجهاً وهو أن يكون ) نجي ( فعلاً ماضياً مجهولاً من التنجية لكنه أرسل الياء وأسند الفعل إلى الصمدر المضمر ونصب المؤمنين بذلك المصدر أي نجى نجاء المؤمنين كقولك ( ضرب الضرب زيداً ) ثم ضرب زيداً على إضمار المصدر ، وأنشد ابن قتيبة حجة لهذه القراءة : ولو ولدت فقيرة جرو كلب
لسب بذلك الجرو الكلابا
وقال أبو علي الفارسي وغيره من الأئمة المحققين : إن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر وإنما الوجه الصحيح في قراءة عاصم أن يحمل ذلك على الإخفاء ، فلعل الراوي التبس عليه فظنه إدغاماً. ثم بين انقطاع زكريا وتبتله غليه رغبة فيمن يؤنسه ويعينه في أمر دينه ودنياه وإن انتهى الحال به وبزوجته في الكبر إلى حد اليأس من ذلك عادة. وفي قوله ) وأنت خير الوارثين ( وجهان : أحدهما أنه ثناء على الرب بأن مآل كل الأمور إليه فيكون مؤكداً لما فوض إليه أمر الولد. والثاني أنه اراد إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث. وفي إصلاح زوجه وجوه : منها أنها جعلت صالحة للولادة بعد عقرها. ومنها أنها جعلت حسنة الخلق وكانت سيئة الخلق ، ولا شك أن حسن خلق الزوج نعمة عظيمة. وزمنه أن الإصلاح يتعلق بأمر الدين كأنه سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد والأهل جميعاً. ويرد على الوجه الأول إن إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد ، والجواب أن الواو لا تفيد الترتيب أو أراد بالهبة إرادة الهبة. أما الضمير في قوله ) إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ( فقد قيل : إنه عائد إلى زكريا وولده وأهله. وقال جار الله : إنه للمذكورين من الأنبياء عليهم السلام يريد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمسارعتهم في تحصيل الخيرات ، وهذا من أجلّ ما يمدح به المؤمن لأنه يدل على الجد والرغبة في الطاعة. ) ويدعوننا رغباً ( في ثوابنا ) ورهباً ( عن عقابنا. ومعنى ) خاشعين ( قال الحسن : ذللاً لأمر الله. وقيل : متواضعين. وعن مجاهد : الخشوع الخوف الدائم في القلب. وفي تقديم الجار والمجرور على ) خاشعين ( إشارة إلى أنهم لا يخشون أحداً إلا الله. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه الذي إذا ارخى ستره وأغلق بابه رأى الله منه خيراً ليس هو الذي يأكل خشباً اي علقاً ويبلس خشناً ويطأطئ رأسه. ولما فرغ من ذكر الرجال الكاملين ذكر من هي(5/48)
" صفحة رقم 49 "
سيدة نساء العالمين فمدحها بإحصان فرجها إحصاناً كلياً من الحلال والحرام جميعاً حتى إنها منعت جبرائيل جيب درعها قبل أن عرفته. والنفخ فيها عبارة عن إحياء عيسى في بطنها أي فنفخنا الروح في عيسى فيها كقول الزامر ( فنفخت في بيت فلان ) أي نفخت في المزمار في بيته ، أو المراد وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا - وهو جبرائيل - لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ غلى جوفها. وهذا البيان هو المراد في سورة التحريم فلذلك قال ) فنفخنا فيه ) [ التحريم : 12 ] أراد فرج الجيب أو غيره. وإنما قال ) وجعلناها وابنها آية للعالمين ( لأنه أراد أن مجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير أب. التأويل : الإشارات المفهومة من قصص الأنبياء أكثرها مرّ فلنذكر ما يختص بالمقام. منها قوله ) بل فعله كبيرهم ( أي الله الكبير لأن كسر الأصنام ليس من طبيعة الإنسانية بل من طبيعتها أن تنحتها ، فإن صدر من أحدهم كسرها فإنما ذلك بتوفيق الله وتأييده. فقوله ) هذا ( بدل الكل من الضمير في فعلهك ) قالوا احرقوه ( إذا أراد الله أن يكمل عبداً من عباده المخلصين فداه خلقاً عظيماً كما ااراد استكمال حوت في البحر فداه كثيراً من الحيتان الصغار ، فلما أراد تخليص جسد الخلة من غش البشرية جعل نمرود وقومه فداء له حتى أجمعوا على تحريقه ولم يعلموا أن تلك النار له نور. وذلك العذاب له روح وريحان ، لأن نار العشق قد احرقت أنانيته حتى لم ير غير الله بل لم يبق إلا هو فلم يمكن للنار أن تتصرف فيه فوقع قوله : ( قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ( تمثيلاً لهذا المعنى. بالنار خوفني قومي فقلت لهم
النار ترحم من في قلبه نار
ونجينا إبراهيم الروح ولوط القلب من أرض البشرية إلى أرض الروحانية المتبركة المشرفة المشرقة لتجلي الذات واصلفات. ) ونجيناه ( من قرية القالب. ) التي كانت تعمل الخبائث ( بالأوصاف البهيمية والسبعية ) وداود ( الروح ) وسليمان ( القلب ) إذ يحكمان في ( شأن حرث الدنيا ) إذ نفشت ( اي دخلت فيه في ظلمة ليل البشرية ) غنم القوم ( أي الصفات البشرية من غير راعي العقل فأفسدت الحرث بالإفراط والإسراف. فحكم الروح بانجذابه إلى عالمه بالكلية أن يمنع الأوصاف عن الصترف فيها مطلقاً. ) ففهمناها سليمان ( القلب لكونه متقلباً في طودي الروح والجسد أن يحكم بمنع التصرف فيها إلى أن يعود الحرث من حالة الإسراف فيه المؤدي إلى الفساد إلى حالة التوسط والاعتدال الذي هو المعتبر في باب الكمال والإكمال جمعاً بين المصلحتين ورعاية للجانبين. ) وسخرنا مع(5/49)
" صفحة رقم 50 "
داود الجبال ( وهي الأعضاء والجوارح التي فيها ثقل وكثافة ) يسبحن ( بتسبيحه ) والطير ( وهن القوى الحيوانية السيارة بل الطيارة بين قضاء القلب والقالب. هذا في الباطن ، وأما في الظاهر فإذا استولى سلطان الذكر على أجزاء البدن انعكس نوره في مرآة القلب إلى ما يحاذيها من الجمادات والحيوانات فيذكر ما يذكره كالحصاة سبحت في يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن بعض الصحابة أنه قال : كنا نأكل الطعام ونسمع تسبيحه ) وعلمنا صنعة لبوس لكم ( إن الله تعالى ألهم داود الروح كيفية إلانة القلب الذي هو في القساوة بمنزلة الحديد حتى يتولد من ذلك القلب أوصاف حميدة تحصن الإنسان من بأس الأعداء التي هي النفس والهوى والشيطان. وسخرنا لسليمان ( القلب ريح الروح الحيواني فإنه مركب الروح الإنساني به يتهيأ له السير إلى مقام بورك له فيه ) ومن الشياطين ( وهم الأوصاف النفسية ) من يغوصون له ( في بحر الحديد فيستخرجون درر الفضائل الإنسية ) ويعملون عملاً دون ذلك ( من الوسائط والوسائل إلى تلك الفضائل : ( وكنا لهم حافظين ( من أن يزيغوا عن سواء السبيل ويميلوا عن جادة الشريعة وقانون الطريقة. قال أهل التحقيق : إذا بلغ الإنسان مبلغ الرجال البالغين سخر الله له بحسب مقامه السفليات والعلويات كما سخر لسليمان الريح والجن والشياطين والطير ومن العلويات الشمس حين ردت أجل صلاته ، وسخر لنبينا جميع السفليات والعلويات حتى قال ( زويت لي الأرض ) وقال ( أوتيت مفاتيح خزائن الأرض ) وكان الماء ينبع من بين أصابعه. وقال ( نصرت بالصبا ) وكانت الأشجار تسلم عليه وتسجد له وتنقلع بإشارته من مكانها وترجع ، والحيوانات تتكلم معه وتشهد بنبوته. وقال ( أسلم شيطاني على يدي ). وأما من العلويات فقد انشق القمر بإشارته وسخر له البراق وجبرائيل ، وعبر السموات والجنة والنار والعرش والكرسي إلى مقام قاب قوسين أو أدنى. ) وأيوب ( القلب المبتلى بديوان الهواجس والوساوس الذي فارقه أوصافه الحمكيدة وأخلاقه الشريفة لشدة تألمه بالعلائق البدنية وعوائق الأمور الدنيوية ) فكشفنا ما به من ضر ( بأن قلنا(5/50)
" صفحة رقم 51 "
له ) إركض برجلك ) [ ص : 42 ] نظيره ) وألق ما في يمينك ) [ طه : 69 ] لينبع ماء حياة العلم والمعرفة فتسلم من تعلقات الكونين المؤذية للقلب والروح ) إذ ذهب ( من عالمه ) مغاضباً ( لغيره من المجردات فألقي في بحر الدنيا فالتقمه حوت النفس الأمارة بالسوء ، وابتلع حوت النفس حوت القالب ) فنادى ( في ظلمات حجب النفس والقالب والدنيا ) وزكريا ( الروح ) وهبنا له يحيى ( القلب ) واصلحنا له ( زوج القالب ) ويدعوننا رغباً ( في الفناء فينا ) ورهباً ( من البقاء بأنانيتهم ) وكانوا لنا خاشعين ( أما القالب فبأعمال الشريعة ، وأما النفس فبتهذيب الأخلاق ، وأما القلب فبالاطمئنان بذكر الله ، وأما السر فباجتهاده في كشف السرار ، وأما الروح فببذل الوجود في طلب المعبود ، وأما الخفي فبإفنائه في الله وبقائه بالله. ) ومريم ( النفس ) التي أحصنت ( قلبها عن تصرفات الكونين فأحييناها بالحياة الأبدية. ( الأنبياء : ( 92 - 112 ) إن هذه أمتكم . . . .
" إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون " ((5/51)
" صفحة رقم 52 "
القراآت : ( وحرم ( بكسر الحاء : حمزة وعلي وعاصم غير حفص وأبي زيد عن المفضل ) فتحت ( بالتشديد : ابن عامر ويزيد ويعقوب. ) لا يحزنهم ( بضم الياء وكسر الزاء يزيد ) نطوي ( بضم التاء الفوقانية وفتح الواو ) والسماء ( بالرفع : يزيد. ) للكتب ( على الجمع : حمزة وعلي وخلف وحفص ) بدأنا ( مثل ) أنشأنا ( ) قال ( بالألف على حكاية قول الرسول ) رب ( بحذف الياء اكتفاء بالكسرة : حفص غير الخراز ) رب ( بضم الباء على أنه مبتدأ ) احكم ( على صيغة التفضيل. يزيد عن يعقوب الباقون ) رب احكم ( ) يصفون ( على الغيبة : المفضل وابن ذكوان في رواية. الوقوف : ( واحدة ( ز لأن المقصود من قوله ) أنا ربكم ( قوله ) فاعبدون ( وكان الكلام متصلاً ) فاعبدون ( 5 ) وبينهم ( ط ) راجعون ( 5 ) لسعيه ( ج لاختلاف الجملتين ) كاتبون ( 5 ) لا يرجعون ( 5 ) ينسلون ( 5 ) كفروا ( ط لإضمار القول ) ظالمين ( 5 ) جهنم ( ط ) واردون ( 5 ) ما وردوها ( ط ) خالدون ( 5 ) فيها ( ط ) لا يسمعون ( 5 ) الحسنى ( لا لأن ما بعد خبر ( إن ) ) مبعدون ( 5 لا لأن ما بعده خبر بعد خبر ) حسيسها ( ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف ) خالدون ( 5 ج لاحتمال الجملة بعده أن تكون صفة أو استئنافاً ) الملائكة ( ط لأن التقدير قائلين هذا يومكم ) توعدون ( 5 ) للكتب ( ط لأن الجار يتعلق بما بعده ) نعيده ( ط لحق المضمر اي وعدنا وحقاً ) علينا ( ط ) فاعلين ( 5 ) الصالحون ( 5 ) عابدين ( 5 ط لاختلاف الجملتين ) للعالمين ( 5 واحد ج للاستفهام مع الفاء ) مسلمون ( 5 ) على سواء ( ط لابتداء النفي ) توعدون ( 5 ) تكتمون ( 5 ) حين ( 5 ) بالحق ( ط لأن ما بعده مبتدأ خارج عن المقول ، ومن قرأ ) ربي احكم ( فوقفه مجوز لنوع عدول من الواحد إلى الجمع ) تصفون ( 5. التفسير : لما فرغ من قصص الأنبياء أراد أن يذكر ما استقر عليه أمر الشرائع في آخر الزمان فقال ) إن هذه أمتكم ( وسيرتكم ، فالأمة الدين والطريقة لأنه أمصل وقانون يرجع إليه. وللتركيب دلالة على ذلك وهذا إشارة إلى ملة الإسلام أي إن هذه الملة هي طريقتكم وسيرتكم التي يجب أن تكونوا عليها حال كونها طريقة واحدة غير مختلفة. ) وأنا ربكم ( لا غيري ) فاعبدون ( والخطاب للناس كافة ، وكان الظاهر أن يقال بعده وتقطعتم أمركم ينكم أي جعلتم أمر دينكم بينكم قطعاً كما يقسم الشيء بين الجماعة فيصير لهذا نصيب ولهذا نصيب فصرتم فرقاً مختلفة وأحزاناً شتى ، إلا أنه عدل من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه يقبح أمرهم إلى غيرهم فيقول : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء ؟ عن(5/52)
" صفحة رقم 53 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون وخلصت فرقة وأن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة وتخلص فرقة واحدة قالوا : يا رسول الله ومن الفرقة الناجية ؟ قال : الجماعة الجماعة ) فهذا الحديث مفسر للآية من حيث بالاثنتين والسبعين فرقة اصول الأديان فإنها لا تبلغ هذا العدد ، وإن أراد الفروع فإنها أضعاف هذا العدد. وأجيب بأنه أراد ستفترق أمتي هذا العدد في حال ما ، وهذا لا ينافي كون العدد في بعض الأحوال أنقص أو أزيد. قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة ) فاعبدون وتقطعوا ( بالواو وفي ( المؤمنين ) ) فاتقون فتقطعوا ) [ الآية : 53 ] بالفاء لأن الخطاب ههنا أعم والعبادة أعم من التقوى. وأيضاً الخطاب يتناول الكفار وقد وجد منهم التقطع قبل هذا القول ، وفي سورة المؤمنين الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين بدليل قوله ) يا أيها الرسل كانوا من الطيبات ) [ الآية : 51 ] ثم قال ) فتقطعوا ) [ الآية : 53 ] اي ظهر منهم أي من أمتهم التقطع بعد هذا القول ولأن التقطع منهم أغرب أكده هناك بقوله ) زبراً ( وفي قوله ) كل إلينا راجعون ( وعيد عظيم للفرق المختلفة. ثم فصل مىل لهم بقوله ) فمن يعمل ( الآية والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه في قوله ) فأولئك كان سعيهم مشكوراً ) [ الإسراء : 19 ] وإنما لم يقل ( فلا يكفر سعيه ) لأن نفي الجنس أبلغ فإن نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها. وفي قوله ) وأنا له ( اي لذلك السعي ) كاتبون ( مبالغة أخرى فإن المثبت في الصحيفة أبعد من النسيان والغلط كما قيل : قيدوا العلم بالكتابة. ولا سيما إذا كان الكاتب ممن لا يجوز عليه السهو والنسيان. قال المفسرون : معناه حافظون لنجازي عليه. وقيل : مثبتون في أم الكتاب أو في صحف الأعمال. هذا حال السعداء وأما أحوال أضدادهم فذلك قوله ) وحرام ( ومن قرأ حرمر فإنه فعل بمعنى مفعول. والتركيب يدور على المنع اي ممتنع أو ممنوع وهذا خبر لا بد له من مبتدأ وذلك قوله ) أنهم لا يرجعون ( أو غير ذلك. والرجوع إما الرجوع عن الشرك إلى الإسلام أو الرجوع إلى الدنيا أو إلى الآخرة. وعلى الأول إما أن تكون ( لا ) زائدة أقحمت للتأكيد ومعنى الآية ممتنع على أهل قرية عزمنا على إهلاكها أو قدرنا إهلاكها أن يرجعوا أو يتوبوا إلى أن تقوم الساعة والمراد تصميمهم على الكفر. وإما أن تكون معيدة ولكن الحرام بمعنى الواجب تسمية لأحد الضدين باسم الآخر باشتراكهما في المنع إلا أن الوجوب منع عن(5/53)
" صفحة رقم 54 "
الترك والحرمة منع عن الفعل ، وقد ورد في الساتعمال مثل ذلك قال سبحانه ) قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الا تشركوا ) [ الأنعام : 151 ] وترك الشرك واجب وليس بمحرم ، وقالت الخنساء : وإن حراماً لا ارى الدهر باكياً
على شجوه إلا بكيت على عمرو
وعلى الثاني فالإهلاك على أصله ، والمعنى أن رجوعهم إلى الدنيا ممتنع أو عدم رجوعهم واجب إلى قيام الساعة نظيره قوله ) فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ) [ يس : 67 ] وعلى الثالث فقوله ( حتى ) غاية لقوله ) لا يرجعون ( اي ممتنع عدم رجوع المهلكين غلى عذاب الآخرة حتى الساعة ، وذلك أن رجوعهم غلى عذاب النار قبل الساعة واجب بقوله ) النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ) [ غافر : 46 ] وقال أبو مسلم : أراد أن رجوعهم إلى الآخرة واجب إلى هذه الغاية اي أ ، هم يكونون أول الناس حضوراً في محفل القيامة. وعلى الرابع فالمعنى وحرام عليهم ذلك وهو المذكور من السعي المشكور غير المكفور لأنهم لا يرجعون عن الكفر إلى أن تقوم الساعة. قوله تعالى ) حتى إذا فتحت ( ( حتى ) هي التي يقع بعدها الجملة وهي ههنا مجموع الشرط والجزاء و ( إذا ) المفاجأة تسد مسد فاء الجزاء ، وقد يجمع بينهما للتعاون على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد وإنما احتيج إلى هذا التأكيد لأن الشرط يحصل في آخر أيام الدنيا والجزاء إنما يحصل يوم القيامة ، ولعل بينهما فاصلة بالزمان إلا أن التفاوت القليل كالمعدوم والمضاف محذوف أي سد يأجوج ومأجوج وتأنيث الفعل لأنهما قبيلتان وهما ومن جنس الأنس كما مر في آخر الكهف. يقال : الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج. وفي الحديث ( إن منكم واحداً ومن يأجوج ومأجوج ألف ). قوله ) وهم من كل حدب ينسلون ( قال أكثر المفسرين : الضمير ليأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد. وعن مجاهد أنه لجميع المكلفين الذين يساقون إلى المحشر. والحدب ما إرتفع من الأرض والنسل الإسراع. ) واقترب ( عطف على ) فتحت ( وهو داخل في الشرط. و ) الوعد الحق ( القيامة وقوله ( فإذا هي شاخصة ( كقوله في سورة إبراهيم ) ليوم تشخص فيه الأبصار ) [ إبراهيم : 42 ] وقال في الكشاف : ( هي ( ضمير مبهم توضحه الأبصار وتفسره. قلت : فعلى هذا ) هي ( مبتدأ ) وشاخصة ( خبره ) وأبصار ( بدل ) هي ( ولو قيل : ( هي ( ضمير القصة مبتدأ والجملة التي هي أبصار الذين كفروا شاخصة خبره جاز وهو قول سيبويه. ثم ههنا إضمار اي يقولون ) يا ويلنا ( وهو في موضع الحال من الذين كفروا والعامل شاخصة ) قد كنا في غفلة من هذا ( الوعد أو الأمر ) بل كنا ظالمين ( أنفسنا بتلك الغفلة وبتكذيب الرسل وعبادة الأوثان. ثم بين حال معبوديهم يوم(5/54)
" صفحة رقم 55 "
القيامة فقال : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ( اي محصوبها بمعنى محصوب فيها ، والحصب الرمي ومنه الحصباء لأنه يرمى بها الشيء وقرئ حطب. واللام في قوله ) أنتم لها واردون ( كاللام في قوله ( هو لزيد ضارب ) وذلك لضعف عمل اسم فيما تقدم عليه. والمعنى لا بد لكم أن تردوها ولا معدل لكم عن دخولها. ثم ألزمهم الحجة بقوله ) لو كان هؤلاء ( المعبودون ) آلهة ( في الحقيقة ) ما وردوها ( لكنهم واردوها للخبر الصادق الذي يتنبه لصدقه من يتأمل في إعجازه فينتج أن هؤلاء ليسوا بآلهة وأنها لا تستحق تعظيماً أصلاً. ثم أخبر أنهم بعد ورودهم النار لا يخلصون منها أبداً فقال ) وكل ( اي من العابدين والمعبودين ) فيها خالدون لهم فيها زفير ( قد سبق معانيه في آخر سورة هود ) وهم فيها لا يسمعون ( شيئاً إما لأنهم يجعلون في توابيت من نار عن ابن مسعود ، وإما لأنه تعالى يصمهم كما يعميهم. والصمم في بعض الأوقات لا ينافي كونهم سامعين أقوال أهل الجنة في غير ذلك الوقت ، أو المراد أنهم لا يسمعون ما يسرهم ، أو الضمير للمعبودين والسماع سماع إجابة ، وعلى هذا فالضمير في ) لهم فيها زفير ( للعابدين وجاز اعتماداً على فهم السامع حيث يرد كلاً من الضميرين غلى ما يناسبهما كأنه قيل : العابد يدعو والمعبود لا يجيب ، ويجوز أن يكون للمعبودين أيضاً لأن فيهم من يتأتى منه الزفير كالشياطين فغلب ، أو لأن الجماد ينطقه الله وقتئذ والزفير بمعنى اللهيب والله أعلم. يروى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً ، فجلس غليهم فعرض له النضر بن الحرث وكلمه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أفحمه ثم تلا عليهم ) إنكم وما تعبدون من دون الله ( الاية. فأقبل عبد الله بن الزبعري فأخبره الوليد بن المغيرة بنا جرى فقال معترضاً : اليس اليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة ؟ فقال عليه السلام : بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك وأنزل الله تعالى ) إن الذين سبقت ( الآية. فخرج من الحديث. الآية جواب ابن الزبعري على أتم وجه وأكمله كأنه قيل أولاً إن الاية باقية على عمومها لأن الذين عبدوا عزيراً والمسيح والملائكة لم يعبدونهم في الحقيقة ، وإنما عبدوا الشياطين التي دعتهم إلى ذلك ، ولئن سلم أنهم عبدوهم في الحقيقة لكنهم مخصوصون بما سبقت لهم منا الخصلة الحسنى وهي السعادة أو البشرى بالثواب أو بتوفيق الطاعة وكل ميسر لما خلق له. ومن المفسرين من أجاب عن اعتراض ابن الزبعري بوجوه آخر منها : أن قوله ) إنكم ( خطاب لمشركي قريش وإنهم لم يعبدوا سوى الأصنام. ولقائل أن يقول : حمل الآية على العموم أتم فائدة. ومنها أن قوله ) وما تعبدون ( لا يتناول العقلاء فيسقط الاعتراض. ولقائل أن يقول : ما أعم لا مباين فيشمل ذوي العقول(5/55)
" صفحة رقم 56 "
وغيرهم ولهذا جاء ) والسماء وما بناها ) [ الشمس : 5 ] سبحان ما سخركن لنا. ومنها أنه تعالى يصور لهم في النار ملكاً على صورة من عبدوه ، وضعف بأن القوم لم يعبدوا تلك الصورة ، وبأن الملك لا يتعذب بالنار كخزنة جهنم. واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فقوله ) إن الذين ( لا يبعد أن يكون عاماً لكل المؤمنين ويؤيده ما روي أن علياً قرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف. وزعم مثبتوا لعفو أن الحسنى في الاية هي الوعد بالعفو لأنه قال ) أولئك عنها مبعدون ( بأزاء قوله ) أنتم لها واردون ( والورود الدخول فالإبعاد الإخراج من النار بعد أن كانوا فيها. وأيضاً إبعاد البعيد محال. وقوله ( لا يسمعون حسيسها ( إذ الصوت الذي يحس به مخصوص بما بعد الإخراج. وايضاً قوله ) لا يحزنهم الفزع الأكبر ( يفهم منه أنه يحزنهم الفزع الأصغر ، فالأكبر عذاب الكفار والأصغر عذاب صاحب الكبيرة ، والأكثرون على أن المراد من قوله ) مبعدون ( أنهم لا يدخلون النار ولا يقربونها ألبتة لأن ما جعل بعيداً عن شيء ابتداء يحسن أن يقال : إنه أبعد عنه ، وهؤلاء لم يفسروا الورود في قوله ) وإن منكم إلا واردها ) [ مريم : 71 ] بالدخول كما مر في سورة مريم. وفي قوله ) لا يسمعون حسيسها ( تأكيد للإِبعاد فقد لا يدخل النار ويسمع حسيسها. ثم بين أنهم مع العبد عن المنافي منتفعون بالقرب من الملائم ملتذون به على سبيل التأبيد فقال ) وهم فيما إشتهته ( ) أنفسهم ( أي فيما تطلبه اللالتذاذ به ) خالدون ( هذا نصيب أهل الجنة ، وأما أهل الله فهم فيما اشتهت قلوبهم وارواحهم وأسرارهم خالدون. والفزع الأكبر قيل : النفخة الأخيرة لقوله ) ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض ) [ النمل : 87 ] وعن الحسن هو الانصراف إلى النار فإنه لا فزع أكبر مما إذا شاهدوا النار ، وهذا أمر يشترك فيه أهل النار جيمعاً ، ثم مراتب التعذيب بعد ذلك متفاوتة. وعن الضحاك وسعيد بن جبير هو حين تطبق النار على أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة ، وقيل : حين يذبح الموت على صورة كبش أملح فعند ذلك يستقر أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة وتستقبلهم الملائكة مهنئين قائلين ) هذا يومكم ( اي وقت ثوابكم ) الذي كنتم توعدون ( ذلك قال الضحاك : هم الحفظة الذين كتبوا أعمالهم. والعامل في ) يوم نطوي السماء ( : ( لا يحزنهم ( أو ) تلقاهم (. والسجل اسم للطومار الذي يكتب فيه. وعن ابن عباس أنه ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه وهو مروي ايضاً عن علي رضي الله عنه. وروى أيضاً أبو الجوزاء عن ابن عباس أنه كاتب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وليس بمعروف. قال الزجاج : هو الرجل بلغة الحيش. فعلى هذه الوجوه فالطي وهو المصدر مضاف إلى الفاعل وعلى الوجه(5/56)
" صفحة رقم 57 "
الأول هو مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف كطي الطاوي للسجل وهو قول الأكثرين وإشتقاقه من السجل الدلو العظيم وقد قرئ به والتركيب يدل على الامتلاء والاجتماع ولهذا لا يسمى الدلو سجلاً إلا إذا كان فيه ماء ومنه ( أسجلت الحوض ملأته ). وقوله ( للكتاب ( أي للكتابة ومعناه ليكتب فيه أو لما يكتب فيه لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع على المكتوب. ومن جمع فمعناه للمكتوبات أي ما يكتب فيه من المعاني الكثيرة ، وكيفية هذا الطي لا يعلمها إلا من أخبر عن ذلك أما قوله ) كما بدأنا ( فمن المفسرين من قال : إنه ابتداء كلام ومنهم من قال : إنه وصف قوله ) هذا يومكم الذي كنتم توعدون ( بقوله ) يوم نطوي ( ثم عقبه بوصف آخر فقال ) كما بدأنا أول خلق ( وهو مفعول نعيد الذي يفسره ) نعيده ( و ( ما ) كافة أي نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيهاً للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء. فكما أوجده أولاً عن عدم يعيده ثانياً عن عدم. ومنهم من قال : الإعادة إنما تتعلق بالضم والتركيب بعد تفريق الأجزاء الاصلية والآية لا تطابقه كل المطابقة. وأول خلق كقولك ( هو أول رجل ) اي إذا فضلت رجلاً رجلاً فهو أولهم ، وإنما خص أول الخلائق بالذكر تصويراً للإيجاد عن العدم ودفعاً للاعتراض. وجوز جار الله أن تنتصب الكاف بفعل مصضمر يفسره نعيده و ( ما ) موصولة اي نعيد مثل الذي بدأنا نعيده و ) أول خلق ( ظرف ) لبدأنا ( أي أول ما خلق أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ وقوله ( وعداً ( مصدر مؤكد لأن قوله نعيد عدة للإعادة وقيل : أراد حتماً ) علينا ( لسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه فإن وقوع ما علم الله وقوعه واجب ثم حقق ذلك بقوله ) إنا كنا فاعلين ( اي سنفعل ذلك لا محالة فإنا قادرون عليه. عن سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد أن الزبور جنس للكتب المنزلة كلها ، والذكر أم الكتاب يعني اللوح ففيه كتابة كل ما سيكون اعتباراً للملائكة ، وكتب الأنبياء كلهم منتسخة منه ، وعن قتادة أن الزبور هو القرآن ، والذكر هو التوراة. وعن الشعبي أن الزبور هو كتاب داود عليه السلام والذكر التوراة. وجوز الإمام فخر الدين أن يراد بالذكر العلم أي كتبنا فيه بعد أن كنا عالمين غير ساهين. والمراد تحقيق وقوع المكتوب فيه ، والأرض أرض الجنة ، والعباد اصلالحون هم المؤمنون العالمون بما يجب عليهم نظيره قوله ) وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ) [ الزمر : 74 ] قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والسدي وأبو العالية. وإنما ذهبوا إلى هذا القول لأن أرض الدنيا تعم اصلالح وغير الصالح ، ولأن الآية وردت بعد ذكر الإعادة. وعن ابن عباس أيضاً في رواية الكلبي أنها أرض الدنيا يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكفار نظيره ) وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفكم في الأرض ) [ النور : 55 ](5/57)
" صفحة رقم 58 "
وقيل : الأرض المقدسة يرثها أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند نزول عيسى ابن مريم ) إن في هذا ( الذي ذكر في السورة من الأخبار والوعد والوعيد وغير ذلك ) لبلاغاً ( لكفاية ) لقوم عابدين ( عاملين بما ينبغي عمله من الخيرات بعدما عملوا من كيفية أدائها. والبلاغ ما يبلغ به المرء مطلوبه من الوسائط والوسائل ، ولا مطلوب أجل من سعادة الدارين فكل من كان وسيلة إلى نيل هذا المطلوب على الوجه الأتم الأكمل كان وجوده رحمة من الله للطالب المتحير وما ذاك إلا خاتم النبيين فلهذا قال ) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ( وكونه رحمة للكل لا ينافي قتله بعض الكفرة والتعرض لأموالهم وأولادهم كما أن كي بعض أعضاء المريض بل قطعه لا ينافي حذق الطبيب وإشفاقه على المريض ومن هنا قيل : آخر الدواء الكي. والعاقل لا ينسب التقصير إلى الفاعل لقصور في القابل. قالت المعتزلة : لو كان الكفر الكافر بخلق الله لم يكن إرسال الرسول رحمة له لأنه لا يحصل له حينئذ إلا لزوم الحجة عليه. وأجيب بأنه كونه رحمة للفجار هو أنهم أمنوا بسببه عذاب الاستئصال ، ولا لزوم الحجة يكون الرسول رحمة للمؤمنين من جهة كونه رحمة للكافرين ، والجواب المحقق أن كونه رحمة عامة بالنسبة غلى أمة الدعوة لا ينافي كونه رحمة خاصة بالنسبة غلى أمة الإجابة وهو قريب مما ذكرناه أولاً ، والحجة وتبعتها لازمة على الكافر وإن لم يبعث النبي غايته أنها بعد البعثة ألزم. وفي الآية دلالة على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من الملائكة لأنه رحمة لهم فإنهم من العالمين وعورض بقوله ) ويستغفرون لمن في الأرض ) [ الشورى : 5 ] والاستغفار رحمة. والجواب أن الرحمة بمعنى كونه في نفسه مكملاص في الغاية غير الرحمة بمعنى الدعاء ، فلا يلزم من كون الأول سبباً للأفضلية كون الثاني كذلك ، ثم بين أن أصل تلك الرحمة وأسها هو دعاؤه إلى التوحيد والبراءة عن الشرك فقال ) قال إنما يوحى إلي ( إن كانت ( ما ) موصولة فمعناه أن الذي يوحي إليَّ هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزه غلى ما يناقضها أو يضادها بأي قسمة فرضت وإن كانت كافة المعنى أن الوحي مقصور على استئثار الله بالوحدة ، وذلك أن القصر يكون أبداً لما يلي إنما وفي قوله ) فهل أنتم مسلمون ( بعث لهم على قبول هذا الوحي الذي هو أصل التكاليف كلها ، وفيه نوع من التهديد فلذلك صرح به قائلاً ) فإن تولوا فقل آذنتكم ( اي أعلمتكم والمراد ههنا أخص من ذلك وهو الإنذار ) على سواء ( هو الدعاء إلى الحرب مجاهرة كقوله ) فأنبذ عليهم على سواء ) [ الأنفال : 58 ] غلى وقت اي حال كونكم مستوين في ذلك لا فرق بين القريب والأجنبي والقاصي والداني والشريف والوضيع ولهذا قال أبو مسلم : الإيذان على سواء هو الدعاء إلى الحرب مجاهرة كقوله ) فأنبذ إليهم على سواء ) [ الأنفال : 58 ] وقيل : أراد أعلمتكم ما هو(5/58)
" صفحة رقم 59 "
الواجب عليكم من أصول التكاليف ولا سيما التوحيد على السوية من غير فرق في الإبلاغ بين مكلف ومكلف. ولست ) أدري أقريب ما توعدون ( أم بعيد والموعود قيل : هو عذاب الآخرة. واعترض بأنه ينافي قوله ) واقترب الوعد الحق ( وقيل : هو الأمر بالقتال لأن السورة مكية وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة. وقيل : هو إعلاء شأن الإسلام وغلبة ذويه فإنه لا بد أن يلحق للكفار حينئذ ذلة وصغار. ولما أمره أن ينفي عن نفسه علم الغيب أمره أن يقول لهم إن الله سبحانه هو العالم بالسر والعلن فيعلم ما تجاهرون به من المطاعن في الإسلام وما تكتمونه في صدوركم من الإحن والضغائن فيجازيكم على القبيلين ) وإن أدري لعله ( اي ما أدري لعل تأخير هذا الوعد أو إبهام وقته أو تأخير الأمر بالجهاد امتحان لكم لينظر كيف تعملون وتمنيع لكم ) إلى حين ( حضور وقت الموعد. وقال الحسن : لعل ما أنتم عليه من الدنيا ونعيمها بلية لكم. وقيل : اراد لعل ما بينت وأعلمت وأوعدت ابتلاء لكم لأن المعرض عن الإيمان مع البيان حالاً بعد حال يكون عذابه اشد. ومعنى ) رب احكم بالحق ( أقضى بيني وبين من يكذبني بالعذاب. قال قتادة : امره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء في هذه الدعوة وكانوا يقولون ) ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) [ الأعراف : 89 ] فاستجيب له فعذبوا ببدر ، وقال جار الله : بالحق لا تحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم كما قال ( أشدد وطأتك على مضر ) وقيل : معناه وافعل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع تنصرني عليهم كأنه سبحانه قال له : قل داعياً إليَّ رب احكم بالحق وقل متوعد للكفار ) وربنا الرحمن المستعان ( الذي يستعان به ) على ما تصفون ( من الشرك والكفر وما تعارضون به دعوتي من الأباطيل ، وكانوا يطمعون أن يكون لهم الغلبة والدولة فقلب الله الأمر عليهم. وفي هذا الأمر تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورفع عن مقداره حيث أمر بالانقطاع إلى الرب في دفع أذية القوم ليحصل له مع الخلاص من أذيتهم شرف الاستجابة وهذه غاية العناية. التأويل : ( إن هذه أمتكم ( فيه إشارة إلى أن السالك إذا عبر المقامات التي ذكرنا تصير متفرقات شمله مجتمعة في الفناء بالله والبقاء به ، فيكون أمة واحدة في ذاته كما أن إبراهيم كان أمة فيعرفه الله نفسه ويقول ) أنا ربكم ( الذي بلغتكم هذه الرتبة ) فاعبدون ( أي فاعرفون ) وتقطعوا أمرهم ( فمنهم من سكن إلى الدنيا ، ومنهم من سكن غلى الجنة ، ومنهم من فر إلى الله ) كل إلينا راجعون ( أما طالب الدنيا فيرجع غلى صورة قهرنا وهي جهنم ،(5/59)
" صفحة رقم 60 "
وأما طالب الآخرة فيرجع إلى صورة رحمتنا وهي الجنة ، وأما الذي يطلبنا فإنه يرجع غلينا بالحقيقة ) وإنا له كاتبون ( في الأزل من أهل السعادة ) حتى إذا فتح ( سد ) يأجوج ( النفس و ) مأجوج ( الهوى ، والسد أحكام الشريعة وفتحها مخالفاتها وموافقات الطبع وهم أعني دواعي النفس من كل معدن شهوة من الحواس الظاهرة والباطنة ) ينسلون ( فيفسدون ما يمرون عليه من القلب والسر والروح ) واقترب الوعد ( إهلاك القلوب الغافلة ) فإذا هي شاخصة ابصار ( بصائرها بالنهماك في الأهواء ) إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ( العناية الأزلية ) لا يسمعون حسيسها ( أعني مقالات أهل البدع والأهواء ) وهم فيما اشتهت أنفسهم ( المطمئنة المجذوبة بجذبة ) ارجعي ( في مقامات السير في الله ) خالدون ( الفزع الأكبر قوله في الأزل ( هؤلاء في النار ولا أبالي ) ) يوم نطوي ( سماء وجود الإنسان بتجلي صفات الجلال في إفناء مراتب الوجود من الانتهاء إلى الابتداء وذلك قوله كما بدأنا أول خلق نعيده ( يعني أن الرجوع يكون بالتدريح كما أن البدء كان بالتدريج خلق النطفة علقة ثم خلق العلقة مضغة ثم خلق المضغة عظاماً ثم كسا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر. ففي الإعادة يجب أن يمر السالك من الإحساس على الحيوانية ثم النباتية ثم المعدنية ثم البسائط العنصرية ثم الملكوتية ثم الروحانية ثم إلى صفات الربوبية بجذبة ) ارجعي إلى ربك ) [ الفجر : 28 ] ( ولقد كتبنا في الزبور ( أي في أم الكتاب ) من بعد الذكر ( أي بعد أن قلنا للقلم أكتب نظيره ) كن فيكون ) [ يس : 82 ] أن أرض جنة الوجود الحقيقي ) يرثها عبادي الصالحون ( وهم الذين طويت سماء وجودهم المجازي. فالوجود المجازي لكونه غير ثابت ولا مستقر كالسماء ، ولوجود الحقيقي لكونه ثابتاً ومستقراً على حالة واحدة كالأرض ) لقوم عابدين ( عارفين. ) وما أرسلناك ( من كتم العدم ) إلا رحمة للعالمين ( فلولاك لما خلقت الأفلاك ( أول ما خلق الله روحي ) ولولا الأزل لم تنته الهوية إلى الآخر والله أعلم .(5/60)
" صفحة رقم 61 "
سورة الحج
سورة الحج مكية إلا قوله ) هذان خصمان إلى صراط الحميد (
حروفها خمسة آلاف ومائة وخمسة وسبعون
كلمها ألف ومائتان وإحدى وتسعون آياتها ثمان وسبعون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الحج : ( 1 - 22 ) يا أيها الناس . . . .
" يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما(5/61)
" صفحة رقم 62 "
يغيظ وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق "
( القراآت )
سكرى ( في الحرفين على تأويل الجماعة : حمزة وعلي وخلف ) ونقر ( ) ثم نخرجكم ( بالنصب فيهما : المفضل ) وربأت ( بالهمزة حيث كان. يزيد ) ليضن ( بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ) خاسر الدنيا ( اسم فاعل منصوباً على الحالية. روح وزيد ) ثم ليقطع ( ) ثم ليقضوا ( بكسر اللام فيهما : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن عامر وورش وافق القواس في ) ليقضوا ( وزاد ابن عامر ) وليوفوا ( ) وليطوفوا ( وقرأ الأعشى ) وليوفوا ( بالتشديد ، وقرأ أبو بكر وحماد ) وليوفوا ( بالتشديد وسكون اللام. الباقون بالتخفيف والسكون ) هذان ( بتشديد النون : ابن كثير. الوقوف : ( ربكم ( ج على تقدير فإِن ) عظيم ( 5 ) شديد ( 5 ) مريد ( 5 لا لأن ما بعده صفة ) السعير ( 5 ) لنبين لكم ( ط لأن التقدير ونحن نقر ومن قرأ بالنصب لم يقف ) اشدكم ( ج لانقطاع النظم في اتحاد المعنى ) شيئاً ( ط ) بهيج ( 5 ) قدير ( 5 لا للعطف ) فيها ( لا ) القبور ( 5 ) منير ( 5 لا لأن ما بعده حال ) عن سبيل الله ( ط ) الحريق ( 5 ) للعبيد ( 5 ) حرف ( ج للشرط مع الفاء ) به ( لا للعطف مع الفاء مع الاستقلال ) على وجهه ( ق إلا لمن قرأ ) خاسر الدنيا ( ط ) والآخرة ( ط ) المبين ( 5 ) من ينفعه ( ط ) البعيد ( 5 ) من ينفعه ( ط ) العشير ( 5 الأنهارر ط ) ما يريد ( 5 ) ما يغيظ ( 5 ) بينات ( ط ) من يريد ( 5 ) يوم القيامة ( ط ) شهيد ( 5 ) من الناس ( ط وقيل : ( يوصل ( ويوقف على ) العذاب ( ط ) مكرم ( ط ) ما يشاء ( 5 ) في ربهم ( ز لعطف الجملتين المتفقتين مع أن ما بعده ابتداء بيان حال الفريقين أحدهما ) فالذين كفروا ( والثاني ) أن الله يدخل ( ) من نار ( ج 5 ) الحميم ( ج 5 لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً أو وصفاً على أن(5/62)
" صفحة رقم 63 "
اللام للجنس كما في قوله : ولقد أمر على اللئيم يسبني. ) والجلود ( 5 ط ) حديد ( 5 ) الحريق ( 5. التفسير : إنه قد أنجر الكلام من خاتمة السورة المتقدمة إلى حديث الإعادة وما قبلها أو بعدها كوراثة المؤمنين الأرض وما معها كطي السماء ، فلا جرم بدأ الله سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها حثاً على التثوى التي هي خير زاد إلى المعاد ويدخل في التقوى فعل الواجبات وترك المنكرات ، ولا يكاد يدخل فيها النوافل لأن المكلف لا يخاف بتركها العذاب وإنما يرجو بفعلها الثواب. ويمكن أن يقال : إن ترك النوافل قد يفضي إلى إخلال بالواجب فلهذا لا يكاد المتقي يتركها. يروى أن هاتين الآيتين نزلتا ليلاً في غزوة بني المصطلق فنادى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاجتمع الناس حوله فقرأهما عليهم فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة ، فلما اصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول ، ولم يطبخوا قدراً وكانوا من بين حزين وباك ومتفكر وهذه الزلزلة وهي المذكورة في قوله ) إذا زلزلت الأرض زلزالها ) [ الزلزلة : 1 ] ومعناها شدة التحريك ، وتضعيف الحروف دليل على تضعيف المعنى كأنه ضوعف زلل الاشياء عن مقارها ومراكزها. والإضافة غضافة المصدر غلى الفاعل على المجاز الحكمي العائد إلى الإسناد في قولك ( زلزلت الساعة الرض ) أو غلى المفعول فيه على الاتساع فلا مجاز في الحكم لأن المراد حينئذ هو أن فاعلها الله في القيامة قاله الحسن. وعن الشعبي هي طلوع الشمس من مغربها فتكون الإضافة بمعنى اللام كقولك ( اشراط الساعة ) قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن المعدوم شيء لأن الله تعالى سمى زلزلة الساعة شيئاً مع أنها معدومة. أجابت الأشاعرة بأن المراد هو أنها إذا وجدت كانت شيئاً عظيماً. وانتصب ) يوم ترونها ( أي الزلزلة بقوله ) تذهل ( أي تغفل عن دهشة ) كل مرضعة ( وهي التي ترضع بالفعل مباشرة لإرضاع وإنما يقال لها المرضع من غيرها إذا أريد معنى أعم وهو أنه من شأنها الإرضاع بالقوة أو بالفعل كحائط وطالق. وفي هذا تصوير لهول الزلزلة كأنه بلغ مبلغاً لو القمت المرضعة الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الخوف. و ( ما ) في ) عما ارضعت ( مصدرية أو موصولة أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل. عن الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. وإنما قال ) كل ذات حمل ( دون كل حامل ليكون نصاً في موضع الجنين فإن الحمل بالفتح هو ما كان في بطن أو على رأ شجرة ، والثاني خارج بدليل العقل فبقي الأول. قال القفال : ذهول المرضعة ووضع ذات الحمل حملها يحتمل أن يكون على جهة التمثيل كقوله ) يوماً يجعل الولدان شيباً ) [ المزمل : 17 ] ( وترى الناس ((5/63)
" صفحة رقم 64 "
أفرد بعد أن جمع لأن الزلزلة تراها الناس جميعاً ، وأما السكر الشامل للناس فإنه يراه من له أهلية الخطاب بالرؤية وقتئذ ولعله ليس إلا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قوله ) سكارى وما هم بسكارى ( أثبت السكر أولاً على وجه التشبيه فإن الخوف مدهش كالمسكر ، ونفاه ثانياً على التحقيق إذ لم يشربوا خمراً وهذه أمارة كل مجاز. روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم فيقول : لبيك وسعديك. فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار. قال : يا رب وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم فقالوا : يا رسول الله اينا ذلك الرجل ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد ، أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور البيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود ). واختلفوا في أن شدة ذلك اليوم تحصل لكل واحد أو لأهل النار خاصة فقيل : إن الفزع الأكبر يعم وغيره يختص بأهل النار وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون. وقيل : تحصل للكل ولا اعتراض لأحد على الله. ثم اراد أن يحتج على منكري البعث فقدم لذلك مقدمة تشمل أهل الجدال كلهم فقال ) ومن الناس من يجادل ( نظيره ) ومن الناس من يقول ) [ البقرة : 8 ] وقد مر إعرابه في أول البقرة. ومعنى ) في الله ( في شأن الله وفيما يجوز عليه ومالا يجوز من الصفات والأفعال ويفهم من قوله ) بغير علم ( أن المعارف كلها ليست ضرورية وأن المذموم من الجدال هو هذا القسم ، وأما الجدال الصادر عن العلم والتحقيق فمحمود مأمور به في قوله ) وجادلهم بالتي هي أحسن ) [ النحل : 125 ] والشيطان المريد العاتي سمي بذلك لخلوه عن كل خير وقد مر في قوله ) مردوا على النفاق ) [ التوبة : 101 ] والمراد إبليس وجنوده أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر. عن ابن عباس نزلت في النضر بن الحرث وكان مجادلاً يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين والله غير قادر على إحياء من بلي وصار تراباً. ومعنى ) كتب عليه ( قضي على ذلك الشيطان أو علم من حاله وظهر وتبين ، والأول يليق بأصول الأشاعرة ، والثاني بأصول الاعتزال. وقيل : المراد كتب على من يتبع الشيطان ، ولا يخلو عن تعسف أنه من تولى الشيطان اي جعله ولياً له اضله عن طريق الجنة(5/64)
" صفحة رقم 65 "
وهداه إلى النار ، قال صاحب الكشاف إن الأول فاعل ) كتب ( والثاني عطف عليه. وفيه نظر لأن ( من ) يبقى بلا جواب إن جعلت شرطية وبلا خبر إن جعلت موصولة. والصحيح أن قوله ) فأنه ( مبتدأ أو خبر محذوف صاحبهوالتقدير من تولاه فشأنه أن يضله أو أنه يضله ثابت اللهم إلا إذا جعلت ( من ) موصوفة تقديره كتب على من يتبع الشيطان أنه شخص تولى الشيطان فأنه كذا أي كتب عليه ذلك ، وحين نبه عموماً على فساد طريقه المجادلين بغير علم خصص المقصود من ذلك ، والمعنى إن ارتبتم في البعث فمعكم ما يزيل ريبكم وهو أن تنظروا في بدء خلقكم ، فبين التراب والنطفة والماء الصافي كماء الفحل لأنه ينطف نطفاناً أي يسيل سيلاً تاماً مباينة ، وكذا بين النطفة والعلقة وهي قطعة الدم الجامد لأنها إذ ذاك تعلق بالرحم ، وكذا بين العلقة والمضغة وهي قدر ما يمضغ من اللحم ، ولا ريب أن القادر على تقليب الإنسان في هذه الأطوار المتباينة ابتداء قادر على إعادته إلى أحد هذه الأطوار بل هذه أدخل في القدرة وأهون في القياس. قال الجوهري : المخلقة التامة الخلق. وقال قتادة والضحاك : أراد إنه يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك فلذلك يتفاوت الناسفي خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصهم. وقال مجاهد : المخلقة الولد يخرج حياً ، غير المخلقة السقط لأنه لم يتوارد عليها خلق بعد خلق وقيل : المخلقة المصورة وغير المخلقة ضدها وهو الذي يبقى لحماً من غير تخطيط وشكل ، ويناسبه ما روى علقمة عن عبد الله قال : إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكاً فقال : يا رب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال غير مخلقة مجتها الرحام دماً ، وإن قال مخلقة قال : يا رب فما صفتها أذكر أو أنثى ما رزقها وأجلها اشقي أم سعيد ؟ فيقول سبحانه : انطلق غلى الكتاب فاستنسخ منه هذه النطفة فينطلق الملك فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي آخر صفتها. وقوله ( لنبين لكم ( غاية لقوله ) خلقناكم ( أي إنما نقلناكم من حال إلى حال ومن طور غلى طور لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا. وفي ورود الفعل غير معدي إلى المبين إشعار بأن ذلك المبين مما لا يكتنه كنهه ولا يحيط به الوصف ، وقيل : اراد إن كنتم في ريب من البعث فإنا نخبركم أنا خلقناكم من كذا وكذا لنبيِّن لكم ما يزيل ريبكم في أمر بعثكم ، فإن القادر على هذه الأشياء كيف يعجز عن الإعادة ؟ ولما بين كيفية خلق الإنسان بالتدريج إلى أن نتكامل أعضاؤه اراد أن يبين أن من الأبدان ما تمجه الأرحام ، ومنها ما تنطوي هي عليه إلى كمال النضج والتربية ، فاسقط القسم الأول اكتفاء بالثاني فاستأنف قائلاً ) ونقر في الأرحام ما نشاء ( أن نقره من ذلك ) إلى أجل مسمى ( هو كمال ستة اشهر إلى أربع سنين غايتها عرفت بالاستقراء ) ثم نخرجكم ( أي كل واحد منكم طفلاً ، أو الغرض الدلالة على الجنس فاكتفي بالواحد ، ) ثم ( نربيكم شيئاً بعد شئ(5/65)
" صفحة رقم 66 "
) لتبلغوا اشدكم ( ومن قرأ ) ونقر ( بالنصب فمعناه خلقناكم مدرجين هذا التدريج لغايتين : إحداهما أن نبين قدرتنا ، والثانية أن نقر في الأرحام من نقر حتى تولدوا وتنسلوا وتبلغوا أحد التكليف. والأشد كمال القوة والتمييز كأنه شدة في غير شيء واحد فلذلك بني على لفظ الجمع قوله ) ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ( وقد مر في ( النحل ) شبيهه فليرجع إليه. ثم أكد أمر البعث بالاستدلال من حال النبات أيضاً فقال ) وترى ( أي تشاهد أيها المستحق للخطأ ) الأرض ( حال كونها ) هامدة ( ميتة يابسة لا نبات بها ، والتركيب يدل على ذهاب ما به قوام الشيء ورواؤه من ذلك. همدت النار هموداً طفئت وذهبت بكليتها وهمد الثوب هموداً بلي ) فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت ( تحركت ولا يكاد يستعمل الاهتزاز إلا في حركة تصدر عن سرور ونشاط ) وربت ( انتفخت وزادت كما مر في قوله ) زبداً رابياً ) [ الرعد : 17 ] وذلك في ( الرعد ) والمراد كمال تهيؤ الرض لظهور النبات منها. ومن قرأ بالهمزة فمعناه ارتفعت من قولهم ( ربأ القوم ) إذا كان لهم طليعة فوق شرف. ثم اشار غلى كمال حاله في الظهور بقوله ) وأنبتت من كل زوج ( أي بعضاً من كل صنف. ) بهيج ( والبهجة النضارة وحسن الحال ولهذا قال المبرد : هو الشيء المشرق الجميل. وإسناد الإنبات إلى الأرض مجاز لأن المنبت بالحقيقة هو الله ) ذلك ( الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض مع ما في تضاعيف ذلك من عجائب الصنع وغرائب الإبداع حاصل ( ب ) أمور خمسة : الأول ) أن الله هو الحق ( الثابت الذي لا محالة. الثاني أنه من شأنه إحياء الموتى. الثالث ) أنه على كل شيء قدير ( وهذا كالبيان لما تقدمه فإن القادر على كل شيء ممكن قادر لا محالة على إحياء الموتى لأنه من جملة الممكنات وبيان إمكانه ظاهر. فإن كل ما جاز على شيء في وقت ما جاز عليه في سائر الأوقات إذ لو امتنع فإما لغيره فالأصل عدمه ، وإما لذاته وهذا يقتضي أن لا يتصف به أولاً فإن ما بالذات لا يزول بالغير. الرابع والخامس قوله ) وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ( قال في الكشاف : معناه أنه حكيم لا يخلف ميعاده ، وقد وعد الساعة والبعث فلا بد أن يفي بما وعد. قلت : إن هذا التفسير غير وافٍ فلقائل أن يقول : فحاصل الآيات يرجع إلى قولنا ) إن كنتم في ريب من البعث خلقناكم ( بالتدريج وأحيينا الأرض بسبب أنا وعدنا الساعة ووعدنا صادق. وهذا كلام غير منتظم في الظاهر كما ترى ، ولو صح هذا لاستغنى عن التطويل بأن يقال مثلاً : لا تشكوا في أمر البعث فإنه كائن لا محالة. والذي يسنح لي في تفسيره أنه سبحانه أزال الشك في أمر البعث بقوله ) إن كنتم في ريب من البعث ( فمزيل(5/66)
" صفحة رقم 67 "
ريبكم هذان الاستدلالان ، ثم لما كان لسائل أن يسال لم خلق الإنسان وما يترتب عليه معاشه ؟ فأجيب بأن لهذا الشأن وهو خلق الإنسان أسباباً فاعلية وأسباباً غائية ، أما الأولى فهي أنه تعالى واجب الوجود الحق وأنه قادر على كل مقدور لا سيما إحياء الموتى الذي استدللنا عليه لأنه أهون ، وأن قدرته لا تظهر إلا إذا تعلقت بالمقدور ، فكمال القدرة بالفعل هو أن يتعلق بكل مقدور يصح في القسمة العقلية ، وهذا النوع من المثدور كان ثابتاً في القسمة لأنه وساطة بين العالم العلوي والعالم السفلي وله تعلق بالطرفين وانجذاب إلى القبيلين فوجب في الحكمة والقدرة إيجاده ما يتوقف عليه بقاؤه واستكماله. وأما علته الغائية فهي أن داره الأولى كانت دار تكليف وقد هيأنا له داراً أخرى لأجل الجزاء وذلك لا يحصل إلا بالبعث والنشور. ولعل هذا الموضع مما لم يفسره على هذا الوجه غيري أرجو أن يكون صواباً والله تعالى أعلم بمراده. قوله ) ومن الناس من يجادل ( عن ابن عباس أنه أبو جهل. وقيل : هو النضر أيضاً وكرر للتأكيد كما كرر سائر الأقاصيص ، وقال أبو مسلم : الأول في المقلدين فإنهم قد يجادلون تصويباً لتقليدهم. وهذا في المقلدين المتبوعين بدليل قوله ) ليضل عن سبيل الله ( قال العلماء : أراد بالعلم العلم الضروري وبالهدي النظري من العلم لأنه يهدي غلى المعرفة وبالكتاب المنير العلم السمعي المتعلق بالوحي. قال بعض أهل اللغة : العطف المنكب. وقال الجوهري : عطفا الرجل جانباه من لدن راسه غلى وركه ويقال : ( فلان ثنى عطفه عني ) اي أعرض. وقيل : هو عبارة عن الكبر والخيلاء كلي الجيد. قال جار الله : لما أدى جداله إلى الضلال جعل كأنه غرضه ، ولما كان الهدى معرضاً له فتركه وأعرض عنه بالباطل جعل كالخارج بالجدال ، وفسر الخزي ههنا بما اصابه يوم بدر. ) ذلك ( الذي مني به شيء من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ) بما قدمت يداه ( وباقي مباحث الآية قد سلف في آخر طآل عمران (. ثم أخبر عن شقاق أهل النفاق بقوله ) ومن الناس من يعبد الله على حرف ( أي على طرف من الدين لا في وسطه فهذا مثل لكونه مضطرباً في أمر الدين غير ثابت القدم كالذي يكون على طرف العسكر ينهزم بأدنى سبب ، وباقي الآية تفصيل لهذا الإجمال. قال الكلبي : نزلت في أعاريب قدموا المدنية فكان أحدهم إذا صح بدنه دخلت في ديني هذا إلا خيراً واطمأن به وقر. وإن كان الأمر بخلافه قال : ما اصبت إلا شراً وانقلب عن دينه الذي أظهره بلسانه وفر. وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة. وقيل : نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم الأقرع بن حابس والعباس بن مرداس. وعن أبي سعيد الخدري أن(5/67)
" صفحة رقم 68 "
رجلاً من اليهود اسلم فأصابته مصائب كذهاب البصر والمال والولد فتشاءم بالإسلام فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : أقلني. فقال : إن الإسلام يسبك كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة والإسلام لا يقال ونزلت الاية. والفتنة ههنا مخصوصة بالابتداء بالشرور والآلام لوقوعها في مقابلة الخير وهذا على الاستعمال الغالب وإلا فالخير ايضاً قد يكون سبباً للابتلاء كقوله ) ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) [ الأنبياء : 35 ] ثم حكى حاله في الدارين بقوله ) خسر الدنيا والآخرة ( أما خسران الدنيا بعد أن أصابه ما أصاب ففقدان العزة والكرامة والغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء ، وكون عرضه وماله ودمه مصونة ، وأما الآخرة فحرمان الثواب وحصول العقاب ابد الآباد ، ولا خسران أبين من هذا نعوذ بالله منه. وفي قوله ) يدعو من دون الله ( الآية. دلالة على أن المذكور قبلها إنما نزلت في أهل النفاق من المشركين لا من اليهود فإنهم لا يعبدون الصنام نعم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. قوله ) يدعو لمن ضره ( الآية. فيه بحث لفظي وبحث معنوي. أما الأول فهو أن ) يدعو ( بمعنى ) يقول ( والجملة بعده محكية ، و ) من ( موصولة أو موصوفة وعلى التقديرين هو مع تمامه مبتدأ ما بعده وهو ) لبئس المولى ( خبره واللام الثانية في الخبر لتأكيد اللام الأولى ، وهذا حسن بخلاف قوله ) أم الحليس لعجوز ( فإنه أدخل لام الابتداء في الخبر على سبيل الاستقلال ويجوز أن يكون ) يدعو ( تكراراً للأول وما بعده جملة مستأنفة على الوجه المذكور. وفي حرف عبد الله ) من ضره ( بغير لام ووجهه ظاهر ، وعلى هذا يكون قوله ) لبئس المولى ( جملة مستقلة. والمولى الناصر ، والعشير المعاشر اي الصاحب. وأما البحث المعنوي فهو أنه نفى الضرر والنفع عن الأصنام أولاً ثم أثبتهما لها ثانياً حين قال ) ضره أقرب من نفعه ( فما وجه ذلك ؟ والجواب أن المقصود في الاية الثانية رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم في الشدائد مستصوبين آراءهم ، لأن وصف المولى والعشير لا يليق إلا بالرؤساء. سلمنا أنه أراد في الموضعين الصنام إلا أنه أثبت الضر لها مجازاً لأنها سبب الضلال الذي هو سبب عذاب النار نظيره ) رب أنهن اضللن كثيراً من الناس ) [ إبراهيم : 36 ] وأثبت لها النفع بناء على معتقدهم أنها شفعاؤهم عند الله. والمراد يقول : هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ولا يرى أثر الشفاعة ) لمن ضره اقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير ( ذلك ، أو أراد يدعو من دون الله مالا يضره وما لا ينفعه ، ثم قال : لمن ضرهبكونه معبوداً أقرب من نفعه بكونه شفيعاً لبئس المولى. ثم لما بين حال المنافقين والمشركين أتبعها حال المؤمنين الذين معبودهم قادر على إيصال كل المنافع فقال ) إن الله يدخل ( الآية. قالت الأشاعرة : في قوله ) إن الله يفعل ما(5/68)
" صفحة رقم 69 "
يريد ( دليل على أنه خالق الإيمان وفاعله لأنه يريد الإيمان من العبد بالاتفاق. أجاب الكعبي بأنه يفعل ما يريده لا ما يريد أن يفعله غيره ، ورد بأن ما يريد أعم من قولنا ما يريده من فعله وما يريد من فعل غيره. قوله سبحانه ) من كان يظن أن لن ينصره الله ( في هذا الضمير وجهان : الأول وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختيار الفراء والزجاج أنه يرجع إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) للعلم به لأن ذكر الإيمان يدل على الإيمان بالله ورسوله ، وعلى هذا فالظان من هو ؟ قيل : كذا قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين يستنبطئون النصر فنزلت. وعندي في هذا القول بعد. وعن مقاتل نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا : نخاف أن الله لا ينصر محمداً فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود والأولى العموم. وكان حساده وأعداؤه يتوقعون أ ، لا ينصره الله وأن الله لا يغلبه على أعدائه فمتى شاهدوا أن الله ينصره غاظهم ذلك ، والسبب الحبل ، والسماء سماء البيت ، والقطع الاختناق لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه ، والمراد من كان يظن من حاسديه أن الله تعالى يفعل خلاف النصر والظفر وكان يغيظه نصرة الله إياه فليستفرغ جهده في إزالة ما يغيظه ، وليس ذلك غلا بأن يمد حبلاً إلى سماء بيته ثم يشده في عنقه ويختنق في عنقه وليصور في نفسه أنه إن يفعل ذلك هل يذهبن كيده ما يغيظه ، سمى فعله كيداً حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده وإنما كاد به نفسه. والحاصل ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ ، ومنهم من قال : السماء هي المظلة لأن الاختناق حينئذ أبعد عن الإمكان فيكون أصعب فيصرف الحاسد عن الغيظ إلى طاعة الله ورسوله. ومنهم من قال : مع ذلك أن القطع هو قطع المسافة أي فليصعد على الحبل إلى السماء ، والغرض تصوير مشقة من غير فائدة ، أو القطع قطع الوحي أو النصر أي فليصعد وليقطع الوحي أن ينزل عليه أو النصر أن يأتيه. الوجه الثاني أن الضمير عائد إلى ) من ( والنصر الرزق. قال أبو عبيدة : وقف علينا سائل من بني بكر فقال : من ينصرني نصره الله أي من يعطيني أعطاه الله. ووجه النظم من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فلهذا الظن يعدل عن التمسك بدين محمد وينقلب على وجهه كما مر فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق أو غير ذلك مما عددنا ، فإن الله لا يقلبه مرزقاً. وحين بين الأحوال وضرب الأمثال أشار إلى هذا المذكور بلفظ البعيد إما للتعظيم وإما لأن كل ما دخل في حيز الذكر وحصل في حيز كان فهو في حكم البعيد فقال ) وكذلك أنزلناه ( أي ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله ) آيات بينات وأن الله ( حرف التعليل وكذا معلله محذوف للعلم به اي ولأن الله ) يهدي من(5/69)
" صفحة رقم 70 "
يريد ( أنزله كذلك مبيناً. قالت الأشاعرة : المراد بالهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة والأول غير جائز ، لأن الله تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين ، ولأن قوله ) يهدي من يريد ( يدل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي معلقة بمشيئته ، ووضع الأدلة واجب فتعين أن المراد خلق المعرفة. أجاب القاضي عبد الجبار بأنه اراد تكليف من يريد لأن التكليف لا يخلو من وصف ما كلف به ومن بيانه ، أو أراد يهدي إلى الجنة ، والإثابة من يريد ممن آمن وعمل صالحاً ، أو يعهدي به الذين يعلم منهم الإيمان أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى ، وإلى هذين الوجهين أشار الحسن بقوله ) إن الله يهدي ( من قبل لا من لم يقبل. واعترض بأن الله سبحانه وتعالى ذكر هذا الكلام بعد بيان الأدلة والجواب عن الشبهان فلا يجوز حمله على محض التكليف ، وأما الوجوه الأخر فخلاف الظاهر مع أن ما ذكرتموه واجب عندكم على الله وقوله ( من يريد ( ينافي الوجوب. ثم أراد أن يميز بين المهدي من الفرق وبين الضال منهم فقال ) إن الذين آمنوا ( الآية قال مقاتل : الأديان ستة : واحد لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان قلت : فالمؤمنون واليهود والنصارى تشترك في القول بالإله والنبي وتفترق بالاعتراف بعموم نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبعدم الاعتراف به ، والصائبون قد تجعل من جنس النصارى وقد تجعل من غيرهم ، والمجوس قولهم في البابين مضطرب لأن الإله عندهم اثنان وبنبيهم ليس بنبي في الحقيقة وإنما هو متنبئ ، والمشركون لا نبي لهم ولا كتاب. قال أهل البرهان : قدم النصارى على الصابئين في أوائل البقرة لأنهم أهل كتاب وعكس ههنا لأن الصابئين مقدمة عليهم بالزمان ، وفي المائدة يحتمل الأمران اي والصابئون كذلك أو هم والنصارى ) إن الله يفصل بينهم ( أي يقضي بين المؤمنين وغيرهم وتكرير إن في الخبر لزيادة التأكيد والفصل مطلق يحتمل الفصل في الأحوال وفي المواطن أيضاً ) إن الله على كل شيء شهيد ( فلا يجري في قضائه ظلم ولا حيف ) الم تر ( أي تعلم بإخبار الله والمراد أن هذه الأجسام غير ممتنعة عما يريد الله إحداثه فيها من أنواع تصرفاته وتدبيراته وهذا بين ، قال العلماء : قوله ) وكثير من الناس ( ليس بمعطوف على ما قبله من المفردات لأن السجود بالمعنى المذكور يتناول كل الناس ولا يختص ببعضهم لدليل العقل ، ولأن قوله ) ومن في الأرض ( يتناول الثقلين جميعاً والعطف يوهم التخصيص بالبعض. ولا يمكن أن يكون السجود بالتنسبة إلى كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة وبالنسبة إلى غيرهم بمعنى نفوذ مشيئة الله فيها لأن اللفظ المشرتك لا يصح استعماله في مفهوميه معاً ، فهو إذن مرفوع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة أيضا. وهو مبتدأ محذوف الخبر وهو مثاب لأن الخبر دليل عليه وهو قوله ) حق عليه العذاب ( أو هو مبتدأ وخبر أي وكثير من المكلفين من الناس الذي هم الناس على الحقيقة فكأنه أخرج الذين وجب عليهم العذاب(5/70)
" صفحة رقم 71 "
من جملة الناس لأنهم أشبه بالنسناس ) أولئك كالأنعام بل هم أضل ) [ الأعراف : 179 ] أو قوله ثانياً ) وكثير ( تكرار للأول لأجل المبالغة كأنه قيل : وكثير من الناس حق عليهم العذاب ، وباقي الآية دليل على أن الطل بقضائه وقدره والإكرام والإهانة من عنده وبسابق علمه وسابق مشيئته ، فمن أهانه في الأزل لم يكرمه أحد إلى الأبد. عن ابن عباس أن قوله ) هذان خصمان ( رادع أهل الأديان الستة أي هما فوجان أو فريقان خصمان والخصم صفة وصفة بها المحذوف. وإنما قيل ) اختصموا ( نظراً إلى المعنى. وقيل : إن أقل الجمع اثنان. ومعنى ) في ربهم ( أي في دينه وصفاته فقال المؤمنون في شأنه قولاً وقال الكافرون قولاً. وروي أن أ ل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أحق بالله وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون : نحن أحق بالله منكم آمنا بالله وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبنبيكم وبجميع الكتب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تتركونه حسداً فنزلت. وعن قيس بن عبادة عن أبي ذر الغفاري أنه كان يحلف بالله أنها نزل في ستة نفر من المسلمين : علي وحمزة وعبيدة بن الحرث ، ومن المشركين عتبة وشيبة والوليد بن عتبة. فقال علي رضي الله عنه : أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة. وعن عكرمة هما الجنة والنار. قالت النار : خلقني الله لعقوبته. وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته ، فقص الله من خبرهما على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والأقرب هو الأول. وقوله ( فالذين كفروا ( فصل الخصومة المعني بقوله ) إن الله يفصل بينهم ( وقوله ( قطعت لهم ثياب فيه أنه تعالى يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة ، أو المراد أن تلك النيران مظاهرة عليهم كالثياب المظاهرة على الملابس بعضها فوق بعض. وعن سعد بن جبير أن قوله ) من نار ( أي من نحاس أذيب بالنار كقوله ) سرابيلهم من قطران ) [ إبراهيم : 50 ] والحميم الماء الحار. عن ابن عباس : لو سقطت منه نقطة على الجبال الدنيا لأذابتها. ومعنى ) يصهر ( يذاب جلودهم وهو أبلغ من قوله ) سقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم ) [ محمد : 15 ] لأن تأثير الشيء من الظاهر في الباطن أبلغ من تأثيره فيالباطن. قال في الكشاف : المقامع السياط وقال الجوهري : المقمعة واحدة المقامع ) من حديد ( كالمحجن يضرب على رأس الفيل. وفي الحديث ) لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها ( والإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ففي الآية إضمار أي ) كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم ( فخرجوا ) أعيدوا فيها ( أو المراد بالإرادة المداناة والمشارفة كقوله ) يريد أن ينقض ((5/71)
" صفحة رقم 72 "
[ الكهف : 77 ] وهذا أقرب كقوله ) لا يخفف عنهم العذاب ) [ البقرة : 162 ] ويؤيده ما يروى عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفاً. وإنما اختصت هذه السورة بقوله ) من غم ( وهو الأخذ بالنفس حتى لا يجد صاحبه مخلصاً لأنه بولغ ههنا في أهوال النار بخلاف ما في السجدة وإنما أضمر ههنا قبل قوله ) وذوقوا ( بخلاف ) السجدة (. وقيل لهم ذوقوا لأنه وقع الاختصار ههنا على ) عذاب الحريق ( وهناط أطنب فقيل ) ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ) [ السجدة : 20 ] وايضاً قد تقدم ذكر القول في تلك السورة كثيراً بخلافه هنا والله تعالى أعلم. التأويل : ( إن زلزلة الساعة ( هلاك الساتعداد الفطري ) شيء عظيم ( ) وتذهب كل مرضعة ( هي مواد الشياء فإن لكل شيء مادة ملكوكتية ترضع رضيعها من الملك وتربيه ) وتضع كل ذات حمل ( وهي الهيوليات ) حملها ( وهو الصور الكمالية التي خلقت الهوليات لأجلها ) وترى الناس سكارى ( الغفلة والعصيان وحب الدنيا والجاه والرياسة وغيرها ) وما هم بسكارى ( العشق والمحبة والمعرفة ) فإنا خلقناكم من تراب ( أي كنتم تراباً ميتاً فبعثنا التراب بأن خلقنا منه آدم ، ثم أمتنا منه النطفة ، ثم بعثناها بأن جعلناها علقة ثم مضع غة ثم خلقاً آخر لنبين لكم أمر البعث والنشور ) ونقر في الأرحام ( أمهات العدم ) ما نشاء إلى أجل مسمى ( وهو وقت إيجاده بحسب تعلق الإرادة به ، وفيه دليل على أنه لا يبعد أن يكون الفاعل كاملاً في فاعليته ولكن لا تتعلق إرادته بالمقدور فيبقى في حيز العدم غلى حين تعلق الإرادة به ، ومنه يظهر حدوث العالم ) ثم نخرجكم طفلاً ( من أطفال المكونات خارجاً من رحم العدم مستعداً للتربية والكمال. ) ومنكم من يتوفى ( عن لاشهوات فيحيا بحصول الكمالات ) ومنكم من يرد ( إلى أسفل سافلين الطبيعة ) وترى ( أرض القالب ) هامدة فإذا أنزلنا عليها ( ماء حياة المعرفة والعلم ) اهتزت ( ) ذلك بأن الله هو الحق ( في الإلهية ) وإنه يحيي ( القلوب الميتة ) وأن الساعة ( قيامة العشق والخدمة للطالبين الصادقين ) آتية وأن الله يبعث ( القلوب المحبوسة في قبور الصدور ) عذاب الحريق ( بنار الشهوات لكنه لا يحس بها في الدنيا لأنه نائم بنوم الغفلة فإذا مات انتبه ) من كان يظن ( فيه أن العبد يجب أن يكون حسن الظن بالله ) ثم ليقطع ( مادة تقدريري في الأزل ونزول أحكامي ي القدور ) فلينظر هل ( ينقطع أم لا ) هذان خصمان ( يعني النفس الكافرة والروح المؤمنة ) قطعت لهم ثياب ( بتقطيع خياط القضاء على قدرهم وهي ثياب نسجت من سدى مخالفات الشرع ولحمة موافقات الطبع. ) يصب من فوق رؤسهم ( حميم الشهوات النفسانية. وفي لفظ الفوق دلالة على أنهم مغلوبون تحتها ، وفيه أن الخيالات الفاسدة(5/72)
" صفحة رقم 73 "
تنصب من الدماغ إلى القلب. ) يصهر به ما في بطونهم ( من الأخلاق الحميدة الروحانية ) والجلود ( أي يفسد أحوالهمش الباطنة والظاهرة بفساد تخيلاتهم ، ولا مخلص لهم عن دركات تلك الملكات لغاية رسوخها والله أعلم بالصواب. ( الحج : ( 23 - 41 ) إن الله يدخل . . . .
" إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض(5/73)
" صفحة رقم 74 "
لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور "
( القراآت )
ولؤلؤاً ( بهمزتين منصوباً : نافع وحفص. مثله ولكن بتخفيف الأولى واواً ساكنة. أبو بكر وحماد وزيد وكذلك في سورة فاطر. وقرأ سهل ويعقوب والمفضل ههنا بالهمزة والصنب. وفي ( فاطر ) بالهمز والخفضض. الباقون بالهمز والخفض في السورتين ) سواء ( بالنصب : حفص وروح وزيد. الآخرون بالرفع. ) والبادي ( بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن كثير وافق أبو عمرو وأبو جعفر ونافع غير قالون في الوصل. ) بوأنا ( مثل ) أنشأنا ( ) بيتي ( بفتح الياء : أبو جغعفر ونافع وحفص وهشام. ) فتخطفه ( بتشديد الطاء : أبو جعفر ونافع ) الرياح ( يزيد طريق المفضل ) والمقيمي الصلاة ( بالنصب على تقدير النون : عباس ) منكساً ( ونحو بكسر الين : حمزمة وعلي وخلف ) لن تنال الله ( بتاء التأنيث : يعقوب ) ولكن تناله ( بالتأنيث أيضاً زيد ) يدفع ( من الدفع : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب الباقون ) يدافع ( من المدافعة ) أذن ( مبنياً للمفعول : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وعسل ويعقوب وعاصم ) يقاتلون ( مبنياً للمفعول أيضاً : أبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص الآخرون مبنياً للفاعل فيهما. ) دفاع ( بألف : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب ) لهدمت ( مخففاً : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وسهل وحمزة وعلي وخلق مشدداً مدغماً الباقون مشدداً. الوقوف : ( ولؤلؤاً ( ط ) من القول ( ج للعطف مع تكرار ) وهدوا ( ) الحميد ( 5 ) والباد ( 5 ط ) أليم ( 5 ) السجود ( 5 ) عميق ( 5 لا لتعلق اللام ) الأنعام ( ج للابتداء بالأمر مع الفاء ) الفقير ( 5 للعطف مع العدول ) العتيق ( 5 ) ذلك ( ق قد قيل : لأن المراد ذلك على ما ذكر أو الأمر والشأن ذلك ثم يبتدأ بالشرط ) عند ربه ( ط الزورر 5 لا ) مشركين به ( ط ) سحيق ( 5 ) ذلك ( ق ) القلوب ( 5 ) العتيق ( 5 ) الأنعام ( ط ) اسلموا ( ط ) المخبتين ( 5 لا لاتصال الوصف ) الصلاة ( 5 ) ينفقون ( ج 5 ) خير ( ق والوصل أحسن للفاء ) صواف ( ج للشرط مع الفاء ) والمعتر ( ط ) تشكرون ( 5 ) منكم ( ط ) هداكم ( ط ) المحسنين ( 5 ) آمنوا ( ط ) كفور ( 5 ) ظلموا ( ط لقديرر 5 لا بناء على أن ) الذين ( بدل من الضمير في ) نصرهم ( ) ربنا الله ( ط ) كثيراً ( 5 ) ينصره ( ط ) عزيز ( 5 ) المنكر ( ط ) الأمور ( 5. التفسير : لما ذكر حال أحد الخصمين في الآخرة أراد أن يذكر حال الآخر وهو(5/74)
" صفحة رقم 75 "
المؤمن ولهذا ألزم التكرار ، إلا أهه يفطن بهذه الآية فائدة أخرى هي بيان أهل الجنة يحلون فيها وقد مر مثله في أوائل الكهف. ومن قرأ ) لؤلؤاً ( بالنصب فعلى تقدير ويؤتون لؤلؤاً لأن السوار من اللؤلؤ غريب إلا أن يكون شيئاً منظوماً منه. ) وهدوا إلى الطيب من القول ( عن ابن عباس هو قولهم الحمد لله الذي صدقتنا وعده يلهمهم الله ذلك ) وهدوا إلى صراط الحميد ( أي إلى طريق المقام المحمود وهو الجنة أو غلى صراط الله كقوله ) إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ) [ إبراهيم : 1 ] وقال السدي : الطيب من القول هو القرآن. وقيل : شهادة أن لا إله إلا الله وقال حكماء الإسلام : هو كشف الغطاء عن الحقائق الروحانية والمعارف الربانية ، ثم كرر وعيد أهل الكفر ومن دناهم فقال ) إن الذين كفروا ويصدون ( إنما حسن عطف المستقبل على الماضي لأنه أراد به الاستمرار وأنه من شأنهم الصد وكأنه قيل : كفروا واستمروا على الصد. وقال أبو علي الفارسي. كفروا حين صدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن معه عام الحديبية عن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهدي. ومن قرأ ) سواء ( بالنصب فعلى أنه مفعول ثانٍ لجعلنا أي جعلناه مستوياً ) العاكف فيه والباد ( ومن قرأ بالرفع فعلى أن ) العاكف ( مبتدأ و ) سواء ( خبر مقدم والجملة مفعول ثان ويجوز أن يكون ) للناس ( مفعولاً ثانياً اي جعلناه متبعداً لكل من وقع عليه اسم الناس ، وقوله ( سواء ( إلى آخره الجملة بيان لذلك الجعل اي لا فرق بين الحاضر المقيم به وبين الطارئ من البدو ، واختلفوا في أن المكي والآفاقي يستويان في أي شيء فعن ابن عباس في بعض الروايات أنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها للآية بناء على أن المراد بالمسجد الحرام مكة ، ولما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( مكة مباحة سبق إليها ) وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وهو قول قتشادة وسعيد بن جبير أيضاً ، ولأجل ذلك زعموا أن كراء دور مكة حرام. والأكثرون على أنهما مستويان في العبادة في المسجد ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئاً فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار ) وعلى هذا فلا منع من بيع دور مكة وإجارتها وهو مذهب الشافعي وقد جرت المناظرة بينه وبين إسحق الحنظلي وكان إسحق لا يرخص في كراء دور مكة فاحتج الشافعي بقوله تعالى ) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ) [ الحج : 40 ] بأن عمر اشترى دار السجن فسكت إسحق(5/75)
" صفحة رقم 76 "
وإنما ذهب الأولون إلى أن المراد بالمسجد الحرام ههنا مكة كلها لأنه جعل العاكف فيه بإزاء البادي. أجاب الأكثرون بأنه اراد بالعاكف المجاور للمسج المتمكن في كل وقت من التعبد فيه. والإلحاد العدول عن القصد كما مر في قوله ) وذر الذين يلحدون في أسمائه ) [ الأعراف : 180 ] وقوله ( بالحاد بظلم ( حالان ومفعول ) يرد ( متروك ليفيد العموم أي ومن يرد فيه مراداً ما جائراً ظالماً. وفائدة الحال الثانية أن العدول عن القصد قد يكون بالحق كقوله ) وجزاء سيئة سيئة ) [ الشورى : 40 ] واختلفوا في الإلحاد في الحرم فعن قتادة وسعيد بن جبير وابن عباس في رواية عطاء أنه الشرك يعني من لجأ غلى حرم الله ليشرك به عذبه الله. وقال مقاتل : نزلت في عبد الله بن حنظلة حيث قتل الأنصاري وهرب غلى مكة كافراص. فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقتله يوم الفتح وهو العذاب الأليم. وعن مجاهد أنه الاحتكار. وقيل : المنع من عمارته. وعن عطاء : هو قول الرجل في المبايعة ( لا والله ) وبلى والله. ومثله ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فقيل له في ذلك فقال : كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل ( لا والله ) و ( بلى والله ). والأولى التعميم. وفيه أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في مهامه ومقاصده ، وهذا وإن كان واجباً في كل مكان إلا أن وجوبه هناك أو كد فللمكان خاصية كما للزمكان ولهذا قال مجاهد : تضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات. عن ابن مسعود : أن القصد غلى الذنب يكتب هناك ذنباً وإن لم يخرج إلى الفعل. وعنه لو أن رجلاً يهم بأن يعمل سيئة عند البيتن اذاقه الله تعالى عذاباً أليماً. واعلم أن خبر إن محذوف لدلالة جواب الشرط عليه كأنه قيل : إن الذين كفروا ويصدون نذيقهم من عذاب أليم ومن يرد في الحرم بإلحاد فهو كذلك ، وحين انجر الكلام إلى ذكر المسجد الحرام أتبعه ذكر الكعبة وبعض ما يتعلق به من المناسك فقال ) وإذ بوأنا ( أي واذكر حين جعلنا ) لإبراهيم مكان البيت ( مباءة أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة ، ويروى أن موضع البيت كان مطموساً بفبعث الله تعالى ريحاً كنست ما حوله حتى ظهر اسه القديم فبنى إبراهيم عليه وقد مر قصة ذلك في ( البقرة ). وقيل : بعث غمامة على قدر البيت الحرام في العرض والطول وفيها راس يتكلم وله لسان وعينان فقال : يا إبراهيم ابن على قدري فأخذ في البناء وذهبت السحابة. وأن في ) أن لا تشرك ( هي المفسرة وذلك أن المقصود من التوبة هو العبادة فكأنه قيل : تعبدنا لإبراهيم قلنا له : لا تشرك وطهر وقد مر مثله في ( البقرة ). وإنما قال ههنا ) والقائمين ( لأن العاكف ذكر مرة في قوله ) سواء العاكف ( والقائم إما بمعنى القيام في الصلاة بدليل قوله ) والركع السجود ( أو بمعنى المقيم(5/76)
" صفحة رقم 77 "
المتوطن. والظاهر أن الخطاب في ) وأذن ( لإبراهيم أيضاً أي ناد ) في الناس ( وهو أن يقول حجوا أو عليكم ) بالحج ( يروى أنه صعد أبا قبيس فقال : ايها الناس حجوا بيت ربكم ، قال مجاهد : فما حج إنسان ولا يحج إلى القيامة إلا وقد سمع ذلك النداء من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فمن أجاب مرة حج مرة ومن أجاب أكثر فأكثر. ولعل الفائدة في قوله ) يأتوك ( هي هذه لأن الإتيان إلى مكة بسبب ندائه إتيان إليه. وأيضاً هو أول من حج وغيره يقتدي به وكأنه يأتيه. وعن الحسن وهو اختيار أكثر العلماء المعتزلة أن الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأ ، ه معطوف على ( أذكر ) مقدراً ، ثم إنه عام لجميع الناس أو خاص بمن حج معه ي حجة الوداع قولان. وقيل : إنه ابتداء فرض الحج والرجال المشاة واحده راجل. وقوله ( وعلى كل ضامر ( حال آخر كأنه قيل رجالاً وركباناً. والضامر البعير المهزول لطول السفر. ) ويأتين ( صفة ) لكل ضامر ( لأنه في معنى الجمع. والفج الطريق الواسع وقد مر في السورة المتقدمة. والعميق البعيد ومثله معيق وبه قرأ ابن مسعود. وفي تقديم المشاة تشريف لهم. روى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة من حسنات الحرم. قيل : يا رسول الله وما حسنات الحرم ؟ قال : الحسنة بمائة ألف حسنة ) قال جار الله : نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات وقد كنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله تعالى لأن المسلمين لا ينفكون عن التسمية إذا نحروا أو ذبحوا ، وفيه تنبيه على أن التسمسية من الأغراض الأصلية المعتبرة خلاف ما كان يفعله المشركون من الذبح للنصب. وفي قوله ) على ما رزقهم ( إشارة إلى أن نفس القربان وتيسير ذلك العمل من نعم الله تعالى ولو قيل ( لينحروا في أيام معلومات بهيمة الأنعام ) لم يكن شيء من هذه الفوائد. والأيام المعلومات عند أكثر العلماء عشر ذي الحجة الأول آخرها يوم النحر لأنها معلومة عند الناس لحرصهم على أعمال الحج فيها. ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة والمعشر الحرام ، كذلك للذبح وقت بعينه وهو يوم النحر وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس واختيار الشافعي وأبي حنيفة. وعن ابن عباس في رواية أخرى أنها يوم النحر وثلاثة ايام بعدها وهو اختيار أبي مسلم وقول أبي يوسف ومحمد. وعلى الأول يكون قوله ) في أيام ( متعلقاً بكلا الفعلين أعني ) ليشهدوا ( ) وليذكروا ( وعلى الثاني يختص تعلقه بالثاني. ومعنى ) بهيمة الأنعام ( بهيمة من الأنعام لأن البهيمة تشمل كل ذات أربع في البر والبحر فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز ، وقد مر في أول المائدة قال مقاتل : إذا ذبحت فقل ( بسم الله والله(5/77)
" صفحة رقم 78 "
أكبر اللهم منك وإليك ) وتستقبل القبلة. وزاد الكلبي ( إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ). قال القفال : كأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بذل مهجته طلباً لمرضاة الله واعترافاً بأن تقصيره كاد يستحق مهجته. أما قوله ) فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ( فالبائس الذي أصابه بؤس أي شدة والفقير قد مر في آية الصدقات في ( التوبة ) وفي غيرها. ثم من الناس من قال : الأمران للوجوب لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون منها فأمر المسلمون بمخالفتهم. والأكثرون على أن الأل ليس بواجب. ثم منهم من قال : يحسن أن يأكل النصف ويتصدق بالنصف رعاية للأمرين. ومنهم من قال : يأكل الثلث ويتصدق بالثلثين لما يجيء من قوله ) فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ( فجعلها على ثلاثة أقسام ومنهم من قال : يأكل الثلث ويدخر الثلث ويتصدق بالثلث لما جاء في الحديث من الأمر بالادخار. والأولى وهو مذهب الشافعي أنه إن أطعم جميعها أجزأه ، وإن أكل جميعها لم يجزئه ، وإذا تصدق بأقل شيء من لحمها يكفي هذا إذا كان متطوعاً. وأما الواجبات مكالنذور والكفارات وجبران النقصانات مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة فلا يأكل منها لا هو ولا أغنياء الرفقة ولا فقراؤها لما روي عنهشام بن عروة عن أبيه عن ناجية الخزاعي قال : قلت : يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من البدن ؟ قال : انحرها ثم إغمس نعلها في دمها ثم خل بين الناس وبينها يأكلونها. وقال ايضاً ( صلى الله عليه وسلم ) في مثله : لا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك. قوله ) ثم ليقضوا تفثهم ( لا يبعد أن يكون معطوفاً على ) ليشهدوا ( فإن هذه الأعمال كلها غايات للإتيان إلا أن إسكان هذه اللامات في بعض القراآت يدل على أنها لام الأمر وعلى هذا تكون هذه الأوامر الغائبة معطوفة على الأمرين الحاضرين قبلها والله أعلم. قال أبو عبيدة : لم يجيء في الشعر ما يحتج به في معنى النفث. وقال الزجاج : إن أهل اللغة لا يعرفون التفث غلا من التفسير. وقال القفال : قال نفطويه : سألت أعرابياً فصيحاً ما معنى قوله ) ثم ليقضوا نفثهم ( ؟ فقال : ما أفسر القرآن ولكنا نقول للرجل : ما أتفثك وما أدرنك ثم زعم القفال أن هذا أولة من قول الزجاج لأن المثبت أولى ن النافي. وقال المبرد : أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها. وأجمع أهل التفسير على أن المراد ههنا إزالة الأوساخ والزوائد كقص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة. فتقدير الآية ثم ليقضوا إزالة تفثهم وليوفوا نذورهم اي الأعمال التي أوجبها الحج بالشروع فيه ، أو أعمال البر التي أوجبوها على أنفسهم بالنذر فإن الرجل إذا حج أو اعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدي وغيره ما لو إيجابه لم يكن الحج يقتضيه. ) وليطوفوا ( هو طواف الإفاضة والزيارة(5/78)
" صفحة رقم 79 "
التي هي ركن وقد شرحت حاله في البقرة في قوله ) فإذا أفضتم من عرفات ) [ البقرة : 198 ] وقيل : هو طواف الوداع والصدر. سمي ) بالبيت العتيق ( لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن ، وقال قتادة : لأنه أعتق من تسلط الجبابرة عليه وهو قول ابن عباس وابن الزبير ورووه عن رسول الله صلى الله عيله وسلم. وعن ابن عيينة لأنه لم يملك قط. وعن مجاهد لأنه أعتق من الغرق أيام الطوفان. وقيل : معناه البيت الكريم من قولهم ( عتاق الخيل والطير ). والحرمة مالا يحل هتكه وجميع التكاليف بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها ، ويحتمل أن يراد ههنا ما يتعلق بالحج ، عن زيد بن أسلم أن الحرمات خمس : الكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمحرم حتى يحل. وتعظيمها العلم بوجوبها والقيام بحقوقها. وقوله ( فهو خير ( أي فالتعظيم له خير من التهاون بذلك. وقوله ( عند ربه ( غشارة غلى أن ثوابه مدخر لأجله. قوله ) وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم ( قد مر في أول ( المائدة ) مثله أي إلا ما يتلى عليكم آية تحيمه وهي ) حرمت عليكم الميتة ) [ المائدة : 3 ] أو قوله ) غير محلي الصيد وأنتم حرم ) [ المائدة : 1 ] أو قوله ) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) [ الأنعام : 121 ] وحين حث على تعظيم الحرمات أتبعه الأمر بما هو أعظم أنواعها وأقدم أصنافها قائلاً ) فاجتنبوا الرجس ( وبينه بقوله ) من الأوثان ( أي الرجس الذي هو الأوثان كقولك ( عندي عشرون من الدراهم ). والرجس العمل القبيح في الغاية وقد مر في آخر المائدة في تفسير قوله ) رجس من عمل الشيطان ) [ الآية : 90 ] والزور من الزور الميل والإضافة كقولهم ( رجل صدق ) جمع بين القول الزور وبين الشرك لأن عبادة الأوثان هي راس الزور وملاكه. قال الصم : وصف الأوثان بأنها رجس لأن عادتهم في القرابين أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها ، والأقرب أنها وصفت بذلك لأن نعبادتها فعلة ممادية في القبح والسماجة. وللمفسرين في قول الزور وجوه منها : أنه قولهم هذا حلال وهذا حرام. ومنها أنه شهادة الزور رفعوا هذا التفسير غلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . ومنها أنه الكذب والبهتان. ومنها أنه قول أهل الجاهلية في الطواف ( لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه ومات ملك ) وقوله ( حنفاء لله غير مشركين به ( حالان مؤكدان والمراد الإخلاص في التوحيد كقوله ) حنيفاً ولم يك من المشركين ) [ النحل : 120 ] وفائدة الحالين هي فائدة التولي والتبري وإنما أخر نفي الإشراك وإن كان مقدماً في الرتبة إذ التخلية والتبرئة مقدمة على التحلية والتولية ليرتب عليه قوله ) ومن يشرك بالله ( الآية. قال جار الله : إن كان تشبيهاً مركباً فمعناه من أشرك بالله فقد هلك نفسه غاية الإهلاك وذلك بأن صور حاله بصورة من خر من السماء فاحتطفه أي استلبته الطير فتفرق مزعاً أي قطعاً من اللحم في حواصلها ، أو بحال من خر فعصفت به(5/79)
" صفحة رقم 80 "
الريح حتى هوت به في بعض المطاوح السحيقة البعيدة. وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء ، والذي تركه فأشرك فقد سقط منها والإهواء التي توزع أفكاره بالطير المتخطفة ، وفي المثل الآخر شبه الشيطان الذي يطرح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بالأشياء في المهاوي المتلفة. وتعظيم شعائر الله وهي الهدايا كما مر في أمر ( المائدة ) هي أن يختارها عظام الأجرام غالية الأثمان. وقد مر وصفها الشرعي في ( البقرة ) في قوله ) فما استيسر من الهدي ) [ الآية : 196 ] وقد أهدى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب قال في الكشاف ) فإنها من تقوى القلوب ( أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء غلى من ليرتبط به. وأقول : في هذا الوجوب نظر لأنه ليش شرعي ولا بعقلي على ما تزعم المعتزلة. أما المضاف الأول فلأنه يحتمل أن يعود الضمير إلى التعظيم موحدين حتى لا يطابقها لفظ القلوب بل يحتمل أن يقدر لفظة منهم أويقدر فإن تعظيمهم إياها فيرجع الكلام إلى قلوبنا ) ومن يعظم شعائر الله ( فإن تلك الخلة منهم من تقوى القلوب أي ناشئة من تقوى قلوبهم ، فإن القلوب مراكز التقوى التي منها عيارها وعليها مدارها ولا عبرة بما يظهر من ىثارها على سائر الجوارح دونها. ثم كان لسائل أن يسال : ما بال هذه الحيوانات تذبح فيتقرب بها إلى الله تعالى ؟ فلهذا قال ) لكم فيها منافع ( يعني الدنيوية من الدر وركوب الظهر وسيشير إلى الدينية بقوله ) لكم فيها خير ( ولهذا أطلق ذلك ويد هذه بقوله ) إلى أجل مسمى ( وهو أوان النحر. ثم بين أن وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها أو مكان نحرها منته إلى البيت أو إلى ما يجاوره ويقرب مه وهو الحرم كما مر في قوله ) هديا بالغ الكعبة ) [ المائدة : 95 ] ومثله قوله : بلغنا البلد ( إذا شارفوه واتصل مسيرهم بحدوده. قال القفال : هذا إنما يختص بالهدايا التي بلغت مني ، فأما إذا عطبت قبل بلوغ مكة فإن محلها هو موضعها. روى أبو هريرة نه ( صلى الله عليه وسلم ) مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : اركبها فقال : يا رسول الله إنها هدي. فقال : اركبها ويلك. وعن جابر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهراً. وهذا هو الذي اختاره الشافعي. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز الإنتفاع بها لأنه لا يجوز إجازتها ولو كان مالكاً لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها. وضعف بأن أم الولد لا يمكنه بيعها ويمكنه الانتفاع بها. وممن ذهب إلى هذا القول من فسر الأجل المسمى بوقت تسميتها هدياً ، والمراد أن لكم أن تنتفعوا بهذه الأنعام إلى أن تسموها أضحية وهدياً فإذا فعلتم ذلك فليس لكم أن تنتفعوا بها. وقد ينسب هذا القول إلى ابن عباس(5/80)
" صفحة رقم 81 "
ومجاهد وعطاء وقتادة والضحاك. أجاب الأولون بأن الضمير في قوله ) لكم فيها منافع ( عائد إلى الشعائر ، وتسمية ما سيجعل شعيرة مجاز والأصل عدمه. قال في الكشاف : ( ثم ( للتراخي في الوقت فاستعيرت للتراخي في الأحوال ، والمعنى إن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم ، وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطاً في النفع محلها منتهية إلى البيت. ومنهم من فسر الشعائر بالمناسك كلها وفسر الأجل المسمى بأوان انقطاع التكليف ، وزيفه جار الله بأن محلها إلى البيت يأباه ، ثم بين أن القرابين في الشرائع القديمة وإن اختلفت أمكنتها وأوقاتها فقال ) ولكل أمة جعلنا منسكاً ( موضعاً أو وقتاً يذبح فيه النسائك الذبائح كسر السين سماع وفتحها قياس. ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى النسك والمراد شرعنا لكل أمة من الأمم السالفة من زمن إبراهيم غلى من قبله وبعده أن ينسكوا له أي يذبحوا لوجهه على جهة التقرب وجعل الغاية في ذلك هي أن يذكر اسمه على نحرها ، ثم بين العلة في تخصيص اسمه بذلك قائلاً ) فإلهكم إله واحد ( لأن تفرده بالإلهية يقتضي أن لا يذكر على الذبائح إلا سامه. ويجوز أن يتعلق هذا الكلام بأول الآية ، والمعنى إنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح لا لتعدد الإله. ثم ذكر أن تفرده بالإلهية يقتضي اختصاصه بالطاعة قائلاً ) فله أسلموا ( أي خصوه بالانقياد الكلي والامتثال لأوامره ونواهيه خالصاً لوجهه من غير شائبة إشراك. ثم أمر نبيه عليه السلام بتبشير المخبتين وفسرهم بقوله ) الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ( والتركيب يدور على التواضع والخشوع ومنه الخبت للمطمئن من الأرض ، وعن عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا. قال الكلبي : هم المجتهدون في العبادة. ثم عطف على المخبتين قوله ) والصابرين على ما أصابهم ( أي من المكاره في ذات الله كالأمراض والمحن ، فأما الذي يصيبهم من قبل الظلمة فقد قال العلماء : إنه لا يجب الصبر عليه ولكن لو أمكن الدفع وجب دفعه ولو بالقتال. ثم خص من أنواع التكاليف التي تشق على النفس وتكرهها نوعين هما أشرف العبادات البدنية والمالية أعني الصلاة والزكاة وقوله ( ومما رزقناهم ( عطف على ) المقيمي الصلاة ( من حيث المعنى كأنه قيل : والذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. ثم عاد إلى تعظيم شأن الضحايا مرة اخرى وخص منها العظام الجسام بقوله ) والبدن جعلناها ( هي بضم الدال وسكونها جمع بدنة وهي الإبل خاصة لعظم بدنها إلا أن الشارع ألحق البقرة بها حكماً. قال أبو حنيفة ومحمد : لو قال : عليَّ بدنة يجوز له نحرها في غير مكة. وقال أبو يوسف : لا يجوز إلا بمكة بناء على أن البدنة مختصة بناقة أو بقرة تذبح هناك. واتفقوا فيما إذا نذر هدياً أنه يجب ذبحه بمكة ، وفيما إذا أنذر جزوراً أنه يذبحه(5/81)
" صفحة رقم 82 "
حيث شاء. وانتصب قوله و ) البدن ( بفعل يفسره ما بعده. ومعنى جعلها من شعائر الله أنها من أعلام الشريعة التي شرعها الله. عن بعض السلف أنه لم يملك إلا تسعة دنانير فاشترى بها بدنة فقيل له في ذلك فقال : سمعت ربي يقول ) لكم فيها خير ( أي ثواب في الآخرة كما ذكرنا. وبعضهم لم يفرق بين الآيتين فحمل كلاً منهما على خير الدنيا والآخرة ، والأنسب ما فسرناه حذراً من التكرار ما أمكن. ومعنى ) صواف ( قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن ، ولعل السر فيه تكثير سوادها لناظرين وتقوية قلوب المحتاجين. ) فإذا وجبت جنوبها ( اي سقطت على الرض من وجبت الحائط وجبة سقطت ، ووجبت الشمس وجبة غربت. والمعنى إذا زهق روحها حل لكم الأكل منها وإطعام القانع والمعتر فالقانع السائل والمعتر الذي لا يسأل تعففاً. وقيل : بالعكس فهماً من الأضداد كأن القانع قنع بالسؤال أو قنع بما قسم له فلا يسأل ، والمعتر رضي بعرّه اي عيبه فلا يسال أو يسأل. ثم منَّ على عباده بأن سخر لهم البدن أن يحتبسوها صافة قوائمها مطعوناً في لباتها مثل التسخير الذي شاهدوا وعلموا يأخذ بخطامها صبي فيقودها إلى حيث يشاء ، وليست بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر جرماً وأقل قوة لولا أنه سبحانه سخرها. يورى أن أهل الجاهلية كانوا يلطخون الأوثان وحيطان الكعبة بلحوم القرابين ودمائها فبين الله تعالى ما هو المقصود منها فقال ) لن ينال الله ( أي لن يصيب رضا الله أصحاب اللحوم والدماء المهراقة بمجرد الذبح والتصدق. ) ولكن يناله التقوى منكم ( بأن يكون القربان حلالاً روعي فيها جهات الأجزاء ثم يصرفها فيما آمر. ثم كرر منة التسخير وأن الغاية تكبير الله على الهداية لأعلام دينه ومناسك حجه ، وصورة التكبير وما يتعلق بها قد سبق في ) البقرة ( في آية الصيام. قالت المعتزلة : لما لم ينتفع المكلف بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه وجب أن تكون التقوى فعلاً له وإلا كان بمنزلة الأجسام. وأيضاً إنه قد شرط التقوى في قبول العمل وصاحب الكبيرة غير متق فوجب أن لا يقبل عمله. والجواب أنه لا يلزم من عدم انتفاعه ببعض ما ليس من أفعاله أن لا ينتفع بكل ما ليس من أفعاله. وأيضاً إن صاحب الكبائر اتقى الشرك فيصدق عليه أنه متقٍ ) وبشر المحسنين ( غلى أنفسهم بتوفير الثواب عليها. والإحسان بالحقيقة أن تعبد الله كأنك تراه ، وفيه ترغيب لما شرط من رعاية الإخلاص عليها. والإحسان بالحقيقة أ ، تبعد الله كأنك تراه ، وفيه ترغيب لما شرط من رعاية الإخلاص في القرابين وغيرها. وحين فرغ من تعداد بعض مناسك الحج ومنافعها وكان الكلام قد انجر إلى ذكر الكفار وصدهم عن المسج الحرام أتبعه بيان ما يزيل ذلك الصد ويمكن من الحج وزيارة البيت فقال إن الله يدفع ( ومن قرأ ) يدافع ( فمعناه يبالغ في الدفع ) عن الذين آمنوا ( فعل المغالب والمدفوع هو بأس المشركين وما كانوا يخونون الله ورسوله فيه يدل عليه تعليله(5/82)
" صفحة رقم 83 "
بقوله ) إن الله يحب كل خوان كفور ( أي أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذه صفته قال مقاتل : اقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذا ؟ وكان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يلقون من المشركين أذى شديداً وكانوا يلقونه من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فنزل ) أذن ( وفاعله الله سبحانه أم لم يسم والمأذون فيه القتال بدليل قوله ) للذين يقاتلون ( إن فتح التاء فظاهر لأن المشركين كانوا يقاتلون المؤمنين وإنهم يؤمرون بالصبر ، وإن كسرت فمعناه أذن للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل نزل حرصهم على القتال منزلة نفس القتال ) بأنهم ظلموا ( أي بسبب كونهم مظلومين وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية. وقيل : نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم. وفي قوله ) إن الله يدافع ( ثم في قوله ) وإن الله على نصرهم لقدير ( عدة كاملة بإعلاء هذا الدين وإظهار ذويه على أهل الأديان كلهم كما تقول لغيرك إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك. لا تريد مجرد إثبات القدرة بل تريد أنك ستفعل ذلك. ثم وصف ذلك الظلم بأن وصف الموعودين بالنصر بقوله ) الذين أخرجوا من ديارهم ( ومحل ) أن يقولوا ( جر على الإبدال من ) حق ( اي بغير موجب سوى التوحيد الذي يوجب الإقرار والتمكين لا الإخراج والإزعاج نظيره ) هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ) [ المائدة : 59 ] ( ولولا دفع الله الناس ( قد مر في أواخر البقرة. وللمفسرين في عبارات قال الكلبي : يدفع بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين. وعن ابن عباس : يدفع بالمحسن عن المشيء وعن ابن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن الله يدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل بيته ومن جيرانه ثم تلا هذه الآية ( وقال الضحاك : يدفع الإسلام وأهله عن أهل الذمة. وقال مجاهد : يدفع عن الحقوق بالشهود وعن النفوس بالقصاص. أما الصوامع والبيع والصلوات فعن الحسن أ ، ها كلها اسماء المساجد ، فقد يتخذ المسلم لنفسه صومعة لأجل العبادة. قال الجوهري : الأصمع اصغير الأذن ويقال أتانا بثريدة مصمعة ، إذا دققت وحدد راسها. وصومعة النصارى ) فوعلة ( من هذا لأنها دقيقة الراس ، وقد تطلق البيعة على المسجد للتشبيه وكذا الصولات. وسميت كنيسة اليهود صلاة لأنها يصلى فيها ، ويحتمل أن يراد مكان الصلوات أو يراد الصلاة الشرعية نفسها. وصح إيقاع الهدم عليها نظراً إلى قرائنها كقوله : مقلداً سيفاً ورمحاً. وإن كان الرمح لا يتقلد. هذا كله توجيه تفسير الحسن. والأكثرون على أنها متعبدات مختلفة ، فعن أبي العالية أن الصوامع للنصارى والبيع لليهود والصلوات للصابئين والمساجد للمسلمين. وفي تخصيصها بقوله ) يذكر فيها اسم الله كثيراً ( تشريف لها(5/83)
" صفحة رقم 84 "
وتفضيل على غيرها لأن الظاهر عود الضمير غليها فقط. وعن قتادة أن الصوامع للصابئين والبيع للنصارى والصلوات لليهود. قال الزجاج : وهي بالعبرانية صلوتا. وقيل : الصوامع والبيع كلتاهما للنصارى ولكن الأولى في الصحراء والأخرى في البلد ، وإنما أخر متعبد أهل الإسلام لتأخر زمانهم ولا ضير فإن أول الفكر آخر العمل. وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) نحن الآخرون السابقون ( وتفسير الآية على قول الأكثرين لولا دفع الله لهدم في شرع كل نبي المكان المعهود لهم في العبادة ، فهدم في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع ، وفي زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) المساجد. وعلى هذا الوجه إنما رفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف والنسخ ، ويحتمل أن يراد لولا ذلك لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان في زمن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من المسلمين وأهل الكتاب الذين في ذمتهم ، وهدموا المتعبدات باسرها. وعلى هذا الوجه إنما دفع عن سائر أهل الأديان لأن متعبداتهم يجري فيها ذكر الله في الجملة ليست بمنزلة بيوت الأصنام. ثم عزم على نفسه نصرة من ينصر دينه وأولياؤه وأكد ذلك بقوله ) إن الله لقوي عزيز ( ومعنى القوة والعزة أنه لا يمتنع شيء من نفاذ أمره فيه مع أنه لا يتأثر عن شيء أصلاً. ونصرة الله العبد تقويته على أعدائه ووضع الدلائل على ما يفيده في الدارين ونفث روح القدس بأمره دايعة الخير والصلاح في روعه. ثم أتبع قوله الذين أخرجوا قوله. ) الذين إن مكناهم ( وقيل : هو بدل من قوله ) من ينصره ( وهو إخبار منه عز وجل عما ستكون عليه سيرة المهاجرين إذا مكنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا. وعن عثمان : هذا والله ثناء قبل بلاء ، أراد أن الله تعالى قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا في شأن الدين وإعلائه ما أحدثوا. قيل : إنه مخصوص من المهاجرين بالخلفاء الراشدين لأنه تعالى لم يعط التمكين فتمكينهم هو إبقاءهم إلى أوان التكليف ، وقد يشمل الأطفال أيضاً إذا ماتوا قبل البلوغ لقوله الله أعلم بما كانوا عاملين. ثم ختم الآية بقوله ) ولله عاقبة الأمور ( أي مرجعها ومصيرها إلى حكمه وتقديره وقد أراد تمكين أهل هذا الدين في كل حين فيقع لا محالة. التأويل : ( ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ( القلب سواء فيه من سبق إليه مدة طويلة والذي يصل إليه في الحال لأفضل إلى بسبق مقامات القلب ومنازله ) وإذ بوأنا لإبراهيم ( الروح مكان بيت القلب ) وطهر بيتي ( عن غيري وهو كل ما فيه حظ النفس دون(5/84)
" صفحة رقم 85 "
الواردات المطيقة والأخلاق الثابتة والأحوال المتوالية كالرغبة والرهبة والقبض والبسط والأنس والهيبة ) رجالاً ( هي النفس وصفاتها ) وعلى كل ضامر ( هي البدن وجوارحه فإن الأعمال الشرعية قد ركبت الجوارح المرتاضة ، فأعمال البدن مركبة من حركات الجوارح ونيات الضمير كما أن أعمال النفس بسيطة. لأنها نيات الضمير فقط ) من كل فج عميق ( هو مصالح الدنيا لأن مصالحها بعيدة عن مصالح الآخرة ) ليشهدوا منافع لهم ( فمنافع النفس وصفاتها بتبديل الأخلاق ، ومنافع القلب والجوارح بظهور اثر الطاعة عليها ) ويذكروا ( اي القلب والنفس والقالب شكراً ) على ما رزقهم من ( تبديل الصفات البهيمية بالصفات الروحيانية فانتفعوا بها وأفيضوا منها على الطالبين فهو خير لأن العبد يصل بالطاعة إلى الجنة ويصل بحرمة الطاعة إلى الله ، وترك الخدمة يوجب العقوبة وترك الحرمة يوجب الفرقة. ) وأحلت لكم ( استعمال الصفات البهيمية بقدر الضرورة ) إلا ما يتلى عليكم ( في قولنا ) ولا تسرفوا ) [ الأعراف : 31 ] وفي قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه ( ) فاجتنبوا ( مقتضيات الهوى وكونوا صادقين في الطلب لا مزورين مائلين إلى الحق غير طالبين معه غيره ، وخر من سماء القلب فاستلبه طير الشياطين أو وتهوي به ريح الهوى والخذلان إلى أسفل سافلين البعد والحرمان. لكم في شواهد آثار صنع الإرشاد منافع وهي لذة العبور على المقامات ولذة البسط ولذة الأنس إلى أجل مسمى وهو حد الكمال ، ثم انتهاء السلوك إلى حضرة القديم. ولكل سالك جعلن مقصداً وطريقاًً ، منهم من يطلب الله من طريق المعاملات ، ومنهم من يطلبه من طريق المجاهدات ، ومنهم من يطلبه بطريق المعارف ، ومنهم منيطلبه به. ) فله أسلموا ( أي أخلصوا تصفية الأعمال من الآفات ، ثم الأخلاق منالكدورات ، ثم الأحوال من الالتفات ، ثم الأنفاس من الأغيار ) وبشر المخبتين ( عنى المستقيمين على هذه الطريقة. ) وجلت قلوبهم ( الوجل عند الذكر على حسب تجلي الحق للقلب ) والصابرين على ما اصابهم ( من غير تمني ترحة ولا روم فرحة ) والمقيمي الصلاة ( الحافظين مع الله أسرارهم لا يطلبون إطلاع الخلق على أحوالهم ) ومما رزقناهم ينفقون ( يبذلون الموجود في طلب المقصود والوجود بشهود المعبود ) والبدن ( يعني بدن الأبدان الجسام جعلنا قربانها عند كعبة القلب بذبحها عن شهواتها من شعائر أهل الصدق في الطلب ، فإذا ماتت عن طبيعتها فانتفعوا بها أنتم وغيركم من الطالبين والقانعين بما أفضتم عليه ، والمعترين المتعطشين الذين لا يروون رياً من ماء حياة المعرفة شربت الحب كأساً بعد كأس
فما نفد الشراب وما رويت
) وكذلك سخرناها لكم ( فيه أن ذبح النفس بسكين الرياضة لا يتيسر إلا بتسخير خالقها(5/85)
" صفحة رقم 86 "
وتيسير موجدها يؤكده قوله ) إن الله يدافع ( خيانة النفس وهواها ) عن الذين آمنوا ( ) أذن للذين يقاتلون ( فيه أن قتال يجب أن يكون بإذن من الله تعالى وهو أن يكون على وفق الشرع وفي أوان التكليف وعلى حسب ظلم النفس على القلب وإخراجها إياه من ديار الطمأنينة ) ولولا دفع الله ( النفوس بالقلوب لضيعت صوامع أركان الشريعة ، وبيع آداب الطريقة ، وصلوات مقامات الحقيقة ، ومساجد القلوب التي ) يذكر فيها اسم الله كثيراً ( لاتساعها بإشراف نور الله عليها ) أن مكناهم في الأرض ( البشرية ) أقاموا ( صلاة المواصلة وأتوا زكاة الأحوال وهي إيثار ربع عشر الأوقات على مصالح الخلق ، وأمروا بحفظ الحواس عن مخالفات الأمر وبمراعاة الأنفاس مع الله ، ونهوا عن مناكير الرياء والإعجاب وإلى الله عاقبة الأمور. ( الحج : ( 42 - 64 ) وإن يكذبوك فقد . . . .
" وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو(5/86)
" صفحة رقم 87 "
خير الرازقين ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد "
( القراآت )
نكيري ( بإثبات الياء حيث كان في الحالين : يعقوب. وافق ورش وسهل وعباس في الوصل. ) أهلكتها ( على التوحيد : أبو عمرو وسهل ويعقوب الآخرون ) أهلكناها ( ) وبير ( : أبو عمرو غير شجاع وأوقية ويزيد والأعمش وورش وربيعة وابن فليح وحمزة في الوقف. ) يعدون ( على الغيبة : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف ) معجزين ( بالتشديد : حيث كان : ابن كثير وأبو عمرو. ثم ) قتلوا ( بالتشديد ابن عامر ) وأن ما يدعون ( بياء الغيبة وكذلك في سورة لقمان : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وحفص. الوقوف : ( وثمود ( 5 ) ولوط ( 5 ) مدين ( ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى ) أخذتهم ( ج لابتداء التهديد مع فاء التعقيب ) نكير ( 5 ) مشيد ( 5 ) يسمعون بها ( 5 للابتداء بأن مع الفاء ) الصدور ( 5 ) وعده ( ط ) تعدون ( 5 ) أخذتها ( ط ) المصير ( 5 ) مبين ( 5 ج للابتداء مع الفاء ) كريم ( 5 ) الجحيم ( 5 ) أمنيته ( ج لانقطاع النظم مع إتحاد المعنى ) آياته ( ط ) حكيم ( 5 لا لتعلق اللام ) قلوبهم ( ط ) بعيد ( 5 لا ) قلوبهم ( ط ) مستقيم ( 5 ) عقيم ( 5 ) لله ( ط ) بينهم ( ط ) النعيم ( 5 ) مهين ( 5 ) حسناً ( ط ) الرازقين ( 5 ) يرضونه ( ط ) حليم ( 5 ) ذلك ( ج ) لينصرنه الله ( ط ) غفور ( 5 ) بصير ( 5 ) الكبير ( 5 ) ماء ( ز لنوع عدول مع العطف ) مخضرة ( ط ) خبير ( 5 ) وما في الأرض ( ط ) الحميد ( 5. التفسير : إنه سبحانه بعد ضمان النصر لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) والدفع عن أمته ذكر ما فيه تسليته وهو أنه ليس بأوحدي في التكذيب له والقصص معلومة مما سلف. قال جار لله. إنما لم يقل ( وقوم موسى ) لأن موسى كذبه غير بني إسرائيل وهم القبط ، أو المراد وكذب موسى أيضاً مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره ؟ والنكير بمعنى الإنكار عبر به عن الهلاك(5/87)
" صفحة رقم 88 "
المعجل لأنه يستلزمه أو لأن الهلاك رادع لغيرهم فكأنه أنكر به عليهم حتى ارتدعوا ، أو هو بمعنى التغيير لأنه أبدلهم بالنعمة محنة وبالحياة هلاكاً وبالعمارة خراباً. قوله ) وهي ظالمة فهي خاوية ( الأولى في محل النصب على أنها حال ، والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على ) أهلكناها ( وهذه ليس لها محل. قال أبو مسلم : اراد هي كانت ظالمة فهي الآن خاوية على عروشها وقد مر تفسيرها في البقرة في قوله ) أو كالذي مر على قرية وهي خاوية ) [ الآية : 159 ] قوله ) وبئر معطلة ( عطف على ) قرية ( أي وكم بئر عطلناها عن سقائها مع أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء ، وكم قصر مشيد مجصص أو مرتفع أخليناه عن ساكنيه ؟ فحذف هذه الجملة لدلالة معطلة عليها. وقد يغلب على لاظن من هاتين القريتين أن ( على ) في قوله ) على عروشها ( بمعنى ( مع ) كأنه قيل : هي خاوية أي ساقطة أو خالية مع بقاء عروشها قاله في الكشاف. وأقول : إذا كانت القرى المهلكة غير البئر والقصر فهذا الظن مرجوح أو مساوٍ لا غالب. يروى أنها بئر نزل عليها صالح مع اربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم وسميت بلدة عند البئر اسمها بحضرموت بناها قوم صالح واقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً وأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان نبياً فقتلوه فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرب قصورهم. يحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري قال : هذا عجيب لأني زرت قبر صالح بالشام ببلدة يقال لها عكة فكيف قيل : إنه بحضرموت ؟ قلت : لا غرو أن يتفق الموت بأرض والدفن بأرض أخرى. ثم أنكر على أهل مكة عدم اعتبارهم بهذه الاثار قائلاً ) أفلم يسيروا ( حثهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا. ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ولم يعتبروا فلهذا جاء الإنكار كقوله ) وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون ) [ الصافات : 137 ، 138 ] والمراد بالسماع سماع تدبر وانتفاع وإلا كان كلا سماع كما أن المراد بالإبصار إبصار الاعتبار ولهذا قال ) فإنها ( أي إن القصة ) لا تعمى الأبصار ( أي أبصارهم ) ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( وفي هذا التصوير زيادة التمكين والتقرير لغرابة نسبة العمى إلى القلب ، وجوز في الكشاف أن يكون الضمير في ) فإنها ( ضميراً مبهماً يفسره الأبصار وفاعل ) تعمى ( ضمير عائد إلى الضمير الأول المبهم. والمعنى على الوجهين أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى بقلوبهم ، أو لا تعتدوا بعمى الأبصار وإن فرض لأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب. وزعم بعضهم أن في الآية إبطالاً لقول من جعل محل الكفر الدماغ وليس بقوي فقد يتشاركان في ذلك ، أو يكون سلطانه في القلب والدماغ كالآلة .(5/88)
" صفحة رقم 89 "
ثم حكى من عظيم ما هم عليه من التكذيب أنهم يستهزؤن باستعجال العذاب العاجل والآجل كأنهم جوزوا الفوت فلهذا قال ) ولن يخلف الله وعده ( أو لعلهم طلبوا عذاب الآخرة فذكر أن استعجاله في الدنيا كالخلف لأن موعده الآخرة ) وإن يوماً عند ربك كألف سنة ( قال أبو مسلم : أراد أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة لأن يوماً واحداً من أيام عذاب الله في الشدة كألف سنة من سنينكم لأن أيام الشدائد مستطالة ، أو كالف سنة من سني العذاب إذا عدها العاد وذلك لشدة العذاب ايضاً. وقيل : أراد أن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء ، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضاً إمهال ألف سنة. وقد يدور في الخلد أن هذا إشارة إلى لا تناهي طرف الأبد المستتبع لازدياد امتداد الآحاد الاعتبارية لأجل سهولة الضبط ، والغرض أن من كانت أيامه في الطول إلى هذا الحد لا يفيد الاستعجال بالنسبة إليه شيئاً فالأولى بل الواجب تفويض الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها من غير تقدم ولا تأخر ثم كرر قوله ) وكأين من قرية ( وليس بتكرار في الحقيقة لأن الأول سيق لبيان الإملاء مناسباً لقوله ) لن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة ( فكأ ، ه قيل : وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حيناً ثم أخذتهم بالعذاب والمرجع للكل إلى حكمي. ثم أمر رسوله بأن يتلو عليهم جملة حاله في الرسالة وهي أنه نذير مبين وجملة حالهم في باب التكليف مآلا ، وإنما اقتصر على النذارة لأنها تتضمن البشارة فإن كلام الحيكم لا يخلو عن ترغيب وإن كان مبنياً على الترهيب بدليل ) يا ايها الناس ( وهو نداء الكفرة في قول ابن عباس. قال في الكشاف : هم الذين قيل فيهم ) أفلم يسيروا ( ووصفوا بالاستعجال ، وإنما أقحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا. قالت الأشاعرة : المغفرة إما للصغائر أو للكبائر بعد التوبة أو قبلها. والأولان واجبان عند الخصم وأداء الواجب لا يسمى غفراناً فبقي الثالث ويلزم منه عفو صاحب الكبيرة من أهل القبلة ، أما الرزق فلا شك أنه الثواب ، وأما الكريم فإما أن يكون أمراً سلبياً وهو أن يكون الإنسان معه بحيث يستغنى عن المكاسب وتحمل المتاعب والذل والدناءة وما ينجر إلى المآثم والمظالم ، وإما أن يكون ثبوتياً وهو أن يكون رزقاً كثيراً دائماً خالصاً عن شوائب الضرر مقروناً بالتعظيم والإجلال ) والذين سعوا في آياتنا ( أي بذلوا جهدهم في تكذيبها وإرادة إبطالها كمن يسعى سعياً أي يمشي سريعاً. قال أهل اللغة : عاجزه سابقه لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه. والمراد معاجزين الله ورسوله أي مقدرين ذلك ظنا منهم أن كيدهم للإسلام يتم لهم ، وأن طعنهم في القرآن وتثبيطهم الناس عن التصديق يبلغ بهم غرضهم .(5/89)
" صفحة رقم 90 "
ثم بين أن له أسوة بالأنبياء السالفة والرسل السابقة في كل ما يأتي ويذر فقال ) وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ( خصص أولاً ثم عمم ، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً ، فقد لا يكون معه كتاب بل يؤمر بأن يدعو إلى شريعة من قبله ، وقد لا ينزل عليه الملك ظاهراً وإنما يرى الوحي في المنام أو يخبره بذلك رسول في عصره ، ولا بد للكل من المعجزة. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سئل عن الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً قيل : فكم الرسل منهم ؟ قال : ثلثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً. قال عامة المفسرين في سبب نزول الآية : أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم. وكان ذات يوم جالساً في نادٍ من أنديتهم وقد نزل عليه سورة ) والنجم إذا هوى ) [ النجم : 1 ] فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله ) أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) [ النجم : 19 - 20 ] وكان ذلك التمني في نفسه فجرى على لسانه ( تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ) فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قراءته حتى ختم السورة ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين ، فتفرقت قريش مسرورين وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فأتاه جبرائيل وقال : ما صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، فحزن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وخاف خوفاً شديداً فأنزل الله تعالى هذه الآية. واعترض المحققون على هذه الرواية بالقرآن والسنة اوبالمعقول. أما القرآن فكقوله ) ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ) [ الحاقة : 44 - 46 ] وقوله ( وما ينطق عن الهوى ) [ النجم : 3 ] وقوله ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن ) [ الإسراء : 74 ] نفى القرب من الركون فكيف به ؟ وأما السنة فهي ما روي عن ابن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا وضع من الزنادقة ، وقد صنف فيه كتاباً وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي. هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقد روى البخاري في صحيحه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون الإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق. وأما المعقول فهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث لنفي الأوثان فكيف يثبتها ؟ وأيضاً إنه بمكة لم يتمكن من القراءة والصلاة عند الكعبة ولا سيما في محفل غاص. وايضاً إن معاداتهم إياه كانت أكثر من أن يغتروا بهذا القدر فيخروا سجداً قبل أن يقفوا على حقيقة الأمر. وأيضاً منع الشيطان من اصله أولى من تمكنه من الإلقاء ثم نسخه. وايضاً لوجوزنا ذلك لارتفع الأمان من الشرع ، ولناقض قوله ) بلغ ما أنزل إليك ) [ المائدة : 67 ] وحال الزيادة في الوحي كحال النقصان منه. إذا عرفت هذا فللأئمة في تأويل الآية قولان : الأول أن التمني بمعنى القراءة كما سلف في البقرة في قوله ) ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) [ الآية :(5/90)
" صفحة رقم 91 "
78 ] وما المراد بهذه القراءة فيه وجهان : أحدهما أنه يجوز أن يسهو النبي فيه ويشتبه على القارئ دون ما رووه من قوله ( تلك الغرانيق العلى ). وثانيهما أنه قراءة هذه الكلمة وإنها قد وقعت بعينها. وكيف وقعت ؟ ذهبت جماعة إلى أنه لما قرأ سورة والنجم اشتبه على الكفار فتوهموا بعض ألفاظه ذلك ، وزيف بأن هذا التوهم من الجم الغفير بعيد. وقيل : إن شيطان الجن ألقاها في البين فظنها الحاضرون من قول الرسول. وضعف بأن هذا يفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل ما يتكلم به النبي. قلت : الإنصاف أنه غير ضعيف ولا يفضي إلى ارتفاع الوثوق لقوله سبحانه ) فينسخ الله ما يلقي الشيطان ( وقيل : إن المتكلم به شيطان الإنس وهم الكفرة كانوا يقربون منه في حال صلاته ويسمعون قراءته ويلقون فيها في إثناء وقفاته. وقيل : إن المتكلم به الرسول قاله سهواً كما روي عن قتادة ومقاتل أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان ، ولا ريب أنه يكون بإلقاء الشيطان. وضعف باستلزامه زوال الأمان عن الشرع وقد عرفت جوابه ، وبأن مثل هذا الكلام المطابق لفواصل السورة يستبعد وقوعها في النعاس. وزعم قوم أن الشيطان أجبره على ذلك ورد بنحو قوله تعالى ) أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا ) [ النحل : 99 ] وذهب جماعة إلى نه قال ذلك اختياراً. ثم إنها باطلة أم لا فيه وجهان : أما اول ففيه طريقان : أحدهما قول ابن عباس في رواية أن ( شيطاناً ) يقال له البيض أتاه على صورة جبريل وألقاها إليه فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء جبريل واستعرضه فقرأها ، فلما بلغ إلى تلك الكلمة أنكر عليه جبريل فقال : إنه أتاني آتٍ على صورتك فألقاها على لساني. وثانيهما أنه لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من تلقاء نفسه ثم رجع عنها. والطريقان منحرفان عند المحققين ، لأن الأول يقتضي أن النبي لا يفرق بين الملك والمعصوم والشيطان الخبيث. والثاني أنه يؤدي غلى كونه خائناً في الوحي. وأما الوجه الثاني فتصحيحه أنه اراد بالغرانيق الملائكة ، وقد كان قرآناً منزلاً في وصف الملائكة فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته. أو هو في تقدير الاستفهام بمعنى الإنكار ، أو المراد بالإِثبات ههنا النفي كقوله ) يبين الله لكم أن تضلوا ) [ النساء : 176 ] قال الجوهري : الغرنيق بضم الغين وفتح النون من طير الماء طويل العنق ، وإذا وصف به الرجال فواحدهم غرنيق وغرنوق بكسر الغين وفتح النون ، وغرنوق وغرانيق بالضم وهو الشاب السيد والجمع غرانق بالفتح والغرانيق. القول الثاني أن التمني هو تمني القلب ومعنى الآية ما من نبي إلا وهو بحيث إذا تمنى أمراً من الأمور وسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى مالا ينبغي ، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ما هو(5/91)
" صفحة رقم 92 "
الحق. وما تلك الوسوسة ؟ قيل : هي أن يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالخير وقد مر فساده. وقال مجاهد : إنه كان يتمنى إنزال الوحي بسرعة دون تأخير فعرفه الله تعالى أن ذلك خاطر غير رحماني ، وإنما المصلحة هي إنزال الوحي على وفق الحوادث. وقيل : كان يتفكر في تأويل المجمل فيلقي الشيطان إلى جملته ما هو غير مراد ، وكان رد الله سبحانه إلى المعنى المراد بإنزال المحكمات. وقيل : معناه إذا أراد فعلاً يتقرب به إلى الله حال الشيكان بينه وبين مقصوده والله تعالى يثبته على ذلك نظيره ) إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) [ الأعراف : 201 ] ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ) [ الأعراف : 200 ] واعترض على هذا القول بأن تمني القلب كيف يكون فتنة للذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون ، وللقاسية قلوبهم وهم المشركون ؟ وأجيب بأنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسبه فيصير ذلك فتنة لمن ضعفت عقيدته في النبي. والحاصل أن الرسل لا ينفكون عن السهو وإن كانوا معصومين عن العمد فعليهم أن لا يتبعوا إلا ما يقطعون به لصدوره عن علم وذلك هو المحكم. وذهب أبو مسلم إلى أن حاصل الآية هو أن كل نبي من جنس البشر الذين هم بصدد الخطأ والنسيان من قبل وساوس الشيطان. ووجه النظم بين هذه الآية والتي قبلها أنه أمر بأن يقول إني لكم نذير لكني من البشر لا من الملائكة ولم يرسل الله قبلي ملكاً بل أرسل رجالا يوسوس الشيطان إليهم ، وعلى هذا فالملائكة لعدم إمكان استيلاء الشيطان عليهم أعظم درجة من الأنبياء وأقوى حالاً منهم. وقال صاحب الكشاف : المعنى أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت وهو أ ، لا ينزل ما ينفر أمتة ولا يوافق هواهم ، مكن الله الشيطان ليلقي في أمانيهم مثل ما ألقي في أمنيتك حتى سبق لسانك. فقلت ( تلك الغرانيق ) الخ. وسبب التمكين غرادة امتحان من حولهم والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين. فهذه جملة أقوال المفسرين في الآية. وأما قوله ) فينسخ الله ( فالمراد إزالة تأثير ما يلقي الشيطان وهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام وقوله ( ثم يحكم الله آياته ( فالمراد بالآيات هي آيات القرآن أي يجعلها بحيث لا يختلط بها شيء من كلام غيره فتكون ثابتة في مظانها ، أو يجعلها بحيث لا يتطرق إليها تأويل فاسد معمول به عند الأمة. ويحتمل أن يكون المراد بأحكام الآيات الإرشاد إلى أدلة الأحكام الشرعية. وقوله ( وإن الظالمين ( أراد المنافقين والمشركين المذكورين إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم والشقاق(5/92)
" صفحة رقم 93 "
البعيد والمعاداة الكاملة. وأعلم أنه سبحانه ذكر لتمكين الشيطان من الإلقاء في الأمنية أثرين : أحدهما في حق غير أهل الإيمان وهم أهل النفاق والشرك وذلك قوله ) وليجعل ( الآية. وثانيهما في حق المؤمنين العارفين بالله وصفاته وهو قوله ) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق ( قال مقاتل : يعني القرآن. وعن الكلبي : أي النسخ. قال جار الله : أي تمكين الشيطان من الإلقاء قلت : أما عند الأشاعرة فلأن المالك له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء ، وأما عند المعتزلة فلأن أفعاله جارية على وفق الحكمة والتدبير. ) فتخبت ( تخضع وتطمئن ) له قلوبهم ( بناء على أصلي الفريقين. والصراط المستقيم ههنا فسروه بالتأويلات الصحيحة والبيانات المطابقة للأصول. قلت : وتفسيره بمعنى أعم من ذلك غير ضائر. ثم بين أن الأعصار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن يكون في شك من القرآن والرسول واليوم العقيم. قيل : يوم بدر لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه ، أو لأنه لا خير فيه للكفار من قولهم ( ريح عقيم ) إذا لم تنشئ مطراً ولم تلقح شجراً ، أو لأن يوم الحرب يقال له ( العقيم ) من حيث أن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرون كأ ، هن عقم لم يلدن ، أو من حيث إن المقاتلين يقال لهم ( أبناء الحرب ) فإذا قتلوا بقي الحرب بلا أبنا. وعن الضحاك أنه يوم القيامة لأنهم لا يرون فيه خيراً ، أو لأن كل ذات حمل تضع فيه حملها ، أو لأنه لا ليل فيه فيستمر كاستمرار المرأة على عدم الولادة. ولا تكرار على هذا القول لأن المراد بالساعة مقدماته ، أو المراد حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذابها ، فوضع يوم عقيم مقام الضمير. واستحسن بعض الأئمة قول الضحاك ورجحه لأن الأول يلزم منه أن الكفار ينتهي شكهم في يوم بدر وليس كذلك فإنهم في مرية بعد يوم بدر أيضاً. ويمكن أن يقال : ( أو ) للعطف على أول الآية فيكون المراد بالذين كفروا في الأول الجنس ، وفي الثاني العهد. سلمنا أنه للعطف على ) تأتيهم ( إلا أن اللام في ) الذين كفروا ( للجنس فيقع على الذين ما انتهى شكهم إلى يوم القيامة ويحتمل أن يراد بالساعة وقت موت كل واحد وبعذاب يوم عقيم القيامة. ثم بين أنه لا مالك يوم تأتي الساعة إلا الله وأنه يحكم بين الناس فيميز بين أهل الجنة وأهل النار. ثم أفرد المهاجرين بالذكر تخصيصاً لهم بمزيد التشريف. يروى أن طوائف من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا : يا نبي الله ، هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك ؟ فأنزل الله عز وجل ) والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ( قال بعض المفسرين هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. وقال بعضهم : هم الذين خرجوا من الأوطان في سرية أو عسكر. ولا يبعد حمل(5/93)
" صفحة رقم 94 "
الآية على الفريقين. والرزق الحسن نعيم الجنة. وعن الكلبي : هو الغنيمة لأنها حلال. وقال الأصم : العلم والفهم كقول شعيب ) ورزقني منه رزقاً حسناً ) [ هود : 88 ] وضعف الوجهان بأنهما ممتنعان بعد القتل أو الموت. قال العلماء : وإنما تظهر هذه الفضيلة للمهاجرين في مزيد الدرجات وإلا فلا بد من شرط اجتناب الكبائر كما في حق غيرهم. ) وإن الله لهو خير الرازقين ( لأن رزق غيره ينتهي إليه وغيره لا يقدر على مثل رزقه ، ولأن رزقه لا يختلط بالمن والأذى ولا بغرض من الأغراض الفاسدة ، ولأنه يرزق ويعطي ما به يتم الانتفاع بالرزق من القوى والحواس وغير ذلك من الشرائط الوجودية والعدمية. قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن غير الله يقدر على الفعل وهو الرزق. ويمكن أن يجاب بأنه مجاز أو على سبيل الفرض والتقدير. وليس في الآية دليل ظاهر على أن المهاجر المقتول والمهاجر الميت على فراشه هل يستويان في الأجر أم لا بل المعلوم منها هو الجمع بينهما في الوعد. وقد يستدل على التسوية بما روي عن أنس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( المقتول في سبيل الله والمتوفي في سبيل الله بغير قتل هما في الأجر شريكان ) فإن لفظ الشركة مشعر بالتسوية. وحين بين رزقهم شرع في ذكر مسكنهم. قيل : في المدخل الذي يرضونه خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم ، لها سبعون ألف صراع. وقال أبو القاسم القشيري : هو أن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم. وقال ابن عباس : يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولاً ) وإن الله ليعلم ( بدرحجات العاملين ومراتب استحقاقهم ) حليم ( عن تفريط المفرط منهم فمهله حتى يتوب فيدخل الجنة. ثم بين أنه مع إكرامه لهم في الآخرة لا يدع نصرهم في الدنيا قبل أن يقتلوا أو يموتوا فقال ذلكر قال الزجاج : أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصةً إذا قتلوا أو ماتوا. عن مقاتل : أن قوماً من المشركين لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا : إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم ، فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر فأبوا وقاتلوهم ذلك بغيهم عليهم وثبت لهم المسلمون فنصروا ، فوقع في أنفس المسلمين شيء من القتال في الشهر الحرام فنزل ) ومن عاقب ( أي قاتل ) بمثل ما عوقب به ( أي كما ابتدئ بقتاله سمى الابتداء باسم الجزاء للطباق وللمبلابسة من حيث إن ذلك سبب وهذا مسبب عنه ) ثم بغي عليه ( أي ثم كان المجازي مبغياً عليه أي مظلوماً. ومعنى ( ثم ) تفاوت الرتبة لأن كونه مبدوأ بالقتال معه نوع ظلم كما قيل ( البادي أظلم ) وهو موجب لتنصرته ظاهراً إلا أن كونه في نفس(5/94)
" صفحة رقم 95 "
الأمر مظلوماً هو السبب الأصلي في النصرة. وعن الضحاك أن الآية مدنية وهي في القصاص والجراحات. واستدل الشافعي بها في وجوب رعاية المماثلة في القصاص فقال : من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه. وفي ختم الآية بذكر العفو والمغفرة وجوه منها : أن المندوب للمجني عليه هو أن يعفو عن الجاني كقوله ) فمن عفا واصلح فأجره على الله ) [ الشورى : 40 ] وكأنه قال : أنا ضامن لنصرته إن ترك الانتقام وطلب إكثار ما هو أولى به فإِني عفوّ غفور. ومنها أنه ضمن النصر على الباغي ولوح بذكر هاتين الصفتين بما هو أولى بالمجني عليه وهو العفو والصفح. ومنها أن دل بذكرهما على أنه قادر على العقوبة لأن العفو عند المقدرة. ثم بين أن ذلك النصر بسبب أنه قادر ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل ، وذلك أن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر ، أو أراد تحصيل أحد العرضين الظلام والضياء في مكان الآخر وقد مر في أوائل آل عمران. وفيه أن خالق الليل والنهار ومصرف الأدوار والأكوار لا يخفى عليه شيء من الزمانيات خيراً أو شراً إنصافاً أو بغياً وأكد هذا المعنى بقوله ) إن الله سميع بصير ( يسمع أقوال الخلائق ويبصر أفعالهم. ثم بين أن كمال القدرة والعلم هو يقتضي وجوب الوجود فقال ) ذلك ( أي الوصف بخلق الملوين وبالإحاطة بما يجري فيهما بسبب أن الحقية منحصرة في ذاته وأن وجود غيره ولا سيما الأوثان موسوم بالبطلان فلا نقص كالإمكان. ويعلم مما ذكر أنه لا شيء أعلى منه شاناً وأكبر سلطاناً. وإنما قال ههنا ) من دونه هو الباطل ( بزيادة هو وفي ( لقمان ) ) من دونه الباطل ) [ الآية : 30 ] لأن هذا وقع بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين ولهذا أيضاً زيدت اللام في قوله ) وإن الله لهو الغني الحميد ( بخلاف ما في ( لقمان ) وأيضاً يمكن أن يقال : تقدم في هذه السورة ذكر الشيطان فلهذا ذكرت هذه المؤكدات بخلاف ( لقمان ) فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان هناك بنحو ما ذكر ههنا. ثم ذكر أنواعاً أخر من دلائل قدرته ونعمته فقال ) الم تر ( قيل : هي رؤية البصر لأن نزول الماء من جهة السماء أو اخضرار النبات من المبصرات. وقيل : بمعنى العلم لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم لم يعتد بها. وفي قوله ) فتصبح ( دون أن يقول فأصبحت مناسباً ل ) أنزل ( إشارة إلى بقاء أثر المطر زماناً طويلاً وإن كان ابتداء الإصباح عقيب النزول نظيره قول القائل : ( أنعم فلان عليّ عام كذا فأروح وأغدو شاكراً لهط. ولو قال : ( فرحت وغدوت ( لم يقع ذلك الموقع. وإنما لم ينصب ) فتصبح ( جواباً للاستفهام لإيهام عكس ما هو المقصود لأنه يوهم نفي الاخضرار كما لو قلت لصاحبك : الم تراني أنعمت عليك فتشكر. إن نصبته أو همت أنك نافٍ لشكره شاكٍ تفريطه فيه ، وإن رفعته فأنت مثبت لشكره بطريق الاستمرار ولا يبعد أن تكون هذه الآية إشارة إلى(5/95)
" صفحة رقم 96 "
دليل الإعادة كما في أول السورة وهذا قول أبي مسلم : ( إن الله لطيف خبير ( قال الكلبي : لطيف في أفعاله خبير بأعمال خلقه ، وقال مقاتل : لطيف باستخراج النبت خبير بكيفية خلقه. وقال ابن عباس : لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط وقد مر مثل هذه في أواسط ) الأنعام (. ثم بين أن كل ما في السموات والأرض ملكه وملكه لاي متنع شيء منها من تصرفاته ، وهو غني عن كل ذلك وإنما خلقها لحاجة المكلفين إليها ومن جملتها المطر والنبات خلقها رحمة للحيوانات وإنعاماً عليها. وإذا كان إنعامه خالياً عن غرض عائد إليه كان مستحقاً للحمد بل هو حميد في ذاته وإن لم يحمده الحامدون. التأويل : ( وكأين من قرية ( قالب ) أهلكناها ( بضيق الصدر وسوء الخلق واستيلاء الغفلة. ) وبئر معطلة ( هي القلب الفارغ عن أعمال القوى الروحانية في طلب المعارف والحقائق ) وقصر مشيد ( وهو الرأس الخالي عن نتائج الفكر الصافي والحواس السليمة ) أفلم يسيروا ( في أرض البشرية عابرين على منازل السالكين إلى أن يصلوا غلى مقام القلب ) فتكون لهم قلوب يعقلون بها ( الرحمن بذاته أو آذانر قلوب ) يسمعون بها ( أقواله أو أبصار بصائر يبصرون بها أفعاله. وإذا صح وصف القلب بالسمع والبصر صح وصفه بسائر وجوه الإدراكات ، فقد يدرك نسيم الإقبال بمشام السر كقوله ) إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن ( وكقول يعقوب ) إني لأجد ريح يوسف ) [ يوسف : 94 ] ( ولن يخلف الله وعده ( ليس خلفه في وعيد المؤمنين بخلف في الحقيقة لأنه تصديق قوله ) سبقت رحمتي غضبي ( ) وإن يوماً عند ربك كألف سنة ( قيل : لأنه موجد الزمان وليس عنده صباح ولا مساء فوجود الزمان وعدمه وكثرته وقلته سواء عنده والاستعجال وضده إنما يتصور في المتزمنات قلت : ففيه أن الكل بإرادته وإن ما أراد الله فأسبابه متهيئة يحصل في يوم بإرادته مالا يحصل في ألف سنة بحسب فرضنا وتقديرنا ومن هنا قيل : جذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين ) أمليت لها ( فيه انه تعالى يمهل ولنه لا يهمل ) لهم مغفرة ( أي ستر فمنهم من يستر زلته ، ومنهم من يستر عليه أعماله الصالحة صيانة له عن الملاحظة ، ومنهم من يستر عليه حاله لئلا يصيبه من الشهوة فتنة كما قيل : لا تنكرن جحدي هواك فإنما
ذاك الجحود عليك ستر مسبل(5/96)
" صفحة رقم 97 "
ومنهم من يستره بين أوليائه في باب العزة كما قال ) أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري ( ومنهم من يستر أنانيته بهويته فيقول أنا الحق وسبحاني. والرزق الكريم هو الخالي عن شوائب الحدوث لأنه من القديم الكريم ) إلا إذا تمنى ( فيه أن النبي صلى الله عليه سولم بل الولي لا يليق به التمني بل ما على الرسول إلا البلاغ ولا على الولي إلا الرضا والتسليم ، فلو بقي في أحدهم أدنى ملاحظة لغير الله كالحرص على إيمان القوم فوق ما أمر به ابتلاه ببلاء مجال الشيطان في أمنيته بقول أو بعمل ، فتدركه العناية الأولية ةويزيل الخاطر الشيطاني ويثبته على الخاطر الرحماني ، ولا يكون لدخان الفتنة تاثير في نور يقينه كما لا تأثير للضباب في شعاع الشمس بخلاف من في قلبه ظلم الشبهات فإن ذلك الدخان يزيدها كدورة وريناً حتى تأتيه ساعة سلب الاستعداد بالكلية ، ) أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ( هو الأبد لأنه لا ليل له وهو عذاب قطيعة لا وصلى بعدها ) والذين هاجروا ( عن أوطان الطبيعة في طلب الحقيقة ) ثم قتلوا ( بسيف الصدق والرياضة حتى تزكوا أنفسهم ) أو ماتوا ( عن أوصاف البشرية ) ليرزقهم الله رزقاً حسناً ( فرزق القلوب حلاوة العرفان. ورزق الأسرار مشاهدات الجمال ، ورزق الأرواح مكاشفات الجلال. ) وإن الله لهو خير الرازقين ( لأنه يرزق من أوصاف ربوبيته كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) ابين عند ربي يطعمني ويسقيني ( ) ومن عاقب ( بالمجاهدة نفسه ) بمثل ( ما عاقبت النفس بالمخالفة قلبه ) ثم بغي عليه ( أي غلبت النفس على القلب باستيلاء صفاتها ) لينصرنه الله ( باستئصال النفس وتمحيق صفاتها ) إن الله لعفو ( لما سلف ) غفور ( لما بقي في نفوس الطالبين من الأنانية. ) يولج ( ليل السر في نهار التجلي وبالعكس ، أو يولج ليل القبض في نهار البسط ، أو ليل الهيبة ي نهار الأنس ) أنزل من ( سماء القلب ماء الحكمة ) فتصبح ( أرض البشرية ) مخضرة ( بالشريعة وأرض القلوب والأرواح والأسرار بالعلوم والكشوف والأنوار والله أعلم بالصواب. ( الحج : ( 65 - 78 ) ألم تر أن . . . .
" ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ألم تعلم أن الله يعلم ما في(5/97)
" صفحة رقم 98 "
السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير "
( القراآت )
ما لم ينزل ( من الإنزال ابن كثير وأبو عمرو وسهل. والآخرون بالتشديد ) يصطون ( بالصاد مثل ) بصطة ) [ الآية : 247 ] في البقرة ) الذين يدعون ( بياء الغيبة : سهل ويعقوب. الوقوف : ( بأمره ( ط ) بإذنه ( ط ) رحيم ( 5 ) أحياكم ( ز لأن ( ثم ) لترتيب الأخبار ) يحييكم ( 5 ط ) لكفور ( 5 ) إلى ربك ( ط ) مستقيم ( 5 ) تعملون ( 5 ) تختلفون ( 5 ) والأرض ( ط ) في كتاب ( ط ) يسير ( 5 ) علم ( ط ) نصير ( 5 ) المنكر ( ط ) آياتنا ( ط ) ذلكم ( ط ) النار ( ط ) كفروا ( ط ) المصير ( 5 ) فاستمعوا له ( ط ) اجتمعوا له ( ط ) منه ( ط ) والمطلوب ( 5 ) قدره ( ط ) ومن الناس ( ط ) بصير ( 5 ) خلفهم ( ط ) الأمور ( 5 ) تفلحون ( 5 ج للآية مع العطف ) جهاده ( ط ) حرج ( ط ) إبراهيم ( ط ) الناس ( ج للعطف مع الفاء ) بالله ( ط ) مولاكم ( ط ) النصير ( 5. التفسير : إن من جملة نعم الله تعالى على عباده تسخير الأرضيات وتذليلها لهم ، فلا اصلب من الحديد والحجر ، ولا أشد نكاية من النار وقد سخرها للإنسان وسخر لهم الأنعام ايضاً ينتفعون بها بالأكل والركوب والحمل عليها والانتفاع بالنظر إليها ) أفلا ينظرون إلى(5/98)
" صفحة رقم 99 "
الإبل كيف خلقت ) [ الغاشية : 17 ] وسخر لهم الدواب ، وغيرها وخسر لهم الفلك حال كونها جارية بأمره وهو تهيئة الأسباب المعاونة ودفع الأشياء المضادة لسهولة جريها. ولا ريب أن الانتفاع بالأرضيات لا يتأتى إلا بعد الأمن من وقوع السماء على الأرض ، فمّن الله تعالى على المكلفين بأن حفظها كيلا تقع أو كراهة أن تقع على الأرض وذلك بمحض الإقتدار عند أهل الظاهر ، أو بأن جعل طبعها هو الإحاطة بما في ضمنها إذ لا خفة فيها ولا ثقل ولهذا خصت بالحركة على المركز. وفي قوله ) إلا بإذنه ( إشارة إلى أن الأفلاك سنخرق وتنشق فتقع على الأرض ، ويحتمل أ ، يقال : توقيف الوقوع على الإذن لا يوجب حصول الإذن ، فالانخراق والانشقاق لا يستفاد من هذه الآية. ثم ذكر الإنسان مبدأه ومعاده فقال ) وهو الذي أحياكم نظيره قوله في أول البقرة ) كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ) [ الآية : 28 ] وقد سبق هنالك. وفي قوله ) إن الإنسان لكفور ( زجر لهم عن الكفران بطريق التوبيخ. وعن ابن عباس أنه الكافر. وبعضهم جعله أخص فقال : هو أبو جهل وأضرابه ، والأولى إرادة الجنس ، ثم عاد إلى بيان أن أمر التكاليف مستقر على ما في هذه الشريعة فقال ) لكل أمة ( الآية. قال في الكشاف : إنما فقد العاطف ههنا بخلاف نظرائها في السورة لأن تلك منماسبة لما تقدمها في هذه مباينة لها. قلت : وذلك لأن من ههنا إلى آخر السورة عوداً بعد ذكر المعاد إلى الوسط الذي هو حالة التكليف ، والأقرب أن المنسك في هذه الآية هو الشريعة كقوله ) لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ) [ المائدة : 48 ] وهو قول ابن عباس في رواية عطاء. وقيل : أراد مكاتناً معيناً وزماناً لأداء الطاعات. وقال مجاهد : هو الذبائح ولا وجه للتخصيص ههنا والأمة أعم من أن تكون قد بقيت آثارهم أو لم تبق. أما لاضمير في وجه للتخصيص ههنا والأمة أعم من أن تكون قد بقيت آثارهم أو لم تبق. أما الضمير في قوله ) فلا ينازعنك ( فلا بد من رجوعه إلى الأمم الباقية آثارهم في عهد رسول الله صلى الله عليه سولم. قال الزجاج : إنه نهي له عن منازعتهم كما تقول ( لا يضاربنك فلان ) أي لا تضار به. وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمناً. وقال في الكشاف : هو نهي لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اي لا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك ، أو هو زجر لهم عن التعرض لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمنازعة في أمر الدين وكانوا يقولون في الميتة ( مال كم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله ). ومنه يعلم استقرار أمر الديانة على هذه الشريعة وأن على كل أمة من الأمم التي بقيت منها بقية أن يتبعوه ويتركوا مخالفته فلذلك قال : ( وأدع إلى ربك ( أي لا تخص بالدعوة أمة دون أمة فإن كلهم أمتك ) إنك لعلى هدى مستقيم ( أي على دين وسط دليل ظاهر. وإن أبوا إلا الجدال فكل أمرهم إلى الله قائلاً ) الله أعلم بما تعملون ( وفيه وعيد وإنذار مخلوط برففق ولكن ) الله يحكم بينكم ( أي يفصل بين المؤمنين والكافرين منكم ، ويحتمل أن يكون من تتمة المقول وأن يكون ابتداء خطاب من الله سبحانه للأمم. ) ألم تعلم ( خطاب لكل(5/99)
" صفحة رقم 100 "
عالم أو للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد تقوية قلبه وإلا فالرسالة لا تكون إلا بعد العلم بكونه تعالى عالماً بكل المعلومات وإلا اشتبه عليه الصادق بالكاذب. ) إن ذلك ( الذي ذكر وهو كل ما في السماء والأرض ) في كتاب ( قال أبو مسلم : أراد به الحفظ والضبط كالشيء المكتوب ، والجمهور على أنه حقيقة وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه. ولعل في تلك الكتابة لطفاً للملائكة لأن مطابقة تلك الأشياء المكتوبة لما سيحدث إلى الأبد من أدل دليل على كونه عالم الذات ولذلك قال ) ( إن ذلك الكتب ) على الله يسير ( وهذا تصوير لضده وهو صعوبة مثل ذلك على غيره وإلا فلا مدخل لليسر والصعوبة في كمال قدرته. وحين بين كمال ألوهيته قطع شأن أهل الشرك بقوله ) ويعبدون ( الآية والمراد أنهم لم يتمسكوا في صحة عبادته بدليل سمعي ولا علم ضروري وقوله ( وما للظالمين من نصير ( الظلم الشرك ، والصنرة إما بالشفاعة أو بالحجة ولا حجة إلا للحق وهو كقوله في آخر آل عمران ) وما للظالمين من انصار ) [ الآية : 192 ] وقد مر. والمنكر دلائل الغيظ والحنق. وقال جار الله : وهو الفظيع من التجهم والبسور أو هو الإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام وقال الكلبي : اراد أ ، هم كرهوا القرآن مع وضوح دلائلة. وقال ابن عباس : هو التجبر والترفع. وقال مقاتل : أنكروا أن يكون من الله تعالى. السطو الوثب والبطش أي يهمون بالبطش والوثوب لعظم إنكار ما تلي عليهم. وقوله ( من ذلكم ( إشارة إلى غيظهم على التالين أو إلى همهم. ثم إنه كأن سائلاً قائلاً ما ذلك الشرفقيل ) النار ( اي هو النار. قلت : وذلك أن حرارة الغيظ والسطو تشبه حرارة النار ولكن هذه أقوى ولا سيما نار جهنم. ثم استأنف للنار حكماً فقال ) وعدها ( الآية. ويحتمل أن تكون ) النار ( مبتدأ و ) وعدها ( خبراً. ثم ضرب للاصنام مثلا فقال ) يا أيها الناس ضرب مثل ( إنما قال بلفظ الماضي لأنه معلوم من قبل لكل ذي عقل. والمثل بمعنى المثل استعاروه لجملة من الكلام مستغربة مستفصحة متلقاة بالرضا والقبول أهل للتسيير والإرسال وذلك أنهم جعلوا مضربها مثلاً لمكوردها ، ثم استعاروا هذا المستعار للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لتماثلها في الغرابة وهذا هو الذي قصد في الآية : ( فاستمعوا له ( أي تدبروه وحق له ذلك فإن السماع المجرد لا نفع له. قال جار الله : محل ) ولو اجتمعوا له ( نصب على الحال كأنه قال مستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً فكيف لو انفردوا ؟ وأقول : الظاهر أن ( لو ) هذه للمبالغة وجوابه محذوف لدلالة ما تقدم عليه تقديره ، ولو اجتمعوا لخلق الذباب لن يخلقوه ايضاً ، وليس من شرط كل جملة أن يكون لها محل. ثم زاد لعجزهم وضعفهم تأكيداً بقوله ) وإن يسلبهم الذباب ( الاية. بمعنى أترك أمر الحلق والإيجاد وتكلم فيما هو أسهل من(5/100)
" صفحة رقم 101 "
ذلك ، إن هذا الحيوان الضعيف الذي لا قدرة لهم على خلقه لو سلب منهم شيئاً لم يقدروا أيضاً على استخلاص ذلك الشيء منه. عن ابنعباس أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وقيل : سمي الذباب ذباباً كلما ذب آب. ثم عجب من ضعف الأصنام والذباب بقوله ) ضعف الطالب والمطلوب ( فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنفاذ ما سلبه منه. وقيل : الطالب عابد الصنم والمطلوب هو الصنم أو عبادته ، ويجوز أن يكون الطالب هو السالب والمطلوب المسلوب منه. ثم بين أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة بهذه المثابة ) ما قدروا الله حق قدره ( أي ما عرفوه حق معرفته وقد مر مثله في ( الأنعام ). ) إن الله لقوي عزيز ( قادر غالب فكيف يسوِّي بينه وبين العاجز المغلوب في العبادة وهي نهاية التعظيم. وذلك أنهم لو إعتقدوا كون تلك الأصنام طلسمات موضوعة على الكواكب فإذا لم تنفع نفسها في المقدار المذكور فلأن لا تنفع غيرها أولى ، وإن اعتقدوا أنها تماثيل الملائكة أو الأنبياء فلا يليق بها غاية الخضوع التي يستحقها خالق الكل. وحين رد على أهل الشرك معتقدهم في الإلهيات أراد أن يرد عليهم عقيدتهم في النبوَّات وهي أن الرسول لا يكون بشراً فقال ) الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ( فالملك رسول إلى النبي والنبي رسول إلى سائر البشر قاله مقاتل. ههنا سؤالات : الأول أن ( من ) للتبعيض فتفيد الآية أن بعض الملائكة رسل فيكون مناقضاً لقوله ) جاعل الملائكة رسلاً ) [ فاطر : 1 ] والجواب أن الموجبة الجزئية لا تناقض الموجبة الكلية ، أو أراد بهذا البعض من هو رسول إلى نبي آدم وهو أكابر الملائكة ولا يبعد أن يكون بعض الملائكة رسلاً إلى بعض آخر منهم. وثانيهما أنه قال في موضع آخر ) لو اراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء ) [ الزمر : 4 ] وقد نص في هذه الآية أن بعض الناس مصطفى فيلزم من مجموع الآيتين أنه قد اصطفى ولداً. والجواب أن تلك الآية دلت على أن كل ولد مصطفى ولكن لا يلزم من هذه الآية أن كل مصطفى ولد فمن أين يحصل ما ادعيت ؟ والتحقيق أن الموجبتين في الشكل الثاني لا ينتجان هذا ، ويحتمل أن تكون هذه الآية مسوقة للرد على عبدة الملائكة كما كانت الآية المتقدمة للرد على عبدة الأصنام إذ يعلم من هذا أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة بل لأن الله اصطفاهم للرسالة حين كانوا أمناء على وحيه لاي عصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ثم بين علو شأنه وكمال علمه وإحاطته بأحوال المكلفين ما مضى منها وما غبر ، وأن(5/101)
" صفحة رقم 102 "
مرجع الأمور كلها إليه ، وفي كل زجر عن الإقدام على المعصية وبعث الجد في الطاعة فلا جرم صرح بالمقصود قائلاً ) يا ايها الذين آمنوا ( والظاهر أنه خطاب مختص بالمؤمنين ويؤكده قوله بعد ذلك ) هو اجتباكم ( ) هو سماكم المسلمين ( وقيل : عام لكل المكلفين لأن المأمورات بعده لا تختص ببعض الناس دون بعض والتخصيص بالذكر للتشريف فإنهم الذين قبلوا الخطاب. ودل بالركوع والسجود على الصلاة لأنهما ركنان معتبران. وقيل : كان الناس أول ما اسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود ، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود ذكره ابن عباس. قال جار الله : عن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله في سورة الحج سجدتان ؟ قال : نعم أن لم تسجدهما فلا تقرأهما. وعن عبد الله بن عمر : فضلت سورة الحج بسجدتين. وهو مذهب الشافعي. وأما أبو حنيفة فلا يرى هذه سجدة لأنه قرن الركوع بالسجود قال : فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة ، قدم الصلاة لأنها أشرف العبادات ثم عمم فأمر بالعبادة مطلقاً ، ثم جعل الأمر أعم وهو فعل الخيرات الشامل للنوعين التعظيم لأمر الله والشفعة على خلق الله كأنه قال : كلفتكم الصلاة بل كلفكم ما هو أعم منها وهو العبادة ، بل كلفتكم أعم وهو فعل الخيرات على الإطلاق. وقيل : معناه واعبدوا ربكم اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله عز وجل. وعن ابن عباس أن فعل الخير صلة الرحام ومكارم الأخلاق. ومعنى ) لعلكم تفلحون ( افعلوا كل ذلك راجين الفلاح وهو الظفر بنعيم الآخرة لا متيقنين ذلك فإن الإنسان قلما يخلو في أداء فرائضه من تقصير والعواقب أيضاً مستورة. ثم أمر بخلاف النفس والهوى في جميع ما ذكر وهو الجهاد الأكبر فقال ) وجاهدوا في الله ( اي في ذاته ومن أجله ) حق جهاده ( اي حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه فإضافة الجهاد إلى الله من قبيل التوسعة ولأدنى ملابسة من حيث إن الجهاد فعل لوجهه. وقيل : هو امر بالغزو ، أمروا أن يجاهدوا آخرا كما جاهدوا أولاً فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنيعهم يوم بدر. وعن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف : أما لعمت أنا كنا نقرأ ) وجاهدوا في الله حق جهاده ( في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله ؟ فقال عبد الرحمن : ومتى ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء. قال العلماء : لو صحت هذه الرواية فلعل هذه الزيادة من تفسير الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ليست من نفس القرآن وإلا لتواترت. وإما عبارات المفسرين فعن ابن عباس : حق جهاده أي لا تخافوا في الله لومة لائم. وقال الضحاك : اعملوا لله حق عمله. وقال آخرون : استفرغوا ما ي وسعكم في إحياء دين الله وغقامة حدوده باليد واللسان وجميع ما يمكن ، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل. وعن(5/102)
" صفحة رقم 103 "
مقاتل والكلبي : أن الآية منسوخة بقوله ) فاتقوا الله ما استطعتم ) [ التغابن : 16 ] كما أن قوله ) اتقوا الله حق تقاته ) [ آل عمران : 102 ] منسوخ بذلك. وضعف بأن التكليف مشروط بالقدرة فلا حاجة إلى التزام النسخ. ثم عظم شأن المكلفين بقوله ) هو اجتباكم ( أي اختاركم لدينه ونصرته وفيه تشريف كقوله ) وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) [ البقرة : 143 ] ثم كان لقائل أن يقول : التكليف وإن كان تشريفاً إلا أن فيه مشقة على النس فقال ) وما جعل عليكم في الدين من حرج ( اي ضيق وشدة وذلك أنه فتح باب التوبة ووسع على المكلفين بأنواع الرخص والكفارات والديات والأروش. يروى أن أبا هريرة قال : كيف قال سبحانه ) وما جعل عليكم في الدين من حرج ( مع أنا منعنا عن الزنا والسرقة ؟ فقال ابن عباس : بلى ولكن الإصر الذي كان علي بني إسرائيل وضع عنكم. قالت المعتزلة : لو خلق الله فيه الكفر ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج. وعورض بأنه نهاه عن الكفر مع أنه علم ذلك منه ، وكأنه أمره بقلب علم الله جهلاً وهو أعظم الحرج. ثم أثنى على هذه الأمة بقوله ) ملة أبيكم ( أي أعني ملة أبيكم ، ويجوز أن ينتصب بمضمون ما تقدم كأنه قيل : وسع دينكم توسعة ملة ابيكم فأقام المضاف إليه مقام المضاف ، وإنما كان إبراهيم أبا هذه الأمة لأنه أبو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وكل نبي أبو أمته. والمراد أن التوحيد والحنيفية هي مما شرعه إبراهيم. ) هو ( أي الله أو إبراهيم ) سماكم المسلمين من قبل ( اي في سائر الكتب أو في قوله ) ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) [ البقرة : 128 ] ( وفي هذا ( القرآن أما إن كان المسمى هو الله فظاهر ، وأما إن كان هو إبراهيم فلعله أراد أن حكاية دعائه مذكورة في القرآن. وقوله ( ليكون الرسول ( متعلق بقوله ) هو اجتباكم ( اي فضلكم على الأمم لهذا الغرض نظيره قوله في البقرة ) وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا ) [ الآية : 143 ] والأصل تقديم الأمة كما في ( البقرة ) لأن الخطاب معهم وليقع الختم على شهادة الرسول كما هو الواقع إلا أنه عكس الترتيب في هذه السورة ليناط به قوله ) فأقيموا الصلاة ( والمراد إذ خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه واعتصموا بدلائله العقلية والسمعية أو بألطافه وعنايته. قال ابن عباس : سلوا الله العصمة عن كل المحرمات. وقال آخرون : اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون فهو خير مولى وناصرز استدلت المعتزلة بالآية في قولهم إنه يريد الإيمان من الكل من وجوه الاعتصام به إلا إذا لم يوجد منه الشر ألبتة. الثالث أنه لو خلق في عباده الكفر والمعاصي لم يكن نعم المولى. وأجيب بعد تسليم إرادة الإيمان من الكل أن إرادة الشيء إن كانت مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكفار تستلزم أن يكون الله تعالى مريداً(5/103)
" صفحة رقم 104 "
لجهل نفسه. وإن لم تستلزم فقد سقط السؤال وايضاً الاعتصام به إنما يكون منه كقوله ( أعوذ بك منه ) وايضاً إنه خلق الشهوة في قلب الفاسق وخلق المشتهي وقربه منه ودفع المانع وسلط عليه شياطين الإنس والجن ، فلو لم تكن كل هذه مقتضية لكونه بئس المولى لم يكن خلق الكفر أيضاً مقتضياً لذلك. التأويل : ( سخر لكم ما ( في أرض البشرية من الصفات الحيوانية والشيطانية ، وسخر فلك الواردات المغيبة تجري في بحر القلب ، ويمسك القلب أن تقع على ارض النفس بأن تتصف بصفاتها ) إلا بإذنه ( بقدر ما أباحه الشرع من ضروريات المأكول والملبوس وغيرهما ) وهو الذي أحياكم ( بازدواج الروح إلى القالب ) ثم يميتكم ( عن صفات البشرية ) ثم يحييكم ( بنور الصفات الرحمانية ) فلا ينازعنك ( في أمرك فإن لك مع الله وقتاً لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولكل قوم رتبة لا يتجاوزونها ) إن الذين يدعون من دون الله ( كالأصنام الظاهرة والباطنة لن يطلعوا على كيفية خلق الذباب ، وإن يسلبهم ذباب هواجس النفس شيئاً من صفاء القلب وجمعية الوقت ) ضعف الطالب ( وهو القلب غير المؤيد بنور الإيمان ) والمطلوب ( وهو النفس والشيطان ) اركعوا ( بالنزول عن مرتبة الإنسانية إلى خضوع الحيوانية : ( ومنهم من يمشي على أربع ) [ النور : 45 ] ( واسجدوا ( بالنزول إلى مرتبة الحيواينة ) والنجم والشجر يسجدان ) [ الرحمن : 6 ] ( واعبدوا ربكم ( بجعل الطاعة خالصة له وافعلوا الخيرر بمراقبة الله في جميع أحوالكم ) لعلكم تفلحون ( بالوصال. ) وجاهدوا في الله حق جهاده ( فجهاد النفس بتزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ ، وجهاد القلب بتصفيته وقطع تعلقه عن الكونين ، وجهاد الروح بتحليته بإفناء الوجود في وجوده ) هو اجتباكم ( لهذه الكرامات من بين سائر البريات ولولا أنه اجتباكم ما اهتديتم إليه كما قيل : فلولاكم ما عرفنا الهوى وما جعل عليكم في دين العشاق. وهو السير إلى الله من ضيق ( من تقرَّب إلي شبراً(5/104)
" صفحة رقم 105 "
تقرَّبت إليه ذراعاً ) والسير إلى الله من سنة إبراهيم ) إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) [ الصافات : 99 ] ( هو سماكم المسلمين ( في الأزل وهو في هذا الطور. وإنما قدم الرسول لأن روحه في طرف الأزل مقدم ( أول ما خلق الله روحي ) فهو مشرف وقتئذ على أرواح أمته وبعد ذلك خلقت أرواح أمته مشرفين على أرواح غيرهم. وفي سورة البقرة اعتبر طرف الأبد فوقع الختم على الرسول وعلى شهادته فأقيموا الصلاةر بدوام السير والعروج إلى الله والتعظيم لأمره ) وآتوا الزكاة ( بدعوة الخلق إلى الله والشفقة عليهم ) واعتصموا بحبل الله ( حتى تصلوا غليه هو متولي أفنائكم عنكم ) فنعم المولى ( في إفناء وجودكم ) ونعم النصير ( في إبقائكم بربكم والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين وذرياته وسلم تسليماً كثيراً دائماً ابداً إلى يوم الدين. تم الجزء السابع عشر ، ويليه الجزء الثامن عشر وأوله تفسير سورة ) المؤمنون ((5/105)
" صفحة رقم 106 "
سورة المؤمنون
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثامن عشر من أجزاء القرآن الكريم
سورة المؤمنون مكية
وحروفها 4840 كلمها 1840 آياتها 118 بسم الله الرحمن الرحيم ( المؤمنون : ( 1 - 30 ) قد أفلح المؤمنون
" قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين قال رب انصرني بما كذبون فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين(5/106)
" صفحة رقم 107 "
وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين "
( القراآت )
لأماناتهم ( على التوحيد : ابن كثير ) على صلاتهم ( موحدة : حمزة وعلي وخلف. و ) عظماً ( ) العظم ( موحدين على إرادة الجنس أو على وضع الواحد مكان الجمع لعدم اللبس : ابن عار وأبو بكر وحماد و ) جبلة ( الأول موحداً والثاني مجموعاً : زيد بن يعقوب. وروى القطعي عن أبي زيد بالعكس فيهما. الباقون مجموعين سيناءر بكسر السين : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بفتحها. ) تنبت ( من الإنبات : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب غير روح. الآخرون بفتح التاء وضم الباء من النبات. ) تسقيكم ( بفتح النون : نافع وابن عامر وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد. بالتاء الفوقانية : يزيد : الباقون بضم النون. ) منزلاً ( بفتح الميم وكسر الزاء : أبو بكر وحماد. الآخرون بضم الميم وفتح الزاء. الوقوف : ( المؤمنون ( 5 لا ) خاشعون ( 5 لا ) معرضون ( 5 لا ) فاعلون ( 5 لا ) حافظون ( 5 ) ملومين ( 5 لاعتراض الاستثناء بين الأوصاف ولاستحقاق الشرط الابتداء ولطول الكلام وإلا فالآيتان من أوصاف المؤمنين ايضاً ) العادون ( 5 ج ) راعون ( 5 لا ) يحافظون ( 5 وإلا لأوهم تخصيص الإرث بالمذكورين في الآيتين فقط ) الوارثون ( 5 لا ) الفردوس ( ط خالدونر 5 ) طين ( ج 5 للعدول عن المظهر إلى كناية عن غير مذكور فإن المراد من الإنسان آدم ، ومن الهاء في جعلناه جنس ولده مع عطف ظاهر ) مكين ( 5 ج للعطف ) لحماً ( صلى وقد قيل للابتداء بإنشاء نفخ الروح تعظيماً ) آخر ( ط ) الخالقين ( 5 ط لأن ( ثم ) لترتيب الأخبار فإن بين الإحياء والإفناء مهلة ) لميتون ( 5 ط لذلك ) لقادرون ( 5 للآية مع اتصال المعنى بلفظ الفاء ) وأعناب ( لئلا يوهم أن الجار والمجرور وصف أعناب ) تأكلون ( 5 لا لأن شجرة مفعول ) أنشأنا ( ) لآكلين ( 5 ) لعبرة ( ط لأن الجملة بعدها ليست بصفة لها ) تأكلون ( 5 لا ) تحملون ( 5 ط ) غيره ( ط ) تتقون ( 5 ) مثلكم ( لا لأن قوله ) يريد ( صفة ) بشر ( ) عليكم ( ط ) ملائكة ( ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول ) الأولين ( ج 5 للآية مع اجتناب الابتداء بقول الكفار مع اتحاد مقصود الكلام ) حين ( 5 ) كذبون ( 5 ) التنور ( 5 لا لأن ما بعده جواب فإذا ) منهم ( ج لعطف المتفقتين مع اعتراض الاستثناء ) ظلموا ( ج للابتداء بأن مع احتمال(5/107)
" صفحة رقم 108 "
إضمار اللام والفاء للتعليل ) مغرقون ( 5 ) الظالمين ( 5 ) المنزلين ( 5 ) المبتلين ( 5. التفسير : لما أنجر الكلام في السورة المتقدمة إلى الختم بالصلاة والزكاة بدأ في هذه السورة بذكر فضائلهما وفضائل ما ينخرط في سلكهما من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. ( وقد ) نقيض " ( لما ) لأنها تثبت المتوقع و ( لما ) تنفيه ، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي إخبار بثبوت الفلاح لهم. وقد مر معنى الإيمان والاختلاف فيه بين الأقوام في أول ( البقرة ). وأما الشخوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة ، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون ، وترك الالتفات ، والنظر إلى موضع السجود ، والتوقي عن كف الثوب أي جمعه ، والعبث بجسده وثيابه ، والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم ، والسدل بأن يضع وسط الثوب على رأسه أو على عاتقه ويرسل طرفيه ، والاحتراز عن الفرقعة والتشبيك وتقليب الحصى ، والاختصار وهو أن يمسك بيده عصاً أو سوطاً ونحوهما. وقال الحسن وابن سيرين : كان المسلمون يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يفعل ذلك ، فلما نزلت هذه الآية طأطأ وكان لا يجاوز بصره مصلاة ، وهذا الخشوع واجب عند المحققين. نقل الإمام الغزالي عن أبي طالب المكي عن بشر الحافي : من لم يخشع فسدت صلاته. وعن الحسن : كلا صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع. وعن معاذ بن جبل : من عرف من على يمينه وشماله متعمداً وهو في الصلاة فلا صلاة له. وروي عنه مرفوعاً : إن العبد ليصلي الصلىة لا يكتب له سدسها وعشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها. وادعى عبد الواحد بن زيد إجماع العلماء على أنه ليس للعبد غلا ما عقل من صلاته. ومما يدل على صحة هذا القول قوله سبحانه ) افلا يتدبرون القرآن ) [ النساء : 82 ] والتدبر لا يتصوّر بدون الوقوف على المعنى ، وكذا قوله ) وأقم الصلاة لذكرى ) [ طه : 14 ] والغفلة تضاد الذكر ولهذا قال ) ولا تكن من الغافلين ) [ الأعراف : 205 ] وقوله ( حتى تعلموا ما تقولون ) [ النساء : 43 ] نهي للسكران غلا أن المستغرق في هموم الدنيا بمنزلته. وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( المصلي يناجي ربه ) ولا مناجاة مع الغفلة أصلاً بخلاف سائر أركان الإسلام فإِن المقصود منها يحصل مع الغفلة ، فإن الغرض من الزكاة كسر الحرص وإغناء الفقير ، وكذا الصوم قاهر للقوي كاسر لسطوة النفس التي هي عدّو الله ، وكذا الحج فإِن أفعاله شاقة وفيه من المجاهدة ما يحصل به الابتلاء وإن لم يكن القلب حاضراً. والمتكلمون أيضاً اتفقوا على أنه لا بد من الحضور والخشوع قالوا : لأن السجود لله تعالى طاعة ، وللصنم كفر ، وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه ، فلا بد من مميز وما ذاك إلا القصد والإرادة ولا بد فيهما من الحضور .(5/108)
" صفحة رقم 109 "
وأما الفقهاء فالأكثرون منهم لا يوجبون ذلك فيقال لهم : هبوا أنه ليس من شرط الإجزاء وهو عدم وجوب القضاء ، أليس هو من شرط القبول الذي يترتب عليه الثواب ؟ فمن استعار ثوباً ثم ردّه على أحسن الوجوه فقد رج عن العهدة ، وكذا إن ردّه على وجه الإهانة والاستخفاف إلا أنه يستحق المدح في الصورة الأولى والذم في الصورة الثالنية. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه ابصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ). ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول : اللهم زّوجني الحور العين. فقال : بئس الخاطب أنت قلت : لا ريب أن الاحتياط إنما هو في رعاية جانب الخشوع كما حكي عن بعض العلماء أنه اختار الإمامة فقيل له في ذلك ؟ فقال : أخاف إن تركت الفاتحة أن يعاتبني الشافعي. وإن قرأت مع الإمام أن يعاتبني أبو حنيفة ، فاخترت الإمامة طلباً للخلاص عن هذا الخلاف. قال علماء المعاني : سبب إضافة الصلاة إليهم هو أن الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى لأجله ، فالمصلي هو المنتفع بها وحده وهي عدته وذخيرته ، وأما المصلى له فمتعال عن ذلك. ولما كان اللغو هو الساقط من القول أو الفعل احتمل أن يقع في الصلاة ، وأيضاً كان الإعراض عنه من باب التروك كما أ ، الخشوع وهو استعمال الآداب وما لا يصح ولا تكمل الصلاة إلا به كان من باب الأفعال وعلى الفعل والترك بناء قاعدة التكليف فلا جرم جعلهما قرينين فقال ) والذين هم عن اللغو معرضون ( واللغو على ما قلنا يشمل كل ما كان حراماً أو مكروهاً أو مباحاً لا ضرورة إليه ولا حاجة قولاًَ أو فعلاً. فمن الحرام قوله تعالى حكاية عن الكفار ) لا تسمعوا لهذا القرآن واللغو فيه ) [ فصلت : 26 ] فإِن ذلك اللغو كفر والكفر حرام. ومن المباح قوله ) لا يؤاخذكم الله بالغوا في أيمانكم ) [ البقرة : 225 ] ولو لم يكن مباحاً لم يناسبه عدم المؤاخذة. والإعراض عن اللغو هو بأن لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه كما قال عز من قائل ) وإذا مروا باللغو مروا كراماً ) [ الفرقان : 72 ] ثم وصفهم بفعل الزكاة وهو مناسب للصلاة. وليس المرلاد بالزماة ههنا عين القدر المخرج من النصاب لأن الخلق لا قدرة لهم على فعلها فلا يصح فقوله للمزكي فاعل الزكاة كقولك للضارب فاعل الضرب. وعن أبي مسلم أنه حمل الزكاة ههنا على فعل محمود مرضي كقوله ) قد افلح من تزكى ) [ الأعلى : 14 ] والأول أقرب لأنه مناسب لعرف الشرع. الصفة الرابعة قوله ) والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم ( قال الفراء : ( على ) بمعنى ( عن ) : وقال غيره : هو في موضع الحال أي إلا والين أو قوامين على أزواجهم نظيره قولهم ( كان زياد على البصرة ) اي والياً عليها ، والمعنى أنهم(5/109)
" صفحة رقم 110 "
مستمرون على حفظ الفروج في كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسربهم. أو تعلق الجار بمحذوف يدل عليه ) غير ملومين ( كأنه قيل : يلامون على كل من يباشرونه إلا على أزواجهم فإنهم غير ملومين عليهن ، وجوّز في الكشاف أن يكون صلة لحافظين من قولهم ( احفظ عليّ عنان فرسي ) على تضمينه معنى الفي أي لا تسلط علي فرسي. وإنما لم يقل ( أو من ملكت ) لأنه اجتمع في السرية وصفان : الأنوثة التي هي سبب نقصان العقل وكونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع ) فمن ابتغى ( حداً ) وراء ذلك ( الحد الذي شرع وهو إباحة أربع من الحرائر وما ئاء من الإماء وكفى به حداً فسيحاً ) فأولئك هم ( الكاملون في العدوان المتناهون فيه. قيل : لا دليل فيه على تحريم نكاح المتعة لأنها من جملة الأزواج إذا صح النكاح. ومنع من أنها من الأزواج ولو كانت زوجة لورث منها الزوج لقوله ) ولكم نصف ما ترك أزواجكم ) [ النساء : 12 ] ولورثت منه لقوله ) ولهن الربع ) [ النساء : 12 ] ثم الآية من العمومات التي دخلها التخصيص بدلائل أخر فيخرج منها الغلام بل الوطء في الدبر على الإطلاق لأنه ليس موضع الحرث ، وكذا الزوجة والأمة في أحوال الحيض والعدة والإحرام ونحوها. وقال أبو حنيفة : الاستثناء من النفي ليس بإثبات فقوله ( لا صلاة إلا بطهور ) ( ولا نكاح إلا بولي ) لا يقتضي حصول الصلاة والنكاح بمجرد حصول الطهور والولي ، ولا تخصيص عنده في الآية. والمعنى أنه يجب حفظ الفروج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات ، وهكذا نقله الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره. الصفة الخامسة رعاية الأمانة والعهد والمراد بهما الشيء المؤمتمن عليه والمعاهد عليه لتمكن رعايتهما ، والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية. ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الناس كالعبادات والمعاملات والودائع والقصود والنيات والعقود والنذور والطلاق والعتاق وغيرها ، وقد مر في تفسير قوله ) إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) [ النساء : 58 ] وقوله ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) [ المائدة : 1 ] ويحتمل الخصوص فيما تحملوه من أمانات الناس وعهودهم. الصفة السادسة محافظة الصلاة كما مر في قوله ) حافظوا على الصلوات ) [ البقرة : 238 ] وذلك في ( البقرة ) وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم وآخراً بالمداومة عليها وبمراقبة أعداها وأوقاتها فرائض كانت أو سنناً ، رواتب أو غيرها. فالمحافظة أعم من الخشوع وأشمل ، ومن هنا يعرف فضيلة الصلاة إذ وقع الافتتاح بها والاختتام عليها وإن اختلف الاعتباران والعبارتان. ) أولئك هم الوارثون ( الأحقاء بأن(5/110)
" صفحة رقم 111 "
يسموا ورّاثاً دون من عداهم ممن يرث مالاً فانياً أو متاعاً قليلاً أو ممن يدخل الجنة سواهم كالأطفال والمجانين والفساق بعد العفو وكالولدان والحور. ثم بين الموروث بقوله ) الذين يرثون الفردوس ( وقد سبق معنىهذه الوراثة في ( الأعراف ) في قوله ) ونودوا أن تلكموا الجنة أورثتموها ) [ الأعراف : 43 ] قال الفقهاء : لا فرق في الميراث بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر ملكه فيه ولذلك قالوا للدية إنها ميراث المقتول. وكل من في الجنة فله مسكن مفروض في النار على تقدير طفره ، وكل من في النار فله مسكن مفروض في الجنة على تقدير إيمانه كما ورد في الحديث ، فإذا تبادل المسكنان كان جميع أهل الجنة وارثين ، ولكن كل افردوس لا يكون ميراثاً بل بعضه ميراث وبعضه بالاستحقاق إلا أنه يصدق بالجملة أ ، هم ورثوا الفردوس أي الجنة ولهذا أنت الضمير في قوله ) هم فيها خالدون ( وقيل : إن الجنة كانت مسكن أبينا آدم عليه السلام فإذا انتقلت إلى أولاده كان شبيهاً بالميراث. والفردوس بلسان الحبشة أو الروم هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. روي أن الله عز وجل بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر. وروى أبو موسى الشعري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أه قال ( الفردوس مقصورة الرحمن فيها الأنهار والأشجار ) وعن أبي أماة مرفوعاً طسلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش ( ويروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ) لما خلق الله تعالى جنة عدن قال لها : تكلمي. فقالت : قد افلح المؤمنون ( ويروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ) إذا أحسن العبد الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت : حفظك الله كما حافظت علي وتشفع لصاحبها. فإذا أضاعها قالت : ضيعك الله كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب ويضرب بها على وجه صاحبها ( قالت العلماء : أما كلام الجنة فالمراد به أنها أعدت للمتقين كقوله ) قالتا أتينا طائعين ) [ فصلت : 11 ] وكذا الكلام في كلام ) طوبى (. وأما أنه تعالى خلق الجنة بيده فالمراد تولى خلقها وإيجادها من غير واسطة. وأما حديث الصلاة فلا ريب أنها حركات وسكنات ولا يصح عليها التكلم فالمراد به ضرب المثل كقولك للمنعم عليك ) إن إحسانك إليّ ينطق بالشكر (. ولما حث عباده على العبادات ووعدهم الفردوس على مواظبتها عاد إلى تقرير المبدأ والمعاد ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين وهو ثلاثة أنواع : الأول الاستدلال بأطوار خلق الإنسان والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر وهذا البناء للقلة ولما يسقط عن الشيء كالقلامة. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل : المراد آدم لأنه استل من الطين ، والكناية في ) جعلناه ( راجعة إلى الإنسان الذي هو ولد آدم أي جعلنا جوهره نطفة وقال آخرون :(5/111)
" صفحة رقم 112 "
الإنسان ههنا هو ولد آدم والطين اسم آدم والسلالة هي الأجزاء الكلية المبثوثة في أعضائه التي تجتمع منياً في أوعيته ، ويحتمل أن يقال : إن كل نسل آدم حاله كذلك لأن غذاءه ينتهي إلى النبات المتولد من صفو الأ ) ض والماء المسمى بالسلالة. ثم إن تلك السلالة تصير منياً وعلى هذا فكلتا لفظي ) من ( للابتداء. قال في الكشاف : الأولى للابتداء والثانية للبيان وهو موجه على التفسير الأول فقط. والقرار المستقر اراد به الرحم. وإنما وصفت بالمكين لمكانتها في نفسها فإنها مكنت حيث هي وأحرزت ، أو على الإسناد المجازي باعتبار المستقر فيها كقولك ) طريق سائر (. وترتيب الأطوار كما مر في أول الحج. ومعنى ) ثم ( في بعض هذه المعطوفات تراخي الرتبة ولا سيما في قوله ) ثم أنشأناه خلقاً آخر ( اي خلقاً مبايناً للخلق الأول حيث جعله حيواناً وكان جماداً إلى غير ذلك من دقائق اللطف وغرائب الصنع وذلك بعد استكماله ثلاثة اربعينات. ومن هنا ذهب أبو حنيفة فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده إلى أنه يضمن البيضةولا يردّ الفرخ لأنه خلق آخر سوى البيضة. وروى العوفي عن ابن عباس أن ذلك تصريف الله في أطواره بعد الولادة من الطفولية وما بعدها إلى استواء الشباب وخلق الفهم والعقل فيه يؤيده قوله ) ثم إنكم بعد ذلك لميتون ( ويروى هذا القول أيضاً عن مجاهد وابن عمر ) فتبارك الله ( كثر خيره وبركته أو هو وصف له بالدوام والبقاء أو بالتعالي لأن البركة يرجع معناها إلى الامتداد وكل ما زاد على الشيء فقد علاه. ومعنى ) أحسن الخالقين ( أحسن المقدّرين تقديراً فحذف المميز للعلم به. قالت المعتزلة : في الاية دلالة على أن كل ما يفعله الله فهو حسن وحكمة فلا يكون خالقاً للكفر والمعاصي. وأجيب بأن الحسن ههنا بمعنى الإحكام والإتقان في التركيب والتأليف وبأنه لا يقبح منه شيء لأنه تعالى يتصرف في ملكه. قالوا : لولا أن غيره تعالى خالق لم تحسن هذه الإضافة فيعلم منه أن العبد خالق أفعاله. وعورض بقوله ) الله خالق كل شيء ) [ الزمر : 62 ] وأجيب بأن المراد أنه أحسن الخالقين في زعمكم واعتقادكم. وبعضهم أجاب بأن وجه حسن الإضافة هو أنه تعالى وصف عيسى بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير ولا يخفى ضعف هذا الجواب من أنه يلزم إطلاق الجمع على الواحد ومن حيث إنه يلزم إطلاق الخالق على المصوّرين. والحق أن الخلق لو كان بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد لا يلزم منه شيء من هذه الإشكالات. روي أن عبد الله بن أبي سرج كان يتب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اكتب هكذا نزلت. فقال عبد الله : إن كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ فلحق بمك كافراً ثم اسلم يوم الفتح. وروي عن عمر ايضاً سبق لسانه بقوله ) فتبارك الله أحسن الخالقين ( قبل أن ينزل. واعلم أ ، هذا غير مستبعد ولا قادح في إعجاز القرآن لأنه ليس بمقدار سورة الكوثر التي وقع فيها أقل التحدي به .(5/112)
" صفحة رقم 113 "
سؤال : ما الحكمة في الموت وهلا وصل نعيم الآخرة ليكون في الأنعام أبلغ ؟ جواب لو كان كذلك لكان الآتي بالطاعة آتياً بها لمحض الجنة والثواب فلا جرم أوقع الله تعالى الإماتة والإعادة في البين لتكون الطاعات أدخل في الإخلاص وابعد عن صورة المبايعة. وليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة وهي حياة القبر فتعرف تلك بدليل آخر. ويمكن إن يقال : بل الآية تتضمنها فإنها ايضاً من جنس الإعادة. النوع الثاني : الاستدلال بخلق السموات قال الخليل والفراء والزجاج : سميت السموات طرائق لأنها طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل. وقال علي بن عيسى : لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم. وقيل : لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها ) وما كنا عن الخلق ( أي عن السموات وحفظها أن لا تقع على الأرض قاله سفيان بن عيينة. وعن الحسن أراد بالخلق الناس أي ما كنا ) افلين ( عن مصالحهم فخلقنا الطرائق فوقهم لينزل منها عليهم البركات والأرزاق ولينتفعوا بغير ذلك من منافعها. ويحتمل أن يريد بالأول كمال قدرته وبالثاني كمال علمه بأحوال مخلوقاته وفيه نوع من الزجر. ويمكن أن يراد خلقنا السموات وما كنا عن خلقها ذاهلين فلهذا لم تخرج عن التقدير الذي اردنا كونها عليه نظيره ) ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ) [ الملك : 3 ] النوع الثالث : الاستدلال بنزول الأمطار وإخراج النبات وإنشاء الحيوانات. ونزول المطر عند الظاهرين من أهل الشرع لا يبعد أن يكون من نفس السماء ، وعند أرباب المعقول منهم يراد به إنزاله من جهة السماء قالوا : إنه سبحانه يصعد الأجزاء المائية من البحر بواسطة التبخير فتصير في الجو صافية عذبة زائلة عنها ملوحة البحر ، ثم ينزلها بواسطة السحب وقد سلف في أول البقرة تفصيل ذلك. ومعنى ) بقدر ( بتقدير يسلمون معه من المضار ويصلون إلى المنافع ، أو بمقدار يوافق حاجاتهم. ومعنى إسكان ماء المطر في الأرض جعله مدداً للينابيع والآبار. وقيل : أراد إثابته في الأرض على ما روي عن ابن عباس أن الأنهار خمسة : سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل ، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة واستودعها الجبال وأجراها في الأرض. ) وإنا على ذهاب به لقادرون ( أي كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه. ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى إذ فيه إيذان على أن الذاهب به قادر على ايّ وجه اراد به ، وفيه تحذير من كفران نعمة الماء وتخويف من نفاذه غذا لم يشكر. ثم لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء ين المنافع الحاصلة بسببه وخص منها النخيل والأعناب وشجرة الزيتون لأنها أكرم الشجر وأعمها نفعاً ، ووصف النخل بأن ثمرهما جامع لأمرين : التفكه والتطعم. وجوز في الكشاف أن يكون قوله ) ومنها تأكلون ( من(5/113)
" صفحة رقم 114 "
قولهم ) فلان يأكل من حرفة كذا ( كأنه قال : ومن هذه الجنان وجوه ارزاقكم ومعايشكم ووصف الزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعاً. قال جار الله : طور سيناء وطور سينين إما أن يكون الطور فيه مضافاً إلى بقعة اسمها سيناء وسينون ، وإما أن يكون المجموع اسماص للجبل وهو جبل فلسطين على قول والطور الذي منه نودي موسى. من قرأ ) سيناء ( بفتح السين فهو كصحراء ، ومن قرأ بكسرها فمنع صرفه للعلمية والعجمة أو التأنيث بتأويل البقعة ولا يكون الفه حينئذ للتأنيث كعلباء وحرباء. قال في الكشاف ) بالدهن ( في موضع الحال والباء للمصاحبة دون التعدية ، لأن نبات الدهن أو إنباته لا يكاد يستعمل. فالمعنى تنبت الشجرة وفيها الدهن أو تنبت الشجرة زيتونها وفيه الزيت. ويجوز أن يكون أنبت بمعنى نبت أيضا ، والصبغ الإدام لأنه يصبغ الخبز. قلت : لا يبعد أن يريد بالصبغ نفس ثمر الزيتون لا الزيت ، وكذا يحتمل أن تكون الباء في ) بالدهن ( للتعدية إلا أن يكون الإنبات متعجياً. قال المفسرون : إنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل لأنها منه تشعبت في البلاد وتفرقت أو لأن معظمها هنالك. قوله ) وإن لكم في الأنعام لعبرة ( قد مر في ) النحل (. ولعل القصد بالأنعام ههنا. الإِبل خاصة لأنها هي المحمول عليها في العادة ولانه قرنها بالفلك وهي سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر. وإنما قال في هذه السورة. ) فواكه كثيرة ( بالجمع بخلاف ما في ) الزخرف ( لتناسب قوله هنا ) منافع كثيرة ( لتناسب قوله ) جنات ( كما قال هنالك ) فاكهة ) [ الرحمن : 11 ] على التوحيد لتناسب قوله ) وتلك الجنة ) [ مريم : 63 ] وإنما قال هنا في الموضعين ) ومنها تأكلون ( بزيادة الواو خلاف الزخرف لأن تقدير الاية : منها تدخرون ومنها تأكلون ومنها تبيعون ومنها ومنها ، وليس كذلك فاكهة الجنة فإنها للأكل فحسب فافهم. وأعلم أنه لما أنجر الكلام إلى ذكر الفلك أتبعه قصة نوح لأنه أول من الهم صنعتها ، وفيه أيضاً تمزيج القصص بدلائل التوحيد على عادة القرآن لأجل الاعتبار والتنشيط. وقوله ( ما لكم من غله غيره ( جملة مستأنفة تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة. ومعنى ) أفلا تتقون ( أفلا تخافون أن تتركوا عبادة من هو لوجوب وجوده مستحق العبادة ثم تذهبوا فتعبدوا ما ليس بهذه الصفة بل هو في أخس مراتب الإمكان وهي الجمادية. ثم حكى الله سبحانه عنهم شبهاً : الأولى قولهم ) ما هذا إلا بشر مثلكم ( إنكار كون الرسول من جنس البشر أو إنكار مثلهم في الأسباب الدنيوية من المال والجاه والجمال كأنهم ظنوا أن القرب من الله يوجب المزية في هذه الأمور ويتأكد هذا الاحتمال بالشبهة الثانية وهي قوله ) يريد أن يتفضل عليكم ( أي يتكلف طلب الفضل والرياسة عليكم نظيره ) وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) [ يونس : 78 ] ويتأكد الاحتمال والأول بالشبهة الثالثة(5/114)
" صفحة رقم 115 "
وهي قوله ) ولو شاء الله لأنزل ملائكة ( لعلو شأنهم ووفور علمهم وكمال قوتهم. وقد حكى هذه الشبهة عن أقوام آخرن في ) حم السجدة ( ) قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ) [ فصلت : 14 ] خص هذه السورة باسم الله على الأصل ولتقدم ذكر الله وخص تلك السورة باسم الرب لتقدم ذكر الرب في قوله ) ذلك رب العالمين ) [ فصلت : 9 ] وهم من جملة العالمين قالوه إما اعتقاداً وإما استهزاء. الشبهة الرابعة الاعتصام بحبل التقليد ) ما سمعنا بهذا ( أي بمثل هذا الكلام أو بمثل هذا المدعي فيجوز أن يكونوا صادقين في ذلك للفطرة المتداولة ، ويجوز أن يكونوا تجاهلوا وتكذبوا لانهماكهم في الغي وتشمرهم لدفع الحق وإفحام النبي صلى الله عليه سولم بأيّ وجه يمكنهم يؤيده الشبهة الخامسة وهي نسبتهم إياه إلى الجنون مع علمهم ظاهراً بأنه أرجح الناس عقلاً ورزانة. قال جار الله : الجنة الجنون أو الجن أي به جن يخبلونه ، وهذا بناء على زعم العوام أن المجنون ضر به الجن. ثم رتبوا على هذه الشبهة قولهم ) فتربصوا به حتى حين ( أي اصبروا عليه إلى أن ينكشف جنونه ويفيق أو إلى أن يموت أو يقتل. وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام فإنه عليه السلام كان يفعل أفعالاً على خلاف عاداتهم. وكان رؤساؤهم يقولون للعوانم : إنه مجنون لينفروهم عنه وليلبسوا عليهم أمره. ويحتمل أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً وهو أن يقولوا لقومهم اصبروا فإنه إن كان نبياً حقاً فالله ينصره ويقوّي أمره فنحن حينئذ نتبعه ، وإن كان كاذباً فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه. واعلم أ ، ه سبحانه لم يذكر جواب شبهاتهم لركاكتها ولأنه قد علم في هذا الكتاب الكريم أجوبتها غير مرة ) ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً ) [ الأنعام : 9 ] ( قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً ) [ الإسراء : 95 ] ( أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ) [ القصص : 66 ] ( أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ) [ البقرة : 170 ] وإذا بطل طريقة التقليد صار حديث التربص ضائعاً يجب قبول قول من يدعي النبوّة بعد ظهور المعجزة من غير توقف. ثم حكى أن نوحاً عليه السلام لما علم إصرارهم على الكفر ) قال رب انصرني ( أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي ففي نصرته إهلاكهم ، أو انصرني بدل تكذيبهم إياي كقولك ) هذا بذاك ( والمراد بدلني من غم التكذيب سلوة النصرة أو انصرني بإنجاز ما كذبوني فيه وهو وعد العذاب في قوله ) إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) [ الأعراف : 59 ] وباقي القصة إلى قوله ) إنهم مغرقون ( قد مر تفسير مثلها في سورة هود. ومعنى ) فأسلك ( أدخل فيها وقد مر في أول الحجر في قوله ) كذلك نسلكه ) [ الاية : 12 ] و ) سبق عليه القول ( نقيض ) سبقت لهم منا الحسنى ) [ الأنبياء : 101 ] لأن ( على )(5/115)
" صفحة رقم 116 "
تستعمل في الضار كما أن اللام تستعمل في النافع. وقد جاء زيادة منهم ههنا على الأصل وحذفت في ) هود ( ليحسن عطف ) ومن آمن ( من غير التباس وبشاعة. قيل : في قوله ) بأعيننا ( على الجمع فساد قول المشبهة إن الله خلق آدم على صورته. أما قوله ) فإذا استويت ( أي ركبت واستوليت ) أنت ومن معك على الفلك فقل ( لم يقل ) فقولوا ( لأن أول الكلام مبني على خطاب نوح ، ولأن قول النبي قول الأمة مع ما فيه من الإشعار بفضله ومن إظهار الكبرياء وأن كل أحد لا يليق لخطاب رب العزة. وفي الأمر بالحمد على هلاكهم تقبيح صورة الظلمة كقوله ) فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ) [ الأنعام : 45 ] وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق جزماً لأنه كان عرفه أن ذلك سبب نجاتهم من الاشتراك مع الظلمة في حكم الإهلاك. ثم أمره أن يسأل ما هو أهم وأنفع أن ينزله في السفينة بدليل عطف ) وقل ( على جزاء ) فإذا استويت ( أو ينزله في الأرض عند خروجه من السفينة لأنه لا يبعد أن يدعو عند ركوب السفينة بما يتعلق بالخروج منها ) منزلاً ( اي إنزالاً أو موضع إنزال يبارك له فيه بزيادة إعطاء خير الدارين وقد أمره أن يشفع بالدعاء الثناء المطابق للمسألة وهو قوله ) وأنت خير المنزلين ( أي إنزالاً وذلك أنه أقدر على الحفظ وأعلم بحال النازل بل كل منزل فإنه لا يقدر على إيصال الخير إلى النازل إلا بإقداره وتمكينه وإلقاء تلك الداعية في قلبه ) إن في ذلك ( الذي ذكر من القصة ) لآيات ( لعبراً ودلالات لمن اعتبر وادّكر فإن إظهار تلك المياه العظيمة والذهاب بها إلى مقارّها لا يقدر عليها إلا القدير الخبير ) وإن كنا ( هي المخففة من الثقيلة واللام في ) لمبتلين ( هي الفارقة. والمعنى وإن الشأن والقصة كما مبتلين أي مصيبين قوم نوح ببلاء الغرق أو مختبرين بهذه الآيات من يخلفهم لننظر من يعتبر كقوله ) ولقد تركناها آية فهل من مدكر ) [ القمر : 15 ] وقيل : المراد كما يعاقب بالغرق من كفر فقد يمتحن به من لم يكفر على وجه المصلحة لا التعذيبن فليس الغرق كله على وجه واحد. التأويل : الفلاح الظفر والفوز والبقاء أي ظفر المؤمنون بالإيمان الحقيقي المقيد بجميع الشرائط بنفوسهم ببذلها في الله ، وفازوا بالوصول إلى الله وبقوابه بعد أن فنوا فيه. الخشوع في الظاهر انتكاس الراس وغض العين واستماع الأذن وقراءة اللسان ووضع اليمين على الشمال كالعبيد ، واعتدال الظهر في القيام وانحناؤه في الركوع وثبات القدمين. والخشوع في الباطن سكون النفس عن الخواطر والهواجس وحضور القلب لمعاني القراءة والأذكار ومراقبة السر بترك الالتفات إلى المكوّنات ، واستغراق الروح في بحر المحبة وذوبانه عند تجلي صفات الجمال والجلال. واللغو كل ما يشغلك عن الله. والزكاة تزكية(5/116)
" صفحة رقم 117 "
النفس عن الأخلاق الذميمة بل عن حب الدنيا لأنه راس خطيئة ) إلا على أزواجهم ( في كلمة ) على ( دلالة على أنهم يجب أن يستولوا على الأزواج لا بالعكس وإلا كن عدوّاً لهم كقوله ) إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم ) [ التغابن : 14 ] وعلامة الاستيلاء على الأزواج أن يبتغي بالنكاح النسل ورعاية السنة في أوانها لحظ النفس وإلا كان متجاوزاً طريق الكمال ) لأمانتهم ( يعني التي حملها الإنسان ) وعهدهم ( هو عهد الميثاق في الأزل يحافظون الفرق بين المحافظة والخشوع ، أن الخشوع معتبر في نفس الصلاة ، والمحافظة معتبرة فيها وفيما قبلها من الشرائط وفيما بعدها وهو أن لا يفعل ما يحبطها ويضيعها الوارثون لأنهم أحياء القلوب وقد نالوا من المراتب ما خلفتها أموات القلوب ) من سلالة ( لأنه سل من جميع أجزاء الأرض فجاء مختلف الألوان والأخلاق حسب اختلاف أجزاء الطين. بل بحسب اختلاف المركبات من الكين. ففيه حرص الفأرة والنملة ، وشهوة الحمار والعصفور ، وغضب الفهد والأسد ، وكبر النمر ، وبخل الكلب ، وشره الخنزير ، وحقد الحية ، وغير ذلك من الصفات الذميمة ، وفيه شجاعة السد ، وسخاوة الديك ، وقناعة البوم ، وحلم الجمل ، وتواضع الخرة ، ووفاء الكلب ، وبكور الغراب ، وهمة البازي ومحوها من الأخلاق الحميدة ) فتبارك الله أحسن الخالقين ( لأنه خلق أحسن المخلوقين. أما من حيث الصورة فلأنه تعالى خلق من نطفة متشابهة الأجزاء بدناً مختلف الأبعاض والأعضاء كاللحم والشحم والعظم والعروق والشعر والظفر والعصب والعروق والمخ والأنف والفم واليد والرجل وغيرها مما يشهد لبعضها علم التشريح. وأما من حيث المعنى فلأنه خلق الإنسان مستعداً لحمل الأمانة التي أبى حملها السموات والأرض والجبال وسيجيء تحقيق ذلك في موضعه ) ثم إنكم بعد ذلك لميتون ( إلى قوله ) تبعثون ( فيه أن الإنسان قابل لموت القلب ولموت النفس ولحشرهما. وفي موت أحدهما حياة الآخر وحشره. وموت القلب عبارة عن انغماسه وتستره في حجب الغواشي الاتية عليه من طرق الحواس الظاهرة وحاستي الوهم والخيال فلذلك قال ) ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق ( هي الأغشية والحجب من الجهات المذكورة ) وما كنا عن ( مصالح ) الخلق غافلين ( فلا نترك العبد في تلك الحجب بدليل قوله ) وأنزلنا من السماء ( سماء العناية ) ماء ( الرحمة ) بقدر ( استعداد السالك ) فأسكناه ( في أرض وجوده ) فأنشأنا لكم به جنات من نخيل ( المعارف ) وأعناب ( الكشوف وشجرة الخفي الذي يخرج من طور سيناء الروح بتأثير تجلي أنوار الصفات ) تنبت ( بدهن حسن الاستعداد لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة لأنه سر بين الله وبين الروح. ) وصبغ ( لآكل الكونين بقوة الهمة. ثم أخبر عن نعم الغلب أن فيها منافع(5/117)
" صفحة رقم 118 "
لأنها آلة تحصيل الكمال ) وعليها وعلى ( ذلك الشريعة في سفر السير إلى الله ) تحملونه ( وتأويل قصة نوح قد مر في سورة هود والله أعلم. ( المؤمنون : ( 31 - 56 ) ثم أنشأنا من . . . .
" ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون "
( القراآت )
هيهات هيهات ( بكسر التاء فيهما : يزيد والوقف بالتاء لا غير وهو الصحيح عنه : وروى ابن وردان عنه بالكسر والتنوين فيهما. الباقون بفتح التاء فيهما في الحالين إلا الكسائي فإنه يقف بالهاء ) تتراً ( بالتنوين : ابن كثير وأبو عمرو ويزيد والوقف بالألف لا غير. الباقون بالياء في الحالين ) وأن هذه ( بفتح الهمزة وسكون النون : ابن عامر ) وإن ( بالكسر والتشديد : عاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون ) وأن ( بالفتح والتشديد ) زبراً ( بفتح الباء : عباس. الآخرون بضمها. الوقوف : ( آخرين ( 5 ج للآية مع الفاء واتصال المعنى ) غيره ( ط ) يتقون ( 5 ) الدنيا ( لا لأن ما بعده مقول القول مثلكم لا لأن ما بعده صفة بشر ) تشربون ((5/118)
" صفحة رقم 119 "
5 ) الخاسرون ( 5 ) مخرجون ( 5 ) لما توعدون ( 5 ) بمبعوثين ( 5 لأن الكل مقول الكفار وباب رخصة الضرورة وجواز إتيان الآية مفتوح ) بمؤمنين ( 5 ط ) بما كذبون ( 5 ) نادمين ( ج 5 للآية مع حسن الوصل تصديقاً لقوله ) عما ( ) غثاء ( ط تفخيماً للكلمة التبعيدية بالابتداء مع فاء التعقيب. ) الظالمين ( 5 ) آخرين ( 5 ط لأن الجملة ليست بصفة لها لأن العجز عن سبق الأجل لا يختص بهم ) يستأخرون ( 5 ط لأن طثم ( لترتيب الأخبار. ) تترا ( ط منوناً قرئ أولاً للابتداء بكلما ) أحاديث ( ج لما ذكر في ) غثاء ( ) لا يؤمنون ( 5 ) مبين ( 5 لا لتعلق الجار ) عالين ( 5 ج للآية مع الفاء ) عابدون ( 5 ج لذلك ) المهلكين ( 5 ) يهتدون ( 5 ) ومعين ( 5 ) صالحاً ( ط ) عليم ( 5 ط لمن قرأ ) وإن ( بالكسر ) فاتقون ( 5 ) زبراً ( ط ) فرحون ( 5 ) حين ( 5 ) وبنين ( 5 لا لأن ) نسارع ( مفعول ثان للحسبان ) الخيرات ( ط ) لا يشعرون ( 5. التفسير : عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن ، هذه القرون هم عاد قوم هود لمجيء قصتهم على أثر قصة نوح في غير هذا الموضع ولقوله تعالى في الأعراف ) واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ) [ الآية : 69 ] وقيل : إنهم ثمود لأنهم أهلكوا بالصيحة وقد قال الله تعالى في هذه القصة ) فأخذتهم الصيحة ( ومعنى ) فأرسلنا فيهم ( جعلناهم موضع إرسال وإلا فلفظة أرسل لا تعدى إلا ) بغلى ( وضمن الإرسال معنى القول ولهذا جيء بأن المفسرة اي قلنا لهم على لسان الرسول ) اعبدوا الله ( قال بعضهم : قوله ) افلا تتقون ( غير موصول بما قبله وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه وردّوا عليه الحجة. والجمهور على أنه موصول لأنهدعاهم إلى الله وحذرهم عقابه إن لم يقبلوا قوله ولم يتركوا عبادة الأوثان. قال جار الله : إنما قال في هذه السورة ) وقال الملأ ( بالواو وفي الأعراف ) قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة ) [ الآية : 66 ] بغير واو ومثله في سورة هود ) قالوا يا هود جئتنا ببينة ) [ الآية : 53 ] لأنه بنى الأمر في ذينك الموضعين على تقدير سؤال سائل ، وفي هذه السورة أراد أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل فعطف قولهم على قوله. وقال السكاكي صاحب المفتاح : إنما قدم الجار والمجرور أعني قوله ) من قومه ( على وصف الملا وهم الذين كفروا لطول الصلة بالمعطوفات ، ولأنه لو أخر لأوهم أن قوله ) من قومه ( متعلق بالدنيا. ومعنى لقاء الآخرة لقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب. ) و ( معنى ) أترفناهم ( أنعمناهم بحيث شغلوا بالدنيا عن الأخرى. وقوله ( مما تشربون ( أي من الذي تشربونه فحذف الضمير أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه. ثم أكدوا شبهتهم أن الرسول لا يكون من جنس البشر بقولهم ) ولئن أطعتم ( ) واذن ( واقع في جزاء الشرط وجواب لقومهم(5/119)
" صفحة رقم 120 "
اي إنكم إذا قبلتم قول مثلكم وأطعتموه خسرتم عقولكم وأبطلتم آراءكم إذ لا ترجيح لبعض البشر على بعض فيمعنى الدعوة إلى طريق مخصوص هذا بيان كفرهم. ثم بين تكذيبهم بلقاء الآخرة وطعنهم في الحشر بقوله ) أيعدكم ( الآية. قال جار الله : ثنى ) أنكم ( للتوكيد وحسن ذلك الفصل بالظرف و ) مخرجون ( خبر الأول أو ) أنكم مخرجون ( مبتدأ معناه إخراجكم وخبره ) إذا متم ( والجملة خبر الأول أو ) أنكم مخرجون ( في تقدير وقع إخراجكم وهذه الجملة الفعلية جواب ) إذا ( والجملة الشرطية خبر الأول وفي حرف ابن مسعود ) ايعدكم إذا متم ( ثم أكدوا الاستفهام الإنكاري بقولهم ) هيهات ( ومعناه بعد وهو اسم هذا الفعل ، وفي التكرير تأكيد آخر وكذا في إضمار الفاعل وتبيينه بقوله ) لما توعدون ( قال جار الله : اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في ) هيت لك ) [ يوسف : 23 ] لبيان المهيت به. وقال الزجاج : هو في تقدير المصدر أي البعد لما توعدون أو بعد لما توعدون فيمن نون. ثم بين إترافهم بأنهم قالوا ) إن هي إلا حياتنا ( أي إلا هذه الحياة لأن ) إن ( النافية دخلت على ) هي ( العائدة إلى الحقيقة الذهنية فنفت ما بعدها نفي الجنس ، وقد مر في ) الأنعام (. وإنما زيد في هذه السورة قوله ) نموت ونحيا ( لأن هذه الزيادة لعلها وقعت في كلام هؤلاء دون كلام أولئك ولم يريدوا بهذا الكلام أنفس المتكلمين وحدهم بل أرادوا أنه يموت بعض ويولد بعض وينقرض قرن ويأتي قرن آخر ، ولو أنهم اعتقدوا أنهم يحيون بعد الموت لم يتوجه عليهم ذم ولناقضه قولهم ) وما نحن بمبعوثين (. ثم حكى أ ، هم زعموا أن كل ما يدعيه هود من الاستنباء وحديث البعث وغيره افتراء على الله وأنهم لا يصدقونه ألبتة فلا جرم ) قال ( هو داعياً عليهم كما دعا نوح على قومه ) رب انصرني بما كذبون ( قال الله مجيباً له أي عما زمان قليل قصير ) ليصبحن ( جعل صيرورتهم ) نادمين ( دليلاً على إهلاكهم لأنه علم أنهم لا يندمون إلا عند ظهور سلطان العذاب ووقوع أماراته وذلك وقت غيمان الياس. وزيادة ) ما ( لتوكيد قصر المدة و ) الصيحة ( صيحة جبريل كما سلف في الأعراف وفي ) هود ( ومعنى ) بالحق ( بالعدل كقولك ) فلان يقضي بالحق ( وعلى اصول الاعتزال بالوجوب لأنهم قد استوجبوا الهلاك. والغثاء حميل السيل مما بلي واسودَّ من الأوراق واليعدان وغيرها ، شبههم بذلك في دمارهم واحتقارهم أو في قلة الاعتناء بهم ، وفي ضمن ذلك استيلاء العذاب عليهم باستيلاء السيل على الغثاء يقلبه كيف يشاء. ثم دعا عليه بالهلاك في الدارين بقوله ) فبعداً للقوم الظالمين ( كما مر في سورة هود. وفيه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم وعرف الظالمين لكونهم مذكورين صريحاً بخلاف ما يجيء من قوله ) فبعداً لقوم لا يؤمنون ( لأنهم غير مذكورين إلا بطريق الإجمال وذلك قوله ) ثم أنشأنا(5/120)
" صفحة رقم 121 "
من بعدهم قروناً آخرين ( والظاهر أنهم قوم صالح ولوط وشعيب كما ورد في قصصهم على هذا الترتيب في ) الأعراف ( وفي ) هود ( وغيرهما. وعن ابن عباس أ ، هم بنو اسرائيل. والمعنى إنا بعد ما أخلينا الديار من المكلفين أنشأناهموبلغناهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كانوا قبلهم. ثم بين كمال علمه وقدرته في شأن المكلفين بقوله ) ما تسبق من أمة ( اي كل طائفة مجتمعة في قرن لها آجال مكتوبة في الحياة وفي الموت بالهلاك أو الإهلاك ، لا يتقدمها ولا يتأخر عنها ، وفي أن المقتول ميت بأجله. وقال الكعبي : معنى الاية أنهم لا يتقدمون وقت عذابهم إن لم يؤمنوا ، ولا يتأخرون عنه ولا يستأصلهم إلا إذا علم منهم أنهم لا يزدادون إلا عناداً ، وأنهم لا يلدون مؤمناً ، وأنه لا نفع في بقائهم لغيرهم ولا ضرر على أحد في هلاكهم. ثم بين أن رسل الله كانوا بعد هذه القرون متواترين وأن شأنهم في التكذيب كان واحداً ، وكانت سنة الله فيهم باتباع بعضهم بعضاً في الإهلاك. والتاء في ) تترى ( بدل من الواو في الوتر وهو الفرد أي أرسلناهم واحداً بعد واحد ، والرسول يلابس المسرل والمرسل غليه جميعاً فلذلك جاء في القرآن ) رسلنا ( و ) رسلهم ( و ) رسولها ( وأحاديث يكون اسم جمع للحديث أو جمعاً له من غير لفظة ، ومنه أحاديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويكون جمعاً للأحدوثة من لفظها كالأضحوكة والأعجوبة وهو المراد من الآية أي جعلناهم أخباراً يسمعونها ويتعجب منها لأنهم استؤصلوا فلم يبق فيهم عين ولا أثر سوى الحكاية. ثم ذكر طرفاً من قصة موسى عليه السلام. عن الحسن ) بآياتنا ( أي بديننا كيلا يلزم منه تكرار لأن السلكان المبين هو المعجز ، والأقرب قول ابن عباس أنها الآيات الستع لأن الآيات عند ذكر الرسل يراد بها المعجزات في عرف القرآن ، والسلطان هو العصا لأنها كانت أم آياته وأقدمها فخصت بالذكر لشرفها وقوة دلالتها. ويجوز أن يراد أنها آيات في أنفسها وحجة بينة بالنسبة إلى المتحدين بها ، أو يراد به تسلط موسى عليه السلام في الاستدلال على الصانع وأنه ما كان يقيم لهم وزناً. ثم حكى عن فرعون وقومه صفتهم وشبهتهم. أما الصفة فهي الاستكبار والعلو أي طلبوا الكبر وتكلفوه واستنكفوا عن قبول الحق وكانوا مع ذلك رفيعي الحال في أمور الدنيا غالبين قاهرين مستظهرين بالعدد والعدد ، وأما الشبهة فهي إنكار كون الرسول من جنس البشر ولا سيما إذا كان قومهما وهم بنو إسرائيل خدماً وعيبداً لهم. قال أبو عبيدة : العرب تسمي كل من دان لملك عابداً له ، ويحتمل أ ، يقال : إنه كان يدعي الإلهية فادعى للناس العبادة وإن طاعتهم عبادة على الحقيقة والبشر يقع على ا لواحد وعلى الجمع. والمثل يوصف به الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث. ويقال أيضاً : هما مثلاه وهم أمثاله. ثم بين أنه لما خطرت هذه الشبهة ببالهم صرحوا بالتكذيب فأهلكوا لذلك وكانوا في حكم الله وعلمه كذلك. ثم حكى ما(5/121)
" صفحة رقم 122 "
جرى على قوم موسى بعد إهلاك عدوهم ) ولقد آتينا موسى الكتاب ( أي التوراة ) لعلهم يهتدون ( ومن الناس من ظن أن هذا الضمير راجع إلى فرعون وملئه. والمعنى أنه خص موسى بالكتب لا للتكذيب ولكن يهتدوا به ، فلما أصروا على الكفر مع البيان العظيم استحقوا الإهلاك وهو وهم لأن موسى لم يؤت التوراة إلا بعد إهلاك القبط بدليل قوله ) ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ) [ القصص : 43 ] وفي قوله في أول ) البقرة ( ) وإذ نجيناكم من آل فرعون ( إلى قوله ) وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ) [ الآية : 51 ] والقصة مشهورة. فالصحيح أنه ذكر موسى وأراد قومه كما يقال ) هاشم وثقيف ( ويراد قومهم نظيره ) على خوف من فرعون وملئهم ) [ يونس : 83 ] وقد مر في آخر ) يونس (. ثم أجمل قصة عيسى بقوله ) وجعلنا ابن مريم وأمه آية ( وقد مر بيانه في آخر الأنبياء في قوله ) وجعلناها وابنها آية للعالمين ) [ الآية : 92 ] قال جار الله : لو قيل آيتين لجاز لأن مريم ولدت من غير مسيس ، وعيسى روح من الله ألقى إليها وقد تكلم في المهد وكان يحيى الموتى مع معجزات أخر. واللفظ محتمل للتثنية على تقدير : وجعلنا ابن مريم آية وأمه ىية ثم حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. والأقرب حمل اللفظ على وجه الذي لا يتم إلا بمجموعها وهو الولادة على الوجه العجيب الناقص للعادة. والربوة بحركات الراء هي الأرض المرتفعة. عن كعب وقتادة وأبي العالية : هي إيليا أرض بيت المقدس وأنها كبد الأرض وأقرب إلى السماء بثماينة عشر ميلاً. وعن الحسن : فلسطين والرملة. ومثله عن أبي هريرة قال : إلزموا هذه الرملة رملة فلسطين فإنها الربوة التي ذكرها الله. وقال الكلبي وابن زيد : هي مصر. والأكثرون على أنها دمشق وغوطتها والقرار المستقر من أرض منبسطة مستوية. وعن قتادة : أراد ذات ثمار وماء يعني لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها والمعين الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض من عانه إذا أدركه بعينه فوزنه ) معيون ( على ) مفعول ( وقال الفراء والزجاج : إن شئت جعلته ) فعيلاً ( من الماعون وهو ما سهل على معطيه من أثاث البيت ومثله قول أبي علي : المعين السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى. وقال جار الله : ووجه من جعله ) فعيلاً ( أنه نفاع لظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة. قال المفسرون : سبب الإيواء أنها قرت بابنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة ، وإنما ذهب بها ابن عمها يوسف ثم رجعت غلى أهلها بعد ما مات ملكهم. قوله سبحانه ) يا ايها الرسل ( ليس على ظاهره لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة وفي تأويله وجوه : أحدها الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك ووصى به ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل حقيق أن(5/122)
" صفحة رقم 123 "
يؤخذ به ويعمل عليه ، ويؤيد هذا التأويل ما روي عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقدح من لبن في شدة الحر عند فطره ( صلى الله عليه وسلم ) وهو صائم فرده الرسول إليها وقال : من اين لك هذا ؟ فقالت : من شاة لي ثم رده وقال : من أين هذه اشاة ؟ فقالت : اشتريتها بمالي فأخذه. ثم إنها جاءته وقالت : يا رسول الله لم رددته ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : بذلك أمرت الرسل أن لا تأكل إلا طيباً ولا تعمل إلا صالحاً. وثانيها وهو قول محمد بن جرير أن المراد به عيسى وقد خاطب الواحد خطاب الجمع لشرفه وكقوله ) الذين قال لهم الناس ) [ آل عمران : 173 ] والمراد نعيم بن مسعود. ووقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي آويناهما وقلنا لهما هذا أي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا الكلام ، فكلا مما رزقناكما واعملا عملاً صالحاً اقتداء بالرسل. وثالثها وهو الأظهر عندي أن المراد نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل. ووجه اتصال الكلام بما بعده ظاهر كما نقرره ، ووجه اتصاله بما قبله هو انتهاء الكلام إلى ذكر المستلذ وبالحقيقة المراد به الأمة كقوله ) يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ) [ الطلاق : 1 ] والطيب ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه أو هو الحلال. وقيل : طيبات الرزق حلال لا يعصى الله فيه ، وصاف لا ينسى الله فيه ، وقوام يمسك النفس ويحفظ العقل. وفي تقديم الأكل من الحلال. وفي ) إني بما تعملون عليم ( تحذير من مخالفة هذا الأمر. وقال في سورة سبأ ) إني بما تعملون بصير ) [ الآية : 11 ] وكلاهما من أسمائه تعالى إلا أنه ورد ههنا على الصل لأن العلم أعلم وهناك راعى الفاصلة أو خصص لأن الخطاب مخصوص بآل داود. ومن قرأ ) وإن ( بالكسر فعلى الاستئناف ، ومن قرأ بالفتح مخففاً ومشدداً فعلى حذف لام التعليل والمعلل ) فاتقون ( ثم من قال : الخطاب لجميع الرسل فالمشار إليه بهذه هو أصول الأديان والشرائع التي لا خلاف فيها بين الرسل وجملتها تقوى الله كما ختم به الآية. والضمير في ) تقطعوا ( راجع إلى أممهم. قال الكلبي ومقاتل والضحاك : يعني مشركي مكة والمجوس واليهود والنصارى. ومن قال : الخطاب لعيسى فهذه إشارة غلى ملته في وقتها. وعلى القول الأظهر بل على جميع الأقوال المشار غليه ملة الإسلام كما مر مثله في آخر سورة الأنبياء ، كأنه أمر هناك بالعبادة التي هي أعم ثم أمر بالتقوى التي هي أخص ولهذا قال ) فتقطعوا ( بالفاء ليتوجه الذم أتم فإن المأتي به كلما كان أبعد منالمأمور به كان سببالذم اقوى ، فلا يكون ترتيب التقطع على التقوى كترتبه على العبادة ولهذا أكد التقطع بقوله ) زبراً ( بضم الباء جمع زبور اي حال كونه كتباً مختلفة يعني جعلوا دينهم أدياناً ومذاهب(5/123)
" صفحة رقم 124 "
شتى. ومنقرأ بفتح الباء فمعناه قطعاً استعيرت من زبر الفضة والحديد. ثم أكد الذم بقوله ) كل حزب بما ( اي كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه ديناً لنفسه معجب به يرى أنه المحق الرابح وغيره المبطل الخاسر. ثم بالغ في الذم والتهديد بقوله ) فذرهم في غمرتهم ( وهذا الأمر مما يدل على أن المخاطب بقوله ) يا أيها الرسل ( هو نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) وقد يطلق لفظ الجاعة على الواحد تعظيماً وتفخيماً كقوله ) إنّ إبراهيم كان أمة ) [ النحل : 120 ] والغمرة الماء الذي يغمر القامة. قال جار الله : ضربت مثلاً لما هم مغمورون فيه من جهلهم وغايتهم ، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل. قلت : وأنت إذا تأملت فيما أسلفنا لك في المقدمة التاسعة من مقدمات الكتاب عرفت الفرق بين الوجهين. قال في الكشاف ) إلى حين ( أي إلى أن يقتلوا أو يموتوا. والتحقيق أنه الحالة التي يظهر عندها الحسرة والندامة وذلك إذا عرّفهم الله بطلان ما كانوا عليه وعرّفهم سوء منقلبهم فيشمل الموت والقبر والمحاسبة والنار ، وفيه تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ونهي عن الجزع من تأخير عقابهم. ثم إن القوم كانوا أصحاب نعمة ورفاهية فبين الله تعالى أن ذلك الذي جعله مدداً لهم وهو المال والبنون سبب لاستدراجهم إلى زيادة الإثم نظيره في آل عمران ) إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ) [ الآية : 178 ] وما في ) أنما ( موصولة والرابط محذوف أي نسارع لهم فيه. وفي قوله ) بل لا يشعرون ( أنهم اشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخبر. وفيه انه سبحانه أعطاهم هذه النعم ليكونوا متمكنين بها من الاشتغال بطلب الحق وحين أعرضوا عن الحق كان لزوم الحجة عليهم أقوى. التأويل : ( يأكل مما تأكلون ( لم يعلموا أنهم وإن كانوا يأكلون مما يأكلون ولكنهم لا يأكلون كما يأكلون. ) المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعه أمعاء ( ) والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ( وأهل الله يأكلون ويشربون من مقام ) أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ( ) وقومهما لنا عابدون ( اي في حال الطفولية كانت صفات الروح والقلب عون النفس وتربيتها وتربية صفاتها لاستكمال القالب إلى حد البلوغ ، والاستعداد لتحمل أعباء تكاليف الشرع ) وآويناهما ( يعني مريم النفس وعيسى القلب ) إلى ربوة ( القالب الذي فيه قرارهما ويجري فيه ماء معين الحكمة من القلب على اللسان ) يا أيها الرسل ( أي القوى المرسلة إلى القالب .(5/124)
" صفحة رقم 125 "
( المؤمنون : ( 57 - 90 ) إن الذين هم . . . .
" إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون "
( القراآت )
تهجرون ( بضم التاء وكسر الجيم : نافع. الآخرون بفتح التاء وضم الجيم ) خرجاً فخرج ( بغير اللف فيهما : ابن عامر كلاهما بالألف حمزة وعلي وخلف. الباقون بحذف الألف من الأول وإثباتها في الثاني ) فتحاً ( بالتشديد : يزيد ) سيقولون الله ( الثانية والثالثة : أبو عمرو وسهل ويعقوب. الآخرون باللام فيهما كالأول حملا على المعنى لأن قولك ( من رب هذا ) ( ولمن هذا ) في معنى واحد .(5/125)
" صفحة رقم 126 "
الوقوف : ( مشفقون ( 5 لا ) يؤمنون ( لا ) يشركون ( 5 لا ) راجعون ( 5 لا لأن الكل معطوفات على اسم ( إن ) والخبر ) أولئك ( الجملة ) سابقون ( 5 لا ) يظلمون ( 5 ) عاملون ( 5 ) يجأرون ( 5 لا لحق القول ) لا تنصرون ( 5 ) تنكصون ( 5 لا لأن ما بعده حال ) مستكبرين ( 5 قد قيل : على جعل الجار والمجرور مفعول ) سامراً ( أو مفعول ) تهجرون ( 5 ) الأولين ( 5 منكرونر 5 لصورة الاستفهام وهو العطف ) جنة ( ط ) كارهون ( 5 ) فيهن ( ط ) معرضون ( 5 ط لأن الاستفهام إنكار ) خير ( ز وقد قيلك بناء على أن الواو للابتداء والحال أوجه. ) الرازقين ( 5 ) مستقيم ( 5 ) الناكبون ( 5 ) يعمهون ( 5 ) يتضرعون ( 5 ) مبلسون ( 5 ) والأفئدة ( ط تشكرونر 5 ) تحشرون ( 5 ) والنهار ( ط ) تعقلون ( 5 ) الأوّلون ( 5 ) لمبعوثون ( 5 ) الأوّلين ( 5 ) تعملون ( 5 ) لله ( ط ) تذكرون ( 5 ) العظيم ( 5 ) لله ( ط ) تتقون ( 5 ) تعلمون ( 5 ) لله ( ) تسحرون ( 5 ) لكاذبون ( 5. التفسير : إنه سبحانه لما نفى الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين أتبعه ذكر من هو أهل للخيرات عاجلاً وآجلاً فوصفهم بصفات أربع : الأولى الإشفاق من خشية ربهم وظاهره ينبئ عن تكرار ، لأن الإشفاق يتضمن الخشية فمنهم من قال : جمع بينهما للتأكيد ، ومنهم من حمل الخشية على العذاب أي من عذاب ربهم مشفقون وهو قول الكلبي ومقاتل ، ومنهم من حمل الإشفاق على اثره وهو الدوام في الطاعة. والمعنى الذين هم من خشيته دائمون على طاعته جادّون في طلب مرضاته. ومنهم من قال : الإشفاق كمال الخوف اي هم من سخط الله عاجلاً ومن عقابه آجلاً في نهاية الخوف ، ويلزم ذلك أن يكونوا في غاية الاحتراز عن المعاصي. وفيه أنهم إذا كانوا خائفين من الخشية فلأن يخافوا من عدم الخشية أولى. الثانية قوله ) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون ( والظاهر أنها القرآن. وقيل : هي المخلوقات الدالة على وجود الصانع. وليس المراد التصديق بوجودها فقط فإن ذلك معلوم بالضرورة فلا يوجب المدح ، بل التصديق بكونها دلائل موصلة غلى العرفان ويتبعه الإقرار اللساني ظاهراً. الثالثة التبري عما سوى الله ظاهراً وباطناً بأن لايشرك به طرفة عين. الرابعة قوله ) والذين يؤتون ما آتوا ( أي يعطون ما أعطوا ) وقلوبهم وجلة ( خائفة في شأن ذلك الإعطاء. ثم علل ذلك الوجل بقوله ) أنهم ( اي لأنهم ) إلى ربهم راجعون ( قإن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والمسائلة ونشر الصحف وتتبع الأعمال وعلم أن المجازي هو الذي لا يخفى عليه الضمائر والسرائر لم يخل عمله من حسن النية وخلوص الطوية بحيث يكون أبعد عن الرياء وأدخل في الإخلاص. والظاهر أن هذا الإيتاء مختص بالزكاة والتصدق ، ويحتمل(5/126)
" صفحة رقم 127 "
أن يراد إعطاء كل فعل أو خصلة أي إتيانها يؤيده ما روي أن رسول الله صلى الله عليه سولم قرأ ) ويأتون ما أتوا ( أي يفعلون ما فعلوا. وعن عائشة أنها قالت : قلت يار سول الله هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله ؟ قال : لا يا بنت الصديق ولكن هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل منه. وفي قوله ) يسارعون في الخيرات ( معنيان : أحدهما يرغبون في الطاعات اشد الربغة فيبادرونها ، والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا وجوه المنافع والإكرام لأنهم إذا سورع بها لهم فقد سارعوا في نيلها. قال جار الله : وهذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفى عن الكفار للمؤمنين. وقال في قوله ) وهم لها سابقون ( إنه متروك المفعول أو منيه أي فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها ، والمراد إياها سابقون كقولك ( هو لزيد ضارب ) بمعنى ( هو زيداً ضارب ) جئت باللام لضعف عمل اسم الفاعل ولا سيما فيما قبله ، والمعنى أنهم ينالون الخيرات قبل الأخرى حيث عجلت لهم في الدنيا. وجوّز أن يكون ) لها سابقون ( خبرين أحدهما بعد الآخر كقولك ( هذا هو ) لهذا الأمر أي صالح له. وحين أنجر الكلام إلى ذكر أعمال المكلفين ذكر حكمين لهما الأوّل قوله ) ولا نكلف نفساً إلا وسعها ( وفي الوسع قولان : أحدهما أنه الطاقة والآخر أنه دون الطاقة وهو قول المعتزلة ومقاتل والضحاك والكلبي ، لأنه اتسع فيه على المكلف ولم يضيق مثاله إن لم يستطيع أن يصلي قائماً فليصل قاعداً وإلا فليوم إيماء. وفيه أن هذا الذي وصف به الصالحين غير خارج من وسعهم. الثاني قوله ) ولدينا كتاب ينطق ( والمراد ينطقه إثبات كل عمل فيه وهو اللوح أو صحيفة الأعمال لا يقرأون منها يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل. والبحث بين الأشاعرة والمعتزلة في مثل هذا المقام معلوم. أما قوله ) بل قلوبهم في غمرة من هذا ( ففيه طريقان : أحدهما رادع إلى الكفار والمعنى بل قلوب الكفار في غفلة غامرة لها من هذا الذي بيناه في القرآن ، أو من هذا الذي ينطق بالحق أو الذي عليه هؤلاء المؤمنون. ) ولهم أعمال ( متجاوزة لذلك الذي وصف به المؤمنون كمتابعة الهوى وطلب الدنيا والإعراض عن المولى. ) هم لها
عاملون ( في الحال على سبيل الاعتياد لا يفطمون عنها حتى يأخذهم العذاب أو في الاستقبال لأنها مبينة في علم الله مكتوبة في اللوح عليهم أن يعملوا بها حكم الشقاء الأزلي. وثانيهما وهو اختيار أبي ملم أن هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه سبحانه قال بعد وصفهم ) ولا نكلف نفساً إلا وسعها ( ونهايته ما أتى به هؤلاء. ) ولدينا كتاب ( يحفظ أعمالهم. بل قلوبهم في غمرة من هذار الذي وصفناهم به أهو مقبول عند الله أم مردود ) ولهم أعمال ( من ) دون ذلك ( الذي وصف ) هم لها(5/127)
" صفحة رقم 128 "
عاملون ( وهي النوافل السرية والأعمال القلبية. ثم إنه رجع غلى وصف الكفار بقوله ) حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب ( وهو عذاب الآخرة أو قتلهم يوم بدر أو الجوع حين دعا عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف. فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة واقدّ والأولاد. والجؤار الصراخ باستغاثة. ثم أخبر أنه يقال لهم حينئذ على جهة التبكيت ) لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون ( لا تغاثون من جهتنا أو لا تمنعون منا ، ثم عدد عليهم التوبيخ بمقابحهم. ومعنى النكوص على العقبين التباعد عن الحق والتجافي عنه كمن رجع على ورائه وقد مر في ( الأنعام ). وفي مرجع الضمير في ) به ( أقوال : أحدها أنه للبيت العتيق أو للحرم. والذي سوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت والتفاخر بولايته والقيام به وكانوا يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم. وثانيها مستكبرين بهذا التراجع والتباعد. وثالثها مستكبرين بالقرآن على تضمين الاستكبار معنى التكذيب ، أو على أن الباء للسببية لأن سماع القرآن كان يحدث لهم استكباراً وعتوّاً. ورابعها أنه يتعلق ب ) سامراً ( أو ب ) تهجرون ( والهجر بالضم الفحش وبالفتح الهذيان ، و أهجر في منطفه إذا أفحش. والضمير للقرآن أو للنبي أي تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه أو في النبي ، وكانت عامة سمرهم حول البيت ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً وسب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع. ثم بين أن سبب إقدامهم على الكفر أحد أمور اربعة : الأوّل عدم التدبر في القرآن لأنهم إن تدبروه وتأملوا مبانيه ومعانيه ظهر لهم صدقه وإعجازه فيصدقوا به وبمن جاء به. الثاني قوله ) أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الولين ( والمراد أمر الرسالة. ثم المقصود تقرير أنه لم يأت آباءهم الأقربين رسول كقوله ) لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم ) [ يس : 6 ] فلذلك أ ، كروه واستبعدوه ، أو تقرير أنه أتى ىباءهم الأقدمين رسل وذلك أنهم عرفوا بالتواتر أن رسل الله فيهم كثيرة وكانت الأمم بين مصدق ناج وبين مكذب هالك بعذاب الاستئصالن فما دعاهم ذلك غلى تصديق هذا الرسول وآباؤهم إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان. وقيل : إراد افلم يدبروا القرآن فيخافوا عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين ، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم حين خافوا الله فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه ؟ عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين ولا تسبوا قساً فإنه كان مسلماً ولا تسبوا الحرث بن كعب ولا اسد بن خزيمة ولا تميم بن مر فإنهم كانوا على الإسلام وما(5/128)
" صفحة رقم 129 "
شككتم فيه من شيء فلا تشكوا في أن تبعاً كان مسلماً ) الثالث قوله ) أم لم يعرفوا ( نبه بذلك على أنهم عرفوه وعرفوا صحة نسبته وأمانته فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على أنه أمين ؟ الرابع نسبتهم إياه إلى الجنون وكانوا يعلمون أنه أرجحهم عقلاً ولكنه جاء بما يخالف هواهم فتشككوا في أمره أو شككوا العوام غبقاء على مناصبهم ورياستهم. ثم أضرب عن أقوالهم منبهاً علىمصدوقية أمر النبي فقال ) بل جاءهم ( متلبساً ) بالحق ( أو الباء للتعدية والحق الدين القويم والصراط المستقيم ) وأكثرهم للحق كارهون ( واقلهم كانوا لا يكرهونه وإن لم يظهروا الإيمان به خوفاً منقالة الأعداء كما يحكى عن أبي طالب ، ولهذا جاء الخلاف في صحة إسلامه. ثم بين أن الإلهية تقتضي الاستقلال في الأوامر والنواهي ، وأن الحق والصواب ينحصر فيما دبره غله العالمين وقدّره فقال ) ولو اتبع الحق أهواءهم ( نظيره ما مر في قوله ) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [ الأنبياء : 22 ] وقيل : الحق الإسلام ، والمراد لو انقلب الإسلام شركاً كما تقتضيه أهواؤهم لجاء الله بالقيامة ، ولأهلك العالم ولم يؤخر. وعن قتادة : الحق هو الله ، والمعنى لو كان الله آمراً بالشرك والمعاصي على وفق آرائهم لما كان إلهاً ولكان شيطاناً فلا يقدر على إمساك السموات والأرض ، وحينئذ يختل نظام العالم. ثم ذكر أن نزول القرآن عليهم منجملة الحق فقال ) بل أتيناهم بذكرهم ( إن كانت الباء للتعدية فظاهر ، وإن كانت للمصاحبة فعلى حذف مضاف اي أتاهم رسولنا متلبساً بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أوصيتهم وفخرهم ، أو الإضافة بدل اللام العهدي أي بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون ) لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد الله المخلصين ) [ الصافات : 169 ] ثم بيّن أن دعوته ليست مشوبة بالطمع الموجب للنفرة فقال ) أم تسألهم خرجاً ( أي جعلاً وكذا الخراج وقد مر في آخر الكهف. وقيل : الخرج أقل ولذا قرأ الأكثرون ) خرجاً فخراج ( يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير. وحين أثبت لرسوله مواجب قبول قوله ونفى عنه أضدادها صرح بمضمون أمره ومكنون سره فقال ) وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ( هو دين الإسلام لا تدعوهم إلى غيره من الطرق المنحرفة عن جادة الصواب ، وأشار غلى هذه الطرق بقوله ) وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة ( هم المذكورون فيما تقدم أو كل من لا يؤمن بالآخرة عن الصراطر المستقيم المذكور ) لناكبون ( والتركيب يدور على العدول عن القصد ومنه المنكب لمجمع(5/129)
" صفحة رقم 130 "
عظم العضد والكتف ، والنكباء للريح التي تعدل عن مهاب الرياح للقوم. ثم بين إصرارهم على الكفر بقوله ) ولو رحمناهم ( الآية. يروى أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحني ولحق باليمامة ومنه الميرة عن أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز ، جاء أبو سفيان غلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين ؟ فقال : بلى. فقال الاباء بالسيف والأبناء بالجوع فادع الله أنيكشف عنا الضر فأنزل الله الآية. والمعنى لو كشف الله برحمته هذا الهزال والجوع عنهم لأصروا على ما هم فيه من الطغيان. ثم استشهد على ذلك بقوله ) ولقد أخذناهم ( اي قبل ذلك ) بالعذاب ( يعني ما جرى عليهم يوم بدر ) فما استكانوا لربهم ( أي ما خضعوا له وقد مر اشتقاقه في ( آل عمران ) ) وما يتضرعون ( عدل إلى المضارع لأنه أراد وما من عادة هؤلاء أن يتضرعوا حتى فتحنا عليهم باب العذاب الشديد وهو الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل ، فأبلسوا الساعة أي خضعت رقابهم وجاء أعتاهم واشدهم شكيمة وأخشنهم عريكة يستعطفك. ويحتمل أن يراد محناهم بكل محنة منالقتل والجوع فما شوهد منهم انقياد للحق وهم كذلك إذ عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون ، والإبلاس السكوت مع تحير أو الياس من كل خير. ثم نبه بقوله ) وهو الذي أنشأ لكم ( على أن اسباب التأمل في الدلائل موجودة ، وابواب الأعذار بالكلية مسدودة ، فما كفر من كفر ولا عند من عند إلا للشقاء الأزلي. وفي قوله قليلاً ما تشكرونر أي تشكرون شكراص قليلاً ( وما ) مزيدة للتوكيد دليل على أن المقر أقل من الجاحد. وعن أبي مسلم أنه قال : اراد بالقلة العدم. وفي الآية ثلاثة معان : أحدها إظهار النعمة. وثانيها مطالبة العباد بالشكر عليها فشكر السمع أن لا يسمع إلا لله وبالله ومن الله ، وشكر البصر أن ينظر بنظر العبرة لله وبالله وإلى الله ، وشكر الفؤاد تصفيته عن رين الأخلاق الذميمة وقطع تعلقه عن الكونين لشهوده بالله. وثالثها الشكاية أن الشاكر قليل. ثم بين دلائل أخر على الوحدانية فقال ) وهو الذي ذرأكم ( اي خلقكم وبثكم في الأرض للتناسل وإلى حيث لا مالك سواه تحشرون بعد تفرقكم ) وهو الذي يحيي ويميت ( وفيه مع تذكر نعمة الحياة بيان أن المقصود منها الانتقال إلى دار الثواب ) وله اختلاف الليل والنهار ( أي هو مختص بتصريفهما وأنهما يشبهان الموت والحياة. وفي قوله ) أفلا تعقلون ( توبيخ وتهديد. ثم نبه بقوله ) بل قالوا ( الآيات على أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد والاستبعاد. قال علماء المعاني : قوله ) لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا ( واراد على الأصل لأن التأكيد مذكور عقيب المؤكد وبعده المفعول الثاني. وأما في سورة النمل فسبب تقديم المفعول الثاني على الضمير وعلى المعطوف هو أنه اقتصر(5/130)
" صفحة رقم 131 "
هناك على قوله ) تراباً ( والتراب أبعد في باب الإعادة من العظام ، فقدم ليدل على مزيد الاعتناء به في شأن الاستنكار. ثم رد على منكري الإعادة أو على عبدة الأوثان بقوله ) قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ( أي إن كان عندكم علم فأجيبوني وفيه استهانة بهم وتجهيل لهم بأمر الديانات حتى جوّز أن يشتبه عليهم مثل هذا المكشوف الجلي. وفي قوله ) افلا تذكرون ( ترغيب في التدبر وبعث على التأمل في أمر التوحيد والبعث ، فإن من قدر على اختراع الأرض ومن فيها كان حقيقاً بأن لا يشرك به بعض خلقه وكان قادراً على إعادة ما أفناه ، وفي قوله ) أفلا تتقون ( مثل هذا الترغيب مع التخويف وكان أولى بالآية الثانية لأجل التدرج ولتعظيم السموات والعرش ، ولأن تذكر واجب الوجود مقدم على اتقاء مخالفته ، قال جار الله : أجرت فلاناً على فلان إذا أغنته منه ومنعته يعني وهو يغيث منيشاء ممن يشاء ولا يغيث أحد منه أحداً ) إن كنتم تعلمون ( بهذه الصفة غيره فأجيبوني به. ومعنى ) تسحرون ( تخدعون عن طاعته والخادع هو الشيطان والهوى. ثم بين بقوله ) بل أتيناهم بالحق ( أنه قد بالغ في الحجاج عليهم بهذه الآيات حتى استبان بما هو الحق والصدق ) وإنهم ( مع ذلك ) لكاذبون ( حيث يدعون له الولد والشريك وينسبون إليه العجز عن الإعادة. التأويل : ( منخشية ربهم مشفقون ( إشارة إلى استيلاء سلطان الهيبة في الحضور والغيبة ) بآيات ربهم يؤمنون ( هي ما يكاشف لهم من شواهد الحق في السر والعلانية ) بربهم لا يشركون ( هو ترك الملاحظة في رد الناس وقبولهم ومدحهم وذمهم وانقطاع النظر في المضار والضار عن الوسائط والأسباب ) يسارعون في الخيرات ( يتوجهون إلى الله وينقطعون عما سواه وهم لها سابقونر على قدر سبق العناية ) ولا نكلف نفساً إلا وسعها ( كلفهم أن يقولوا لا إله إلا الله وهم قادرون على ذلك ، وأمرهم بقبول دعوة الأنبياء وما هم بعد بعاجزين عنه ، وقد كتب في اللوح أنهم يقدرون على هذه التكاليف. ) وهم لا يظلمون ( فلا يكلفون ما ليس في وسعهم واستعدادهم ) حتى إذا أخذنا أكابر مجرميها ( مجرميهم بعذاب فساد الاستعداد لفسدت سموات أرواحهم وأرض نفوسهم ومن فيهن من القلب والسر ) وهو خير الرازقين ( فيه أن العلماء بالله عليهم أن لا يدنسوا وجوه قلوبهم الناضرة بدنس الأطماع الفارقة. ) ولقد أخذناهم ( أولاً بعذاب الغبن ) حتى إذا فتحنا عليهم ( باب عذاب الرين يحيي بنوره قلوب بعض عباده ويميت نفوسهم عن صفاتها الذميمة ، أو يحيي بعض النفوس باتباع شهواتها ويميت بعض القلوب باستيلاء ظلمات الطبيعة عليها ) وله اختلاف ( ليل البشرية ونهار الروحانية أو طول ليل الفراق وقصر نهار الوصال ) قالوا(5/131)
" صفحة رقم 132 "
أئذا متنا ( فيه أن الياس من الوصول والوصال ليس من شيم أهل الكمال فقد تقوم قيامة العشق فيبعث القلب الميت ) أو من كان ميتاً فأحييناه ( ملكوت كل شيء هي جهة روحانيته ) وهو يجير ( الأشياء بقيوميته عن الهلاك ولا مانع له ممن أراد به أن لا يجيره. ( المؤمنون : ( 91 - 118 ) ما اتخذ الله . . . .
" ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين "
( القراآت )
عالم ( بالرفع : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وعاصم غيره حفص إلا الخزاز. وقرأ رويس بالخفض إذا وصل وبالرفع إذا ابتدأ ، الآخرون بالخفض ) لعلي أعمل ( بسكون الياء : عاصم وحمزة وعلي(5/132)
" صفحة رقم 133 "
وخلف وسهل ويعقوب وابن مجاهد عن ابن ذكوان. ) شقاوتنا ( حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون ) شقوتنا ( بكسر الشين وسكون القاف في غير ألف. ) سخرياً ( بضم السين وكذلك في صاد : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف والمفضل والخزاز عن هبيرة. الآخرون بكسرها ) إنهم ( بالكسر : حمزة وعلي والخزاز عن هبيرة. ) قل كم ( ) قل إن لبثم ( على الأمر فيهما : حمزة وعلي وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل وافق ابن كثير في الأول. ) لا ترجعون ( على البناء للفاعل يعقوب وحمزة وعلي وخلف. الوقوف : ( على بعض ( ط ) يصفون ( 5 ط لمن قرأ بالرفع إلى هو عالم ومن خفض لم يقف لأنه بدل أو وصف ) يشركون ( 5 ) ما يوعدون ( 5 لا لأن قوله ( فلا ) جواب للشرط وهو إما والنداء عارض ) للظالمين ( 5 لا ) لقادرون ( 5 ) السيئة ( ط ) يصفون ( 5 ) الشياطين ( 5 لا ) يحضرون ( 5 ) ارجعون ( 5 لا لتعلق لعل ) كلا ( ط لأنها للردع عما قبلها أي لا يرجع. وقيل : مبتدأ بها بمعنى حقاً والأول أحسن ) قائلها ( ط ) يبعثون ( 5 ) ولا يتساءلون ( 5 ) المفلحون ( 5 ) خالدون ( 5 ) كالحون ( 5 ) تكذبون ( 5 ) ضالين ( 5 ) ظالمون ( 5 ) ولا تكلمون ( 5 ) الراحمين ( 5 ج للآية والوصل أجوز لشدة اتصال المعنى وللفاء ) تضحكون ( 5 ) صبروا ( ط لمن قرأ ) إنهم ( بالكسر ) الفائزون ( 5 ) سنين ( 5 ) العادين ( 5 ) تعلمون ( 5 ) لا ترجعون ( 5 ) الحق ( 5 لا لأن ما بعده يصلح مستأنفاً وحالاً أي تعالى متوحداً غير مشارك ) إلا هو ( 5 لا لأن قوله ) رب العرش ( يصلح بدلاً من هو وخبر مبتدأ محذوف ) الكريم ( ط ) آخر ( لا لأن الجملة بعده صفة ) به ( لا لأن ما بعده جواب ) عند ربه ( ط ) الكافرون ( 5 ) الراحمين ( 5. التفسير : لما أثبت لنفسه الإلهية بالدلائل الإلزامية في الآيات المتقدمة نفى عن نفسه الأنداد والأضداد بقوله ) ما اتخذ الله من ولد ( بقوله ) وما كان معه من إله ( وفيه ردّ على القائلين بأن الملائكة بنات الله وإبطال الأقوال اليهود والنصارى والثنوية. ثم ذكر شبه دليل التمانع بقوله ) إذاً لذهب ( وهو جواب لمن معه المحاجة من أهل الشرك وجواب الشرط محذوف دل عليه الكلام السابق تقديره : ولو كانمعه آلهة لذهب كل إله بما خلق لانفرد كل واحد منهم بالخلق الذي خلقه واستبد به ، لأن اجتماعهم على خلق واحد لا يتصور فإن ذلك يقتضي عجز الواحد عن ذلك الخلق ، وحينئذ يكون ملك كل واحد منهم متميزاً عن ملك الآخرين. ) ولعلا بعضهم على بعض ( أي لغلب بعضهم على بعض كما ترون حال ملوك الدنيا منتمايز الممالك ومن التغالب ، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم فلذلك ختم الآية بقوله ) سبحان الله عما يصفون ( إلى قوله ) عما يشركون ( ثم أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات قائلاً ) قل رب إما تريني ( أي إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة ) فلا تجعلني ( قريباً لهم. وقد يجوز أن يستعيذ(5/133)
" صفحة رقم 134 "
العبد بالله مما علم أنه لا يفعله اظهاراً للعبودية واستكانة له ويؤيده تكرار رب مرتين. وكانوا ينكرون العذاب ويسخرون منه فأكد وقوعه بقوله ) وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ( قيل : فيه دليل على أن القدرة تصح على المعدوم لأنه أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم ثم لم يفعل ذلك ثم أمره بالصفح عن سيئاتهم ومقابلتها بما يمكن من الإحسان حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه كان أحسن لأنها حسنة مضاعفة بإزاء سيئة. أو نقول : المكافأة حسنة ولكن العفو أحسن. عن ابن عباس هي شهادة أن لا إله إلا الله ةالسيئة الشرك. وعن مجاهد هي أن يسلم عليه إذا لقيه. قيل : هي منسوخة بآية السيف والأولى أن يقال : هي محكمة لأن المداراة مستحبة مالم تؤد إلى محذور ) نحن أعلم بما يصفون ( مما ليس فيك من المثالب والمراد أنه أقدر على جزائهم فعليه أن يفوض أمرهم إلى الله ويدفع أذاهم بالكلام الجميل والسلام وبيان الأدلة على أحسن الوجوه. ثم أتبع هذا التعميم ما يقويه على ذلك وهو الإستعاذة بالله من همزات الشياطين. والهمز النخس ومنه ( مهماز الرائض ) وذلك أنهم يحثون الناس على المعاصي بأنواع الوساوس كما يحث الرائض الدابة على المشي بالمهماز وهي حديدة تكون في مؤخر خفه. عن الحسن أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول بعد استفتاح الصلاة ( اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفخه ونفثه ) فهمزه الجنون ونفثه الشعر ونفخه الكبر. ثم أمره بالتعوّذ من أن يحضروه أصلاً كما يقال : أعوذ بالله من خصومتك بل أعوذ بالله من لقائك. وعن ابن عباس أراد الحضور عند تلاوة القرآن. وعن عكرمة عند النزع والأولى العموم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد اشتكى إليه رجل أرقاً به فقال : ( إذا أردت النوم فقل أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ). قوله ) حتى إذا جاء ( قيل : متعلق بقوله ) وإنهم لكاذبون ( وقيل : ب ) يصفون ( اي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت وما بينهما اعتراض وتأكيد للإعضاء عنهم مستعيناً بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم. والمراد بمجيء الموت أماراته التي تحقق عندها الموت وصارت المعرفة ضرورية فحينئذ يسال الرجعة ولا ينافي هذا السؤال الرجعة عند معاينة النار كقوله ) ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ) [ الأنعام : 27 ] والأكثرون على أنهم الكفار. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها تشمل من لم يزك ولم يحج لقوله ) وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني ) [ المنافقون : 10 ] وأما وجه الجمع في قوله ) ارجعون ( مع وحدة المنادى(5/134)
" صفحة رقم 135 "
فقيل : إن الجمعية راجعة إلى الفعل كأنه قال : ارجع مرات ونظيره ) ألقيا في جهنم ) [ ق : 24 ] أي ألق ألق. وقيل ) رب ( للقسم والخطاب للملائكة القابضين للأرواح أي بحق الله ارجعون والأقرب أن الجمع للتعظيم كقول الشاعر : ألا فارحموني يا إله محمد وقوله : فإن شئت حرمت النساء سواكم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا فيقول : إلى دار الهموم والأحزان بل قدوماً إلى الله. وأما الكافر فيقول : رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ) قال جار الله : أي لعلي آتي بما تركته من الإيمان وأعمل فيه صالحاً كما تقول لعلي أبني على أ تريد أؤسس أساً وأبني عليه. وقيل : أي فيما خلفت من المال والأولى العموم فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية والحقوق كأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما افسدوه ويطيعوا فيما عصوا. قيل : كيف سألوا الرجعة وقد عملوا صحة الدين بالضرورة ومن الدين أن لا رجعة ؟ والجواب بعد تسليم أنهم عرفوا كل الدين أن الإنسان قد يتمنى شيئاً مع علمه بتعذره كقول القائل ( ليت الشباب يعود ) والاستغاثة بحنس هذه المسألة قد تحسن. قولهم ) لعلي ( ليس المراد به الشك وإنما هو كقول المقصر ( مكنوني لعلي أتدارك ) مع كونه جازماً بأنه سيتدارك. ويحتمل أنهم وإن كانوا جازمين بذلك إلا أن أمر المستقبل مبني على الظن والتخمين دون اليقين فلذلك أوردوا الكلام بصورة الترجي. ثم ردعهم بقوله ) كلا ( أي ليس الأمر على ما توهموه من إمكان الرجعة ) إنها كلمة ( والمراد بها طائفة من الكلام منتظم بعضها مع بعض وهي قوله ) ارجعون لعلي أعمل صالحاً ( ) هو قائلها ( لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والحيرة عليه وهو قائلها وحجه لإيجاب إليها ولا تسمع منه ) ومن ورائهم ( الضمير لكل المكلفين أي أمامهم ) برزخ ( حائل بينهم وبين الجنة أو النار وبين الجزاء التام ) إلى يوم يبعثون ( وذلك البرزخ هو مدة ما بين الموت إلى البعث ، ولعل بعض الحجب من الأخلاق الذميمة يندفع في هذه المدة. وقال في الكشاف : حائل بينهم وبين الرجعة ومعناه الإقناط الكلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة. ثم وصف يوم البعث بقوله ) فإذا نفخ في الصور ( قد مر معناه في أواخر ( طه ). وقوله ( فلا أنساب بينهم ( ليس المراد به نفي النسب لأن ذلك ثابت بالحقيقة فإذن المراد حكمه وما يتفرع عليه من التعاطف والتراحم والتواصل ، فقد يكون أحد القريبين في(5/135)
" صفحة رقم 136 "
الجنة والآخر في النار ويكون بكل مكلف من اشتغال نفسه ما يمنعه من الالتفات إلى أحوال نسبه. عن قتادة لا شيء أبغض إلى الإنسان من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء. وأما الجمع بين قوله ) ولا يتساءلون ( وبين قوله ) وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) [ المؤمنون : 10 ] فظاهر لأن هذا في صفة أهل الموقف وذاك في صفة أهل الجنة. ولو سلم أن ككليهما في وصف أهل الموقف فلن نسلم اتحاد المواطن والأزمنة وغيرهما من الاعتبارات التي يقع فيها التساؤل كحقوق النسب ونحوها. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاثة مواطن تذهل فيها كل نفس : حين يرمي إلى كل إنسان كتابه ، وعند الموازين وعلى جسر جهنم ) وقد مر مثل أية الموازين في أول ( الأعراف ) فليرجع إلى هنالك. وقوله ( في جهنم خالدون ( بدل من ) خسروا أنفسهم ( ولا محل له كالمبدل فإِن اصللة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف. ومعنى خسران أنفسهم امتناع انتفاعهم بها. وقال ابن عباس : خسروها بأن صارت منازلهم للمؤمنين. ومعنى ) تلفح ( تسفع أي تضرب وتأكل لحومهم وجلودهم النار ، قاله ابن عباس. وعن الزجاج أن اللفح والنفح واحد إلا أن اللفح أشد تأثيراً والكلوح أن يتقلص الشفتان عن الأسنان كالرؤوس المشوية. ييروى أن عتبة الغلام مر في السوق برأس أخرج من التنور فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته. وقال الجوهري : الكلوح تكشر في عبوس. ثم بيّن سبحانه أنه قال لهم حينئذ تقريعاً وتوبيخاً ) الم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ( قالت المعتزلة : لو كان فعل التكذيب بخلق الله تعالى لم يكن لهذا التقريع وجه وعورض بالعلم والداعي. وفسرت المعتزلة الشقاوة بسوء العاقبة التي علم الله أنهم يستحقونها لسوء أعمالهم. وتفسرها الأشاعرة بما كتب الله عليهم في الأزل من الكفر وسائر المعاصي أن يعلموها حتى يؤل حالهم إلى النار. ومعنى غلبة الشقاوة على هذا التفسير ظاهر. وأما على تفسير المعتزلة فقد قال جار الله : معناه ملكتنا وأخذت منا. وقال الجبائي : أراد طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة ، فأطلق اسم المسبب على السبب. وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه ، ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم. وأجيب بأن طلب تلك اللذات لا بد أن ينتهي إلى داعية يخلقها الله في بدليل قوله ) وكنا قوماً ضالين ( اي في علم الله وسابق تقديره. وحمله المعتزلة على الاعتراف بأ ، هم اختاروا الضلال قالوا : ولو كان الكفر بخلق الله لكانوا بأن يجعلوا ذلك عذراً لهم أولى. وأجيب بأن فحوى الكلام يؤل إلى هذا كما قررنا. عن ابن(5/136)
" صفحة رقم 137 "
عباس : أن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة ) ربنا أبصرنا وسمعنا ) [ السجدة : 12 ] فيجابون ) حق القول مني ) [ السجدة : 13 ] فينادون ألفاً ) ربنا أمتنا اثنتين ) [ غافر : 11 ] فيجابون ) ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم ) [ غافر : 12 ] فينادون ألفاً ) يا مالك ليقض علينا ربك ( فيجابون ) إنكم ماكثون ) [ الزخرف : 77 ] فينادون ألفاً ) ربنا أخرنا إلى أجل قريب ) [ إبراهيم : 44 ] فيجابون ) أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ) [ إبراهيم : 44 ] فينادون الفاً ) ربنا أخرجنا نعمل صالحاً ( فيجابون ) أولم نعمركم ) [ فاطر : 37 ] فينادون ألفاً ) ربنا أخرجنا منها ( فيجابون ) اخسئوا فيها ) [ المؤمنون : 108 ] وهو آخر كلام يتكلمون به ، ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب أي لا يفهمون ولا يفهمون ولهذا قال جار الله ) ولا تكلمون ( أي في رفع العذاب وليس نهياً عن الكلام فإِنها ليست بدار تكليف ولكنه تنبيه على أن العذاب لا يرفع ولا يخفف. ومعنى ) اخسؤاً ( انزجروا صاغرين كما تنزجر الكلاب إذا طردت. يقال : خسأ الكلب وخسأ نفسه يتعدى ولا يتعدى وهو المراد في الآية. ثم عدد عليهم بعض قبائحهم في الدنيا بقوله ) إنه كان فريق من عبادي ( هم الصحابة. وقيل : أهل الصفة خاصة. عن الخليل وسيبويه أن السخري بالضم والكسر مصدر سخر إلا أن في ياء النسب زيادة تأكيد. وعن الكسائي والفراء أ ، المكسور من الهزء والمضموم من التسخير والاستعباد والمعنى اتخذتموهم هزؤاً وتشاغلتم بهم ساخرين ) حتى أنسوكم ( بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ) ذكرى ( فلم تذكروني حتى تخافوني. ثم ذكر من حال المؤمنين ما أوجب الحسرة والندامة للساخرين. فمن قرأ ) إنهم ( بالكسر على الاستئناف فمعناه ظاهر أي قد فازوا حيث صبروا ، ومن قرأ بالفتح فعلى أنه مفعول جزيتهم أي جزيتهم فوزهم. ومن قرأ ) قال ( فاضمير لله أو لمن أمر بسؤالهم من الملائكة ، ومن قرأ ) قل ( فالخطاب للملك أو لبعض رؤساء أهل النار. والغرض من هذا السؤال التوبيخ والتبكيت فقد كانوا لا يعدّون اللبث إلا في الدنيا ويظنون أن الفناء يدوم بعد الموت ولا إعادة ، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنهم فيها خالدون سئلوا ) كم لبثتم ( تنبيهاً لهم على أن ما ظنوه دائماً طويلاً فهو يسير بالإضافة غلى ما أنكروه إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي ولا سيما إذا كان الأول ايام سرور والثاني ايام غم وخزن. واختلفوا في الأرض فقيل : وجه الأرض حين ما كانوا أحياء فإنهم زعموا أن لا حياة سواها ، فلما أحياهم الله تعالى وعذبوا في النار سئلوا عن ذلك توبيخاً. وقال آخرون : المراد جوف الأرض وهو القبر لظاهر لفظة ( في ) ولقوله ) ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ((5/137)
" صفحة رقم 138 "
[ الروم : 55 ] وقوله ( عدد سنين ( بدل من مميزك. وقيل : احتج بعض من أنكر عذاب القبر بأن قوله ) في الأرض ( يتناول زكان كونهم أحياء فوق الأرض وزمان كونهم أمواتاً في بطن الأرض. فلو كانوا معذبين في القبر لعلموا أن مدة مكثهم في الأرض طويلة فما كانوا يقولون ) لبثنا يوماً أو بعض يوم ( واجيب بأن الجواب لا بد أن يكون على حسب السؤال وإنما سئلوا عن موت لا حياة بعده إلا في الآخرة وذلك لا يكون إلا بعد عذاب القبر. ويحتمل أن يكونوا سئلوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه فلا يدخل في ذلك تقدم موت بعضهم على البعض ، فصح أن يكون جوابهم ) لبثنا يوماً أو بعض يوم ( عند أنفسنا. وليس هذا من قبيل الكذب إذ لعلهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال فقالوا : إلا نعرف من عدد السنين إلا أنا نستقله ونحسبه يوماً أو بعض يوم. وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا ) فاسأل العادّين ( اي ليس من شأننا أن نعدّها لما نحن فيه من العذاب فاسأل من يقدر أن يلقى إليه فكره ، أو اسأل الملائكة الذي يعدّون أعمار العباد ويحصون أعمالهم. وعن ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين. وقيل : أرادوا بقولهم ) لبثنا يوماً أبو بعض يوم ( تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة غلى ما وقعوا فيه وعرفوه من داوم العذاب. وقد صدّقهم الله في ذلك حيث قال ) إن لبثتم غلا قليلاً ( ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها بقوله ) لو أنكم كنتم تعلمون ( أي لو علمتم البعث والحشر لما كنتم تعدونه طويلاً. ثم زاد في التوبيخ بقوله ) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً ( أي عابثين أو لأجل العبث وهو الفعل الذي لا غاية له صحيحة. وجوّزوا أن يكون قوله ) وأنكم إلينا لاترجعون ( معطوفاً على ) عبثاً ( أي للعبث ولترككم غير مرجوعين وفيه دلالة على وجوب وقوع القيامة فلولاها لم يتميز الميع من العاصي والمحسن من المسيء. ثم نزه ذاته عن كل عيب وعبث قائلاً ) فتعالى ( الآية ووصف العرش بالكريم لنزول الرحمة أو الخير منه أو باعتبار من استوى عليه كما يقال ( بيت كريم ) إذا كان ساكنوه كراماً. وقرئ ) الكريم ( بالرفع وهو ظاهر. ثم زيف طريقة المقلدة من أهل الشرك وقوله لا برهان له به كقوله ) ما لم ينزل به سلطاناً ) [ آل عمران : 151 ] وهو صفة جيء بها للتأكيد لا أن بعض الآلهة قد يقوم على وجوده برهان. وجوّز جار الله أن يكون اعتراضاً بين الشرط والجزاء كقول القائل : من أحسن إلى زيداً لا أحق بالإحسان إليه منه فالله مثيبه. ومعنى ) حسابه عند ربه ( أنه بلغ عقابه غلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله. وقرئ ) أنه لا يفلح ( بفتح الهمزة أي حسابه عدم فلاحه فوضع ) الكافرون ( موضع الضمير. جعل فاتحة السورة ) قد افلح المؤمنون ( وأورد في خواتيهما ) إنه لا يفلح الكافرون ( فشتنان ما بين الفريقين. وحين أثنى على المؤمنين في أثناء الكلام بأنهم يقولون ) ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ( نبه(5/138)
" صفحة رقم 139 "
في آخر السورة على أنه قول ينبغي أن يواظب المكلف عليه ففيه الانقطاع إلى الله والإعراض عمن سواه والله المستعان. التأويل : ( فإذا نفخ في الصور ( فيه أن نفخة العناية الأزلية إذا نفخت في صور القلب قامت القيامة وانقطعت الأسباب فلا يلتفت إلى أحد من الأنساب ، لا إلى أهل ولا إلى ولد لاشتغاله في طلب الحق واستغراقه في بحر المحبة ، فلا يقع بينهم التساؤل عما تركوا من أسباب الدنيا ولا عن أحوال أهاليهم وأخدانهم وأوطانهم إذا فارقوها ) لكل امريء منهم يومئذ ( في طلب الحق ) شأن يغنيه ) [ عبس : 37 ] عن طلب الغير ) فأولئك الذينخسروا أنفسهم ( لأنهم إذا خفت موازينهم عن طلب الحق وانقطع عليه الطريق بنوع من التعليقات ورجع القهقرى بطل استعداده في الطلب ، فإن الإنسان كالبيضة المستعدة لقبول تصرف دجاجة الولاية فيه وخروج الفرخ فيها ، فما لم تتصرف فيها الدجاجة يكون استعداده باقياً ، فإذا تصرفت الدجاجة يها وانقطع تصرفها عنها بإفساد البيضة فلا ينفعها التصرف بعد ذلك لفساد الاستعداد ولهذا قالت المشايخ : مرتد الطريقة شر منمرتد الشريعة. ولهذا قال ) في جهنم خالدون ( وأجيبوا بقوله ) اخسئوا فيها ولا تكلمون ( لأنه ليس من سنتنا إصلاح الاستعداد بعد إفساده ) إنه كان فريق من عبادي ( هم العلماء بالله النصحاء لأجله ) فاتخذتموهم سخرياً ( فضربتم أنفسكم على سيوف هممهم العلية ) حتى أنسوكم ( بهممهم وبيد الرد ) ذكرى وكنتم منهم تضحكون ( لأن قلوبكم قد ماتت وكثرة الضحك تميت القلب جزيتهم اليوم بما صبروار فيه أن أهل السعادة كما ينتفعون بمعاملاتهم الصالحة مع الله ينتفعون بإنكار منكريهم ، ومثله حال أهل الشقاء ف الجانب الآخر وهو الاستضرار ) لا برهان له به ( أي لا يظهر عليه برهان العبادة وهو النور والضياء والبهاء والصفاء وإن تقرب إلى ذلك الذي عبده من دون الله بأنواع القربات .(5/139)
" صفحة رقم 140 "
سورة النور
( سورة النور مدنية حروفها 5330 كلامها 1316 آياتها 64 ) بسم الله الرحمن الرحيم ( النور : ( 1 - 10 ) سورة أنزلناها وفرضناها . . . .
" سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم "
( القراآت )
فرضناها ( بالتشديد : ابن كثير وأبو عمرو ) ورأفة ( بفتح الهمزة : ابن كثير عن ابن فليح ورفعه الباقون بالإسكان وكلاهما مصدر. وكذلك روى الخزاعي عن أصحابه ، وروى ابن شنبوذ عن البزي ههنا وفي الحديد متحركة الهمزة ، وعن قنبل ههنا بالفتح وفي الحديد بالسكون. وقرأ أبو عمر وغير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف بغير همز ) أربع شهادات ( بالرفع : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون بالنصب على إعمال المصدر فيما في حكم المصدر والتقدير فواجب شهادة أحدهم شهادات أربعاً ) أن ( مخففة ) لعنة الله ( بالرفع : نافع وسهل ويعقوب والمفضل. الباقون بالتشديد والنصب ) والخامسة ( الثانية بالنصب : حفص على معنى وتشهد الشهادة الخامسة. ) أن ( مخففاً ) غضب ( ماضياً ) الله ( بالرفع : نافع(5/140)
" صفحة رقم 141 "
والمفضل ) أن ( بالتخفيف ) غضب الله ( بالرفع : سهل ويعقوب. الباقون ) أن غضب الله ( بالتشديد والنصب. الوقوف : ( تذكرون ( 5 ) جلدة ( ص ) الآخر ( 5 للعدول واعتراض الشرط مع اتفاق الجملتين ) المؤمنين ( 5 ) مشركة ( 5 للتفصيل بين الحالتين مع اتفاق الجملتين ) مشرك ( ج لاختلاف الجملتين ) المؤمنين ( 5 ) أبداً ( 5 ) الفاسقون ( ) وأصلحوا ( ج للفاء وإن ) رحيم ( 5 ) بالله ( ط في الموضعين لأن ما بعده جواب ل 5 ما في حكم القسم ) الصادقين ( 5 ) الكاذبين ( 5 ) الصادقين ( 5 ) حكيم ( 5. التفسير : لما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في خاتمة السورة المتقدمة بطلب المغفرة والرحمة وطلبه يستلزم مطلوبة لا محالة بدليل سل تعط ، أردفه بذكر ما هو اصل كل رحمة ومنشأ كل خير فقال ) سورة ( أي هذه سورة ) أنزلناها وفرضناها ( أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها. وقرئ بالنصب على ( دونك سورة ) أو ( اتل سورة ) أو على شريطة التفسير. وعلى هذا لا يكون لقوله ) أنزلناها ( محل من الإعراب لأنها ليست بصفة وإنما هي مفسرة للمضمر فكانت في حكمه. ومعنى إنزال الوحي قد سلف في أول البقرة. والفرض القطع والتقدير : ولا بد من تقدير مضاف لأن السورة قد دخلت في الوجود فلا معنى لفرضها فالمراد : فرضنا أحكامها التي فيها. ومن شدد فللمبالغة أو للتكثير ففي أحكام هذه السورة كثرى. ويجوز أن يرجع معنى الكثرة إلى المفروض عليهم فإنهم كل المكلفين من السلف والخلف. وأما الآيات البينات فإنها دلائل التوحيد التي يذكرها الله تعالى بعد الأحكام والحدود ويؤيده قوله ) لعلكم تذكرون ( فإن الأحكام والشرائع ما كانت معلومة لهم ليؤمروا بتذكرها بخلاف دلائل التوحيد فإنها كالمعلومة لظهورها فيكفي فيها التذكر. وقال أبو مسلم : هي الحدود والأحكام أيضاً ولا بعد في تسميتها آيات كقول زكريا ) رب اجعل لي آية ) [ مريم : 10 ] سأل ربه أن يفرض عليه عملاً. وقال القاضي : أراد بها الأشياء المباحة المذكورة في السورة بينها الله تعالى لأجل التذكر. فمن جملة الأحكام حكم الزنا. قال الخليل وسيبويه : رفعهما على الابتداء والخبر محذوف ولا بد من تقدير مضاف اي فيما فرض عليكم جلد الزانية والزاني ، أو فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني وقال آخرون : الخبر ) فاجلدوا ( والفاء لتضمن معنى الشرط فإن الألف واللام بمعنى الموصول تقديره : التي زنت والذي زنى فاجلدوا. وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من نصب ) سورة أنزلناها ( لأجل الأمر فإن الطلب من مظان الفعل والجلد ضرب الجلد كما يقال ( رأسه ) أي(5/141)
" صفحة رقم 142 "
ضرب رأسه وكذلك في سائر الأعضاء بعد ثبوت السماع ، وفيه إشارة إلى أ ، إقامة هذا الحد ينبغي لأأن يكون على الاعتدال بحيث لا يتجاوز الألم من الجلد إلى اللحم. فعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلاً عالماً بصيراً يعقل كيف يضرب. فالرجل يجلد قائماً على تجرده ليس عليه إزاره ضرباً وسطاً لا مبرحاً ولا هيناً على الأعضاء كلها إلا الوجه والفرج ، والمرأة تجلد قاعدة ولا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو. والصحيح أن الزنا من الكبائر ولهذا قرنه الله تعالى بالشرك وقتل النفس في قوله ) ولا يزنون ) [ الفرقان : 68 ] وقد وفى فيه عقد المائة بكماله بخلاف حدّ القذف وشرب الخمر وشرع فيه الرجم الذي هو أشنع أنواع القتل ، ونهى المؤمنين عن الرأفة بهما وأمر بشهود طائفة للتشهير. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما التي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر ، وأما التي في الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب والخلود في النار ) واعلم أن البحث في هذه الآية يقع عن أمور أحدها عن ماهية الزنا ، وثانيها عن أحكام الزنا ، وثالثها في الشرائط المعتبرة في كون الزنا موجباً لتلك الأحكام ، ورابعها في الطريق الذي به يعرف حصول الزنا ، وخامسها عن كيفية غقامة هذا الحد الأول. قد حده علماء الشافعية بأنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرمم شرعاً. قالوا : فيدخل فيه اللواطة لأنها مثل الزنا صورة وذلك ظاهر لحصول معنى الانفراج في الدبر ايضاً ، ومعنى لأنهما يشتركان في المعاني المتعلقة بالشهوة من الحرارة واللين وضيق المدخل ، ولذلك لا يفرق أهل الطبائع بين المحلين. والأكثرون على أن اللواط لا يدخل تحت الزنا للعرف ولهذا ، لو حلق لا يزني فلاط أو بالعكس لم يحنث ، ولأن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط مع كونهم عالمين باللغة. وما روى عن أبي موسى الأشعري أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ) محمول على اشتراكهما في الإثم بدليل قوله أيضاً ( إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ) وقوله ( اليدان تزنيان والعينان تزنيان ) والقياس المذكور بعيد لأنه لا يلزم من تسمية القبل فرجاً لانفراجه أن يسمى كل منفرج كالفم والعين فرجاً. واعلم أن للشافعي في اللائط قولين أصحهما أن عليه حد الزنا إن كان محصناً فيرجم ، وإن لم يكن محصناً فيجلد ويغرب. والثاني قتل الفاعل والمفعول. والقتل إما بجز الرقبة كالمرتد ، أو بالرجم وهو قول مالك وأحمد وإسحق ، أو بالهدم عليه. ويروى عن أبيّ : أو بالرمي من شاهق. ويروى عن علي رضي الله عنه وذلك أن قوم لوطٍ عذبوا كل هذه الوجوه(5/142)
" صفحة رقم 143 "
قال عز من قائل ) فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ) [ هود : 82 ] وأما المفعول فإن كان صغيراً أو مجنوناً أو مكروهاً فلا حد عليه ولا مهر لأن بضع الرجل لا يتقوَّم ، وإن كان مكلفاً طائعاً فهو كالفاعل في الأقوال وإن أتى امرأة في دبرها ولا ملك ولا نكاح فالأظهر أنه لواط وحكمه ما مر ، وقيل زناً لأنه وطء أثنى فأشبه الوطء في القبل ، وإذا لاط بعبده فهو كالأجنبي على الأصح. ولو أتى امرأته أو جاريته في الدبر فالأصح القطع بمنع الحد لأنها محل استمتاعه وبالجملة جميع ذلك مما ذهب إليه الشافعي. وقال أبو حنيفة : إن الائط لا يحدّ بل يعزر. حجة الشافعي خبر أبي موسى الأشعري. فإِنه يدل على اشتراك اللواط والزنا في الاسم والحقيقة لا أقل من اشتراكهما في اللوازم. وأيضاً إنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من عمل عمل لوط فأقتلوا الفاعل منهما والمفعول به ) وقال صلى الله عيه وسلم ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس ) وليس اللواط من قبيل الثاني والثالث فهو من الأول. وأيضاً قاس اللواط على الزنا بجامع كون الطبع داعياً إليه فيناسب الزاجر. وفرق بأن الزنا أكثر وقوعاً وكان الاحتياج فيه إلى الزاجر اشد ، وبأن الزنا يقتضي فساد الأنساب دون اللواط ، وألغى الفرق بوطء العجوز الشوهاء. حجة أبي حنيفة أنه وطء لا يتعلق به المهر فلا يتعلق به الحد وضعف بفقد الجامع قال : إنه لا يساوي الزنا في الحاجة على شرع الحد لأن اللواط لا يرغب فيه المفعول طبعاً ، ولأنه ليس فيه إضاعة النسب. وأجيب بأن الإنسان حريص على ما منع ، فلو لم يشرع الحد شاع اللواط وأدى إلى إضاعة النسب بل إلى إفناء الأشخاص وانقطاع طريق التوالد والتناسل. وللشافعي في إتيان البهيمة أقوال : أحدهما أنه كالزنا في أحكامه ، وثانيها القتل مطلقاً لما روي عن ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه ) فقيل لابن عباس : ما شأن البهيمة ؟ قال : لأنه كره أن يؤكل لحمها. وأصحها وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد والثوري أن عليه التعزير لأنه غير مشتهي طبعاً. والحديث ضعيف(5/143)
" صفحة رقم 144 "
الإسناد وبتقدير صحته معارض بما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن ذبح الحيوان إلا لأكله. ولا خلاف في أن السحق وإتيان الميتة والاستمناء باليد لا يشرع فيها إلا التعزير. البحث الثاني قد مر في أول سورة النساء أن حكم الزاني في أوائل الإسلام كان الحبس في البيوت في حق الثيب ، والإيذاء بالقول في حق البكر ، ثم نسخ بآية الزنا وبقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الثيب بالثيب جلد مائه ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائه وتغريب عام ) والخوارج أنكروا الرجم لأنه لا ينتصف وقد قال تعالى ) فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) [ النساء : 25 ] ولأنه تعالى أطنب في أحكام الزنا بما لم يطنب في غيره ، فلو كان الرجم مشروعاً لكان أولى بالذكر ، ولأن قوله ) الزانية والزاني ( يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة وإيجاب الرجم على البعض يقتضي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. وجمهور المجتهدين خالفوهم في ذلك فأجابوا عن الأول بأن الرجم حيث لم ينتصف لم يشرع في حق العبد فخصص العذاب بغير الرجم للدليل العقلي. وعن الثاني بأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدد المصالح فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول هذه الآيات. وعن الثالث بأن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز عندنا لأن القرآن وإن كان قاطعاً في متنه إلا أن العام غير قاطع الدلالة فأمكن تخصيصه بالدليل المظنون. سلمنا إلا أن الرجم ثبت بالتواتر رواه أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وجابر والخدري وأبو هريرة وبريدة السلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة. وما نقل عن علي أنه جمع بين الجلد والرجم وهو اختيار أحمد وإسحق وداود محمول على مثل ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن رجلاً زنى بامرأة فأمر به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجلد ، ثم أخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان محصناً فأمر به فرجم. وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الثيب بالثيب جلد مائة ) ورجم بالحجارة متروك العمل بما روي في قصة العسيف أنه قال : يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. ولو وجب الجلد إذ ذاك لذكره. وأن قصة ما عز رويت من جهات مختلفة وليس فيها ذكر الجلد مع الرجم وكذا قصة الغامدية. وروى الزهري بإسناده عن ابن عباس أن عمر قال : قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل : لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى وقد قرأنا ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) فرجم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورجمنا بعده .(5/144)
" صفحة رقم 145 "
فأخبر أن الذي فرضه الله تعالى هذا الرجم ولو كان الجلد واجباً مع الرجم لذكره. قال الشافعي : يجمع بين الجلد والتغريب في حد البكر. وقال أبو حنيفة : يجلد. وأما التغريب فمفوَّض غلى راي الإمام. وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ) وكذا ما يروى عن الصحابة أنهم جلدوا ونفوا منسوخ أو محمول على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب. وقال مالك : يجلد الرجل ويغرب وتجلد المرأة بلا تغريب. حجة الشافعي حديث عبادة ( البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ) وقد ورد مثله في قصة العسيف. حجة أبي حنيفة أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد. بيانه أن غيجاب الجلد مرتب على الزنا بالفاء التي هي للجزاء ، ومعنى الجزاء كونه كافياً في ذلك الباب منه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يجزيك ولا يجزي أحداً بعدك ) وغيجاب شيء آخر غير الجلد يقتضي نسخ كونه كافياً ولو كان النفي مشروعاً لوجب على النبي صلى الله عليه سولم توقيف الصحابة عليه عند تلاوة هذه الآية ولو فعل لاشتهر. وقد روى أبو هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في الأمة ( إذا زنت فاجلدها فإن زنت فاجلدها فإن زنت فبعها ) والاستدلال به أنه لم يذكر النفي مع الجلد ونظيره ما روي أن شيخاص وجد على بطن جارية ، فأتى به إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : اجلدوه مائة. فقالوا : إنه اضعف من ذلك. فقال : خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه بها خلوا سبيله. لا يقال : إنه إنما لم ينفه لأنه كان عاجزاً عن الحركة لأنا نقول : كان ينبغي أن يأمر له بدابة يركبها. ولا يقال : لعله كان ضعيفاً عن الركوب أيضاً لأنا نقول : القادر على الجماع كيف لا يقدر على الاستمساك. وأيضاً الأمر بالنفي لو كان مشروعاً لزم في حق العبد الإضرار بسيده في مدة غيبته ، وفي حق المرأة الإضرار بزوجها ، وكذا لمن يؤمر أن يكون معها من محارمها أو من النسوة الثقاة مع انفتاح باب الزنا عليها في الغربة ، لهذا روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في البكرينك إذا زنيا يجلدان ولا ينفيان فإن نفيهما من الفتنة. وعن ابن عمر أن امرأة زنت فجلدها ولم ينفها. وأيضاً النفي نظير القتل لقوله تعالى ) اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ) [ النساء : 66 ] فإذا لم يشرع القتل في حد البكر وجب أن لا(5/145)
" صفحة رقم 146 "
يشرع نظيره وهو التغريب. وأجيب بأن إيجاب الجلد مفهوم مشترك بين إيجاب الجلد مع إيجاب التغريب وبين إيجابه مع نفي التغيب فلا إشعار في الاية بأحد القسمين إلا أن عدم التغريب موافق للبراءة الصلية. فإيجابه بخبر الواحد لا يزيل إلا محض البراءة فلا يلزم نسخ القرآن به وهو قول الأدباء إن الجزاء سمي جزاء لأن كافٍ في الشرط لا يصلح حجة في الأحكام. ولا استبعاد في عدم اشتهار بعض الأحكام كأكثر المخصصات والأخبار الواردة في نفي التغريب معارضة بما روى أبو علي في جامعة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) جلد وغرّب. ولا بعد في أن يكون القادر على الزنا عاجزاً عن الاستمساك على الدابة والإضرار بالسيد قد يجوز للضرورة كالعبد المرتد يقتل ، وعلى هذا يغرّب نصف نصة على الأصح لأنه يقبل التنصيف. وقيل : سنة كاملة لأن التغريب للإِيحاش وهذا معنى يرجع إلى الطبع فيستوي فيه الحر والعبد كمدة الإيلاء والعنة. وأما المرأة فلا تغرّب وحدها لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يحل لامرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم ) فإن تبرع المحرم أو نسوة ثقاة فذاك وإلا أعطي أجرتهم من مالها أو من بيت المال فيه قولان ، وتنتفي التهمة حينئذ مع أن أكثر الزنما إنما يقع بالألف والمؤانسة وفراغ القلب ، وفي التغريب الأغلب هو الوحشة والتعب. وأما أن النفي يشبه القتل فمسلم من بعض الوجوه لا من كلها. واعلم أن قولنا ) الزانية والزاني ( إما مطلق دال على الجنسين المنافيين لجنس العفيفة والعفيف أو عام يشمل كل ما اتصف بهذه الفعلة الشنعاء فلا بد من تقييج أو تخصيص وهو البحث الثالث فتقول : أجمعت الأمة على أنه لا بد فيه من العقل والبلوغ فلا حد على مجنمون ولا على صبي لأنهما ليسا من أهل التكليف. هذا في غير الرجم وأما في الرجم فلا بد من شروط أخر منها : الحرية بالإجماع. ولا فرق بين القن والمدبر والمكاتب والمستولدة وحر البعض ، والسبب أن الحرية توسع طريق الحلال لأن الرقيق يحتاج في النكاح إلى إذن السيد. ولا يجوز له أن ينكح إلا امرأتين ، وجناية من ارتكب الحرام مع اتساع طريق الحلال أغلظ. ومنهما الإصابة في نكاح صحيح وقد يعبر عن هذا الشرط بشرطينك أحدهما التزويج بنكاح صحيح ، والآخر الدخول. وكيفما كان فوجه الاعتبار أنه قضى الشهوة واستوفى اللذة فحقه أن يمتنع من الحرام. ويكفي في الإصابة تغيب الحشفة بلا إنزال ، ولا يقدح وقوعها في حالة الحيض والإحرام وعدة الوطء بالشبهة ، ولا يحصل الإحصان بالإصابة في ملك اليمين كما لا يحصل التحليل. وفي الإصابة بالشبهة وفي النكاح(5/146)
" صفحة رقم 147 "
الفاسد قولان : أحدهما أنه يفيد الإحصان لأن الفاسد كالصحيح في العدة والنسب ، وأصحهما المنع لأن الفاسد لا أثر له في إكمال طريق الحلال. وهل يشترط أن تكون الإصابة في النكاح بعد التكليف والحرية ؟ الأصح عند إمام الحرمين لا ، فإنه وطء يحصل به التحليل فكذا الإحصان. والأرجح عند معظم الأصحاب نعم ، لأن شرط الإصابة أن تحصل بأكمل الجهات وهو النكاح الصحيح فيعتبر حصولها من كامل ، وعلى هذا فهل يشترط كمالالواطئين جميعاً ؟ قال أبو حنيفة : نعم وهو أحد قولي الشافعي فلو كان أحدهما كاملاً دون آخر لم يصر الكامل محصناً ايضاً. وقال الشافعي في اصح قولية : لا بل لكل منهما حكم نفسه. ومنها الإسلام عند أبي حنيفة لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أشرك بالله فليس بمحصن ) دون الشافعي لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ) ولحديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجم يهوديين زنيا. فلو حكم بشرعه فظاهر ، ولو حكم بشريعته من قبله فقد صار شرعاً له ، ولأن زنا الكافر مثل زنا المسلم في الحاجة إلا الزاجر ولهذا قلنا : إذا أقر الذمي بالزنا أقيم عليه الحد جبراً بخلاف الشرب فإنه لا يعتقد تحريمه. ومما احتج به لبي حنيفة أن النعمة في حق المسلم أعظم فكانت جنايته أغلظ كقوله ) يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ) [ الأحزاب : 30 ] وعورض بأن الإسلام من كسب العبد. وزيادة الخدمة إن لم تكن سبباً للعذر فلا أقل من أن لا تكون سبباً لزيادة العقوبة. قالوا : إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع فكذا إحصان الرجم والجامع كمال النعمة. وأجيب بأن حد القذف لرفع العار كرامة للمقذوف والكافر لا يكون محلاً للكرامة وصيانة للعرض. والجواب عن الحديث بأنا لا نسلم أن الذمى مشرك ، سلمنا لكن الإحصان قد يراد به التزويج كقوله ) فإذا أحسن ) [ النساء : 25 ] والذمي الثيب محصن بهذا التفسير فوجب رجمه لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وزنا بعد إحصان ) وبقوله ( عليهم ما على المسلمين ) قال بعض أهل الظاهر : عموم قوله ) الزانية والزاني ( يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة إلا أنه ورد النصب التنصيف في حق الأمة ، فلو قسنا العبد عليها لزم تخصيص عموم الكتاب بالقياس. ومنهم من قال : الأمة إذا تزوّجت فعليها خمسون لقوله ) فإذا أحصن ) [ النساء : 25 ] أي تزوّجن ) فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات ) [ النساء : 25 ] فإذا لم تتزوّج فعليها المائة لعموم قوله(5/147)
" صفحة رقم 148 "
) الزانية ( واتفاق الجمهور على حذف هذين. وقال الشافعي وأبو حنيفة : الذمي يجلد للعموم ولأنه ( صلى الله عليه وسلم ) رجم يهوديين فالجلد أولى. وقال مالكك لا يجلد بناء على أن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع. البحث الرابع في طريق معرفة الوزنا وأنه ثلاثة : الأول أن يراه الإمام بنفسه فيجيء الخلاف في أن القاضي هل له أن يقضي بعلمه أم لا ؟ رجح كلاً مرجحون. وجه القضاء أنه يقضي بالظن وذلك عند شهادة شاهدين فلأن يقضي بالعلم أولى. ووجه عدم القضاء أن فيه تهمة والتهمة تمنع القضاء ولهذا لا يقضي القاضي لولده ووالده. وهذا الوجه في حدود الله تعالى ارجح لأن الحاكم فيه مأمور بالستر ولهذا قال النبي في قضية اللعان ( لو كنت راجماً بغير بينة لرجمتها ) ولا فرق على القولين أن يحصل العلم للقاضي في زمان ولايته ومكانها أو في غيرهم. وعن أبي حنيفة أنه إن حصل العلم فيهما قضى بعلمه وإلا فلا. الطريق الثاني الإقرار ويكفي عند الشافعي مرة واحدة. وقال أبو حنيفة : لا بد من أربع مرات في أربع مجالس. وجوّز أحمد أن يكون المجلس واحداً. حجة الشافعي قصة العسيف ( فإن اعترفت فارجمها ) والقياس على الإقرار بالقتل والردة مع أن الصارف عن الإقرار بالزنا قويّ وهو العار في الحال والقتل أو الألم الشديد في المآل ، فالإقدام على الإقرار مع هذا الصارف لا يكون إلا عن صدق ويقين. حجة أبي حنيفة قصة ما عز وإعراضه ( صلى الله عليه وسلم ) عنه مرات حتى قال أبو بكر له بعدما أقر ثلاث مرات : لو اقررت الرابعة لرجمك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والقياس على الشهادة. وأجيب بأنه لا منافاة بين القضيتين فإن الأولى محمولة على أقل المراتب ، والثانية على كمالها. والفرق أن المقذوف لو اقر بالزنا مرة سقط الحد عن القاذف ، ولو شهد اثنان بزناة لم يسقط. الطريق الثالث الشهادة وأجمعوا على أنه لا بد من شهود اربعة من الرجال لقوله تعالى ) فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ) [ النساء : 15 ] ولقوله ) ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ( والشهادة على الإقرار بالزنا كالشهادة على الزنا في أنه لا بد من شهود اربعة. وفي قول يكفي فيه اثنان لأن الفعل مما يعسر الاطلاع عليه فلزم الاحتياط فيه باشتراط الأربعة والإقرار أمر ظاهر فيكفي فيه رجلان. البحث الخامس : أجمعت الأمة على أن المخاطب بقوله ) فاجلدوا ( هو الإمام حتى احتجوا به على وجوب نصب الإمام فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقال الشافعي : السيد يملك إقامة الحد على مملوكه وهو قول ابن مسعود وابن عمر وفاطمة وعائشة. وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يملك. حجة الشافعي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أقيموا الحدود(5/148)
" صفحة رقم 149 "
على ما ملكت أيمانكم ) وعن أبي هريرة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ) وحمل الأول على رفع القضية إلى الإمام حتى يقيموا عليهم الحدود ، وحمل الثاني على التعزير خلاف الظاهر. وأيضاً إن ولاية السيد على العبد فوق الولاية بالبيعة فكان أولى. وأيضاً الإجماع على أن السيد يملك التعزير مع أنه في محل الاجتهاد فلأن يملك الحد مع التنصيص عليه أولى. حجة أبي حنيفة في قوله ) فاجلدوا ( الخطاب للأمة بالتفاق ولم يذكر فرق بين الأحرار المحدودين وبين العبيد. وأيضاص لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه ، فلو رجعوا عن شهادتهم لوجب أن يتمكن من تضمين الشهود وليس له ذلك بالتفاق لأنه ليس لأحد أن يحكم لنفسه. وأيضاً المالك في محل التهمة لأنه قد يشفق على ملكه فلا يستوفى الحد. أجابت الشافعية بأن عدم ذكر الفرق لا يدل على عدم الفرق مع أن الكلام في جواز إقامة السيد الحد لا في وجوبه. فالإمام يملك حد العبد في الجملة وذلك كافٍ في بقاء الآية على عمومها. وعن الثاني بأن للشافعي في القطع والقتل قولين : أحدهما يجوز لما روي أن ابن عمر قطع عبداً له سرق. وثانيهما لا ، وهو قول مالك أن القطع للإمام بخلاف الجلد لأن المولى يملك جنس الجلد وهو التعزير. وفي سماع المولى الشهادة ايضاً وجهان : فإذا فقد الإمام فليس لآحاد الناس إقامة هذه الحدود بل ينبغي أن يعينوا واحداً من الصلحاء ليقوم بها ، وفي الخارجي المتغلب خلاف. البحث السادس في كيفية إقامة الحد : إنه سبحانه قد أشار إلى أن هذا الحد يجب أن لاي كون في غاية العنف بلفظ الجلد كما مر ، وإلى أنه يجب أن لا يكون في غاية الرفق بقوله ) ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ( وذلك إما بأن يترك الحد راساً ، أو ينقص شيء منه ، أو يخفف بحيث لا يحس الزاني بالألم. وفي معناه أن يفرق على الأيام كأن يضرب كل يوم سوطاً أو سوطين ، وإن ضرب كل يوم عشرين مثلاً كان محسوباً لحصول التكليف. والأولى أن لا يفرق وأكد هذا المعنى بقوله ) إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ( قال الجبائي : فيه دلالة على أن الاشتغال بأداء الواجبات من الإيمان لأن التقدير : إن كنتم مؤمنين فلا تتركوا إقامة الحدود. وأجيب بأن الرأفة لا تحصل إلا إذا حكم الإنسان بطبعه وأن ذلك يوجب ترك(5/149)
" صفحة رقم 150 "
إقامة الحد ، وحينئذ يكون منكراً للدين فلهذا يخرج من الإيمان. وفي الحديث ( يؤتي بوال نقص من الحد سوط فيقال له : لم فعلت ذاك ؟ فيقول : رحمة لعبادك. فيقول له : أنت ارحم بهم مني فيؤمر به إلى النار ) روى أبو عثمان النهدي قال : أتي عمر برجل في حد ، ثم جيء بسوط فيه شدة فقال : اريد الين من هذا. فأتي بسوط فيه لين فقال : أريد اشد من هذا. فأتي بسوط بين السوطين. وروي أن أبا عبيدة بن الجراح أتي برجل في حد فذهب الرجل ينزع قميصه وقال : ماينبغي لجسد هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص. فقال أبو عبيدة : لا تدعوه ينزع قميصه وضربه عليه. ولا خلاف في أن المرأة لا يجوز تجريجها بل يربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف ويلي ذلك منها امرأة. وجوز اشافعي الضرب على الرأس لما روي أن أبا بكر قال : اضرب على الراس فإن الشيطان يه. وقال أبو حنيفةك حكم الراس حكم الوجه لأن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس وفي الوجه واحد ، وأما ي سائر البدن فلا يجب إلا الحكومة. وأيضاً إن ضرب الراس يوجب في الأغلب ظلمة البصر ونزول الماء واختلاط العقل كالوجه فإنه ايضا عرضة للآفات ويه الأعضاء الشريفة اللطيفة. وللشافعي أن يقول : إنما يحترم الوجه لما جاء في الحديث ( إن الله تعالى خلق آدم على صورته ) وهذا المعنى مفقود في الراس. ولتكن إقامة الحد في وقت اعتدال الهواء إلا إذا كان رجماً فإن المقصود - وهو قتله - لا يتفاوت بذلك. ولهذا يرجم المريض أياضاً في مرضه. وقيل : إن كان مرضاً يرجى برؤه يؤخر كما في الجلد لأأنه ربما يرجع عن إقراره في حال الرجم وقد أثر الرجم في بدنه فتعين شدة الحر والبرد مع المرض على إهلاكه ، وهذا بخلاف ما ثبت بالبينة فإنه لا يسقط ، وفي الجلد إن كان المرض ولكن لا يرجى زواله كالسل والزمانة فلا يؤخر سواء زنى في حال الصحة أو في حال المرض ولكن لا يضرب بالسياط عند الشافعي ، لأن المقصود ليس موته بل يضرب بعثكال عليه مائة شمراخ كما روي أن مقعداً اصاب امرأة فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخذوا مائة شمراخ فضربوه بها ضربة واحدة. والأثكال والعثكال الغصن الذي عليه فروع خفيفة من النخل أو من غيره. وعند أبي حنيفة يضرب بالسياط. ثم إن ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك وقع به بعض الحد أو لم يقع وبه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وإسحق ، لأن ماعزاً لما مسته الحجارة هرب فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : هلا تركتموه. وعن الحسن وابن أبي ليلى وداود أن لا يقبل رجوعه. ويحفر للمرأة إلى صدرها حتى لا تنكشف ويرمى إليها ، ولا يحفر للجرل كما في حق ماعز إذ لو كان في(5/150)
" صفحة رقم 151 "
الحفرة لم يمكنه الهرب. ولما روى أبو سعيد الخدري في قصته ( فما أوثقناه ولا حفرنا له ). وإذا مات الزاني في الحد يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. ومن تغليظات حد الزنا قوله سبحانه ) وليشهد ( ظاهره أمر للوجوب إلا أن الفقهاء أجمعوا على أن حضورالجمع مستحب والمقصود إعلان إقامة الحد لما فيه من مزيد الردع ، ولما فيه من دفع التهمة عمن يجلد. وفي لفظ العذاب دليل على أنه عقوبة لا استصلاح إلا أن يراد بالعذاب ما يمنع من المعاودة كالنكال وقد مر في أول البقاء في قوله ) ولهم عذاب عظيم ) [ الآية : 7 ] ومعنى الطائفة قد مر في التوبة. فقال النخعي ومجاهد : هي في الآية واحد. وعن عطاء وعكرمة اثنان. وعن الزهري وقتادة ثلاثة. وقال ابن عباس والشافعي : اربعة بعدد شهود الزنا. وعن الحسن عشرة لأنها أول عقد. وجوّز ابن عباس إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله. وحضور الإمام والشهود ليس بلازم عند الشافعي ومالك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يحضر رجم ماعز والغامدية. وقال أبو حنيفةك إن ثبت بالبينة وجب على الشهود أن يبدأوا بالرجم ثم الإمام ثم الناس وإن ثبت بإقراره بدأ الإمام ثم الناس. ثم ذكر شيئاً من خواص الزناة فقال : ( الزاني لا ينكح ( وهو خبر في معنى النهي كقراءة عمرو بن عبد ) لا ينكح ( بالجزم. ويجوز أن يكون خبراً محضاً على معنى أن عادتهم جارية بذلك. وفي الآية أسئلة : الأول : كيف قدمت الزانية على الزاني في الآية المتقدمة وعكس الترتيب في هذه ؟ والجواب أن تلك الاية مسبوقة لبيان عقوبتهما على جنياتهما وكانت المرأة أصلاً فيها لأنها هي التي أطمعت الرجل في ذلك. وأما الثانية فمسبوقة لذكر النكاح والرجل هو الصل في الرغبة والخطبة. والثاني : ما الفرق بين الجملتين في الآية ؟ والجواب معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر ، ومعنى الثانية صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ، ولكن للزناة وهما معنيان مختلفان لأنه لا يلزم عقلاً من كون الزاني كذلك أن يكون حال الزانية منحصرة في ذلك فأخبره الله تعالى بالجملة الثانية عن هذا الانحصار. الثالث أنا نرى الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف ، وايضاً المؤمن قد يحل له التزوج بالمرأة الزانية. الجواب للمفسرين فيه وجوه. أحدها وهو الأحسن قول القفال : إن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد منه الأعم الأغلب ، وذلك أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والتقحب لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله أو في مشركة ، والفاسقة الخبيثة المسافحة لا يرغب في نكاحها الصلحاء في الأغلب وإنما يرغب فيها أشكالها من الفسقة أو المشركين نظير هذا الكلام قول القائل ( لا يفعل الخير إلا(5/151)
" صفحة رقم 152 "
الرجل التقي ). وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقي. وأما المحرم على المؤمنين فصرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات لانخراطهم بسبب هذا الحصر في سلك الفسقة المتسمين بالزنا. الوجه الثاني أن الألف واللام في قوله ) الزاني ( وفي قوله ) المؤمنين ( للعهد. روى مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة أنه قدم المهاجرون المدينة وليست لهم أموال ولا عشائر وبها نساء يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة ولكل واحدة منهن علامة على بابها لتعرف بها وكان لا يدخل عليها إلا زانٍ أو مشرك ، فرغب فيهن ناس من فقراء المسلمين وقالوا : نتزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهن. فاستأذنوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت الآية. والتقدير : أولئك الزواني لا ينكحون إلا تلك الزانيات ، وتلك الزانيات لا ينكحها إلا أولئك الزواني ، وحرم نكاحهن بأعيانهن على المؤمنين. الوجه الثالث أن هذا خبر في معنى النهي كما مر. وهكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام. ثم قيل : إن ذلك الحكم باقٍ إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزويج بالعفيفة والعفيبف وبالعكس. ويقال : هذا مذهب أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة. ثم في هؤلاء من يسوّي بين الابتداء والدوام فيقول : كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك إذا زنت تحته لا يحل له أن يقيم عليها. ومنهم من يفصل لأن في جملة ما منع من التزوج مالا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة. وقيل : إنه صال منسوخاً إما بالإجماع - وهو قول سعيد بن المسيب - وزيف بأن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، وإما بعموم قوله ) وأنكحوا الأيامى ) [ النور : 32 ] ( فانكحوا كا طاب لكم ) [ النساء : 3 ] وهو قول الجبائي. وضعف بأن ذلك العام مشروط بعدم الموانع السببية والنسبية وليكن هذا المانع أيضاً من جملتها. وسئل ابن عباس عن ذلك فأجازه وشبه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سئل عن ذلك فقال : ( أوّله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال ). الوجه الرابع قول أبي مسلم : إن النكاح محمول على الوطء وذلك إشارة إلى الزنا أي وحرم الزنا على المؤمنين. قال الزجاج : هذا التأويل فاسد من جهة أن النكاح في كتاب الله لم يرد إلا بمعنى التزويج ، ومن جهة أن يخرج الكلام عن الفائدة إذ لا معنى لقول القائل ( الزاني لا يطأ إلا الزانية ) حتى يكون وطؤه زناً ، ولو أريد حين التزوج فالإشكال عائد لأن الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها. الحكم الثاني من أحكام السورة حد القذف والرمي قد يكون بالزنا وبغيره كالكفر والسرقة وشرب الخمر ، إلا أن العلماء أجمعوا على أن المراد به في الآية هو الرمي بالزنا بالقرائن : منها تقدم ذكر الزنا ، ومنها ذكر المحصنات وهن العفائف ، ومنها قوله ) لم يأتوا بأربعة شهداء ( أي على صحة ما رموها به ، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط(5/152)
" صفحة رقم 153 "
إلا في الزنا ، والقذف بغير الزنا يكفي فيه شاهدان. وألفاظ القذف تتقسم إلى صريح وكناية وتعريض ، فالصريح أن يقول : يا زانية أو زنيت أو زنى قبلك أو دبرك. والصح أن قوله ( زنى بدنك ) صريح لأن الفعل لكل البدن والفرج آلة. والكناية أن يقول ( يا فاسقة يا فاجرة يا خبيثة يا ينت الحرام أو امراة لا تردّ يد لامس ) فهذا لا يكون قذفاً إلا أن يريده. وكذا لو قال العربي ( يا نبطي الدار واللسان ) وادعت أم المقول له أنه أراد القذف فالقول قوله مع يمينه. والتعريض ليس بقذف كقوله ( يا ابن الحلال ) و ( أما أنا فليست أمي بزانية ) وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه. وقال مالك : يجب الحد فيه. وقال أحمد وإسحق : هو قذف في حال الغضب دون حال الرضا لنا أن الأصل براءة الذمة فلا يرجع عنه بالشك ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ادرؤا الحدود بالشبهات ) والإيذاء الحاصل بالتصريح فوق الإيذاء الحاصل بالتعريض. حجة المخالف ما روي أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب فقال أحدهما للآخر : والله ما أرى أبي بزانٍ ولا أمي بزانية. فاستشار عمر الناس في ذلك فقال قائل : مدح اباه وأمه. وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا. فجلده عمر ثمانين. وإذا قذف شخصاً واحداً مراراً فإن اراد بالكل زنية واحدة كما لو قال مراراً ؟ زنيت بعمرو ( لم يجب إلا حد واحد. ولو أنشأ الثاني بعد ما حد للأول عزر للثاني. وإن أراد زنيات مختلفة كأن قال ) زنيت بزيد وزنيت بعمرو ( فالأصح تداخل الحدود لأنهما حدان من جنس واحد فصار كما لو قذف زوجته مراراً يكتفي بلعان واحد. وإذا قذف جماعة بكلمات أو بكلمة واحدة كأن قال ) يا ابن الزانيين ( فعليه حدان لأنه قذف لكل واحد من أبويه ، هذا هو الجديد من قولي الشافعي. وعند أبي حنيفة لا يجب إلا حد واحد لأن قوله ) والذين يرمون المحصنات ( معناه كل من رمى جماعة من المحصنات فاجلدوه ثمانين ، ولأنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال الهلال بن أمية ) أو حدّ في ظهرك ( فلم يوجب عليه إلا حداً واحداً مع قذفه لامرأته. ولشريك بن سحماء للقياس على من زنى مراراً أو شرب أو سرق مراراً والجامع رفع مزيد الضرر. وأجيب بأن قوله ) والذين ( صيغة جمع وقوله ( المحصنات ( كذلك. وإذا قوبل الجمع بالجمع يقابل الفرد بالفرد فيصير المعنى : كل من رمى محصنة فاجلدوه. وفيه أن رمي المحصنة علة الجلد فحيث وجدت وجد. ولا شك أن هذه العلة موجودة عند رمي كل واحدة من المحصنات فيترتب عليها الجلد لا محالة. وأما السنة فالإنصاف أن دلالتها على المطلوب(5/153)
" صفحة رقم 154 "
