" صفحة رقم 493 "
صنف صار كل قسم حقيراً صغيراً غير منتفع به في مهم معتبر. وعن سعيد بن جبير لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحب إلي. وقال الشافعي : لا بد من صرفها ، إلى الأصناف الثمانية وهو قو لعكرمة والزهري وعمر بن عبد الشافعي : لا بد من صرفها ، إلى الأصناف الثمانية وهو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز. واحتجوا عليه بأن الله تعالى ذكر هذه القسمة في نصر الكتاب ثم أكدها بقوله ) فريضة من الله ( وهو في معنى المصدر المؤكد لأن قوله ) إنما الصدقات للفقراء ( في قوة قوله فرض الله الصدقات لهم ، وهذا كالزجر عن مخالفة من الآية. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله تبارك وتعالى لم يرض بقسمة ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه ). ثم ختم الآية بقوله ) والله عليم ( أي بتقدير الأنصباء والمصالح ) حكيم ( لا يفعل إلا ما هو الأصوب والأصلح وكل هذه المؤكدات دليل على وجوب الاحتياط في صرف الزكاة ، ومن ههنا قال الشافعي : لا بد في كل صنف من ثلاثة لأنه تعالى ذكر أكثر الأصناف بلفظ الجمع وأقل الجمع ثلاثة ، فإن دفع نصيب الفقراء إلى اثنين غرم للثالث أقل متمول على الأقيس لا الثلث ، لأن التفضيل في أفراد الصنف جائز للمالك لأن العدد من كل صنف غير محصور فيصعب اعتبار التسوية بخلاف التسوية بين الأصناف لأنهممحصورون فتسهل التسوية بينهم. الحكم الرابع : العامل والمؤلفة قلوبهم مفقودان في زماننا فبقي أن تصرف الزكاة إلى الأصناف الستة الباقية كما لو فقد بعض الأصناف في بلد فإنه يصرف إلى الباقين ، ولا يؤمر بالنقل إلى بلد وجدوا فيه جميعاً والأحوط رعاية التسوية بينهم على ما يقوله الشافعي ، أما إذا لم يفعل ذلك فإنها مجزئه عند سائر الأئمة. أما الحكمة في إيجاب الزكاة فهو أن المال محبوب بالطبع لأن القدرة من صفات الكمال والمال سبب. لحصول القدرة على المشتهيات والمآرب لكن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت الحكمة الإلهية تكليف مالك المال إخراج طائفة منه كسراً للنفس ومنعاً من انصبابها بالكلية إليه. فإيجاب الزكاة علاج صالح لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب وهو المراد من قوله ) أخذ من أموالهم صدقة تطهرهم ( أي عن دنس الاستغراق في حب المال. وأيضاً إن كثرة الأموال توجب القوة والقدرة والشدة ، وتزايد تلك اللذات يدعو الإنسان إلى تحصيل الأموال المتزايدة فتصير المسألة دورية لا مقطع لها ولا آخر فأثبت الشرع لها مقطعاً وآخراً وهو صرف طائفة من المال في طلب مرضاة الله ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ويفضي في الأغلب إلى الطغيان وقساوة القلب. وأيضاً النفس الناطقة لها قوتان : نظرية وكالها في التعظيم لأمر الله ، وعملية وكمالها في(3/493)
" صفحة رقم 494 "
الشفقة على خلق الله فأوجب الله الزكاة ليتصف جوهر الروح بهذا الكمال ويصير بسبب ذلك محسناً إلى الخلق ، وإذا أحسن إليهم أمدوه بالدعاء والهمة. وأيضاً المال سمي مالاً لكثرة ميل كل أحد إليه وهو غاد ورائح سريع الزوال مشرف على التلف والبوار ، فإذا أنفقه لوجه الله بقي بقاء لا يمكن زواله. وفي إنفاق المال تشبه بالمجردات والمفارقات وليس الغنى إلا عن الشيء لا به لأن الاستغناء عن الشيء صفة الحق والاستغناء بالشيء صفة المخلوقين العاجزين ، ففي الأمر بالزكاة نقل للإنسان من درجة أدنى إلى درجة أعلى. وأيضاً للإنسان روح وبدن ومال فإذا بذلك الورح في الاستغراق في بحار معرفة الله ، وبذل البدن في العبودية لله والصلاة له فكيف يليق به أن لا يبذل المال في ابتغاء مرضاته ؟ وأيضاً إذا فضل المال عن قدر الحاجة وحضر إنسان آخر محتاج فههنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال ، أما في حق المالك فهو أنه سعى اكتسابه وتحصيله وتعلق قلبه به ، وأما في حق الفقير فلاحتياجه الموجب للتعلق به فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت حكمة الشارع رعاية كل منهما بقدر الإمكان. ورجح جانب المالك لأن له حق الاكتساب وحق التعلق فأبقى عليه الكثير وأمر بصرف جزء يسير إلى الفقير توفيقاً بين الأمرين وجمعاً بين المصحلتين مع رعاية المال عن التعطيل فلا معطل في الوجود. وأيضاً الأغنياء خزان الله لأن المال مال الله وهم عبيده ولولا أنه ألقاها في أيديهم لما ملكوا منها حبة ، فكم من عاقل لا يملك ملء بطنه ، وكم من غافل تأتيه الدنيا عفواً صفواً. وليس بمستبعد أن يقول الملك لخزّانه اصفوا طائفة من مال خزانتي إلى المحتاجين من عبدي. وأيضاً إن الأغنياء لو لم يلزموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملتهم شدة الحاجة على تحصيل المال من وجوه منكرة كالسرقة ونحوها أو على الاتحاق بأعداء المسلمين. وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر ) وكأن تعالى يقول للغني أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين فأخر من يدك نصيباً منه حتى تصبر على فقدان المال فتصير من الصابرين ، ويقول للفقير ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين ولكني أوجبت على الغني أن يصرف إليك طائفة من المال لتشكرني فتكون من الشاكرين. وأيضاً أراد الله سبحانه أن يكون الغني منعماً على الفقير بما يؤديه إليه ويكون الفقير منعماً على الغني بما قبله منه ليحصل الخلاص في الدنيا من الذم والعار وفي الآخرة من عذاب النار. ثم حكى نوعاً من فضائح المنافقين وهو أنهم كانوا يقولون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على وجه الطعن والذم ) هو أذن ( عن ابن عباس كانوا يؤذون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) (3/494)
" صفحة رقم 495 "
ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فنحلف له. فقال الجلاس بن سويد ، نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدنا بما نقول فإنما محمد أذن سامعة فنزلت الآية. وقال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره : نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحرث وكان رجلاً أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة وهو الذي قال فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحرث ) وكان ينم حديث النبي صل الله عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له : لا تفعل فقال : إنما محمد أذن من حدثه شيئاً صدقه نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدّقنا. وقال السدي : اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت فأرادوا إن يقعوا في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس ، فحقروه فتكلموا وقالوا إن كان ما يقوله محمد حقاً لنحن شر من الحمير فغضب الغلام وقال : والله إن ما يقول محمد حق وإنكم لشر من الحمير ، ثم أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره فدعاهم فسأهلم فحلفوا أن عامراً كاذب وحلف عامر أنهم كذبة. وقال : اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق من كذب الكاذب فنزلت الآيتان. قال علماء اللغة : الأذن الرجل الذي يصدق بكل ما يسمع ويقبل قول كل أحد سمي بالجارحة التي هي آلة السماع كأنه جملته أذن سامعة ومثله قولهم للربيئة عين. وفسر إيذاءهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأنهم يقولون له أذن وذلك أنهم قصدوا به المذمة وأنه ليس ذا ذكاء ولا بعيد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع. ويجوز أن يراد بالإيذاء أنواع أخر سوى هذا القول أي يؤذونه بالغيبة والنميمة وسائر أنواع الأذية ويقولون في وجه الاعتذار عن ذلك هو أذن يقبل كل ما يسمع ، فنحن نأتيه فنعتذر إليه فيسمع عذرنا فيرضى ، ثم إنه سبحانه أجاب عن قولهم فقال ) قل أذن خير لكم ( بالإضافة كقولهم : رجل صدق يريدون الجودة والصلاح. ومجوز الإضافة هو الملابسة كأنه قيل : نعم هو أذن ولكن نعم الأذن إذ أريد هو أذن ف يالخير والحق وفيما يجب سماعة وقبوله وليس بإذن في غير ذكل ويؤيده قراءة حمزة ) رحمة ( بالجر عطفاً عليه عطف الخاص على العام أي هو أذن خير ورحمة لا يسمع ولا يقبل غيرهما. ثم بين كونه أذن خير بأنه ) يؤمن بالله ( أي يقرّ به ويعترف بوحدانيته لما قام عنده من الأدلة ) ويؤمن للمؤمنين ( يسلم لهم قولهم لوثوقه بقولهم وعلمه بإخلاصهم لا لكونه من أهل الغرة والبله ) و ( هو ) رحمة للذين آمنوا منكم ( باللسان دون الجنان لأنه يجري أمركم على الظاهر ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم فإن الله هو الذي يتولي السرائر ولهذا ختم الآية بقوله ) والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ( وأما من قرأ ) أذن خير ( بالرفع فيهما فعلىا أن الإذن(3/495)
" صفحة رقم 496 "
خبر مبتدأ محذوف و ) خير ( كذلك أي هو أذن هو خير. والمعنى هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم لأنه يقبل معاذيركم ويتغافل عن جهالاتكم فتحفظ بذلك دماؤكم وأموالكم. وقيل : التقدير قل أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد. ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن وهو قوله ) يؤمن بالله ( إلى آخره. ووجه ثالث ذكره صاحب النظم واستحسنه الواحدي وهو أن قوله ) أذن ( وإن كان رافعاً في الظاهر لكنه نصب في الحقيقة على الحال وتأويله : قل هو أذنا خير لكم. ذكر أن من قبائح المنافقين إقدامهم على الأيمان الكاذبة فقال ) يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه ( أي كان من الواجب أن يرضوا الله تعالى بالإخلاص والتوبة لا بإظهار ما يستسرون خلافه. وإنما لم يقل يرضوهما تعظيماً لله بالإفراد بالذكر ، أو المراد والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك ، أو وقع الاكتفاء بذكر الله لأن رضا الله ورضا رسوله شيء واحد كما يقال إحسان زيد وإجماله بعثني ومعنى ) إن كانوا مؤمنين ( أي بزعمهم. ثم وبخهم بقوله ) ألم يعلموا ( وذلك أنه يقال ذلك لمن تتولع في تعليمه مدة ثم لم يظهر عليه أثر العلم والرشد ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) طال مكثه فيهم وكثر تحذيره عن المعصية وترغيبه في الطاعة. والضمير في قوله ) أنه ( للشأن وفائدته مزيد التعظيم والتهويل. والمحادة المخالفة لأن كلاً منهما في حد غير حد صاحبه كالمشاقة لأن كلاً منهما في شق آخر. وقال أبو مسلم : هي من الحديد حديد السلاح. ثم ذكر في الجزاء قوله ) فإن له ( بالفتح أي فحق أن له ) نار جهنم ( وقيل ( أن ) مكرر للتأكيد والتقدير فله نار جهنم. وقيل ( فإن ) معطوف على ( أنه ) وجواب من محذوف وهو يهلك. قال الزجاج : يجوز كسر ( أن ) على الاستئناف بعد الفاء ولكن القراءة بالفتح. ونقل الكعبي في تفسيره أنه قرىء بالكسر. قال السدي : قال بعض المنافقين : والله لوددت إني قدمت فجلدت مائة جلده ولا ينزل فينا شيء فيفضحنا فأنزل الله تعالى ) يحذر المنافقين ( وقال مجاهد : كانوا يقولون القوم بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشى علينا سرنا فنزلت. والضمير في ) عليهم ( و ) تنبئهم ( للمؤمنين وفي ) قلوبهم ( للمنافقين ، ويجوز أن تكون الضمائر كلها للمنافقين لأن السورة إذا نزلت ي معناهم فهي نازلة عليهم وكأنها تخبر عما في بواطنهم وتذيع عليهم أسرارهم. قيل : المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحي لأنه غير قائل به ؟ وأجيب بأنهم عرفوا ذلك بالتجربة أو كفرهم كان كفر عناد أو كانوا شاكين في صحة نبوته والشاك في أمر خائف من وقوعه ، أو هذا الخبر في معنى الأمر أي ليحذر المنافقون : عن أبي(3/496)
" صفحة رقم 497 "
مسلم أنهم أظهروا هذا الحذر على سبيل الاستهزاء ولهذا أجابهم الله بقوله ) استهزؤا ( وهو أمر تهيديد ) إن الله مخرج ما تحذرون ( مظهر ما تحذرونه من نفاقكم أو محصل إنزال السورة لأن الشيء إذا حصل بعد عدم فكأن فاعله أخرجه من العدم إلى الوجود. قوله ) ولئن سألتهم ( الآية. عن ابن عمر أن رجلاً من المنافقين في غزوة تبوك. ما رأيت مثل هؤلاء الفراء أرغب فقال واحد من المؤمنين : كذبت وأنت منافق. ثم ذهب ليخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال : يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنا كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به عنا الطريق قال ابن عمر : رأيت عبد الله بن أبيّ يشتد قدام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات. فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك فقال : احبسوا عليّ الركب فأتاهم فقال : قلتم كذا وكذا فقالوا : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. قال الواحدي : أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ثم كثر حتى أطلق على كل دخول فيه تلويث وأذى أي كنا نخوض في الباطل كما يخوض الركب لقطع الطريق. ثم أمر نبيه بأن يقول فيجوابهم ) أبا لله ( أي بتكاليفه أو بأسمائه أو بقدرته حيث استبعدتم إعانته النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه على فتح قصور الشام ) وآياته ( يعني القرآن ) ورسوله كنتم تستهزؤن ( لم يعبأ باعتذارهم فجعلوا كأنهم معترفون بوقوع الاستهزاء منهم فأوقع الإنكار على الاستهزاء بالله بأن ألوى الاستفهام الذي يفيد التقرير المستهزأ به ولم يقل ( اتستهزؤن بالله ). ثم قال : ( لا تعتذروا ( نقل الواحدي عن أئمة اللغة أن معنى الاعتذار محو أثر الذنب أو قطعه من قولهم : اتعذر المنزل إذا درس. واعتذرت المياه إذا انقطعت ، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع. والعذر سبب لقطع اللوم ، نهاهم الله عن الاعتذار بالخوض واللعب لأن الشيء الذي يوجب الكفر لا يصلح للعذر. ثم بين ذلك بقوله ) قد كفرتم ( أي صريحاً ) بعد إيمانكم ( أي بعد الإيمان الذي أظهرتموه. وفيه أن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر بالله صريح لأن العمدة الكبرى في الإيمان هو التعظيم لأمر الله ولشرائعه. ) إن نعف عن طائفة منكم ( ذكر المفسرون أنهم كانوا ثلاثة ، استهزأ اثنان وضحك الثالث ، ولما كان ذنب الضاحك أخف لأنه لم يوافق(3/497)
" صفحة رقم 498 "
القوم في الكفر فلا جرم عفا الله عنه. وفيه إشارة إلى أنه من خاض في عمل باطل فعليه أن يجتهد في التقليل ويحذر من الانهماك فإنه يرجى له ببركة ذلك القليل أن يعفو الله عنه الكل. قال الزجاج : الطائفة في اللغة الجماعة لأنها المقدار الذي يمكنه أن يطيف بالشي ، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة قال تعالى ) وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ( ) النور : 2 ] وأقله الواحد. وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال : ( الطائفة الوحد فما فوقه. ووجه بأن من اختار مذهباً فإنه ينصره ويذب عنه من كل الجوانب فلا يبعد أن يسمعى طائفة بهذا السبب والتاء للمبالغة. وقال ابن الأنباري : العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد وقال تعالى ) الذين قال لهم الناس ) [ آل عمران : 173 ] يعني نعيم بن مسعود. ثم علل كونه معذباً للطائفة الثانية ) بأنهم كانوا مجرمين ( أي مصّرين مستمرّين على الجرم ، ويجوز أن يكون سبب العفو عن الطائفة الأولى إحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق ، ويجوز أن يراد بالعذب إلى الظرف كما تقول : سير بالدابة دون سيرت. وقرىء بالتأنيث ذهاباً إلى المعنى كأنه قيل : إن ترحم طائفة. ثم ذكر جملة أحوال المنافقين. وأن إناثهم في ذلك كذكورهم فقال ) المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ( أي في صفة النفاق وأريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في قولهم ) إنهم لمنكم ( وتقريرب قوله ) وما هم منكم ( ثم فصل ذلك المجمل ببيان مضادة حالهم الحال المؤمنين فقال ) يأمرون بالمنكر ( وهو كل قبيح عقلاً أو شرعاً وأعظم ذلك تكذيب الله ورسوله. ) وينهون عن المعروف ( وهو كل حسن عقلاً أو شرعاً كصدقة أو زكاة أو أتفاق في سبيل الله ، وهذا أولى ليتوجه الذم بتركه. وقبض الأيدي كناية عن الشح والبخل كبسطها في الكرم والسخاء ) نسوا الله ( أغفلوا أمره وتركوا ذكره وذلك أن النسيان الحقيقي لا يتوجه عليه الذم ) فنسيهم ( جازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته وهذا على سبيل المزاوجة والطباق. وإنما جعل النسيان عبارة عن ترك الذكر لأن من نسي شيئاً لم يذكره فدل بذكر الملزوم على اللازم ، ثم قال ) إن المنافقين هم الفاسقون ( وفيه دليل على أنهم هم الكاملون في الفسق وأن على المسلم أن يتحرز عما يكسبه هذا الاسم. ثم بين مآل حال أهل النفاق والكفر فقال ) وعد الله ( الآية ومعنى ) خالدين فيها ( مقدرين الخلود فيها قاله في الكشاف ويحتمل أن يراد مستأهلين للخلود ) هي حسبهم ( كافيهم في الجزاء والإيلام ومع ذلك فقد لعنهم الله ليكون العذب مقروناً(3/498)
" صفحة رقم 499 "
بالإهانة والطرد ) ولهم عذاب مقيم ( نوع آخر من العذاب الدائم صوى عذاب النار ، أو عذاب عاجل لا ينفكون عنه من تعب النفاق والخوف من افتضاحهم. ثم شبه المنافقين بالكفار الذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن الخيرات فقال ملتفتاً من الغيبة إلى الخطاب ) كالذين من قبلكم ( أي أنتم مثل الذين أي فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم. فعلى الأول محل الكاف رفع وعلى الثاني نصب. ثم وصف أولئك الكفار بأنهم كانوا أشد قوة أي جسامة من هؤلاء المنافقين ) وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم ( قيل : ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانياً ثم تكريره في حق الأوّلين ثالثاً ؟ وأجيب بأنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وحرمانهم عن سعادة الآخر بسبب استغراقهم في تلك المبالغة. قال جرا الله : نظيره أن تقول لبعض الظلمة أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب وأنت تفعل مثل فعله. وأما قوله ) وخضتم كالذي خاضوا ( فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستعن بإسناده إليه عن تلك التقدمة. ومعنى ( كالذي ) كالخوض الذي خاضوه أو كالفوج الذي خاضوا. وقيل : أصله كالذين فحذف النون. ثم بين أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال أما في الدنيا فبسبب الفقر والانتقال من العز إلى الذل ومن القوة إلى الضعف ، وأما في الآخرة فلأنهم هلكوةا وبادروا وانتقلوا إلى العقاب الدائم وخسران الدارين. فهؤلاء المنافقون المشاركون لهم في هذه الأعمالم والفضائح مع ضعف ينيتهم وقلة عددهم وعددهم أولى بخزي الدارين وخسار الأمرين. التأويل : ( إنما الصدقات ( وهي صدقات مواهب الله كما قال الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من يوم ولاليلة ولا ساعة إلا لله فيها صدقة على من يشاء من عبادة الفقراء وهم الأغنياء بالله الذين فنوا عنهم وبقوا به ) ) والمساكين ( الذين لهم بقية أوصاف الوجود ألقوا سفينة القلب في بحر الطلب وقد خرقها خضر المحبة ) وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً ) [ الكهف : 73 ] ( والعاملين عليها ( وهم أرباب الأعمال كما كان الفقراء والمساكين أرباب الأحوال ) والمؤلفة قلوبهم ( الذين تتألف قلوبهم بذكر الله ) وفي الرقاب ( الذين يريدون أن ) والغارمين ( الذين استقرضوا من مراتب المكونات أوصافها وطبائعها وخواصها وهم(3/499)
" صفحة رقم 500 "
محبوسون في الوجود فهم معانون بتلك الصدقات للخلاص عن حبس الوجود ) وفي سبيل الله ( المجاهدين الجهاد الأكبر مع كفار النفوس والهوى والشيطان والدنيا ) وابن السبيل ( المسافرون عن أوصاف الطبيعة وعالم البشرية ، السائرون إلى الله على أقدام الشريعة والطريقة ) فريضة من الله ( أوجبها على ذمة كرمه كما قال ( ألا من طلبني وجدني ) ) والله عليم ( بطالبيه ) حكيم ( في معاونتهم بعد الطلب كقوله ( من تقرب إليّ شراً تقربت إليه ذراعاً ) ) ويقولن هو أذن ( رأوا محامده بنظر المذمة والعيب ) قل أذن خير لكم ( أي ساميته خير لكم لأن له مقام السامعية يسمع ما يوحى إليه ) يؤمن بالله ( عياناً ) ويؤمنون للمؤمنين ( لأن فوائد إيمانه تعود إليهم كما إلى نفسه ) ورحمة للذين آمنوا ( لأنهم يهتدون بهداه ) والذين يؤذون رسول الله ( بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ) يحذر المنافقون ( والحذر لا يغني عن القدر ) أن نفع عن طائفة ( إظهاراً للفضل والرأفة ) نعذب طائفة ( إظهار للقهر والعزة ولكن إظهار اللطف بلا سبب. وإظهار القهر لا يكون إلا بسبب أنهم كانوا مجرمين و ) بعضهم من بعض ( لأن أرواحهم كانت في صف واحد في الأزل فمعاملاتهم من نتائج خصوصيات أرواحهم ) نسوا الله ( ولو ذكروه قبل الإتيان بالمعاصي لم يفعلوا ما فعلوا ، ولو ذكروه بعد الإتيان لاستغفروا فغفر لهم ) هي حسبهم ( لأنها نصيبهم في الأزل ) كانوا شد منكم قوة ( بالاستعداد الفطري وضيعها في الاستمتاع العاجل فخسروا رأس المال ولم يربحوا. ( التوبة : ( 70 - 79 ) ألم يأتهم نبأ . . . .
" ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم(3/500)
" صفحة رقم 501 "
معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم "
( القراآت )
والمؤتفكات ( وبابه بغير همز : أبو عرمو غير شجاع وورش ويزيد والحلواني عن قالون والأعشى وحمزة في الوقف. الوقوف : ( والمؤتفكات ( ط ) بالبينات ( ج لابتداء النفي مع فاء التعقيب. ) يظلمون ( ه ) أولياء بعض ( لما مر. ) ورسوله ( ط ) سيرحمهم الله ( ط ) حكيم ( ه ) عدن ( ط ) أكبر ( ط ) العظيم ( ه ) واغلظ عليهم ( ط ) جهنم ( ط ) المصير ( ه ) ما قالوا ( ط ) لم ينالوا ( ج ) من فضله ( ط ) خيراً لهم ( ج ) والآخرة ( ج ) ولا نصير ( ه ) من الصالحين ( ه ) معرضون ( ه ) يكذبون ( ه ) علام الغيب ( ه ج لاحتمال النصب أو الرفع على الذم. وكونه بدلاً من الضمير في ) نجواهم ( ) فيسخرون منهم ( ط. ) سخر الله منهم ( ط لإتمام الجزء مع اختلاف النظم. ) أليم ( ه. التفسير : لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في تكذيب الأنبياء والاشتغال بالنعيم الزائل بين أو أولئك الكفار من هم فذكر ست طوائف صمع العرب أخبارهم لأن بلادهم - وهي الشام - قربية من بلادهم وقد بقيت آثارهم مشاهدة ، ولهذا صدر الكلام بحرف الاستفهام للتقرير. فأوّلهم قوم نوح وقد أهلكوا بالإغراق ، وثانيهم : قوم عاد وأهلكوا بالريح العقيم ، وثالثهم : ثمود وأخمدوا بالصيحة ، ورابعهم : قوم إبراهيم سلط الله عليهم البعوض وكفى شر ملكهم وهو نمرود ببعوضة واحدة سلطها على دماغه. وخامسهم : أًحاب مدين قوم شعيب أخذتهم الرجفة ، وسادسهم : أصحاب المؤتفكات قوم لوط أمطر الله عليهم الحجارة بعد أن جعل مدائنهم عاليها سافلها. والائتفاك الانقلاب سميت مدائنهم بذلك لأن الله تعالى قلبها عليهم. ويمكن أن يراد بالمؤتفكات الناس لانقلاب أحوالهم من الخير إلى الشر. ثم قال ) أتتهم رسلهم بالبينات ( أي بالمعجزات ولا بد بعد هذا من إضمار والتقدير فكذبوهم فأهلكهم الله. رفما كان الله ليظلمهم ( قالت المعتزلة : أي ما صح منه الظلم ولكنهم استحقا ذلك بسبب كفرهم ، وقد مر الكلام في أمثال ذلك. ثم بين أن شأن المؤمنين في الدنيا والآخرة بخلاف المنافقين فقال ) والمؤمنون ( الآية قال بعض العلماء : إنما قال ههنا ) أولياء بعض ( وهناك ) من بعض ) [ الآية : 66 ] لأن نفاق(3/501)
" صفحة رقم 502 "
أتباع المنافقين حصل بسبب التقليد لأكابرهم بمقتضى الطبع والعادة بخلاف الموافقة بين المؤمنين فإنها بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية. وأقول : كون بعض المنافقين من بعض يوجب اشتراكهم في أمر من الأمور بالجملة كالدار أو حكم من الأحكام الشرعية أو سيرة وطريقة وهذا هو المقصود ، ولكنه يحتمل أن يكون تكلفاً أو بطريق النفاق لأن سببه انعقاد غرض من الإراض الدنيوية العاجلة فذكر الله تعالى اشتراكهم في ذلك بلفظ ( من ) لمكان الاحتمال المذكور. وأما تشارك المؤمنين في السيرة فلما كان سبببه الإخلاص والعصبية للدين والاجتماع على ما يفضي إلى سعادة الدارين كانت الموالاة بينهم محققة فصرح الله تعالى بذلك. ثم وصفهم بأضداد صفات المنافقين فقال ) يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ( وهاتان الصفتان بالنسبة إلى غيرهم. ثم قال المنافقين ) ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ) [ التوبة : 54 ]. ثم وصفهم بالطاعة على الإطلاق فقال ) ويطيعون الله ورسوله ( أي في كل ما يأتون ويذرون. ثم ذكر ما أعدّ لهم من الثواب على سبيل الإجمال فقال ) أولئك سيرحمهم الله ( والسين تفيد المبالغة في إنجاز الوعد بالرحمة كما يؤكد الوعيد به إذا قلت سأنتقم منك يوماً يعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك. ثم ختم الآية بقوله ) إن الله عزيز حكيم ( وفيه ترغيب للمؤمنين وترهيب للكافرين لأن العزيز هو من لا يمنع من مرادة في عباده من رحمة أو عقوبة. والحكيم هو الذي يدبر عباده على وفق ما يقتضيه العدل والصلاح. ثم فصل ما أجمل ن الرحمة بقوله ) وعد الله المؤمنين ( لآية. وقد كثر كلام أصحاب الآثار في معنى جنات عدن فقال الحسنك سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن ذلك فقالا : على الخبير سقطت سألنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( هو قص في الجنة من اللؤلؤ وفيه سبعون داراً من ياقوته حمراء ، في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون فراشاً على كل فراش زوجة من الحور العين ، وفي كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام ، وفي كل بيت سبعون وصيفة يعطى المؤمن من القوة ما يأتي على ذلك أجمع ). وعن ابن عباس أنها دار الله لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر. وقال ابن مسعود : جنات عدن بطنان الجنة أي وسطها قاله الأزهري. وبطنان الأودية المواضع التي يستنقع فيها السيل واحدها بطن. وقال عطاء عن ابن عباس : هي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى. وسائر الجنات حولها. وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدار والياقوت والذهب. فتهب الريح من تحت العرش فتدخل عليها كثبان المسك الأبيض .(3/502)
" صفحة رقم 503 "
وقال عبد الله بن عمر : وإن في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج وله خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صدّيق أو شهيد. وفي هذه الأخبار دلالة على أن عدناً علم ويؤيده قوله ) جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب ) [ مريم : 61 ] ولو لم يكن علماً لم يوصف بالمعرفة. ولا ريب أن أصله صفة من قولك عدن بالمكان إذا أقام به ، ومنه المعدن للمكان الذي تخلق فيه الجواهر. وعلى هذا فالجنات كلها جنات عدن. إلا أن يغلب الاسم على بعضها. ) ورضوان من الله ( شيء يسير من رضاه ) أكبر ( من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز وكرامة وكل خطب مع رضا المولى هين ، وكل نعيم مع سخطه منغص. وفيه دليل على أن السعادات الروحانية أعلى حالاً وأشرف مآلاً من السعادات الجسمانية بل لا نسبة لتلك اللذة والابتهاج إلى هذه على أن الاعتراف بالسعادات الجسمانية واجب من حيث الشرع ) ذلك ( الموعد والرضوان ) هو الفوز العظيم ( وحده دون ما يعده الناس فوزاً. في الحديث ( إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة له رضيتم ؟ فيقولون : ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول أنا أعطيتكم أفضل من ذلك قالوا وأي شيء أفضل من ذلك قال أدخل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً ). ثم عاد مرة أخرى إلى شرح أحوال المنافقين فقال ) يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ( قال الضحاك : أي جاهد الكفار واغلظ على المنافقين لأن المنافق لا تجوز محاربته في ظاهر الشرع. وضعف بأن النسق يأباه. وقيل : المراد بهؤلاء المنافقين هم الذين عرفه الله حالهم فصاروا كسائر الكفرة فجاز قتالهم ، وزيف بأنه وإن علم حالهم بالوحي إلا أنه مأمور بأن يحكم بالظاهر والقوم كانوا يظهرون الإسلام فكيف يجوز قتالهم ؟ والصحيح أن الجهاد بذلك المجهود في حصول المقصود وهو شامل للسيف واللسان ، فالمراد جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة واغلظ عليهم في الجهادين جميعاً عن ابن مسعود : إن لم يستطع بيده فبلسانه ، فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه ، فإن لم يستطع فبقلبه بأن يكرهه ويبغضه ويتبرأ منه. وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها. واعترض عليه بأن إقامة الحدود واجبة على كل فاسق فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق. واعتذر عنه بأنه قال لأن عنده أن كل فاسق منافق أو(3/503)
" صفحة رقم 504 "
لأن الغالب ممن يقالم عليه الحد في زمن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كونه منافقاً. قال الضحاك : خرج المنافقون مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى تبوك ، وكانوا إذا خلا بعضهم إلى بعض سبوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه وطعنوا في الدين ، فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم. فحلفوا ما قالوا شيئاً من ذلك فأنزل الله تعالى ) يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ( وعن قتادة أن رجلين اتققلا رجل من جهينة ورجل من غفار فظهر الغفاري على الجهني فنادى عبد الله بن أبيّ يا بني الأوس انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك وقال ) لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) [ المنافقون : 8 ] فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأرسل إليه فجعل يحلف بالله ما قال فنزلت الآية. ومعنى قوله ) وكفروا بعد إسلامهم ( أنهم أظهروا الكفر بعدما كانوا يظهرون الإسلام. أما قوله خمسة عشر رجلاً منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل ، وكان عمار بن ياسر أخذ بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها ، فبيناهم كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلام فالتفت فإذا هم قوم متلثمون فقال : ( إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا. وقيل : همّ المنافقون بقتل عامر بن قيس لرده على الجلاس بن سويد وقد مر في تفسير قوله ) يحلفون بالله لكم ليرضوكم ) [ التوبة : 62 ] وقيل : أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وما نقموا ( وما أنكروا وما عابوا ) إلا أن أغناهم ( كقول القائل. ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فظفروا بالغنائم وجمعوا الأموال. وريو أنه قُتل للجلاس مولى فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى ، ثم استعطف قلوبهم بعد صدور هذه الجنايات العظيمة عنهم فقال ) فإن يتوبوا بك ( يعني ذلك الرجوع ) خيراً لهم ( وكان الجلاس ممن تاب فحسنت توبته ) وإن يتولوا ( يعرضوا عن التوبة ) يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا ( بالقتل والسبي واغتنام الأموال. وقيل : بما ينالهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب. وقيل : في القبر وأما عذاب الآخرة فمعلوم ) وما لهم في الأرض ( يحتمل أرض الدنيا وأرض القيامة. ثم بين أن هؤلاء كما ينافقون الرسول والمؤمنين فكذلك ينافقون ربهم فيما يعاهدونه(3/504)
" صفحة رقم 505 "
عليه فقال ) ومنهم من عاهد الله ( يرى عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ادع الله أن يرزقني مالاً فقال : ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. ثم قال مرة أخرى فقال : أما ترضى أن تكون مثل نبي الله ، فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال فضة وذهباً لسارت. فقال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأويتن كل ذي حق حقه. وفقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : اللهم ارزق ثعلبة مالاً. فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة ، فسأل عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره خبره فقال : يا ويح ثعلبة ثلاثاً وأنزل الله عز وجل ) خذ من أموالهم صدقة ) [ التوبة : 103 ] فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجلين على الصدقة رجلاص من جهينة ورجلاً من بني سليم ، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة وقال لهما. مرا بثعلبة وبفلان رجل من بني سليم فخذا صدقاتهما. فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ما أدري ما هذا ، انطلقاً حتى تفرغا ثم تعودان إليّ. فانطلقا وأخبرا السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهم بها فلما رأوها قالوا : ما يجب هذا عليك وما نريد أن نأخذ هذا منك. قال : بلى خذوه فإن نفسير بها طيبة. فأخذوها منه ثم رجعا على ثعلبة فقال : أروني كتابكما ثم قال : ما هذه إلا أخت الجزية ، انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلما رآهما قال : يا ويح ثعلبة قبل أن يكلمهما ودعا للسلمي بالبركة ثم نزلت الآية وعند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجل من أقارب ثعلبة ، فخرج إليه وقال : يا ويحك يا ثعبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا. فخرج ثعلبة حتى أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسأله أن يقبل منه صدقته فقال : إن الله قد منعني أن أقبل منك صدقتك. فجعل يحثوا التراب على رأسه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني. فلما أبى أن يقبل منه شيئاً رجع إلى منزله وقبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يقبل منه شيئاً ، ثم أتى أبا بكر حين استخلف فقال : قد علمت منزلتي من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وموضعي من الأنصاري فاقبل صدقتي. فقال : لم يقبلها رسول الله وأنا أقبلها ؟ فقبض أبو بكر وأبى أن يقبلها ، ثم جاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها في خلافة عثمان ولم يقبل صدقته واحد من الخلفاء اقتداء برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وأقول وما ذاك إلا بشؤم اللجاج أولاً وآخراً. قال بعض العلماء : المعاهدة أعم من أن تكون باللسان أو بالقلب. وقال المحققون. إنه لا بد من التلفظ بها لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفوسهم ولم(3/505)
" صفحة رقم 506 "
يتلفظوا به ) ولأن قوله عز من قالئل ) ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدّقن ( ظاهره مشعر بالقول اللساني. والمراد بالفضل إيتاء المال بطريق التجارة أو الاستغنام ونحوهما. وأصل ) لنصدقن ( لنتصدقن أدغمت التاء في الصاد. والمصدق المعطي لا السائل كقوله تعالى ) وتصدق علينا أن الله يجزي المتصدقين ) [ يوسف : 88 ] ومعنى قوله ) ولنكونن من الصالحين ( عن ابن عباس أنه أراد الحج. ولعل المراد إخراج كل ما يجب إخراجه إذ لا دليل على التقييد. ثم وصفهم بصفات ثلاث فقال ) فلما آتاهم من فضله يخلوا به وتولوا وهم معرضون ( فالبخل عبارة عن منع الحق الشرعي ، والتولي نقض العهد ، والإعراض أراد به الإحجام عن تكاليف الله وأن ذلك منهم عادة معتادة ، ولترتب هذا الذم عل أمنع الصدقة ولإطلاق لفظة البخل عليه وهو في عرف الشرع عبارة عن منع الواجب. ذكر العلماء أن الصدقة الملتزمة في قوله ) لنصدقن ( هي الصدقة الواجبة. وأن الرجل قد عاهد ربه أن يقول بما يلزمه من الإنفاقات الواجبة. إن وسع الله عليه دون ما يلتزنه الإنسان بالنذر من المندوبات إذ لا دليل على الآية على ذلك مع أن سبب النزول يأباه. فإن قيل : الزكاة لا تلزم بسبب الالتزام وإنما تلزم بسبب ملك النصاب وحلول الحول. قلنا إن قوله ) لنصدقن ( لا دليل فيه على الفور بل المراد لنصقن في وقته الذي يليق به. وفي الآية دلالة على أن الرجل حين عاهد بهذا العهد كان مسلماً ثم إنه لما بخل بالمال ولم يف بالعهد صار منافقاً ويؤكده قوله سبحانه ) فاعقبهم نفاقاً ( عن الحسن وقتادة أن أعقب مسند إلى ضمير البخل أي أورثهم البخل نفاقاً متمنكاً في قلوبهم لأنه كان سبباً فيه وباعثاً عليه ، وكذا التأويل إن جعل عائداً إلى التولي أو الإعراض. وضعت بأن حاصل هذه الأمور كونه تاركا لأداء الواجب وذلك لا يمكن جعله مؤثراً وجودي والعدم لا يؤثر في الوجود ، ولأن هذه الترك قد يوجد في حق كثير منالفساق مع أنه لا يحصل معه النفاق ، ولأنه لوأوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه سواء كان الترك جائزاً شرعاً أو محرماً فسبب اختلافات الأحكام الشرعية لا يخرج السبب عن كونه مؤثراً ، ولأن البخل أو التولي أو الإعراض هو بعينه خلاف ما وعدوا الله به فيصير تقدير الآية إن التولي أوجب النفاق بسبب التولي وهذا كلام كما ترى فمل يبق إلا أن يسند الفعل إلى الله تعالى فيكون فيه دليل(3/506)
" صفحة رقم 507 "
على أن خالق الكفر في القلوب هو الله ، ومن هنا قال الزجاج : معناه أنهم لما ضلوا في الماضي فالله تعالى يضلهم عن الدين في المستقبل ومما يؤكد القول بأن الضمير في ) أعقب ( لله أن الضمير في قوله رإلى يوم يلقونه ( عائد إلى الله. وللمعتزلة أن يقولوا : النفاق وإن سلم أنه وجودي لكنه أمر شرعي ولا يبعد جعل شيء عدمي أمارة عليه. وأيضاً الترك المقورن بالتولي والإعراض لا نسلم أنه لا يحصل معه النفاقن ولا يلزم من كون الترك المحرم موجباً للكفر بجعل الشارع كون الترك الجائز كذلك ، ولا نسلم أن البخل هو بعينه إخلاف الوعد والكذب بل قد يقع البخل من غير سبق وعد. سلمنا عود الضمير إلى الله لكن من أين يلزم كونه خالقاً للكفر والنفاق ، ولم لا يجزوز أن يراد فأعقبهم الله العقوبة على النفاق بإحداث الغم في قلوبهم وضيق الصدور ما ينالهم من الذل والخوف ، أو يراد فخذلهم حتى نافقوا وتمكن في قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا ؟ ولأهل السنة أن يقولوا هذا عدول عن الظاهر مع أن الدلائل الدالة على وجوب انتهاء الكل إلى مشيئة الله وتقديره تعضد ما قلناه. قال العلماء : ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق ، فعلى المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه. ومذهب الحسن البصري أن نقض العهد يوجب النفاق لا محالة تمسكاً بهذه الآية وبقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان ) وقال عطاء بن أبي رباح : حدثني جابر بن عبد الله أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنما ذكر قوله ( ثلاث من كن فيه فهو منافق ) في المنافقين خاصة الذين حدثوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكذبوا واؤتمنوا على سره فخانوه ووعدوه أن يخرجوا معه إلى الغزو فأخلفوه. ونقل أن عمرو بن عبيد فسر الحديث فقال : إذا حدث عن الله كذب عليه وعلى دينه ورسوله ، وإذا وعد أخلف كما ذكره الله فيمن عاهده ، وإذا أؤتمن على دين الله خان في السر وكان قلبه على خلاف لسانه. ونقل أن واصل بن عطاء أرسل إلى الحسن رجلاً فقال : ( إن أولاد يعقوب حدثوه في قولهم ) فأكله الذئب ) [ يوسف : 17 ] فكذبوا ، ووعدوه في قولهم ) وإنّا له الحافظون ) [ يوسف : 12 ] فأخلفوا وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه ، فهل تحكم بكونهم منافقين ؟ فتوقف الحسن في مذهبه. قال أهل التفسير : قوله ) إلى يوم يلقونه ( دل على أن ذلك المعاهد يموت على ذلك وكان كما أخبر فيكون إخباراً بالغيب ومعجزاً. قال الجبائي : هذا اللقاء لا شك أنه ليس بمعنى الرؤية لأن الكفار لا يرونه بالاتفاق فدل على(3/507)
" صفحة رقم 508 "
أن اللقاء في القرآن ليس بمعنى الرؤية ، وضعف بأنه لا يلزم من عدم كون هذا اللقاء بمعنى الرؤية كون كل لقاء ورد في القرآن كذلك كقوله ) الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ) [ البقرة : 46 ]. ثم وبخهم على التجاهل أو عدم العلم بعلم الله وإحاطته بضمائرهم وتناجيهم فقال ) ألم يعلموا ( الآية. والسر ما ينطوي عليه الصدر ، والنجوى ما يكون بين اثنين وأكثر مع الإخفاء عن غيرهم. والترتيب يدل على التخليص كما مر في الإنجاء كان المتناجيين تخلصا عن غيرهما ومنه ) خلصوا نجياً ) [ يوسف : 80 ] ومعنى الآية كيف تتجرؤون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع أنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر ويعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر لأنه العالم بجميع المعلومات على أي وجه يفرض ؟ عن ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطبهم ذات يوم وحثهم على أن يجمعوا الصدقات ، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال : يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مالي ثمانية آلاف جئتك بنصفها فاجعلها في سبيل الله وأمسكت نصفها لعيالي. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى إنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله فهما مائة وستين ألف درهم. وقيلح صولحت إحداهما على ثمانين ألفاً. وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر ، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال : أجرت الليلة الماضية نفسير من رجل لإرسال الماء إلى نخيله فأخذت صاعين من تمر ، أمسكت أحدهما لعيالي وأقرضت الآخر لربي ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بوضعه في الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاَّ رياء وسمعة ، وأما أبو عقيل فإنه جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر والله غني عن صاعه فأنزل الله سبحانه ) الذين يلمزون المطوعين ( أي المتطوعين فأدغمت. والتطوع التنفل وهو الطاعة لله بما ليس بواجب. والجهد بالضم والفتح شيء قليل يعيش به المقل ، قاله الليث. وقال الفراءك الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم. وفرق ابن السكيت بينهما فقال : الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة. وقال الشعبي : الأول في العمل والثاني في القوة ) سخر الله منهم ( خير لا دعاء كقوله ) الله يستهزئ بهم ) [ البقرة : 15 ] وقد عرفت أن هذا من قبيل المشاكلة ، أو المراد منه لازم الخسرية وهو إيقاع الذل والهوان بهم. وقال الأصم : المراد أنه تعالى يكلفهم إنفاق المال مع أنه لا يثبهم عليه ، وإنما توجه الذم على المنافقين في هذا اللمز لأن الحكم بالرياء لمن يعطي الكثير كعبد الرحمن بن عوف(3/508)
" صفحة رقم 509 "
وعاصم حكم على بواطن الأمور وذلك أمر اتسأثر الله به ورسوله. وأيضاً لمز الفقير على جهد المقل سفه لأنه لما لم يقدر إلا عليه فقد بذلك كل ما له فعلم منه غالباً أنه إن قدر على أكثر من ذلك لم يكن منه منع ، وسعي الإنسان في أن يضم نفسه إلى أهل الخير والدين خير له من أن يضم نفسه إلى أهل الكسل والبطالة ، ولو لم تكن فيه إلا الثقة بالله والدخول في زمرة من يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة لكفى به منقبة وفضلاً. التأويل : ( بعضهم أولياء بعض ( لأن التعارف في عالم الأرواح يوجب التآلف في عالم الأشباح ) يأمرون بالمعروف ( الحقيقي أي بطلبه والمطلوب هو الله لقوله ( فأحببت أن أعرف ) ) وينهون عن المنكر ( وهو ما يقطع العبد عن الله ) ويقيمون الصلاة ( الحقيقة ) ويؤتون الزكاة ( يعني ما فضل عن كفافهم الضروري ) ويطيعون الله ورسوله ( بخلاف المنافقين فإنهم يطيعون النفس والهوى ) ومساكن طيبة ( على مراتب النفوس الطيبة فإن الطيبات للطيبين أيها النبي ( يعني القلب الذي له نبأ من مقام الانباء ) جاهد ( النفوس الكافرة بسيف الصد والخالفات ، وجاهد نفوس المريدين الذين يدعون الإرادة في الظاهر دون الباطن ) واغلظ عليهم ( في المؤخذات بأحكام الشريعة والطريقة حتى تتمرن نفوسهم وإلا ) فمأواهم جهنم ( القطيعة ) ولقد قالوا كلمة الكفر ( وهي التي توجب الإنكار والاعتراض على الشيخ ) وهموا بما لم ينالوا ( أي أثبتوا لأنفسهم مرتبة الشخيوخة قبل أوانها ) وما نقموا ( إلا أن اشيخ رباهم بلبان فضل الله عن حلمة الولاية فلم يحتملوا لضيق حوصلة الهمة ، ومربد الطريقة أعظم من مربد الشريعة فلهذا يكون عذابه أليماً في الدنيا والآخرة كما قال الجنيد : لو أقبل صديق إلى الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله ) ومنهم من عاهد الله ( باستعداده الفطري ) لئن آتانا من فضله ( جعلنا متمكنين من اكتساب الكمال ) لنصدقن ( لنصرفن كل ما أعطانا فيما أعطى لأجله ) إلى يوم يلقونه ( أي يلقون جزاء النفاق ) وان الله علام الغيوب ( يعلم ما توسوس به أنفسهم وهو غيب عن الخلف ويعلم ما يستكن في قلوبهم وهو غيب في نفوسهم ولهذا قال ) الغيوب (. ) خسر الله منهم ( ذكره بلفظ الماضي ليعلم ان سخرية المنافقين نتيجة سخرية الله بهم في الأزل. ( التوبة : ( 80 - 89 ) استغفر لهم أو . . . .
" استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون فإن رجعك الله إلى(3/509)
" صفحة رقم 510 "
طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم "
( القراآت )
معي أبدأ ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص والمفضل ) معي عدو ( بالفتح : حفض فقط. الوقوف : ( أو لا تستغفر لهم ( ط ) فلن يغفر الله لهم ( ط ) ورسوله ( ط ) الفاسقين ( ه ) في الحر ( ط ) حراً ( لأن المعنى لو كانوا يفقهون حرارة النار لما قالوا لا تنفروا في الحر. ولو وصل لأوهم أن جهنم لا يكون نارها أشد حراً إذا لم يفقهوا ذلك ) يفقهون ( ه ) كثيراً ( ج لأن ) جزاء ( يصلح أن يكون مفعولاً له أو مصدر محذوف أي يجزون جزاء ) يكسبون ( ه ) معي عدوّاً ( ط ) الخالفين ( ه ) على قبره ( ط ) فاسقون ( ه ) وأولادهم ( ط ) كافرون ( ه ) القاعدين ( ه ) لا يفقهون ( ه ) وأنفسهم ( ط ) الخيرات ( ز لابتداء وعد الفلاح على التعظيم بدليل تكرار ) أولئك ( مع اتفاق الجملتين. ) المفلحون ( ه ) خالدين فيها ( ط ) العظيم ( ه. التفسير : ( عن ابن عباس ان عند نزول الآية الأولى في المنافقين قالوا : يا رسول الله استغفر لنا واشتغل بالاستغفار لهم فنزل ) استغفر لهم ( الآية ، ومن المفسرين من قال : إنهم طلبوا من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يستغفر لهم وإن الله نهاه عنه. والنهي عن الشيء لا يدل على أن المنهي أقدم على ذلك الفعل. ثم إن الدليل قد يدل على أنه ما اشتغل بالاستغفار لأن المنافق كافر ، وقد ظهر في شرعه أن الاستغفار للكافر غير جائز ، ولأن الاستغفار للمنافق يجري مجرى اغرائه على مزيد النفاق ولأنه يلزم أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مجاب الدعوة وإن أكثر في الدعاء. ومن الفقهاء من قال : التخصيص بالعدد المعين يدل على أن الحال(3/510)
" صفحة رقم 511 "
فيما وراء ذلك العدد بخلافه لما روي أنه لما نزلت الآية قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أزيدن على السبعين ) فنزل ) سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ) [ المنافقون : 6 ] فكف عنه. فلولا أنه فهم بدليل الخطاب أن الأمر فيما وراء السبعين بالخلاف لم يقل لأزيدنّ على ذلك. وأجيب بأنه أراد إظهار الرحمة والرأفة بأمته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم لبعض لا أنه فهم منه ذلك ، كيف وقد قال تعالى ) لن يغفر الله لهم ( وأردفه بقوله ) ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله (. فليس المقصود بهذا العدد تحديد المنع وإنما هو كقول القائل لمن يسأله حاجة : لو سأتني سبعين مرة لم أقضها. ولهذا بين العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول وهي كفرهم وفسقهم ، وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين. وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجهاً هو أن السبعة عدد شريف لأنه عدد السموات والأرضين والبحار والأقاليم والنجوم السيارة والأعضاء وأيام الأسبوع ، فضرب السبعة في عشرة لأن الحسنة بعشر أمثالها. وقيل : خص بالذكر لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كبّر على حمزة سبعين تكبيرة وكأنه قال : إن تستغفر لهم سبعين مرة بإزاء تكبيراتك على حمزة : هذا وقد مر في تفسير قوله ) قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً ) [ التوبة : 53 ] أن هذا أمر في معنى الخبر كأنه قيل : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لا ، وانتصاب سبعين على المصدر كقولك : ضربته عشرين ضربة. ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أفعالهم فقال ) فرح المخلفون ( قيل : إنهم احتالوا أن يتخلفوا وكان الأولى أن يقال فرح المتخلفون. وأجيب بأنهم استأذنوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأذن لهم وخلفهم بالمدينة في غزوة تبوك ، أو أريد خلفهم كسلهم ونفقاهم والشيطان ، أو المجاهدون لما لم يوافقوهم في القعود فكأنهم خلفوهم ، أو أطلق عليهم المخلفون باعتبار أنهم سيصيرون ممنوعين من الخروج في الآية الآتية ) فإن رجعك الله ( إلى قوله ) ولن تقاتلوا معي عدواً ( ومعنى ) بمقعدهم ( بقعودهم قاله مقاتل. أو بموضع قعودهم وهو المدينة قاله ابن عباس. ومعنى ) خلاف رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) مخالفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين سار وأقاموا قاله قطرب والزجاج فانتصابه على أنه مفعول له أي قعد والجل خلافه أو على الحال مثل ( فأرسلها العراك ) أي مخالفين له ، وقال الأخفش ويونس : الخلاف بمعنى الخلف أي بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك أن جهة الأمام التي يقصدها الإنسان يخالفها جهة الخلف ) وكرهوا أن يجاهدوا ( كيف لا يكرهون وليس فيهم باعث الإيمان وداعي الإخلاص ومعهم صارف الكفر والنفاق ؟ وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين أموالهم وأرواحهم في الله المؤثرين ذلك على الدعة والخفض. واعلم أن الفرح بالإقامة يدل على كراهية الذهاب إلا أنه صريح بذلك للتوكيد ، ولعلع المراد أنه مال طبعهم إلى الإقامة لإلفهم بالبلد واستئناسهم بالأهل والولد ، وكرهوا الخروج إلى الغزو لأنه تعريض بالنفس(3/511)
" صفحة رقم 512 "
والمال للقتل والإهدار. ) قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون ( أن بعد هذه الدار دار أخرى وبعد هذه الحياة حياة أخرى. وهذه المشقة منقضية سهلة وتلك باقية صعبة ولبعضهم وكأنه صاحب الكشاف : مسرة أحقاب تلقيت بعدها
مساءة يوم أنها شبه أنصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة
وراء تقضيها مساءة أحقاب
وفي هذا استجهال عظيم لهم. ثم قال ) فليضحكوا ( وهو خبر إلا أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره ومعناه فسيضحكون قليلاً أي ضحكاً قليلاً أو زماناً قليلاً وسيبكون كثيراً. يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم. ثم عرف نبيه وجهالصلاح في سائر الغزوات فقال ) فإن رجعك الله إلى طائفة منهم ( أي إن ردّك إلى المدينة. الرجع متعد مثل الرد ، والرجوع لازم. وإنما قال طائفه لأن منهم من تاب عن النفاق وندم أو اعتذر بعذر صحيح. وقيل : لم يكن املخلفون كلهم منافقين فأراد بالطائفة المخلفين من المنافقين. ) فاستأذنوك للخروج ( إلى غزوة أخرى بعد غزوة تبوك ) فقل لن تخرجوا معي أبداً ( عاقبهم بإسقاط عن ديوان الغزاة جزاء على تخلفهم لما فيه من الذم والطرد وصلاحاً لأمر الجهاد لما في استصحابهم من المفاسد المذكورة في قوله ) لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلاَّ خبالاً ) [ التوبة : 47 ] ويعني بأول مرة غزوة تبوك. وإنما لم يقل أول المرات معرفاً مجموعاً لأن المعنى إن فصلت المرات مرة مرة كانت هذه أولها نظيره ( هو أفضل رجل ) يعني إن عدّ الرجال رجلاً رجلاً كان هو أفضلهم. وإنما لم يقل ( أولى مرة ) لأن أكثر اللغتين ( هند أكبر النساء ) ولا يكاد يقال ( هي أكبر امرأة ) ) فاقعدوا مع الخالفين ( كقوله ) وقيل اقعدوا مع القاعدين ( ) التوبة : 46 ] والخالف من يخلف الرجل في قولمه. وعن الأصمعي أنه الفاسد من خلف اللبن والنبيذ إذا فسد. وعن الفراء معناه المخالف. قال قتادة : ذكر لنا أن الخالفين الذين أمروا بالقعود كانوا اثني عشر رجلاً. عن ابن عباس أنه لما اشتكى عبد الله ابن أبيّ ابن سلول عاده رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره ويعطيه قميصه الذي يلي جلده ليكفن فيه ففعل كل ذلك. وعنه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : لما توفي عبد الله بن أبيّ دعي رسول الله صلىالله عليه وسلم للصلاة عليه فقام إليه ، فلما وقف علي يريد الصلاة تحوّلت حتى قمت في صدره فقلت : يا رسول الله أعلى عدوّ الله عبد الله ابن أبيّ القائل يوم كذا كذا وكذا ؟ أعدد أيامه ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) يتبسم ، حتى إذا أكثرت عليه قال : أخر عني يا عمر إني خيرت فاخترت ، قد قيل لي استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن(3/512)
" صفحة رقم 513 "
تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، ولو أعمل أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت. قال : ثم صلى عليه ومشى معه فقام على قبره حتى فرغ منه قال : فعجبت من جرأتي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والله ورسوله أعلم. قال : فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزل ) ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ( الآية. فما صلى الله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله. قال المفسرون : وكلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما فعل بعبد الله بن أيّ قال : وما غني عنه قميصي وصلاتي من الله ، والله إن كنت لأجروا أن يسلم به ألف من قومه وكان كما قال. وقيل : لعل السبب فيه أنه لما طلب من الرسول قميصه الذي مس جلده فليدفن فيه غلب على ظن الرسول أنه انتقل إلى الإيمان لأنه وقت يتوب فيه الكافرة فرغب أن يصلي عليه. وذكر من أسباب دفع القميص أن العباس عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ أسيراً ببدر ولم يجدوا له قميصاً طويلاً فكساه عبد الله قميصه ، ومنها أن المشركين قالوا له يوم الحديبية إنا لا ننقاد لمحمد ولكنا ننقاد لك. فقال : إن لي في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسوة حسنة ، فشكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صنيعه. ومنها أنه كان لا يرد السائل لقوله تعالى ) وأما السائل فلا تنهر ) [ الضحى : 10 ] ومنها أن ابنه عبد الله كان من الصالحين فالرسول أكرمه لمكان ابنه. ومنها إظهار الرأفة والرحمة كما مر. قوله ) مات ( صفة لأحد ) وأبداً ( ظرف لقوله ) لا تصل ( وإنه يحتمل تأبيد النفي ونفي التأبيد والظاهر الأول ، لأن القرائن تدل على منعه من أن يصلي على أحد منهم منعاً كلياً دائماً. قال الزجاج : معنى قوله ) ولا تقم على قبره ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع ههنا منه. وقال الكلبي : معناه لا تقم بإصلاح مهمات قبره و ) أنهم كفروا ( تعليل للنهي ويرد عليه أن الكفر حادث وحكم الله قديم والحادث لا يكون علة للقديم. وأجيب بأن العلة ههنا بمعنى الإمارة المعرفة للحكم. قال في الكشاف : وإنما قيل مات وماتوا بلفظ الماضي والمعنى على الاستقبال على تقدير لكون والوجود لأنه كائن موجود لا محالة. وإنما وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه ، والكذب والنفاق والخداع والجبن والخبث مستقبح في جميع الأديان. أما قوله ) ولا تعجبك أموالهم وأولادهم ( فقد سبق مثله في هذه السورة بتفاوت ألفاظ فوجب علينا أن نذكر سبب التفاوت ، ثم فائدة الكرار فنقول والله تعالى أعلم بمراده : إنما ذكر النهي ههنا بالواو وهناك بالفاء لأنه لا تعلق له ههنا بما قبله وهو موتهم على حالة الفسق خلاف ما هنالك. وإنما قال ههنا ) وأولادهم ( بدون ( لا ) لأن المراد هنالك الترقي من الأدون إلى الأعلى وهو أن إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم(3/513)
" صفحة رقم 514 "
كقولك : لا يعجبني أمر النائب ولا أمر المنوب. وههنا أراد المعية فقط إما اكتفاء بما سبق هناك ، وإما لأن هؤلاء أقوام آخرون لم يكن عندهم تفاوت بين الأمرين. وقيل : إنه هناك لما علق الثاني بالأول تعليق الجزاء بالشرط أكد معنى النهي بتكرار ( لا ) ، وإنما قال ههنا ) إن يعذبهم ( لأنه إخبار عن قوم ماتوا على الكفر فتلعق الإرادة بما هم فيه وهو العذاب. وأما في الآية المتقدمة فالمفعول محذوف وقد مر. وقيل : الفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله محال وأنه أينما ورد حرف التعليل فمعناه ( أن ) ، وإنما حذف الحياة ههنا اكتفاء بما ذكر هنالك وقيل تنبيهاً على أن الحياة الدنيا لا تستحق أن تسمى حياة لخستها. وأما فائدة التكرير فهي المبالغة في التحذير من الأموال والأولاد لأنها جذابه للقلوب فتحتاج إلى صارف قوي ، ويحتمل أن تكون الأولى في قوم والثانية في آخرين. وقيل : الثانية في اليهود والأولى في المنافقين. ثم عاد إلى توبيخ المنافقين فقال ) وإذا أنزلت سورة ( أي تمامها ويجوز أن يزاد عليها كما يقع القرآن والكتاب على بعضه. وقيل : هي براءة لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد ) أن آمنوا ( ( أن ) هي المفسرة لأن إنزال السورة في معنى القول. وقال الواحدي : تقديره بأن آمنوا وغنما قدم الأمر بالإيمان لأن الاشتغال بالجهاد لا يفيد إلا بعد الإيمان ) أولوا الطول ( ذو الفضل والسمعة من طال عليه طولاً قاله ابن عباس والحسن. وقال أصم : الرؤساء والكبراء المنظور إليهم ، وخصوا بالذكر لأن الذم لهم ألزم إذ لا عذر لهم في القعود ) مع القاعدين ( عأصحاب الأعذار من الضعفة والزنى. والخوالف النساء اللواتي تخلفن في البيت ، وجوز بعضهم أن يكون الخوالف جمع خالف وكان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخوالف. ثم قال ) وطبع على قلوبهم ( كقوله ) ختم الله على قلوبهم ) [ البقرة : 7 ] وقد مر البحث فيه ، وقال الحسن : البطع بلوغ القلب في الكفر إلى حد كأنه مات عن الإيمان. وقالت الأشاعرة : هو حصول داعية الكفر المانعة من الإيمان. والطبع في اللغة الختم وهو التأثير في الطين ونحوه ، ومنه الطبع للسجية التي جبل عليها الإنسان ) فهم لا يفقهون ( أسرار حكمة الله في الجهاد أو في الذهاب من السعادة وما في التخلف من الشقاء. وفي قوله ) لكن الرسول ( نكتة هي أنه إن تخلف هؤلاء فقد أنهض إلى الغزو من هو خير منهم وأصدق نية كقوله ) فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ) [ الأنعام : 89 ] ثم ذكر منافع الجهاد على الإجمال فقال ) وأولئك لهم الخيرات ( وهي شاملة لمنافع الدارين. وقيل : هي الحور لقوله ) فيهن خيرات حسان ) [ الرحمن : 70 ] وقوله ( وأولئك هم المفلحون ( المراد منه الخلاص من المكاره. ثم فصل ما أجمل فقال ) أعد الله ( الآية وقيل : الخيرات(3/514)
" صفحة رقم 515 "
الفلاح في الدنيا وهذه في الآخرة. و ) الفوز العظيم ( عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعة ودرجة عالية. التأويل : إنما لم يؤثر استغفار الرسول في حقهم لقصور في القائل لا لتقصير في الفاعل ، والأثر يتوقف على الأمرين ) جزاء بما كانوا يكسبون ( من رين القلوب وكدورة الأرواح بظلمة الصفات الحيوانية. ) وهم كافرون ( مستورو القلوب بحجاب حب الأموال والأولاد. لهم الخيرات لما سعوا سعي العبودية نالوا خيرات الربوبية ، ) هم المفلحون ( المتخلصون عن حجب صفات النفس ) ذلك الفوز العظيم ( إذ لاحجاب أعظم من حجاب النفس والله أعلم .
تم الجزء العاشر من تفسير النيسابوري ويليه الجزء الحادي عشر وأوله ) وجاء المعذرون. .. ((3/515)
" صفحة رقم 516 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الحادي عشر من أجزاء القرآن الكريم
( التوبة : ( 90 - 99 ) وجاء المعذرون من . . . .
" وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم "
( القراآت )
المعذرون ( من الأعذار : قتيبة. الباقون : بالتشديد ) دائرة السوء ( بضم السين وكذلك في الفتح : أبو عمرو وابن كثير. الآخرون بفتحها ) قرية ( بضم الراء : نافع غير قالون : الباقون بإسكانها وكلاهما بمعنى. الوقوف : ( ورسوله ( ط ) أليم ( ه ) لله ورسوله ( ط ) من سبيل ( ط ) رحيم ( ه لا للعطف ، و ) ما ينفقون ( ه ) أغنياء ( ج لاحتمال أن يكون ) رضوا ( مستأنفاً أو وصفاً. ) مع الخوالف ( لا لأن الواو إما للعطف أو للحال. ) لا يعلمون ( ه ) إليهم ( ط ) من(3/516)
" صفحة رقم 517 "
أخباركم ( ط ) تعملون ( ه ) لتعرضوا عنهم ( ط ) عنهم ( ط ) رجس ( ز لاختلاف الجملتين مع شدة اتصال المعنى في إتمام الوعيد. ) جهنم ( ج لأن جزاء يصلح أن يكون مفعولاً له أو مفعولاً مطلقاً محذوف أي يجزون جزاء ) يكسبون ( ه ) لترضوا عنهم ( ط لابتداء الشرط مع فاء التعقيب. ) الفاسقين ( ه ) على رسوله ( ط ) حكيم ( ه ) الدوائر ( ط ) دائرة السوء ( ط ) عليم ( ه ) الرسول ( ط ) لهم ( ط ) في رحمته ( ط ) رحيم ( ه. التفسير : ( لما شرح أحوال منافقي المدينة شرع في أحوال المنافقين من أهل البدو فقال ) وجاء المعذورون ( من قرأ بالتخفيف فهو من أعذر إذا اجتهد في العذر وبالغ فيه ومنه قولهم : من أنذر فقد أعذر. فكأنه تعالى فصل بين أصحاب العذر وبين الكافرين ، فالمعذورون هم الذين أتعوا بالعذر وهم أسد وغطفان قالوا : إن لنا أتباعاً وعيالاً وإن بنا جهداً فأذن لنا في التخلف. وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيء على أهالينا ومواشينا فقال صلى الله عليه وآله : سيغنيني الله عنكم. وعن مجاهد : نفر منغفار. ومن قرأ بالتشديد ففيه وجهان : الأوّل أن يكون من التعذير وهو التقصير في الأمر والتواني فيه وحقيقته أن يوهم أن له عذراً فيما يفعل ولا عذر له. الثاني وقد ذكره الفراء والزجاج وابن الأنباري أنه من الاعتذار والأصل فيه المعتذرون أدغمت التاء في الذال بعد نقل حركتها إلى العين. والاعتذار قد يكون بالكذب كقوله تعالى : ( يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا ( وقد يكون صحيحاً كقول القائل : ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر أي ما جاء بعذر صحيح. فإذا اخذنا بقراءة التخفيف كان المعذرون صادقين ، وإذا أخذنا بقراءة التشديد وفسرناها بالمعتذرين فاحتمل الأمران. ومن المفسرين من رجح جانب صدقهم لأنه تعالى ميزهم من الكاذبين بقوله : ( وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ( وهم منافقوا الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان. ) سيصيب الذين كفروا منهم ( أي من الأعراب ) عذاب أليم ( في الدنيا بالقتل وفي العقبى بالنار. وإنما قال : ( منهم ( لعلمه بأن بعضهم سيؤمن وستخلص من هذا العقاب. ثم ذكر أن تكليف ساقط عن أًحاب الأعذار الحقيقية فقال ) ليس على(3/517)
" صفحة رقم 518 "
الضعفاء ( وهم الذين في أبدانهم ضعف في أصل الخلقة أو لهرم ) ولاعلى المرضى ( ويدخل فيه أصحاب العمى والعرج والزمانة وكل من كان موصوفاً بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة ) ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ( في الغزو على أنفسهم ) حرج ( قيل : هم مزينة وجهينة وبنو عذرة ، وفيه دليل على أنه لا يحرم عليه الخروج إذا أمكنه الإعانة بمقدار القدرة كحفظ متاع المجاهدين وتكثير سوادهم وإنما يكون ذلك طاعة مقبولة منه إذا لم يجعل نفسه كلاً ووبالاً عليهم. ثم إنه شرط في جواز العقود النصح لله ورسوله ليحترزوا بعدهم عن إلقاء الإرجاف وإثارة الفتن ويقوموا على إًلاح مهمات بيوتهم. وبالجملة على كل ما له مدخل في طاعة الله ورسوله وموافقة السر العلن كما يفعل المولى. للعتاب والمؤاخذة. قال بعض أهل الظاهر كدواد الأصفهاني وغيره : إن المحسن هو الآتي بالإحسان ورأس الإحسان وسنامه هو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله. فهذا يدل على أن الملكف إذا تكلم بهذه الكلمة برئت ذمته عن مطالبة نفسه وماله إلا بدليل منفصل كما أن السلطان لو قال لأهل مملكته تكليفي عليكم كذا وكذا وبعد ذلك لا سبيل لأحد على أحد كان ذلك دليلاً على أنه لا تكليف عليهم فيما وراء ذلك لأن باب النفي لا نهاية له فلا ينضبط إلا بهذا الطريق. وعلى هذا لو ورد في القرآن ألف تكليف أو أقل أو أكثر كان ذلك تنصيصاً على أ ، التكاليف محصورة فيها وفيما وراءها ليس لله على الخلق تكليف وأمر ونهي ، وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة ويكون القرآن وافياً ببيان التكاليف والأحكام ، ولا حاجة إلى التمسك بالقياس لأن هذا النص دل على أن الأصل براءة الذمة. فإن كان القياس مفيداً للبراءة أيضاً فضائع ، وإن كان يفيد شغل الذمة صار مخصصاً لعموم النص ، وإنه لا يجوز لأن النص أقوى من القياس. ولما ذكر الضعفاء والمرضى والفقراء بيّن قسماً راعباً وهم الذين لا يجدون لارحلة وإن قدروا على الزاد فقال : ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ( أي على المركوب. قلت : قال في الكشاف : هو حال من الكاف في ) أتوك ( بإضمار ( قد ) أي إذا ما أتوك قائلاً ) لا أجد ما أحملكم عليه تولوا ( وجوز أن يكون واسطة بين الشرط والجزاء كالاعتراض. قلت : ويحتمل أن يكون بدلاً من ) أتوك (. قال مجاهد : هم أبناء مقرن معقل وسيد والنعمان ، وقيل : أبو موسى الأشعري وأصحابه أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله يستحملونه ووافق منه غضباً فقال : والله ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم مدبرون يبكون فدعاهم وأعطاهم ذو داغر الذري. فقال أبو موسى : ألست حلفت يا رسول الله فقال : أما إني إن شاء الله لا أحلف(3/518)
" صفحة رقم 519 "
بيمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني. وقيل : هم البكاؤون سبعة نفر من الأنصار معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وعلبة بن زيد وسالم بن عمير وثعلبة بن عنمة وعبد الله بن مغفل ، وأتوا رسول الله صلى الله عيه وآله فقالوا : يا نبي الله إن الله عز وجل قد ندبنا للخروج معك فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو معك. فقال : لا أجد ما أحملكم عليه فولوا وهم يبكون. وقوله ( تفيض من الدمع ( كقولك تفيض دمعاً وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كلها فائضة. و ( من ) للبيان والجار والمجرور في محل النصب على التمييز. ) حزناً أن لا يجدوا ( أي على أن لا يجدوا. ) إنما السبيل ( أي سبيل الخطاب والعتاب في أمر الغزو والجهاد ) على الذين يستأذنوك ( في التخلف وهم أغنياء. ثم قال على سبيل الاستئناف ) رضوا ( كأنه قيل مالهم استأذنوا وهم قادرون على الاستعداد ؟ فقيل : رضوا بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف ومن جملة أسباب الاستئذان أن طبع الله تعالى على قلوبهم. قال لأهل العلم : لما قال في الآية الأولى و ) إذا أنزلت سورة ) [ التوبة : 86 ] قال هناك ) وطبع ) [ التوبة : 87 ] ليكون المجهول مبنياً على المجهول بخلافه في هذه الآية. ثم إن العلم فوق الفقه فكان أنسب بالمقام الذي جرى فيه ذكر الله. أما قوله ) قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم ( فإنه لعة المنع من الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصير عذره مقبولاً فإذا علم بأن القوم يكذبونه وجب عليه تركه. وقوله ( قد نبأنا الله ( علة لانتفاء التصديق. ) وسيرى الله عملكم ( يني رؤية وقوع أي سيقع أنكم هل تبقون على الحالة التي تظهرونها أم لا. وفي قوله ) ثم تردّون على عالم الغيب ( تخويف شديد وفيه أنه مطلع على بواطنهم الخبثة وضمائرهم المملوءة من النفاق والكذب. وإنما لم يقل في هذه الآية و ( المؤمنون ) كما في الآية التي تجيء ، لأن هذه في المنافقين ولا يطلع على ما في باطنهم إلا الله ثم رسوله باطلاع الله إياه أوبنور نبوته كما قال ) قد نبأنا الله من أخباركم ( والآية الأخرى في المؤمنين وعباداتهم ظاهرة للكل. وختم آية المنافقين بقوله ) ثم تردون ( لأنه وعيد فقطعه عن الأول بخلاف آية المؤمنين حيث وصلها بالواو لأنه وعد من الله. ثم ذكر أن منافقي الأعراب سيؤكدون أعذارهم بالأيمان الكاذبة مثل ما حكى تعالى عن منافقي المدينة فقال : ( سيحلفون بالله لكم ( أي لأجلكم ) إذا انقلتم ( أي رجعتم ) إليهم ( ولم يذكر المحلوف عليه. والظاهر أنهم حلفوا على أنهم ما قدروا على الخروج ولكن بين غرضهم من الحلف فقال ) لتعرضوا عنهم ( أرادوا الصفح والعفو فأمر الله المؤمنين بإعطاء طلبتهم ولكن على سبيل المقت لا الصفح ولهذا قال ابن عباس : أراد ترك الكلام(3/519)
" صفحة رقم 520 "
والسلام. وقال مقاتل : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين قدم المدينة : لا تجالسوهم ولا تكلموهم وكانوا ثمانين رجلاً منهم جد بن قيس ومعتب بن قشير. ثم بين علة الاجتناب عنهم فقال : ( إنهم رجس ( فكأنهم نجس العين فلا سبيل إلى تطهيرهم بالعتاب والتوبيخ وفي أمثالهم إنما يعاتب الأديم ذو البشرة. المعاتبة المعاودة وبشرة الأديم ظاهره الذي عليه الشعر أي إنما يعاد الدباغ من الأديم ما سلمت بشرته ، يضرب لمن فيه مراجعة ومستعتب وإذا لم تكنالمعاتبة نافعة فيهم فتركها هو الصواب ) ومأواهم ( جهنم منقلبهم النار عتاباً توبيخاً. ثم بين أنهم طلبوا إعراض الصفح بقوله ) يحلفون لكم لترضوا عنهم ( نهاهم عن الرضا بقوله ) فإن ترضا عنهم ( الآية ، ذلك أن إرادة المؤمن يجب أن تكون موافقة لإرادة الله ، وأي فائدة في رضا المؤمنين إذا كان الله تعالى ساخطاً عليهم ؟. ثم عدد مثالب الأعراب وأراد بهم جمعاً معينين كانوا يوالون منافقي المدينة. قال أهل اللغة : رجل عربي إذا كان نسبه إلى العرب ثابتاً ، ورجل أعرابي إذا كان بدوياً سواء كان من العرب أو من موالهيم وجمعه أعراب كالمجوسي والمجوس واليهودي واليهود. فالأعرابي إذا قيل له يا أعرابي فرح ، وإذا قيل للعربي يا أعرابي غضب ، وذلك أن من استوطن القرى العربية فهو عربي ومن نزل البادية فهو أعرابي ولهذا لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب وإنما هم عرب. قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا تؤمنّ امرأة رجلاً ولا فاسق مؤمناً ولا أعرابي مهاجراً ) قيل : إنما سمى العرب عرباً لأن أولاد إسماعيل عليه السلام نشؤا بالعربة وهي من تهامة ونسبوا إلى بلدهم ، وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم. وقيل : لأن ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم لما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة ، يحكى عن بعض الحكماء أنه قالك حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة ، وحكمة الهند في أوهامهم ، وحكمة اليونان في أفئدتهم وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية ، وحكمة العرب في ألسنتهم وذلك لحلاوة ألفاظهم وعذوبة عباراتهم. وإنما حكم على الأعراب بأنهم أشد كفراً ونفاقاً لأنهم يشبهون الوحوش. سئل بعض الحكماء ما بال أهل البادية لايحتاجون إلى الطبيب ؟ فقال : كما لا يحتاج حمر الوحش إلى البياطرة ولاستيلاء الهواء الحار عليهم الموجب لكثرة الطيش والخروج عن الاعتدال ، وإن من أصبح وأمسى مشرفاً عليه أنوار النبوة ومشرفاً باستماع مواعظه وآدابه كيف يكون مساوياً(3/520)
" صفحة رقم 521 "
لمن نشأ كما يشاء من غير سياسة سائس ولا تأجيب مؤدب ؟ وإن شئت فقس الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الجفاء والقسوة في الفدّادين ) أي الأكارين لأنهم يفدّون أي يصيحون. وقوله : ( وأجدر ( أي أولى وأحق ) بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله ( أي مقادير تكاليفه وأحكامه وما تنتهي إليه الأدلة العقلية والسمعية ) والله عليم ( بما في قلوب أهل البدو والحضر وأصحاب الوبر والمدر ) حكيم ( في كل ما قدر من الشرائع وما يتبعها من الجزاء. ثم نوع جنس الأعراب فقال : ( ومن الأعراب ومن يتخذ ما ينفق مغرماً ( هو فعول ثانٍ ليتخذ لأنه بمعنى الجعل والاعتقاد والزعم أي يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران. وقد عرفت أن أصل الغرم اللزوم كأنه اعتقد أنه لزمه لأمر من خارج كتقية أو رياء ليس مما ينبعث من النفس ، والمغرم إما مصدر أو موضع. ) ويتربص بكم الدوائر ( نوب الزمان وتصاريفه ودوله وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه تشبيهاً بالدائرة التي تحيط بما في ضمنها بحيث لا يوجد منها مخلص. ثم خيّب الله ظنونهم بالإسلام وذويه بأن دعا عليهم بقوله : ( عليهم دائرة السوء ( وإنها جملة معترضة كقوله ) غلت أيديهم ) [ المائدة : 64 ] والسوء بالفتح مصدر أضيف إليه الدائرة للملابسة كقولك ( رجل صدق ). قال في الكشاف : وهو ذم للدائرة لأن من دارت عليه ذامّ لها وبالضم اسم بمعنى البلاء. والعذاب ، والمراد أنهم لا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوءهم. ) والله سميع ( لأقوالهم ) عليم ( بنياتهم. قيل : هم أعراب أسد وغطفان وتميم. ثم ختم الكلام بذكر الصالحين منهم فقال : ( ومن الأعراب من يؤمن ( الآية. والمعنى أنهم يعتقدون ما ينفقونه سبباً لحصول القربات عند الله وسبباً لصلوات الرسول عليهم لأنه كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله : اللهم صل على آل أبي أوفى. ثم إنه تعال شهد لهم ولأمثالهم بصحة ما اعتقدوه فقال على طريق الاستئناف مؤكداّ بحرفي التنبيه والتحقيق ) ألا إنها قربة لهم ( ثم فسر القربة بقوله : ( سيدخلهم الله في رحمته ( والسين لتحقيق الوعد. قيل : هم عبد الله ذو البجاد بن ورهطه ، أخذت أمه بجاداً وهو كساء مخطط فشقته نصفين فردّته بأحدهما وأزرته بالثاني وبعثته إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكان قائده والله أعلم. التأويل : الناس ثلاثة : المتضررون المعذورون المعترفون بتقصيرهم ، والقاعدون الكذابون ، والناصحون المخلصون في الطلب ولكن فيهم الضعفاء والمرضى والفقراء فلا حرج عليهم في القعود عن طلب الكمال بالظواهر مع اشتغال البواطن في الطلب بقدر الاستعداد .(3/521)
" صفحة رقم 522 "
) ولا على الذين إذا ما أتوك ( بطريق المتابعة ) لتحملهم ( على جناح الهمة النبوية وتوصلهم إلى مقامات لم يكونوا بالغيها بجناحي البشرية والروحانية ) قلت لا أجد ما أحملكم عليه ( ترفاً ودلالاً واستيراء لزناد أشواقهم كما قيل لموسى لن تراني زيادة لشوقه وهم أغنياء لهم الاتسعدادات الكاملة فلم يستعملوها في طلب الكمال كسلاً وميلاً إلى اللذات العاجلة. ) الأعراب أشد كفراً ( إن في عالم الإنسانية بدواً هو نفسه وحضراً هو قلبه ، والكفر والنفاق للنفس مقتضى الذات كما أن الإيمان للقلب لذاته بالفطرة ، وقد يصير القلب كافراً بسراية النفس وقد تصير النفس مؤمنه بسراية القلب ، ولكن النفس تكون أشد كفراً من القلب الكافر كما أن القلب يكون أشد أيماناً من النفس المؤمنة. ) حدود ما أنزل الله على رسوله ( يعني الواردات النازلة على الروح فإن القلب حضر الروح كما أن المدينة حضر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومن النفوس من يعتقد أن ما يصرف من أوقاته في طلب الكمال ضائع وخسار وينتظر بالقلب اشتغالاً وفترة. ) عليهم دائرة السوء ( باستيلاء القلب عليها وقهرها بما يخالف هواها ) والله سميع ( يجيب هذا الدعاء ) عليم ( بمن ينبغي أن يسمع في حقه. ( التوبة : ( 100 - 110 ) والسابقون الأولون من . . . .
" والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار(3/522)
" صفحة رقم 523 "
فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم "
( القراآت )
من تحتها ( بزيادة من : ابن كثير. والباقون بحذفها وبالنصب على الظرف. ) والأنصار ( بالرفع : يعقوب : الآخرون بالجر. ) إن صلاتك ( علىالتوحيد : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون على الجمع بكسر التاء علامة للنصب ) مرجون ( بواو ساكنة بعد الجيم : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى أبي بكر وحماد. الباقون بالهمزة المضمومة بعد الجيم. ) الذين اتخذوا ( بغير واو : أبو جعفر ونافع وابن عامر ) أسس بنيانه ( مجهولاً في الحرفين : ابن عامر ونافع ) حرف ( بسكون الراء : ابن عامر وحمزة وخلف ويحيى وحماد. الباقون بالضم ) هار ( بالإمالة : أبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو وعلي غير ليث ، وابن حمدون وحمدويه والنجاري عن ورش وابن ذكوان غير ابن مجاهد والنقاش ويحيى وحماد ) إلى أن ( قرأها يعقوب. الباقون ) إلا أن ( ) تقطع ( فعلاً ماضياً أو مضارعاً بحذف التاء من التعفل : ابن عامر ويزيد وحمزة حفص والمفضل وسهل ورويس. ) تقطع ( مضارعاً مجهولً من التقطع : روح. الباقون ) تقطع ( مضارعاً مجهولاً من التقطيع. الوقوف : ( بإحسان ( لا لأن قوله : ( رضي الله عنهم ( خبر ) والسابقون ( ) أبداً ( ط ه ) العظيم ( ه ) منافقون ( ط لمن قدر ومن أهل المدينة قوم مردوا ، ومن وصل وقف على ) أهل المدينة ( تقديره هم مردوا ) على النفاق ( ط ) ومن قدر ومن أهل المدينة قوم احتمل أن يجعل ) لا تعلمهم ( صفة للقوم فلم يقف ) لا تعلمهم ( ط ) نحن نعلمهم ( ط ) عظيم ( ه ج لاحتمال أن يكون التقدير ومنهم آخرون وأن يكون معطوفاً على ) منافقون ( أو على قوم المقدر ) سيئاً ( ط ) عليهم ( ط ) رحيم ( ه ) وصل عليهم ( ط ) لهم ( ط ) عليم ( ه ) الرحيم ( ه ) والمؤمنون ( ط ) تعملون ( ه ) يتوب عليهم ( ط ) حكيم ( ه ) من قبل ( ط ) الحسنى ( ط ) لكاذبون ( ه ) أبدا ( ط ) أن تقوم فيه ( ط ) أن يتطهروا ( ط ) المطهرين ( ه ) في نار جهنم ( ط ) الظالمين ( ط ) قلوبهم ( ط ) حكيم ( ه. التفسير : لما ذكر الأعراب المخلصين بين أن فوق منازلهم منازل أعلى وأجل وهي منازل السابقين الأوّلين والتابعين لهم بإحسان ؛ قال ابن عباس : السابقون الأوّلون من المهاجرين هم الذين صلوا إلى القلتين وشهدوا بدراً. وعن الشعبي : هم الذين بايعوا بيعة الرضوان بالحديبية ومن الأنصار أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة نفر ، وأهل بيعة(3/523)
" صفحة رقم 524 "
العقبة الثانية وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن. والظاهر أن الآية عامة ي كل من سبق في الهجرة والنصرة. قال أهل السنة : لا شك أن أبا بكر أسبق في الهجرة أو هو من السابقين فيها وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنه رضي عنهم. ولا شك أن الرضا معلل بالسبق إلى الهجرة فيدوم بدوامه ، فدل ذلك على صحة إمامته وإلا استحق اللعن والمقت. قال أكثر العلماء : كلمة ( من ) في قوله ) من المهاجرين والأنصار ( للتبعيض ، وإنما استحق السابقون منهم هذا التعظيم لأنهم آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وفيهم ضعف فقوي الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين واقتدى بهم غيرهم. وقد قيل : من سن سنة حسنه فله أجرها وأجر من عمل بها. وقيل : للتبيين ليتناول المدح جميع الصحابة. وروي عن حميد بن زياد أنه قال : قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي : ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما كان بينهم ؟ فقال لي : إن الله تعالى قد غفر لهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم. قلت له : في أي موضع أوجب لهم الجنة ؟ قال : سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى : ( والسابقون الأوّلون ( إلى آخر الآية ؟ أوجب لجميعهم الرضوان وشرط على التابعين شرطاً لم يشترط عليهم وهو الاتباع بالإحسان وذلك أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة لا السيئة ، أو بإحسان في القول وهو أن لا يقولوا فيهم سوءاً ويحفظوا لسانهم عن الاغتياب والطعن في حقهم. قال العلماء : معنى رضا الله عنهم قبول طاعاتهم. ثم عاد إلى شرح أحوال المنافقين فقالك ) وممن حولكم ( هو خبر و ) من الأعراب ( بيان أو حال و ) منافقون ( مبتدأ ) ومن أهل المدينة ( عطف على الخبر أو خبر لمبتدأ آخر بناء على أن التقدير ومن أهل المدينة قوم ) مردوا ( التركيب يدل على الملابسة والبقاء على هيئة واحدة من ذلك ( سرح ممرد ) و ( غلام أمرد ) و ( أرض مرداء ) لا نبات فيها وتمرد إذا عتا فإن من لم يقبل قوله غيره ولم يلتفت إليه بقي كما كان على هيئته الأصلية من غير تغير. فمعنى مردوا على النفاق تمهروا وتمرنوا وبقوا عليه حذاقاً معوّدين إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع وفور حدسك وقوة ذكائك. ثم قال ) سنعذبهم مرتين ( قال ابن عباس : هما العذاب في الدنيا بالفضيحة والعذاب في القبر. روى السدي عن أبي مالك أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قام خطيباً يوم الجمعة فقال : اخرج يا فلان إنك منافق ، اخرج يا فلان إنك منافق ، حتى أخرج ناساً وفضحهم. وقال مجاهد : هما القتل السبي وعذاب القبر. وقال قتادة : بالدبيلة وعذاب القبر. وقال محمد بن إسحاق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام والمسلمين ثم عذابهم في القبور. وقال الحسن : بأخذ الزكاة من أموالهم وبعذاب القبر. وقيل : أحد العذابين(3/524)
" صفحة رقم 525 "
ضرب الملائكة والوجوه والإدبار والآخر عند البعث يوكل بهم عنق من نار. ) ثم يردون إلى عذاب عظيم ( هو الدرك الأسفل من النار. قال الكلبي : وممن حولكم جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار ، ومن أهل المدينة عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قشير وأبو عامر الراهب وأضرابهم. ثم قال روآخرون ( وهو معطوف على ) منافقون ( أو مبتدأ. و ) اعترفوا ( صفته و ) خلطوا ( خبره ) عسى الله ( جملة مستأنفة. وقيل : ( خلطوا ( حال بإضمار ( قد ) ) عسى الله ( خبر. وللمفسرين خلاف في أنهم قوم من المنافقين تابوا عن نفاقهم أو قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا للكفر والنفاق ولكن للكسل ثم ندموا على ما فعلوا. عن ابن عباس في رواية الوالبي نزلت في قوم كانوا قد تخلفوا ثم ندموا وقالوا نكون مفي الكن والظلال مع النساء ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه في الجهاد. روي أنهم كانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام. وقيل : كانواعشرة فسبعة منهم حين بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد وقالوا : والله لا نطلق أنفسنا حتى يكون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي يطلقنا ويعذرنا. فقدم رسول الله فدخلالمسجد وصلى ركعتين - وكانت هذه عادته كلما قدم من سفر - فرآهم موثقين فسأل عنهم فقالوا : هؤلاء تخلفوا عنك فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم. فقال رسول الله : وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم جحتى أومر بإطلاقهم فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها فتصدق بها وطهرنا. فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً فنزل ) خذ من أموالهم صدقة ( الآية. والاعتراف هو الإقرار بالشيء عن معرفة والمراد أنهم أقروا بذنوبهم وهذه كالمقدمة للتوبة لأن الاعتراف بالذنب لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في الحال. وفي الاستقبال ) خلطا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ( أي خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك : خلطت الماء واللبن. وهذا أبلغ من قولك : خلطت الماء باللبن. لأنك جعلت في الأول كلاً منهما مخلوطاً ومخلوطاً به كأنك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء. ويجوز أن يكون الوو بمعنى الباء من قولك : بعت شارة ودرهماً أي شاة بدرهم. وذلك أن الواو للجمع والباء للإلصاق فهما متقاربان. ويجوز أن يقال : الخلط ههنا بمعنى الجمع. قال أهل السنة : فيه دليل على نفي القول بالمحابطة لأنه لو لم يبق العملان لم يتصور اختلاطهما. وفي قوله ) عسى الله أن يتوب عليهم ( دليل على وقوع التوبة التي أخبر بحصول مقدمتها وهي الاعتراف منهم ، وفيه دليل على قبول توبتهم لأن ) عسى ( من الكريم إطماع(3/525)
" صفحة رقم 526 "
واجب. وفائدته أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق فلا يتكل ولا يهمل ، وفيه أن التوبة بخلق الله. وقالت المعتزلة : معنى أن يتوب أن يقبل التوبة. ورد بأنه عدول عن الظاهر مع أن الدليل العام وهو وجوب انتهار الكل إلى مشيئته وتكوينه يعضد ما قلناه. ثم قال سبحانه ) خذ من أموالهم صدقة ( عن الحسن : كانوا يقولون ليس المراد من هذه الآية الصدقة الوجبة وإنما هي صدقة كفارة الذنب الذي صدر عنهم وبهذا يحصل النظم بينها وبين ما قبلها كما مر. وقال أكثر الفقهاء : المراد بها الزكاة ووجه النظم أنهم لما أظهروا التوبة والندامة أمروا بإخراج الزكاة الواجبة تصحيحاً لدعواهم. ومما يدل على ذلك أن الأمر ظاهره الوجوب وأيضاً التطهير والتزيكة يناسب الواجب لا التطوع. وفي قوله ) من أموالهم ( دلالة على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال ، وتعيين ذلك البعض إنما عرف من السنة. وفي إضافة المال إليهم دليل على أن المال مالهم ولا شركة للفقير في فتكون الزكاة متعلقة بذمته حتى لو تلف النصاب بعد الوجوب بقي الحق في ذمة المالك وهو قول الشافي ) تطهرهم وتزكيهم ( التاء فيهما للخطاب أي تطهرهم أيها الآخذ وتزكيهم بواسطة تلك الصدقة. وقيل : التاء في ) تطهرهم ( للتأنيث والضمير للصدقة وفيه نوع انقطاع للمعطوفين. قال العلماء : المعطوفان متغايران لا محالة فالتزكية مبالغة في التطهير أو هي بمعنى الإنماء كأنه تعالى جعل النقصان سبباً للإنماء والزيادة والبركة ، أو المراد بالتزكية تعظيم شأنهم والإثناء عليهم. قال أبو حنيفة : ظاهر الآية يدل على أن الزكاة طهرة للآثام فلا تجب إلا حيث يمكن حصول الآثام وذلك لا يعلم إلا في حق البالغ العاقل دون الصبي والمجنون. وقال الشافعي : تجب الزكاة في مالهما لأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقاً ) وصلِّ عليهم ( قال ابن عباس : معناه ادع لهم. فمن هنا قال الشافعي : السنة للأإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول : أحرك الله فميا أعطيت وبارك لك فيما أبقيت. وقال آأخرون بظاهر اللفظ لما روي عن عبد الله بن أبي أوفى قالك كان أبي من أصحاب الشجرة وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهم صل على آل فلان فآتاه أبي بصدتقه فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى : وأكثر الأئمة الآن على أنه لا تحسن الصلاة لغير النبي على غيره إلا تبعاً. وأطلق بعضهم - كالغزالي وإمام الحرمين - لفظ الكراهة وقالوا : السلام أيضاً في معنى الصلاة. وأما الشيعة فإنهم يذكرون الصلاة والسلام في حق آل الرسول أيضاً كعلي وأولاده عليه السلام وهم على العموم من القرشيين بنو هاشم والمطلب دون بني أمية وبني نوفل وغيرهم. قالوا : لأنها كانت جائزة في حق من يؤدي الزكاة فكيف يمتنع ذكره أو لا يحسن(3/526)
" صفحة رقم 527 "
في أهل بيت الرسول ؟ ولأن الكل أجمعوا على جوازها بالتبعية فما الفرق ؟ وأما السلام فلا كلام عليه لأنه جائز في حق جمهور المسلمين فكيف لا يجوز في آل الرسول ؟ ) إن صلاتك سكن لهم ( والسكن ما يسكن إليه المرء وتطمئن به نفسه ، وذلك لأن دعاءه يستجاب ألبتة فيتطهرون بها ، وكيف لا يفيض إشراق نفسه عليهم بتوجهه إليهم والترحم لهم ؟ احتج مانعو الزكاة بها في زمان أبي بكر قالوا : الوجوب مشروط بحصول السكن والآن لا سكن. ورُدَّ عليهم بسائر الآيات. روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما حكم بصحة توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يمكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت ) ألم يعلموا ( يعني غير التائبين. وقيل : معناه ألم يعلم التائبون قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم ) أن الله هو يقبل التوبة ( الصحيحة ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية. وفائدة توسط هو أن يعلم أن الإلهية هي الموجبة لقبول التوبة لاستغنائه عن طاعة المطيعين ومعصية المذنبين فإذا انتقل العبد من حالة المعصية إلى حال الطاعة وجب على كرمه قبول توبته. وفيه أيضاً أن قبول التوبة ليس إلى الرسول. وفي قوله ) عن عبادهؤ دون ( من ) إشارة إلى البعد الذي يحصل للعبد عن الله بسبب العصيان أو إلى تبعيده نفسه عن الله هضماً وانكساراً. وفي إضافة أخذ الصدقات إلى الله بعد أن أمر الرسول بالأخذ تشريف عظيم لهذه الطاعة ، وأنها من الله بمكان ، وأنه يربيها كما يربي أحد نافلوه حتى إن اللقمة تكون عند الله أعظم منأحد وقد جاء هذا المعنى في الحديث. ثم أمر نبيه بأن يقول للتائبين أو لغير التائبين ترغيباً لهم في التوبة ) اعملوا ( فيه نوع تهديد وتخويف ) فسرى الله عملكم ( وقد مر تفسير مثله عن قريب. والحاصل أنه كأنه قيل لهم اجتهدوا في العمل فإن له في الدنيا حكماً وهو أن يراه الله ورسوله والمؤمنون ، وفي الآخرة حكماً وهو الجزاء. وبوجه آخر كأنه قيل : إن كنت من المحققين فاعمل لله ، وإن كنت من الظاهريين فاعمل لتفوز بثناء شهداء الخلق وهم الرسول والمؤمنون فإنهم شهداء الله يوم القيامة ، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية. ولا شك أن رؤية الله تعالى شاملة لأفعال القلوب والجوارح جميعاً. أما رؤية الرسول والمؤمنين فلا تشمل أفعال القلوب إلا بإرادة الله وطلاعه وإفشائه. واعمل أنه تعالى قسم المخلفين إلى ثلاثة أقسام : منهم المنافقون الذين مردوا على النفاق ، والثانيا التائبون المعترفون بذنوبهم ، والثالث الذين بقوا موقوفاً أمرهم وذلك قوله ) وآخرون ( وإعرابه كإعراب قوله ) وآخرون اعترفوا ( ومعنى ) مرجعون ( أي مؤخرون من أرجيته وأرجأته غذا أخرته ومنه قوله : ( أرجه وأخاه ) [ الأعراف : 111 ] كما مَرّ ، وبه سميت المرجئة لأنهم جازمون بغفرانه ذنب التائب ولكن(3/527)
" صفحة رقم 528 "
يؤخرونها إلى مشيئة الله ويقولون : إنهم مرجون لأمر الله. وقال الأوزاعي : لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان. وقال ابن عباس : نزلت في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ، أمر رسول الله أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم ، فلما علموا أن أحداً لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله وأخلصوا نياتهم فقبلت توبتهم ونزل فيهم ) وعلى الثلاثة الذين خلفا ( كما سيجيء. وقال الحسن : إنهم قوم من المنافقين حذرهم الله بهذه الآية إن لم يتوبوا. وقوله : ( إما يعذبهم ( التشكيك فيه راجع إلى العبادة أي ليكن أمرهم على الخوف والرجاء وكان يقول أناس هلكوا إنلم ينزل الله لهم عذراً ، ويقول آخرون : عسى الله أن يغفر لهم. قال الجبائي : جعل أمرهم دائراً بين التعذيب والتوبة فدل ذلك على انتفاء القسم الثالث وهو العفو من غير التوبة ، وأجيب بأنه يجوز أن تكون المنفصلة مانعة الجمع فقط. ولما ذكر أصناف المنافقين وبين طرائقهم المختلفة قال : ( والذين اتخذوا ( كأنه قال : ومنهم الذين اتخذوا. في الكشاف : أن محله النصب على الاختصاص ، أو الرفع على الابتداء وخبره محذوف أي وممن وصفوا هؤلاء الأقوام. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير : كانوا اثني عشر رجلاً بنوا مسجداً يضارّون به مسجد قباء. وروي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبني مسجداً كذلك. واعلم أنه سبحانه حكى أن الباعث لهم على هذا العمل كان أموراً أربعة : الأول الضرار وهو المضارة والثاني الكفر بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبالإسلام وذلك أنهم أرادوا تقوية أهل النفاق ، والثالث التفريق بين المؤمنين لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعتهم ولا سيما إذا صلى النبي في مسجدهم فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ، والرابع قوله : ( وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله ( وقوله ( من قبل ( يتعلق ب ) حارب ( أي من قبل بناء مسجد الضرار. وقال في الكشاف : إنه متعلق ب ) اتخذوا ( والمراد من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف. قال الزجاج : الإرصاد الانتظار. وقال ابن قتيبة : الانتظار مع العداوة. وقال الأكثرون : إنه الإعداد. والمراد بمن حارب أبو عامر الراهب والد أبي حنظلة الذي غسلته الملائكة ، وسماه رسول الله الفاسق وكان قد تنصر في الجاهلية وترهب وطلب العلم فلما ظهر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عاداه لأنه زالت رياسته وقال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم(3/528)
" صفحة رقم 529 "
حنين ، فملا انهزمت هوازن خرج هارباً إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدو بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر وآتٍ بجنود ومخرج محمداً وأصحابه من المدينة ، فبنوا مسجداً وانتظروا أبا عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد. ثم أخبر الله تعالى عن نفاقهم بقوله : ( وليحلفن إن أردنا ( أي ما أردنا ببناء هذا المسجد ) إلا ( الخصلة ) الحسنى ( وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المسلمين. قال المفسرون. إنهم لما بنوا مسجدهم وافق ذلك غزوة تبوك فأتوا رسول الله وقالوا : بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدو لنا بالبركة. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه. فلما قفل من الغزوة سألوه إتيان المسجد فنزل ) لا تقم فيه أبداً ( الآية فدعا بملك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشي - قاتل حمزة - فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيه الجيف والقمامة ، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين. وقال الحسن : همّ رسول الله أن يذهب إلى ذلك المسجد فناداه جبرائيل لا تقم فيه. ولا ريب أن النهي عن القيام فيه يستلزم النهي عن الصلاة فيه. ثم بيّن علة النهي فقال : ( لمسجد أسس على التقوى من أوّل يوم ( أي من ابتداء وجوده ) أحق أن تقوم فيه ( والمعنى لو كان القيام في غيره جائزاً لكان هذا أولى لاشتماله على اللخيرات الكثيرة فكيف إذا كان غيره مشتملاً علىالمفاسد الكثيرة من الضرار وغيره ؟ قالت الشيعة في هذا المقام : إن المسجد إذا كان مبنياً على التقوى من أول يوم كان أولى بالصلاة فيه ؛ فالإمام أولى بأن يكون متقياً من أول عمره وما ذاك إلا عليّ عليه السلام لأنه لم يكفر بالله طرفة عين. واختلفوا في هذا المسجد فقيل : مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة ، عن أبي سعيد الخدري سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن المسجد الذي أسس على التقوى. فأخذ الحصباء وضرب بها الأرض وقالك هو مسجدكم هذا مسجد المدينة. وقيل : هو مسجد قباء أسسه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصلى فيه أيام مقامه بقباء يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة ، قال في الكشاف : وهذا أولى لأن الموازنة بين مسجدي قباء أوقع. وقال القضي : كل مسجد بني على التقوى فإنه يدخل فيه كما لو قال قائل لرجل صالح أحق أن تجالسه لم يكن ذلك مقصوراً على واحد. وأيضاً كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى وجه الله أو بمال غير طيب فهو لاحق بمسجد الضرار. ثم ذكر لمسجد التقوى وصفاً آخر وذلك قوله : ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ( فقيل : إنه التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار والإخلاص كما أن أهل مسجد الضرار(3/529)
" صفحة رقم 530 "
وصفوا بأضداد هذه الأمور من الضرار والكفر والتفريق ، ولأن طهارة الباطن أشد تأثيراً من طهارة الظاهر في القرب من الله. وقيل : إنه التطهر بالماء وذلك أنهم كانوا لا ينامون الليل على الجنابة ويتبعون الماء أثر البول. وروي أنها لم نزلت مشى رسول الله ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال : ( أمؤمنون أنتم ؟ ) فسكت القوم. ثم أعادها فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم. فقال عليه السلام : ( أترضون بالقضاء ؟ ) قالوا : نعم قال : ( أتصبرون على البلاء ؟ ) قالوا : نعم. قال : ( أتشكرون في الرخاء ؟ ) : قالوا : نعم. فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( مؤمنون ورب الكعبة ) فجلس ثم قال : يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط ؟ فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء. فتلا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( رجال يحبون أن يتطهروا ( وقيل : يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم فحموا بأجمعهم. ومحبة التطيهر إيثاره والحرص عليه ومحبة الله الرضا عنهم والإحسان إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه. ثم بين أنه لا نسبة فين الفريقين وأن بينهما بوناً بعيداً فقال مستفهماً على سبيل التقرير ) أفمن أسس بنيانه ( وهو مصدر كالعمران وأريد به المبني والمعنى أن من أسس بناء دينه على قاعدة قوية محكمة وهي تقوى الله ورضوانه ) خير أم من أسس ( دينه على ضد ذلك. والشفا هو الشفير أي الشفة ، والجرف هو ما إذا سال السيل وانحسر الوادي ويبقى على طرف المسيل طين واهٍ مشرف على السقوط ساعة فساعة لذلك الموضع الذي هو بصدد السقوط جرف ، والهار الهائر وهو أيضاً المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط. قال الليث : الهاء مصدرها الجرف يهور إذا انصدع من خلفه وهو ثابت بعد في مكانه ، فإذا سقط فقد انهار. وقال في الكشاف : إنه صفة قصرت عن فاعل كخلف من خالف وألفه ليست بألف فاعل إنما هي عينه وأصله ( هور ) على ( فعل ) ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل ، فلكونه على شفا جرف هار كان مشرفاً على السقوط ، ولكونه على طرف جهنم كان إذا انهار فإنما يسقط في قعر جهنم ، يروى أنه حفرت بقعة من مسجد الضرار فرؤي الدخان يخرج منه. ثم ذكر أن بنيانهم ذلك سبب لازديد ريبهم فقال : ( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة ( في كونه سبباً للريبة ) في قلوبهم ( وجوه منها : أن هدمه صاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما ظنوا أن تخريبة لأجل الحسد فارتفع أمانهم عنه وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم يفه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم فلا تزول تلك الريبة ) إلا أن تقطع قلوبهم ( أجزاء متفرقة إما بالموت وإما بالسيف وإما بالبلاء فحينئذٍ يضمحل أثرها عنها. والمقصود أن هذا(3/530)
" صفحة رقم 531 "
الشك يبقى في قلوبهم أبداً ويموتون على النفاق. قال في الكشاف : يجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها ، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبول أو في النار. وقيل : معناه إلا أن يتوبوا تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. التأويل : ( والسابقون الأولون ( الذين سبقت لهم العناية الأزلية ، أو السابقون الأوّلون عند الخروج من العدم وهم أهل الصف الأول من الجنود المجندة ، أو السابقون في جواب ) ألست بربكم ) [ الأعراف : 172 ] الأولون في اتسماع هذا الخطاب ، أبو السابقون في استحقاق المحبة عند اختصاصهم بتشريف يحبهم في الأزل ، الأولون بأداء حق المحبة في سر يحبونه ، أوالسابقون عند تخمير طينة آدم في مماسة ذراتهم يد القدرة ، الأولون باستكمال تصرف القدرة في كمال الأربعين صباحاً ، أو السابقون عند رجوعهم بقدم السلوك إلى مقام الوصال ، الأولو نبالوصول إلى سرادقات الجلال ، وهذا السبق مخصوص بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبأمته كما قال : ( نحن الآخرون السابقون ). ) من المهاجرين ( عن الأوطان البشرية ) والأنصار ( لهم في طلب الحق ) والذين ابتعوهم بإحسان ( بذلوا جهدهم في متابعتهم بقدر الإمكان ) ضي الله عنهم ( بإعطاء الاستعدادات الكاملة ) ورضوا عنه ( بإيفاء حقوقها. ) وممن حولكم ( من أعراب صفات النفس ) منافقون ومن أهل ( مدينة القلب فمن صفات النفس بعضها منافق كالقوة الشهوية للوقاع فإنها تتبدل بالعفة عند استيلاء القلب على النفس بسياسة الشريعة وتربية الطريقة ظاهراً لا حقيقة لأنها لا تتبدل بالكلية بل تميل إلى الشهوة إذا خليت وطباعها ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وإن أخوف ما أخاف على أمتي النساء ) ومنها كافرة كالقوة الشهوية في طلب الغذاء فإنها بالقية على طلبها ما دام البدن باقياً لاحتياجه إلى بدل ما يتحلل ، ومنها مسلمة كالقوة الغضبية والشيطانية من الكبر والحسد والكذب والخيانة فإنها يحتمل أن تتبدل بأضدادها من التواضع والمحبة والصدق والأمانة عند استنارة النفس بنور الإيمان والذكر. فهذه الصفات وغيرها من صفات النفس ما لم تتبدل بالكلية أو لم تكن مغلوبة بأنوار صفات القلب ففيها بعض النفاق كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أربع من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : إذا حدّث كذب وإذا أؤتمن خان وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر ومنكانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق(3/531)
" صفحة رقم 532 "
حتى يدعها ) ) لا تعلمهم نحن نعلمهم ( يعني أن هذه الأفعال لا يعرفها أرباب العلوم الظاهرة وإنما يعرفها أًحاب الكشوف الباطنة. ) سنعذبهم مرتين ( مرة بأحكام الشريعة ومرة بآداب الطريقة ) ثم يردّون ( بجذبات اللطف ) إلى عذاب عظيم ( هو الفطام عن الكونين والفناء في الله أو بجذبات القهر إلى إسبال حجب البعد والبقاء في عالم الطبيعة ) وآخرون ( يعني القلب وصفاته ) اعترفوا ( بذنوب ثوبت صفات النفس والتلوث بها ) خلطوا عملاً صالحاً ( هو صدق التوجه ) وآخر سيئاً ( هو مطاوعة النفس والهوى في بعض الأوقات. ) عسى الله ( أن يوفقهم للرجوع إلى طريق الحق بالكلية والإعراض عما سواه. ) خذ من أموالهم صدقة تطهرهم بها ( عن دنس حب الدنيا ) وتزكيهم ( بالأخلاق الفاضلة فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة. ) ويأخذ الصدقات ( فيه أن المعطي يجب أن لا ينظر إلا إلى الله ولا يمنّ على الفقير أصلاً ) وستردون ( بأقدام أعمالكم إلى الله الذي يعلم ما غاب عنكم من نتائج أعمالكم وما غبتم عنه من التقدير الأزلي وما تشاهدون بالعيون والقلوب في عالمي الملك والملكوت. ) وآخرون مرجون ( أخرت توبتهم ليتردّدوا بين الخوف والرجاء فيطيروا بجناحي القبض والبسط إلى أن يصلوا إلى سرادقات الهيبة والأنس. ) والله عليم ( بتربية عباده ) حكيم ( فيما يفعل من القبول والرد. ) والذين اتخذوا ( في عالم الطبيعة مزبلة النفس ) مسجداً ضراراً ( لأرباب الحقيقة ) وكفراً ( بأحوالهم ) لمن حارب الله ( هم أهل الإباحة من مدعي الفقر ) لا تقم ( يا رسول الروح. ) أسس على التقوى ( هو مسجد القلب جبل على العبودية والطاعة ) من أول يوم ( من الميثاق ) رجال يحبون أن يتطهروا ( هم الأوصاف الحميدة والملكات المزكاة عن دنس الطبيعة ولوث الحدوث. ثم ميز بين أهل السعادة والشقاوة فقال : ( أفمن أسس بنيانه ( أي جبل عل ىالخير وما فيه رضا الله ) لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة ( لأنهم جبلوا على الشقاء ) إلا أن تقطع قلوبهم ( غيروا عن طباعهم وذلك محال أو لا يزال يسري من مزبلة النفس وسخ وظلمة غلى قلوبهم إلا ان تقطع قلوبهم غيروا عن طباعهم وذلك بسكين الرياضة فتمول عنها تلك الملكات. ( التوبة : ( 111 - 119 ) إن الله اشترى . . . .
" إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم(3/532)
" صفحة رقم 533 "
التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين "
( القراآت )
فيقتلون ( مبنياً للمفعول ) ويقتلون ( مبنياً للفاعل : حمزة علي وخلف الآخرون على العكس. ) ويقتلون ( بالتشديد : أبو عون عن قنبل. ) إبراهام ( وكذلك ما بعده : هشام ) يزيغ ( بياء الغيبة. حمزة وحفص والمفضل. والباقون بتاء التأنيث. ) خلفوا ( بالتخفيف وفتح اللام روى ابن رومي عن عباس. الباقون بالتشديد مجهولاً. الوقوف : ( الجنة ( ط ) ويقتلون ( ط ) القرآن ( ط ) بايعتهم به ( ط ) العظيم ( ه ) لحدود الله ( ط ) المؤمنين ( ه ) إياه ( ط ) منه ( ط ج ) حليم ( ه ط ) ما يتقون ( ط ) عليم ( ه ) والأرض ( ط ) ويميت ( ط ) نصير ( ه ) تاب عليهم ( ط ) رحيم ( ه ط للعطف على النبي ) خلفوا ( ط ) إلا إليه ( ط ) ليتوبوا ( ط ) الرحيم ( ه ) الصادقين ( ه. التفسير : ( لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك ، وذكر أقسامهم وفرع على كل قسم ما كان لائقاً به ، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد والتغريب فيه فقال : ( إن الله اشترى ( الآية. قال محمد بن كعب القرظي : لما بايعت الأنصار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة العقبة - وهم سبعون نفساً - قال عبد الله بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشكروا به شيئاً وأشترط لنفسير أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : الجنة ،(3/533)
" صفحة رقم 534 "
قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت ) إن الله اشترى ( الآية. قال مجاهد والحسن ومقاتل : ثامنهم فأغلى ثمنهم. وقال جعفر الصادق عليه السلام : والله ما لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها. واعمل أن هذا الاشتراء وقع مجازاً عن الجزاء لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك والعبد وما يملكه لمولاه. ولهذا قال الحسن : اشترى أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها. والمراد بأنفسهم النفوس المجاهدة وبأموالهم التي ينفقونها في أسباب الجهاد وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم على الوجه المشروع. وههنا نكتة هي أن قيم الطفل له أن يبيع مال الطفل من نفسه بشرط رعاية الغبطة ، ففي هذه الآية البائع والمشتري هو الله فففيه تنبيه على أن العبد كالطفل الذي لا يهتدي إلى مصالح نفسه وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه حتى يوصله إلى أنواع الخيرات وأصناف العادات. وبوجه آخر الإنسان بالحقيقة عبارة عن الجوهر المجرد الذي هو من عامل الأرواح وهذا البدن وما يحتاج إليه من ضرورات المعاش كالآلات والوسائط لتحصيل الكمالات الموصلة إلى الدرجات العاليات ؛ فالبائع هو جوهر الروح القدسي ، والمشتري هو الله ، وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني ، والعوض الآخر الجنة الباقية والسعادات الدائمة ، فالربح حاصل والخسران زائل ولهذا قال ) فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ( وفي قوله ) يقاتلون ( معنىا الأمر كقوله ) وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ) [ الصف : 11 ] وهو كالتفسير لتلك المبايعة ) فيقتولن ويقتلون ( أي غنهم يقتلون الكفار فلا يجرعون عنهم حتى يصيروا مقتولين. ومن قرأ بتقديم المجهول فمعناه أن طائفة منهم إذا صاروا مقتولين لم يصر لك رادعاً للباقين عن المقاتلة بقدر الإمكان. ومن العماء من خصص هذا الوعد بجهاد السيف لظاهر قوله : ( يقاتلون (. والتحقيق أن كل أنواع الجهاد يدخل فيه لأن الجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل أثراً من القتال ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي عليه السلام : ( لأن يهدي الله على يدك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس ) ولأن الجهاد بالسيف لا يحسن إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة ، ولأن الإنسان جوهر شريف فمتى أمكن إزالة صفاته الرذيلة مع إبقاء ذاته الشريفة كان أولى من إفناء ذاته ، ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعاً به من بعض الوجوه حث الشرع على إبقائه فقال : ( هلا أخذتم اهابها فدبغتموه فانتفعتم به ) قوله(3/534)
" صفحة رقم 535 "
) وعداً عليه ( قال الزجاج : إنه منصوب بمعنى قوله : ( بأن لهم الجنة ( كأنه قيل : وعدهم الجنة وعداً فهو مصدر مؤكد ، وكذا قوله ) حقاً ( أو هو نعت للمصدر مؤكد وما الذي حصل ) في التوراة والإنجيل والقرآن ( قيل : وعد المجاهدين على الإطلاق ، وقيل : ذكر هذا البيع لأمة محمد ، وقيل : الأمر بالقتال ) ومن أوفى ( استفهام بمعنى الإنكار أي لا أحد أوفى بما وعد ) من الله ( لأنه الغني عن كل الحاجات القدر على كل المقدورات. وفي الآية أونواع من التوكيدات فأولها قوله : ( إن الله اشترى ( وإذا كان المشتري هو الإله الواجب الذات المتصف بجميع الكمالات المفيض لك الخيرات فما ظنك به ، ومنها أنه عبر عن إيصال الثواب بالبيع والشرء حتى يكون حقاً مؤكداً. ومنها أنه قال ) بأن لهم الجنة ( بحرف التحقيق وبلام التمليك دون أن يقول بالجنة. ومنها قوله ) وعداً ( و ) إنه لا يخلف الميعاد (. ومنها قوله ) عليه ( وكلمة ( على ) للوجوب ظاهراً. ومنها قوله : ( حقاً وهو تأكيد التحقيق. ومنها قوله : ( في التوراة والإنجيل والقرآن ( وإنه يجري مجرى الإشهاد لجميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل هذه المبايعة. ومنها قوله : ( ومن أوفى بعهد من الله ( وفي تنبيه على أنه لا يكذب ولا يخلف ألبتة. ومنها قوله : ( فاستبشروا ( والبشارة الخبر الصدق الأول. ومنها قوله : ( وذلك هو الفوز ( ثم وصف الفوز ب ) العظيم ( واعلم أن هذه الخاتمة تقع على ثلاثة أوجه : أحدها ) ذلك الفوز ( بغير ( هو ) وإنه في ستة مواضع : في ( براءة ) موضعان ، وفي ( النساء والمائدة والصف والتغابن ) وما في ( النساء ) بزيادة واو. والآخر ) وذلك هو الفوز ( بزيادة ( هو ) وذلك في ستة مواضع أخرى في ( براءة ) موضعان و ( يونس ) و ( المؤمن ) و ( الدخان ) و ( الحديد ) وما في براءة أحدهما بزيادة الواو وهو خاتمة هذه الآية ، وكذلك ما في ( المؤمن ). وسبب هذا الاختلاف أن الجملة إذا جاءت بعد جملة من غير تراخٍ بنزول جاءت مربوطة إما بواو العطف وإما بكناية تعود من الثانية إلى الأولى وإما بإشارة فيها إليها. وربما جمع بين الشيئين منها والثلاثة للدلالة على المبالغة. وقد جمع في هذه الخاتمة بين الثلاثة لغاية التوكيد والمبالغة ، أو لأنه ذكر الكتب الثلاثة فكل رابطة في مقابلة كتاب واحد. وكذلك في ( المؤمن ) وقع الثلاثة في مقابلة ثلاثة أدعية ) فاغفر ( ) وقهم ( ) وأدخلهم ( قال أبو القاسم البلخي : لا بد من حصول الأعواض على الآلام للأطفال والبهائم قياساً على ما أثبته الله تعالى للمكلفين من العوض على ألم القتل وهو الجنة. ثم ذكر أن حكم سائر المؤمنين كذلك فقال : ( التائبون ( قال الزجاج : إنه مبتدأ محذوف الخبر أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا كقوله ) وكلاً وعد الله الحسنى ) [ النساء : 95 ] وقيل : التائبون رفع على البدل من الضمير في(3/535)
" صفحة رقم 536 "
) يقاتلون ( وقيل : مبتدأ خبره ) العابدون ( وما بعده أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال. أما التفسير هذه الأوصاف فقد قال ابن عباس والحسن : التائبون هم الذين تابوا من الشرك وتبرأوا عن النفاق. وما آخرون إلى التعميم ليشمل المعاصي أيضاً غذ لا دليل على التخصيص ) والعابدون ( قال ابن عباس : هم الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم. وقال الحسن : هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء ، والعبادة لا شك أناه عبارة عن نهاية التعظيم وغاية الخضوع. وقال قتادة : وهم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم. و ) الحامدون ( هم الذين يقومون بحق شكر نعم الله ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم ، وذلك أن الحمد ذكر من كان قبل آدم لقول الملائكة ) ونحن نسبح بحمدك ) [ البقرة : 30 ] وذكر أهل الدنيا يقولون في كل يوم سبع عشر مرة الحمد لله رب العالمين ، وذكر من يكون بعد خراب الدنيا لقوله : ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] و ) السائحون ( قال عامة المفسرين : هم الصائمون لقوله : ( سياحة أمتي الصيام ). ثم قيل : هذا صوم الفرض. وقيل : الذين يديمون الصيام. قال الأزهري : إنما قيل للصائم سائح لأن الذي يسح في الأرض متبعدٌ لا زاد معه فيكون ممسكاً عن الأكل والشرب كالصائم. وقيل : أصل السياحة الاستمرار على الذهاب كالماء الذي يسيح والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي عنه من الأكل والشرب والوقاع. وقال أهل المعنى : الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب انفتحت عليه أبواب المعاني والحكم وتحلت له أنوار المعارف والحقائق فيحصل له سياحة في عالم العقول. وقيل : السائحون طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم في مظانه ، وكانت السياحة في بني إسرائيل. قال عكرمة عن وهب بن منبه : لا ريب أن للسياحة أثراً عظيماً في تكميل النفس لأنه يلقى أنواعاً من الضر والبؤس فيصبر عليها ، وقد ينقطع زاده فيتوكل على الله فيصير ذلك ملكه له ، وقد ينتفع بالمشاهد والزيارات للأياء واللأموات ويستفيد ممن هو فوقه ويفيد من هو دونه ويكتسب التجارب ومعرفة الأحوال والأخلاق والسير والآثار ) الراكعون الساجدون ( يعني المصلين قال بعض العلماء : إنما جعل الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر هيئات المصلي موافقة للعادة كالقيام والقعود ، وإنما الفصل بين المصلي وغيره بالركوع والسجود. وقيل : أول مراتب التواضع القيام وأوسطها الركوع وغايتها السجود فخصا بالذكر تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع. ثم قال : ( الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ( ومعناهما مذكور مر إلا أن ههنا بحثاً آخر وهو أنه لم أدخل الواو في قوله : ( والناهون ( ) والحافظون ( دون سائر الأوصاف ؟ وأجيب بأن النسق يجيء(3/536)
" صفحة رقم 537 "
بالواو وبغيرها كقوله : ( غافر الذنب وقبل التوب شديد العقاب ) [ غافر : 2 ] أو المراد أن الموصوفين بالصفات الستة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ويكون فيه ترغيب في الجهاد لأن رأس المعروف الإيمان بالله ورأس المنكر الكفر به والجهاد يوجب حصول الإيمان وإزالة الكفر ، أو النهي عن المنكر أصعب أقسام التكاليف لإفضائه في الإغلب إلى الخصومة وثوران الغضب فأدخل عليه الواو تنبيهاً على هذه المخالفة والمباينة. ولبعض النحويين جواب عام يشمل هذه الآية وما في ( الكهف ) في قوله : ( ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ) [ الآية : 22 ] وما في ( الزمر ) في قوله في ذكر الجنة ) وفتحت أبوابها ) [ الآية : 73 ] وما في ( التحريم ) في قوله : ( ثيبات وأبكاراً ) [ الآية : 5 ] وذلك أنهم سموا هذه الواوات واو الثمانية قائلين إن السبعة نهاية العدد ولهذا أكثر ذكرها في القرآن والأخبار. فالثمانية تجري مجرى استنئاف كلام فلهذا فصل بالواو. وأما قوله : ( والحافظون لحدود الله ( فكإجمال بعد تفصيل ؛ وذلك أن التكاليف إما أن تتعلق بمصالح الدين وهي باب العبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذر ونحوها ، أو بمصالح الدنيا وهي المعاملات. وإنها إما لجلب المنافع أو لدفع المضار والمنافع إما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية. فالمقصودة بالأصالة هي المنافع الحاصلة من طرق الحواس الخمس وهي المذوقات ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة والصيد والذبائح والضحايا ، والملموسات ويدخل فيها باب أحكام الوقاع فمنها ما يفيد حله كالنكاح والرضاع وما يتبعهما من المهر والنفقة والسكنى وأحوال القسم والنشوز ، ومنها ما يوجب إزالته كالطلاق والخلع والإيلاء والظهار واللعان ، ومن أحكام الملموسات البحث عما يحل لبسه واستعماله وعما لا يحل كالأواني الذهبية وغيرها. والمبصرات وهو باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل ، والمسموعات وهو باب ما يحل سماعه وما لا يحل ، والمشمومات وقد قيل إنه ليس للفقهاء فيه مجال ، ويحتمل أن يقال إن منها جواز استعمال الطيب في بعض الأوقات ومنعه في بعضها كحالة الإحرام. ومنها ما كيره كأكل البصل والثوم للمصلي بالجماعة في المسجد. والمنافع المقصودة بالتبعية هي الأموال والبحث عنها إما من جهة الأسباب المفيدة للملك كالإرث والهبة والوصية وإحياء الموات والالتقاط وأخذ الفيء والغنائم والزكاة ، وكالبيع بيع العين بالعين أو بيع الدين بالعين وهو السلم أو بالعكس كما إذا اشترى شيئاً في الذمة أو بيع الدين بالدين وهو بيع الكاليء بالكالئ المنهي عنه إلا عند تقاص الدينين ، أو من جهة الأسباب المفيدة للمنفعة كالإجارة والجعالة وعقد المضاربة ، أو من جهة الأسباب التي توبج لغير المالك التصرف فيه كالوكالة والوديعة ، أو من جهة الأسباب التي تمنع المالك التصرف في ملكه كالرهن والإجارة والتفليس. وأما دفع المضار(3/537)
" صفحة رقم 538 "
والمضرة إما في النفس وهو كتاب الجراح أو في الدين وهو كتاب الجهاد وباب الارتداد وأحكام البغاة ، وإما في النسب وهو باب أحكام الزنا والقذف واللعان ، وإما في العقل كباب تحريم الخمر ، وإما في المال والضرر فيه إما على سبيل الإعلان والجهار وهو الغصب وقطع الطريق ، أو على سبيل الخفية وهو السرقة. وههنا باب آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه عن نفسه لضعفه فلهذا السبب أمر الله بنصب الإمام لتنفيذ الأحكام ، وقد يكون للإمام نواب وهم الأمراء والقضاة وليس قول الغير مقبولاً إلا بحجة وهي الشهادة والأيمان فحصل من ذلك كتاب آداب القضاء بواب الدعاوى والبينات. فهذا ما أمكن من ضبط معاقد التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى. ولكن قوله : ( والحافظون لحدود الله ( يشمل ذلك أيضاً بل رعايته أهم من رعاية أحوال الظواهر. ثم ختم الآية بتكرير البشارة وفيه من كمال العناية ما فيه. ولما بين من أول السورة إلى ههنا وجوب إظهار من المنافقين الكفرة الأحياء أراد أن يبين وجوب البراءة من أمواتهم أيضاً وإن كانوا أقارب فقال : ( ما كان للنبي ( ومعناه النهي أي ما صح له وما استقام وما ينبغي له ذلك. ثم علل المنع بقوله : ( من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ( لأنهم ماتوا على الشرك وقد قال تعالى : ( إن الله لايغفر أن يشرك به ) [ النساء : 116 ] فطلب غفرانهم جارٍ مجرى طلبب إخلاف وعد الله ووعيده ، وفيه حط المرتبة النبي حيث يدعو بما لا يستجاب له. وهذه العلة لا تخلتف بأن يكونوا من الأباعد أو من الأقارب فلهذا بالغ فيه بقوله : ( ولو كانوا أولي قربى ( روى الواحدي بإسناده عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية - فقال : أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل وابن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آلآخر شيء كلمهم به أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لأستغفرن لك ما لم أنه عنه ) فاستغفر له بعد ما مات فقال المسلمون : ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا قد استغفر إبراهيم لأبيه ، وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت ) ما كان للنبي ( الآيتان. وقيل عن أبن عباس : لما افتتح ( صلى الله عليه وسلم ) مكة سأل أي أبويه أحدث به ( صلى الله عليه وسلم ) عهداً أي آخرهما موتاً ؟ فقيل : أمك آمنة. فزار ( صلى الله عليه وسلم ) قبرها ثم قام باكياً فقال : إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فمل يأذن(3/538)
" صفحة رقم 539 "
لي فيه ونزل عليّ ) ما كان للنبي ( الآية. فقال بعضهم كصاحب الكشاف والحسين بن أبي الفضل : هذا أصح لأن هذه السورة في آخر القرآن نزولاً ، وكانت وفاة أبي طالب مبكة في أول الإسلام. ويمكن أن يوجه الأول بأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لعله بقي سمتغفراً إلى حين نزول الآية. ثم اعتذر عن استغفار إبراهيم لأبيه بأنه صدر عن موعدة وعدها إياه ، وذلك أن أباه كان وعد إبراهيم أن يؤمن فكان يستغفر له بناء على ذلك الوعد. ) فلما تبين ( لإبراهيم ) أنه عدو لله ( إما بإصراره على الكفر أو بموته على ذلك أو بطريق الوحي ) تبرأ منه ( وترك الاستغفار. ويجوز أن يكون الوعد إبراهيم عليه السلام ويوافقه قراءة الحسن ) وعدها أباه ( بالباء الموحدة وذلك في قوله : ( لأستغفرن لك ) [ الممتحنة : 4 ] وعده أن يستغفر له رجاء إسلامه. وقيل : المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام الموجب للغفران ، وكان يتضرع إلى الله تعالى أن يرزقه الإميان. وقيل : المقصود النهي عن صلاة الجنازة فكان قوله : ( ولا تصل على أحد منهم ) [ التوبة : 84 ] في حق المنافقين خاصة وهذه في حق الكافرين عامة. ثم ختم الآية بقوله : ( إن إبراهيم لأوّاه حليم ( قال أهل اللغة : أوّاه ( فعال ) مأخوذ من حروف ( أوه ) كلمة يقولها المتوجع ، وذلك أن الروح القلبي يختنق عند الحزن في داخل القلب ويشتد حرارته فإذا تكلم صاحبه بها خرج ذلك النفس المختنق فخفف بعض ما به ، وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( الأوّاه الخاشع المتضرع ) والحلم ضد السفه ، وصفه تعالى بشدّة الرأفة والشفقة والخوف والوجل فبين أن إبراهيم مع هذه العادة تبرأ من أبيه حين أنقطع رجاؤه منه فأنتم بهذا المعنى أولى. ثم إن امسلمين خافوا أن يؤاخذوا بما سلف منهم من الاستغفار للمشركين فأنزل الله ) ما كان الله ليضل قوماً ( أي عن طريق الجنة أو يحكم عليهم بالضلال أو يخذلهم أ ويوقع الضالة في قلوبهم حين يكون منهم الأمر الذي يستحق به العقاب ) بعد إذ هداهم حتى يبن لهم ما يتقون ( ما يجب عليهم أن يحترزوا عنه. والحاصل أن الله لا يسمي قوماً ضلالاً يعد إذ سماهم مهديين ما لم يقدموا على شيء مبين خطره ، وأما قبل العلم والبيان فلا يؤاخذهم كما لم يؤاخذ بشرب الخمر والربا قبل تحريمهما. وفي الآية تشديد عظيم حيث جعل المهدي للإسلام إذا أقدم على بعض المحظورات داخلاً في حكم الضلال. ثم قال : إن الله بكل شيء علمي إن الله له ملك السموات والأرض يحي ويميت ( والمراد أنما كان عاملاً قادراً هكذا لم يحتج إلى أن يفعل العقاب قبل البيان وإزاحة العذر. قالت المعتزلة : وفيه دليل على أنه يقبح من الله الابتداء بالعقاب. وأجيب بأنه له ذلك بحكم الماليكة غاية ما في الباب أنه لا يعاقب إلا بعد إزاحة العذر عادة ، وفي قوله : ( إن الله له ملك السموات(3/539)
" صفحة رقم 540 "
والأرض ( فائدة أخرى هي أنه لما أمر بالبراءة من الكفار بين غاية قدرته ونهاية نصرته لمن أراد استظهاراً للمسلمين كيلا تضعف قلوبهم بالانقطاع عن الأقارب والأنصار كأنه قال : وجب عليكم أن تفيئوا إلى حكمي وتكاليفي لأني إلهكم وأنتكم عبيدي. ثم عاد إلى بقية أحكام الكفار فقال ) لقد تاب الله على النبي ( الآية. ولنبن تفسر الآيتين على أسئلة مع جواباتها. فالسؤال الأول : أن قبول التوبة دليل سبق الذنب ، والنبي معصوم والمهاجرون والأنصار الذين اتبعوه تحملوا أعباء ذلك السفر الطويل فكان اللائق بحالهم أن يثني عليهم. الجواب أنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والأستغفار لأنه لا ينفك عن هفوة إما من باب الكبائر وإما من باب الصغائر وإما من باب الأولى. والأفضل كما أشير إلى ذلك في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) [ التوبة : 43 ] ولعله قد وقع في قلوب المؤمنين نوع نفرة من تلك السفرة لما عاينوا المتاعب ولا أقل من الوساوس والهواجس فأخبر الله سبحانه أن تلك الشدائد صارت مكفرة لجميع الزلات التي صدرت عنهم في ذكل السفر الطويل بل في مدة عمرهم وصارت قائمة مقام التوبة المقرونة بالإخلاص. ويجوز أن يكون ذكر الرسول لأجل تظيم شأن المهاجرين والأنصار لا لأنه صدر عنه ذنب. السؤال الثاني : ما المراد بساعة العسرة ؟ فالجواب قد تستعمل الساعة في معنى الزمان المطلق والعسرة تعذر الأمر وصعوبته. والمراد الزمان الذي صعب عليهم الأمر جداً في ذلك السفر ، كانوا في عسرة من الظهر تعقب العشرة على بعير واحد. وفي عسرة من الزاد تزوّدوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنجة المنتنة ، وقد بلغت بهم الشدة إلى أن اقتسم التمرة اثنان ثم إلى أن مصتها جماعة ليشربوا عليها الماء ، وفي عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فرثها وفي شدة زمان من حرارة القيظ كما قال المنافقون ) لا تنفروا في الحر ) [ التوبة : 81 ] وقال أبو مسلم : يجوز أن يراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات العسر التي مرت عليهم في غزواتهم كما ذكر الله تعالى في غزوة الخندق ) وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ) [ الأحزاب : 10 ] الثالث : ما معنى ) كاد يزيغ ( وكيف إعرابه ؟ والجواب هما استعمالان : كاد زيد يخرج ، وكاد يخرج زيد. معنى الأول كاد زيد خارجاً أي قارب الخروج ، ومعنى الثاني كاد الشأن يكون كذا يعني قارب الشأن هذا الخبر. وشبهه سيبويه بقولهم ليس خلق الله مثله أي ليس الشأن ذاك ولكن ضده ، والزيغ الميل عن الجادة قيل : قارب بعضهم أن يميل عن الإيمان. وقيل : هم بعضهم عند تلك الشدة بالمفارقة ثم(3/540)
" صفحة رقم 541 "
حبسوا أنفسهم وصبروا وثبتوا وندموا. وقيل : ما كان إلا حديث نفس بلا عزيمة ومع ذلك خافوا أن يكون معصية. الرابع : ذكر التوبة في أول الآية فلم كررها في قوله : ( ثم تاب عليهم ( ؟ الجواب إن عاد الضمير في ) عليهم ( إلى الفريق فلا تكرار ، وإن عاد إلى النبي صلى الله عليه وشمل والمهاجرين والأنصار جميعاً فالتكرير للتوكيد مع رعاية دقيقة هي أن التوبة اكتنفت الذنب من جانبيه ، وذلك أنه بدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب تطيباً لقلوبهم ثم ذكر الذنب ، ثم أردفه بذكر التوب ليدل على أن العفو عفو متأكد كما يقول السلطان عند كمال الرضا : عفوت عنك ثم عفوت عنك. وإليه الإشارة بقوله : ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله يغفر ذنب الرجل المسلم عشرين مرة ). وقال ابن عباس في تفسر قوله : ( ثم تاب عليهم ( يريد ازداد عنهم رضا. ثم أكد هذه المعاني بقوله ) إنه بهم رؤوف رحيم ( فيشبه أن يراد بالرأفة إزالة الضرر ، وبالرحمة إيصال المنفعة. أو الأوّل رحمة سابقة ، والثاني لاحقة. الخامس : سمو مرجئين أي مؤخرين عن أبي لبابة وأصحابه حيث تيب عليهم بعد أولئك. وقيل : لأنهم خلفوا عن الغزو ومثله قراءة من قرأ بالتخفيف أي خلفوا الغزين. وقيل : المخلف من خلوف الفم أي فسدوا ، وقرأ جعفر الصادق عليه السلام : ( خالفوا (. ) حتى إذا ضاقت عليهم الأرض ( مع سعتها وهو مثل للحيره في الأمر ، ) وضاقت عليهم أنفسهم ( أي قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور ) وظنوا ( أي علموا وتيقنوا ) أن لا ملجأ من ( سخط ) الله إلا ( إلى استغفاره كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أعوذ بك منك ). وقيل : الظن بمعناه الأصلي وهو الرجحان وذلك أنهم ما كانوا قاطعين بأن ينزل الله في شأنهم قرآنا ، وإن سلم أنهم قطعوا بذلك إلا أنهم جوزوا أن تكون المدة قصيرة وجواب ( إذا ) محذوف والتقدير حتى إذا كان كذا وكذا تاب عليهم ، وحسن حذفه لتقدم ذكره. عن كعب بن مالك قال : ليت شعري ما خلف كعباً فقيل : له : ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه. فقال : ( معاذ الله ما أعمل إلا فضلاً وإسلاماً ونهى عن كلامنا - أيها الثلاثة - فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد ، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن ، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع - وهو جبل بالمدينة - أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجداً وكنت كما وصفني ربي ) وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ) [ التوبة : 25 ] وتتابعت البشارة فلبست ثوبي وانطلقت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقال إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول إلي حتى صافحني وقال : لتهنك توبة(3/541)
" صفحة رقم 542 "
الله عليك فلن أنساها لطلحة. وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يستنير استنارة القمر : أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ثم تلا علينا الآية. سئل أبو بكر الورّاق عن التوبة النصوح فقال : أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه. السادس : قد عرفنا فائدة قوله : ( ثم تاب عليهم ( فما فائدة قوله : ( ثم تاب عليهم ليتوبوا ( ؟ الجواب معناه رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة بعد ألأخرى ليستقميوا على توبتهم ، أو تاب عليهم في الماضي ليتوبوا في المستقبل إذا فرطت منهم خطيئة علماً منهم بأن الله تواب على من تاب ولوعاد في اليوم مائة مرة ، أو تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين ، أو تاب عليهم لينتفعوا بالتوبة وثوابها لأن الانتفاع بها لا يحصل إلا بعد توبة الله عليهم. وقالت الأشاعرة : المقصود بيان أن فعل البعد مخلوق لله تعالى حتى إنه لو لميتب عليهم لم يتوبوا. وأيضاً قالوا : في الآية دلالة على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً لأن توبة هؤلاء قد حصلت من أوّل الأمر ، ثم إنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يلتفت إليهم وتركهم خمسين يوماً. ويمكن أن يجاب بأن شرائط التوبة من الإخلاص والنصح وغير ذلك لعلها لم تكن حاصلة من أوّل الأمر فلهذا تأخر القبول دليله قوله تعالى : ( حتى إذا ضاقت ( الآية. ثم حث سبحانه المؤمنين على ملازمة سيرة التقوى والانضمام في زمرة أهل الصدق لا النفاق فقال : ( يا أيها الذين آمنوا ( الآية. قال بعض العلماء : ظاهر الأمر للوجوب فوجب على المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين لا بمعنى أن يكونوا على طريقهم وسيرتهم ، لأن ذلك عدول عن الظاهر بل بمعنى المصاحبة. والكون مع الشيء مشروط بوجود ذلك الشيء فلا بد من وجود الصادقين. ثم إنه ثبت بالتواتر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن التكاليف المذكورة في القرآن متوجهة علىالمكلفين إلى يوم القيامة فلا يكون هذا الأمر مختصاً بالكون مع الرسول وأصحابه في الغزوات بل أعم من ذلك. ثم إن الصادق لا يجوز أن يكون منحصراً في الإمام المعصوم الذي يمتنع خلو زمان التكليف عنه كما يقوله الشيعة ، لأن كون كل واحد من المؤمنين مع ذلك الصادق بعد تسليم وجوده تكليف بما لا يطاق ، فالمراد بالصادقين أهل الحل والعقد في كل حين ، والمراد انهم إذا أجمعوا على شيء كانوا صادقين فيه محقين ويجب على الباقين أن يكنوا معهم ظاهراً وباطناً. وقال أكثر المفسرين : الصادقون هم الذين صدقوا في دين الله وفيما عاهدوا عليه من الطاعة نية وقولاً وعملاً. وقيل : أي كونوا مع الثالثة المذكورين في الصدق والثبات. وعن ابن عباس : الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب أي وافقوا المهاجرين والأنصار في الصدق ، وقيل :(3/542)
" صفحة رقم 543 "
الخطاب للذين شدوا أنفسهم على السواري. وفي الآية دلالة على فضيلة الصدق وكمال درجته. ومن خصائص الصدق ما روي أن أعرابياً جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : إني أريد أن أؤمن بك إلا إني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء كلها ولا طاقة لي بتركها بأسرها ، فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك ، فقبل ذلك وشرط له الصدق ثم أسلم. فلما خرج من عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عرضوا عليه الخمر فقال : إن شربت وسألني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد ، وإن صدقت أقام الحد علي فتركها ، ثم عرض عليه الزنا فجاءه ذلك الخاطر فتركه ، وكذا في السرقة فعاد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ما أحسن مافعلت ، لما منعتني عن الكذب انسد أبواب المعاصي علي وتبت عن الكل. ومن فضائل الصدق أن الإيمان منه لا من سائر الطاعات ، ومن معايب الكذب أن الكفر منه لا من سائر الذنوب ، ومن مثالب الكذب أن إبليس مع تمرّده وكفره استنكف منه حتى استثنى في قوله ) لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) [ ص : 82 ]. ثم المقتضى لبقح الكذب هو كونه كذباً عند المعتزلة وكونه مفضياً إلى المفاسد عند الأشاعرة والله أعلم. التأويل : ( إن الله اشترى ( في التقدير الأزلي ولهذا تيسر لهم الآن بذل النفس والمال في الجهاد الأصغر وفي الجهاد الأكبر ، وإنه كما ) اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ( اشترى من أوليائه الصديقين قلوبهم وأرواحهم بأن لهم الجنة. ) التائبون ( عما سوى الله ) العابدون ( المتوجهون إليه على قدم العبودية ) الحامدون ( له على ما وفقهم لنعمة طلبه ) السائحون ( السائرون إليه بقدمي الصبر والشكر أو التبري والتولي ) الراكعون ( أي الراجعون عن مقام القيام بوجودهم إلى القيام بموجدهم ) الساجدون ( الساقطون على عتبة الواحدة بلاهم ) الآمرون بالمعروف ( الحقيقي ) الناهون ( عما سواه ) والحافظون لحدود الله ( لئلا يتجاوزوا عن طلبه إلى طلب غيره. ) ما كان للنبي ( فيه أن الاجتهاد ليس سبباً لنيل المراد ، وأن الهداية من مواهب الربوبية لا من مراتب العبودية ) ان إبراهيم لأواه ( الأواه هو المتبرئ من المخلوقات لكثرة نيل المواجيد والكرامات فيكون لضيق البشرية تولاه مولاه ، فمهما ورد له وأراد الحق ضاق عليه نطاق الخلق فيتأوه عند تنفس القلب المضطر من الخلق إلىالحق. ) حليم ( عما أصابه من الخلق للحق فلا رجوع له من الحق إلى الخلق بحال من الأحوال ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) لجبرائيل حين سأله ألك حاجة : أما إليك فلا ) وما كان الله ليضل قوماً ( ليردذهم بالمكر إلى الثنينية والبعد ) بع إذ هداهم ( إلى الوحدانية والفردانية بالتوحيد والتفريد ) حتى يبن لهم ما يتقون ( من آفات(3/543)
" صفحة رقم 544 "
البشرية وعاهات الدنيا فهي رأس كل خطيئة ، فإن لم يتحرزوا عنها وقعوا بالاستدراج إلى حيث خرجوا عنها نعوذ بالله من الحور بعد الكور أو نقول : إن الله تعالى بعد إذ هداهم بالإفناء عن الوجود إلى البقاء بالجود لا يردهم إلى بقاء البقاء وهو الإثبات بعد المحو والصحو بعد السكر وقد سماه المشايخ الإثبات التأني حتى يبين لهم ما يتقون من الأعمال والأقوال رعاية لتلك الأحوال. ) إن الله له ملك السموات ( سموات القلوب ) والأرض ( أ ) ض النفوس ) يحيي ( بنور ربوبيته ) من يشاء ويميت ( عن صفات بشريته ) من يشاء ومالكم من دون الله من ولي ( فلا يشغلنكم طلب الملك عن المالك جميعاً ) لقد تاب الله على النبي ( التوبة فضل من الله ورحمة ، فقدم ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على المهاجرين ليكون وصول فضله إليهم بعد العبور على النبي تحقيقاً لقوله ) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107 ] ( الذين ابتعوه في ساعة ( عسرة الدنيا وترك شهواتها. أو نقول ) لقد تاب الله ( أي أفاض أنوار عرفانه على نبي الروح ومهاجري صفاته الذين هاجروا معه من مكة - عالم الروح - إلى مدينة الجسد ) والأنصار ( من القلب والنفس وصفاتهما ) الذين اتبعوه في ساعة ( رجوعه إلى عالم العلو بالعسرة لأنهم من عالم السفل. ) وعلى الثلاثة الذين خلفوا ( من النفس والهوى والطبع وما تبعوا الروح عند رجوعه إلى عالمه ابتلاء ) حتى إذا ضاقت عليهم ( أرض البشرية شوقاً إلى تلك الحضرة ) وضاقت عليهم أنفسهم ( تحنناً إلى نيل تلك السعادات وتحقق لهم بنور اليقين أن لو بقوا في السفل لا ملجأ لهم من عذابالبعد عن الله إلا الفرار إليه ) ثم تاب عليهم ( بجذبة العناية ، ولو وكلهم إلى طبيعتهم ما سلكوا طريق الحق أبداً مع الصادقين الذين صدقا يوم الميثاق والله أعلم. ( التوبة : ( 120 - 129 ) ما كان لأهل . . . .
" ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته(3/544)
" صفحة رقم 545 "
هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم "
( القراآت )
موطئاً ( ونحوه بالياء : يزيد والشموني وحمزة في الوقف ) غلظة ( بفتح الغين : المضل. الباقون بكسرها. ) أولا ترون ( بتاء الخطاب للمؤمنين : حمزة ويعقوب. الباقون على الغيبة. الوقوف : ( عن نفسه ( ط ) صالح ( ط ) المحسنين ( ه لا للعطف ) يعملون ( ه ) كافة ( ط ) يحذرون ( ه ) غلظة ( ط ) المتقين ( ه ) إيماناً ( ط ) يستبشرون ( ه ) كافرون ( ه ) يذكرون ( ه ) إلى بعض ( ط لأحق المحذوف أي يقولون هل يراكم ) ثم انصرفوا ( ط ) لا يفقهون ( ه ) عزيز ( ط ، على تأويل عليه شفاعة ما عنتم والصحيح الوصل لأن المعنى شديد عليه ما أثمتم ولا وقف في الآية إلى قوله رحيم ) حسبي الله ( ط والأصح الوصل على جعل الجملة حالاً أي كيفي الله غير مشارك في الألوهية ) إلا هو ( ط ) العظيم ( ه. التفسير : لما أمر بموافقة النبي وأصحابه في جميع الغزوات والمشاهد بقوله ) وكونوا مع الصادقين ) [ الآية : 119 ] أكد ذلك المعنى بالنهي عن التخلف عنه فقال : ( ما كان لأهل المدينة ( أي لا يستقيم ولا يجوز لهم. والأعراب الذين كانوا حول المدينة قد ذكرنا - عن ابن عباس - أنهم مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار ، وكأنه أراد المعروفين منهم وإلا فاللفظ عام. ومعنى ) ولا يرغبوا ( ولا أن يرغبوا. يقال : غبت بنفسي عن هذا الأمر أي أبخل بها عليه ولا أتركها له ، والمراد أنه لا يصح لهم أن يرغبوا عن صحبة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب صلاح أنفسهم وبقائها بل عليهم أن يصحبوه على البأساء والضراء ويرضوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول لنفسه لأن نفسه أعز نفس عند الله ، فإذا تعرضت مع كرامتها للخوض في شدة وجب على سائر الأنفس أن لا يضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه. وفي هذا النهي مع التهييج توبيخ عظيم ، ولا يخفى أن الجهاد لا يجب على كل فرد(3/545)
" صفحة رقم 546 "
بعينه للأجماع وأن أصحاب الأعذار من الضعفاء والمرضى ونحوهم مخصوصون بالعقل وبالنقل فيبقى ما وراء هاتين الصورتين داخلاً تحت عموم الآية. ثم ذكر ترغيباً يجري مجرى علة المنع منالتخلف فقال : ( ذلك بأنهم ( أي الوجوب الدال عليه بقوله : ( ما كان لهم ( بسبب أنهم مثابون على أنواع المتاعب وأصناف الشدائد بل على جميع الحركات والسكنات مدة الذهاب والإياب. والظمأ شدة العطش ، والنصب الإعياء والتعب ، والمخمصة والمجاعة الشديدة التي تظهر ضمور البطن ، والموطئ إما مصدر كالمورد أو مكان وعلى التقديرين الضمير في ) يغيظ ( عائد إلى الوطء الصريح أو المقدر. ثم الوطء يجوز أن يكون حقيقة فيراد به الدوس بالأقدام وبحوافر الخيول وبأخفاف الإبل ، ويجوز أن يكون مجازاً فيراد به الإيقاع والإهلاك. قال ابن الأعرابي : غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى. ويقال نال منه إذا رزأه ونقصه وهو عام في كل ما يسوءهم ويلحق بهم ضرراً من قتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة ، والمراد أنهم لا يتصرفون في أرض الكفار تصرفاً يغيظهم ويرزؤهم شيئاً إلا كتب لهم به عمل صالح. وفيه دليل على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله ، وكذا القول في طرف المعصية ولكن بالصد فما أعظم بركة الطاعة وما أشد شؤم المعصية. وبهذه الآأية استشهد أصحاب أبي حنيفة أن المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك الجيش في الغنيمة لأن وطء ديارهم مما يغيظهم وينكي فيهم. وقال الشافعي : لا يشاركون الغنمين في الغنيمة وإن شاركوهم في الثواب لأن الغنيمة من خواص المحاربين ومن قد تعاطى خطراً. قال قتادة : هذا الحكم من خواص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر. وقال ابن زيد : هذا حين كان في المسلمين قلة فلما كثروا نسخه الله بقوله : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ( وقال عطية : ما كان لهم التخلف إذا دعاهم الرسول وأمرهم. قال العلماء : وكذلك غيره من الأئمة والولاة إذاعينوا طائفة لأنا لو جوزنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض فيؤدي إلى تعطيل الجهاد. قوله : ( ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة (. قال المفسرون : يريد تمرة فما فوقها وعلاقة سيف أو سوط وما أربى عليها مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة ) ولا يقطعون وادياً ( أي أرضاً في ذهابهم ومجيئهم وهذا شائع في استعمال العرب يقولون : لا تصل في وادي غيرك. وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال. والوادي كل منعطف بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل. ) إلا كتب لهم ( ذلك الإنفاق والقطع أو ذلك العمل الصالح المعهود في الآية المتقدمة. ثم ذكر آية الكتب فقال : ( ليجزيهم الله ( أي أثبت في صحائفهم(3/546)
" صفحة رقم 547 "
لأجل الجزاء جزاء أحسن من أعمالهم وأجل. وقيل : الأحسن من صفة الفعل أي يجزيهم على الأحسن وهو الواجب والمندوب دون المباح. واعلم أنه سبحانه عدد أشياء بعضها ليس من أعمال المجاهدين وهو الظمأ والنصب والمخمصة ، وباقيها من أعمالهم وهي الوطء والنيل والإنفاق وقطع الأرض ، وقسم هذا الباقي قسمين فضم شطراً منه إلى ما ليس من أعمالهم تنبيهاً على أنه في الثواب جارٍ مجرى عملهم ولهذا صرح بذلك فقال : ( إلا كتب لهم به عمل صالح ( أي جزاء عمل صالح وأكد ذلك بقوله : ( إن الله لا يضيع أجر المحسنين (. ثم أورد الشطر الباقي لغرض آخر وهو الوعد بأحسن الجزاء ، واقتصر ههنا على قوله ) إلا كتب لهم ( لأن هذا القسم من عملهم فلم يحتج إلى تصريح بذلك ، أو اكتفاء بما تقدم ، أو لأن الضمير عائد غلى المصدر الدال عليه الفعل والله تعالى أعلم بمراده. ثم قال : ( وما كان المؤمنون ( وفيه قولان : أحدهما أنه من بقية أحكام الجهاد لأنه سبحانه لما بالغ في عيوب المنافقين كان المسلمون إذا بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سرية إلى الكفار ينفرون جميعاً ويتركونه بالمدينة وحده فنزلت الآية. قاله ابن عباس. والمعنى أنه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بأسرهم إلى الجهاد بل يجب أن يصيروا طائفتين إحدهما لملازمة خدمة الرسول والأخرى للنفر إلى الغزو. ثم ههنا احتمالان لأنه قال محرضاً ) فلولا نفر ( أي هلا نفر ) من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ( فذهب الأكثر إلى أن الضمير في ) ليتفقهوا ( عائد إلى الفرقة الباقية في حضرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأنهم إذا بقوا في خدمته شاهدا الوحي والتنزيل وضبطوا ما حدث من الشرائع ، وعلى هذا فلا بد من إضمار والتقدير : فلولا نفر منكل فرقة منهم طائفة وأقام طائفة ليتفقه المقيمون في الدين ) ولينذروا قومهم ( النافرين ) إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ( معاصي الله عند ذلك وبهذا الطرية يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين وإلا ضاع أحد الشقين ، والاحتمال الآخر ما روي عن الحسن أن الضمير يعود إلى الطائفة النافرة. وتفقههم هو أنهم يشاهدون ظهور المسلمين على المشركين وأن العدد القليل منهم من غير زاد ولا سلاح كيف يغلبون الجم الغفير من الكفار فينتبهون لدقائق صنع الله في إعلاء كلمته. فإذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بما شاهدوا من دلائل الحق فيحذروا أي يتركوا الكفر والشرك والنفاق. القول الثاني أنه ليس من بقية أحكام الجهاد وإنما هو حكم مستقل بنفسه ، ووجه النظم أن الدجهاد أمر يتعلق بالسفر وكذلك التفقه ، أمافي زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فوجوبه ظاهر لمن ليس بحضرته حتى يصل إليه ويستفيد من خدمته لأن الشريعة ما كانت مستقرة بل كانت تتجدد كل يوم شيئاً فشيئاً ، وأما في زماننا فلا ريب أنه متى عجز عن التفقه إلا بالسفر وجب(3/547)
" صفحة رقم 548 "
عليه ، وإن أمكنه في الحضر فلا شك أن للسفر بركة أخرى يعرفها كل من زاول الأسفار وحاول الأخطار ، ومعنى ) ليتفقهوا ( ليتكلفوا الفقاهة في الدين ويتجشموا المتاعب في أخذها وتحصيلها. والفقه في الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المستنبطة من دلائلها التفصيلية. والظاهر أن المراد في الآية أعم من ذلك بحيث يشمل علوم الشرع كلها من التفسير والحديث وأصول الدين وأصول الفقه ومقدمات كل من ذكل وغاياتها بحسب الإمكان النوعي أو الشخصي. وفي قوله : ( ولينذروا قومهم ( إشارة إلى أن الغرض الأصلي من التعلم هو الإنذار والإرشاد لا ما يقصده علماء السوء من الإغراض الفاسدة كالمطاعم والملابس والمناصب والمفاخر ، أعاذنا الله تعالى بفضله من قبح النية وفساد الطوية ، وجعلنا ممن لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً. القائلون بأن خبر الواحد حجة قالوا : أوجب الله تعالىا أن يخرج من كل فرقة طائفة ، والخارج من الثلاثة اثنين أو واحداً. ثم إنه أوجب العمل بأخبارهم بقوله : ( ولينذروا ( وأجيب بأن إيجاب الإنذار لا يدل على وجوب العمل لأن الشاهد الواحد يلزمه أذاء الشهادة وإن لم يلزم القبول ورد بأن قوله : ( لعلهم يحذرون ( إيجاب للعمل بأخبارهم. ثم أرشد سبحانه إلى ترتيب القتال فقال : ( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم ( أي يقربون منكم مبتدأ من الأقرب ومنتقلاً إلى الأبعد. واقتال واجب مع كافة الكفر بآية القتال ، ولكن هذه الآية أخص لأن الغرض منها الترتيب ما لم يدع إلى قتال الأبعد قبل دفع الأقرب ضرورة فلا تكون هذه المنسوخة بآية القتال على ما نقل عن الحسن ، وإنما وجب الابتداء بالغزو من المواضع القريبة لأن قتال الكل دفعة متعذر وللأقرب تريجح ظاهر كما في الدعوة وكما في سائر المهمات مثلاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويبتدأ بالجمع الحاضرين ثم ينتقل إلى الغائبين. وأيضاً المؤنة في قتال الأقربين من النفقة والدواب تكون أقل والقتال معهم يكون أسهل للوقوف على أحوالهم وعدد عسكرهم ، والفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فق عرضوا الذراري للفتنة. وقد حارب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قومه ثم غيرهم من عرب الحجاز ثم غزا الشام. ويروى أن أعرابياً جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كل مما يليك ). فثبت بهذه الوجوه أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب ما لم يضطر إلى العدول ضرورة. وقوله ( وليجدوا فيكم غلظة ( أي شدة نظير قوله : ( واغلظ عليهم ) [ التحريم : 9 ] ومن قرأ بفتح الغين فهو المصدر أيضاً كالسخطة وهي لفظة جامعة للجراءة والصبر على القتال ولشدة العداوة العنف في القتل والأسر ، كل ذلك فيما يتصل بالدعوة إلى الدين إما بإقامة الحجة وإما بالسيف ، أما فيما يتصل بالبيع(3/548)
" صفحة رقم 549 "
والشراء والمجالسة فلا وليكن تقوى الله سبحانه على ذكر منه في موارده ومصادره ، ولهذا ختم الآية بقوله : ( واعلموا أن الله مع المتقين ( فإن قلته قتله لله وان تركه على الجزية تركه لله وإن كسر عدوه وآل الأمر إلى أخذ الغنيمة راعى فيه حدود الله. ثم حكى بقية فضائح أعمال المنافقين فقال : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول ( أي يقول بعض المنافقين لبعض إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين المعتقدين زيادة الإيمان زبزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به ، أو يقولنه لقوم من المسلمين وغرضهم صرفهم عن الإيمان والمقول ) أيكم ( مرفوع بالابتداء وخبره ) زادته هذه إيماناً (. ثم إنه تعالى حكى أنه حصل للمؤمنين بسبب نزول هذه السورة أمران : أحدهما ازدياد الإيمان وقد مر معناه في أول سورة الأنفال ، والثاني الاستبشار وه واستدعاء البشارة إما بثواب الآخرة وإما بالعزة والنصرة في الدنيا والمراد أنهم يفرحون بسبب تلك التكاليف الزائدة من حيث إنه يتوسل بها إلى مزيد الثواب. وحصل للمنافقين الذين لهم عقائد فاسدة وأخلاق ذميمة أمران : أولهما زيادة الرجس لأن تكذيب سورة بعد تكذيب مثلها انضمام كفر إلى كفر أو لأن حصول حسد وغل ونفاق عقيب أمثالها ازدياد ملكة ذميمة غب أخرى ، وثانيهما بقاؤهم على تلك العقائد والأعمال إلى أن ماتوا لأن الملكة الراسخة لا تزول إلا إن مامت صاحبها ، وإسناد زيادة الرجس إلى السورة إسناد حقيقي عند الأشاعرة لأنهم يقولون إنه سبحانه يخلق الكفر والإيمان في العبد فلا يبعد إحداث السورة فيهم الرجس ، وإسناد مجازي عند المعتزلة لانهم يقولون إنهم أحدثوا الرجس من عند أنفسهم حين نزول السورة بدليل أن الآخرين سمعوا السورة وازدادوا إيماناً. والتحقيق في أن النفس الطاهرة النقية عن درن الدنيا باستيلاء حب الله والآخرة إذا سمعتها صار سماعها موجباً لازدياد رغبته في الآخرة ونفرته عن الدنيا. وأما النفس الحريصة المتهالكة على لذات الدنيا وطيباتها الغافلة عن حب الآخرة وعشق المولى إذا سمعتها مشتملة على تعريض النفس للقتل والمال للنهب بسبب الجهاد زادت نفرته عنها وإنكاره عليها وكل بقدر. ثم عجب من حال المنافقين فقال : ( أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ( قال ابن عباس : أي يمتحنون بالمرض ) ثم لا يتوبون ( من النفاق ولا يتعظون بذلك المرض كما يتعظ المؤمن فإنه عند ذلك يتذكر ذنوبه وموقفه بين يديربه فيزيده ذلك إيماناً وخوفاً. وقال مجاهد : بالقحط والجوع. وقال قتادة : بالغزو أو الجهاد فإن تخلفوا وقعوا في ألسنة الناس باللعن والخزي ، وإن ذهبوا وهم على حالة النفاق عرضوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنهب من غير فائدة. وقال مقاتل : كانوا يجتمعون على ذكر الرسول بالطعن فيخبره جبرائيل فيوبخهم .(3/549)
" صفحة رقم 550 "
بذلك ويعظهم فما كانوا يتعظون. ثم ذكر نوعاً آخر من مخازيهم فقال ) وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعضؤ أي سورة مشتملة على ذكرهم أو أعم من ذلك. والنظر نظر الطعن والاستهزاء والازدراء بالوحي قائلين ) هل يراكم من أحد ( من المسلمين لننصرف فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك فنخاف الافتضاح بينهم لأن نظر التغامز دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد ، أو أرادوا إن كان من ورائكم أحد فلا تخرجوا وإلا فاخرجوا لنتخلص من هذا الإيذاء وسماع الباطل. ثم انصرفوا ( أي من مكان الوحي إلى مكانهم أو عن استماع القرآن إلى الطعن فيه. ومعنى ) صرف الله قلوبهم ( قال ابن عباس : منعهم عن كل رشد وخير. وقال الحسن : طبع الله على قلوبهم. وقال الزجاج : أضلهم الله. قالت الأشاعرة : هو إخبار عما فعل الله بهم من الصد عن الإيمان والمنع منه. وقالت المعتزلة : هو دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عن الانشراح ، أو إخبار بأنه صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن بها ، أو المراد صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد قالوا : ومعنى قوله : ( لا يفقهون ( لا يتدبرون حتى يفقهوا. وعند الأشاعرة : هم قوم جبلوا على ذلك. يحكى عن محمد بن إسحاق أنه قال : ( لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوماً انصرفوا صرف الله قلوبهم ، لكن قولوا قضينا الصلاة كان مقصوده التفاؤل باللفظ الوارد في الخير دون الشر فإنه تعالى قال : ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) [ الجمعة : 10 ] ثم لما أمر رسوله في هذه السورة بتبليغ تكاليف شاقة يعسر تحملها ختم السورة بما يهون الخطب في تحملها فقال : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ( أي من جنس البشر لا الملك لأن الجنس إلا الجنس أميل وبه آلف وآنس ، أو الخطاب للعرب والمقصود ترغيبهم في نصرته والقيام بخدمته لأن كل ما يحصل له من الدولة والرفعة فإن ذلك سبب لعزهم وفخرهم لأنه من أبناء جلدتهم ، أو الخطاب لأهل الحرم خاصة لأنهم كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل لهم : كنتم قبل مقدمه مجدين في خدمة أسلافه فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف إلى آبائه ؟ أو المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته كأنه قيل : هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف ، وتعرفون كونه حريصاً على دفع الآفات عنكم وإيصال الخيرات إليكم. فإرسال من هذه حاله وصفته يكون من أعظم نعم الله عليكم. وقرئ ) من أنفسكم ( بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم. وتنسب هذه القراءة إلى النبي والوصي وأهل البيت عليهم السلام. ثم وصفه بما تستتبعه المجانسة والمناسبة من النتائج وذلك قوله : ( عزيز عليه ما عنتم ( العزة(3/550)
" صفحة رقم 551 "
الغلية والشدة والعنت المشقة الوقوع في المكروه ولإثم. و ( ما ) مصدرية أي شديد شاق عليه - لكونه بعضاً منكم - عنتكم ولقاؤكم المكروه ، وأولى المكاره بالدفع عقاب الله وهو إنما أرسل لدفع هذا المكروه. ) حريص عليكم ( الحرص يمتنع أن يتعلق بذواتهم فالمراد حريص على إيصال الخيرات إليكم مفي الدارين ؛ فالصفة الأولى لدفع الآفات والثانية لإيصال الخيرات والسادت فلا تكرار. وقال الفراء : الحريص الشحيح والمعنى أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار وفيه نوع تكرار. ثم بين أنه رحمة للعاملين فقال ) بالمؤمنين ( أيمنك ومن غيركم ) رؤوف رحيم ( قال ابن عباس : لم يجمع الله بين اسمين من أٍمائه إلا له ، وحاصل هذه الخاتمة أن هذا الرسول منكم فكل ما يحصل له من العز والشرف فذاك عائد إليكم وإنه كالطبيب الحاذق وكالأب الشفيق وإذا عرف أن الطبيب حاذق والأب مشفق فالعلاج والتأديب منهما أحسان وإحمال ، وإن كان صعباً مؤلماً فاقلبوا ما أمركم به من التكاليف وإن كانت شاقة لتفوزوا بسعادة الدارين ، ثم قال لرسوله فإن لميقبولا بل أعرضوا وتولوا فارتكفهم ولا تلتفتا إليهم وارجع في جمع أمورك إلى الله الذي بالحق أرسلك فهو كافيك ) وهو رب العرش العظيم ( فلا يخرج من قبضة قدرته وتصرفه شيء لأنه يحيط بالعرض وبما يوحيه العرض والله أعلم. التأويل : ( ما كان لأهل ( مدينة القالب وهو النفس والهوى والقلب ) ومن حولهم من الأعراب ( الصفات النفسانية والقلبية ) أن يتخلفوا عن رسول ( الروح السائر ولا يبذلوا وجودهم عند بذل وجوده بالفناء في الله ) ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ( من ماء الشهوات ) ولا نصب ( من أنواع المجاهدات ) ولا مخمصة ( بترك اللذات وحطام الدنيا في طلب الله ) لا يطؤ موطئاً ( من مقامات الفاء ) يغيظ ( كفار النفس والهوى ( ) ولا ينالون من عدوّ ( الشيطان والنفس والدنيا بلاء ومحنة وفقرأ وحزناً وغير ذلك من أسباب الفناء ) إلا كتب لهم به عمل صالح ( من البقاء بالله بقدر الفناء في الله ) ولا ينفقون نفقة صغيرة ( هي بذلك الصفات ) ولا كبيرة ( هي بذلك الذات في صفات الله وفي ذاته ) ولا يقطعون وادياً ( من أودية الدنيا والخرة والنفس والهوى والقلب والروح. ) احسن ما كانوا يعملون ( لأن عملهم بقدر معرفتهم وجزاؤه يضيق عنه نطاق فهمهم ) فلا تعلم نفس ما أخفي لهم ) [ السجدة : 17 ] ( وما كان المؤمنون لينفروا ( في السير إلى الله وبالله وفي الله ، فهلا نفر من كل قوم وقبيلة فرقة طائفة هم خواصهم وأهل الاستعداد الكاملون ليتعلموا السلوك ويخبروا بذلك قومهم ) لعلهم يحذرون ( من غير الله. ) قاتلوا الذين يلونكم ( من كفار النفس والهوى وصفاتها .(3/551)
" صفحة رقم 552 "
) وليجدوا فيكم غلظة ( عزيمة صادقة في ترك شهواتها ) وماتوا وهم كافرون ( أي لموت قلبهم لتزايد ظلمة النفاق كل حين ، ثم أخبر عن موت القلب بقوله : ( أولا يرون أنهم يفتنون ( والفتنة موجبة لانتباه القلب الحي ) إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ) [ ق : 37 ] أي قلب حي ) هل يراكم من أحد ( في مقام الإنكار والنفاق أي هل يرى محمد إنكارناعلى رسالته والقرآن ، فإن كان رسولاً يرانا بنور رسالته ) ثم انصرفوا ( على هذا الحسبان لأن قلوبهم مصروفة وليس لهم فقه القلب لأن ذلك من أمارات حياة القلب. ) من أنفسكم ( تسكين للعوام لئلا يتنفروا عنه وإشارة للخواص إلى أن البشر لهم استعداد الوصول والوصال ، فإن لم يكن بالاستقلال فبالمتابعة فاتبعوني يحببكم الله. ومن قرأ ) من أنفسكم ( أي أشرفكم فلأنه أوّل جوهر خلقه الله تعالى ( أول ما خلق الله تعالى روحي ) ولاختصاصه بالخلاص عن تعلق الكونين وبلوغه إلى قاب قوسين أو أدنى وتحليه بحلية ) فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 10 ] ولعلو همته ، ) ما زغ البصر وما طغى ) [ النجم : 17 ] ولرؤية سر القدر ) ولقد رأى من آيات ربه الكبرى ) [ النجم : 18 ]. ) بالمؤمنين رؤوف رحيم ( فمن رأفته أمر بالرفق كما قال : ( إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه بالرفق ) ومن رحمته قيل له ) فبما رحمة من الله لنت لهم ) [ آل عمران : 159 ] وههنا نكتة وهي أن رأفته ورحمتته لما كانت مخلوقة اختصب بالمؤمنين فقط ، وكان ترحمته تعالى ورأفته للناس عامة ) إن الله بالناس لرؤوف رحيم ( ونكتة أخرى هي أن رحمته ( صلى الله عليه وسلم ) عامة للعاملين بقوله : ( وما أرسلناك إلى رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107 ] وأما رحمته المضمومة إلى الرأفة فخاصة بالمؤمنين وكأن الرأفة إشارة إلى ظهر أثر الدعوة في حقهم ، فالمؤمنون أمة الدعوة والإجابة جميعاً وغيرهم أمة الدعوة فقط ) فقل حسبي الله ( لأن المقصود من التبليغ قد حصل لك وهو وصولك إلى الله أعرضوا عن دعوتك أو أقبلوا والله المستعان .(3/552)
" صفحة رقم 553 "
سورة يونس
سورة يونس مكية إلا ثلاث آيات قوله تعالى ) فإن كنت في شك ( إلى آخرهن
حروفها 5567 كلماتها 1832 وآياتها 109
بسم الله الرحمن الرحيم
( يونس : ( 1 - 10 ) الر تلك آيات . . . .
" الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين "
( القراآت )
الر ( بالإمالة وكذلك ما بعده : أبو عمرو وخلف وحمزة وعلي والخراز عن هبية والنجاري عن ورش ويحيى وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. ) لساحر ( بالألف : ابن كثير وعصام وحمزرة وعلي وخلف. الآخرون ) لسحر ( ) حقاً أنه ( بالتفح. يزيد. ) ضياء ( بالهمز حيث كان : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل ) يفصل ( بالياء : ابن(3/553)
" صفحة رقم 554 "
كثير وعمرو وسهل ويعقوب وحفص والمفضل والعجلي. الباقون بالنون. ) واطمأنوا ( بغير همز : الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف. الوقوف : ( آلر ( ق كوفي ) الحكيم ( ه ط ) عند ربهم ( ط ) مبين ( ه ) يدبر الأمر ( ط ) إذنه ( ط ) فاعبدوه ( ط ) تذكرون ( ه ) جميعاً ( ط ، ) حقاً ( ط ، إلا لمن قرأ ) أنه ( بالفتح. ربالقسط ( ط ) يكفرون ( ه ) والحساب ( ط ) إلا بالحق ( ط لمن قرأ ) نفصل ( بالنون ، ومن قرأ بالياء أمكنه أن يجعل ) يفصل ( حالاً. ) يعلمون ( ه ) يتقون ( ه ) غافلون ( هل لا لأن ) أولئك ( خبر ( إن ) ) بإيمانهم ( ج ط للحذف تقديره يهديهم ربهم بإيمانهم إلى دار البقاء مع اتحاد المقصود وتمام الموعود ) النعيم ( ه ) سلام ( ج ط لأن الجملتين وإن اتفقتا فقد اعترضت جملة معطوفة أخرى لأن قوله ) وآخر دعواهم ( معطوف على ) دعواهم ( الأوّل ) العالمين ( ه. التفسير : اتفقوا على أن قوله ) الر ( ليس بآية وعلى أن ) طه ( آية. ولعل الفرق أن ) الر ( لا يشاكل مقاطع الآية التي بعده ، عن ابن عباس ) آلر ( معناه انا الله أرى. وقيل : لارب غيري. وقيل : آلر وحم ون اسم الرحمن ) تلك ( إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات ، والتبعيد للتعظيم ، والكتاب السورة ، والحكيم ذو الحكمة لاشتماله عليها أو وصف بصفة من تكلم به ومنه قولهم للقصيدة حكيمة. وقيل : ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) لأنه يحكم بين الحق والباطل ، أو يحكم بأن محمداً صادق لأن القرآن أظهر معجزاته وأبقاها. وقيل : بمعنى مفعول أي حكم فيه بجميع المأمورات والمنهيات وقيل : بمعنى المحكم والإحكام المنع من الفساد وذلك أنه لا يمحوه الماء ولا يحرقه النار ولا يغيره الدهور. ويحتمل أن يقال : الكتاب الحكيم ه والقرآن أو اللوح المحفوظ أو التوراة والإنجيل ، لأن جميع الكتب الإلهية متوافقة في الأصول ، ويجوز أن يكون ) تلك ( إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن. واعلم أنه سانه لما ختم السورة المتقدمة بقوله : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) [ التوبة : 127 ] صدر هذه السورة بتعديد بعض الحروف على طريق التحدي ، وذلك أن حروف القرآن من جنس الحروف التي يتلفظون بها فلولا أنه معجز لعارضوه وناقضوه. ولما بين بهذا الطريق أن محمداً رسول حق من عند الله أنكر علىكفار قريش تعجبهم من كونه رسولاً فقال : ( أكان للناس عجباً ( نصب على أنه خبر كان واسمه ) أن أوحينا ( وفائدة اللام في قوله : ( للناس ( مع تقديمه هي أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتحدثون بها ، ثم إ تعجبهم إما أن يكون منجعل البشر رسولاً أو من تخصيص محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالوحي والنبوة روي أنهم كانوا يقولون العجب أن الله لم يجد رسولاً يرسله(3/554)
" صفحة رقم 555 "
إلى الناس إلا يتيم أبي طالب ، وكلا الأمرين ليس بعجب ، أما الأول فلأن الجنس إلى الجنس أميل ) ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً ) [ الأنعام : 9 ] ( قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً ) [ الاسراء : 95 ]. وأما الثاني فلأن الفقر واليتم لا يوجب في النبوة قدحاً لأن الله غني عن العالمين ) وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ) [ سبأ : 37 ] وإنما المعتبر في الاستنباء كونه متصفاً بالصدق والأمانة والتقوى ، وكان لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك قبل بعثه اليد الطولى إذ كان يدعى محمداً الأمين. و ( أن ) في قوله : ( أن أنذر الناس ( هي المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول ، أو مخففة من الثقيلة وقد عملت في ضمير شأن مقدر معناه إنه أي إن الشأن قولنا أنذر النس. وقوله : ( وبشر الذين آمنوا أن لهم ( أي بأن لهم ، والإنذار إخبار مع تخويف وإنه عام للناس كلهم ، ولكن البشارة خاصة بالمؤمنين. ويحتمل أن يراد بالناس الكفار فقط ويمكن أن يكون تعجبهم عائداً إلى الإنذار والتبشير وليس ذلك بعجب بل المنكر في العقول تعطيل الأعمال وأن يترك الإنسان سدىً ، وإرسال الرسل أمر ما أخلى الله تعالى المكلفين عنه شيئاً من الأزمنة ، وبه تتم الماليكة والأمر والنهي والإذن والمنع والثواب والجزاء. وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن الإنذار تحذير عن فعل ما لا ينبغي ، والتبشير ترغيب في فعل ما ينبغي والتخلية مقدمة على التحلية. ومعنى ) قدم صدق ( سابقة فضل ومنزلة رفيعة أي سبق لهم عند الله خير. قال أحمد بن يحيى : القدم كل ما قدمت من خر. وقال ابن الأنباري : كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ولا إبطاء. السبب في إطلاق القدم على السابقة أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد ، وإضافة القدم إلى صدق لأجل المبالغة وللتنبيه على أنها من السوابق العظيمة أي القدم التي يصدق ويحق أن تسمى قدماً. وأما عبارات المفسرين فمنهم من قال : قدم صدق هي الأعمال الصالحة ، ومنهم من قال الثواب ، ومنها من قال شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . أما قوله : ( قال الكافرون ( فقال القفال : فيه إضمار والتقدير : فلما أنذرهم قالوا ذلك. ثم من قرأ لساحر بالألف فقوله هذا إشارة إلى النبي صلى الله عيه وسلم ، ومن قرأ السحر إشارة إلى القرآن وفيه دليل على عجزهم واعترافهم بأنهم قاصرون عن معارضته كالسحر ، ومن هنا جوز بعضهم أن يكونوا أرادوا به المدح أي إنه لكمال فصاحته وتعذر الإتيان بمثله جارٍ مجرى السحر. ثم لما أنكر عليهم تعجبهم من الأمور المذكورة وهي الواسطة أراد أن يقيم البرهان عليها بإثبات المبدأ ويبين غايتها بإثبات المعاد وذلك في آيتين متواليتين. وقد مر في الأعراف تفسير قوله : ( إن ربكم الله(3/555)
" صفحة رقم 556 "
الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ( فلا حاجة إلى الإعادة. ثم ذكر ما يدل على مزيد عظمته وجلاله وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره فقال : ( يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ( وإنما فقد العاطف لأنهما كالتفسير والتفصيل لمادل عليه قوله : ( إن ربكم الله ( الخ. والأمر الشأن أراد به أحوال الخلق وأحوال ملكوت المسوات والأرض والعرض. والمعنى أنه يقضي ويقدر بمقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله الناظر في أدبار الأمور وعواقبها لئلا يدخل في الوجود ما لا ينبغي. قال الزجاج : إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يقولون إن الأصنام شفعاؤنا عند الله فرد الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح. ففي قوله : ( يدبر الأمر ( إشارة إلى استقلاله في التصرف جانب المبدإ ، وفي قوله ) ما من شفيع ( إشارة إلى استقلاله في طفر المعاد. ويمكن أن يقال : المراد أنه خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من الأصلح مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في تحصيل المصالح فدل ذلك على أنه محسن إلىعباده مريد للخير والرأفة بهم كامل العناية بأحوالهم. قال أبو مسلم : الشفيع معناه الثاني من الشفع الذي يخالف الوتر أي خلق السموات والأرض وحده ولا حي معه ولا شريك يعينه ثم خلق الملائكة والثقلين ، أشار إلى المعلوم بالأوصاف المذكورة فقال : ( ذلكم الله ربكم ( الذي يستأهل منكم العابدة بإزاء النعم الجسام من خلق السموات والأرض بما فيها وعليهما ) فاعبدوه ( وحده ) أفلا تذكرون ( فيه تنبيه على وجوب الاعتبار والنظر في الدلائل الدالة على عظمته وجلاله. ثم شرع في إثبات المعاد فقال : ( إليه مرجعكم ( أي رجوعكم ) جميعاً ( مجموعين. وتقديم الجار والمجرور للاختصاص والمعنى لا ترجعون في العاقبة إلا إلى جزائه وحكمه فاستعدوا للقائه ، ثم اكد ذلك بقوله : ( وعد الله حقاً ( وفيه تأكيدان كما مر. على الإبداء يقدر على الإعادة بالطريق الأولى كقوله : ( وننشئكم فيما لا تعلمون ) [ الواقعة : 61 ] يعني أنه سبحانه لما كان قادراً على إنشاء ذواتكم أوّلً ثم على إنشاء أجزائكم حال حياتكم ثانياً شيئاً فشيئاً من غير أن تكونوا عالمين بوقت حدوثه وبوقت نموّه ، وجب القطع بأنه لا يمتنع عليه إعادة تلك الأجزاء بعد البلى والتفرق. ومن قرأ ) أنه ( بالتفح فعلى حذف لام التعليل أي لأنه ، أو على أنه منصوب بالفعل الذي نصب(3/556)
" صفحة رقم 557 "
وعد الله أي وعد الله وعداً بدء الخلق ثم إعادته ، ويجوز أن يكون مرفعوعاً بما نصب حقاً أي حق حقاً بدء الخلق. ثم ذكر غاية الإعادة وحكمتها فقال : ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( قال المفسرون : في الآية إضمار اوالتقدير أنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم ثم يعيدهم ليجزي. وإنما حسن هذا الحذف لتقدم قوله : ( فاعبدوه ( ولأن الإعادة لا تكون إلا بعد الإماتة والإعدام. وقوله : ( بالقسط ( أي بالعدل متعلق ب ) يجزي ( أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجرهم أو ليجزيهم بقسطهم وبما لم يظلموا أنفسهم حين آمنوا وعملوا صالحاً وهذا وجه حسن لطباق قوله : ( ما كانوا يكفرون ( وفي قوله : ( والذين كفروا ( من غير أن يدخل لام العاقبة في الجملة كما أدخلها في الأولى دليل على أنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ، وإنما جاء التعذيب لغرض وقوعهم في طريق القهر. والحميم الماء الذي أسخن بالنار حتى انتهى حره. قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على عدم منزلة بين المنزلتين على ما يقول بها المعتزلة. وأجيب بأن عدم الذكر لا يدل على العدم ورُدَّ بأن الفساق أكثر من أهل الطاعة فكيف يجوز طي ذكرهم ؟ واعلم أن للعلماء في إثبات المعاد طريقين : الأول طريق القائلين بالحسن والقبح العقليين ، والثاني طريق من يقول لا يجب على الله شيء أصلاً يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. أما الفريق الأول فلهم على وجوب المعاد حجج عقلية منها : أنه تعالى خلق الخلق وأعطاهم عقولاً وقدراً فيجب في حكمته أن يرغبهم في الخيرات ويزجرهم عن السيئات ، وهذا الترغيب والزجر لا يمكن إلا بربط الثواب على الفعل والعقاب على الترك. هذا في المأمورات وبالعكس في المنهيات ، وذلك الثواب المرغب والعقاب المرهب غير حاصل في الدنيا فلا بد من دار أخرى هي دار الآخرة ليحصل فيها ذلك وإلا لزم أن يكون الله تعالى كاذباً في قوله : ( ليجزي ( الخ. فإن قيل : لم لا يكفي في الترغيب والردع ما أودع الله في العقول من تحسين الخيرات وتقبيح المنكرات فلا يحتاج إلى الوعد والوعيد ؟ ولئن سلم فلم لا يجوز أن يكون الغرض من الترغيب والترهيب نظام العالم لا أنه يفعل ذلك ولا يلزم من ه الكذب على الله ، ألستم تخصصون أكثر عمومات القرآن ثم تزعمون أنه لا كذب ؟ سلمنا أنه يفعل لكن لم لا يجوز أن يكون الثواب والعقاب هو ما يصل إلى الإنسان في دار الدنيا من الراحات الآلام ؟ فالجزواب أن العقل وإن كان يدعو إلى فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوان إلى الانهماك في الشهوات الجسمانية ، وإذا حصل هذاالتعارض فلا بد من مرجح وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد على الأعمال ، وتجويز الخلف في ذلك مناف للغرض ، وأخذ(3/557)