قوية ، وأما القياس فالفرق أن هذا الآدمي وتلك حدود الله تعالى. هذا كله هو البحث عن الرمي. وأما البحث عن الرامي فنقول : لا عبرة بقذف الصبي والمجنون إلا في باب التعزير للتأديب إن كان لهما تمييز ولو لم يتفق إقامة التعزير على الصبي حتى بلغ. قال القفال : يسقط التعزير لأنه كان للزجر. والعقل زاجر قوي وإشارة الأخرس وكتابته قذف ولعان عند الشافعي قياساً على سائر الأحكام ، ولأنه كافٍ في لحوق العار. وعند أبي حنيفة لا يصح قذفه ولعانه لضعف تاثيرهما. وإذا قذف العبد حراً فعليه اربعون جلدة قاله مالك والشافعي وابو حنيفة واصحابه على قانون قوله ) فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) [ النساء : 25 ] وعند الشيعة ويروى عن علي رضي الله عنه أنه يجلد ثمانين أخذاً بعموم الآية ، ولهذا اتفقوا على دخول الكافر فيه حتى لو قذف اليهودي مسلماً جلد ثمانين. ويستثنى من الرماة الأب أو الجد إذا قذف أولاده أو أحفاده فإنه لا يجب عليه الحد كما لا يجب عليه القصاص. وأما البحث عن المرمي فالمحصنات العفائف لأنهن منعن فرجهن إلا من زوجهن وهي عامة إلا أن الفقهاء اعتبروا لكونها محصنة شرائط خمساً : الإسلام لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من أشرك بالله فليس بمحصن ( والعقل والبلوغ لأن المجنون والصبي لا اهتمام لهما بدفع العار عن أنفسهما ، والحرية لمثل ما قلنا ، والعفة لأن الحد شرع لتكذيب القاذف فإذا كان صادقاً فلا معنى للحد حتى لو زنى مرة في عنفوان شبابه ثم تاب وحسنت حاله لم يحد قاذفه بخلاف ما لو زنى في حال صغره أو جنونه ثم بلغ أو أفاق فقذفه قاذف فإنه يحد لأن فعل الصبي والمجنون لا يكون زنا. ولو زنى بعد القذف وقبل إقامة الحد على القاذف سقط الحد عن قاذفه. قال أبو حنيفة والشافعي لأن ظهور الزنا منه خدش ظن الإحصان به وقت القذف ، ودل على أنه كان متصفاً به قبله كما روي أن رجلاً زنى في عهد عمر فقال : والله ما زنيت إلا هذه. فقال عمر : كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة. وقال أحمد والمزني وأبو ثور : الزنا الطارئ لا يسقط الحد عن القاذف. ولفظ المحصنات لا يتناول الرجال عند جمهور العلماء إلا أنهم أجمعوا على أنه لا فرق في هذا الباب بين المحصنين والمحصنات والقذف بغير الزنا كأن يقول ) يا آكل الربا ( يا ) شارب الخمر ( يا ) يهودي ( يا ) مجوسي ( يا ) فاسق ( وكذا قذف غير المحصنين بالزنا لا يوجب الا التعزير ، ولو كان المقذوف معروفاً بما ذكره فلا تعزير أيضاً. واعلم أنه سبحانه حكم على القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء بثلاثة أحكام : جلد ثمانين وبطلان الشهادة والحكم بفسقه إلى أن يتوب. فذهب جمع من الأئمة كالشافعي والليث بن سعد إلى أنه رتب على القذف مع عدم الإتيان بالشهداء الأربعة أموراً ثلاثة معطوفة بعذها على بعض بالواو وهو لا يفيد الترتيب ، فوجب أن لا يكون رد الشهادة مرتباً على إقامة الحد ، بل يجب أن يثبت رد الشهادة بالقذف مع عدم(5/154)
" صفحة رقم 155 "
البينة سواء اقيم عليه الحد أم لا. وقال مالك وأبو حنيفة واصحابه : شهادته مقبولة ما لم يحد فإذا استوفى لم تقبل شهادته. وإنما ذهب إلى هذا نظراً إلى ظاهر الترتيب مع موافقته للأصل وهو كونه مقبول الشهادة ما لم يطرأ مانع ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدوداً في قذف ( أخبر ببقاء عدالته ما لم يحدّ. أما الاستثناء في قوله ) إلا الذين تابوا ( فإنه لا يرجع إلا الجملة الأولى اتفاقاً لأنه إذا عجز عن البينة وهو الإتيان بأربعة شهداء وجب عليه الجلد ولم يكن للإمام ولا للمقذوف أن يعفو عن القاذف لأنه خالص حق الله عز وجل ، ولهذا لا يصح أن يصالح عنه بمال. هذا قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي : إذا عجز عن البينة وجب على الإمام وهو المخاطب بقوله ) فاجلدوهم ( أن يأمر بجلده وإن تاب لأن القذف وحده حق الآدمي والمغلب فيه حقه ، فليس للإمام أن يعفو عنه. ولا خلاف في رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة وأن المراد أ ، هم محكوم عليهم بالفسق. إلا أن تابوا. بقي الخلاف في رجوع الاستثناء إلى الجملة المتوزسطة ، منشأ الخلاف مسألة أصولية هي أن الاستثناء بعد جمل معطوف بعضها على بعض للجميع وهو مذهب الشافعية ، أو للاخيرة وهو مذهب الحنفية ، ويتفرع على مذهب الشافعي أن القاذف إذا تاب وحسنت حاله قبلت شهادته فيكون الأبد مصروفاً إلى مدة كونه قاذفاً وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف. ويتفرغ على مذهب أبي حنيفة أنه لم تقبل شهادته وإن تاتب والأبد عنده مدة حياته. وقوله ( وأولئك هم الفاسقون ( جملة مستأنفة عند لا معطوفة لأنها خبرية وما قبلها طلبية ، ولو سلم أنها معطوفة فالاستثناء يرجع إليها فقط. قال صاحب الكشاف : حق المستثنى عند الشافعي أن يكون مجروراً بدلاً من هم في لهم ، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوباً لأنه عن موجب. قلت : حقه عند الإمامين أن يكون منصوباً لأن الاستثناء يعود عند الشافعي إلى الجملتين ، ولا يمكن أن يكون الاسم الواحد معرباً بإعرابين مختلفين في حالة واحدة ، لكنه يجب نصبه نظراً إلى الأخيرة فتعين نصبه نظراً غلى ما قبلها أيضاً ، وإن جاز البدل في غير هذه المادة. هذا وقد احتجت الشافعية أيضاً في قبول شهادة القاذف بعد التوبة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) التائب من الذنب كمن لا ذنب له ( وإذا كانت التوبة من الكفر والزنا والقتل مع غلظها مقبولة فلأن تقبل من القذف أولى. وأيضاً إن أبا حنيفة يقبل شهادته قبل الحد فبعده وقد تاب وحسن حاله أولى. وأيضاً الكافر يقذف(5/155)
" صفحة رقم 156 "
فيتوب من الكفر فتقبل شهادته بالإجماع ، فالقاذف المسلم إذا تاب من القذف كان أولى بأن تقبل شهادته لأن القذف مع الإسلام أهون حالاً من القذف مع الكفر. لا يقال : المسلمون لا يعبؤون بسب الكفار لاشتهارهم بعداوتهم والطعن فيهم فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر عار حادث بخلاف ما لو قذفه مسلم. وأيضاً الإيمان يجب ما قبله وبهذا لا يلزم الحد بعد التوبة من الكفر ويلزم بعد التوبة من القذف لأنا نقول : هذا الفرق ملغى في أهل الذمة لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ( واحتجت الحنفية في عدم قبول شهادته بما روى ابنعباس في قصة هلال بنأمية يجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين ولم يشترط التوبة ، ومثله قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدود في قذف ( ولم يذكر التوبة. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) لا تجوز شهادة محدود في الإسلام ( والشافعية عارضوا هذه الحجج بوجوه : منها قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا علمت مثل الشمس فاشهد ( فإذا علم المحدود وجبت عليه الشهادة ولو لم يقبل كان عبثاً. ومنها قوله نحن نحكم بالظاهر ، وههنا قد ظهرت العفة والصلاح. ومنها أن عمر بن الخطاب ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن(5/156)
" صفحة رقم 157 "
شعبة وهم أبو بكرة ونافع ونفيع ثم قال لهم : من أكذب نفسه قبلت شهادته. فأكذب نافع ونفيع أنفسهما وتابا فكان يقبل شهادتهما. وقد بقي في الآية مسائل. الأولى : قال الشافعي : لا فرق بين أن يجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين. وقال أبو حنيفة : إذا جاؤوا متفرقين لم يثبت وعليهم حد القذف كما لو شهد على الزنا أقل من أربعة. حجة الشافعي أن الآتي بالشهداء متفرقين آتٍ بمقتضى النص واجتماعهم أمر زائد لا إشعار به في الآية. وأيضاً القياس على سائر الأحكام بل تفريقهم أولى لأنه ابعد عن التهمة والتواطؤ. وكذلك يفعل القاضي في كل حكم سواه عند الريبة. وايضاً لا يجب أن يشهدوا معاً في حالة واحدة بل إذا اجتمعوا عند القاضي ويقوم واحد بعد آخر ويشهد جاز فكذا إذا اجتمعوا على بابه ويدخل واحد بعد آخر. حجة أبي حنيفة الشاهد الواحد لما شهد قذفه ولم يأت بأربعة شهداء فوجب عليه الحد فخرج عن كونه شاهداً ، ولا عبرة بتسميته شاهد إذا فقد المسمى فلا خلاص عن هذا الإشكال إلا باشتراط الاجتماع ، ونظيره ما روي أن المغيرة بن شعبة شهد عليه بالزنا عند عمر بن الخطاب اربعة : أبو بكرة ونافع ونفيع. وقال زياد : وكان رابعهم : رايت رجليها على عاتقه كأذني حمار ولا أدري ما وراء ذلك. فجلد عمر الثلاثة ولم يسأل هل معهم شاهد آخر. فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف في الحد للاحتياط. الثانية : جوّز أبو حنيفة أن يكون زوج المقذوفة واحداً من الشهداء الأربعة وأباه الشافعي. الثالثة : قال الشافعي : في أحد قوليهك إذا أتى بأربعة فساق فهم قذفه يجب عليهم الحد كما يجب على القاذف الأول. وقال أبو حنيفةك لا حد عليهم ولا على القاذف لأنه أتى باربعة من أهل الشهادة إلا أن الشرع لم يعتبر شهادتهم ، فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحد عن الشمهود عليه فكذلك يجب اعتبارها في نفي الحد عنهم. الرابعة : لا يكفي في الشهادة إطلاق الزنا لا بد ان يذكروا التي زنى بها وأن يذكروا الزنا مفصلاً مفسراً فيقولوا : رأيناه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة أو كالرشا في البئر ، ولا بد مع ذلك من الوصف بالتحريم. ولو أقر على نفسه بالزنا فهل يشترط التفسير والبيان ؟ فيه وجهان : نعم كالشهود لا كالقذف. الخامسة : قالوا : أشدالحدود ضرب الزنا ثم ضرب الخمر ثم القذف لأن سبب عقوبته يحتمل الصدق والكذب. إلا أنه عوقب صيانة للأعراض. السادسة : حد القذف يورث عند مالك والشافعي بناء على أنه حق الآدمي. وقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) من ترك حقاً فلورثته ( والأصح أنه يرثه جميع الورثة. وفي قول سوى الزوج والزوجة لأن الزوجية ترفع بالموت ، ولأن لحوق العار بها أقل. وعلى هذا القول اعتراض أبو حنيفة بأنه لو كان موروثاً لكان للزوج والزوجة فيه نصيب. السابعة : إذا قذف إنسان إنساناً بين يدي الحاكم أو قذف امرأته برجل والرجل غائب فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلاناً قد قذفك وثبت لك حد القذف عليه كما لو ثبت له حق على آخر وهو لا يعلمه يلزمه إعلامه ، وبهذا المعنى بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنيساً ليخبرها بأن فلاناً قذفها بابنه ولم يبعثه ليتفحص عن زناها .(5/157)
" صفحة رقم 158 "
قال الشافعي : وليس للإمام إذا رمى رجل بالزنى أن يبعث إليه فيساله عن ذلك لأن الله تعالى قال ) ولا تجسسوا ) [ الحجرات : 22 ] وأراد به إذا لم يكن القاذف معيناً كأن قال رجل بين يدي الحاكم : الناس يقولون إن فلاناً زنى : فلا يبعث الحاكم إليه فيساله. الثامنة : قال الشافعي : توبة القاذف إكذابه نفسه. وفسره الأصطخري بأن يقول : كذبت فيما قلت فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحق : لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقاً فيكون قوله كذبت كذباً والكذب معصية والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عنمعصية أخرى بل يقول : القذف باطل وندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه. ولا بد من مضيّ مدة عليه في حسن الحال وهو المراد بقوله ) واصلحوا ( وقدّروا تلك المدة بسنة لأن مرور الفصول الربعة كلها له تاثير في الطباع. وأن الشارع جعل السنة معتبرة في الزكاة والجزية وغيرهما. أما قوله ) وأولئك هم الفاسقون ( ففيه دليل على أن القذف من جملة الكبائر ، وأن الفاسق اسم من يستحق العقاب لأنه لو كان مشتقاً من فعله لكانت التوبة لا تمنع من دوامه كما لا تمنع من وصفه بأنه ضارب ، اللهم إلا أن يقال : إنما لا يطلق عليه هذا الاسم بعد التوبة للتعظيم كما لا يقال الأكابر الصحابة كافر لكفر سبقز قالت الأشاعرة : في قوله ) فإن الله غفور رحيم ( دلالة على أن قبول التوبة لا يجب عليه وغلا لم يفد المدح. الجكم الثالث : اللعان وسببه قذف الزوجات خاصة. القذف أمر محظور في نفسه غلا إذا عرض ما يباح أو يجب به. وتفضيل ذلك أنه إن رآها الزوج بعينه تزني ، أو أقرت هي على نفسها ووقع في قلبه صدقها ، أو سمع ممن يثق بقوله ، أو استفاض بين الناس أن فلاناً يزني بفلانة وقد رآه الزوج يخرج من بيتها ، أو رآه معها في بيت ، أبيح له القذف لتأكيد التهمة. ويجوز أن يمسكها أو يستر عليها لما روي أن رجلاً قال : يا رسول الله إن لي امرأة لا تردّ يد لامس. قال : طلقها. قال : إني أحبها. قال : فأمسكها أما إذا سمعه ممن لا يوثق بقوله ، أو استفاض ولكن لم يره الزوج معها أو بالعكس لم يحل له قذفها لأنه ربما دخل لخوف أو سرقة أو لطلب فجور وابت المرأة هذا كله إذا لم يكن ثمة ولد يريد نفيه ، فإن كان ثمة ولد فإن تيقن أ ، ه ليس منه بأن لم يكن وطئها أو وطئها لكنها أتت به لأقل من ستى اشهر من وقت الوطء أو لأكثر من أربع سنين يجب عليه نفيه باللعان لأنه ممنوع من استلحاق نسب الغير كما هو ممنوع من نفي نسبه. قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته. وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الشهاد من الأولين والآخرين ( وإن احتمل أن يكون الولد منه بأن(5/158)
" صفحة رقم 159 "
أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الوطء ولأقل من أربع سنين ، فإن لم يكن استبرأها بحيضة أو استبرأها وأتت به لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء لم يحل له القذف والنفي ، وإن اتهمها بالزنا وإن استبرأها وأتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الاستبراء يباح له القذف والنفي ، والأولى أن لا يفعل لأنها قد ترى الدم على الحبل. وإن أتت امرأته بولد لا يشبهه كأن كانا أبيضين وأتت به أسود فإن لم يتهمها بالزنا فليس له نفيه لما روى أبو هريرة أن رجلاً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن امرأتي ولدت غلاماً أسود فقال : ( هل لك من إبل ؟ ( قال : نعم. قال : ( ما لونها ؟ ( قال : حمر. قال : ( فهل فيها أورق ؟ ( قال : نعم قال : ( فكيف ذاك ؟ ( قال : نزعه عرق. قال : ( فلعل هذا نزعه عرق. ( وإن كان يتهمها بزنا أو برجل فأتت بولد يشبهه فهل يباح نفيه ؟ فيه وجهان : أما سبب نزول الاية فقد قال ابن عباس : لما نزلت الآية المتقدمة قال عاصم بن عدي الأنصاري : إذا دخل منا رجل بيته ووجد رجلاً على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج ، وإن قتله قتل به ، وإن قال : وجدت فلاناً مع تلك المرأة ضرب ، وإن سكت سكت على غيظ ، اللهم افتح. وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر ، وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس ، فأتى عويمر عاصماً وقال : رأيت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة فاسترجع عاصم وأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الجمعة الأخرى فقال : يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي. أخبرني عويمر أنه رأى شريكاً على بطن امرأته ، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم أبناء عم عاصم. فدعاهم رسول الله صلى الله عليه سولم جميعاً وقال لعويمر : اتق الله في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها. فقال : يا رسول الله أقسم بالله أني رأيت شريكاً على بطنها وأني ما قربتها منذ أربعة اشهر وأنها حبلى من غيري. فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت. ( فقالت : يا رسول الله إن عويمراً رجل غيور وإنه رأى شريكاً يطيل التردد ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال فأنزل الله سبحانه هذه الآيات. ) والذين يرمون أزواجهم ( غلى آخرها. فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى نودي بالصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويمر : قم وقل أشهد بالله أن خولة لزانية وإني لمن الصادقين. ثم قال في الثانية قل أشهد بالله إني رايت شريكاً على بطنها وإني لمن الصادقين. ثم قال في الثالثة : قل أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين. ثم قال في الرابعة : قل أشهد بالله إنها زانية وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين. ثم قال في الخامسة : قل لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قاله. ثم قال : اقعد. وقال لخولة : قومي فقامت. وقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي عويمراً لمن الكاذبين. وقالت في الثانية : اشهد بالله ما رأى شريكاً على بطني وإنه(5/159)
" صفحة رقم 160 "
لمن الكاذبين. وقالت في الثالثة : اشهد بالله إني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين. وفي الرابعة : أشهد بالله إنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين. وفي الخامسة : غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله. ففرق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بينهما. وعن ابن عباس أيضاً في رواية الكلبي أن عاصماً رجع إلى أهله فوجد شريكاً على بطن امرأته فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والحديث كما تقدم. وفي رواية عكرمة عن ابن عباس : لما نزلت آية القذف قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار : ولو وجدت رجلاً على بطنها فإني إن جئت بأربعة شهداء يكون قد قضى حاجته وذهب. فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ؟ ( قالوا : يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور. فقال سعد : يا رسول الله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكني عجبت منه. فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فإن الله أبى لي ذلك ( فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فقال : يا رسول الله إني وجدت مع امرأتي رجلاً رأيت بعيني وسمعت باذني ، فكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما جاء به فقال هلال : والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أخبرتك به ، والله يعلم أني لصادق وما قلت إلا حقاً. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إما البينة وإما إقامة الحد عليك. ( فاجتمعت الأنصار فقالوا : ابتلينا بما قال سعد. فبيناهم كذلك إن نزل الوحي فقال : ( يا هلال أبشر فقد جعل الله لك فرجاً وأمر بالملاعنة وفرق بينهما وقال : أبصروها فإن جاءت به اصهب أحمش الساقين أي دقيقهما فهو لهلال ، وإن جاءت به اورق جعداً خدلج الساقين. اي ضخمهما فهو لصاحبه. ( فجاءت به خدلج الساقين فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لولا الإيمان لكان لي ولها شأن. ( قال عكرمة : لقد رأيته بعد ذلك أمير مصر من الأمصار لا يدري من أبوه. واعلم أن الفرق بين قذف غير الزوجة وبين قذف الزوجة هو أن المخلص من الحد في الأول إقرار المقذوف بالزنا أو بينة تقوم على زناة ، وفي الثانية المخلص أحد الأمرين أو اللعان. وسبب شرع اللعان هو أنه لا مضرة على الزوج في زنا الأجنبي والأولى له ستره ، وأما في زنا الزوجة فيلحقه العار والشنار والسنب الفاسد فلا يمكنه الصبر عليه وتوقيفه على البينة كالمعتذر. وأيضاً الغالب أن الرجل لا يقصد رمي زوجته غلا عن حقيقة ، فنفس الرمي دليل على صدقه إلا أن الشرع أراد كمال شهادة الحال بقرينة الإيمان كما أن شهادة المرأة حين ضعفت أكدت بزيادة العدد فمن هنا قال كثير من العلماء : إن حد قاذف الزوجة كان هو الجلد وإن الله نسخه باللعان. ولنذكر ههنا مسائل : الأولى : قال الشافعي : إذا نكل الزوج عن اللعان لزمه الحد للقذف ، فإذا لاعن(5/160)
" صفحة رقم 161 "
ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا. وقال أبو حنيفة : إذا نكل الزوج يحبس حتى يلاعن وكذا المرأة. حجة الشافعي إذا لم يأت بالمخلص وهو الملاعنة وجب الرجوع إلى مقتضى آية القذف وهو الحد. وايضاً قوله ) ويدرأ عنها العذاب ( ليست اللام فيه للجنس لأنه لا يجب عليها جميع أنواع العذاب ، ولأن الآية تصير إذ ذاك مجملة فهو للعهد ولا معهود في الاية إلا حد القذف ، ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) لخولة الرجم أهون عليك من غضب الله. وللمرأة أن تقول : إن كان الرجل صادقاً فحدّوني وإن كان كاذباً فخلوني فما بالي والحبس وليس حبسي في كتاب الله ولا سنة رسوله. حجة أبي حنيفة أن النكول ليس بصريح في الإقرار فلا يجوز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره. الثانية : الجمهور على أنه إذا قال ) يا زانية ( وجب اللعان لعموم قوله ) والذين يرمون ( وقال مالك : لا يلاعن إلا أن يقول : رأيتك تزني وينفي حملاً بها أو ولداً منها. الثالثة : قال الشافعي : من صح رميه صح لعانه فلا يشترط غلا التكليف ، ويجري اللعان بين الذميين والمحدودين والرقيقين. وذهب أبو حنيفة غلى ان الزوج ينبغي أن يكون مسلماً حراً عاقلاً بالغاً غير محدود في القذف ، والمرأة ينبغي أن تكون بهذه الصفة مع العفة. فإذا كان الزوج عبداً أو محدوداً في قذف والمرأة محصنة حدّ كما في قذف الأجنبيات. دليل الشافعي عموم قوله ) والذين يرمون أزواجهم ( والإجماع. على أنه يصح لعان الفاسق والأعمى وإن لم يكونا من أهل الشهادة ، فكذا القول في غيرهما ، والجامع هو الحاجة إلى دفع العار. دليل أبي حنيفة حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي من النساء من ليس بينهن وبين أزواجهن ملاعنة اليهودية والنصرانية تحت المسلم والحّرة تحت المملوك والمملوكة تحت الحر. وأيضاً اللعان بين الزوجات قائم مقام الحد في الأجنبيات فلا يجب اللعان على من لا يجب عليه الحد لو قذفها أجنبي. وأيضاً اللعان شهادة لقوله تعالى ) فشهادة أحدهم أربع شهادات ( وقد جاء مثله في أحاديث اللعان. وإذا كان شهادة وجب أن لا يقبل من المحدود في القذف ولا من العبد والكافر. أجاب الشافعي بأن اللعان يمين مؤكدة بلفظ الشهادة أو يمين فيها شائبة الشهادات فلا يشترط في الملاعن إلا أهلية لليمين ، ومما يدل على أنه يمين قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لهلال بن أمية : احلف بالله الذي لا إله إلا هو إنك صادق وقوله : لولا الإيمان لكان لي ولها شأن. وأيضاً لو كان شهادة لكان حظ المرأة ثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل ، ولم يجز لعان الفاسق والأعمى لأنهما ليسا من أهل الشهادة. لا يقال : الفاسق والفاسقة قد يتوبان لأنا نقول : العبد أيضاً قد يعتق ، بل العبد إذا عتق تقبل شهادته في الحال ، والفاسق إذا تاب لا تقبل شهادته إلا بعد الاختبار. ثم ألزم(5/161)
" صفحة رقم 162 "
الشافعي أبا حنيفة بأن شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة فينبغي أن يجوز اللعان بين الذمي والذمية. ثم قال الشافعي بعد ذلك : وتختلف الحدود لمن وقعت له ، ومعناه أن الزوج ن لم يلاعن ينصف الحد عليه برقه ، وإن لاعن ولم تلاعن اختلف حدها بإحصانها وحريتها ورقها. الرابعة : اختلف المجتهدون في نتائج اللعان ، فعن عثمان البتي أنه لا يحصل به الفرقة أصلاً لأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقاً في قذفه وهذا لا يوجب تحريماً كما لو قامت البينة عليها. وأيضاً إن تلاعنهما في بيتهما لا يوجب الافتراق فكذا عند الحاكم. وأيضاً إنه قائم مقام الشهود في الأجنبيات فلا يكون له تأثير إلا في إسقاط الحد. وأيضاً إذا أكذب الزوج نفسه ثم حدّ لا يوجب الفرقة فكذا اللعان. وأما تفريق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بين المتلاعنين في قصة العجلاني فذلك لأن الزوج كان طلقها ثلاثاً قبل اللعان. وعن أبي حنيفة وأصحابه إلاَّ زفر ، أن الحاكم يفرق بينهما لما روى سهل بن سعد : مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم يجتمعان أبداً ، ولما في قصة عويمر كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثاً ، فلو وقعت الفرقة باللعان لم يمكن إمساكها. وقال مالك والليث وزفر : غذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة بينهما وإن لم يفرق الحاكم ، لأنهما لو تراضيا على دوام النكاح لم يخليا فدل ذلك على وقوع الفرقة بينهما. وقال الشافعي : إذا فرغ الزوج وحده من اللعان حصل بذلك خمس نتائج : درء الحد عنه ، ونفي الولد ، والفرقة ، والتحريم المؤبد ، ووجوب الحد عليها. ولا تأثير للعان الزوجة إلا في دفع العذاب عن نفسها ، وما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) فرق بينهما محمول على أنه أخبر عن وقوع الفرقة بينهما. وزعم أبو بكر الرازي أن قول الشافعي خلاف الآية ، لأنه لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لاعنت المرأة وهي أجنبية ، ولكنه تعالى أوجب اللعان بين الزوجين ، وأيضاً اللعان شهادة فلا يثبت حكمها إلا عند الحاكم كسائر الشهادات. وأيضاً اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعي ما ادعاه بالبينة فيتوقف على حكم الحاكم. وأيضاً اللعان لا إشعار فيه بالتحريم فهو كما لو قامت البينة على زناها فلا بد من إحداث التفريق إما من قبل الزوج أو من قبل الحاكم. ولقائل أن يقول : سميا زوجين باعتبار ما كان كالعبد على من عتق ، ولا نسلم أن اللعان شهادة مضة. ومما يؤكد قول الشافعي تنصيص الله سبحانه على ذلك بقوله ) ويدرأ عنها العذاب أن تشهد ( ففيه دلالة على أن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج إلا دء العذاب. وأيضاً أن لعان الزوج مستقل بنفي الولد لأن الاعتبار في الإلحاق بقوله لا بقولها ، ألا ترى أنها في(5/162)
" صفحة رقم 163 "
لعانها تلحق الولد به ونحن ننفيه عنه ، وإذا انتفى الولد عنه بمجرد لعانه وجب أن يكون الفراش زائلاً لقوله ) الولد للفراش (. الخامسة : مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف والثوري وإسحق ، أن المتلاعنين لا يجتمعان أبداً وهو قول علي وابن مسعود. ولما روي الزهري من حديث سهل بن سعد ، ولما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال للمتلاعنين بعد اللعان ) لا سبيل لك عليها. ( ولم يقل حتى تكذب نفسك ولو كان إلا كذاب غاية لهذه الحرمة ، وأنه إذا أكذب نفسه وحدّ زال تحريم العقد وحلت له بنكاح جديد لذكرها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما قال تعالى ) فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ) [ البقرة : 23 ] وقد يحتج لأبي حنيفة بعموم قوله ) فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) [ النساء : 3 ] وقوله ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) [ النساء : 24 ]. السادسة : اتفق أهل العلم على أن الولد ينتفي من الزوج باللعان. وخالف بعضهم مستدلاً بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الولد للفراش ( وزيف بأن الأخبار الدالة على أن الولد ينتفي باللعان كالمتواترة فلا يعارضها الواحد بل يجب تخصيصه بها. السابعة : لو أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق بها الحكم عند الشافعي وهو ظاهر وعن أبي حنيفة أن للأكثر حكم الكل إذا حكم به الحاكم. الثامنة : كيفية اللعان كالصريحة في الاية وأن الحديث قد زادها بياناً كما مر. وقد عد الشافعي ومن سننها أن يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة ، وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد ، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء إلى العنة ويقول له القاضي أو صاحب المجلس : اتق الله فإنها موجبة. وهكذا يقال للمرأة إذا انتهت إلى الغضب. ومما يستحب في اللعان ولا يجب على الأصح ، التغليظ بالزمان. وهو ما بعد صلاة العصر ولا سيما عصر يوم الجمعة ، وبالمكان وذلك بمكة بين الركن والمقام ، وبالمدينة بين المنبر والمدفن ، وفي سائر البلاد عند المنبر في المسجد الجامع ايضاً وهو المقصورة ، وفي بيت المقدس في المسجد القصى عند الصخرة ، ولليهود في الكنيسة ، وللنصارى في البيعة ، وللمجوس ف بيت نارهم ، وإذا لم يكون له دين ففي مساجدنا إلا في المسجد الحرام. ولا بد من حضور الحاكم سواء كان مدار اللعان على اليمين أو على الشهادة ، ولا بد من حضور جمع من الأعيان أقلهم أربعة. التاسعة : قال جار الله : إنما خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله تغليظاً عليها لأنها أصل الفجور ومنبعه بخلابتها وإطماعها ولذلك كانت متقدمة في آية الجلد .(5/163)
" صفحة رقم 164 "
العاشرة : في فوائد متعلقة بالآية منها : إبطال الجمهور وقول الخوارج إن الزنا والقذف كفر ، وذلك أن الرامي إن صدق فهي زانية وإن كذب فهو قاذف ، فلا بد من كفر أحدهما والردة توجب الفرقة من غير لعان : ومنها غبطال قول من زعم أن الزنا يوجب فساد النكاح لأن رمي الزوج غياها اعتراف منه بزناها بفساد النكاح على قول هذا القائل فتحصل الفرقة بلا لعان. ومنها أن المعتزلة قالوا : المتلاعنان يستحقان اللعن أو الغضب الموجبين للعقاب الأبدي المضاد للثواب وذلك يدل على خلود الفساق في النار. أجابت الاشاعرة بأن كونه مغضوباً عليه بفسقه لا ينافى كونه مرضياً عنه بجهة إيمانه فلا بد أن يحصل له بعد العقاب ثواب. ثم أخبر عن كمال رافته بقوله ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته ( أي فيما بين من هذه الأحكام وفيما أمهل وأبقى ومكن من التوبة. وجواب ) لولا ( محذوف أي لهلكتم أو فضحتم أو لكان ما كان من أنواع المفاسد. وإنما حسن حذفه ليذهب الوهم كل مذهب فيكون أبلغ في البيان فرب مسكوت عنه ابلغ من منطوق به. التأويل : النفس الزانية المستسلمة لتصرفات الشيطان والدنيا فيها ، والروح الزاني بتصرفه في الدنيا وشهواتها المنهية عنها ) فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ( من الجوع وترك الهوات والمرادات ، ومن حملهما على المخالفات. ولعل السر في تخصيص هذا العدد هو أن ساعات اليوم بليلته اربع وعشرون منها : أربع ساعات لأجل النوم ) إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ) [ المزمل : 20 ] والباقية يجب فيها مراقبة الحواس الخمس وتأديبهن بآداب الشرع والعقل ، فيكون المجموع مائة وتأديبة يحصل نتائجها وكمالها للنفس والروح والله تعالى أعلم. ) وليشهد عذابهما ( ولتكن هذه التزكية والتأديبات بمحضر شيخ واصل كامل يحفظه من طرفي الإفراط والتفريط ) الزاني لا ينكح ( فيه أن الطبع يسرق والجمس إلى الجنس يميل ، فأهل الفساد لا ترغب إلا في صحبة أمثالهم من أهل الفساد كما أن أرباب السداد لا تطمح غلا إلى صحبة أمثالهم من أرباب السداد. ) وحرم ذلك ( الذي قلنا من اختلاط الأشرار ) على المؤمنين ( ) والذين يرمون المحصنات ( أي الأرواح الذين ينسبون غلى نقصان النفوس المستعدات للكمالات ) ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ( أي لم يكن خواص العناصر الأربعة ظاهرة على صفحات أحوالهن كما مر تقريره في أول النساء في قوله ) فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ) [ النساء : 15 ] ولم تبلغ الملكات الذميمة منهن مرتبتها. الرابعة كالكاتب يكتب بالفعل ) فاجلودهم ثمانين جلدة ( مر وهم بالخلوة أربعين يوماً وأربعين ليلة حتى يظهر لهم كمال حال النفوس في الموافقة لهم ولا تقبلوا لهم بعد ذلك شهادة عليهن ، وأولئك هم الذين يريدون أن يخرجوا عن طاعة الله بقدر نسبة النقصان إلى(5/164)
" صفحة رقم 165 "
النفوس السمتعدة. ) والذين يرمون أزواجهم ( وهن القوالب المزدوجة بالأرواح ) ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ( لأنه لا يطلع على أحوال القالب إلا الروح ) فشهادة أحدهم أربع شهادات ( هي الأسنان الأربعة التي فيها تحصل التربية والاستكمال. ) والخامسة ( وهي حالة حلول الأجل اللعنة والغضب والعذاب الأبدي وما تولد منهما من الصفات الذميمة ينسبها الروح إلى ثالث هو الشيطان ، وينسبها القالب إلى الروح الذي يدبره ويتصرف فيه. والافتراق الذي يحصل بينهما ليس بالصورة بل المعنى لأن الروح يميل إلى العالم العلوي والقالب إلى العالم السفلي لعدم الموافقة بينهما وهو سبحانه أعلم. ( النور : ( 11 - 26 ) إن الذين جاؤوا . . . .
" إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم "
( القراآت )
كبره ( بضم الكاف : يعقوب. ) إذ سمعتموه ( وبابه مدغماً : أبو عمرو(5/165)
" صفحة رقم 166 "
وعلي وهشام وحمزة غير خلف ورجاء والعجلي ) إذ تلقونه ( بالإظهار وتشديد التاء : البزي وابن فليح ) ولا يتأل ( من التألي : يزيد ) ما زكى ( بالتشديد والإمالة : روح وقرأ قتيبة ممالة مخففة. ) يوم يشهد ( على التذكير : حمزة وعلي وخلف. والباقون بتاء التأنيث. الوقوف : ( عصبة منكم ( ط ) شراً لكم ( ط ) خير لكم ( ط ) من الإثم ( ج لنوع عدول من إجمال حكم الكل إلى بيان حكم البعض مع اتفاق الجملتين ) عظيم ( 5 ) خيراً ( لا للعطف ) مبين ( 5 ) شهداء ( ج للشرط معنى مع الفاء ) الكاذبون ( 5 ) عظيم ( ج لاحتمال أن يكون ( إذ ) ظرف قوله ) لمسكم ( أو ) أفضتم ( واحتمال كونه منصوباً باذكر وبهذا قد قيل : الوصل ألزم لأن قوله ) سبحانه ( من جملة مفعول ) قلتم ( ) عظيم ( 5 ) مؤمنين ( 5 ج لاتفاق الجملتين مع تكرار اسم الله دون الاكتفاء بالضمير وأنها آية ) الايات ( ط ) حكيم ( 5 ) أليم ( 5 لا لتعلق الظرف ) والآخرة ( ط ) لا تعلمون ( 5 ) رحيم ( 5 ) خطوات الشيطان ( ط ) والمنكر ( ط ) ابداً ( لا لتعلق لكن ) من يشاء ( ط ) عليم ( 5 ) في سبيل الله ( ط والوصل أولى للعطف ) وليصفحوا ( ط ) لكم ( ط ) رحيم ( 5 ) والآخرة ( ص ) عظيم ( 5 لا لتعلق الظرف ) يعملون ( 5 ) المبين ( 5 ) للخبيثات ( ج للعطف مع التضاد ) للطيبات ( 5 ج لاتحاد المعنى مع فقدان العاطف ) يقولون ( ط ) كريم ( 5. التفسير : إنه سبحانه لما ذكر من أحكام القذف ما ذكر أتبعها حديث إفك عائشة الصدّيقة وما قذفها به أهل النفاق. روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعللقمة بن أبي وقاص وكلهم رووا عن عائشة قالت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا اراد سفراً اقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها معه فأقرع بيننا في غزوة. قال الزهري : هي غزوة المريسيع. وذكره البخاري في غزوة بني المصطلق من خزاعة. قال : وهي غزوة المريسيع أيضاً. فخرج اسمي فخرجت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلما انصرف وقرب من المدينة نزل منزلاً ثم أذن بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني وأقبلت غلى رحلي لمست صدري فإذا عقد لي من حزع أظفار قد انقطع ، فرجعت والتمست عقدي وحبسني طلبه. وأقبل الرهط الذين كانوا يحملون فحملوا هودجي وهم يحسبون أني فيه لخفتي فإني كنت جارية حديثة السن وذهبوا بالبعير ، فلما رجعت غلى مكاني وليس به أحد جلست وقلت : يعودون في طلبي فنمت. وقد كان صفوان بن المعطل يمكث في المعسكر يتتبع أمتعته فيحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب منهم شيء ، فلما رآني عرفني وقال : ما خلفك عن الناس ؟ فأخبرته فنزل وتنحى حتى ركبت ، ثم قاد البعير(5/166)
" صفحة رقم 167 "
وافتقدني الناس حين نزلوا وخاض الناس في ذكري. فبيناهم في ذلك هجمت عليهم فتكلم القوم فيّ وقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة ومكثت شهراً أشتكي ولا يرقأ لي دمع أقول كما يقول العبد الصالح أبو يوسف ) فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) [ يوسف : 18 ] إلى أن نزل فيّ ) إن الذين جاؤوا بالإفك ( إلى آخر الآيات. وفي الحديث طول هذا حاصل سبب النزول. وأما التفسير فالإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وقيل : هو البهتان. والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين. والتركيب يدل على الاجتماع ومنه العصابة. قال المفسرون. هم عبد الله بن أبي رأس النفاق ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح ابن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم. ومعنى ) منكم ( أنهم كانوا من جملة من حكم لهم بالإيمان ظاهراً. أما الخطاب فيب قوله ) لا تحسبوه شراً لكم ( فالصحيح أنه لمن ساءه ذلك من المؤمنين وخاصة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبا بكر وعائشة وصفوان. ومعنى كوكنه خيراً لهم أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم على قدر عظم البلاء ، وأنه نزلت فيه بضع عشرة آية فيها تعظيم شأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتسلية له وتنزيه لأم المؤمنين وتطهير لأهل البيت وتهويل للطاغين فيهم إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية والآداب العقلية. وقيل : الخطاب لعائشة وحدها والجمع لتعظيمها. وقيل : الخطاب للقاذفين وبيان الخيرية صرفهم عن الاستمرار على حديث الإفك إلى التوبة عن ذلك ، ولعل في هذا الذكر عقوبة معجلة لهم فيكون في هذا القول الكفارة. وضعف هذا القول بأنه لا يناسب تسلية الرسول والمؤمنين ولا يطابق قوله ) لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ( أي يصيب كل خائض في حديث الإفك ما يصيبه من عقاب ما اكتسب من إثم الخوض. ) والذي تولى كبره ( أي معظم الإفك وهو في قول الضحاك حسان ومسطح ولهذا جلدهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مع امرأة من قريش ، والشهر أنه عبد الله راس النفاق. ويحكى أن صفوان مر بهودجها وهو في ملأ من قومه فقال : من هذه ؟ فقالوا : عائشة. فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها. ويروى أن عائشة ذكرت حساناً وقالت : أرجو له الجنة. فقيل : أليس هو الذي تولى كبره ؟ فقالت : إذا سمعت شعره في مدح الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) رجوت له الجنة. وفي رواية أخرى قالت : واي عذاب أشد من العمى. ثم علم أدباً حسناً في مثل هذه الواقعة فقال ) لولا إذ سمعتموه ظن ( فصل بين ( لولا ) التحضيضية وبين فعلها بالظرف لأنه يتسع في الظرف مالا يتسع في غيره تنزيلاً للظرف منزلة المظروف نفسه ، ولأن الممكنات لا تنفك عن الظروف. والفائدة فيه أن يعلم أن ظن الخير كان يجب عليهم أول ما سمعوه بالإفك ، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم(5/167)
" صفحة رقم 168 "
ومثله ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ) [ النور : 16 ] ثم لا يخفى أن أصل المعنى أن يقال : لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم هذا إفك. ومعنى بأنفسكم بالذين منكم من المؤمنين والمؤمنات ، فعدل عن الخطاب إلى الغيبة ، وعن الضمير إلى الظاهر ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات ، ولينبه لفظ الإيمان على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدّق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا عاتب بل يقول بملء فيه بناء على ظن الخير مصرحاً ببراءة ساحته ) هذا إفك مبين ( وذلك أن المؤمن معه من العقل والدين ما يهديه إلى الاصلح ويؤخره عن الأقبح ، ولم يوجد هذا الداعي والصارف معارض بتساويهما كما قيل : كلام العدى ضرب من الهذيان. فوجب أن لا يلتفت المؤمن غلى قول الطاعن في حق أخيه ويبقى على حسن ظنه به وهذا أدب حسن قل العامل به ، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يزيد فيه. روي أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب : أما ترين ما يقال ؟ فقالت : لو كنت بدل صفوات أكنت تظن بحرمة رسول الله سوءاً ؟ قال : لا. قلت : لو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعائشة خير مني وصفوان خير منك. وفي الآية دلالة على قول أبي حنيفة أن المسلمين عدول بعضهم على بعض ما لم يظهر منهم ريبة لأنا مأمورون بحسن الظن وذلك يوجب قبول الشهادة. ومن هنا قال أيضاً : إذ باع درهماً وديناراً بدرهمين ودينارين إنا نخالف بينهما لأنا قد أمرنا بظن الخير فوجب حمله على ما يجوز. ومثله إذا باع سيفاً محلى فيه مائة درهم بمائتي درهم نجعل المائة بالمائة والفضل بالسيف. وإذا وجدنا امرأة أجنبية مع رجل فاعترفا بالتزويج تصدقهما حملاً لعقود المسلمين وتصرفاتهم على الجواز والصحة. وزعم مالك أنهما كالدليل القاطع على أن الذي قيل فيها إفك صريح. قال العلماء : يجوز أن تكون زوجة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ، ولا يجوز أن تكون فاجرة لأن الأنبياء معصومون عن المنفرات ألبتة فإن حصول المنفر معه ينافي بعثته لكن الكفر غير منفر للكفرة. قال : وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات. قيل : في تفسيره الكشخان الذي تحبب امرأته الرجال غلى نفسها. ويقال : كشخنته أي قلت له ياكشخان. ثم بالغ في زجرهم عن حديث الإفك بقوله ) لولا جاؤوا ( وهي أيضاً تحضيضية والمراد التفصيل بين الرمي الصادق والكاذب بثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفائها ولكن هذا العدد وكل فرد منه منتفٍ في حق عائشة فهم في حكم الله وشريعته كاذبون. وهذا القدر كافٍ في إلزام أولئك الطاعنين وإلا فهم في نفس الأمر بالنسبة إلى هذه الواقعة كاذبون كما مر تقريره آنفاً. ثم زاد في التهديد والزجر بقوله ) ولولا فضل الله ( هي ( لولا ) الامتناعية. قال جمهور المفسرين : لولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في هذه الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة ، وأن(5/168)
" صفحة رقم 169 "
أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة ، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. وعن مقاتل أن في الآية تقديماً وتأخيراً والمعنى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته بالحلم عنكم والحكم عليكم بالتوبة ) لمسكم فيما ( انفعتم ) فيه عذاب عظيم ( في الدنيا والآخرة معاً. وتلقي الإفك أخذه من أفواه القالة وقوله ، والأصل تتلقونه بتاءين وقد قرئ به. كان الرجل يلقى الرجل فيقول له : ما وراءك ؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى طار وانتشر. وفي زيادة قوله ) بأفواهكم ( إشارة إلى أنه قول لا وجود له إلا في العبارة ولا حقيقة لمؤداه في الواقع. والقذف كبيرة من الكبائر كما سبق لا سيما قذف زوجة النبي وخاصة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) فلهذا قال ) وهو عند الله عظيم ( عن بعضكم أنه جزع عند الموت فقيل له فقال : أخاف ذنباً لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم. وفي النصائح الكبار لا تقولن لشيء من سيئاتك حقير فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير. وصفهم في الاية بارتكاب ثلاثة آثام : تلقي الإفك والتكلم بما لا حقيقة له ولا علم به واستهانة عظيمة من العظائم ، وفيه أن عظم المعصية لا يتعلق بظن فاعله بل جهله بعظمه ربما يصير مؤكداً لعظمه. وفيه أن الواجب على المكلف أن يستعظم الإقدام على كل محرم إذ لا يأمن أن يكون عند الله من الكبائر. ثم علمهم أدباً آخر ومعنى ) ما يكون لنا ( لا ينبغي ولا يصح لنا. ومعنى ) سبحانك ( تنزيه الله من أن تكون زوجة نبينا الذي هو أحب خلقه غليه فاجرة ، أو تنزيهه من أن يرضى بقذف هؤلاء المقربين ولا يعاقبهم ، أو هو للتعجب من عظم الأمر وذلك أنه يسبح الله عند رؤية كل أمر عجيب من صنائعه فكثر حتى استعمل في كل متعجب منه. والفرق بين هذه الآية وبين قوله ) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون ( هو أن تلك تميل إلى العموم وهذه إلى الخصوص فكأنه بين أن هذا القذف خاصة مما ليس لهم أن يتفوهوا به لما فيه من إيذاء نبيه وإيذاء زوجته التي هي حبيبته ) يعظكم الله ( بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب كراهة ) أن تعودوا ( أو في شأن أن تعودوا ) لمثله ابداً ( أي مدة حياتكم. ولا دلالة للمعتزلة في قوله ) إن كنتم مؤمنين ( على أن ترك القذف من الإيمان لاحتمال أنه للتهيج والانزجار ) ويبين الله لكم ( أي لانتفاعكم ) الآيات ( الدالات على علمه وحكمته وما ينبغي أن يتمسك المكلف به في أبواب صلاح معاشه ومعاده ) والله عليم حكيم ( هما صفتان مختلفتان عند المعتزلة ثانيتهما أخص من الأولى ، وعند الأشاعرة الثانية للتأكيد المحض. والمراد أنه يجب قبول تكاليفه وبياناته لأنه عالم بما أمر وبما يستحقه كل مأمور ، وليس في تكليفه عيب ولا عبث. ومن كان هذه صفته وجب طاعته ليثبت ولا يعاقب. استدلت المعتزلة بالآية في أنه يريد الإسيمان من الكل وإلا لم يكن واعظاً ولا مبيناً آياته لانتفاعهم ولا(5/169)
" صفحة رقم 170 "
حكيماً لا يفعل القبائح. ولا جواب للاشاعرة إلا أنه يشاء ما يشاء ولا اعتراض عليه. ثم بين بقوله ) إن الذين يحبون ( أن أهل الإفك يشاركهم في عذاب الدارين من رضي بقولهم ، وأنهم كما هم مؤاخذون بما أظهروه فهم معاقبون على ما أضمروه من محبة إشاعة الفاحشة والفحشاء في المؤمنين ، لأنها تدل على الدغل والنفاق وعدم سلامة القلب. والفاحشة والفحشاء ما أفرط قبحه ، وشيوعها انتشارها وظهورها بحيث يطلع عليها كل أحد وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم ، فهذا الوعيد شامل لكل من أراد بواحد من المؤمنين أو المؤمنات شيئاً من المضار والأذيات. وبعضهم حمل الفاحشة على الزنا وخصص ما يحب شيوع الفاحشة بعبد الله بن أبي. وخصص الذين آمنوا بعائشة وصفوان ، ولا يخفى ما فيه من ضيق العطن إلا أن يساعده نقل صحيح. وعذاب الدنيا الحد واللعن والذم وما على أهل النفاق من صنوف البلاء ، ولقد ضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عبد الله بن أبي وحساناً ومسطحاً ، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف وكف بصره. وعذاب الآخرة في القبر وي القيامة هو النار. عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني لأعرف قوماً يضربون صدورهم ضرباً يسمعه أهل النار وهم الهمازون اللمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين ويهتكون ستورهم ويشيعون عليهم من الفواحش ما ليس فيهم ) وعن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) من الخير وأما قوله ) والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ففي نهاية حسن الموقع لأن الأعمال القلبية محبة الشر أو الخير لا يطلع عليها أحد كما هي إلا الله سبحانه. وإنما نعرف نحن شيئاً من ها بالقرائن والإمارات وفيه وجر عظين لمن لا يجتهد في أن يكون قلبه سليماً من النفاق والغل ، وحصول هذا الغل في القلب غير العزم على الذنب فإن الأل ملكة والثاني حال ، ولا يلزم من ترتب العقاب على الملكات ترتبه على الأحوال فافهم. قال أبو حنيفة : المغتابة بالفجور لا تستنطق لأن استنطاقها إشاعة للفاحشة وإنها ممنوع عنها. وقالت المعتزلة : في الآية دليل على أنه تعالى غير خالق للكفر ولا مريد وإلا كان ممن يحب أن تشيع الفاحشة. لقائل أن يقول : قياس الغائب على الشاهد فاسد. ثم كرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب والتميكن من التلافي وبالغ فيها بذكر الرؤوف والرحيم. وجواب ( لولا ) محذوف على نسق ما مر. وقيل : جوابه ما يدل على ذلك في قوله ) ما زكى منكم ( وهو بعيد. عن ابن عباس أن الخطاب لحسان ومسطح وحمنة والأقرب العموم. ثم نهى عن اتباع(5/170)
" صفحة رقم 171 "
آثار الشيطان وسلوك مسالكه والاقتداء به في الإصغاء إلى الإفك وإشاعة الفحشاء وارتكاب مال تنكره العقول وتأباه. وقوله ( فإنه يأمر بالفحشاء ( من وضع السبب مقام المسبب والمراد ضل. قالت الاشاعرة : في قوله ) ما زكى ( بالتشديد والضمير لله وكذا في قوله ) ولكن الله يزكي ( دلالة على أن الزكاء وهو الطهارة من دنس الآثام لا يحصل إلا بالله ، وهو دليل على أنه خالق الأفعال والآثار. وحمله المعتزلة على منح الألطاف أو على الحكم بالطهارة ، وضعف بأنه خلاف الظاهر وبأنه يجب انتهاء الكل إليه ، وبأن قوله ) من يشاء ( ينافي قولكم إن خلق الألطاف واجب عيه. ثم علم أدباً آخر جميلاً بقوله ) ولا يأتل ( وهو افتعل من الألية أي لا يحلف على عدم الإحسان ، وحرف النفي يحذف من جواب القسم كثيراً فهي كقراءة من قرأ ) ولا يأتل ( وقيل : هو من قولهم ( ما ألوت جهداً ) إذا لم يدخر من الاجتهاد شيئاً اي لا يقصر في الإحسان إلى المستحقين. قالوا : نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة أبي بكر الصديق فقيراً من فقراء المهاجرين ، وكان أبو بكر ينفق عليه. فلما فرط منه ما فرط إلى أن لا ينفق عليه فنزلت فقرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أبي بكر ، فلما وصل إلى قوله ) ألا تحبون أن يغفر الله لكم ( قال أبو بكر : بلى أحب أن يغفر الله لي فعفا عن مسطح ورجع إلى الإنفاق عليه وقال : والله لا أنزعها أبداً. قال الإمام فخر الدين الرازي : هذه الاية تدل على أفضلية أبي بكر الصديق من وجوه ، وذلك أن الفضل المذكور في الاية لا يراد به لاسعة في المال والإلزام التكرار فهو الفضل في الدين ولكنه مطلق غير مقيد فثبت له الفضل على الإطلاق. تركنا العمل به في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالاتفاق فيبقى في الغير معمولاً به. وأيضاً ذكره الله تعالى في الآية بلفظ الجمع وإنه مشعر بالتعظيم. وأيضاً قد قيل : وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
فهذا الظلم من سمطح كان في غاية العظم وقد امره الله تعالى بالصفح عنه ، وامتثل هو فكان فيه نهاية جهاد النفس فيكون ثوابه على حسن ذلك. وأيضاً في تسميته أولي الفضل والسعة شرف تام فكأنه قيل له : أنت أفضل من أن تقابل إنساناً بسوء وأنت أوسع قلباً من أن تقيم للدنيا وزناً فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن يقطع برك عمن اساء إليك. وأيضاً أرمه الله تعالى بالعفو والصفح وقال لنبيه ) فاعف عنهم واصفح ) [ المائدة : 13 ] فهو من هذه الجهة ثاني اثنين له في الأخلاق. وأيضاً علق المغفرة بالعفو وقد حصل العفو فتحصل المغفرة ألبتة في الحال وفي الاستقبال لقوله ) أن يغفر ( فهو للاستقبال فيكون كما قال لنبيه ) ليغفر لك(5/171)
" صفحة رقم 172 "
الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) [ الفتح : 2 ] وفيه دليل على حقية خلافته وإلا كان عاصياً والعاصي في النار. وليس النهي في قوله ) ولا يأتل ( نهي زجر عن المعصية ولكنه ندب إلى الأولى والأفضل وهو العفو. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أفضل أخلاق المسلمين العفو ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من جرمه ) واعلم أن العلماء أجمعوا على أن مسطحاً كان مذنباً لأنه أتى بالقذف أو رضي به على الروايتين عن ابن عباس ، ولهذا حده رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وأجمعوا ايضاً على أنه من البدريين وقد ورد فيهم الخبر الصحيح ( لعل الله نظر إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) فكيف الجمع بين الأمرين ؟ أجابوا أنه ليس المراد من قوله ( اعملوا ما شئتم ) أنهم خارجون عن حد التكليف وإنما المراد اعملوا من النوافل ما شئتم قليلاً أو كثيراً فقد أعطيتكم الدرجات العليات في الجنة ، أو اراد حسن حالهم في العاقبة أنهم يوافون بالطاعة فكأنه قال : قد غفرت لكم لعلمي بأنكم تموتون على التوبة والإنابة. قالت الأشاعرة : في وصف مسطح ومدحه بكونه من المهاجرين دليل على أن ثواب كونه مهاجراً لم ينحبط بإقدامه على القذف فيكون القول بالمحابطة باطلاً. استدل جمهور الفقهاء بالاية في قول من فسر الائتلاء بالحلف على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة وإنما يجوز إذا جعلت دايعة للخير لا صارفة عنه. ثم قالوا : من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فينبغي له أن يأتي بالذي هو(5/172)
" صفحة رقم 173 "
خير ثم يكفر عن يمينه كما جاء في الحديث ولقوله تعالى ) ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان ) [ المائدة : 89 ] وهو عام في جانب الخير وفي غيره. ومثله ما ورد في قصة أيوب ) وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ) [ ص : 44 ] ولو كان الحنث كفارة لو يؤمر بضرب الضغث عيها. وقال بعض العلماء : إنه يأتي بالذي هو خير وذلك كفارته لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث آخر ( من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خبراً منها فليأت بالذي هو خير وذلك كفارته ) ولأنه تعالى أمر أبا بكر في هذه الآية بالحنث ولو يوجب عليه كفارة. وأجيب بأن معنى الكفارة في الحديث تكفير الذنب لا الكفارة الشرعية التي هي إحدى الخصال ، وإنما ذهبنا إلى هذا ليكون مطابقاً للحديث الآخر ( من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ) وأما هذه الآية فإنما لم يذكر فيها الكفارة لأنها معلومة من آية المائدة. قوله ) أن الذين يرمون المحصنات ( قد مر تفسير المحصنة. وأما الغافلات فهن السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر بحسب الغريزة أو لقلة التجارب ، وقد يعين علىذلك صغر السن وغير ذلك من الأحوال. قال الأصوليون : خصوص السبب لا يمنع العموم فيدخل في الآية قذفة عائشة وقذفة غيرها ، وخصصه بعض المفسرين فمنهم من قال : المراد عائشة وحدها والجمع للتعظيم. ومنهم من قال : عائشة مع سائر أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . ومنهم من قال : هي أم المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة المشاكلة لها في الإحصان والغفلة والإيمان. وذكروا في سبب التخصيص أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله ) إلاّ الذين تابوا ( وأما القذف المذكور في هذه الآية فوعيده مطلق من غير استثناء. وأجيب بأنه طوى ذكر التوبة في هذه الآية لكونها معلومة. وقد يحتج للمخصص بما روي عن ابن عباس أن كان بالبصرة يوم عرفة فسئل عن تفسير هذه الآية فقال : من أذنب ذنباً ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة. ومنهم من قال : نزلت الآية في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عهد ، وكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا : إنما خرجت لتفجر. أما شهادة الجوارح فلا إشكار فيها عند الأشاعرة لأنهم يقولون : البنية ليست شرطاً في الحياة فيجوز أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علماً وقدرة وكلاماً. وقالت المعتزلة : المتكلم هو فاعل الكلام فيكون الكلام المضاف إلى الجوارح هو في الحقيقة من الله تعالى. ويجوز أن يبني الله ذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ويلجئها إلى أن تشهد على الإنسان وتخبر عن أعماله. ومعنى ) دينهم الحق ( الجزاء المستحق. وقال في الشكاف : معنى قوله ) هو الحق المبين ( العادل الظاهر العدل. وقال غيره : سمي حقاً لأنه حق عبادته أو لأنه الموجودة بالحقيقة وما سواه فوجوده مستعار زائل. والمبين ذو البيان الصحيح أو الكظهر للموجودات. فالحصال أنه واجب الوجود لذاته مفيد الوجود لغيره. ثم ختم الىيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة وهي قوله ) الخبيثات ( يعني الكلمنات التي تخبث مواردها ويستقذرها من يخاطب بها ويمجها سمعه ككلمات أهل الإفك ، ويجوز أن يراد بالخبيثات مضمون الآيات الواردة في وعيد القذفة لأن مضمونها ذم ولعن وهو يستكره طبعاً وإن كان نفس الكلمة التي هي من قبل الله سبحانه طيباً. وعلى الوجهين يراد بالخبيثين الرجال والنساء جميعاً إلا أنه غلب الرجال. والحاصل أن الخبيثات من القول تقال أو تعد للخبيثين من الرجال والنساء ، والخبيثون من الصنفين للخبيثات من القول وكذلك الطيبات(5/173)
" صفحة رقم 174 "
والطيبون ) أولئك ( الطيبون ) مبرؤون مما ( يقول الخبيثون من خبيثات الكلم. قال جار الله : هو كلام جارٍ مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب ، وجوز بقرينة الحال أن يكون ) أولئك ( إشارة إلى أهل البيت عليهم السلام وأنهم مبرؤون مما يقول أهل الإفك. وفي الآية قول آخر وهو أن يراد بالخبيثات النساء الخبائث ، وبالخبيثين الرجال الذين هم أشكال لهن فيكون أول الآية نظير قوله ) الزاني لا ينكح إلا زانية ( وكذلك الكلام في أهل الطيب ولا أطيب من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيكون أزواجه مثله فلذلك أخبر عن حالهن بقوله ) لهم مغفرة ورزق كريم ( وقد مر تفسير الرزق الكريم في ( الحج ) نظيره قوله في الأحزاب ) واعتدنا لها رزقاً كريماً ) [ الآية : 31 ] وفي الآية دلالة على أن عائشة من أهله الجنة. وقال بعض الشيعة : هذا الوعد مشروط باجتناب الكبائر وقد فعلت عائشة من البغي يوم الجمل ما فعلت ، والصحيح عند العلماء إنها رجعت عن ذلك الاجتهاد وتابت. عن عائسة : لقد أعطيت تسعاً من أعطيتهن امرأة : لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر النبي أن يتزوجني ، ولقد تزوجني بكراً وما تزوج بكراً غيري ، ولقد توفي وإن رأسه لفي حجري ، ولقد قبر في بيتي ، ولقد حفته الملائكة في بيتي ، وإن الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه ، وإني لابنة خليفته وصدّيقه ، ولقد نزل عذري من السماء ، ولقد خلقت طيبة عند طيب ، ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً. وعن بعضهم : برأ الله أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد ) وشهد شاهد من أهله ) [ يوسف : 26 ] وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه ، وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها إلى عبد الله ، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المتلو على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات ، فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة سيد الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين. التأويل : إذا حصل لأهل الله مسألة إلى غيره قيض الله له ما يرده إليه ، وأن النبي عليه السلام لما قيل له : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة فساكنها وقال : يا عائشة حبك في قلبي كالعقدة. وقالت عائشة : إني أحبك وأحب قربك فالله تعالى حل عقدة الحب عن قلبه لحديث الإفك ورد قلب عائشة إلى حضرته حتى قالت حين ظهرت براءة ساحتها ( بحمد الله لا بحمدك ). وقيل : الملامة مفتاح باب حبس الوجود بها يذوب الوجود ذوبان الثلج بالشمس ) يوم تشهد عليهم ( شهادة الأعضاء في القيامة مؤجلة وبالحقيقة هي في الدنيا معجلة كقوله ) تعرفهم بسيماهم ) [ البقرة : 273 ] من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وقال الشاعر : عيناك قد حكتا مبيتك
كيف كنت وكيف كانا
ولرب عين قد أرتك
مبيت صاحبها عيانا(5/174)
" صفحة رقم 175 "
وإذا كانت الإمارة في الدنيا ظاهرة فهي في القيامة أولى فاللسان يشهد بالإقرار بقراءة القرآن ، واليد تشهد بأخذ المصحف ، والرجل تشهد بالمشي إلى المسجد ، والعين تشهد بالبكاء ، والأذن تشهد باستماع كلام الله. وعند الحكماء تظهر أنوار الملكات الحميدة على النفس من البدن وبالعكس كما تتعاكس أنوار المرايا المتقابلة ، ويعلمون أهل الوصول والوصال أن الله هو الحق المبين لا شيء في الوجود غيره لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وحينئذ يحق أن يقال : ( الخبيثات ( وهن الملوثات بلوث الوجود المجازي ) للخبيثين ( وهم أمثالهن ) والطيبات ( من لوث الحدوث ) للطيبين ( وهم أشكالهن ولا طيب إلا الله وحده. ( النور : ( 27 - 34 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين "
( القراآت )
وليضربن ( بكسر اللام على الأصل : عياش ) جيوبهن ( بضم الجيم : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب وخلف وهشام وعاصم غير الأعشى والبزي(5/175)
" صفحة رقم 176 "
والعواس من طريق الهاشمي. وفي رواية خلف عن حمزة بإشمام الجيم الضم ثم يشير إلى الكسر وبضم الياء. الآخرون : بالسكر الخالص. ) غير ( بالنصب على الاستثناء أو الحال : ابن عامر ويزيد وأبو بكر وحماد. الباقون : بالكسر على الوصف ) آية المؤمنون ( بضم الهاء في الحالين : ابن عامر. وقرأ أبو عمرو وعلي وابن كثير بألف في الوقف. الباقون بفتح الهاء بغير ألف في الوقف وبالف في الوصل. الوقوف : ( أهلها ( ط ) تذكرون ( 5 ) يؤذن لكم ( ج للشرط مع العطف ) أزكى لكم ( ط عليمر 5 ) متاع لكم ( ط ) تكتمون ( 5 ) فروجهم ( ط ) لهم ( ط ) ما يصنعون ( 5 ) جيوبهن ( صل ) عورات النساء ( ص ) زينتهن ( ط ) تفلحون ( 5 ) وإمائكم ( ط ) فضله ( ط ) عليهم ( 5 ) فضله ( ط ) خيراً ( ق قد قيل : والوصل أوجه للعطف. ) آتاكم ( ط للعدول إلى حكم آخر الدنيا ط ) رحيم ( 5 ) للمتقين ( 5. التفسير : الحكم الرابع الاستئذان : لما كانت الخلوة طريقاً إلى التهمة ولذلك وجد أهل الإفك سبيلاً إلى إفكهم شرع أن لا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان. وفي الآية أسئلة : الأول استئناس هو الأنس الحاصل بعد المجانسة قال الله تعالى ) ولا مستأنسين لحديث ) [ الأحزاب : 53 ] ولا يكون ذلك في الأغلب إلا بعد الدخول والسلام ، فلم عكس هذا الترتيب في الآية ؟ جوابه بعد تسليم أن الواو للترتيب ، هو أن الاستئناس طلب الأنس وأ ، ه مقدم على السلام. وقال جار الله : هو من باب الكفاية والإرداف لأن الأنس الذي هو خلاف الوحشة يردف الإذن فوضع موضع الإذن كأنه قيل : حتى يؤذن لكم. أو هو استفعال من آنس إذا أبصر ، فالمراد حتى تستكشفوا الحال ويبين هل يراد دخولكم أم لا. أو هو من الإنس بالكسر وهو أن يتعرف هل ثمَّ إنسان لأنه لا معنى للسلام ما لم يعلم أفي البيت إنسان أم لا. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير : إنما هو ( حتى تستأذنوا ) فأخطأ الكاتب ولا يخفى ضعف هذه الرواية لأنها توجب الطعن في المتواتر وتفتح باب القدح في القرآن كله نعوذ بالله منه. الثاني : ما الحكمة في شرع الاستئذان ؟ الجواب : كيلا يطلع الداخل على عورات ، ولا تسبق عينه غلى ما لا يحل النظر إليه ، ولئلا يوقف على الأحوال التي تخفيها الناس في العادة ، ولأنه تصرف في ملك الغير فلا بد أن يكون برضاه وإلا اشبه الغصب والتغلب ولذلك قال سبحانه ) ذلكم ( يعني الاستئذان والتسليم خير لكم من تحية الجاهلية والدمور اي الدخول من غير إذن. قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سبقت عينه استئذانه فقد دمر ) واشتقاقه من الدمار وهو الهلاك كأن صاحبه دامر لعظم ما ارتكب ) لعلكم تذكرون ( اي أنل عليكم. أو قيل لكم : هذا إرادة أن تتعظوا أو تعملوزا به. الثالث : كيف يكون الاستئذان ؟ جوابه : استأذن رجل على رسول الله فقال : الج. فقال : لامرأة يقال لها روضة : ( قومي إلى هذا فعلميه فإنه(5/176)
" صفحة رقم 177 "
لا يحسن أن يستأذن قولي له يقول ) السلام عليكم أدخل ( فسمع الرجل فقالها فقال : ادخل. ويؤيده قراءة عبد الله ) حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا ( وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته : حييتم صباحاً وحييتم مساء ثم يدخل ، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد فمنع الله تعالى عن ذلك وعلم الأدب الأحسن. وعن مجاهد حتى تستأنسوا هو التنحنح ونحوه. وقال عكرمة : هو التسبيح والتكبير وقرع البا بعنف والتصبيح بصاحب الدار منهي عنه وكذا كل ما يؤدي غلى الكراهية وينبئ عن الثقل. الرابع : كم عدد الاستئذان ؟ الجواب روى أبو هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) الاستئذان ثلاث بالأولى يستنصتون والثانية يستصلحون والثالثة يأذنون أو يردون ( ومثله عن أبي موسى الأشعري وقصته مع عمر مشهورة في ذلك. وعن قتادة الاستئذان ثلاثة : الأول يسمع الحي : الثاني ليتهيأ. والثالث إن شاؤوا أذنوا وإن شاؤا ردوا. وينبغي أني كون بين المرات فاصلة وإلا كان الكل في حكم واحد. الخامس : كيف يقف على الباب ؟ جوابه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكنه يقف من ركنه الأيمن أو الأيسر ، فإن كان للباب ستر كانت الكراهية أخف. السادس : قوله ) حتى تستأنسوا وتسلموا ( يدل على أنه يجوز الدخول بعد الاستئذان والتسليم وإن لم يكن ثمة إذن أو من يأذنن لأن ) حتى ( للغاية والحكم بعد الغاية يكون خلاف ما قبلها جوابه. سلمنا المخالفة لكن لا نسلم المناقضة ، وذلك أن قبل الاستئذان لا يجوز الدخول مطلقاً وبعده فيه تفصيل ، وهو أنه إن لم يجد فيها أحداً من الآذنين مطلقاً أو من يعتبر إذنه شرعاً فليس له الدخول وذلك قوله فإن لم تجدوا فيها أحداًر اي على الإطلاق أو ممن له الإذن ) فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم ( اي حتى تجدوا من يأذن لكم أو من يعتبر إذنه ، وإن وجد فيها من له الإذن فإن أذن دخل وإن لم يأذن وقال ارجع رجع وهو قوله ) وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى ( أي الرجوع أطيب ) لكم وأطهر ( لما فيه من سلامة الصدر والبعد من الريبة. وفي قوله ) والله بما تعملون عليم ( نوع زجر للمكلف فعليه أنيحتاط كيف يدخل ولأي غرض يدخل وكيف يخرج. وهل يقوم غير الإذن مقام الإذن ؟ عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) رسول الرجل إلى الرجل إذنه ( وفي رواية أخرى ) إذا دعى أحدكم فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن ( وقيل : إنم من قد جرت العادة له بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان. والجمهور على أن إذن الصبي والعبد والمرأة معتبر وكذلك الهدايا لأجل الضرورة. وهل يعتبر الاستئذان على المحارم ؟ روي أن رجلاً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : استأذن على أمي ؟ قال : ( نعم. ( قال : إنها ليس لها خادم غيري أستأذن عليها كلما دخلت(5/177)
" صفحة رقم 178 "
عليها. قال : ( أتحب أن تراها عريانة ؟ ( قال الرجل : لا. قال : ( فأستأذن. ( قال العلماء : إن كان المنع من الهجوم على الغير لأجل أنه لا يراه منكشف الأعضاء فتستثنى منه الزوجة وملك اليمين ، وإن كان لأجل أنه لا يراه مشغولاً بما يكره الاطلاع عليه فالمنع عام إلا إذا عرض ما يبيح هتك الستر كحريق أو هجوم سارق أو ظهور منكر يجب إنكاره. التاسع : ما حكم من اطلع على دار غيره بغير إذنه ؟ الجواب : قال الشافعي : لو فقأ عينه فهي هدر وتمسك بما روى سهل بن سعد أنه اطلع رجل في حجرة من حجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومع النبي مدرى يحك بها رأسه فقال : لو علمت أنك تنظر إلي لطعنت بها ي عينك ، إنما الاستئذان من النظر. وعن أبي هريرة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤا عينه فقد هدرت عينه ( قال أبو بكر الرازي : هذا الخبر مردود لوروده على خلاف الأصول ، فلا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه ضامناً وعليه القصاص إن كان عامداً ، ومعلوم أن الداخل قد اطلع وزاد على الاطلاع. فمعنى الحديث لو صح أنه من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم ونسائهم ثم منع فلم يمتنع فذهبت عينه في حال الممانعة فهي هدر ، وأجيب بالفرق فإنه إذا علم القوم دخوله عليهم احترزوا عنه وتستروا فأما إذا نظر على حين غفلة منهم اطلع على ما لا يراد الاطلاع عليه فلا يبعد في حكمة الشرع أن يبالغ ههنا في الزجر حسماً لمادة هذه المفسدة. جميع هذه الأحكام فيما إذا كانت الدار مسكونة فإن لم تكن مسكونة فذلك قوله ) ليس عليكم جناح ( الآية. وللمفسرين فيه أقوال : الأول : قول محمد بن الحنفية أنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرجال والسلع والبيع والشراء. يروى أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن فنزلت. وقيل : هي الخربات يتبرز فيها الوتاع التبرز. وقيل : الأسواق. والأولى العموم. وإنما لم يحتج إلى الإذن دفعاً للحرج ، ولأنها ماذون في دخولها من جهة العرف. ثم ختم الآية بوعيد مثل ما تقدم الحكم الخامس ، غض البصر وحفظ الفرج عما لا يحل. وتخصيص المؤمنين بهذا التكليف عند من لا يجعل الكفار مكلفين بفروع الإسلام ظاهر ، وأما عند من يجعلهم مكلفين بالفروع أيضاً فالتخصيص للتشريف ، أو نزل فقدان مقدمة التكليف منزلة فقدان التكليف وإن كان حالهم في الحقيقة كحال المؤمنين في استحقاق العقاب على تركها. قال أكثر النحويين :(5/178)
" صفحة رقم 179 "
) من ( للتبعيض والمراد غض شيء من البصر لأن غض كله كالمعتذر بخلاف حفظ الفرج فإنه ممكن على الإطلاق. وجوز الأخفش أن تكون ) من ( مزيدة. وقيل : صلة للغض أي ينقصوا من نظرهم. يقال : غضضت من فلان إذا انقضت من قدره. فالنظر إذا لم يكن من عمله فهو معفو موضوع عنه. وإعراب قوله ) يغضوا ( كما مر في سورة إبراهيم في قوله ) قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا ) [ الآية : 31 ] قال الفقهاء : العورات على أربعة أقسام : عورة الرجل مع الرجل ، وعورة المرأة مع المرأة ، وعورة المرأة مع الرجل ، وبالعكس. أما الرجل مع الرجل فيجوز أن ينظر غلى جميع بدنه إلا إلى عورته ، وعورته ما بين السرة والركبة ، والسرة والركبة ليستا بعورة. وعند أبي حنيفة : الركبة عورة. قال مالك : الفخذ ليست بعورة وهو خلاف ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعلي : ( لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي وميت. ( فإن كان في نظره إلى وجه الرجل أو سائر بدنه شهوة أو خوف فتنة بأن كان أمرد لا يحل النظر إليه. ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان واحد منهما في جانب الفراش لرواية أبي سعيد الخدري أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد ( ويكره المعانقة وتقبيل الوجه. إلا لولده شفقة. وتستحب المصافحة والمرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل فلها النظر غلى جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة ، ولا يجوز عند خوف الفتنة ، ولا تجوز المضاجعة أيضاً لما مر في الحديث. والصح أن الذمية لا يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة لأنها أجنبية في الدين والله تعالى يقول ) أو نسائهن ( أما عورة المرأة مع الرجل فإن كانت أجنبية حرة فجيمع بدنها عورة لا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والإعطاء. ويعني بالكف ظهرها وبطنها إلى الكوعين. وقيل : ظهر الكف عورة. وفي هذا المقام تفصيل : قال العلماء : لا يجوز أ ، يعمد النظر إلى وجه الأجنبية بغير غرض فإن وقع بصره عليها بغتة غض بصره لقوله تعالى ) قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ( ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة ( فإن كان هناك غرض ولا شهوة ولا فتنة فذاك والغرض أمور منها : أن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفها. روى أبو هريرة أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً. ( ومنها إذا أراد شراء جارية فله(5/179)
" صفحة رقم 180 "
أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها. ومنها أنه عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملاً حتى يعرفها عند الحاجة. ومنها أنه ينظر إليها عند تحمل الشهادة ولا ينظر إلى الوجه لأن المعرفة تحصل به. ومنها يجوز للطبيب الأمين أن ينظر إلى بدن الأجنبية للمعالجة كما يجوز للخاتن أن ينظر إلى فرج المختون لأنه محل ضرورة. وكما يجوز أن ينظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة ، وإلى فرجها لتحمل شهادة الولادة إذا لم تكن نسوة ، وإلى ثدي المرضعة لتحمل الشهادة على الرضاع. فإن كان هناك شهوة وفتنة فالنظر محظور قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) العينان تزنيان ( وقيل : مكتوب في التوراة : النظر يزرع الشهوة في القلب ورب شهوة أورثت حزناً طويلاً. ويستثنى منه ما لو وقعت في حرق أو غرق فله أن ينظر إلى بدنها ليخلصها. وإن كانت الأجنبية أمة فالأصح أن عورتها ما بين السرة والركبة لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال في الرجل يشتري الأمى ) لا باس أن ينظر إليها إلا إلى العورة وعورتها ما بين معقد إزارها إلى ركبتها ( وقيل : إلا ما تبدي المهنة فيخرج منه أن رأسها وعنقها وساعديها وساقيها ونحرها وصدرها ليس بعورة ، وفي ظهرها وبطنها وما فوق ساعديها الخلاف. وحكم المكاتبة والمدبرة والمستولدة ومن بعضها رقيق حكم الأمة ولا يجوز لمسها ولا لها مسه لأن اللمس أقوى من النظر بدليل أن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطر. وقال أبو حنيفة : يجوز أن يمس من الأمة ما يحل النظر إليه ، وأما إن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع أو صهرية فعورتها ما بين السرة والركبة كعورة الرجل. وعند أبي حنيفة : عورتها مالا يبدو عند المهنة ، فإن كانت مستمتعاً له كالزوجة والأمة التي يحل له الاستمتاع بها جاوز له أن ينظر إلى جميع بدنها غير أنه يكره أن ينظر إلى الفرج ، وكذا إلى فرج نفسه لما روي أن يورث الطمس. وقيل : لا يجوز النظر إلى فرجها ، فإن كانت الأمة مجوسية أو مرتدة أو وثنية أو مشتركة بينه وبين غيره أو مزوجة أو مكاتبة فهي كالأجنبية. روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجبره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة ( وأما عورة الرجل مع المرأة فإن كان أجنبياً منها فعورته معها ما بين السرة والركبة. وقيل : جميع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه. والأصح هو الأول لأن بدن المرأة في نفسه عورة بدليل أنه لا يصح صلاتها مكشوفة البدن ، وبدن الرجل بخلافه. ولا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ولا تكرير النظر إلى وجهه لما روي عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وميمونه إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل(5/180)
" صفحة رقم 181 "
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( احتجبا منه. ( فقالت : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ؟ فقال : ( أعمياوان أنتما ألستما تبصرانه ؟ ( وإن كان محرماً لها فعورته معها ما بين السرة والركبة ، وإن كان زوجها أو سيدها الذي يحل له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها. ولا يجوز للرجل أن يجلس عارياً في بيت خال وله ما يستر عورته لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن ذلك فقال : ( الله أحق أن يستحي منه. ( وعنه ) إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله ( ولما كان النظر بريد الزنا ورائد الفجور أمر بغض الأبصار أولاً ثم بحفظ الفروج عن الزنا والفجور ثانياً. وعن أبي العالية أن كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلاّ هذا فإنه أراد الاستثناء وأن لا ينظر غلى الفروج أحد ، وعلى هذا ففائدة التخصيص بعد التعميم أني علم أن أمر الفرج أضيق. وحين خص الخطاب في أول الآية بالمؤمنين ذكر أن ذلك الذي أمر به من غض البصر وحفظ الفرج أزكى لهم لأنهم يتطهرون بذلك من دنس الاثام ، ويستحقون الثناء والمدح ، وهذا لا يليق بالكافر. وفي قوله ) إن الله خبير بما يصنعون ( ولا ثاني له في القرآن إشارة إلى وجوب الحذر في كل حركة وسكون. وتفسير قوله ) وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن ( يعلم من التفصيل المتقدم. أما قوله ) ولا يبدين زينتهن ( فمن الأحكام التي تختص بالنساء في الأغلب. وقد يحرم على الرجل إبداء زينته للنساء الأجنبيات إذا كان هناك فتنة. قال أكثر المفسرين : الزينة ههنا أريد بها أمور ثلاثة : أحدها الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها والحمرة في خديها والحناء في كفيها وقدميها. وثانيها الحلي كالخاتم والسوار والخلخال والدملج والقلائد والإكليل والوشاح والقرط. وثالثها الثياب. وقال : آخرون : الزينة اسم يقع على محاسن الخلق التي خلقها الله تعالى وعلى ما يتزين به الإنسان من فضل لباس أو حلي وغير ذلك. يدل على ذلك أن كثيراً من النساء يتفردن بخلقهن عن سائر ما يعدّ زينة. وفي قوله ) وليضربن بخمرهن على جيوبهن ( غشارة إلى ذلك وكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقهن فأوجب سترها بالخمار. قال القفال : بناء على هذا القول معنى قوله ) إلا ما ظهر منها ( إلا ما يظهره الإنسان على العادة الجارية وذلك في النساء الحرائر الوجه والكفان ، وفي الإماء كل ما يبدو عند المهنة. وي صوتها خلاف ، الأصح أنه ليس بعورة لأن نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يروين الأخبار للرجال. وأما الذين(5/181)
" صفحة رقم 182 "
حملوا الزينة على ما عدا الخلقة فذهبوا إلى أنه تعالى إنما حرم النظر إليها حال اتصالها ببدن المرأة لأجل المبالغة في حرمة النظر غلى أعضاء المرأة إلا ما ظهر من هذه الزينة كالثياب مطللقاً إذا لم تصف البدن لرقتها ، وكالحمرة والوسمة في الوجه ، وكالخضاب والخواتيم في اليدين ، وما سوى ذلك يحرم النظر إليه. ولهذا قال ) وليضربن بخمرهن على جيوبهن ( والخمر جمع الخمار وهي كالمقنعة. قال المفسرون : إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن وكانت جيوبهن من قدام وساعة فكان ينكشف نحورهن وقلائدهن ، فأمر أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتستتر بذلك أعناقهن ونحورهن وما حواليها من شعر وزينة. وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء شبيه الإلصاق. وعن عائشة : ما رأيت نساء خيراً من نساء الأنصار ، لما نزلت هذه الاية قامت كل واحدة منهن إلى مرطها فصدعت منه صدعة فاختمرن فأصبحن كأن على رؤوسهن الغربان. ثم بين أن الزينة الخفية يحل إبداؤها لاثنتي عشرة فرقة : الأولى بعولتهن أي أزواجهن والتاء لتأكيد الجمع كصقورة. الثانية : آباؤهن وإن علوا من جهة الأب والأم. الثالثة : ىباء بعولتهن وإن علوا. الرابعة : أبناؤهن وإن سفلوا الخامسة : أبناء بعولتهن وإن سفلوا ايضاً. السادسة : إخوانهن سواء كانوا من الأب أو من الأم أو منهما. السابعة : بنو إخوانهن. الثامنة : بنو أخواتهن وحكم أولاد الأولاد حكم اولاد فيهما. وهؤلاء كلهم محارم وترك من المحارم العم والخال ، فعن الحسن البصري أنهما كسائر المحارم في جواز النظر. وقد يذكر البعض لينبه على الجملة ولهذا لم يذكر المحارم من الرضاع في هذه الآية ، وكذا في سورة الأحزاب قال ) لا جناح عليهن في آبائهن ) [ الآية : 55 ] إلى آخر الآية. ولم يذكر البعولة ولا أبناءهم. وقال الشعبي : إنما لم يذكرهما الله تعالى لئلا يصفها العم عند ابنه والخال عند ابنه ، وذلك أن العم والخال يفارقان سائر المحارم في أوان أبناءهما ليسوا من المحارم ، فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم ومعرفة الوصف قريب من النظر ، وهذا أيضاً من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط في التستر. وإنما أبيح إبداء الزينة الخفية لهؤلاء المذكورين لاحتياجهن إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولا سيما في السفار للنزول والركوب. وأيضاً لقلة وقوع الفتنة من جهاتهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب الأقارب. التاسعة : قوله ) أو نسائهن ( فذهب أكثر السلف غلى أن المراد أهل أديانهن ومن هنا قال ابن عباس : ليس للمسلمة أن تتجرد بين سناء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها. وكتب عمر غلى أبي عبيدة أن يمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات. وقال آخرون : والعمل عليه إن المراد جميع النساء وقول(5/182)
" صفحة رقم 183 "
السلف محمول على الأولى والأحب. العاشرة : قوله ) أو ما ملكت ايمانهن ( وظاهر الآية يشمل العبيد والإماء ويؤيده ما روى أنس أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما تلقى قال : ( إنه ليس عليك بأس إنما هو ابوك وغلامك ، ( وعن عائشة أنها قالت لذكوان : إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت وابن سيرين وسعيد بن المسيب : إن العبد ينظر إليها. وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب : إن العبد لا ينظر غلى شعر مولاته وهو قول أبي حنيفة إذ ليس ملكها للعبد كملكه للأمة فلا خلاف أنها لا تستبيح بملك العبد شيئً من التمتع منه كما يملك الرجل من الأمة. وتحريم تزوج العبد لمولاته عارض غير مؤبد كمن عنده أربع نسوة لا يجوز له التزوج بغيرهن ، فلما لم تكن هذه الحرمة مؤبدة كان العبد بمنزلة سائر الأجانب خصياً كان العبد أو فحلاً. وأورد على هذا القول لزوم التكرار ضرورة أن الإماء من حملة نسائهن. وأجيب بأنه أراد بالنساء الحرائر كما أراد بالرجال الأحرار في قوله ) شهيدين من رجالكم ) [ البقرة : 282 ] الحادية عشرة قوله ) أو التابعين غير أولي الإربة ( وهي الحاجة وهم البله. وأهل العنة الذين لا يعرفون شيئاً من أمور النساء إنما يتبعون الناس ليصيبوا من فضل طعامهم أو شيوخ صلحاء لا حاجة بهم إلى انساء لعفة أو عنانة. عن زينب بنت أم سملة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل عليها وعندها مخنث فأقبل على أخي أم سلمة وقال : يا عبد الله إن فتح الله لكم الطائف أدلك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان عنى عكن بطنها. فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا يدخلن عليكم هذا. ( فأباح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخول المخنث عليهن حين ظن أنه من غير أولي الإربة ، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء واوصافهن علم أنه من أولي الإربة فحجبه. الثانية عشر قوله ) أو الطف ( وهو جنس يقع على لاواحد والجمع وهو المراد ههنا. قال ابن قتيبة معنى ) لم يظهروا ( لم يطلعوا ) على عورات النساء ( والعورة سوأة الإنسان وكل مايستحيا منه. وقال الفراء والزجاج : هو من قولهم ) ظهر على كذا ( إذا قوي عليه أي لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء. فعلى الأول يجب الاحتجاب ممن ظهر فيه دايعة الحكاية ، وعلى الثاني إنما يجب الاحتجاب من المراهق الذي ظهرت فيه مبادي الشهوة ، قال الحسن : هؤلاء الفرق وإن اشتركوا في جواز رؤية الزينة الظاهرة فهم على أقسام ثلاثة : فألوهم الزوج وله حرمة ليست لغيره يحل له كل شيء منها ، والثاني الب والابن والأخ والجد وأبو الزوج وكل محرم من الرضاع أو النسب كل يحل لهم أن ينظروا إلى الشعر والصدر والساقين والذراع وأشباه ذلك. والثالث التابعون غير أولي الإربة ، وكذا المملوك لا(5/183)
" صفحة رقم 184 "
بأس أن تقوم المرأة الشابة بين يدي هؤلاء في درع وخمار صفيق بغير ملحفة ، ولا يحل لهؤلاء أن يروا منها شعراً ولا بشراً ولا يصح للشابة أن تقوم بين يدي الغريب حتى تلبس الجلباب. فهذا ضبط هذه المراتب ثم علمهن أدباً آخر جميلاً بقوله ) ولا يضربن بأرجلهن ( قال ابن عباس : كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال. وقيل : كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين. وفي النهي عن إظهار صوت الحلي بعد نهيهن عن إظهار الحلي مبالغة فوق مبالغة ليعلم أن كل ما يجر غلىالفتنة يجب الاحتراز عنه ، فإن الرجل الذي تغلب عليه الشهوة إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعياً له إلى مشاهدتهن ، ومنه يعلم وجوب إخفاء صوتهن إذا لم يؤمن الفتنة ولهذا كرهوا أذان النساء ، ثم ختم الآية بالأمر بالدوام على التوبة والاستغفار لأن الإنسان خلق ضعيفاً لا يكاد يقدر على رعاية الأوامر والنواهي كما يجب. قال العلماء : إن من أذنب ذنباً ثم تاب عنه لزمه كلما ذكر أن يجدد عنه التوبة لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه عز وجل. وعن ابن عباس : اراد توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة. قال جار الله : من قرأ ) آية المؤمنون ( بضم الهاء فوجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف ، فلما سقطت اللف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها. الحكم السادس : النكاح وذلك أنه حين أمر بغض الأبصار وحفظ الفروج ارشد بعد ذلك إلى طريق الحل فيما تدعو إليه الشهوة. وأصل الأيامى أيايم فقلب الواحد أيم بتشديد الياء ، ويشمل الرجل والمرأة. قال النضر بن شميل : الأيم في كلام العرب كل ذكر لا أنثى معه وكل أنثى لا ذكر معها وهو قول ابن عباس في رواية الضحاك يقول : زوِّجوا اياماكم بعضهم من بعض. وقد آم وآمت وتأيما إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين. قال : فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت افتى منكم أتأيم. وظاهر الأمر الوجوب غلا أن الجمهور حملوه على الندب لأنه لو كان واجباً لشاع في عصر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وانتشر ، ولو انتشر لنقل لعموم الحاجة إليه. وقد ورد في الأخبار التصريح بكونه سنة كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) النكاح سنتي ( وكقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من أحب فطرتي فليستسن بسنتي وهي النكاح ( وقد أجمعوا على أن الأيم الثيب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه. واتفقوا على أن السيد لا يجبر على تزويج عبده أو أمته. نعم قد يجب في بعض الصور كما إذا التمست التزويج من الولي فعليه الإجابة إذا كان الخاطب كفؤاً. استدل الشافعي بعموم الآية على جواز تزويج البكر البالغة(5/184)
" صفحة رقم 185 "
بدون رضاها وإعترض أبو بكر الرازي بأن الأيامى شامل للرجال والنساء وحين لزم في الرجال تزويجهم بإذنهم فكذا في النساء ويؤيده ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها ( وأجيب بأن تخصيص النص لا يقدح في كونه حجة في الباقي. والفرق أن الأيم من الرجال يتولى أمر نفسه فلا يجب على الولي تعهده بخلاف المرأة فإن احتياجها إلى من يصلح أمرها أظهر ، على أنا لا نسلم أن لفظ الأيامى عند الإطلاق يتناول الرجال ، وفي تخصيص الآية بخبر الواحد أيضاً نزاع. واستدل أبو حنيفة بعموم الآية أيضاً على أن العم والأخ يليان تزويج الثيب الصغيرة ونوقش فيه. قال الشافعي : من تاقت نفسه إلى النكاح استحب له أن ينكح إذا وجد أهبة النكاح وإلا فليكسر شهوته بالصوم لما روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فإن الصوم له وجاء ( والذي جاء لا تتوق نفسه إلى النكاح لكبر أو مرض أو عجز أو كان غير قادر على النفقة يكره له أن ينكح لأنه يلتزم مالا يمكنه القيام بحقه ، وإن لم يكن به عجز وكان قادراً على القيام بحقه لم يكره له أن ينكح لكن الأفضل أن يتخلى لعبادة الله تعالى. وقال أبو حنيفة : النكاح افضل. حجة الشافعي أنه تعالى مدح يحيى بقوله ) وسيداً وحصوراً ) [ آل عمران : 39 ] والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهن. وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أفضل أعمالكم الصلاة ( وقال ) أفضل أعمال أمتي قراءة القرآن ( وقال ) احب المباحات إلى الله تعالى النكاح ( والمباح ما استوى طرفاه ، والمندوب ما ترجح فعله ولو كان النكاح عبادة لم يصح من الكافر. والنكاح فيه شهوة النفس والعبادة فيها مشقة النفس والإقبال على الله تعالى فأين أحدهما من الآخر ولو كان النكاح مساوياً للنوافل في الثواب لم تكن النوافل مشروعة لأن الطريق المؤدي إلى المطلوب مع بقاء اللذة وعدم التعب أولى بالسلوك ، وإن كان الاشتغال بالنكاح أولى من النافلة لأنه سبب لبقاء الأشخاص ونظام العالم. فالاشتغال بالزراعة أيضاً أولى من النافلة للعلة المذكورة. وقد وقع(5/185)
" صفحة رقم 186 "
الإجماع على أن واجب العبادة مقدم على واجب النكاح ، فكذا مندوبها على مندوبه لاتحاد السبب. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال ( وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ) يأتي على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة ( حجة أبي حنيفة أن النكاح يتضمن صوت النفس من ضرر الزنا ودفع الضرر أهم من جلب النفع. وأيضاً النكاح يتضمن العدل. وقد ورد في الحديث ) لعدل ساعة خير من عبادة ستين سنة ( وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) النكاح سنتي ( وقال في الصلاة ) إنها خير موضوع فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل ( ثم إن الأيامى جمع مستغرق لكنهم أجمعوا على أنه لا بد من شروط ذكرنا بعضها في سورة النساء في قوله ) وأحل لكم ما وراء ذلكم ) [ النساء : 24 ] ومعنى ) منكم ( أي من حرائركم قاله كثير من المفسرين لأن حكم العبيد والإماء يعقب ذلك. ومنهم من قال : أراد من يكون تحت ولاية المأمور من الولد والقريب. ومنهم من قال : الإضافة لا تفيد الحرية والإسلام. ثم امر السادة أن يزوجوا أرقاءهم الصالحين. واتفقوا على أنه للإباحة والترغيب لأن في تزويج العبد التزام مؤنة زوجته وتعطل خدمته واستفادة المهر وسقوط النفقة في تزويج الأمة ليس قبوله بلازم على السيد أيضاً ، وتخصيص الصالحين بالذكر عناية من الله بحالهم ليتحصن دينهم ويتحفظ عليهم صلاحهم. وأيضاً الصالحون من الأرقاء هم الذين يشفق عليهم مواليهم ويهتمون بشأنهم حتى ينزلوهم منزلة الأولاد. ويجوز أن يراد بالصلاح القيام بحقوق النكاح ، ومن جملة ذلك أن لا يكون في غاية الصغر بحيث لا يحتاج إلى النكاح. وإذن السيد لهم أن يزوجوا أنفسهم ينوب عن تزويج السيد. أما قوله ) إن يكونوا فقراء ( فالأصح أن هذا ليس وعداً من الله تعالى بإغناء من يتزوج حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف ، فرب غني يفقره النكاح ولكن المعنى لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم ففي فضل الله ما يغنيهم والمال غاد ورائح. على أن مثل هذا الوعد قد جاء مشروطاً بالمشيئة في قوله ) وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) [ التوبة : 28 ] فالمطلق محمول على المقيد. وقيل : أراد بالغنى نفس العفاف بتملك البضع الذي يغنيه عن الوقوع في الزنا. وعن طائفة من الصحابة أن هذا وعد. وعن أبي بكر قال : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى. وعن ابن عباس : التمسوا الرزق بالنكاح. وشكا رجل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الحاجة فقال : ( عليك بالباءة. ( وقد يستدل بالآية على أن العبد والأمة يملكان وإلا لم(5/186)
" صفحة رقم 187 "
يتصور فقرهما وغناهما. والمفسرون قالوا : الضمير عائد إلى الأحرار خاصة وهم الأيامى ، وإن فسر الغني بالعفاف فلا بعد في رجوعه إلى الكل ) والله واسع ( إفضاله ولكنه ) عليم ( يبسط الرزق كما يريد وعلى ما ينبغي. وفيه إشارة غلى قيد المشيئة في الوعد المذكور. ثم ذكر حال العاجزين عن القيام بمؤن النكاح بقوله ) وليستعفف ( أي ليطلب العفة من نفسه والمضاف محذوف أي لا يجدون استطاعة نكاح ولا يقدرون عليه ، أو النكاح يراد به ما ينكح بوساطته وهو المال ولا محذوف. وفي قوله ) حتى يغنيهم ( نوع تأميل للمستعففين. وفيه أن فضله من أهل الصلاح والعفاف قريب. الحكم السابع : المكاتبة : وحين رغب السادة في تزويج الصالحين من العبيد والإماء أرشدهم إلى الطريق الذي به ينخرط العبيد في سلك الأحرار مع عدم الإضرار بالسادة فقال ) والذين يبتغون ( ومحله إما رفع والخبر ) فكاتبوهم ( والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، وإما نصب بفعل مضمر تفسيره ) فكاتبوهم ( والفاء للإيذان يتلازم ما قبلها وما بعدها كقوله ) وربك فكبر ) [ المدثر : 3 ] والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة ، والتركيب يدل على الضم والجمع لما فيه من ضم النجوم بعضها إلى بعض. وقال الأزهري : هو من الكتابة ومعناه كتبت لك على نفسي أن النجوم بعضها إلى بعض. وقال الأزهري : هو من الكتابة ومعناه كتبت لك على نفس أن تعتق مني إذا وفيت المال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت عليَّ العتق ، وقيل : سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل واجباً عند الشافعي وندباً عند أبي حنيفة كما تجيء. والأجل يستدعي الكتابة لقوله ) إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمة فاكتبوه ) [ البقرة : 282 ] قال محي السنة : الكتابة أن تقول لمملوكك كاتبتك على كذا ويسمى مالا يؤديه في نجمين أو أكثر ويعين عدد النجوم ، وما يؤدى في كل نجم ويقول : إذا أديت ذلك المال فأنت حر وينوي ذلك بقلبه. ويقول العبد : قبلت وفي هذا الضبط أبحاث : الأول قال الشافعي : إن لم يقل بلسانه إذا أديت ذلك المال فأنت حر ولم ينوِ بقلبه ذلك لم يعتق لأن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة ، فإن ما في يد العبد فهو ملك لاسيد والإنسان لا يمكنه بيه ملكه بعين ملكه. فقوله ) كاتبتك ( كناية في العتق فلا بد فيه من لفظ العتق ونيته. وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر : لا حاجة إلى ذلك لإطلاق قوله ) فكاتبوهم ( وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع. الثاني : لا تجوز الكتابة عند الشافعي إلا مؤجلة لأن العبد لا يتصور له ملك يؤديه في الحال. وجوز أبو حنيفة الحلول لإطلاق الآية ، ولأنه يجوز العتق على مال في الحال بالاتفاق ، فالكتابة ايضاً مثله. الثالث : قال الشافعي : لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين. روي ذلك عن علي عليه السلام وعمر وعثمان وابن عمر. وذلك أنه عقد إرفاق ومن تمام الإرفاق التنجيم ،(5/187)
" صفحة رقم 188 "
وجوز أبو حنيفة على نجم واحد لإطلاق الآية وللقياس على سائر العقود. الرابع : جوز أبو حنيفة كتابة الصبي قال : ويقبل عنه المولى. وذهب الشافعي إلى أنه يجب أن يكون عاقلاً بالغاً لأنه تعالى قال ) والذين يبتغون ( والصبي لا يتصور منه الطلب. الخامس : جوز أبو جنيفة أنيكاتب الصبي بإذن الولي وشرط الشافعي كونه مكلفاً مطلقاً ، لأن قوله ) فكاتبوهم ( خطاب فلا يتناول إلا العاقل هذا وللمفسرين خلاف في أن قوله ) فكاتبوهم ( أمر إيجاب أو استحباب ، فقال قائلون ومنهم عمرو بن دينار وعطاء وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى وجوب الكتابة إذا طلبها المملوك بقيمته أو بأكثر وعلم السيد فيه خيراً ، ولو كان بدون قيكته لم يلزمه وأكدوه بما روي في سبب النزول أنه كان لحويطب بن عبد العزى مملوك يقال له الصبيح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فنزلت. ويروى أن عمر أمر إنساناً بأن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين ، فأبى فضربه بالدرة ولم ينكر أحد من الصحابة عليه. وذهب أكثر العلماء منهم ابن عباس والحسن والشعبي ومالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري إلى أنه ندب لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ بطيب من قلبه ( ولأن طلب الكتابة كطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة فلا تجب الإجابة ، وهذه طريقة المعاوضات أجمع. قال العلماء : إذا أدى مال الكتابة عتق وكان ولاؤه لمولاه لأنه جاد عليه بالكسب الذي هو في الأصل له ، ومن هنا يكسب مولاه الثواب. أما قوله ) إن علمتم فيهم خيراً ( قال عطاء : الخير هو المال كقوله ) إن ترك خيراً ) [ البقرة : 180 ] قال : بلغني ذلك عن ابن عباس. وضعف بأنه لا يقال في فلان مال وإنما يقال له أو عنده مال ، وبأن العبد لا مال له بل المال لسيده ، وعن ابن سيرين : اراد إذا صلى. وعن النخعي : وفاء وصدقاً. وقال الحسن : صلاحاً في الدين. والأقرب أنه شيء يتعلق بالكتابة هكذا فسره الشافعي بالأمانة والقوة على الكسب. ويروى مثله مرفوعاً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . وذلك أن مقصود الكتابة لا يحصل إلا بالكسب ثم بالأمانة كيلا يضيع ما يكسبه. واختلفوا أيضاً في المخاطب بقوله ) وآتوهم ( فعن الحسن والنخعي وابن عباس في رواية عطاء وهو مذهب أبي حنيفة ، أنهم المسلمون والمراد أعطوهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال ، ولا بعد في كون المخاطب في أحد المعطوفين غير الآخر ولا في كون أحد الأمرين للاستحباب والآخر للإيجاب. والسهم الذي يأخذه المكاتب له صدقة ولسيده عوض كما قاله ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث بريرة ) هو لها صدقة ولنا هدية ( وعن كثير من الصحابة(5/188)
" صفحة رقم 189 "
وهو مذهب الشافعي أن المخاطب هو الموالي والأمر أمر إيجاب فيجب عليهم أن يبذلوا للمكاتبين شيئاً من أموالهم ، أو يحطوا عنهم جزءاً من مال الكتابة. ثم اختلفوا في قدره فعن علي عليه السلام أنه كان يحط الربع ومثله ما روى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه كاتب غلاماً له فترك ربع مكاتبته وعن ابن عمر أنه كاتب عبداً له بخمسة وثلاثين ألفاً ووضع عنه خمسة آلاف وهو السبع. والأكثرون على أنه غير مقدر ويحصل الامتثال بأقل متمول. عن ابن عباس : يضع له من كتابته شيئاً. وعن عمر أنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام ، فأتاه بأول نجم فدفعه إليه عمرو وقال : استعن به على مكاتبتك. فقال : لو أخرته غلى آخر نجم ، فقال : أخاف أن لا أدرك ذلك ، وهذا الحط عند الأولين على وجه الندب فلا يجبر المولى عليه وأكدوه بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) إيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلاّ عشر أواق فهو عبد ( فلو كان الحط واجباً لأسقط عنه بقدره ، ومثله المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وايضاً لو كان الحط واجباً فإن كان معلوماً لزم عتقه إذا بقي ذلك القدر وليس ذلك بالاتفاق ، ولو كان مجهولاً لكان ما بقي وهو مال الكتابة مجهولاً فلا تصح الكتابة. وأيضاً أمر بالإيتاء من مال الله الذي أتاهم ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه يصدر العجز عنه فلا يستحق ذلك المال هذا الوصف فصح أن هذا أمر من الله تعالى بذلك للناس ، أولهم وللسادة أن يعينوا المكاتب على كتابته بما يمكنهم قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) من أعان مكاتباً في فك رقبته أظله الله في ظل عرشه (. الحكم الثامن : المنع من إكراه الإماء على الزنا : كان لعبد الله بن ابيّ راس النفاق ست جوار : معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة ، يكرهن على البغاء - أي الزنا - فشكت ثنتان منهن معاذة ومسيكة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وحد الإكراه قد مر في سورة النحل في قوله ) إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) [ النحل : 106 ] والنص وإن كان مختصاً بالإماء إلا أنهم أجمعوا على أن حال الحرائر أيضاً كذلك. والسؤال المشهور في الآية هو أن المعلق بكلمة أن على الشيء يفهم منه عدمه عند عدم ذلك الشيء فتدل الآية على جواز الإكراه على الزنا عند عدم إرادة التحصن. والجواب(5/189)
" صفحة رقم 190 "
بعد تسليم أن مفهوم الخطاب حجة هو أن الإكراه مع عدم غرادة التحصن والتعفف مما لا يجتمعان ، فهذا المفهوم قد خرج عن كونه دليلاً لامتناعه في ذاته. وقد يقال : إن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخكاب كما مر في قوله ) فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ) [ النساء : 101 ] وقيل : ( إن ( بمعنى ) إذ ( لأن سبب النزول وارد على ذلك. قال جار الله : أوثرت كلمة ) أن ( على ) إذ ( إيذاناً بأن المساعيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن ، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من قبيل الشاذ والنادر. وللآية مفهوم آخر وهو أن للسادة إكراههن على النكاح وليس لها أن تمتنع على السيد إذا زوجها. و ) عرض الحياة الدنيا ( كسبهن وأولادهن ) ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ( لهم على الإطلاق أو بشرط التوبة على أصل الأشاعرة والمعتزلة ، أو غفور لهن لأن الإكراه قد لا يكون على حد المعتبر في الشرع من التخويف الشديد فتكون آثمة حينئذ. وحين فرغ من الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاث : ألأولى الآيات المبينات أي الموضحات أو الواضحات في معاني الحدود والأحكام وغيرها ولا سيما الآيات التي ثبتت في هذه السورة. الثانية كونه مثلاً من الذين خلوا أي قصة عجيبة من قصصهم فإن العجب في قصة عائشة ليس باقل من العجب في قصة يوسف ومريم ومااتهما به. وعن الضحاك أنه أراد بالمثل شبه ما ذكر في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود. وعن مقاتل : اراد شبيه ما حل بهم من العقاب إذا عصوا. الثالثة كونه موعظة ينتفع بها المتقون خاصة. التأويل : لا تدخلوا بيوت عالم القرار التي هي غير بيوتكم من دار القرار حتى تتعرفوا أحوالها ) وتسلموا على أهلها ( سلام توديع ومتاركة ) فإن لم تجدوا فيها أحداً ( فإن صرتم بحيث فتنتم عن حظوظ الدنيا وشهواتها فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم بالتصرف فيها بالحق للحق ) وإن قيل لكم ارجعوا ( بجذبة ) ارجعي إلى ربك ) [ الفجر : 28 ] ( فارجعوا ( ثم أشار إلى أن التصرف في الدنيا لأجل البلاغ وبحسب الضرورة جائز إذا لم تكن النفس تطمئن إليها فقال ) ليس عليكم جناح ( الاية. ثم أمر بغض بصر النفس عن مشنهيات الدنيا ، وبصر القلب عن رؤية الأعمال ونعيم الآخرة ، بصر السر عن الدرحات والقربات ، وبصر الروح عن الالتفات غلى ما سوى الله ، وبصر الهمة عن العلل بأن لا يرى نفسه أهلاً لشهود الحق تنزيهاً له وإجلالاً ، ولهذا أمر بحفظ فرج الباطن عن تصرفات الكونين فيه. ثم أمر النساء بمثل ما أمر به الرجال تنبيهاً على أن النساء بالصورة قد يكن رجالاً في المعنى. ثم نهى عن إظهار ما زين الله به سرائرهم وأحوالهم إلا ماظهر على صفحات أحوالهم من(5/190)
" صفحة رقم 191 "
غير تكلف منهم. ثم اباح لهم إظهار بعض الأسرار إلى شيوخهن أو إخوانهن في الدين والحال ، أو المريدين الذين هم تحت تربيتهم وتصرفهم بمنزلة النساء والمماليك ومن لا خبر عندهم من عالم المعنى كالبله والأطفال ، ففيه نفثة مصدور من غير ضرب. ) وتوبوا إلى الله جميعاً ( فإن حسنات البرار سيئات المقربين. فتوبة المبتدئ من الحرام وتوبة المتسوط من الحلال وتوبة المنتهي مما سوى الله ) وأنكحوا الأيامى ( فيه أمر بطلب شيخ كامل يودع في رحم القلب من صلب الولاية نطفة استعداد قبول الفيض الأعلى وهو الولادة الثانية المستديعة للولوج في ملكوت السماء والأرض ، وقد اشار إلى إفاضة هذا الاستعداد بقوله ) إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله وليستعفف ( ليحفظ الذين لا يجدون شيخاً في الحال أرحام قلوبهم عن تصرفات الدنيا والهوى والشيطان حتى يجلهم الله على شيخ كامل كما دل موسى على الخضر عليه السلام ، أو يخصهم بجذبة ) الله يجتبي ) [ الشورى : 13 ] ( والذين يبتغون ( فيه أن المريد إذا طلب الخلاص عن قيد الرياضة لزم إجابته إن علم فيه الصلاح ووجب أن يؤتى بعض ما خص الله الشيخ به من المواهب ) ولا تكرهوا ( فيه أن النفس إذا لم تكن مائلة إلى التصرف في الدنيا وإن كان بالحق لم تكره عليه فإن أصحاب الخلوة غير أرباب الجلوة. ( النور : ( 35 - 50 ) الله نور السماوات . . . .
" الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من(5/191)
" صفحة رقم 192 "
يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون "
( القراآت )
نور السموات ( على الفعل : يزيد من طريق ابن أبي عبلة وابن مشيا ) كمشكاة ( ممالة : أبو عمرو عن الكسائي ) دريء ( بكسرتين وبالهمز : أبو عمرو وعلي والمفضل مثله بضم الدال : حمزة وأبو بكر وحماد والخزاز. الباقون بضم الدال وتشديد الياء ) توقد ( بضم التاء وفتح القاف : حمزة وعلي وخلف وابو بكر وحماد مثله ولكن بياء الغيبة على أن الضمير للمصباح : ابن عامر ونافع وحفص وابو زيد عن المفضل. الباقون وجبلة ) توقد ( بالفتحات وتشديد القاف ) يسبح ( بفتح الباء : ابن عامر وأبو بكر وحماد : ( سحاب ( ) ظلمات ( على الإضافة : البزي ) سحاب ( بالتنوين ) ظلمات ( بالكسر على أنه نصب على الحال : القواس وابن فليح. الباقون بالرفع والتنوين فيهما. ) ينزل ( من الإنزال : ابن كثير وابو عمرو وسهل ويعقوب ) يذهب ( من الإذهاب يزيد على أن الباء زائدة ) خالق كل شيء ( على الإضافة : حمزة وعلي وخلف. الآخرون ) خلق ( على لفظ الماضي ) كل ( منصوباً. الوقوف : ( والأرض ( ط ) مصباح ( ط ) زجاجة ( ط ) غربية ( ط لأن ما بعدها صفة شجرة ) نار ( ط ) نور ( ط ) يشاء ( ط ) للناس ( ط ) عليم ( 5 لا بناء على أن الظرف يتعلق بما قبله وهو ) كمكشاة ( أي مثل مشكاة في بعض بيوت الله عز وجل والأولى تعلقه ) يسبح ( وفيها تكرار كقولك زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف وهو سبحوا اسمه لا لأن ما بعده صفة بيوت أو لأن الظرف يتعلق ) بيسبح ( ) والآصال ( ط لمن قرأ ) يسبح ( بفتح الباء كأنه قيل : من يسبح ؟ فقيل : ( رجال ( أي يسبحه رجال. ومن قرأ بالكسر لم يقف لأنه فاعل الفعل الظاهر ) رجال ( لا لأن ما بعده صفة ) الزكاة ( لا لأن ما بعده أيضاً صفة ) والأبصار ( 5 لا لتعلق اللام. أو حاتم يقف ويجعل اللام لام القسم على تقدير ليجزين قال : فلما سقطت النون انكسرت اللام. ) من فضله ( ط ) حساب ( 5 ) ماء ( ط ) حسابه ((5/192)
" صفحة رقم 193 "
ط ) الحساب ( 5 لا للعطف ) سحاب ( ط لمن قرأ ) ظلمات ( بالرفع ولم يجعلها بدلاً ) فوق بعض ( ط ) يراها ( ط ) من نور ( 5 ) صافات ( ط ) وتسبيحه ( ط يفعلونر 5 ) والأرض ( ج فصلاً بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين ) المصير ( 5 ) من خلاله ( ج لما قلنا ) عمن يشاء ( ط ) بالأبصار ( 5 ط ) والأنهار ( ط ) الأبصار ( ج ) من ماء ( ج للفاء مع التفصيل ) بطنه ( ج ) رجلين ( ج لمثل ما قلنا اربعر ط ) ما يشاء ( ط ) قدير ( 5 ) مبينات ( ط ) مستقيم ( 5 ) ذلك ( ط ) بالمؤمنين ( 5 ) معرضون ( 5 ) مذعنين ( 5 ط ) ورسوله ( ط ) الظالمون ( 5. التفسير : أنه سبحانه لما بين من الأحكام ما بين أردفها على عادة القرآن بالإلهيات وقدم لذلك مثلين أحدهما في أن دلائل الإيمان في غاية الظهور ، والثاني أن أديان الكفر في نهاية الظلمة. أما الأول فهو قوله ) الله نور السموات والأرض ( واعلم أن النور في اللغة موضوع لهذه الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على ما يجاذيها من الأجرام ، لا شك أنه لا يمكن أن يكون إلهاً لأنه إن كان عرضاً فظاهر ، وإن كان جسماً فكذلك للدليل الدال على أن إله العالم ليس بجسم ولا جسماني ولا زائل ولا متنقل إلى غير ذلك من أمارات الحدوث والافتقار ، وعند ذلك ذكر العلماء في تأويل الآية وجوهاً : الأول وهو قول ابن عباس والأكثرين ، أن المضاف محذوف أي هو ذو نور السموات والأرض لأنه قال ) مثل نوره ( ) ويهدي الله لنوره ( والمضاف مغاير للمضاف إليه. فنظير الاية قولك ( زيد كرم وجود ) للمبالغة. الثاني أن معناه منور السموات كقراءة من قرأ ) نور ( بالتشديد وعلى القولين ما المراد بالنور ؟ فالأكثرون على أنه الهداية والحق منا قال في آخر الآية ) يهدي الله لنورهه من يشاء ( شبهه بالنور في ظهوره وبيانه. وأضافه إلى السموات والأرض للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض ، أو على حذف المضاف أي نور أهل السموات والأرض وقيل : نور السماء بالملائكة وبالأجرام النيرة والأرض بها وبالأنبياء والعلماء وهو مروي عن أبيّ بن كعب والحسن وابي العالية. وقيل : هو تدبيره إياهما بحكمة كاملة كما يوصف الرئيس المدبر بأنه نور البلد إذا كان يدبر أمورهم تدبيراً حسناً ، فهو لهم كالنور الذي يهتدي به في المضايق والمزالق. وهذا القول اختيار الأصم والزجاج. وقيل : هو نظمه إياهما على النهج الأحسن والوجه الأصلح. وقد يعبر بالنور عن النظام. يقال : ما أرى لهذه الأمور نوراً. الثالث : ما ذهب إليه الحكماء الأولون الإشراقيون وإليه ميل الشيخ الإمام حجة الإسلام محمد الغزالي على ما قرره في رسالته المسماة بمشكاة الأنوار : أن الله تعالى نور في الحقيقة بل لا نور ، إلا هو بيانه أن للإنسان بصراً يدرك به النور المحسوس(5/193)
" صفحة رقم 194 "
الواقع من الأجرام النيرة على ظواهر الأجسام الكثيفة ، وبصيرة هي القوة العاقلة ، ولا شك أن البصيرة أقوى من البصر لأن القوة الباصرة لا تردك نفسها ولا تدرك إدراكها ولا تدرك آلتها وهي العين ، وأما لقوة العاقلة فإنها تدرك نفسها وتدرك إدراكها وتدرك آلتها في الإدراك وهي القلب أو الدماغ ، والإدراك الحسي غعير منتج لأنه لا يصير سبباً لإحساس آخر ، والإدراك العقلي يصير سبباً لإدراكات أخر حتى تجتمع علوم جمة ، والحس يضطرب بكثرة ورود المحسوسات عليه حتى إنه لا يسمع الصوت الضعيف مثلاً بعد سماع الصوت الشديد ، والعقل يزداد بهاؤه ونورانيته بكثرة توارد العلوم وتعاونها ، والقوة الحسية تضعف بضعف البدن ، والقوة العقلية تقوى بعد الأربعين حتى استدل بذلك على بقائها بعد خراب البدن ، والقوة الحسية لا تدرك من القرب القريب ولا من البعد البعيد ، والعقلية لا يختلف حالها في القرب والبعد فيدرك ما فوق العرش إلى ما تحت الثرى في لحظة واحدة ، بل يدرك ذات الله وصفاته مع أ ، ه منزه عن القرب والبعد والجهة ، والحس لا يدرك من الشياء إلا ظواهرها ، والعقل يغوص في حقائق الأشياء وفي أجزائها وجزئياتها وفي ذاتياتها وعرضياتها ، فيوحد الكثير تارة بانتزاع صورة كلية من الجزئيات ، ويكثر الواحد أخرى بالتجنيس والتنويع والتصنيف وغير ذلك من التقسيمات التي لا تكاد تتناهى. وإدراك العقل قد يكون مقدماً على وجود الشيء ويسمى العلم العقلي ، وإدراك الحس تابع لوجود الشيء وإذا كان الروح الباصر نوراً فالبصيرة التي هي أشرف منها أولى بأن تكون نوراً ، وكما أن نور المبصر يحتاج في إدراكه إلى معين من الخارج هو الشمس أو السراج مثلاً ، فنور البصيرة ايضاً يحتاج في إدراكه غلى مرشد هو النبي أو القرآن فلذلك سمي القرآن نوراً ) والنور الذي أنزلنا ) [ التغابن : 8 ] والنبي نوراً ) وسراجاً منيراً ) [ الأحزاب : 46 ] فروح النبي في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام. ثم إن الأنوار النبوية القدسية مقتبسة من أنوار أخرى فوقها لقوله ) علمه شديد القوى ) [ النجم : 5 ] ( قل نزله روح القدس من ربك ) [ النحل : 102 ] فكل الأنوار تنتهي إلى مالا نرو أنور منه ولا أجل وأشرف وهو الله سبحانه. والكلام المجمل في هذا المقام هو الذي قد سلف تحقيقه مراراً وهو أن الكمالات أنوار والملكات الذميمة ظلمات. وأيضاً الوجود نور والعدم ظلمة ، فإن نظرنا إلى الكمال فكل كمال ينتهي إلى الله سبحانه ولا كمال فوق كماله ، فهو نور الأنوار. وإن نظرنا إلى الوجود نفسه فلا ريب أن الممكن وجوده مستفاد من غيره إلى أن ينتهي إلى واجب الوجود لذاته وهو نور الأنوار ، فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره ، واحتجب عنهم بإشراق نوره ، ومن هنا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله سبعين حجاباً من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره )(5/194)
" صفحة رقم 195 "
وفي بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعون الفاً. قال العلماء : الحجب ثلاثة أقسام : حجب ظلمانية محضة ، وحجب ممزوجة من نور وظلمة ، وحجب نورانية صرفة ، أما المحجوبون بالأول فهم الذين بلغوا في الاشتغال بالعلائق البدنية إلى حيث لا يلتفت خاطرهم إلى الاستدلال بالمصنوعات على الصانع. وأما المحجوبون بالثاني فهم الذين اعتقدوا في الممكنات أنها غنية عن المؤثر ، فنفس تصور الاستغناء عن الغير نور لأنه من صفات الله تعالى ، ولكن اعتقاد حصوله لمن لا يليق به ظلمة فهذا حجاب ممزوج من نور وظلمة ، وأما المحجوبون بالثالث فهم الذين استغرقوا في بحار صفات الله وأفعاله فاحتجبوا بالصفات عن الذات ، فعرف منهذا التقرير أن الحجب لا تكاد تتناهى حيث لا نهاية للمكنات ولا نحصار للسلوب والإضافات ، ولكن الحديث ورد على ما هو المتعارف في باب التكثير. ولنرجع إلى التفسير قال الفراء : المشكاة الكوة في الجدار غير النافذة وهذا القول أصح عند أئمة اللغة وهي من لغة العرب ومنه المشكاة للزق الصغير. وقيل : هي بلغة الحبشة ، وعن ابن عباس وأبي موسى الأشعري أن المشكاة هي القائم الذي في وسط القنديل الذي يدخل فيه الفتيلة وهو قول مجاهد والقرطبي ، وثمله قول الزجاج هي قصبة القنديل من الزجاجة التي يوضع فيها الفتيلة. وقال الضحاك : هي الحلقة التي يتعلق بها القنديل والمصباح السراج الضخم الثاقب وأصله من الضوء ومنه الصبح والدريّ فمن قرأ بضم الدال وتشديد الياء منسوب إلى الدر اي ابيض متلألئ ، ومن قرأ بالهمز مضموم الدال كمرّيق أو مكسورها كسكيت ، فمعناه أنه يدرأ الظلام بضوئه. وقال أبو عبيد : إن ضممت الدال وجب أن لا تهمزة لأنه ليس في كلام العرب ( فعيل ). ومن همزة من القراء فإنما أراد ( فعول ) على سبوح فاستثقل فرد بعضه غلى الكسر. والدراري من الكواكب هي المشاهير كالمشتري والزهرة والمريخ وما يضاهيها من الثوابت التي هي في العظم الأول. ومعنى ) من شجرة مباركة ( أن ابتداء ثقوبه من شجرة مباركة كثيرة المنافع وهي الزيتون. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليكم بهذه الشجرة زيت الزيتون فتداووا به فإنها مصحة من الباسور ) وقيل : سميت مباركة لأنها تنبت في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين ، أو بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام فقوله ) زيتونة ( بدل من ) شجرة ( ومعنى ) لا شرقية ولا غربية ( أن منبتها في أكثر الشام وزيتونها أجود الزيتون والشام قريب من وسط العمارة ليس على(5/195)
" صفحة رقم 196 "
الطرف الشرقي من الربع المسكون ولا على الطرف الغربي منه ، وعن الحسن أراد شجرة الزيتون في الجنة إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية أو غربية. وضعف بأن المثل إنما يضرب بما يشاهد وإنهم ما شاهدوا شجرة الجنة ، وقيل : أراد أنها شجرة ملفوفة بالأشجار أو بأوراقها فلا تصيبها الشمس في مشرق ولا مغرب. وزيف بأن الغرض هو صفاء الزيت ولا يحصل إلا بكمال النضج وذلك يتوقف عادة على وصول أثر الشمس إلى الشجرة ، وعن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وهو اختيار الفراء والزجاج : المراد أنها ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط ، بل تصيبها بالغداة والعشي جميعاً لأنها في موضع مكشوف ، فيكون فيه دليل على كمال النضج الموجب لصفاء الزيت. ومنهم من قال : لا في مضحى ولا في مقنأة وهي المكان الذي لا تطلع عليه الشمس ولكن الظل والشمس يتعاقبان عليها وذلك أجود لكمال الثمرة ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا خير في شجرة في مقنأة ولا نبات في مقنأة ولا خير في مضحى ) ثم وصف الزيت بالصفاء والبريق وأنه لتلألئه يكاد يضيء من غير نار ، فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوء. فهذا ما يتعلق بحل الألفاظ على ظاهر التفسير ، أما ما يتعلق بالمعنى فنقول : إن جمهور المتكلمين ذهبوا إلىأنه تعالى شبه الهداية وهي الآيات البينات في الظهور والجلاء ، بالمشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية ، وفي الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء. وإنما اختار هذا التشبيه دون أن يقول إنها كالشمس في الظهور والوضوح لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهان التي هي كالظلمات وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل ، وهذا المقصود لا يحصل منضرب المثل بالشمس لأنها إذا طلعت لم تبق ظلمة أصلاً. والأمور التي اعتبرها الله سبحانه في هذا المثال منها كون المصباح في المشكاة وذلك ليكون أجمع للنور وأعون لتكاثف الأشعة وأصون له عن تعرض الرياح. زعم بعضهم أن في الكلام قلباً والمراد كمصباح في مكشاة والصحيح أنه لا حاجة إليه لأن هذا تشبيه مركب ، ولهذا قال جار الله : أراد صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة كصفة مشكاة ، ومنها كون المصباح في زجاجة صافية ، فإن تعاكس الأنوار من جوانب الزجاجة يزيد المصباح نوراً. ومنها كون المصباح متقداً بدهن الزيت فليس في الأدهان ما يدانيه في اللمعان والتطويس. ومنها كون الزيت من شجرة بارزة للشمس فإن ذلك يدل على كما نضج الثمرة ونهاية صفاء ذهنها. وأما الإمام الغزالي رضي الله عنه فإنه يقول : المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت عبارة عن المراتب الخمس الإنسانية. فأولها القوة الحساسة التي هي أصل الروح الحيواني وتوجد للصبي بل لكل حيوان ، وأوفق مثال لها من(5/196)
" صفحة رقم 197 "
عالم الأجسام المشكاةلأن تلك القوى تخرج من عدة ثقب كالعينين والأذنين والمنخرين والفم. وثانيها القوة الخيالية التي تحفظ ما يورده الحواس مخزوناً عندها لتعرضه على القوة العقلية التي فوقها عند الحاجة إليه ، وأنت لا تجد شيئاً في عالم الأجسام يشبه الخيال سوى الزجاجة فإنها في الأصل جوهر كثيف ولكن صفي ورقق حتى صار بحيث لا يحجب نور الصمباح بل يؤديه على وجهه ، ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفةز كذلك الخيال من طينة العالم السفلي الكثيف بدليل أن الشيء المتخيل ذو قدر وشكل وحدّ ، ولنه إذا صفي وهذب صار موازياً للمعاني العقلية ومؤدياً لأنوارها ، ولذلك يستدل المعبر بالصور الخيالية على المعاني كما يستدل بالشمس على الملك ، وبالقمر على الوزير ، وبمن يختم فروج الناس وأفواههم على أنه مؤذن يؤذن في رمضان قبل الصبح. وثالثها القوة العقلية القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف اليقينية ولا يخفى وجه تمثيله بالمصباح كما مر في تسمية النبي سراجاً. وحين كان الحس كالمقدمة للخيال وهي مالمقدمة للعقل قيل : إن المشكاة كالظرف للزجاجة التي هي كالظرف للمصباح. ورابعها القوة الفكرية القوية على التقسيمات والاستنتاجات فمثالها مثال الشجرة المثمرة ، وإذا كانت ثمرتها مادة ازدياد أنوار المعارف فبالحري أن لا تشبه إلا بشجرة الزيتون ، لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصباح وله من سائر الأدهان خاصية زيادة الإشراق وقلة الدخان. وإذا كانت الماشية تسمى مباركة لكثرة درها ونسلها فالذي لا تتناهى ثمرته غلى حد محدود أولى أن يسمى مباركاً. وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام ناسب أن يقال لها ) لا شرقية ولا غربية ( وخامسها القوة القدسية النبوية التي ) يكاد زيها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور (. وأما الشيخ الرئيس أو علي بن سينا فإنه نزل الأمثلة الخمسة على مراتب إدراكات النفس الإنسانية المشهورة. فالمشكاة هي العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض ، والزجاجة هي العقل بالملكة وهي قوة النفس حين حصل لها البديهيات وأمكن لها بواسطتها الترقي غلى النظريات والانتقال إلى الكسبيات. ثم إن كان الانتقال ضعيفاً فهي الشجرة وتسمى فكراً وإن كان قوياً فهي الزيت ويسمى حدساً ، وإن كان في النهاية القصوى سميت قوة قدسية وهي التي ) يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور ( ثم إذا حصل لها المعارف والعلوم المكتسبة بالفعل بحيث تقدر علىملاحظتها متى شاءت من غير تجشم كسب جديد فهو المصباح ويسمى عقلاً بالفعل ، وغياته أن تكون المعقولات حاضرة عندها متمثلة لها كأنها تشاهدها وهي نور على نور ويسمى عقلاً مستفاداً. أما الأول فلأن الملكة(5/197)
" صفحة رقم 198 "
نور ومشاهدة تلك الملكة نور آخر ، وأما الثاني فلأن ذلك غاية الاستفادة ونهاية التحصيل. وزعم الشيخ أبو علي أن المخرج من العقل الهيولاني غلى الملكة ثم منها إلى العقل التام هو العقل الفعال مدبر ما تحت كرة القمر عند الحكماء ، وعبر عنه في الآية بالنار. وعن مقاتل أنه قال ) مثل نوره ( أي مثل نور الإيمان في قلب محمد كمشكاة فيها مصباح فالمشكاة نظير صلب عبد الله ، والزجاجة نظير جسد محمد ، واشجرة النبوة والرسالة. وقيل : المشكاة نظير إبراهيم عليه السلام ، والزجاجة نظير إسماعيل والمصباح نظير جسد محمد وعن أبي بن كعب أنه قرأ ) مثل نور من آمن به ( ورأيت في كتب الشيعة عن علي رضي الله عنه مرفوعاً للقمر وجهان يضيء بهما أهل السموات والأرضين وعلى الوجهين مكتوب أتدرون ما كتابته ؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم. فقال : على وجه السموات ) الله نور السموات والأرض ( وعلى وجه الأرض محمد وعلي نور الأرضين. وقيل : المشكاة صدر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والزجاجة قلبه ، والمصباح ما في قلبه من الدين ، والشجرة إبراهيم عليه السلام ، ) ويوقد من شجرة ( كقوله ) واتبعوا ملة إبراهيم ) [ آل عمران : 95 ] ومعنى ) لا شرقية ولا غربية ( أن إبرايهم لم يكن يصلي قبل المشرق كالنصارى ولا قبل المغرب كاليهود بل كان يصلي قبل الكعبة وهي ما بين المشرق والمغرب ومعنى ) يكاد زيتها يضيء ( أن نور محمد يكاد يتبين للناس قبل أن يتكلم قاله كعب. وقال الضحاك : يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي ومن هنا قال عبد الله بن رواحة : لو لم يكن فيه آيات مبينة
كانت بديهته تنبيك بالخبر
وقال يحيى بن سلام : قلب المؤمن نوريّ يعرف الحق قبل أن يتبين لموافقته له وهو المراد من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اتقوا فراسة المؤمن فإِنه ينظر بنور الله ) وقيل : يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم به ولهذا يزداد نوراً على نور. قال أبي بن كعب : المؤمن بين اربع خلال : إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل. فهو في سائر الناس كالرجل الحي الذي يمشي ين أموات يتقلب في خمس من النور : كلامه نور ، وعلمه نور ومخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة. قال الربيع : سألت أبا العالية عن مدخله ومخرجه فقال : سره وعلانيته. قالت الأشاعرة في قوله ) يهدي الله لنوره من يشاء ( إشارة غلى أن هذه الدلائل مع وضوحها لا تكفي ولا تنفع ما لم يخلق الله الغيمان فيه ، وقالت المعتزلة : اراد يهدي الله لطريق الجنة ، أو أراد بقوله من يشاءر الذين بلغهم حد التكليف والهدى محمول على(5/198)
" صفحة رقم 199 "
زيادات الألطاف التي هي ضد الخذلان ولهذا قال في الكشاف : معناه يوفق. لإصابة الحق من نظر وتدبر معنى الإنصاف ، وجانب جانب المراء والاعتساف ، ولم يكن كالأعمى الذي يستوي عنده جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس وأكدوا ذلك بقوله ) ويضرب الله الأمثال للناس ( يعني النبي والمكلفين من أمته قالوا : إنما ذكره في معرض الإنعام ولو كان الكل بخلق الله تعالى لما تمكنوا من الانتفاع بالمثل فلا يكون نعمة. ثم زاد التأكيد بقوله ) والله بكل شيء عليم ( ففيه تحذير لمن لا يتفكر ولا يعتبر ولا يستدل ولا ينظر. قوله ) في بيوت ( اعترض أبومسلم على قول من قال إنه يتعلق ب ) كمشكاة ( و ) يتوقد ( لأن كون المشكاة في بعض بيوت الله لا تزيد المصباح إنارة وإضاءة. وأيضاً الموصوف واحد فلا يكون إلا في مكان واحد وقوله ( في بيوت ( أمكنة متعددة ولا يصح أن يكون شيء واحد في أمكنة متعددة في حالة واحدة ، وكذا لو جعل ) في بيوت ( صفة ) مصباح ( و ) زجاجة ( أو ) كوكب ( وأجيب بأن هذه صفة موضحة لا مميزة وذلك أن المشكاة تكون غالباً في بيوت العبادة أو المشكاة التي فيها مصباح إذا كانت في مثل هذه البيوت الرفيعة كانت أعظم وأكثر ضخامة فيكون في باب التمثيل أدخل. وعن الثاني أنه أريد بالمشكاة النوع لا الواحد كما لو قيل : ( الذي يصلح لخدمتي رجل ) يرجع إلى علم وكفاية وقناعة يلتزم بيته فإنه يراد به النوع لا الواحد. وذهب أبو مسلم إلا أنه راجع إلى قوله ) ومثلاً من الذين خلوا ( اي الأنبياء والمؤمنين الذين مضوا وكانوا ملازمين لبيوت العبادة. واعترض عليه بتفكيك النظم إذ ذاك وبأن الذينخلوا هم المكذبون. والأكثرون على أن البيوت هي المساجد ، والإذن الأمر ، والرفع التعظيم أو البناء. وعن عكرمة هي البيوت كلها ، ومعنى الرفع البناء وذكر اسم الله عام في كل ذكر. وعن ابن عباس أن يتلي فيها كتابه. وقيل : لا يتكلم فيها بما لا ينبغي. والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به. وقيل : الصلوات الخمس وقيل : صلاتا الصبح والعصر وكانتا واجبتين فقط في أول الإسلام فزيد فيهما. وعن ابن عباس : إن صلاة الضحى لفي كتاب الله وتلا هذه الآية. والأولى العموم. قيل : خص الرجال بالذكر لأنهم من أهل الجماعات دون النساء. ويحتمل أن يقال : لأنهم أصل والنساء تبع. واختلفوا في ) لا تلهيهم تجارة ( فقيل : نفي الإلهاء لأنه تجارة ولا بيع كقوله : ولا ترى الضب فيها ينجحر وقيل : أثبت التجارة والبيع وبين أنهم مع ذلك لا يشغلهم شيء عن ذكر الله وهذا قول الأكثرين. وعن الحسن أما والله إن كانوا ليتجرون ولكن غذا جاءت فرائض الله لم يلههم عنها(5/199)
" صفحة رقم 200 "
شيء. وما الفرق بين التجارة والبيع ؟ قيل : الأول عام لأن صناعة التاجر قد يقع فيها البيع وقد يقع فيها الشراء ، وخص البيع لأن الربح فيه يقين وفي الشراء مظنون ، فالبيع أدخل في الهاء. وقيل : اراد بالتجارة الشراء ، إطلاقاً لاسم الجنس على النوع. وقال الفراء : التجارة لأهل الجلب يقال : تجر فلان في كذا إذا جلبه من غير بلده. وذكر الله دعاؤه والثناء عليه بما هو أهله وقيل : هو الصلاة. ومن هنا قال ابن عباس : أراد بإقام الصلاة إتمامها لمواقيتها ، وبإيتاء الزكاة طاعة الله والإخلاص له. والتاء في ) إقامة ( عوض من العين الساقطة للإعلال ، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت. ثم حكى أن هؤلاء الرجال مع ما ذكر من الطاعة والإخلاص موصوفون بالوجل والخوف من أهوال يوم القيامة. وتقلب القلوب اضطرابها من الهول والفزع ، وتقلب الأبصار شخوصها ، أو المراد تقلب أحوالهما فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها ، وتدرك الأبصار بعد أن كانت عمياء عن النظر والاعتبار وكأنهم انقلبوا من الشك والغفلة غلى اليقين والمعاينة. وقال الضحاك : إن القلوب تزول عن أماكنها فتبلغ الحناجر والبصار تصير زرقاً. وقال الجبائي : يحتمل أن يراد تقلبها على جمر جهنم أو تغير ماهياتها بسبب ما ينالها من العذاب فتون مرة بهيئة ما انضج بالنار ، ومرة بهيئة ما أحرق ، وقيل : إن القلوب تتقلب في ذلك اليوم من طمع النجاة غلى الخوف من الهلاك ، والأبصار تتقلب من أيّ ناحية يؤخذ بهم أم من ناحية اليمين أم من ناحية الشمال ومن اي جهة يعطون كتابهم أمن قبل الأيمان أم من قبل الشمائل. قوله ) ليجزيهم ( متعلق بما قبله لفظاً أو معنى يسبحون ويخافون أو يفعلون هذه القربات ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم وهو الواحد يعشر غلى سبعمائة وأكثر. وقيل : أراد بالأحسن الحسنات أجمع وهي الطاعات فرضها ونفلها. قال مقاتل : إنما ذكر الأحسن تنبيهاً على أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم وقال القاضي : أراد بذلك أن تكون الطاعات منهم مكفرة لمعاصيهم فيصح أن الله تعالى يجزيهم بأحسن الأعمال. وهذا مبني على مذهبه في الإحباط والموازنة. ومعنى ) ويزيدهم من فضله ( كقوله ) للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ يونس : 26 ] وقوله ( والله يرزق من يشاء بغير حساب ( قد مر تفسيره في ( البقرة ). وحين بين حال المؤمن أنه يكون في الدنيا في النور بسببه يكون متمسكاً بالعمل الصالح وفي الآرخة يفوز بالنعيم المقيم والثواب العظيم ، لأأتبعه بيان أن الكافر يكون في الدنيا في أنواع الظلمات وفي الآخرة في أصناف الحسرات ، وضرب لكل من حاليه مثلاً ، أما المثل الدال على خيبته في الآخرة فذلك قوله ) والذين كفروا أعمالهم كسراب ( قال الأزهري : هو يتراءى للعين وقت الضحى الأكبر في الفلوات شبهاً(5/200)
" صفحة رقم 201 "
بالماء الجاري كأنه يسرب على وجه الأرض أي يذهب. وأما الآل فهو ما يتراءى في أول النهار. وظاهر كلام الخليلأنه لم يفرق بينهما. والقيعة بمعنى اللقاع وهو المستوى من الأرض. وقال الفراء : هي جمع قاع كجيرة في جار. والظمآن الشديد العطش ، ووجه التشبيه أن الكافر يأتي ببعض أعمال البر ويعتقد ثواباً عليه فإذا وافى عرصة القيامة ولم يجد الثواب بل وجد العقاب عظمت حسرته وتناهى غمه وحيرته فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى ما يحييه ويبقيه ، فإذا شاهد السراب تعلق قلبه به رجاءً للحياة ، فإذا جاءه ولم يجد شيئاً عظم غمه وطال حزنه ، قال مجاهدك السراب عمل الكافر وإتيانه إياه موته وفراقه الدنيا. وههنات سؤال وهو أنه كيف قال ) جاءه ( فأثبت أنه شيء لأن العدم لا يتصور المجيء إليه ثم قال ) لم يجده شيئاً ( فنفى كونه شيئاً ؟ والجواب أراد شيئاً نافعاً كما يقال ( فلان ما عمل شيئاً ) وإن كان قد اجتهد. أو المراد جاء موضع السراب فلم يجد هناك شيئاً وأراد أنه تخيل أولاً ضباباً وهباء شبه الماء وذلك بإعانة من شعاع الشمس فإذا قرب منه رق وانتثر وصار هواء وهذا قول الحمكماء. قوله ) ووجد الله ( أي وجد عقاب الله أو زبانية الله يأخذونه فيصلونه غلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق خلاف ما يتصور من الراحة والنعيم ، قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام. وأما المثل الآخر فهو قوله ) أو كظلمات ( وقد يقال معنى أو أنه شبه أعمالهم الحسنة بالسراب والقبيحة بالظلمات ، أو الأول لأعمالهم الظاهرة والثاني لعقائدهم الفاسدة وللجيّ العميق الكثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر ، والظلمات ظلمة البحر وظلمة الأمواج وظلمة السحاب. وكذا الكافر له ظلمة الإعتقاد وظلمة القول وظلمة العمل قاله الحسن. وعن ابن عباس قلبه وبصره وسمعه. وقيل : قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم. والظاهر أن الجمع للتكثير ، وأن أنواع الضلالات والأباطيل اجتمعت فيه. والضمير في ) أخرج ( للواقع في الظلمات يدل عليه قرينة الحال. ومعنى ) لم يكد يراها ( لم يقرب أن يراها ، ونفي القرب من الرؤية أبلغ من نفي الرؤية نفسها وقد مر هذا البحث في البقرة في قوله ) وما كادوا يفعلون ) [ البقرة : 71 ] قالت الأشاعرة في قوله ) ومن لم يجعل الله له نوراً ( دلالة على أن الهداية بتخليق الله تعالى وبجعله جملة المعتزلة على منح الألطاف وقد مر أمثال ذلك مراراً. ولما وصف أنوار المؤمنين وظلمات الكافرين صرح بدلائل التوحيد فقال مستفهماً على سبيل التقرير ) ألم تر أن الله يسبح له ( وقد مر مثله في سورة ( سبحان ). والخطاب لكل من له أهلية النظر أو للرسول وقد علمه من جهة الاستدلال. ومعنى ) صافات ( أنهن(5/201)
" صفحة رقم 202 "
يصففن أجنحتهن في الهواء والضمير في علم لكل أو لله عز وجل. وعلى الأول فالضمير في ) صلاته وتسبيحه ( إما لكل أو لله. والمعنى كل مسبح قد علم صلاته التي تليق بحاله أو صلاة الله التي كلفه إياها ، وعلى الثاني فالضمير فيهما لكل والصلاة بمعنى الدعاء ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهما سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاتد العقلاء يهتدون غليها ، والاستقصاء في حكاياتهن مذكور في خواص الحيوانات ولا سيما في كتاب عجائب المخلوقات. ثم بين أن المبدأ منه والمعاد إله فقال ) ولله ملك السموات ( الآية. ثم ذكر دليلاً آخر من الآثار العلوية قائلاً ) الم تر أن الله يزجي سحاباً ( أي يسوقه بالرياح ) ثم يؤلف بينه ( اي بين أجزائه أي يجمع قطع السحاب فيجعلها سحاباً واحداً متراكماً ساداً للأفق ) فترى الودق ( المطر أو القطر ) يخرج من خلاله ( من فتوقه ومخارجه جمع خلل كجبال في جبل قوله ) من السماء من جبال فيها من برد ( الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض على أن قوله ) من جبال ( مفعول ) ينزل ( والثالثة للبيان أو الأوليان للبيان والثالثة للتبعيض ، ومعناه أنه ينزل بعض البرد من السماء من جبال فيها وقد مر في أول البقرة في قوله ) أو كصيب من السماء ) [ البقرة : 19 ] معنى البرد وأنه بخار يجمد بعدما استحال قطرات ماء. قال عامة المفسرين : إن في السماء جبالاً من برد خللقها الله فيها كما خلق في الأرض جبالاً من حجر. وقال أهل المعنى : السماء ههنا هو اليغم المرتفع على رؤوس الناس ، والمراد بالجبال الكثرة كما يقال ( فلان يملك جبالاً من ذهب ) ثم بين بقوله ) فيصيب به ( إلى آخر الاية. أنه يقسم رحمته بينخلقه ويقبضها ويبسطها كيف يشاء ، أو يهلك بالبرد من يشاء أن يعذبه به أبصارهم ليعتبروا ويحذروا ، أو يعاقب بين الليل والنهار ويخالف بينهما في الطول والقصر وفي كل ذلك معتبر لذوي الأبصار ، ولاذين يترقون من المصنوع إلى الصانع ويستدلون بالمحسوس على الغائب منتقلين من ظلمة التقليد إلى نور البرهان. ثم ذكر دللاً ثالثاً من عجائب خلق اليحوان فقال ) والله خلق كل دابة من ماء ( قال علماء المعاني : التنكير في ) ماء ( للتنويع أي خلق كل دابة من نوع من الماء مختص بتلك الدابة ، أو خلق الكل من ماء مخصوص وهو النطفة. وعلى التقديرين الوحدة نوعية إلا أن شموله على التقدير الثاني أكثر. وإنما عرّف في قوله ) وجعلنا من الماء كل شيء حي ) [ الأنبياء : 30 ] لأنه قصد هناك معنى آخر وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء. وعن القفال أن قوله ) من ماء ( صفة ) دابة ( لا صلة خلق. والمعنى أن كل دابة متولدة من ماء فهي مخلوقة لله تعالى واحترز بها عن الاعتراض الذي ذكرناه في سورة الأنبياء وهو أن بعض الأحياء لم يخلقهم الله من الماء وقيل : نزل الغالب منزلة الكل أو أراد بالدابة من يدب على(5/202)
" صفحة رقم 203 "
وجه الأرض ومسكنهم هناك وكل منها إما متولد من النطفة وإما بحيث لا يعيش غلا بالماء. ثم بين أن اصلهم وإن كان واحداً غلا أن خلقتهم مختلفة ) فمنهم من يمشي على بطنه ( وقدم هذا القسم لغرابته ومنهم كذا ومنهم كذا ، وفي ضمير العقلاء وإطلاق لفظة من تغليب للعقلاء. وسمي الزحف على البطن مشياً على سبيل المشاكلة أو الاستعارة نظيره قوله ( فلان لا يتمشى له أمر ) وقد يوجد من الدواب ذوات ارجل أزيد من أربع كالعناكب والعقارب والرتيلاوات بل مثل الحيوان الذي له اربع وأربعون رجلاً المسمى ( دخال الأذن ). وإنما لم يذكرها سبحانه لأنها نادرة بالنسبة إلى سائرهن. ومن العقلاء من زعم أن أمثال هذه الدواب إنما يعتمد وقت المشي على اربع فقط. وقيل : إن في قوله تعالى ) يخلق الله ما يشاء ( تنبيهاً على سائر الأقسام ، ولا ريب أن اختلاف الحيوانات لا يكاد ينحصر ، إلا أنا نذكر طرفاً من ذلك تذكيراً لعجائب قدرة الله في خلقه فنقول : الاختلاف بين الحيوانات إما ي جوهر العضو كالفرس له ذنب دون الإنسان وإن كانت أجزاء الذنب من العظم والعصب واللحم والجلد والشعر حاصلة في غير هذا العضو كالسلحفاة فله صدف يحيط به ليس للإنسان ، وكذا السمك فله فلوس والقنفيذ له شوك ، وإما في كيفية العضو كاختلاف الألوان والأشكال والصلابة واللبن ، وإما في الوضع كما أن يدي الفيل أقرب غلى الصدر من يدي الفرس ، وإما في الانفعال كما أن عين الخطاف لا تتحير في الضوء وعين الخفاش تتحير ، وإما في سائر الأحوال وذلك أن من الحيوانات برياً وبحرياً أو برياً فقط أو بحرياً فقط ، ومن البحري ما يعتمد في السباحة على جناحه كالسمك ، ومنها ما يعتمد فيها على أرجله كالضفادع ، وكل من البري والبحري له أماكن مختلفة من لابر والبحر. فمنها ما له مأوى معلوم كالروابي أو الحفر أو الشقوق أو الحجرة في البر أو كالقعر أو الشط أو الصخر أو الطين في البحر ، ومنها ما مأواه كيف اتفق إلا أن يلد فيقيم للحضانة. ومن الحيوانات طيارة فمنها ما يسبح في الهواء فقط ، ومنها ما يسبح على وجه الماء أيضاً ، وكل طائر فإنه يمشي على رجلين وقد يصعب عليه المشي كالخطاف الكبير السود وكالخفاش ، ومنها ما جناحه جلد أو غشاء. وقد يكون عديم الرجل كضرب من الحيات بالحبشة يطير ، ومنها ما يختار الاجتماع كالكركي ومنها ما يؤثر التفرد كالعقاب. وكثير من الجوارح التي تنازع على الطعم ، ومنها ما يتعايش زوجاً كالقطا والإنسان من الحيوانات الذي لا يمكنه أن يعيش حده ، ويضاهيه النحل والنمل إلا أن النمل لا رئيس لها. ومنها آكل لحم ، ومنها لاقط حب ، ومنها آكل عشب وزهر ، ومنه النحل ، ومن الحيوانات ما هو إنسيّ كالإنسان ، وما هو إنسيّ بالمولد كالهرة والغرانيق ، أو بالقهر(5/203)
" صفحة رقم 204 "
كالفهد. ومنه ما لا يأنس كالنمر أو يبطئ استئناسه كالأسد. ومن الحيوان مالا صوت له ومنه ما له صوت ، وكل مصوت فإنه يصير عند الاغتلام وحركة شهوة الجماع أشد تصويتاً حتى الإنسان. ومنه ماله شبق يسفد كل وقت كالديك ، ومنه عفيف له وقت معين ، ومنه ولود ومنه بيوض ، وكل ولود أذون ، وكل صموخ بيوض سوى الخفاش. ومنه هادئ الطبع قليل الغضب كالبقر ، ومنه شديد الجهل حال الغضب كالخنزير البري ومنه حليم حمول كالإبل ، ومنه محتال مكار كالثعلب ، ومنه غضوب سفيه إلا أنه قلق متردد كالكلب ، ومنه شديد الكيس مستأنس كالقرد والفيل ، ومنه حسود تياه كالطاوس ، ومنه شديد الحفظ كالجمل والحمار لا ينسى الطريق الذي رآه. وفي قوله ) إن الله على كل شيء قدير ( إشارة إلى أن اختصاص كل حيوان بهذه الخواص وبأمثالها لا يكون إلا عن فاعل مختار قدير قهار. وحين فرغ من إثبات هذه الدلائل اراد أن يبين أحوال المكلفين وأن فيهم منافقين فقدم لذلك مقدمة وهي قوله ) ولقد أنزلنا آيات مبينات ( وإنما فقد العاطف ههنا بخلاف قوله ) ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا ) [ النور : 34 ] لأن المقصود هناك هو ما سبق من التكاليف والمواعظ ، والغرض ههنا توطئة مقدمة لما يجيء عقيبه من حال أهل النفاق والوفاق. وقوله ( وما أولئك ( إشارة إلى الفريق المتولي. وإنما قال ) بالمؤمنين ( معرِّفاً لأنه اراد أنهم ليسوا بالذين عرفت صحة إيمانهم لثباتهم واستقامتهم. ويحتمل ان يكون ) أولئك ( إشارة إلى جميع القائلين آمناً وأطعنا وحينئذ يكون قوله ) ثم يتولى فريق منهم ( حكماً على بعض دفعاً للإلزام والنقض ، فإن الحكم الكلي قلما يخلو عن منع ولمثل هذا قال في الاية الثانية ) إذا فريق منهم معرضون ( والحاصل أنه حكم أولاً على بعضهم بالتولي ثم صرح آخراً بأن الإيمان منتفٍ عن جميعهم. ويجوز أن يراد بالفريق المتولي رؤساء النفاق. وقيل : أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين. قال جار الله : معنى ) إلى الله ورسوله ( إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كقولك ( أعجبني زيد وعكرمة ). أما سبب نزول الاية. فعن مقاتل أنها في بشر من المنافقين كما سبق في سورة النساء في قوله ) يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ) [ النساء : 60 ] وعن الضحاك : نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض فتقاسما فدفع إلى علي منها ملا يصيبه الماء إلا بمشقة. فقال المغيرة : يعني أرضك فباعها منه وتقابضا. فقيل للمغيرة : أخذت سبخة لا ينالها الماء. فقال لعلي : اقبض ارضك فأبى ودعا المغيرة إلى محاكمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال المغيرة : أما محمد فلست آتيه ولا أحاكم إليه فإِنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ. قوله ) يأتوا إليه ( الجار صلة أتى فإنه قد يعدَّى(5/204)
" صفحة رقم 205 "
بإلى. قال جار الله : والأحسن أن يتصل بمذعنين ليفيد الاختصاص أي لا يتحاكمون إذا عرفوا أن الحق لهم إلا إلى الرسول مسرعين في طاعته. ثم قسم الأمر في صدورهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته أو خائفين الحيف في قضائه ، وهذه الأمور وإن كانت متلازمة إلا أنها متغايرة في الاعتبار فصحت القسمة. ثم بين بقوله ) بل أولئك هم الظالمون ( أنهم لا يخافون حيفه لأنهم عارفون أمانته ولكن الظلم مركوز في جبلتهم وأنهم لا يستطيعون الظلم في مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلذلك يأبون المحاكمة إليه إذا كان الحق عليهم. التأويل : للآية تأويلان : أحدهما من عالم الآفاق والآخر من عالم الأنفس. أما الأول فالمشكاة عالم الأجسام ، والزجاجة العرش ، والمصباح الكرسي ، والشجرة شجرة الملكوت وهي باكن عالم الأجسام ، وهي غير راقية غلى شرق الأزل والقدم ولا إلى غرب الفناء والعدم ، بل هي مخلوقة للابد لا يعتريها الفناء ) يكاد زيتها ( وهو عالم الأرواح ) يضيء ( اي يظهر من العدم إلىعالم الصورة المتولدة بالازدواج عالم الغيب والشهادة ) ولو لم تمسسه نار ( ونور القدرة الآلهية وذلك لقرب طبيعتها من الوجود ) نور على نور ( فالأول نور الصفة الرحمانية والثاني نور العرش فهو كقوله ) الرحمن على العرش استوى ) [ طه : 5 ] وفي قوله ) يهدي الله لنوره من يشاء ( إشارة إلى أن فيض نور الرحمانية ينقسم على كل من يريد الله تعالى إيجاده من العرش إلى ما تحت الثرى. وأما التأويل الثاني : فالمشكاة الجسد ، والزجاجة القلب ، والمصباح السر ، والشجرة شجرة الروحانية التي خلقت للبقاء كما مر ، والزيت الروح الإنساني القابل لنور العرفان قبولاً في غاية القرب ، والنار نار التجلي والهداية في الأزل فإذا انضم إلى نور العقل صار نوراً على نور ، وإذا تنور مصباح سر من يشاء بنور القدم تنور زجاجة القلب ومشكاة الجسد ، وتخرج أشعتها من روزنة الحواس فتستضيء أرض البشرية كما قال ) واشرقت الأرض بنور ربها ) [ الزمر : 69 ] وهو مقام ( كنت له سمعاً وبصراً ) الحديث : ( في بيوت ( هي القلوب ) أذن الله ( أمر واراد ) أن ترفع ( درجاتها من بين سائر الأرواح والنفوس إلى أن تسع الله كما قال ( وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن ) يروى أنه أوحى إلى داود عليه السلام ( فرغ لي بيتاً اسكن فيه ) فقال : رب أنت منزه عن البيوت. فقال : فرغ لي قلبك. ولن يتأتى هذا الرفع إلا بوساطة ذكر الله فلهذا قال ) ويذكر فيها اسمه ( ) لا تلهيهم تجارة ( هي الفوز بدرجات الجنات كما قال ) هل أدلكم على تجارة تنجيكم ) [ الصف : 10 ] ( ولا بيع ( هو بيع الدنيا بالجنة كقوله ) إن الله اشترى إلى قوله فاستبشروا ببيعكم ) [ التوبة : 111 ] وفيه أن الرجولية لا تتحقق إلا إذا لم يلتفت إلى الدنيا(5/205)
" صفحة رقم 206 "
ولا إلى الآخرة فيكون بحيث لا يتصرف فيه ما سوى الله ، وحينئذ يصلي صلاة الوصال ويفيض على المستعدين زكاة حصول نصاب الكمال ) يخافون يوماً ( هو يوم الفراق ) تتقلب فيه القلوب والأبصار ( والبصائر لأنها بيد الله يقلبها كيف يشاء ) أو كظلمات في بحر لجي ( هو حب الدنيا ) يغشاه موج ( الرياء من فوقه موجر هو حب الجاه وطلب الرياسة ) من فوقه سحاب ( الشرك الخفي ) إذا أخرج ( يد سعيه واجتهاده ) لم يكد يراها ( يرى طريق خلاصة ) ومن لم يجعل الله له نوراً ( أي لم يصبه رشاش النور الالهي في الأزل ) يزجى ( سحب المعاصي المتفرقة إلى أن تتراكم فترى. والودق هو مطر التوبة يخرج من خلالهر كما خرج من سحاب وعصى آدم مطر ثم اجتباه ربه. ينزل من سماء القلب ) من جبال ( من قساوة ) فيها من برد ( هو برد القهر ) يقلب الله ( ليل المعصية لمن يشاء إلى نهار الطاعة وبالعكس لأولي الأبصار أصحاب البصائر الذين يشاهدون آثار لطفه وقهره في مرآة التقليب ) والله خلق ( كل ذي روح ) من ماء ( هو روح محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كما قال ( أول ما خلق اللهروحي ) ) فمنهم من يمشي ( أن تكون سيرته تحصيل مشتهيات بطنه ) ومنهم من يمشي على رجلين ( أن يضيع عمره في مشتهيات الفرج لأن الحيوان إذا قصد الوقاع يعتمد على رجلين وإن كان من ذوات الأربع ومنهم من يمشي على أربع هم أصحاب المناصب يركبون الدواب ألبتة ) أفي قلوبهم مرض ( انحراف في الفطرة ) أم ارتابوا ( بتشكيك أهل البدع والأهواء ) أم يخافون ( الحيف حين أمروا بترك اللذات العاجلة لأجل الخيرات الباقية ) وإليه المآب (. ( النور : ( 51 - 64 ) إنما كان قول . . . .
" إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة(5/206)
" صفحة رقم 207 "
ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم "
( القراآت )
ويتقه ( بكسر القاف واختلاس الهاء : يزيد وقالون ويعقوب غير زيد. وأبو عمرو طريق الهاشمي. بكسر القاف وسكون الهاء على أنها للسكت : أبو عمرو غير عباس وخلاد ورجاء ويحيى وحماد وهبيرة من طريق الخراز وابن مجاهد عن ابن ذكوان. بإسكان القاف وكسر الهاء : حفص غير الخراز ووجهه أنه شبه ( تقه ) بكتف فخفف ، وعلى هذا فالهاء ضمير فإِن تحريك هاء السكت ضعيف. الباقون ) ويتقهى ( بالإشباع ) فإن تولوا ( بإِظهار النون وتشديد التاء : البزي وابن فليح ) كما استخلف ( مجهولاً : أبو بكر وعمار ) وليبدلنهم ( خفيفاً : ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو كبر وحماد ) لا يحسبن ( على الغيبة : ابن عامر وحمزة ) ثلاث عورات ( بالنصب : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص(5/207)
" صفحة رقم 208 "
والمفضل. الآخرون بالرفع ) لبعض شأنهم ( بإسكان الضاد وتشديد الشين : شجاع وأبو شعيب وحمله على الإخفاء أولى منه على الإدغام. ) يرجعون ( مبنياً للفاعل : عباس ويعقوب. الوقوف : ( وأطعنا ( ط ) المفلحون ( 5 ) الفائزون ( 5 ) ليخرجن ( ط ) لا تقسموا ( ج لحق المحذوف مع اتحاد المقول ) معروفة ( ط ) تعملون ( 5 ) الرسول ( ج للشرط مع الفاء ) ما حملتم ( ط ) تهتدوا ( ط ) المبين ( 5 ) من قبلهم ( ص ) أمنا ( ط بناء على أن ما بعده مستأنف ) شيئاً ( ط ) الفاسقون ( 5 ) ترحمون ( ط ) في الأرض ( ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول ) النار ( ط ) المصير ( 5 ) مرات ( ط أي متى كذا وكذا ) العشاء ( قف عند من قرأ ) ثلاث عورات ( بالرفع أي هو ثلاث ) لكم ( ط ) بعدهن ( ط أي هو طوافون ) على بعض ( ص ) الآيات ( ط ) حكيم ( 5 ) من قبلهم ( ط ) آياته ( ط ) حكيم ( 5 ط ) بزينة ( ط ) لهن ( ط ) عليم ( 5 ) صديقكم ( ط ) أشتاتاً ( ط بناء على أن ما بعده استئناف حكم ) طيبة ( ط للعدول من المخاطبة إلى الغيبة ) تعقلون ( 5 ) يستأذنوه ( 5 ) ورسوله ( ط للشرط مع الفاء ) لهم الله ( ط ) رحيم ( 5 ) بعضاً ( ط ) لو إذا ( ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب ) اليم ( 5 ) والأرض ( ط ) عليه ( ط فصلاً بين حال وحال مع العدول من المخاطبة إلى الغيبة ) بما عملوا ( 5 ) عليم ( 5. التفسير : لما حكى سيرة المنافقين وما قالوه وفعلوه ، أتبعه ذكر ما كان يجب أن يفعلوه وما يجب أن يسلكه المؤمنون من طريق الأخلاق. وعن الحسن أنه قرأ قول المؤمنين بالرفع والقراءة المشهورة وهي النصب أقوى. قال جار الله : لأن أولى الاسمين بكونه اسماً أوغلهما في التعريف ) أن يقولوا ( أوغل لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين. قلت : وذلك لاحتمال كون الإضافة فيه لفظية و ) أن يقولوا ( يشبه المضمر كما بينا في الأنعام في قوله ) ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا ) [ الآية : 23 ] فلا سبيل إلى تنكيره. ومعنى ) كان ( صح واستقام أي لا ينبغي أن يكون قولهم إلا لاسمع والطاعة. عن ابن عباس ) ومن يطع الله ( في فرائضه ) ورسوله ( في سننه ) ويخش الله ( على ما مضى من ذنوبه ويتقهر فيما يستقبل من عمره ) فأولئك هم الفائزون ( وهذه آية جامعة لأسباب الفوز وفقنا الله تعالى للعمل بها. ثم حكى عن المنافقين أنهم يريدون أن يؤكدوا أساس الإيمان بالأيمان الكاذبة. قال مقاتل : من حلف بالله فقد اجتهد في اليمين وكانوا يقولون : والله إن أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا ، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا ، فنهوا عن هذه الأقسام لما علم(5/208)
" صفحة رقم 209 "
من نفاقهم وشقاقهم وإضمارهم الغدر والخديعة وإلافمن حلف على فعل البر لا يجوز أن ينهى عنه. وقوله ( طاعة معروفة ( مبتدأ محذوف الخبر أي طاعة معلومة لا شك فيها ولا نفاق أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة ، أو خبر محذوف المبتدأ أي أمركم الذي يطلب منكم طاعة معروفة لا ارتياب فيها كطاعة الخلص من المؤمنين ، أو طاعتكم طاعة معروفة بأنها بالقول دون الفعل. ثم صرف الكلام من الغيبة غلى الخطاب لمزيد التبكيت والعتاب. ومعنى ) فإن تولوا ( فإن تتولوا فحذف إحدى التاءين. وما حمل الرسول هو أداء الرسالة ، وما حمل على الأمة هو الطاعة والانقياد ، والبلاغ المبين كون التبليغ مقروناً بالآيات والمعجزات أو كونه واقعاً على سبيل المجاهرة لا المداهنة. وههنا شبه إضمار والتقدير : بلغ أيها الرسول وأطيعوه أيها المؤمنون فقد وعد الله الذين آمنوا منكم أي جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح. وفي الوعد معنى القسم لأن وعد الله محقق الوقوع ولذلك قال في جوابه ) ليستخلفنهم ( أو القسم محذوف أي أقسم ليجعلنكم خلفاء في الأرض كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشأم بعد إهلاك الجبابرة. ) وليمكنن ( لأجلهم الدين المرتضى وهو دين الإسلام. وتمكين الدين تثبيته وغشادة قواعده ، كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه فسئموا وشكوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : لا تغبرون إلا يسيراً حتى يجلس الرجل في الملأ العظيم محتبياً ليس معه حديدة ، فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب وورثوا ملك الأكاسرة خزائنهم ، وهذا إخبار بالغيب فيكون معجزاً. ومحل ) يعبدونني ( نصب على الحال أي وعدهم ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم أو هو استئناف كأن قائلاً قال : ما لهم يستخلفون ويؤمنون ؟ فقال : ( يعبدونني ( وعلى الوجهين فقوله ) لا يشركون ( بدل من ) يعبدونني ( أو بيان لها. وفيه دليل علىأن المقصود من الكل هو عبادة الله تعالى والإخلاص له. ) ومن كفر ( بهذه النعم الجسام وهي الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف بعد حصول ذلك أو بعدما ذكر ) فأولئك هم ( الكاملون في الفسق. قال أهل السنة : في الآية دلالة على إمامة الخلفاء الراشدين لأن قوله ) منكم ( للتبعيض وذلك البعض يجب أن يكون من الحاضرين في وقت الخطاب ، ومعلوم أن الأئمة الأربعة كانوا من أهل الإيمان والعمل الصالح ، وكانوا حاضرين وقتئذ وقد حصل لهم الاستخلاف والفتوح ، فوجب أن يكونوا مرادين من الآية. واعترض بأن قوله ) منكم ( لم لا يجوز أن يكون للبيان ، ولم لا يجوز أن يراد بالاستخلاف في الأرض هو إمكان التصرف والتوطن فيها كما في حق بني إسرائيل ؟ سلمنا لكن لم لا يجوز أن يراد به خلافة علي عليه السلام ؟ والجمع للتعظيم أو يراد هو وأولاده الأحد عشر بعده ؟ وقيل : إن في قوله ) ومن كفر بعد ذلك ( إشارة إلى الخلفاء المتغلبين بعد الراشدين يؤيده قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثم(5/209)
" صفحة رقم 210 "
تصير ملكاً عضوضاً ) ) وأقيموا الصلاة ( معطوف على ) أطيعوا ( وليس ببدع أن يقع بين المعطوفين فاصلة وإن طالت ، وكررت طاعة الرسول للتأكيد. من قرأ ) لا يحسبن ( على الغيبة فمفعولاه ) معجزين في الأرض ( أي لا يحسبن الكفرة أحداً يعجز الله في الأرض حتى يطيعوهم في مثل ذلك ، وفالعه ضمير النبي ، أو المفعول الأول محذوف لأنه هو الفاعل بعينه أي لا يحسبن الكفار أنفسهم معجزين والمراد بهم الذين أقسموا أو عام قوله ) ومأواهم ( قال جار الله : هو معطوف على ما تقدم معنى كأنه قيل : الذين كفروا لا يفوتون الله عوز وجل ومأواهم النار. وحين ذكر من دلائل التوحيد وأحوال المكلفين ما ذكر تنشيطاً للاذهان وترغيباً فيما هو الغرض الأصلي من التكاليف وهو العرفان ، عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو الحكم العام في باب الاستئذان فذكره ههنا على وجه أخصر فقال ) ليستأذنكم ( قال القاضي : هذا الخطاب للرجال ظاهراً ولكنه من باب التغليب فيدخل فيه النساء. وقال الإمام فخر الدين الرازي : يثبت للنساء بقياس جلي لأنهن في باب حفظ العورة أشد حالاً من الرجال. وظاهر قوله ) الذين ملكت أيمانكم ( يشمل البالغين والصغار ، فالأمر للبالغين على الحقيقة وللصغار على وجه البيان والتأديب كما يؤمرون بالصلاة لسبع ، أو هو تكليف لنا لما فيه من الصملحة لنا ولهم بعد البلوغ كقولك للرجل ( ليخفك أهلك وولدك ) فظاهره الأمر لهم وحقية الأمر له بفعل ما يخافون عنده. وعن ابن عباس أن المراد الصغار وليس للكبار أن ينظروا إلى مالكيهم إلى إلى ما يجوز للحر أن ينظر غليه. ثم إنه هل يشكل الإماء ؟ فعن ابن عمر ومجاهد لا ، وعن غيرهما نعم ، لأن الإنسان كما يثكره إطلاع الذكور على أحواله فقد كيكره أيضاً إطلاع الإناث عليها. عن ابن عباس : ىية لا يؤمن بها أكثر الناس ىية الإذن وإني لآمر جارتي أن تستأذن عليّ أراد امرأته ، وكان ابن عباس ينام بين جاريتين. ومن العلماء من قال : هذا الأمر للاستحباب. ومنهم من قال للوجوب. ومن هؤلاء من قال : إنه ناسخ لقوله ) لا تدخلو بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا ( لأن ذلك يدل على أن الاستئذان واجب في كل حال ، وهذا يدل على وجوبه في الأوقات الثلاثة فقط ، ومنه لزوم النسخ بأن الأولى في المكلفين وهذه في غير المكلفين قالوا : الذين ملكت أيمانكم يشمل البالغين. قلنا : لو سلم فلا نسخ أيضاً لأن قوله ) غير بيوتكم ( لا يشمل العبيد لأن الإضافة توجب الاختصاص والملكية ، والعبد لا يملك شيئاً فلا يملك البيت أمر المماليك والأطفال الذين لم يحتملوا من الأحرار وهذا معنى قوله ) نكم ( أن تستأذنوا ثلاث مرات في اليوم والليلة. إحداها قبل صلاة الفجر لأنه وقت القيام من المضاجع ووقت استبدال ثياب اليقظة بثياب النوم ، وثانيتها عند الظهيرة وهو نصف النهار عند اشتداد(5/210)
" صفحة رقم 211 "
الحر وظهوره فحينئذ يضع الناس ثيابهم غالباً ، وثالثها بعد صلاة العشاء يعني الآخرة لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم. ثم بين حكمة الاستئذان في هذه الأوقات فقال ) ثلاث عورات ( فمن قرأ ) ثلاث ( بالرفع فظاهر كما مر في الوقوف ، ومن قرأ بالنصب فقد قال في الكشاف : إنه بدل من ) ثلاث مرات ( أي أوقات ثلاث عورات قلت : هذا بناء على أن قوله ) ثلاث مرات ( ظرف ويجوز أن يكون ) ثلاث مرات ( مصدراً بمعنى ثلاثة استئذانات ، ويكون ) ثلاث عورات ( تفسيراً وبياناً للأوقات الثلاثة لأنها منصوبة تقديراً. وأصل العورة الخلل ومنه الأعور المختل العين ، وأعور الفارس إذا بدا منه موضع خلل للضرب ، وأعور المكان إذا خيف فيه القطع. قال جار الله : إذا رفعت ) ثلاث عورات ( فمحل هذه الجملة الرفع على الوصف أي هن ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان ، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاماً مقرراً للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة. ثم بين وجع العذر بقوله ) طوّافون عليكم ( وهم الذين يكثرون الدخول والخروج والتردد يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المداخلة والمخالطة للاستخدام ونحوه. وارتفع ) بعضكم ( بالإبتداء وخبره ) على بعض ( أو بالفاعلية أي بعضكم طائف ، أو يطوف بعضكم على بعض يدل على المحذوف طوّافون. وفي الاية دلالة على وجوب اعتبار العلل في الأحكام ما أمكن. يروى أن مدلج بن عمرو وكان غلاماً أنصارياً أرسله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقت الظهيرة غلى عمر ليدعوه ، فدخل عليه وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر : لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن. ثم انطلق معه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية. ثم بين حكم الأطفال والأحرار بعد البلوغ وهو أن لا يكون لهم الدخول إلا بإذن في جميع الأوقات ، . ومعنى ) الذين من قبلهم ( الذين بلغوا الحلم من قبلهم وهم الرجال الذين ذكروا من قبلهم في قوله ) يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوات بيوتاً ( الآية. ومتى يحكم ببلوغ الطفل ؟ اتفقوا على أنه إذا احتلم كان بالغاً وأما إذا لم يحتلم فعند عامة العلماء وعليه الشافعي أنه إذا بلغ خمس عشرة سنة فهو بالغ حكماً لما روي أن ابن عمر عرض على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد فلم يجزه وكان له اقل من خمس عشرة سنة ، وعرض عليه يوم الخندق وكان ابن خمس عشرة سنة فأجازه. وعن بعض السلف ويروى عن علي عليه السلام أيضاً أنه كان يعتبر القامة ويقدر بخمسة الأشبار وعليه يحمل قول الفرزدق : ما زال مذ عقدت يداه إزاره
فسما وأدرك خمسة الأشبار(5/211)
" صفحة رقم 212 "
وإثبات العانة غير معتبر إلا في حق الأطفال الكفار وقد مر في أول سورة النساء. وإنما ختم هذه الآية بقوله ) كذلك يبين الله لكم آياته ( وقبلها وبعدها ) لكم الآيات ( لأنهما يشتملان على علامات يمكن الوقوف عليها وهي في الأولى الأوقات الثلاثة ، وفي الآخرة ) من بيوتكم أو بيوت آبائكم ( إلى آخرها ومثلهما في قوله ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات ) [ النور : 17 ] يعني حد الزانيين وحد القاذف. وأما بلوغ الأطفال فلم يذكر لها علامات يمكن الوقوف عليها بل تفرد سبحانه بعلم ذلك فخصها بالإضافة إلى نفسه. ) والله عليم ( بمصالح العباد ) حكيم ( في أوامره ونواهية. ثم بين حكم النساء اللواتي خرجن عن محل الفتنة والتهمة فقال و ) القواعد ( وهي جمع ( قاعد ) بغير هاء كالحائض والطالق ، وقد زعم صاحب الكشاف لها أنها جمع قاعدة بالهاء وفيه نظر لأنه من أوصاف النساء الخاصة بهن ، سميت بذلك لقعودها عن الحيض والولد لكبرها ولذلك أكد بقوله ) اللاتي لا يرجون نكاحاً ( أي لا يطمعن فيه لعدم من يرغب فيهن وليست من القعود بمعنى الجلوس حتى يحتاج إلى الفرق بين المذكر والمؤنث ، ولا شبهة أنه لا يحل لهن وضع كل ثيابهن لما فيه من كشف كل عورة فلذلك قال المفسرون : المراد بالثياب ههنا الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار. وعن ابن عباس أنه قرأ ) أن يضعن جلابيبهن ( وعن السدي عن شيوخه يضعن خمرهن عن رؤوسهن ، خصهن الله تعالى بذلك لأن التهمة مرتفعة عنهن وقد بلغن هذا المبلغ ، فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهن وضع شيء من الثياب الظاهر ، وإنما أبيح وضع الثياب حال كونهن ) غير متبرجات بزينة ( أي غير مظهرات شيئاً من الزين الخفية المذكورة في قوله ) ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ( أو غير قاصدات بالوضع التبرج ولكن التخفف إذا احتجن إليه. وحقيقة التبرج تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه من قوله ( سفينة بارج لا غطاء عليها ). واليرج سعة العين يرى بياضها محيطاً بسوادها لا يغيب منه شيء. واختص التبرج في الاستعمال بتكشف المرأة للرجال. وحين ذكر الجائز عقبه بالمستحب تنبيهاً على اختيار الأفضل في كل باب فقال ) وأن يستعففن خير لهن ( وذلك أنهن في الجملة مظنة شهوة وفتنة وإن عرض عارض الكبر والنحول فلكل ساقطة لاقطة. وسئل بعض الظرفاء المذكورين عن حكمة تستر النساء فقال : لأنهن محل فتنة وشهوة فقيل : فعلى هذا كان ينبغي أن لا يحسن تكليف العجائز بالتستر فأجاب بأنه كان يلزم إذ ذاك مصيبتان : أحدهما عدم رؤية الحسان ، والثانية لزوم رؤية القباح. ثم ختم السورة بسائر الصور التي يعتبر فيها الإذن فقال ) ليس على الأعمى حرج ( نفى الحرج عن الأصناف الثلاثة ذوي العاهات ثم قال ) ولا على أنفسكم أن تأكلوا ( فذهب(5/212)
" صفحة رقم 213 "
ابن زيد إلى أن المراد نفي الحرج عنهم في القعود عنالجهاد ، ثم عطف على ذلك أنه لا حرج عليكم أن تأكلوا من البيوت المذكورة. ووجه صحة العطف التقاء الطائفتين في أن كل واحدة منهما منفي عنها الحرج. قال جار الله : مثال هذا أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر فقلت : ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم على النحر. وقال آخرون : كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي الآفات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها ، فخالج قلوب الكل ريبة خوفاً من أن يكون أكلاً بغير حق لقوله ) لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) [ البقرة : 188 ] فقيل : لهم ليس على هؤلاء الضعفاء ولا على أنفسكم يعني عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين حرج في ذلك. قال قتادة : كانت الأنصار في أنفسها قزازة وكاننت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا. والقزازة احتراز مع القزة وهي مدح ، والكوزازة ذم. وروى الزهري عن سعيد بن السمي وغيره أن المسلمين كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ويدفعون إليهم المفاتيح ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم ، فكانوا يتحرجون كما يحكى عن الحرث بن عمرو أنه خرج غازياً وخلف مالك بن زيد في ماله وبيته ، فلما رجع رآه مجهوداً فقال : ما أصابك ؟ قال : لم يكن عندي شيء ولم يحل لي أن آكل من مالك. فقيل : ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تخرجوا عنه ، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت. قال الأكثرون : كان هؤلاء الضعفاء يتوقون مجالسة الناس ومواكلتهم فيقول الأعمى : إني لا ارى شيئاً فربما آخذ الأجود وأترك الردئ ، والأعرج يفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه ، والمريض لا يخلو من رائحة أو غيرها من اسباب الكراهة. وأيضاً كان المؤمنون يقولون الأعمى لا يبصر الطعام الجيد ولا يأله ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس فلا يقدر على الأكل مما ينبغي ، والمريض لا يتأتى له أن يأكل كما يأكل الأصحاء فقيل : ليس على هؤلاء ولا عليكم في المؤاكلة حرج. ثم إنه تعالى عدد من مواضع الأكل أحد عشر موضعاً : الأول قوله ) من بيوتكم ( وفيه سؤال : وهو أنه أيّ فائدة في غباحة أكل الإنسان طعامه من بيته ؟ والجواب أراد من بيوت أزواجكم وعيالكم لأن بيت المرأة بيت الزوج قاله الفراء. وقال ابن قتيبة : اراد بيوت أولادهم ولهذا لم يذكر الأولاد في جملة الأقارب وإن الولد أقرب الأقربين لأنه بعض الرجل وحكمه حكم نفسه ، وفي الحديث ( إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه )(5/213)
" صفحة رقم 214 "
وباقي البيوت لا إشكال فيها إلى البيت العاشر وهو قوله ) أو ما ملكتم مفاتحه ( وفيه وجوه : أحدها قال ابن عباس وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا باس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته وملك المفاتيح كونها في يده وحفظه. وثانيها قال الضحاك : يريد الزمنى الذين يخلفون الغزاة. وثالثها قيل : أراد بيوت المماليك لأن مال العبد لمولاه. الحادي عشر قوله ) أو صديقكم ( ومعناه أو بيوت أصدقائكم والصديق يكون واحداً وجمعاً كالعدو. وعن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من اصدقائه وقد استلوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص واطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون ، فتهللت أسارير وجهه سروراً وضحك وقال : هكذا وجدناهم يريد أكابر الصحابة. وعن جعفر الصادق بن محمد عليه السلام : من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الإنس والثقة والانبساط بمنزلة النفس والأب والأخ والابن. قال العلماء : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح ، وربما سمج الاستئذان وثقل كمن قدم غليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه. احتج أبويوسف بالآية على أنه لا قطع على منسرق من ذي رحم محرم وذلك أنه تعالى أباح الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذن فلا يكون ماله محرزاً منهم ، وأورد عليه أن لا يقطع إذا سرق من صديقه. فأجاب بأن السارق لاي كون صديقاً للمسروق منه. واعلم أن ظاهر الآية دل على أن إباحة الأكل من هذه المواضع لا تتوقف على الاستئذان. فعن قتادة أن الأكل مباح ولكنه يجمل. وجمهور العلماء أنكروا ذلك فقيل : كان ذلم مباحاً في صدر الإسلام ثم نسخ ذلك بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ) ومما يدل على هذا النسخ قوله ) لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ) [ الأحزاب : 53 ] وقال أبو مسلم : هذا في الأقارب الكفرة. وفي هذه الآية إباحة ما حظر وفي قوله ) لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ) [ المجادلة : 22 ] وقيل : إن هؤلاء القوم كانت تطيب أنفسهم بأكل من يدخل عليهم والعادة كالإذن في ذلك فلا جرم خصهم الله بالذكر لأن هذه العادة في الأغلب توجد فيهم ولذلك ضم إليهم الصديق. وإذا علمنا أن الإباحة إنما حصلت في هذه الصورة لأجل حصول الرضا ، فلا حاجة إلى القول بالنسخ. وحين نفى الحرج عنهم في نفس الأكل أراد أن ينفي الحرج عليهم في كيفية الأكل فقال ) ليس عليكم جناح أن تأكلوا ( وانتصب قوله ) جميعاً أو اشتاتاً ( على الحال أي مجتمعين أو متفرقين. والأشتات جمع شت وهو نعت وقيل مصدر وصف به. ثم اجمع أكثر المفسرين ومنهم ابن عباس على أنها نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرّجون(5/214)
" صفحة رقم 215 "
عن الانفراد في الطعام ، فربما قعد الرجل منتظراً نهاره إلى الليل فإن لم يجد من يؤاكله أكل. وقال عكرمة وأبو صالح : نزلت في قوم من الأنصار لا يأكلون إلا مع ضيفهم. وقال الكلبي : كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاماً عزلوا للأعمى طعاماً على حدة ، وكذلك الزمن والمريض فبين الله لهم أن ذلك غير واجب. وقال آخرون : كانوا يأكلون فرادى خوفاً من أن يحصل عند الجمعية ما ينفر أو يؤذى فرفع الله الحرج. ثم علمهم أدباً جميلاً قائلاً ) فإذا دخلتم بيوتاً ( أي من البيوت المذكورة لتأكلوا ) فسلموا على أنفسكم ( أي ابدؤا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة وانتصب ) تحية ( ب ) سلموا ( نحو ( قعدت جلوساً ) ومعنى ) من عند الله ( أنها ثابتة من عنده مشروعة من لدنه ، أو أراد أن التحية طلب حياة للمخاطب من عند الله وكذا التسليم طلب السلامة له من عنده. ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق وتضعيف الثواب. عن أنس قال : كنت واقفاً على رأس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصب الماء على يديه فرفع رأسه فقال : ( ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها ؟ قلت : بلى بأبي وأمي يا رسول الله. قال : متى لقيت من أمتى أحداً فسلم عليه يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصلّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوّابين ). قال العلماء : إن لم يكن في البيت أحد فليقل ( السلام علينا من ربنا ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) ومن صور الإذن قوله سبحانه ) وإنما المؤمنون ( الآية. والمقصود أن يبين عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بغير إذنه ) إذا كانوا معه على أمر جامع ( وهو الذي يجمع له الناس. فلما كان الأمر سبب الجمع وصف به مجازاً. قال مجاهد : هو أمر الحرب ونحوه من الأمور التي يعم ضررها ونفعها. وقال الضحاك : هو الجمعة والأعياد وكل شيء تكون فيه الخطبة. وذلك أنه لا بد في الخطوب الجليلة من ذوي رأي وقوة يستعان بهم وبآرائهم وتجاربهم في كفايتها ، فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال مما يشق على قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويشعب عليه رأيه. قال الجبائي : في الآية دلالة على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم ولولا ذلك لحاز أن يكونوا كاملي الإيمان وإن تركوا الاستئذان. وأجيب بأن ترك الاستئذان من أهل النفاق لا نزاع أنه كفر لأنهم تركوه استخفافاً. قال جار الله : ومما يدل على عظم هذه الجناية أنه جعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه فيأذن لهم ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله ، ومع ذلك صدر الجملة بإنما وأوقع المؤمنين مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين. ثم عقبه بمزيد توكيد وتشديد حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله ) إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله ( فجعل الاستئذان كالمصدق الصحة الإيمان بالله والرسول وفيه تعريض بحال المنافقين وتسللهم لواذاً. وفي قوله ) لبعض شأنهم ( دليل على(5/215)
" صفحة رقم 216 "
أن أمر الاستئذان مضيق لا يجوز ارتكابه في كل شأن. وفي قوله فأذن لمن شئت منهم ( دلالة على أنه تعالى فوّض بعض أمر الدين إلى اجتهاد الرسول ورايه. وزعم قتادة أنها منسوخة بقوله ) لم أذنت لهم ) [ التوبة : 43 ] وفي قوله ) واستغفر لهم الله ( وجهان : أحدهما أن هذا الاستغفار لأجل أنهم تركوا الأولى والأفضل وهو أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه ، والآخر أنه جبراً لهم على تمسكهم بإذن الله تعالى في الاستئذان. ثم حثهم على طاعة رسوله بقوله ) لا تجعلوا دعاء الرسول ( اي لا تقيسوا دعاءه غياكم لخطب جليل على دعاء بعضكم بعضاً ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي ، وذلك أن أمره فرض لازم وأمر غيره ليس بفرض ، وإنما هو أدب مستحن رعايته مع الأئمة والمتقدمين. هذا ما عليه الأكثرون منهم المبرد والقفال ، وعن سعيد بن جبير : لا تنادوه باسمه ولا تقولوا ( يا محمد ) ولكن ( يا نبي الله ويا رسول الله ) مع التوقي والتعظيم والصوت المنخفض. وقيل : اراد احذروا دعاء الرسول ربه عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره. والتسلل الانسلال والذهاب على سبيل التدرج ، واللواذ الملاوذة وهو أن يكون هذا بذاك وذاك بهذا. وانتصابه على الحال والحاصل أنهم يتسللون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة وهو استتار بعضهم ببعض. وقيل : كان يلوذ من لم يؤذن له بالذي أذن له فينطلق معه. قال مقاتل : هذا في الخطبة. وقال مجاهد : في صف القتال. وقال ابن قتيبة : نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن. ومعنى ) قد يعلم ( يكثر العلم والمبالغة فيه كما مر في ( البقرة ) في قوله ) قد نرى تقلب وجهك ) [ البقرة : 144 ] يقال : خالفته عن القتال أي جبنت عنه واقدم هو وخالفته إلى القتال اي اقدمت ، وجبن هو الفتنة المحنة في الدنيا كالقتل أو الزلازل ، وسائر الأهوال والعذاب الليم هو عذاب النار. وعن جعفر بن محمد عليه السلام : الفتنة أن يسلط عليهم سلطان جائر. وقال الأصوليون : في الآية دلالة على أن ظاهر الأمر للوجوب لأن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر فإن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه والموافقة ضد المخالفة ، فإذا أخل بمقتضاه كان مخالفاً والمخالف مستحق للعقاب بالآية ، ولا نعني بالوجوب إلا هذا. واعترض عليه بأن نوافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه على الوجه الذي يقتضيه الأمر ، فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب وأنت تأتي على سبيل الوجوب كان ذلك مخالفة الأمر. ومنع من أن المندوب مأمور به فإن هذا أول المسألة ، والظاهر أن الضمير في أمره للرسول ولو كان لله لم يضر لأنه لا فرق بين أمر الله وأمر رسوله ، وأمر الرسول متناول عند بعضهم للقول والفعل والطريقة كما يقال طأمر فلان مستقيم ( وعلى هذا فكل ما فعله الرسول فإنه يكون(5/216)
" صفحة رقم 217 "
واجباً علينا. ثم بين كما قدرته وعمله بقوله ) ألا أن لله ( الخ. تأكيد الوجوب الحذر. قال جار الله : الخطاب والغيبة في قوله ) ما أنتم عليه ويوم يرجعون ( كلاهما للمنافقين على طريقة الالتفات إذ الأول عام والثاني لأهل النفاق. وأقول : يحتمل أن يكون كلاهما عاماً للمنافقين. والفاء في قوله ) فينبئهم ( لتلازم ما قبلها وما بعدها كقولك ) وربك فكبر ) [ المدثر : 3 ]. التأويل : ( ومن يطع الله ورسوله ( فيما يدعوانه إلى الحضرة بترك ما سوى الله ) ويخشى ( الانقطاع عن الله ويثق به عما سواه ) فأولئك هم الفائزون ( بالوصول والوصال وصالاً بلا انفصال وزوال ) لئن أمرتهم بالخروج ( عن غير الله ) طاعة معروفة ( بالفعل دون القول ) ليستخلفنهم ( ليخرجن ما في استعدادهم من خلافة الله في أرض البشرية من القوة إلى الفعل. ) وليمكن ( كل صنف حمل الأمانة المودعة فيه على اختلاف مراتبهم وطباقتهم ، فمنهم حفاظ لأخبار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وللقرآن ، ومنهم علماء الأصول ، ومنهم علماء الفروع ، ومنهم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق وأرباب السلوك الكاملون المكملون ، وإنهم خلفاء الله على الحقيقة وأقطاب العالم وأوتاد الأرض ) وليبدلنهم من بعد خوفهم ( من الشرك الخفي ) أمنا يعبدونني ( بالإخلاص لا يشركون بي شيئاًر من مطالب الدنيا والآخرة ) ليستأذنكم ( المريدون الذين هم تحت تصرفكم ) والذين لم يبلغوا ( أوان الشيخوخةو ) ثلاث مرات ( في المبادي وفي أوساط السلوك وفي نهاية أمرهم ، فإذا صلحت أحوالهم في هذه الأوقات صلح سائرها في الأغلب والله المستعان. ) والقواعد ( فيه إشارة غلى أن المريد إذ صار بحيث أمن منه إفشاء الأسرار وما استودع فيه من متولدات الأحوال ، فلا ضير عليه أن لا يبالغ في التستر والإخفاء من الأغيار والكتمان خير له ) ليس على الأعمى حرج ( قال الشيخ المحقق ندم الدين المعروف بداية رضى الله عنه : فيه إشارة إلى أن من لا يبصر إلا بالله ولا يمشي إلا بالله ولا يعلم إلا بالله فإنهم مخصوصون بالتكون بكينونة الله كما قال ) كنت له سمعاً ( الحديث. فإنهم مستعدون لقبول الفيض الإلهي وهم السابقون المقربون فلا حرج في الشرع على من يكون مستعداً لهذا الكمال ، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. وفي قوله ) ولا على أنفسكم ( الخ إشارة إلى أنه لا حرج على أرباب النفوس على أن يكون مأكلهم من بيوتهم أو بيوت أبناء جنسهم وهي الجنات ومراتبها كما قال ) فيها ما تشتهيه الأنفس ) [ الزخرف : 71 ] وفي قوله ) أو ما ملكتم مفاتحه ( إشارة إلى أن درجات الجنة مساكن أهل المكاسب كما أن مقامات أهل القرب عند مليك مقتدر منازل أهل المواهب. قوله ) أو صديقكم ( فيه أن درج الجنان ينالها المرء ببركة جليسه الصالح ، وقد ينعكس نور(5/217)