" صفحة رقم 558 "
الأجرة إنما يكون بعد الفراغ من العمل والعبد ما دام في الدنيا فهو في العمل ، وقد ترى أزهد الناس وأعلمهم مبتلى بالآفات والبليات ، وأفسقهم وأجهلهم في أتم اللذات والمسرات. ومنها أن صريح العقل يوجب في حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن والمسيء والمظلوم والظالم وأن لا يجعل من كفر به وعصاه كمن آمن به وأطاعه وليس هذه التفرقة في الدنيا كما قيل : كم عالم عالم أعيت مذاهبه
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
فلا بد من دار أخرى يظهر فيها التفاوت. ومنها أنه كلف عبيده بأن يعبدوه ، والحكيم إذا أمر عبده بشيء فلا بد ان يجعله فارغ البال منتظم الأحوال حتى يمكنه الاشتغال بأداء تكليفه ، والناس جبلوا على طلب اللذات والتبادر إلى تحصيل أسباب الراحات فول لم يكن زاجر من خوف المعاد لوقع الهرج والمرج والفتن وحينئذٍ لا يتفرغ المكلف لأداء ما أمر به. فإن قيل : لم لا يكفي في نظام العالم مهابه الملوك وسياستهم ؟ قلنا : إن لم يكن السلطان قاهراً قادراً على الرعية فلا فائدة فيه ، وإن كان قاهراً غالباً ولا خوف له من المعاد فحينئذٍ يقدم على أنواع الظلم والإيذاء لأن الدعاية النفسانية قائمة ولا وازع له في الدنيا ولا في الآخرة. ومنها أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق فيه الناس ، والعبث لا يليق بالحكيم الرحيم فوجب أن يقال : إنه خلقهم لمقصود ومصلحة وخير وليس ذلك في الدنيا لأن لذات هذا العالم جسمانية لا حقيقة لها إلا إزالة الألم ، وإزالة الألم أمر عدمي وكان هذا حاصلاً قبل الوجود فلا يبقى للتخليق فائدة. وأيضاً إن لذات الدنيا مشوبة بالآلام بل اللذة في الدنيا كالقطرة من البحر فلعمنا أن للرحة دار أخرى. فإن قيل : ليس أنه يعذب أهل النار لا لمصلحة وفائدة لهم ؟ قلنا : الفرق أن لذلك الألم استحقوه على أعمالهم وهذا الألم الحاصل في الدنيا غير مستحق فوجب أن يعقبه خيرات عظيمة وإلا فينافي كونه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. ومنها أنه لو لم يحصل للإنسان معاد لكان أحسن من جميع الحيوانات لأنها تشاركه في اللذات الحسية لأن الروث في مذاق الجعل كاللوز في فم الإنسان ، والإنسان يزيد عليها بعقل هو سبب تألمه وتأذيه في أغلب الأحوال ، يتفكر في الأحوال الماضية فيتأسف ، ويتأمل في الأحوال الآتية فيخاف ، فلو لم يكن للإنسان معاد به يكمل حاله ويظهر سعادته كان عقله سبباً لشاقئه وخسته دون شرفه ومزيته. ومنها أن إيصال النعم إما أن يكون مشوباً بالآفات أو خالصاً عنها ، فلما أنعم الله تعال ىعلينا في الدنيا بالمرتبة الأولى وجب أن ينعم علنيا بالمرتبة الثانية في دار أخرى إظهاراً لكمال القدرة والرأفة والحكمة ، فهناك ينعم على المطيعين ويعفو عن(3/558)
" صفحة رقم 559 "
المذنبين ويزيل الغموم والهموم والآفات والخافات. ومما يقوّي هذا الكلام أن الإنسان دائماً في الترقي من حين كونه جنيناً في بطن أمه إلى أن يخلص من ذلك السجن ويخرج إلى قضاء الدنيا ، وإلى أن ينتقل من تناول اللبن والشد الوثيق في المهد إلى تناول الأطعمة اللذيذة والمشي والعدو إلى أن يصير أميراً نافذ الحكم على الخلق أو عالماً مشرفاً على حقائق الأشياء ، فوجب بحكم هذا الاستقراء أن يكون حاله بعد الموت أشرف وأبهى من اللذات العاجلة المشوبة بالآلام. ومنها طريقة الاحتياط فإنا إذا آمنا بالمعاد وتأهبنا له فإن كان هذا المذهب حقاً فقد نجونا وهلك المنكر ، وإن كان باطلاً لم يضرنا هذا الإعتقاد ، غاية ذلك فوات بعض اللاذت الزائلة المشوبة بالمنغصات. ومنها أن الأحوال الإنسان من صباه إلى هرمه تضاهي حال الأرض من الربيع إلى الشتاء. ثم إنا نرى الأرض في الربيع الثاني تعود إلى تلك الحياة فلم لا يعقل مثل ذلك في الإنسان ؟ ومنها الإنسان إنما يتولد من نطفة نولدت من الأغذية الكائنة من الأجزاء العنصرية المتفرقة في مشارق الأرض ومغاربها ، فإذا مات وتفرقت تلك الأجزاء فكيف يمتنع أن تجتمع مرة أخرى على مثال الاجتماع الأول ؟ ومنها أن النظر في تغيرات العالم أدى إلى إثبات صانع حكيم قادر قاهر ، والعقل يحكم بأن هذا الحكيم لا يليق به أن يترك عبيده هملاً يكذبون عليه ويجورون ، فلا بد من أن يكون له أمر ونهي ووعد ووعيد من غير تجويز خلف فيهما كما مر ، ولا يتحقق جميع لك إلا في دار الجزاء. وأما الفريق الآخر الذين لا يعللون أفعال الله تعالى برعاية المصالح فإنهم يقولون : المعاد أمر جائز الوجود لأن تعلق النفس بالبدن لما كان في المرة الأولى جائزاً فالمرة الثانية أيضاً جائزة. ثم إن إله اعالم قادر مختار علام بجميع المعلومات الكليات والجزئيات فلا يعجز تمييز أجزاء بدن زيد - وإن اختلطت بأجزاء التراب والبحار - عن أجزاء بدن عمرو ، وإذا ثبت هذا الإمكان وقد دل الدليل على صدق الأنبياء عليهم السلام وعلى أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم إنهم قطعوا بوقوع هذا الممكن والقرآن مشحون بآيات البعث والجزاء فوجب علينا القطع بالمعاد الجسماني. وأما شبهة المنكرين فمن لك أنهم قالوا الدار الآخرة إن كانت شراً من هذه فالتبديل سفه ، وإن كانت مثلها فعبث ، وإن كانت خيراً منها فإما أن يقال إنه قادر على خلق ذلك الأجود أولاً ثم تركه وفعل الأرذل فذلك سفه ، أو يقال غنه ما كان قادراً على حدثت له القدرة فذلك انتقال من العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى الحكمة فهو محال على القديم. والجواب أن كلاً من الدارين خير في وقتها فالأولى لتحصيل الكمالات(3/559)
" صفحة رقم 560 "
النفسانية الممكنة للنوع الإنساني من قبي العلم والعمل ، والأخرى للراحة والجزاء ، ومن ذلك أنهم قالوا : حركات الأفلاك مستديرة والمستدير لا ضد له وما لا ضد له لا يقبل الفساد. والجواب ما كذرنا في كتبنا الحكمية من أن كل جسم مركب وكل مركب ينحل لا محالة. ولئن سلمنا أنها أزلية فحركاتها غير أزلية لأن الحركة عبارة عن الانتقال من حال إلى حال ، وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها والأزلية تنافي المسبوقية بالغير فكان الجمع بين الأزل والحركة محالاً. ولئن سلم أن الحركة أزلية فلم لا يجوز أن يكون بعض أوضاع الأفلاك متقضياً لإعادة المعدومات من الأشخاص الإنسانية ؟ ومن ذلك أنهم قالوا : الإنسان عبارة عن هذا البدن ذي الأجزاء لا كيف كانت بل بشرط وقوعها على تأليف مخصوص ، لأن أجزاء البدن كانت موجودة قبل هذا الإنسان والموجود مغاير للمعدوم. فإذا مات الإنسان وتفرقت أجزاؤه فقد عدمت تلك الصورة والأعراض وعود المعدوم محال. وأجيب بأن الإنسان ليس عبارة عن هذا الجسد وإنما هو النفس سواء كانت جوهراً مجرداً مفارقاً أو جسماً مخصوصاً لطيفاً باقياً في جميع أحوال البدن من الصبا إلى الهرم مصوناً عن التحلل والتبدل وهو الذي يسميه المتكلمون بالأجزاء الأصلية. ومن ذلك أنهم قالوا : إذا قتل الإنسان واغتذى به إنسان آخر لزم أن تعاد تلك الأجزاء في بدن كل واحد من الشخصين وذلك محال. وأجيب بعين ما مر وهي أن الأجزاء الأصلية لا تصير جزءاً من إنسان آخر. فهذه خلاصة وما وصل إليه العقول من أمر المعاد والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. تم عدد بعض نعمه على المكلفين فقال : ( هو الذي جعل الشمس ضياء ( وهو أجوف واوي مهموز اللام قلبت واوه ياء لكسرة ما قبلها ، ومن قرا بهمزتين بينهما ألف فمحمول على القلب لأن إذا قدم اللام على العين وقع حرف العلة على الطرف فانقلب همزة وكان في ( كساء ). وهو إما أن يكون جمع ضوء كحوض وحياض ، أو مصر ضاء يضوء مثل قام قياماً وصام صياماً ، ولا بد من تقدير مضاف أي جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور إلا أن يحمل على المبالغة فجعلا نفس الضياء والنور كما يقال للرجل الكرمي إنه كرم وجود. والضياء أقوى من النور. ولا خلاف بني العقلاء أن ضوء الشمس كيفية قائمة بها لذاتها ، أما نور القمر فقد ذهب جمهور الحكماء إلى أنه مستفاد من الشمس وبذلك يقع اختلاف أحواله من الهلالية إلى البدرية كما بينا في تفسير قوله تعالى : ( يسألونك عن الأهلة ) [ البقرة : 189 ] ( وقدره منازل ( قال في الكشاف : أي قدّر مسيره منازل أو قدره ذا منازل. ومنزلة القمر المسافة التي يقطعها في يوم وليلة بحركته الخاصة(3/560)
" صفحة رقم 561 "
به وجملتها ثمانية وعشرون وأساميها مشهورة : الشرطين الثريا البطين الخ. وهي كواكب ثابتة معروفة عندهم جعلوها علامات المنازلة ، فنرى القمر كل ليلة نازلاً بقرب أحدها وذلك أنهم قسموا دور الفلك وهو اثنا عشر برجاً على ثمانية وعشرين - عدد أيام القمر - فأصاب كل برج منزلان وثلث فسموا كل منزل بالعلامة التي وقعت وقت التسمية بحذائه. ثم ذكر بعض منافعهما العائدة على المكلفين فقال : ( لتعلموا عدد السنين والحساب ( حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي. وقد ذكرنا السنة الشمسية والسنة القمرية وكيفية دوارن إحداهما على الأخرى في تفسير قوله تعالى : ( إن عدة الشهور ) [ التوبة : 36 ] الآية فلا حاجة إلى التكرار ، ثم أشار إلى سائر منافعهما وخواصهما بقوله : ( ما خلق الله ذلك ( المذكور ) إلا ( ملتبساً ) بالحق ( والصواب دون الباطل والعبث ، فالشمس سلطان النهار والقمر خليفتها بالليل ، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى فصولها الأربعة ، وبالفصول تنظم مصالح هذا العالم ويتحصل معايش الخلائق ، وبحركة القمر يحصل الشهور ، وبختلاف حاله في زيادة النور ونقصانه تختلف أحوال الرطوبات إلى غير ذلك من الخواص التي يرشد إليها التأمل والتدبر ولهذا قال : ( يفصل الآيات لقوم يعلمون ( لأنهم هم الذين ينتفعون بهذه الدلائل. وقيل : المراد بالعلم ههنا العقل الذي يعم الكل. ثم ذكر المنفع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار وقد مر تفسيره في سورة ( البقرة ) في قوله : ( إن في خلق السموات والأرض ) [ الآية : 164 ]. ومعنى قوله : وقد مر في آخر ( الأعراف ). وإنما خص كونها آيات بالمتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى التدبر والنظر. قال القفال : من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لشقاء الناس وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم بل جعلها لهم دار عمل ، وإذا كان كذلك فلا بد من أمر ونيه ثم من ثواب وعقاب ليتميز المحسن عن المسيء ، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بالمدإ والمعاد. ثم شرع في شرح أحوال من لا يؤمن بالمعاد ومن يؤمن به فقال : ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ( عن ابن عباس ومقاتل والكلبي : معناه لا يخافون البعث كقوله تعالى : ( وهم من الساعة مشفقون ) [ الأنبياء : 49 ] واستبعد الأكثرون تفسير الرجاء بالخوف وقالوا : إنه بمعنى الطمع أي لا يطمعون في حسن لقائه كما يأمله السعداء ، أو لا يتوقعونه أصلاً لأنهم لا يؤمنون بالمعاد فهم ذاهلون عن طلب اللذات الحقيقية فارغون عن التوجه نحو السعادات الباقية ) ورضوا ( مع ذلك ) بالحياة الدنيا ( الحسية الخسيسة ) واطمأنوا(3/561)
" صفحة رقم 562 "
بها ( سكنوا إليها سكون العاشق إلى معشوقه وهذه غاية الانهماك الاستغراق في اللذات الجسمانية ) والذين هم عن آياتنا غافلون ( فال يعتبرون بالآيات ولا ينظرون في الدلائل الموصلة إلى حقيقة المبدإ والمعاد ، فمل يقبلوها بالتقليد ولم ينظروا إليها بعين الاجتهاد ) أولئك مأواهم النار ( فيه معنى الجزاء ولذلك تعلق به قوله : ( بما كانوا يسكبون ( وفيه أن الأعمار السابقة هي المؤثرة في حصول العذاب الجسماني وهو النار المحسوسة ، والعذاب الروحاني وهو نار البعد من المألوفات القطيعة من السعادات الباقيات فيكون مثاله مثال من أخرج عن مجالسة معشوقه فألقي في بئر ظلمانية لا إلف بها ولا مؤنس بل يكون فيها أنواع المؤذيات وأصناف الموحشات نعوذ بالله من تلك الحالات. وهذا حال من لا يؤمن بالمعاد فلا يعمل له ، وأما حال الذي يؤمن به فذلك قوله : إن الذين آمنواؤ استكملوا من جهة القوة النظرية ) وعملا الصالحات ( استكملوا من قبل القوة العملية أو صدقوا بقوله ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند الله ، أو أشغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة ثم جوارحهم بالخدمة حتى تكون عيونهم مشغولة بالاعتبار ، وآذانهم باستماع كلام الله ، وألسنتهم بذكر الله وسائر أعضائهم بطاعة الله تعالى : ( يهيديهم ربهم بإيمانهم ( قال أكثر المفسرين : معناه يهديهم إلى الجنة ثواباً لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة. ومعنى قوله : ( بإيمانهم ( أي بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح ، وهذا التفسير يوافق قوله تعالى : ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ) [ الحديد : 12 ] وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن المؤمن إذا اخرج من قبره صوّر له عمله الصالح في صورة حسنة فيقول له : أنا عملك فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة. والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة فيقول : أنا عملك فينطلق به إلى النار ). وقيل : معنى الآية إن إيمانهم يهديهم إلى مزايا من الألطاف ولوامع من الأنوار بحيث تزول بواسطتها عنهم الشكوك والشبهات فتؤدي إلى حصول المثوبات ولذلك جعل ) تجي من تحتهم الأنهار ( بياناً له وتفسيراً لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها. فهذه الهداية عبارة عن الفوائد الزوائد الحاصلة في الدنيا بعد الإيمان. قال القفال : فعلى هذا الوجه كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار إلا أنه حذف الواو وجعل قوله : ( تجري ( خبراً مستأنفاً منقطعاً عما قبله. والتحقيق في تقرير هذا الوجه أن العلم نور والجهل ظلمة والروح كاللوح والعلوم والعارف كالنقوش ولكن حالهم بالضد من النقوش الجسمانية ، فإن تزاحم النقوش الجسمانية يكدر اللوح وتوارد النقوش المعنوية وتكاثرها يزيد لوح الروح لمعاناً وإشراقاً حتى إنه يقوى بها على تحصيل المعارف الباقية(3/562)
" صفحة رقم 563 "
بسهولة ، فليس فهم الرجل المنتهي للعلوم والحقائق كفهم المبتدئ ، فإن الإنسان إذا آمن بالله فقد أشرق روحه بنور المعرفة ، وإذا واظب على الأعمال الصالحة له ملكة التوجه إلى الآخرة والإعراض عن الدنيا ، ولا تزال تتزايد إشراقات هذه المعارف والملكات فيرتقي في معارجها لحظة فلحظة ، ولا كان لا نهاية لمرات بالمعارف والأنوار العقلية فلا نهاي لمرات بهذه الهداية. وفي قوله : ( يهديهم ربهم بإيمانهم ( دليل لمن قال إن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة ولكنهما يعدّان الذهن لحصول الفيض من الجواد المطلق. ومعنى ) تجي من تحتهم الأنهار ( أنهم يكونون في البساتين على مواضع مرتفعة كالسرر والأرائك والأنهار تجري من بين أيديهم. ) دعواهم فيها ( قال بعض المفسرين : أي دعاؤهم ونداؤهم كما يدعو القانت بقوله : اللهم إياك نعبد : وقيل : الدعاء العبادة كقوله : ( وأعتزلكم زوما تدعون من دون الله ) [ مريم : 48 ] وإنما تكون هذه عبادتهم على على سبيل التكليف بل على سبيل الإلهام والعادة ابتهاجاً بذكر الله. وقيل : الادعاء بين المتخاصمين والمعنى أن أهل الجنة يدعون في الدنيا والآخرة تنزيه الله من المعايب والإقرار له بالإلهية. قال القفال : أصله من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما. وقيل : أي طريقتهم وسيرتهم وذلك لأن المدعي للشيء مواظب عليه فيمكن أن يجعل الدعوى كناية عن الملازمة وإن لم يكن في قوله سبحانه اللهم دعاء ولا دعوى. وقيل : أي تمنيهم كقوله : ( ولهم ما يدعون ) [ يس : 57 ] أي ما يتمنونه. وتقول العرب : ادّع عليّ ما شئت أي تمن فكان تمنيهم في الجنة ليس إلا تسبيح الله وتقديسه ، ولقد كانوا في الدنيا يدعون في الحروب من يسكنون إليه ويستنصرونه فيقولون : يا آل فلان فأخبر الله تعالى عنهم أن أنسهم في الجنة بذكر الله وسكونهم بتحميده ) وتحيتهم فيها سلام ( أي بعضهم يحيي بعضً بالسلام. وقيل : هي تحية الله أو الملائكة إياهم إضافة للمصدر إلى المفعول ) وآخر دعواهم أن الحمد ( هي ( أن ) المخففة من الثقيلة وأصله أنه الحمد ) لله ( على أن الضمير للشأن. قال أهل الظاهر من المفسرين : في سبب تخصيص هذه الأذكار بأهل الجنة أن قوله : ( سبحانك اللهم ( علم بين أهل الجنة وخدامهم إذا سمعوا ذلك منهم أتوهم بما يشتهونه. قال ابن جريج : ورد في الأخبار أنه إذا مرّ بهم طير يشتهونه قالوا : ( سبحانك اللهم ( فيأتيهم الملك بذلك المشتهى ، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا : ( الحمد لله رب العالمين ( وقال القاضي : إنه وعد المتقين بالثواب العظيم فإذا دخل أهل الجنة الجنة ووجدوا تلك المواعيد قالوا سبحانك الله أي نسبحك عن الخلف في الوعد. وقيل : ألهم الله بني آدم في الجنة بعد انقراض الدنيا ما افتخر به(3/563)
" صفحة رقم 564 "
الملائكة قبلهم في قولهم : ( ونحن نسبح بحمدك ) [ البقرة : 30 ] ويمكن أن يقال : إن لكل إنسان معراجاً بحسب قوته فإذا وصل العارف الصادق إلى صفات جلال الله تعالى قال سبحانك ، وإذا ارتقى منها إلى الذات قال اللهم ، فإذا عجز عن ذلك المضمار واحترق في أوائل تلك الأنوار رجع من عالم الجلال إلى عالم الإكرام فأفاض الخير على جميع المحتاجين ويدفع المخافات والمكاره عنهم بكل ما أمكنه وذلك قوله : ( وتحيتهم فيها سلام ( ثم إذا شاهدوا أثر نعمة الله عليهم بالاستفاضة والإفاضة اختتموا الكلام بقولهم : ( الحمد لله رب العالمين (. وعلى هذا يدور أمرهم في العروج والنزول ما داموا في الدنيا فيكون كذلك حالهم في العقبى لقوله : ( كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون ). التأويل : ( آلر ( فيه إشارتان : إحدهما من الحق المحق إلى حبيبه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه قال : بآلائي عليك في الأزل وأنت يف العدم وبلطفي عليك في الوجود وبرحمتي ورأفتي لك من الأزل إلى الأبد. والثانية من الحق لنبيه عليه السلام إليه يقول بإنسك معي حين خلقت روحي ولم يكن ثالث ، وبلبيك الذي أجبتني به حين دعوتك للخروج من العدم فقلت : ياسين أي يا سيد فقلت : لبيك وسعديك والخير كله بيديك. وبرجوعك منك إلى حين قلت لنفسك بجذبه ) ارجعي إلى ربك ) [ الفجر : 2 ] ( تلك ( أي هذه الآيات المنزلة عليك ) آيات الكتاب الحكيم ( الذي وعدتك في الأزل وراثته لك ولأمتك. والحكيم الحاكم على الكتب كلها فلا ينسخه كتاب وهو ينسخ الشرائع والأحكام والكتب كلها ) إلى رجل منهم ( لما رأى فيه رجولية قبول الوحي دون غيره ، ويحتمل أن يكون معنى للناس الناسي عهد الله ) قدم صدق ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أول من خرج من العدم إلى الوجود ، أو هو العناية الأزلية ( سبقت رحمتي غضبي ) ) لساحر مبين ( صدقوا في أنهم مسحورون إلا أنه سحرهم سحرة صفات فرعون النفس. إن الذي يربيكم هو الذي خلق السموات سموات أرواحكم وأرض نفوسكم من ستة أنواع هي : الروح والقلب والعقل ) يدبر ( أمر السعادة والشقاوة يقلبه كيف يشاء. ) إليه مرجعكم جميعاً ( فرجعوا مقبولين بجذبات العناية التي صورتها خطاب ) ارجعي إلى ربك ) [ الفجر : 28 ] وحقيقتها انجذاب القلب إلى الله ونتيجتها عزوف النفس عن الدنيا واستواء الذهب والمدر عندها ورجوع(3/564)
" صفحة رقم 565 "
المردودين بغير الاختيار بالسلاسل والأغلال. ومن نتائجه تعلقات الدنيا واستيلاء صفات النفس ) بالقسط ( أي لكل بحسب كماله ونقصانه. جعل شمس الروح ضياء يستنير بها قمر القلب إذا وقع في مواجهتها ، وإذا وقع في مقابلة أرض النفس انكسف ولهذا سمي قلباً لتقلب أحواله بين الروح والنفس. وتلك الأحوال هي منازله ومقاماته لتعلموا عدد سنين المقامات وحساب الكشوف والمشاهدات ) إن في اختلاف ( ليل صفات البشرية ونهار صفات الروحانية ) وما خلق الله ( في سموات الروحانية وأرض البشرية من الأوصاف والأخلاق وتبدل الأحوال ) لآيات ( دالة على التوحيد ) لقوم يتقون ( الأخلاق الذميمة ) والذين هم عن آياتنا غافلون ( وإن لم يركنوا إلى الدنيا وتمتعاتها كالرهابين والبراهمة وبعض الفلاسفة والله تعالى أعلم. ( يونس : ( 11 - 20 ) ولو يعجل الله . . . .
" ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين "
( القراآت )
لقضي إليهم ( مبنياً للفاعل ) أجلهم ( بالنصب : ابن عامر ويعقوب. الآخرون مبنياً للمفعول ورفع ) أجلهم ( أو بدله بضم اللام وسكون الهاء : روى خلف عن الكسائي والاختبار عنه وعن غيره الإشمام ) لي أن ( بفتح الياء وكذلك ) إني أخاف ( : أبو(3/565)
" صفحة رقم 566 "
جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ) نفسي أن ( بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع. ) ولأدراكم ( بلام الابتداء فعلاً مثبتاً : روى أبو ربيعة عن البزي وحمزة. وقرأ حمزة وعلي وأبو عمرو وخلف وورش من طري قالنجاري والخراز عن جبيرة وهبيرة وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ، وحماد ويحيى من طريق أبي حمدون بالإمالة فعلاً ماضياً منفياً بلا. الباقون : مثله ولكن بالتفخيم. ) تشركون ( بتاء الخطاب وكذكل في ( النحل ) و ( الروم ) : حمزة وعلي وخلف. الباقون بالياء. الوقوف : ( أجلهم ( ط لأن ما بعده مستقبل فنحن نذر ) يعمهون ( ه ) أو قائماً ( ط ) مسه ( ط ) يعملون ( ه ) ظلموا ( لا لأن الواو للحال ) ليؤمنوا ( ط ) المجرمين ( ه ) تعملون ( ه ) بينات ( لا لأن ما بعده جواب ( إذا ) ) أو بدله ( ط. ) نفسي ( ج ط لأن ( ان ) النافية لها صدر الكلام ولكن القائل متحد ) إليّ ( ط ج لمثل ما قلنا ) عظيم ( ه ) به ( ط والوصل أولى للفاء أو لشدة اتصال المعنى ) من قبله ( ط ) تعقلون ( ه ) بآياته ( ط ) المجرمون ( ه ) عند الله ( ط ) في الأرض ( ط ) يشركون ( ه ) فاختلفوا ( ط ) يختلفون ( ه ) من ربه ( ج ط للابتداء بالأمر مع الفاء ) فانتظروا ( ج لاحتمال الابتداء أو التعليل ) المنتظرين ( ه. التفسير : إنه سبحانه ابتدأ في هذه السورة بذكر شبهات القوم ؛ فالأولى أنهم تعجبوا من تخصيص الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بالنبوة فأزال ذلك التعجب بالإنكار وبالدلائل الدالة على صحة المبدأ والمعاد فكأنه قيل : إنه ما جاء إلا بدليل التوحيد والإقرار بالمعاد فليس للتعجب معنى. ثم شرع في شبهة أخرى وهي أنهم كانوا يقولون أبداً اللهم إن كان محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء فأجابهم بقوله : ( ولو يعجل الله ( الآية. وقال القاضي : لما ذكر الوعيد على عدم الإيمان بالمدإ والمعاد ذكر أن ذلك العذاب من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيا وإلا نافى التكليف. وقال القفال : لما وصفهم فيما مر بالغفلة أكد ذلك بأن من غاية غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب فبيّن الله تعالى أنه لا مصلحة في تعجيل إيصال الشر إليهم فلعلهم يؤمنون ، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن. كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله بكشفها كما يجيء في الآية التالية ، وفي الرخاء كانوا يستعجلون النبي بالعذاب فقال ما معناه : ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما يعجل لهم الخير ونجيبهم إليه لأميتوا وأهلكوا. قال في الكشاف : أصل الكلام ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم(3/566)
" صفحة رقم 567 "
الخير. وفوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إيجابته لهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل منه لهم. وقيل : التعجيل معناه طلب العجلة إلا أن الاستعجال أشهر وأظهر. فمعنى الآية لو أراد الله عجلة الشر للناس كما أرادوا عجلة الخير لهم. وقيل : هما متلازمان فكل معجل يلزمه الاستعجال إلا أنه تعالى وصف نفسه بتكوين العجلة ووصفهم بطلبها لأن اللائق به التكوين واللائق بهم الطلب. وسمي العذاب في الآية شراً لأنه أذى وألم في حق المعاقب به. ثم إن قوله ) لو يعجل ( كان متضمناً لمعنى نفي التعجيب فيمكن أن يكون قوله ) فنذرهم ( معطوفاً على منوي كأنه قيل : ولكن لا يعجل فيذرهم إلزاماً للحجة أو لمصالح أخرى. ثم بين أنهم كاذبون في استعجال الشر ولو أصابهم ما طلبوه أظهروا العجل والطيش فقال : ( وإذا مس الإنسان الضر ( أي هذا الجنس ) دعانا لجنبه ( اللام في معنى الوقت كقولك : جئته لشهر كذا. وإن شئت قلت في موضع الحال لأن الظرف والحال متآخيان فيصح عطف أحدهما على الآخر وتأويل أحدهما بالآخر أي دعانا مضطجعاً ) أو قاعداً أو قائماًؤ أو وقت اضطجاعه وقعوده وقيامه. والمراد أنه يدعو الله في جميع أحواله لا يفتر عن الدعاء. ثم إن خص الضر بالمرض احتمل أن يراد أنه يدعو الله حين كان مضطجعاً غير قادر على القعود أو قاعداً غير قادر على القيام ، أو قائماً لا يطيق المشي إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها. أو يراد أن من المضرورين من هو أسوأ حالاً وهو صاحب الفراش ، ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود ، ومنهم المستطيع للقيام وكلهم لا يصبرون على الضراء. قال بعض المفسرين : الإنسان وههنا هو الكافر. ومنهم من بالغ فقال : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به الكافر. وهذا شبه تحكم لورود مثل قوله تعالى : ( هل أتى على الإنسان ) [ الدهر : 1 ] إلا أن يساعده نقل صحيح. والأصح عند العلماء العموم لأن الإنسان خلق ضعيفاً لا يصبر على اللأواء ولا يشكر عند النعماء إلا من عصمه الله وقليل ما هم ، وهم الذين نظرهم في جميع الأحوال على المقدر المؤجل للأمور حسب إرادته ومشيئته فلا جرم إن أصابهم السراء شكروا وإن أصبهم الضراء صبروا فأفنوا إرادتهم في إرادته ورضوا بقضائه. قال الزجاج : في الآية تقديم وتأخير والتقدير : وإذا مس الإنسان الضر بجنبه أو قاعداً أو قائماً : وضعف بأن تعديد أحوال الدعاء أبلغ من تعديد أحواله الضر لأنه إذا كان داعياً على الدوام ثم نسي ذلك في وقت الرخاء كان أعجب. ومعنى ) مرّ ( مضى على طريقته التي له قبل مس الضراء ومرّ عن موقف الدعاء والتضرع لا يرجع إليه. ومعنى ) كأن لم يدعنا ( كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن ) كذلك ( مثل ذلك التزيين ) زين للمسرفين ما كانوا يعملون ( من(3/567)
" صفحة رقم 568 "
تتبع الشهوات. والمزين هو الله تعالى أو النفس أو الشيطان مفرع عن مسألة الجبر والقدر وقد مر مراراً. قال العلماء : سمي الكافر مسرفاً لأنه أنفق ماله من الاستعداد الشريف من القوى البدنية والأموال النفسية في الأمور الخسيسة الزائلة من الأصنام التي هي أحقر من لا شيء ، ومن الشهوات الفانية التي لا أصل لها ولا دوام. والمسرف في اللغة هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس فصح ما قلنا. ثم ذكر ما يجري مجرى الردع والزجر لهم عن إلقاء الشبه والأغاليط فقال : ( ولقد أهلكنا القرون ( وقد مضى تفسير القرن في أول الأنعام ) ولما ( ظرف لأهلكنا والواو في ) وجاءتهم ( للحال أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم ) رسلهم ( بالدلائل ، والحجج على صدقهم وهي المعجزات. وقوله : ( وما كانوا ليؤمنوا ( إما أن يكون عطفاً على ) ظلموا ( أو يكون اعتراضاً واللام لتأكيد النفي ، وإن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر والسبب في إهلاكهم تكذيب الرسل وعلم الله بإصرارهم ) كذلك ( أي مثل ذلك الجزاء وهو الاستئصال الكلي نجزي كل مجرم ، وفيه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . ثم خاطب الذين بعث إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله : ( ثم جعلناكم خلائق ( أي استخلفناكم ) في الأرض ( بعد تلك القرون ) لننظر كيف تعملون ( خيراً أو شراً. استعير النظر للعمل الحقيقي الذي لا يتطرق إليه شك ، ويعني به العلم الذي يتعلق به الجزاء كما مر في ( الأعراف ). قال قتادة : صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنهار. ثم حكى نوعاً ثالثاً من شبهاتهم فقالك ) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ( أي لا يؤمنون بالمعاد لأن كل من كان مؤمناً بالنشور فإنه يرجو ثواب الله ويخاف عقابه ، وانتفاء اللازم دليل انتفاء الملزوم. طلبوا من الرسول أحد أمرين : إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن مع بقاء هذا القرآن على حاله ، إما تبديل هذا القرآن بنسخ بعض الآيات ووضع أخرى في مكانها. فأمره الله تعالى أن يقول في جوابهم ) ما يكون لي ( أي ما ينبغي وما يحل ) أن أبدله من تلقاء نفسي ( من قبل نفسي فنفى عن نفسه أحد القسمين الذي هو أسهل وأقل ليلزم منه نفي الأصعب الأكثر بالطريق الأولى. ثم أكد الجواب بقوله : ( إن أتبع ( أي ما أتبع ) إلا ما يوحى إلي ( إن نسخت آية تبعت النسخ وإن بدلت آية مكان آية تبعت التبديل. وقد تمسك بهذا نفاة القياس ونفاة جاز الاجتهاد وأجيب بأن رجوعهما أيضاً إلى الوحي. ونقل عن ابن عباس أن قوله : ( إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( منسوخ بقوله : ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) [ الفتح : 2 ] وضعف بأن النسخ إنما(3/568)
" صفحة رقم 569 "
يكون في الأحكام والتعبدات لا في ترتيب العقاب على المعصية. قال المفسرون : هذا الالتماس منهم يحتمل أن يكون على سبيل السخرية. فقد روى مقاتل والكلبي أنهم خمسة نفر من مشركي مكة وهم المستهزؤون في قوله : ( إنا كفيناك المستهزئين ) [ الحجر : 95 ]. ويحتمل أن يكون على سبيل التجربة والامتحان حتى إنه إن فعل ذلك علموا أنه كاذب ، أو أرادوا أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم فطلبوا قرآناً آخر لا يكون كذلك. ثم أكد كون هذا القرآن من عند الله سبحانه وأنه غير مستبد في إيراده فقال : ( لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم ( ولا أعلمكم الله ) به ( على لساني. ومن قرأ بلام الابتداء. فمعناه ما تلوته أنا عليكم ولأخبركم الله به على لسان غيري ، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده فرآني أهلاً لذلك دون غيري. وقرئ ) لا أدرأكم به ( بالهمزة. ووجهه أن تكون الهمزة مقلوبة من الألف ، أو يكون من الدرء الدفع. ومعنى ادرأته جعلته دارئاً أي لم أجعلكم بتلاوته خصماً تدرؤنني بالجدال وتكذبونني ) فقد لبثت فيكم عمراً ( أي بعضاً معتبراً من العمر وهو أربعون سنة ) من قبله ( أي من قبل نزول القرآن ) أفلا تعقلون ( فيه قدح في صحة عقولهم لأن ظهرو مثل هذا الكتاب العظيم المشتمل على علوم الأوّلين والآخرين المعجز للثقلين عن معارضته على من عرفوا حاله من عدم التعلم والمدارسة ومخالطة العلماء إذا شك فيه أنه من قبيل الوحي والمدد السماوي ، كان ذلك إنكاراً للضروريات وافتراء على الله فلهذا قال ) فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ( الآية. وفيه أن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله ثم نسبه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الله لم يكن أحد أظلم منه. ثم قبح الله أصنامهم معارضة لهم بنقيض مقصودهم من الالتماس فقال ) ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ( إن لم يعبدوه ) ولا ينفعهم ( إن عبدون من حق المعبود أن يكون مثيباً معاقباً. وفيه إشعار بأنها جماد ، والمعبود لا بد أن يكون أكمل من العابد ، وإذا كانت المنافع والمضار كلها من الله فلا تليق العبادة إلا له ) ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ( قد ذكرنا وجه ذلك يف أوائل سورة البقرة في قوله : ( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ) [ الآية : 22 ] ثم أنكر عليهم معتقدهم بقوله : ( قل أتنبئون الله بما لا يعلم ( والمراد أنه لا وجود لكونهم شفعاء إذ لو كان موجوداً لكان معلوماً للعالم بالذات المحيط بجميع المعلومات وهذا مجاز مشهور. تقول : ما عمل الله ذلك مني. والمقصود أنه ما وجد منك ذلك قط. وفي قوله : ( في السموات ولا في الأرض ( تأكيد آخر لنفيه لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتفٍ معدوم. قوله : ( سبحانه وتعالى عما يشركون ( إما أن يكون من تمام ما أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول لهم ، أو ابتداء كلام من الله تعالى تنزيهاً لنفسه عن إشراكهم أو عن(3/569)
" صفحة رقم 570 "
الشركاء الذين يشركونهم به. ثم بيّن أن عبادة الأصنام بدعة وأن الناس - يعني العرب أو البشر كلهم - كانوا على الدين الحق فاختلفوا. وقد مر تفسير مثله في سورة البقرة في قوله : ( كان الناس أمة واحدة ) [ الآية : 213 ] والمقصود ههنا تقبيح صورة الشرك وعبادة الأصنام من دون الله في أعينهم ، وتنفير طباعهم عن مثل هذا الأمر المستحدث الفظيع ) ولولا كلمة سبقت من ربك ( من بناء أمر الثواب العقاب على التكليف لا على الإلجاء والقسر ، أو من تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة ، أو من قوله : ( سبقت رحمتي غضبي ) ) لقضى بينهم ( عاجلاً ولميز المحق من المبطل. ثم ذكر نوعاً رابعاً من إليهم فقال : ( ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه ( وقد مر تفسيره في ( الأنعام ) في قوله : ( لولا نزل عليه آية من ربه ) [ الأنعام : 37 ] كأنهم لم يعتدّوا بالقرآن آية فاقترحوا غيره تعنتاً. ) فقال إنما الغيب لله ( هو المختص بعلمه ) فانتظروا ( نزول ما اقترحتموه وهذا أمر فيه تهديد ووعيد والله ورسوله أعلم. ( يونس : ( 21 - 30 ) وإذا أذقنا الناس . . . .
" وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت(3/570)
" صفحة رقم 571 "
وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون " ( القرآات : ( يمكرون ( بياء الغيبة : سهل وروح. الباقون : بالتاء الفوقانية. ) ينشركم ( النون : ابن عامر ويزيد. الباقون ) يسيركم ( من التسيير ) متاع ( بالنصب : حفص والمفضل. الباقون بالرفع ) قطعاً ( بسكون الطاء : ابن كثير وعلي وسهل ويعقوب. والآخرون بفتحها ) تتلوا ( بتاءين من التلاوة : حمزة وعلي وخلف وروح ، وروي عن عاصم ) نبلو ( بالنون ثم الباء الموحدة. ) كل نفس ( بالنصب الباقون : بتاء التأنيث ) كل ( بالرفع. الوقوف : ( آياتنا ( ط ) مكراً ( ط ، ) تمكرون ( ه ) والبحر ( ط ) في الفلك ( ج ط للعدول مع أن جواب ( إذا ) منتظر ، ) أحيط بهم ( لا لأن قوله : ( دعوا ( بدل من ) ظنوا ( لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو متلبس به ، وإن جعل ) دعوا ( جواباً عن سؤال سائل فما صنعوا كان للوقف وجه. ) الدين ( ج لاحتمال إضمار القول وجعل الدعاء في معنى القول ) الشاكرين ( ه ) بغير الحق ( ط. ) على أنفسكم ( ط ، إلا لمن جعله متعلقاً ب ) بغيكم ( ) تعملون ( ه ) الأنعام ( ط ) عليها ( لا لأن ما بعده جواب ( إذا ). ) بالأمس ( ط ) يتفكرون ( ه ) السلام ( ط ) مستقيم ( ه ) وزيادة ( ط ) ولا ذلة ( ط ، ) الجنة ( ج ط ) خالدون ( ه ) بمثلها ( لا لأن قوله ) وترهقهم ( معطوف على محذوف أي يلزمهم جزاء سيئة وترهقهم ذلة. ) عاصم ( ج ط لأن الكاف لا يتعلق ب ) عاصم ( مع تعلقها بذلة قبله معنىً ، لأن رهق الذلة سواد الوجه المعبر عنه بقوله كأنما ) مظلماً ( ط ) أصحاب النار ( ج ط ) خالدون ( ه ) وشركاؤكم ( ج للعودل مع فاء التعقيب ) تعبدون ( ه ) لغافلين ( ه ) يفترون ( ه. التفسير : لما بين في الآية المتقدمة أنهم يطلبون الآيات الزائدة عناداً ومكراً ولجاجاً أكد ذلك بقوله : ( وإذا أذقنا ( روي أنه سبحانه سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم وأنزل الأمطار النافعة ، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع إلى الأصنام - وقيل نسبوها إلى الأنواء - فقابلوا نعم الله بالكفارن لذلك مكرهم وهو احتيالهم في دفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في المناظرة. في تخصيص الإذاقة بجانب الرحمة دليل على أن الكثير من الرحمة قليل بالنسبة إلى رحمته الواسعة. وفيه أن الإنسان لغاية ضعفه الفطري لا يطيق أدنى الرحمة كما أنه لا يطيق أدنى الألم الذي يمسه. قال في الكشاف : معنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم. وهذا أيضاً من جملة الضعف لأنه نسي ما عهده من الضر الشديد. و ( إذا ) الثانية للمفاجأة وقع مقام الفاء في(3/571)
" صفحة رقم 572 "
جواب الشرط كما في قوله : ( إذا هم يسخطون ) [ التوبة : 58 ] وفائدته أن يعلم أنهم فاجأوا وقوع المكر منهم في الوقت الإذاقة وسارعوا إليه ولم يلبثوا قدر ما ينفضون عن رؤوسهم غبار الضر ولهذا قال سبحانه ) قل الله أسرع مكراً ( يقدر على إيصال جزاء مكرهم إليهم قبل أن يرتد إليهم طرفهم ولكنه يمهلهم لأجل معلوم ليتضاعف خبثهم مع كونه محفوظاً بيانه قوله ) إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ( وقد مر تحقيق هذا في تفسير قوله : ( ويرسل عليكم حفظة ) [ الأنعام : 62 ]. واعلم أن مضمون هذه الآية قريب من مضمون قوله : ( وإذا مس الإنسان الضر ) [ يونس : 12 ] إلا أن هذه زائدة عليها بدقيقة هي أنهم بعد الإعراض عن الدعاء يطلبون الغوائل ويقابلون الرحمة بالمكر والخديعة ولا يرضون رأساً برأس. ثم ضرب لأجل ما وصفهم به مثالاً حتى ينكشف المقصود تمام الانكشاف فقال : ( هو الذي يسيركم ( ومن قرأ ) ينشركم ( فكقوله : ( فانتشروا في الأرض ) [ الجمعة : 10 ] قال بعض العلماء : المسير في البحر هو الله سبحانه وتعالى ، وأما في البر فالمراد من التسيير التمكين والإقدار. والحق أن جميع الأفعال والحركات مستندة إلى إحداث الله تعالى ، غاية ذلك آثار إقداره وإحداثه في البحر أظهر كما مر في تفسير قوله : ( والفلك التي تجري في البحر ) [ البقرة : 164 ] قال القفال : هو الله الهادي لكم إلى السير في البحر طلباً للمعاش ، وهو المسير لكم لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير. وحتى لانتهاء الغاية والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها ، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة : أولها الكون في الفلك ، وثانيها جري الفلك بهم بالريح الطيبة ، والضمير في ) جرين ( للفلك على أنها جمع كما مر. وثالثها فرحهم بها. والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة أيضاً : أوّلها ) جاءتها ( أي الفلك أو الريح الطيبة تلتها ريح عاص ذات عصوف كلابن لذات اللبن ، أو لأن لفظ الريح مذكر والعصوف شدة هبوب الريح. وثانيها ) وجاءهم الموج من كل مكان ( أي من جميع جوانب أحياز الفلك ، والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر. وثالثها ) وظنوا أنهم أحيط بهم ( أي غلب على ظنونهم الهلاك. وأصله أن العدوّ إذا أحاط بقوم أو بلد فقد دنوا من البوار ، فجعل إحاطة العدوّ بالشخص مثلاً في الهلاك. وقرىئ ) في الفلكي ( والياء زائدة كما في ( الأحمري ) أو أريد به الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه. قال في الكشاف : وإنما التفت في قوله : ( وجرين بهم ( إلى آخره من الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح. وقال الإمام فخر الدين الرازي : الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذه الآية دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في(3/572)
" صفحة رقم 573 "
قوله : ( إياك نعبد ) [ الفاتحة : 5 ] دليل الرضا والتقريب. قلت : هذا وجه حسن. أما قوله : ( دعوا الله مخلصين ( فقد قال ابن عباس : تركوا الشرك ولم يشركوا به من آلهتهم شيئاً ، وأقروا لله بالربوبية والوحدانية. وقال الحسن : ليس هذا إخلاص الإيمان لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله فيكون ذلك جارياً مجرى الإيمان الاضطراري. وقال ابن زيد : هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون ، فإذا جاء الضر والألم لم يدعوا إلا الله. وعن أبي عبيدة : أن المراد من ذلك الدعاء قولهم : ( أهيا شراهياً ) تفسيره ( يا حي يا قيوم ) يحكى أن رجلاً قال لجعفر الصادق رضي الله عنه : ما الدليل على إثبات الصانع ؟ ركبت البحر فانكسر السفينة وبقيت على لوح من ألواحهم وجاءت الرياح العاصفة. قال جعفر الصادق رضي الله عنه : هل وجدت في قلبك تضرعاً ؟ فقال : نعم. قال جعفر : فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت. ) لئن أنجيتنا من هذه ( الشدة كما مر في الأنعام ) يبغون في الأرض بغير الحق ( البغي قصد الاستعلاء بالظلم من قولك بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد ، وأصله الطلب فلهذا أكد المعنى بقوله : ( بغير الحق ( قال في الكشاف : إنما زاد هذا القيد احترازاً من استيلاء المسلمين على أرض الكفرة بهدم دورهم وأحراق زروعهم كما فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ببني قريظة. قلت : ويحتمل أن يراد بغير شبهة حق عندهم كقوله ) قتلون النبيين بغير الحق ) [ البقرة : 61 ] من قرأ متاع بالنصب فما قبله جملة تامة أي إنما بغيكم وبال على أنفسكم وهو مصدر مؤكد كأنه قيل : يتمتعون متاع الحياة الدنيا. ومن قرأ بالرفع فإما على أن التقدير هو متاع الدنيا بعد تمام الكلام ، أو على أنه خبر وقوله : ( على أنفسكم ( صلة أي إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها والبغي من منكرات المعاصي قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أسرع الخير ثواباً صلة الرحم وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة ) وروي ( اثنتان يعجلهما الله في الدنيا : البغي وعقوق الوالدين ). وعن محمد بن كعب : ثلاث من كن فيه كن عليه : البيغ والنكث والمكر. قال تعالى : ( إنما بغيكم على أنفسكم ( أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياماً قلائل وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها ) ثم ( إلى ما وعدنا من المجازاة ) مرجعكم فنبئكم بما كنتم تعملون ( وهو في هذا الموضع وعيد بالعقاب كقول الرجل في معرض التهديد سأخبرك بما فعلت. ثم ذكر مثلاً لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا ويشتد تمسكه بها فقال : ( إنما مثل الحياة الدنيا ( أي صفتها العجيبة الشأن ) كماء أنزلناه من السماء فاختلط به ( أي اشتبك بسبب هذا الماء(3/573)
" صفحة رقم 574 "
) نبات الأرض ( فيحتمل أن يراد أن نباته ثم وصوله إلى حد الكمال كليهما بسبب المطر ، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أول بروزه ومبدإ حدوثه غير مهتز ولا مترعرع ، فإذا نزل المطر عليه اهتز وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض وتكاثف. ) حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ( قال الجوهري : الزخرف الذهب ثم يشبه به كل مموه مزوّر. ) وازينت ( أصله تزينت فأدغم واجتلبت لذلك همزة الوصال. وهذا كلام في نهاية الفصاحة وفيه تشبيه الأرض بالعروس التي تأخذ الثياب الفاخرة من كل لون فتلبسها ، ثم تزين بجميع الأقسام المعهودة لها من حمرة وبياض ونحوها ) وظن أهلها ( أي غلب على ظنونها أو تيقنوا ) أنهم قادرون عليها ( متمكنون من تحصيل ريعها. ) أتاها أمرنا ( بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات. ) ليلاً أو نهاراً ( أي حين غفلتهم بالنوم أو حين اشتغالهم وتقلبهم في طلب معايشهم ) فجعلناها ( أي زرعها ) حصيداً ( شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله. ) كأن لم تغن ( أي كأن الشأن لم يلبث زرعها ) بالأمس ( أي في زمان قريب. يقال : غنى بالمكان بالكسر يغنى بالفتح إذا أقام به. والأمس مثل في الوقت القريب. هذا والصحيح عند علماء البيان أن هذا التشبيه من التشبيه المركب. قال في الكشاف : شهبت حال الدنيا في شرعة تقضيها وانقراض نعيمها بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه. وقيل : المراد أن عاقبة هذه الحياة التي ينفقها المرء في باب النيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء به وقع اليأس منه ، لأن الغالب أن المتمسك بالدنيا إذا اطمأن بها وعظمت رغبته فيها وانتظم أمره بعض الانتظام أتاه الموت. وتلخيصه أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة تحمد فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد. ويحتمل أن يكون هذا مثلاً لمن لا يؤمن بالمعاد ، فإن الأرض المزينة إذا زال حسنها فإنه يعود رونقها مرة أخرى فكذا النشور ) كذلك نفصل الآيات ( نذكر واحدة منها بعد الأخرى لتكون كثرتها وتواليها سبباً لقوة اليقين وموجباً لزوال الشك ) لقوم يتفكرون ( في أحوال الآفاق والأنفس. ثم لما نفر المكلفين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق رغبهم في الآخرة بقوله : ( والله يدعو إلى دار السلام ( ومثله ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( سيد بنى داراً وصنع مائدة وأرسل داعياً فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل ورضي عنه السيد ، ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد ، فالله السيد والدار دار السلام والمائدة الجنة والداعي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) )(3/574)
" صفحة رقم 575 "
وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق إلا الثلقين أيها الناس هلموا إلى ربكم والله يدعو إلى دار السلام ) واتفقوا على أن دار السلام هي الجنة واختلفوا في سبب التسمية. فقيل : لأن السلام هو الله والجنة داره فالإضافة للتشريف ، وإنما أطلق اسم السلام عليه تعالى لأنه سلم من الفناء والتغير ومن جميع سمات النقص والحدوث ومن الظلم والعجز والجهل وهو القادر على تخليص المضطرين عن المكاره والآفات ، وكفى بدار أضافها الله تعالى لنفسه فضلاً وشرفاً وبهجة وسروراً. وقيل : سميت دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات والمخافات. وقيل : لفشوّ السالم بينهم ) تحيتهم فيها سلام ) [ يونس : 10 ] ( والملائكة يدخلون عليها من كل باب سلام عليكم ) [ الرعد : 24 ] ( سلام قولاً من رب رحيم ) [ يس : 58 ] واعلم أن الدعوة عامة ولكن الهداية خاصة فلذلك قال ) ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( ومن هنا ذهب أهل السنة إلى أن الهداية والضلالة والخير والشر كلها بمشيئة الله تعالى وإرادته. وقالت المعتزلة : المراد ويهدي من يشاء إلى إجابة تلك الدعوة ويعنون أن من أجاب الدعاء وأطاع واتقى فإن الله يهديه إليها. والمراد من الهداية الألطاف ، ثم قسم أهل الدعوة إلى قسمين وبين حال كل طائفة فقال : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ( ولا بد من تفسير هذه الألفاظ الثالثة : فعن ابن عباس أحسنوا أي ذكروا كلمة لا إله إلا الله ، وذهب غيره إلى أن المراد إتيان الطاعات واجتناب المنهيات لأن الدرجات العالية لا تليق إلا بهم. وأما الحسنى فقال في الكشاف : المراد المثوبة الحسنى. وقال ابن الأنباري : العرب توقع هذه اللفظة على الخلة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها ، ولذلك ترك موصوفها. وأما الزيادة فلحمها أهل السنة على رؤية الله لأن اللام في الحسنى للمعهود بين المسلمين من المنافع التي أعدها الله تعالى لعباده ، فالزيادة عليها تكون مغايرة لها فما هي إلا الرؤية. وقالت المعتزلة : الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه ، ورؤية الله تعالى بعد تسليم جوازها ليست من جنس نعيم الجنة ، فالمراد بها ما يزيد على المثوبة من التفضل كقوله : ( ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ) [ فاطر : 30 ] وزيف بأن الزيادة إذا كان المزيد عليه مقدراً بمقدار معين وجب أن يكون من جنسه كما لو قال الرجل لغيره : أعطيتك عشرة أمنان من الحنطة وزيادة. أما إذا كان غير مقدر كما لو قال : أعطيتك الحنطة زيادة. لم يجب أن تكون الزيادة من جنس المزيد عليه. والمذكور في الآية لفظة الحسنى وهي الجنة وإنها مطلقة ، فالزيادة عليها شيء مغاير لكم ما في الجنة. وعن علي عليه السلام : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة. وعن ابن عباس : الحسنى الجنة والزيادة عشر(3/575)
" صفحة رقم 576 "
أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وعن مجاهد : مغفرة من الله ورضوان. وعن يزيد بن سمرة : هي أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم. هذا شأن المنافع الحاصلة لهم ، وأما أنها منافع خالصة عن الكدورات فأفاد ذلك بقوله : ( ولا يرهق ( أي لا يغشى ) وجوههم قتر ( غبرة فيها سواد ) ولا ذلة ( ولا أثر هوان وكسوف بال. ثم أشار إلأى كونن تلك المنافع الخالصة آمنة من الانقطاع بقوله : ( أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( وهذا معنى قول علماء الأصول ( الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ) ثم بين حال الفريق الآخر بقوله : ( والذين ( أي وجزاء الذين ) كسبوا السيئات جزاء بمثلها ( أي جزاؤهم أن تجازى سيئة واحد بسيئة مثلها لا يزاد عليها. ومن جوز العطف على عاملين مختلفين جوز أن يكون التقدير : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها. قالت المعتزلة : وفيه دليل على أن المراد بالزيادة في الآية المتقدمة الفضل ، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله فناسب أن يكون قد دل هناك بإثبات الزيادة عغلى المثوبة على فضله. ) وترهقهم ذلة ( فإنهم حين ماتوا ناقصين خالين عن الملكات الحميدة كان شعورهم بذلك سبباً لذلهم وهوانهم على أنفسهم ، وهذا على قاعدة حكماء الإسلام أن الجهل سواد وظلمة كما أن العلم والمعرفة بياض ونور ومنه قول الشبلي رضي الله عنه : كل بيت أنت ساكنه
غير محتاد إلى السرج
ومريض أنت عائده
قد أتاه الله بالفرج
) ما لهم من الله من عاصم ( أي لا يعصمهم أحد من عذابه وسخطه ، أو ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما للمؤمنين. والتحقيق أنه لا عاصم من الله لأحد في الدنيا ولا في الآخرة إلى بإذن الله إلا أن هذا المعنى في الآخرة أظهر كقوله : ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) [ غافر : 16 ] ثم بالغ في الكشف عن سواد وجوههم فقال : ( كأنما إغشيت ( أي ألبست ) وجوههم قطعاً من الليل ( من قرأ بسكون الطاء فمعناه البعض والطائفة و ) مظلماً ( صفته. ومن قرأ بفتحها على أنه جمع قطعه فمظلماً حال من الليل والعامل فيه إما معنى الفعل في ) من الليل ( أو ) أغشيت ( لأن قوله : ( من الليل ( صفة لقوله : ( قطعاً ( فكان إفضاء العامل إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة قاله في الكشاف. والعم أن جمعاً من العلماء ذهبوا إلى أن المراد بقوله : ( والذين كسبوا السيئات ( هم الكفار لأن سواد الوجه من علامات الكفر بدليل قوله : ( فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ) [ آل عمران : 106 ] وقوله : ( ووجوه يومئذ عليها غبرة(3/576)
" صفحة رقم 577 "
ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة ) [ عبس : 40 - 42 ] ولقوله بعدها ) ويوم نحشرهم ( والضمير عائد إلى ) هؤلاء (. ثم إنه وصفهم بالشرك. وقال الآخرون : اللفظ عام يتناول الكافر والفاسق إلا أن الآيات المذكورة مخصصة. ثم شرع بعض أحوال المشركين في القيامة فقال : ( ويوم نحشرهم ( منصوب بإضمار ( اذكر ) أو ظرف متعلق بتبلو أي في يوم كذا تبلو كل نفس. وحاصل الكلام أنه يحشر العابد والمعبود ليسألوا فيتبرأ المعبود من العابد خلاف ما كانوا يزعمون من قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وفيه إشارة إلى أن الممكن لا نسبة له إلى الواجب الحق ، فإذا اتخذ الممكن معبوداً برئ من ذلك في مقام لا ينفع إلا لصدق. قال في الكشاف : ( مكانكم ( أي الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما نفعل بكم. وعند أبي علي هو اسم من أسماء الأفعال وحركته حركة بناء وهو كلمة وعيد عند العربز و ) أنتم ( لتأكيد المضير في ) مكانكم ( لسده مسد قوله : ( الزموا ). ) وشركاؤكم ( عطف عليه. ) فزيلنا بينهم ( ففرقنا بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم في الدنيا. قيل : عين الكلمة ( واو ) لأنه من زال يزول. وإنما قلبت ياء لأن وزن الكلمة ( فعيل ) أي زيولنا مثل بيطره أعل إعلال سيد. وقيل : هي من زلت الشيء أزيله ، فعينه على هذا ياء والوزن ( فعل ) ونظير زيلنا قوله : ( ونادى أصحاب الأعراف ( ) الآية : 48 ] لأن حكم الله بأنه سيكون كالكائن ) وقال شركاؤهم ( في صحة هذه الإضافة وجوه منها : أنهم جعلوا نصيباً من أموالهم لتلك الأصنام فهم شركاؤهم. ومنها أنهم متشاركون في الخطاب في قوله : ( مكانكم ( ومنها انهم أثبتوا هذه الشكرة والشركاء. وقيل : هم الملائكة لقوله : ( ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ( وقيل : كل من عبد من دون الله. وقيل : الأصنام لأن هذا الخطاب مشتمل على التهديد وأنه لا يليق بالملائكة المقربين. وكيف تنطق هذه الأصنام ؟ وقيل : لأن الله يخلق فيهم الحياة والعقل والنطق. ثم هل يبقيهم أو يفنيهم ؟ الكل محتمل ولا اعتراض لأحد عليه. وقيل : يخلق فيهم الكلام فقط. وهذا الخطاب تهيدد في حق العابدين فهل يكون تهديداً في حق المعبودين ؟ قالت المعتزلة لا ، لأنه لا ذنب للمعبودين ومن لا ذنب له يقبح من الله تهديده وتخويفه. وقالت الأشاعرة : لا يسأل عما يفعل. أما قول الشركاء ) ما كنتم إيانا تعبدون ( وهم كانوا قد عبدوهم فالمراد أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا لقولهم : ( فكفى بالله شهيداً ( الآية. ومن أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لاحس لها ولا شعور. وقيل : لما في ذلك الموقف من الدهشة والحيرة فذلك الكذب يجري مجرى كذب الصبيان والمجانين والمدهوشين. وقيل : إنهما ما أقاموا لأعمال الكفار وزناً فجعلوها كالعدم .(3/577)
" صفحة رقم 578 "
وقيل : المراد أنهم عبدوا الشياطين حيث أمروهم باتخاذ الأنداد ، ومن جوز الكذب في القيامة فلا إشكال. و ) هنالك ( أي في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان. ) تبلو كل نفس ( تختبر وتذوق ) ما أسلفت ( من العمل. ومن قرأ بالنون فالمعنى نفعل بها فعل الخابر ، أو نصيب بالبلاء وهو العذاب كل نفس عاصية لأجل ما أسلفت من الشر. ومن قرأ ) تتلو ( بتائين فمعناه تتبع ما أسفلت لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار. أو تقرأ في صحيفتها ما قدمت من خير أو شر. ) وردّوا إلى الله مولاهم الحق ( الصادق ربوبيته ) وضل عنهم ( وضاع عنهم ) ما كانوا ( يدعون أنهم شركاء الله أو ما كانوا يختلفون من شفاعة الآلهة. والحاصل أنهم يرجعون عن الباطل ويعترفون بالحق حين لا ينفعهم ذلك. التأويل : ( وإذا أذقنا الناس ( ذوق توبة وإنابة أو ذوق كشف وشهود ) من بعد ضراء ( وهي الفسوق والأخلاق الذميمة وحجب الأوصاف ) إذا لهم مكر في آياتنا ( بإظهارها إلى غير أهلها بشرف النفس وطلب الجاه والقبول. ) قل الله أسرع مكراً ( فيستدرجهم عن تلك المقامات إلى دركات البعد ) من حيث لا يشعرون ( ) هو الذي يسيركم ( في بر البشرية وبحر الروحانية ، أو في بر العبودية وبحر الربوبية ) حتى إذا كنتم ( في فلك جذبات العناية ) وجرين بهم ( بهبوب نسيم شهود الجمال ) وفرحوا ( بالوصول والوصال ) جاءتها ( نكباء تجلى صفات الجلال ) وجاءهم ( موج البلاء والمحن من أماكن النعم والبلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) فلما أنجاهم ( فيه إشارة إلى أن أرباب الطلب لما وصلوا بجذبات الحق إلى شهود الجمال واستغراق لجج بحر الجلال ، استقبلتهم عواصف العزة والكبرياء فيستدرجهم إلى البغي وهو الطلب في أرض ما سوى الحق غير الحق ) كماء أنزلناه ( من سماء القلب إلى أرض البشرية ) فاختلط به ( الصفات المولدة من أرض البشرية ) مما يأكل الناس والأنعام ( من الصفات الحميدة الإنسانية والذميمة البهيمية ) أتاها ( حكمنا الأزلي ) ليلاً ( عند استيلاء ظلمات صفات النفس ) أو نهاراً ( عند بقاء ضوء الفيض الروحاني ، لكنه بامتزاج القوة الخيالية والوهمية وقع في ورطة العقائد الباطلة كما لبعض الفلاسفة والمبتدعة. ) والله يدعو إلى دار السلام ( وهي مقام الفناء لأن صاحبه يسلم عن آلآفات الحجب أو مقام العلم والمعرفة لأن صاحبه يسلم عن آفة الأثنينية والجهالة ) ويهدي من يشاء ( بجذبات العناية ) إلى صراط مستقيم ( يؤدي إلى السير بالله إلى الله. ) للذين أحسنوا الحسنى ( فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، والحسنى هي شواهد الحق والنظر إليه ، والزيادة الجنة وما فيها من(3/578)
" صفحة رقم 579 "
النعيم أو هي ما زاد على النظر من إفناء الناسوتية في اللاهوتية والله ولي التوفيق. ( يونس : ( 31 - 41 ) قل من يرزقكم . . . .
" قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون "
( القراآت )
كلمات ربك ( وكذلك في آخر السورة على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر ) لا يهدي ( مثل ) يرمي ( : حمزة وعلي وخلف ) يهدي ( بسكون الهاء وتشديد الدال : أبو جعفر ونافع غير ورش وعباس وأبو عمرو غير عبا بإشمال الفتحة قليلاً ) يهدي ( بكسر اللهاء وتشديد الدال : عاصم غير يحيى وجبلة ورويس ) يهدي ( بكسرتين والتشديد : يحيى ) يهدي ( بفتحتين والتشديد : ابن كثير وابن عامر وورش وسهل ويعقوب غير رويس. الوقوف : ( يدبر الأمر ( ط ) الله ( ج ) تتقون ( ه ج ط ) ربكم الحق ( ج ط للاستفهام مع الفاء ) إلا الضلال ( ج ط ) تصرفون ( ه ) لا يؤمنون ( ه ) ثم يعيده ( الأول ط ) تؤفكون ( ه ) إلى الحق ( ط ) للحق ( ط ) أن يهدي ( ج ط لما مر ) فما لكم ( ص لحق الاستفهام الثاني ) تحكمون ( ه ط ) إلا ظناً ( ط ) شيئاً ( ط ) شيئاً ( ط ) يفعلون ( ه ) العالمين ( ه ) افتراء ( ط ) صادقين ( ه ) تأويله ( ط ) الظالمين ( ه ) لا يؤمن به ( ط ) بالمفسدين ( ه ) عملكم ( ج لأن ) أنتم ( مبتدأ والعامل واحد ) تعملون ( ه .(3/579)
" صفحة رقم 580 "
التفسير : لما بين فضائح عبدة الأوثان أكدها بالحجج اللامعة والبراهين القاطعة من أحوال الرزق والموت والحياة والإبداء والإعادة والإرشاد والهداية ، وقد بنى الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المؤول ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس. فالحجة الأولى قوله : ( قل من ريزقكم من السماء والأرض ( بإنزال الأمطار النافعة الموجب ةلتولد الأغذية النباتية والحيوانية في الأرض بعد رعاية شرائط تربيتها وإنمائها وحفظها من العاهات. ) أمن يملك السمع والأبصار ( خص الحاستين بالذكر لما في خلقهما وتسويتهما من الفطرة العجيبة ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( سبحان من بَصَّرَ بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم ) ولما في تحصينهما في الآفات في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء مزيد قدرة ورأفة. ) ومن يخرج الحي من الميت ( الحيوان الماشي والطائر من النطفة والبيضة وقد مر سائر الأقوال في العالم في سورة الأنعام. ) ومن يدبر الأمر ( عمم بعدما خصص لأن أقسام تدبيره تعالى في العالم العلوي والعالم السفلي وعالمي الغيب والشهادة أمور لا نهاية لها. وذكر كلها كالمتعذر. ) فسيقولون الله ( وفيه دليل على أنهم كانوا يعبدون الأصنام بناء على أنها شفعاؤهم وأنها تقربهم إلى الله زلفى ، ولكنهم كانوا مخطيئن في هذا الإعتقاد فلهذا ختم الآية بقوله ) فقل أفلا تتقون ( الله الذي اعترفتم فأنه سبب فيضان جميع الخيرات فكيف أشركتم بعبادته الجمادات التي لا تقدر على نفع أو ضر. ) فذلكم ( الموصوف بالقدرة الكاملة والرحمة الشاملة ) الله ربكم الحق ( الثابت ربوبيته بالوجدان والبرهان. ) فماذا بعد الحق ( ( ذا ) مزيدة و ( ما ) نافية أو استفهامية أو مجموع ( ماذا ) كلمة واحدة معناها أي شيء بعد الحق ) إلا الضلال ( والمراد أنه لما ثبت وجود الواجب الحق كان ما سواه ممكناً لذاته باطلاً دعوى الإلهية فيه ، لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحداً في ذاته وفي صفاته وفي جميع اعتباراته وإلا لزم افتقاره إلى ما انقسم إليه فلا يكون واجباً هف محال ولهذا ختم الآية بقوله : ( فأنى تصرفون ( كيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر وتقعون في الضلال ، إذ لا واسطة بين الأمرين ، فمن يخطىء أحدهما وقع في الآخر. ) كذلك ( أي كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال ، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق فكذلك ) حقت كلمة ربك (. وتفسير الكلمة ) أنهم لا يؤمنون ( على أنه بدل أي حق عليهم انتفاء الإيمان وقد علم الله منهم ذلك في الأزل ، وأراد بالكلمة العدة بالعذاب وأنهم لا يؤمنون تعليل على حذف اللام. احتجت المعتزلة بمثل قوله تعالى : ( فأنى تصرفون ( أن الصارف لو كان هو الله تعالى لم يصح منه هذا التعجيب والإنكار. وقالت الأشاعرة : قد تعلق علمه تالى بأنهم لا يؤمنون كما قال : ( حقت كلمة ربك ( وتعلق خبره بأنهم لا يؤمنون وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه بل بخلق الكفر(3/580)
" صفحة رقم 581 "
فيه ، وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ وأشهد عليه ملائكته وأنزله على أنبيائه وأشهدهم عليه ، فلو حصل الإيمان لبطلت هذه الأشياء فينقلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً وقدرته عجزاً وإرادته عبثاً وإشهاده باطلاً. الحجة الثانية ) قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ( وإنما قال : ( ثم يعيده ( مع أن الخصم لا يعترف به لأنه قدم في هذه السورة دلال الإعادة بحيث لا يتمكن العاقل من دفعها إذا تأمل وأنصف فبنى الأمر على ذلك. وإنما أمر نبيه أن ينوب عنهم في الجواب بقوله ) قل الله ( الآية. تنبيهاً على أن هذا المعنى بلغ في الوضوح إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم المكابر ، فكأنه قيل : تكلم عنهم إذ لا يدعهم لحاجهم أن يطقوا بكلمة الحق. وقوله : ( فأنى تؤفكون ( كقوله : ( فأنى تصرفون ( وقد مر في ( المائدة ). الحجة الثالثة ) قل هل من شركائكم من يهدي ( الآية. الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أوّلاً ثم بالهداية عادة مطردة في القرآن ، فحكى عن الخليل ( صلى الله عليه وسلم ) ) الذي خلقني فهو يهدين ) [ الشعراء : 78 ] وعن موسى ) ربنا الذيأعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) [ طه : 5 ] وأمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ) [ الأعلى : 1 - 3 ] والسر فيه أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح وارتسام العلوم والمعارف فيه بإرشاد الحق سبحانه من الطرق المنحرفة كثيرة والظنون والأغاليط غير محصورة ، فتحصيل الوسط الحقيقي لا يمكن إلا بتوفيقه وهدايته ، ولا مدخل في ذلك بالاستقلال لملك أو إنسي أو جني فضلاً عن الأصنام التي هي في أدنى مراتب الوجود لأنها جمادات لا شعور لها هذا تقرير الحجة الثالثة. وقال الزجاج : يقال : هديت للحق وإلى الحق بمعنى ، فجمع بين العبارتين. ويقال : هدى بنفسه بمعنى اهتدى كما يقال شرى بمعنى اشترى ومنه قوله : ( أمن لا يهدي ( وسائر القراآت أصلها ( يهتدي ) فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء أو كسرت لالتقاء الساكنين ، وقد كسرت الياء لاتباع ما بعدها. قيل : هذه الشركاء جمادات فكيف قال في حقها ) إلا أن يهدى ( وأجيب بوجوه منها : أن المراد في الآية رؤساؤهم وأشرافهم كقوله : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ) [ التوبة : 31 ] والمراد أن الله سبحانه هو الذي يهدي الخلق إلى الدين الحق بالدلائل النقلية وبما يمكنهم منه من الدلائل العقلية ، وأما هؤلاء الدعاة والرؤساء فإنهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلا إذا هداهم الله. ومنها أنهم لما اتخذوها آلهة وصفهم الله تعالى بصفة من يعقل كقوله : ( إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ) [ فاطر : 14 ] ومنها أن ذلك بالفرض والتقدير يعني أنها لو كانت بحيث يمكنها أن تهتدي فإنها لا تهدي غيرها إلا تهدى. ومنها أن البنية عندنا ليست برط في صحة الحياة(3/581)
" صفحة رقم 582 "
والعقل فيح من الله تعالى أن يجعلها حية عاقلة ، ثم إنها تشتغل بهداية الغير ، ومنها أن المراد من الهدي النقل والحركة يقال : هديت المرأة زوجها أي نقلت إليه ، فالمعنى لا ينتقل إلى مكان إلا إذا نقل إليه. ثم عجب من مذهبهم الفاسد باستفهامين متواليين فقال : ( فما لكم كيف تحكمون (. ثم بين ما بنوا عليه أمر دنيهم فقال : ( وما يتبع أكثرهم إلا ظناً ( أي في إقرارهم بالله لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم بل سمعوه من أسلافهم أو في قولهم للأصنام أنها آلهة أو شفعاء ، وعلى هذا فالمراد بالأكثر الجميع. ) إن الظن ( في معرفة الله وفيما يجب تحقيقه ) لا يغني من الحق ( وهو العم والتحقيق ) شيئاً ( من الغناء. والمعنى أن الظن لا يقوم مقام العلم في شيء من الأحوال. ثم أوعدهم على اتباعهم الظن وتقليد الآباء بقوله : ( إن الله عليم يفعلون (. وتمسك نفاة القياس بالآية ظاهر من قبل أن القياس لا يفيد إلا الظن. وأجيب بأن التمسك بالعمومات لا يفيد إلا الظن وهذه الآية من العمومات فلم يجب اتباعها بزعمكم ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكاً. ولما فرغ من دلائل التوحد شرع في إثبات النبوة فقال : ( ما كان هذا القرآن أن يفترى ( أي افتراء من دون الله أو كلمة ( أن ) بمعنى اللام أي ما ينبغي له وما استقام أن يكون مفترى. والحاصل أن وصفه ليس وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله لأنه معجز لا يقدر البشر على إتيان مثله وإنما القادر عليه هو الله تعالى. ) ولكن ( كان ) تصديق الذي بين يديه ( من الكتب المنزلة لإعجازه دونها فهو عيار عليها شاهد بصحتها ، ونفس هذا التصديق أيضاً معجز لأن أقاصيصه موافقه لما في كتب الأولين مع أنه لم يتعلم قط ولم يتلمذ ، ولأن بشارته جاءت في تلك الكتب على وفق دعواه ، ولأنه يخبر عن الغيوب المستقبلة فيقع مطابقاً فظهر أن القرآن معجز من قبل اشتماله على الغيوب الماضية والمستقبلة. أما أنه معجز من جهة اشتماله على العلوم الجمة فذلك قوله : ( وتفصيل الكتاب ( أي يبين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع كقوله : ( كتاب الله عليكم ) [ النساء : 24 ] قال في الكشاف قوله : ( لا ريب فيه من رب العالمين ( داخل في حيز الاستدراك كأنه قال : ولكن كان تصديقاً ومتعلقاً بتصديق وتفصيل و ) لا ريب فيه ( اعتراض كقولك : زيد لا شك فيه كريم. والمعنى ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه لا ريب فيه. ثم أعاد بيان إعجازه مرة أخرى فقال مستفهماً على سبيل الإنكار ) أم يقولون افتراه قل ( إن كان الأمر(3/582)
" صفحة رقم 583 "
كما تزعمون ) فأتوا ( أنتم على وجه الافتراء ) بسورة مثله ( في البلاغة وحسن النظم فأنتم مثلي في العربية والفصاحة ) وادعوا من استطعتم من دون الله ( أي لا تستعينوا بالله وحده ثم استعينوا بكل من سواه ) إن كنتم صادقين ( أنه افتراه. قال بعض العلماء : هذه الآية في سورة يونس وهي مكية ، فلعل المراد بالسورة المتحدّي بها هذه السورة. والأصح أن التحدي واقع على أقصر سورة. قالت المعتزلة : لو لم يكن الإتيان بمثل القرآن صحيح الوجود في الجملة لم يتحدّ العرب به لكنهم تحدّوا بذلك فدل على أن القرآن محدث إذ لو كان قديماً والإتيان بالقديم محال مل يصح هذا التحدي. وأجيب بأن القرآن يقال بالاشتراك على الصفة القديمة القائمة بذات الله وعلى هذه الحروف والأصوات المحدثة ، والتحدي إنما وقع بهذه لا بتلك ) بل كذبوا ( سارعوا إلى التكذيب ) بما لم يحيطوا بعلمه ( وهو القرآن ) ولما يأتهم تأويله ( ومعنى التوقع فيه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل تقليداً للآباء ، وكذبوا به بعد التدبر وتكرير التحدي عليهم واستيقان عجزهم عن هذا بغياً وحسداً وعناداً. وذلك إنما حملهم على التكذيب أوّلا وآخراً وجوه منها : أنهم وجدوا في القرآن أقاصيص الأولين ولم يعرفوا المقصود منها فقالوا أساطير الأوّلين ، وخفي عليهم أن الغرض منها بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم ونقل الأمم من العز إلى الذل وبالعكس ، ليعرف المكلف أن الدنيا ليست مما يبقى ، فنهاية كل حركة سكون وغاية كل سكون أن لا يكون كقوله : عز من قائل ) لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ) [ يوسف : 111 ]. ومنها أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور لم يفهموا منها شيئاً ساء ظنهم بالقرآن فأجاب الله تعالى عنه بقوله : ( هو الذي رأوا القرآن يظهر شيئاً فشيئاً فاتهموا النبي وقالوا : ( لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة ) [ الفرقان : 32 ] ومنها أنهم وجدوا القرآن مملوءاً من حديث الحشر والنشر ، وكانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا ذلك. وأنهم وجدوا فيه تكاليف كثيرة من الصلاة والصيام والزكاةم والحج والجهاد وكانوا يقولون. إن إله العالم غني عنا وعن طاعاتنا ) كذلك كذب الذين من قبلهم ( يعني قبل النظر في معجزات أنبيائهم. قال أهل التحقيق : في الآية دلالة على أن من كان غير عارف بوجوه التأويل قد يقع في الكفر والبدعة ، لأن ظواهر النصوص قد تتعارض فيفتقر هنالك إلى تطبيق التنزيل على التأويل. وقيل : معنى الآية أن القرآن كتاب معجز من جهتين : من جهة إعجاز نظمه ومن جهة ما فيه من الأخبار بالغيوب ومن جملتها أحوال الآخرة. فقوله : ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ( إشارة إلى التكذيب(3/583)
" صفحة رقم 584 "
به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز ، وقوله : ( ولما يأتهم تأويله ( إشارة إلى تكذيبهم قبل أن يمتحنوا غيوبه هل تطابق الواقع أم لا. ثم ختم الآية بقوله : ( فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ( والمراد أنهم طلبوا الدنيا وأعرضوا عن الآخرة فلم تبق عليهم الدنيا وفاتتهم الآخرة فبقا في خسران الدارين. وقيل : المقصود عذاب الاستئصال الذي نزل بالمكذبين قبلهم. ثم قسم طوائف الأمم المكذبين فقال : ( ومنهم من يؤمن به ( أي بالقرآن أو بالرسول أي يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكنه يعاند ) ومنهم ( من يشك فيه لا يصدق به لا ظاهراً ولا باطناً ، ويمكن أن يقال : المراد به قسمتهم في الاستقبال أي ومنهم من سيؤمن به ومنهم من يبقى على الكفر فتكون الآية كالعذر في تبقيتهم وعدم استئصالهم ) وربك أعلم بالمفسدين ( فيجازيهم على حسب مراتبهم في التكذيب ويعلم طوياتهم هي يتوبون أو يصرفون. ثم بين اختصاص كل مكلف بأفعاله وبنتائج أعماله من الثواب والعقاب فقال : ( وان كذبوك فقل لي عملي ( أي جزاء عملي على الطاعة الإيمان وتبليغ الرسالة ) ولكم عملكم ( قال مقاتل والكلبي : هي منسوخة بآية القتال. والتحقيق أن آية القتال لا تدفع شيئاً من مدلولات هذه فلا نسخ والله أعلم. التأويل : ( قل من يرزقكم ( أي من ينزل من سماء النفس مطر الهواجس ويخرج من أرض النفس نبات الأفعال والأعمال ، وينزل من سماء القلب مطر أثار فيض الروح ويخرج من أرض النفس نبات الصفات البشرية والحيوانية. أو ينزل من سماء الروح مطر فيض الروح ويخرج من أرض القلب نبات الأوصاف الحميدة ، أو ينزل من سماء القدرة مطر تجلي الصفات والفيض الرباني ويخرج من أرض الروح المحبة والأخلاق الإلهية ، أو ينزل من سماء الذات مطر تجلي الصفات ويخرج من أرض الوجود نبات الفناء في الله وثمرات البقاء بالله ) أمن يملك السمع والأبصار ( فيكون سمعه الذي به يسمع ، وبصره الذي به يبصر. ) يخرج الحي من الميت ( النفس من القالب والقلب من الروح والروح من القلب وبالعكوس ) ومن يدبر ( أمر الإنسان بالتربية من التراب إلى أن يصل إلى رب الأرباب. فسيقولون هذه الأحوال كلها من الله فقل لمن بلغ نظره إلى هذه المراتب العلية وإنها عتبة باب التوحيد والمعرفة ) أفلا تتقون ( بالله من غيره لتدخلوا بيت الوحدة ) كذلك حقت كلمة ربك ( هكذا جرى القلم في الأزل على الذين خرجا عن قبول فيض النور حين رش على الخلق من نوره. ) وتفصيل الكتاب ( وتفصيل الجملة التي هي مكتوبة عنده في أم الكتاب وهو علمه القائم بذاته. ) وربك أعلم بالمفسدين ( الذين أفسدوا استعدادهم الفطري والله أعلم .(3/584)
" صفحة رقم 585 "
( يونس : ( 42 - 60 ) ومنهم من يستمعون . . . .
" ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحيي ويميت وإليه ترجعون يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون "
( القراآت )
أفأنت ( بتليين الهمزة ونحوه : الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف. ) ولكن الناس ( بالتخفيف والرفع : حمزة وعلي وخلف ) يحشرهم ( بالياء : حفص الباقون بالنون ) نرينك أو نتوفينك ( بالنون الخفيفة : رويس ) آلان ( بوزن ( عالان ) بحذف اللهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام حيث كان : أبو جعفر ونافع وزمعة وحمزة في الوقف ) ربي إنه ( بفتح الياءك أبو عمرو وأبو جعفر ونافع. ) فليفرحوا ( بياء الغيبة ) تجمعون ( بتاء الخطاب : ابن عامر ويزيد. وقرأ زيد على ضده ، وقرأ رويس كليهما على الخطاب. والباقون على الغيبة فيهما. الوقوف : ( إليك ( ط ) لا يعقلون ( ه ) إليك ( ط ) لا يبصرون ( ه ) يظلمون ( ه ) بينهم ( ط ) مهتدين ( ه ) يفعلون ( ه ) رسول ( ج ط ) لا يظلمون ( ه ) صادقين ( ه ) ما(3/585)
" صفحة رقم 586 "
شاء الله ( ط ) أجل ( ط ) ولا يستقدمون ( ه ) المجرمون ( ه ) آمنتم به ( ط ، ) تستعجلون ( ه ) الخلد ( ج ط للاستفهام مع أن القائل واحد ) تكسبون ( ه ) أحق هو ( ط ) بمعجزين ( ه ) لافتدت به ( ط ) العذاب ( ج ط للعطف على ) أسروا ( دون ) رأوا ( ) يظلمون ( ه ) والأرض ( ط ) لا يعلمون ( ه ) ترجعون ( ه ) للؤمنين ( ه ) فليفرحوا ( ط ) يجمعون ( ه ) وحلالاً ( ط ) تفترون ( ه ) القيامة ( ط ) لا يشكرون ( ه. التفسير : إن الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان خر وعظمت نفرته عنه صارت نفسه متوجهة إلى طلب مقابحه في كلامه معرضة عن جهات محاسنه فيه ، وكما أن الصمم في الأذن معنى ينافي حصول إدراك الصوت ، والعمى في العين أمر ينافي حصول إدراك الصورة ، فكذلك حصول هذا البغض الشديد يضاد وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه ، فبين الله سبحانه في أولئك الكفار من بلغت حاله في النفرة والعداوة إلى هذا الحد ) يستمعون إليك ( إذا قرأ القرآن وعلمت الشرائع ولكنهم لا يسمعون ولا يقبلون وينظرون إليك يعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يتبصرون ولا يصدقون. قال أهل المعاني : المستمع إلى القرآن كالمستمع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بخلاف النظر. فكان في المستمعين كثرة فجمع ليطابق اللفظ المعنى ووحد النظر حملاً على اللفظ إذ لم يكثروا كثرتهم. ثم قال : أتطمع أن تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم ، أو تقدر على هداية العمي ولا سيما إذا قرن بفقد البصر فقد البصيرة ، إنما يقدر على ردهم إلى حالة الكمال خالق القدر والقوى وحده. وهذا الحصر إنما يفهم من قوله : ( أفأنت (. والمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فإن الطبيب إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج أصلاً أعرض عنه ولم يستوحش من ذلك لأن التقصير من المزاج لا من الصنعة والحق. ثم أكد عدم قابليتهم في الفطرة مع إشارة إلى ما يلحقهم من الوعيد يوم القيامة بقوله : ( إن الله لا يظلم ( الآية. فسرها المعتزلة بأن المراد من نفي الظلم أنه ما ألجأ أحد إلى هذه القبائح والمنكرات ولكنهم باختيار أنفسهم أقدموا عليها. وأجاب الواحدي عنه بأنه إنما نفى الظلم عن نفسه لأنه يتصرف في ملك نفسه فلا اعتراض عليه. وإنما قال : ( ولكن الناس أنفسهم يظلمون ( لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب. والتحقيق أنه نفى الظلم عنه لأنه وقوع فريق القهر ضروري ، ونس الظلم إليه لخصوص وقوعهم في الطريق وفيه دقة. ثم ذكر وعيد الكفار فقال : ( ويوم يحشرهم ( أي واذكر يوم يحشرهم ) كأن لم يلبثوا ( في محل النصب على الحال أي مشبهين بمن لم يلبث ) إلا ساعة ( وقوله ( يتعارفون ( إما حال أخرى أو بيان لقوله : ( كأن لم يلبثوا ( لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد. ويجوز أن يكون قوله :(3/586)
" صفحة رقم 587 "
) ويوم يحشرهم ( متعلقاً ب ) يتعارفون ( والمراد باللبث. قيل : لبثهم في الدنيا وقيل في القبور استقلوا المدد الطوال إما لأنهم ضيعوا أعمارهم في اللدنيا فجعلوا وجودها كالعدم واستقصروها للدهش والحيرة ، أو لطول وقوفهم في الحشر ، أو لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا لذات الدنيا واستحقروها. وأما التعارف فقد قيل : يعرّف بعضهم بعضاً ما كانوا عليه من الخطإ والكفر وقيل : يعرف كل واحد أهل معرفته. والجمع بين ذلك وبين قوله : ( ولا يسأل حميم حميماً ) [ المعارج : 10 ] أن هذا تعارف توبيخ وتضليل يقول كل فريق لصاحبه أنت أضللتني يوم كذا ، أو أنهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة. وإنما حذف ( جميعاً ) في هذه الآية اكتفاء بما في الآية السابقة ) ويوم نحشرهم جميعاً نقول للذين أشركوا ( ) الأنعام : 122 ] ولأن الآية سيقت هناك لبيان حشر العابدين والمعبودين فأكد بقوله : ( جميعاً ( ليشمل الفريقين صريحاً والله أعلم. قوله : ( قد خسر ( استئناف فيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أخسرهم وفيه شهادة من الله على خسرانهم. وجوز في الكشاف أن يكون على إرادة القول أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك. ثم أكد خسرانهم بقوله : ( وما كانوا مهتدين ( أي في رعاية مصالح هذه التجارة لأنهم أعطوا الكثير الشريف الباقي وقنعوا بالقليل الخسيس الفاني كمن رأى زجاجة خسيسة فظنها جوهرة نفيسة فاشتراها بكل ماله ، فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله. ثم سلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( وإما نرينك ( وجوابه محذوف. وقوله : ( فإلينا مرجعهم ( جواب ) أو نتوفينك ( والمعنى وإما نرينك في أعدائك بعض الذي نعجهم في الدنيا فذاك ، أو نتوفينك قبل أن تدركه فنحن نريكهم في الآخرة لأن مرجع الكل إلينا. ولقد صدق الله وعده فقد أراه في هذه اللدار خزيهم وقهرهم بالقتل والأسر والاستعلاء عليهم والاستيلاء على ديارهم وأموالهم ، والذي سيريه في الآخرة أكثر وأدوم يدل عليه لفظ ( ثم ) لتبعيد الرتبة في قوله : ( ثم الله شهيد على ما يفعلون ( ولا يخفى نتيجة هذه الشهادة من السخط والعقاب ، ويحتمل أن يراد إنطاق جوارحهم يوم القيامة جعل ذلك بمنزلة شهادة الله. ثم بيّن أنه ما أهمل أمة من الأمم من رسول في قوت من الأوقات فقال : ( ولكل أمة رسول ( وزمان الفترة محمول على ضعف دعوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المتقدم ووقوع موجبات التخليط في شعره. ) فإذا جاء رسولهم ( فبلغ فكذبه قوم وصدقه آخرون ) قضى بينهم بالقسط ( أي حكم وفصل بالعدل فأنجى الرسول والمصدقون وعذب المكذبون فهذه الآية نظيرة قوله : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) [ الإسراء : 15 ] ويحتمل أن يقال : المراد ولكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول ينسبون إليه ويدعون به فكأنه تعالى يقول : أنا شهيد على(3/587)
" صفحة رقم 588 "
أعمالهم ومع ذلك فإني أحضر في موقف القيامة ، مع كل قوم رسولهم حتى يشهد عليهم بالكفر والإيمان. ) فإذا جاء رسولهم ( وشهد لهم أو عليهم ) قضى بينهم ( والمرد منه المبالغة في إظهار العدل والنصفة فتكون الآية كقوله : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ) [ النساء : 41 ] ثم ذكر شبهة أخرى من شبهات الكفرة ، وذلك أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كلما هددهم بنزول العذاب ومر زمان ولم يظهر ذلك العذاب كانوا ) يقولون متى هذا الوعد ( استبعاداً لنزوله وقدحاً في نبوته وهذا مما يؤكد القول الأوّل في الآية المتقدمة ، لأنه لا يجوز أن يقولوا متى هذا الوعد عند حضورهم في دار الآخرة لحصول اليقين والمعرفة حينئذٍ. وأيضاً قوله : ( إن كنتم صادقين ( لفظ الجمع موافق لقوله : ( ولكل أمة رسول ( ثم أمره أن يجيب بما يحسم مادة الشبهة وهو قوله : ( قل لا أملك لنفسي ضراً ( من مرض أو فقر ) ولا نفعاً ( من صحة أو غنى ) إلا ما شاء الله ( قال العلماء : إنه استثناء منقطع أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن فكيف أملك لكم الضر وجلب العذاب. ثم بين أن أحداً لا يموت إلا بالقضاء ، وأن لعذاب كل طائفة أمداً محدوداً لا يتجاوزه فلا وجه للاستعجال. ) فقال ولكل أمة أجل ( الآية. وقد مر تفسير الآية في أوائل الأعراف إلا أنه أدخل الفاء ههنا في الجزاء ، فإنه بنى الشرط على الاستئناف أو البيان بخلاف ما هنالك فإنه جعل الشرط مرتباً على قوله : ( ولكل أمة أجل ) [ الأعراف : 34 ] فلم يحسن الجمع بين الفاءين. ثم زيف رأيهم في استعجال العذاب مرة أخرى فقال : ( قل أرأيتم ( أي أخبروني ) إن أتاكم عذابه بياتاً ( أي في حين الغفلة والراحة. ) أو نهاراً ( حين الاشتغال بطلب المعاش كما مر في أول الأعراف ) ماذا يستعجل ( أي شيء يستعجل ) منه ( أي من العذاب ) المجرمون ( وإنما لم يقل ( ماذا يستعجلون منه ) دلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام ، لأن حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه وإن أبطأ مجيئه فضلاً عن أن يستعجله. و ( من ) للبيان أو للبتداء والمعنى أن العذاب كله مر المذاق موجب للنفار فأيّ شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال ؟ أو المراد التعجب كأنه قيل : أيّ شيء هائل شديد يستعجلون ؟ وقيل : الضمير في ( منه ) لله تعالى وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه. و ( ماذا ) الجملة كمفعول ) أرأيتم ( ويجوز أن يكون جواباً للشرط كقولك إن أتيتك ماذا تطعمني ، ثم تتعلق الجملة ب ) أرأيتم ( ويجوز أن يكون اعتراضاً وجواب الشرط ) ثم إذا وقع آمنتم به ( والمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان ، ودخول حرف الاستفهام على ( ثم ) كدخوله على الواو والفاء إلا أنه على إرادة القول أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب ) الآن ( آمنتم به ) وقد كنتم به تستعجلون ( على جهة التكذيب والإنكار(3/588)
" صفحة رقم 589 "
وقوله ( ثم قيل ( عطف على قيل المضمر قبل ) الآن ( والحاصل ان الذي تطلبونه ضرر محض عارٍ عن المنفعة ، والعاقل لا يطلب مثل ذلك. وإنما قلنا إنه ضرر محض لأنه إذا وقع العذاب فإما أن تؤمنوا وإيمان اليأس غير مقبول ، وإما أن لا تؤمنوا فيحصل عقيب ذلك عذاب آخر أشد وأدوم ويقال على سبيل الإهانة. ) ذوقوا عذاب الخلد ( فإن قلتم إلهنا أنت الغني عن الكل فكيف يليق برحمتك هذا الوعيد والتهديد ؟ أجبتم ) هل تجزون إلا بما كنتم تكمسبون ( فالجزاء مرتب على العمل ترتب المعلول على العلة كما يقوله الحكيم ، أو ترتب الأجر الواجب عند المعتزلة ، أو بحكم الوعد المحض عند أهل السنة. وتفسير الكسب مذكور في البقرة في قوله : ( لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ) [ الآية : 134 ]. ثم حكى عنهم أنهم بعد هذه البيانات استفهموا تارة أخرى عن تحقيق العذاب فقال : ( ويستنبئونك أحق هو ( وهو استخبار على جهة الاستهزاء والإنكار أي أحق ما تعدنا به من نزول العذاب في العاجل ؟ وهذا السؤال جهل محض لأنه تقدم ذكره مع الجواب مرة واحدة فلا وجه للإعادة ، ولأنه قد تبين بالبراهين القاطعة صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيلزم القطع بصحة كل ما يخبر عن وقوعه. وقيل : المراد أحق ما جئت به من القرآن والشرائع ؟ وقيل : أي ما تعدننا من البعث والقيامة ؟ فأمره الله تعالى أن يجيبهم بقوله : ( قل إي وربي ( ومعناه نعم ولكنه مستعمل مع القسم ألبتة. وفائدة هذا القسم في جوابهم أن يكون قد أبرز الكلام معهم على الوجه المعتاد بينهم استمالة لقلوبهم. ومن الظاهر أن من أخبر عن شيء وأكده بالقسم فقد أخرجه عن حد الهزل وأدخله في باب الجد. فقد يكون هذا القدر مقنعاً إلا لم يكن الخصم ألد. ثم أكد مضمون المقسم عليه بقوله ) وما أنتم بمعجزين ( فائتين العذاب. والغرض التنبيه على أن أحداً لا يدافع نفسه عما أراد الله وقضى. ثم زاد في التأكيد بقوله : ( ولو أن لكل نفس ( الآية. وقد مر مثله في ( آل عمران ) و ( المائدة ). وقوله : ( ظلمت ( صفة لنفس. أما قوله : ( وأسروا الندامة ( فقد قيل : الإسراء بمعنى الإظهار والهمزة للسلب حين عاينوا ما سلبهم قواهم فلم يطيقوا صراخاً ولا بكاء ، أو أخفوا الندامة من سفلتهم وأتباعهم حياء منهم ومخوفاً من توبيخهم. وهذا التزوير في أول ما يرون العذاب ، أما عند إحاطة النار بهم فلا يبقى هذا التماسك ، أو أراد بالإخفاء الإخلاص لأن من أخلص في الدعاء أسره ، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم لأنهم أتوا بذلك في غير وقته ) وقضى بيهم بالقسط ( قيل : أي بين المؤمنين والكافرين. وقيل : بين الرؤساء والأتباع ، وقيل : بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم. وقيل : بين الظالمين من الكفار والمظلومين منهم فيكون في(3/589)
" صفحة رقم 590 "
ذلك القضاء تخفيف من عذاب بعضهم وتثقيل لعذاب بعضهم وإن اشتراك كلهم في العذاب. ثم ذكر آيتين أن له جميع ما قرر بحكم المالكية والقدرة على الإحياء والإماتة والإبداء والإعادة. وقيل : في وجه النظم أنه لما ذكر احديث الافتداء بيّن أنه ليس للظالم شيء يفتدي به فإن كل الأشياء ملكه وملكه. وقيل : إنه لما أقسم على حقية ما جاء به النبي وكان دليلاً إقناعياً أراد أن يصححها بالبرهان النير فذكر أن كل ما في هذا العالم من نبات وحيوان وجسد وروح وظلمة ونور وعليوي وسفلي بسيط ومركب فهو ملكه ، فكلونه قادراً على جميع الممكنات يقدر على إيصال الرحمة إلى أوليائه والعذاب إلى أعدائه ، ولكنه منزهاً عن النقائص والآفات يكون بريئاً عن الخلف في الوعد والإيعاد. وفي تصدير الكلام بكلمة ( ألا ) تنبيه للغافلين وإيقاظ النائمين وتقريع للناظرين في الأسباب الظاهرة القائلين : البستان للأمير ، والدار للوزير ، والغلام لزيد والجارية لعمرو ، ولا يعلمون أن كلها عوارٍ وودائع. ولا بد يوماً أن ترد الودائع واعلم أن الطريق إلى إثبات نبوة الأنبياء بأمور أحدها : إظهار المعجزة على يده مطابقاً لدعواه ، وقد قرره الله سبحانه في هذه السورة على أحسن الوجوه حيث قال : ( وما كان هذا القرآن أن يفترى ( إلى تمام الآيتين. والثاني أن نعلم بعقولنا أن الإعتقاد الحق والعمل الصالح ما هو فكل من جاء ودعا الخلق إلى ذلك وادعى الرسالة وكان لنفسه قوّة تكميل الناقصين غلب على ظننا أنه النبي الحق ، فأشار سبحانه غلى هذا الطريق بقوله : قل ) يا أيها الناس ( الآية. فوصف القرآن بصفات أربع : الأولى كونه موعظة والمراد بها الزجر عما لا ينبغي كالطبيب ينهى المريض أوّلاً عما يضره. الثانية كونه شفاء لما في الصدور لحصول العقائد الحقة والأخلاق الحميدة فيها بدل أضدادها كالطبيب بعد الصحة بدل المرض والأخلاط المحمودة بدل الأخلاط الفاسدة بالمعالجات الصائبة والأدوية النافقة. الثالثة حصول الهدي بسببه وذلك أنه إذا زالت الملكات الرديئة التي طبيعتها الظلمة وصارت مرآة النفس مصقولة محاذية لعالم القدس انطبع فيها نقش الملكوت وتجلى لها قدس اللاهوت. والرابعة كونه رحمة للمؤمنين وذلك بأن تصير النفس البالغة إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية بحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصين في النور من جوهر الشمس على أجرامهم هذا العالم. وإنما خص المؤمنين بهذه الرحمة لأن كل روح لم يتوجه إلى خدمة أرواح الأنبياء المطهرين لم ينتفع بأنوارهم كما أن كل جرم لم يقع في مواجهة قرص الشمس لا يسضيء بنورها. والحاصل أن المواعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشيعة ، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة(3/590)
" صفحة رقم 591 "
والأخلاق الرديئة بتحصيل أضدادها وهي الطريقة ، والهدى عبارة عن ظهور نور الحق في قلوب الصدّيقين وهي الحقيقة ، والرحمة إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للباقين وهي النبوة. ولما أرشد سبحانه إلى الطري قالموصل إلى السعادات الباقية الروحانية ذكر أنها هي التي يجب أن يكمل الفرح بحصولها دون السعادات الفانية الجسمانية فقال : ( قل بفضل الله وبرحمته ( قال في الكشاف : أصل الكلام بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ) فبذلك فليفرحوا ( والتكرير للتقرير والتأكيد ، وإيجاب اخصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف أحد الفعلين لدلالة الآخرة عليه. والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح ، وجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فلعتنوا فبذلك فليفرحوا ، وأن يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي بمجيئها فليفرحوا. وعلى هذا يكون ) قل ( اعتراضاً. ومن قرأ بتاء الخطاب فمعناه على ما نقل عن زيد بن ثابت فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار ، ونسبت هذه القراءة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الأصل والقياس لأنه أدل على الأمر بالفرح وأشد تحريضاً به ، وإنما قلنا إنه الأًل لأن حكم الأمر في المخاطب والغائب واحد إلا أنه خفف أمر المخاطب بحذف اللام وبحذف حرف المضارعة لكثرة الاستعمال فاضطروا إلى همزة الوصل. ومن قرأ تجمعون بتاء الخطاب فإنه عمنى المخاطبين والغائبين جميعاً إلا أنه غلب العقلية الروحانية على النوازع النفسانية الجسادنية لأنه لا معنى لهذه اللذات الجسمانية إلا دفع الآلام ، والمعنى العدمي لا يستحق الفرح به ، وبتقدير أن تكون صفات ثبوتية إلا أن التضرر بالآمها أقوى من الانتفاع بلذاتها فلا نسبة للذة الوقاع - وهي أقوى اللذات - إلى ألم القولنج وسائر الآلام كل جزء من أجزاء البدن. وأيضاً اللذات الجسمانية معظمها البطن والفرج ، ومداخل الآلام كل جزء من أجزاء البدن. وأيضاً اللذات الجسمانية لا بقاء لها مثلاً إذا زال ألم الجوع زال الالتذاذ بالأكل ، وكل ما لا بقاء له لا يشتد فرح العاقل بحصوله ، ولو لم يحصل في لذة الأكل والوقاع إلا إتعاب الحواس والجوارع في مقدماتها ولواحقها لكفى ، ومن المعلوم أن الفرح الحاصل بحدوث الولد لا يعادل الحزن الواقع عند موته وفيه قال المعري : إن حزناً في ساعة الموت ضعا
ف سرور في ساعة الميلاد
فتبين بهذه الوجوه أن الفرح إنما يجب أن يكون بالروحانيات الباقيات لا(3/591)
" صفحة رقم 592 "
بالجسمانيات الزائلات ، أما المفسرون فقد قالوا : فضل الله الإسلام ، ورحمته ما وعد عليه. وعن أبيّ بن كعب أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تلا ) قل بفضل الله وبرحمته ( فقال : بكتاب الله والإسلام. ومثله ما روي عن أبي سعيد الخدري : فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله. ثم أشار إلى طريق ثالث في إثبات النبوة فقال : ( قل أرأيتم ( الآية. وتقريره أنكم تحكمون بحل بعض الأشياء وبحرمة بعضها فإن كان هذا لمجرد التشهي فذلك طريق باطل مهجور بالاتفاق لأدائه إلى اتنازع والتشاجر واختلاف الآراء وافتراق الأهواء ، وإن كان لأنه حكم الله فيكم فبم عرفتم ذكل فإن كان بقول رسول أرسله إليكم فقد اعترفتم بصحة النبوة وإلا كان اتفراء على الله. وفي الآية أيضاً إشارة إلى فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم من تحريم السوائب والبحائر وقولهم : ( هذه أنعام وحرث حجر ) [ الأنعام : 138 ] وغير ذلك. ) وما أنزل ( الجملة في محل الرفع بالابتداء وخبره ) الله أذن لكم ( و ) قل ( مكرر للتأكيد والرابط محذوف ، ومجموع المبتدأ والخبر متعلق ب ) أرأيتم ( والمعنى أخبروني الذى أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً الله أذن لكم في تحريمه وتحليله ) أم على الله تفترون ( وعن الزجاج أن ( ما ) في ) ما أنزل ( بمعنى الاستفهام منصوباً ب ) أنزل ( وأنه مع معموله مفعول ) أرأيتم ( معناه أخبرونيه. وعلى هذا يكون ) قل الله ( كلاماً مستأنفاً. ومعنى أنزل خلق وأنشأ كقوله : ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ( ) الزمر : 6 ] وذلك أن كل ما في الأض من زرع أو ضرع فإنه بسبب الماء النازل من السماء. قال في الكشاف : ويجوز أن تكون الهمزة في ) الله ( للأإنكار و ( أم ) منقطعة بمعنى ( بل ) أتفترون على الله تقريراً للافتراء. ثم قال : ( وما ظن الذين ( يعني أي شيء ظنهم في ذلك اليوم وما يصنع بهم فيه ؟ وهو في صورة الاستعلام ولكن المراد تعظيم وعيد من يفتري على الله حيث أبهم أمره وكفى به زاجراً للمفتي في الأحكام بغير علم فليتق الله وليصمت ) لذو فضل على الناس ( غذا أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بإرسال النبي وتعليم الشرائع ) ولكن أكثرهم لا يشكرون ( هذه النعم بجحد نبيه أو مخالفته. التأويل : ( أفأنت تسمع الصم ( صم آذان القلوب ) أفأنت تهدي العمى ( عمي أبصار البصائر. ) ويوم نحشرهم ( حشر العوام خروج أجسادهم من القبور إلى المحشر ، وحشر الخواص خروج أرواحهم الأخروية من قبور أجسادهم الدنيوية بالسير والسلوك ، وحشر والأخص خروجهم من قبول الأنانية الروحانية إلى هوية الربانية كما قال : ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن ) [ مريم : 85 ] كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار لأنه لا نسبة لمدة الدنيا إلى ما بين الأزل والأبد. ) يتعارفون بينهم ( يعرفون تفاوت مقامات كل صنف من(3/592)
" صفحة رقم 593 "
هؤلاء ) وإما نرينك بعض الذي نعدهم ( بشرط الإيمان من نعيم الجنان ولقاء الرحمن ) أو نتوفينك ( فنبلغك أقصى المرات ومقامك المحمود ) فإلينا مرجعهم ( رجوعاً اضطرارياً لا اختيارياً ) ثم الله شهيد على ما يفعلون ( من خسارة الدارين ) ولكل أمة رسول ( في الظاهر من الأنبياء وفي الباطن من إلها الحق. ) لكل أمة أجل ( في استكمال السعادة والشقاوة ) بياتاً ( أي في الأزل ) أو نهاراً ( أي يظهر الآن ما قدّر لكم في الأزل. ) قل أي وربي إنه لحق ( أي أقسم بربك الذي يريك أن وقوع الأمور الأخروية حق لأنك عبرت على الجنة والنار ليلة المعراج ظلمت بإفساد الالستعدادات. ) ألا إن لله ما في سموات ( الأرواح وأرض القلوب والنفوس ) ألا إن وعد الله ( لأهل السعادة ولأهل الشقاوة في الأزل ) حق هو يحيي ( قلوب بعضهم بالمعرفة ) ويميت ( قلوب آخرين بالجهل ، أو يحيي بالنور ويميت بالظلمة ، أو يحيي بصفة الجمال ويميت بصفة الجلال ) يا أيها الناس ( يأ أهل النسيان ) قد جاءكم موعظة ( هي خطاب ) ألست بربكم ( ) الأعراف : 172 ] وهو داء العشق وشفاء من ذلك الداء وهو توفيق إجابة ) بلى ( ) لما في الصدور ( وهو القلب فإنها درة صدق الصدر وهدى عناية خاص ةإذ الدعوة عامة والهداية خاصة. ورحمة اتصال إمداد الفيض إلى أن يبلغ غاية الكمال ويفوز بالوصول والوصال ) قل بفضل الله ( وهو إسماع الخطاب ورحمته وهو الإبقاء على مدلول الخطاب ) فليفرحوا هو خيرا مما ( يجمعه أهل الدنيا في دنياهم ) ما أنزل الله لكم من رزق ( القلوب والأرواح فضلاً عن النفوس والأشباح من الواردات والشواهد ) فجعلتم منه حراماً ( على أنفسكم ) وحلالاً ( على غيركم أي حدثت أنفسكم بأن تحصيل هذه السعادات ونيل تلك الكرامات ليس من شأننا وإنما هو من شأن الأنبياء وخواص الأولياء ) قل آلله أذن لكم ( أن تعرضوا عن هذه المقالمات وتحيلوها إلى غيركم وتركنوا إلى الدنيا وزخارفها ) أم على الله تفترون ( بأن الدعوة اختص بهم دوننا ) إن الله لذو فضل على الناس ( بتسوية الاستعداد الفطري. ( يونس : ( 61 - 70 ) وما تكون في . . . .
" وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم ألا(3/593)
" صفحة رقم 594 "
إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون "
( القراآت )
شأن ( بغير همز حيث كان : أبو عمرو غير شجاع والأعشى ويزيد والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف ) يعزب ( بالكسر حيث كان : علي. الباقون بالضم. ) ولا أصغر ( ) ولا أكبر ( بالرفع فيهما : حمزة وخلف وسهل ويعقوب والمفضل. الآخرون بالنصب. الوقوف : ( تفيضون فيه ( ط ) مبين ( ه ) يحزنون ( ه ج لأن ) الذين ( يصلح صفة ) لأولياء ( ويصلح نصباً أو رفعاً على المدح فيوقف على ) يتقون ( أو مبتدأ خبره ) لهم البشرى ( فلا يوقف على ) يتقون ( ) وفي الآخرة ( ط ) لكلمات الله ( ط ) العظيمن ( ه ط لأنه لو وصل لأوهم أن الضمير عائد إلى ) أولياء ( وقول الأولياء لا يحزن الرسول. ) قولهم ( لئلا يوهم أن قوله : ( إن العزة ( مقول الكفار. ) جميعاً ( ط ) العليم ( ه ) الأرض ( ط ) شركاء ( ط ) يخرصون ( ه ) مبصراً ( ط ) يسمعون ( ه ) سبحانه ( ط ) الغني ( ط ) وما في الأرض ( ط ) بهذا ( ط ) ما لا تعلمون ( ه ) لا يفلحون ( ه ط ، ) يكفرون (. التفسير : لما بين فساد طريقة الكفار في عقائدهم وأحكامهم بيّن كونه سبحانه عالماً بعمل كل أحد وبما في قلبه من الدواعي والصوارف والرياء والإخلاص وغير ذلك فقال : ( وما تكون ( يا محمد ) في شأن ( أي أمر من الأمور. وأصله الهمز بمعنى القصد من شأنت شأنه إذا قصدت قصده. قال ابن عباس : أي في شأن من أعمال البر. وقال الحسن. : في شأن الدنيا وحوائجها و ( ما ) في ) وما تكون ( ) وما تتلو ( نافية والضمير في ) منه ( إما لله عز وجل أي نازل من عنده ، وإما للشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شؤون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بل هو معظم شأنه ولهذا أفرد بالذكر كقوله : ( وملائكته وجبريل وميكال ) [ البقرة : 98 ] وإما للقرآن والإضمار قبل الذكر تفخيم له كأنه قيل : وما تتلو من التنزيل من قرآن لأن كل جزء منه قرآن. ثم عمم الخطاب فقال : ( ولا تعملون ( أيها المكلفون ) من(3/594)
" صفحة رقم 595 "
عمل ( أيّ عمل كان ) إلا كنا عليكم شهوداً ( شاهدين رقباء والجمع للتعظيم أو لأن المراد الملائكة الموكلون ) إذ تفيضون فيه ( الإفاضة الشروع في العمل على جهة الانصباب والاندفاع ومنه قوله : ( فإذا أفضتم من عرفات ) [ البقرة : 198 ] قيل : شهادة الله علمه فيلزم أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وجودها. والجواب أن الشهادة علم خاص ولا يلزم منه امتناع تقدم العلم المطلق على الشيء كما لو أخبرنا الصادق أن زيداً يفعل كذا غداً فنكون عالمين بذلك لا شاهدين. ثم زاد في التعميم فقال : ( وما يعزب عن ربك ( أي لا يبعد ولا يغيب ومنه كلأ عازب أي بعيد ، والرجل العزب لبعده عن الأهل. ومعنى ) مثقال ذرة ( قد مر في قوله : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة ) [ النساء : 140 ] وذلك في سورة النساء. والمقصود أنه لا يغيب عن علمه شيء أصلاً وإن كان في غاية الحقارة. وإنما قال ههنا ) في الأرض ولا في السماء ( خلاف ما في سورة سبأ وهو المعهود في القرآن لأن الكلام سيق لشاهدته على شؤون أهل الأرض فناسب أن يقدم ذكر ما في الأرض ، هذا بعد تسليم أن الواو تفيد الترتيب. ثم بالغ في تعميم علمه فقال : ( ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ( من قرأ بالنصب على نفس الجنس أو بالرفع على الابتداء ليكون كلاماً برأسه فلا إشكال ، وأما من جعله منصوباً معطوفاً على لفظ مثقال لأنه في موضع الجر بالفتح لامتناع الصرف ، أو جعله مرفوعاً معطوفاً على محل ) من مثقال ( لأنه فاعل ) يعزب ( فأورد عليه الإشكال وهو أنه يصير تقدير الآية لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب ، ويزلم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله وإنه محال. ويمكن أن يجاب عنه بأن الأشياء المخلوقة قسمان : قسم أوجه الله تعالى ابتداء من غير واسطة كخلق الملائكة والسموات والأرض. وقسم آخر أوجه بواسطة القسم الأول من حوادث عالم الكون والفساد ، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسة العلية والمعلولية عن مرتبة واجب الوجود ، فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده شيء في الأرض ولا في السماء إلا هو في كتاب مبين. وهو كتاب أثبت فيه صور تلك المعلومات ، والغرض الرد على من يزعم أنه تعالى غير عالم بالجزيئات. أو نقول : إن الاستثناء منقطع بمعنى لكن هو في كتاب مبين. وذكر أبو علي الجرجاني صاحب النظم إن ( إلا ) بمعنى الواو على أن الكلام قد تم عند قوله : ( ولا أكبر ( ثم وقع الابتداء بكلام آخر فقال : إلا في كتاب ( أي وهو أيضاً في كتاب ) مبين ( والعرب تضع ( إلا ) موضع واو النسق كثيراً ومنه قوله : ( إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ) [ النمل : 11 ] يعني ومن ظلم. وقوله : ( لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا ( يعني والذين ظلموا .(3/595)
" صفحة رقم 596 "
ثم إنه لما بين إحاطته بجميع الأشياء وكان في ذلك تقوية قلوب المطيعين وكسر قلوب المذنبين أتبعها تفصيل حال كل فريق فقال : ( ألا إن أولياء الله ( الآية. والتركيب يدل على القرب فكأنهم قربوا منه تعالى لاستغراقهم في نور معرفته وجماله وجلاله. قال أبو بكر الأصم : هم الذين تولى الله هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبوديته والدعوة إليه. وقال المتكلمون : ولي الله من يكن آتياً بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل ، ويكون آتياً بالأعمال الصالحة الواردة في الشريعة وعنو بذلك قوله تعالى في وصفهم ) الذين آمنوا ( وهو إشارة إلى كمال حال القوة النظرية. ) وكانوا يتقون ( وهو إشارة إلى كمال حال القوة العملية. وههنا مقام آخر وهو أن يحمل الإيمان على مجموع الإعتقاد والعمل ويكون الولي متقياً في كل الأحوال ، أمافي موقف العلم فبأن يقدس ذاته عن أن يكون مقصوراً على ما عرفه أو يكون كما وصفه ، وأما في مقام العمل فأن يرى عبوديته وعبادته قاصرة عما يليق بكبريائه وجلاله فيكون أبداً في الخوف والدهشة. وأما نفي الخوف والحزن عنهم فقد مر تفسيره في أوائل سورة البقرة : وعن سعيد بن جبير أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سئل من أولياء الله ؟ فقال : هم الذين يذكر الله برؤيتهم. يعني أن مشاهدتهم تذكر أمر الآخرة لما فيهم من آثار الخشوع والإخبات والسكينة : وعن عمر سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله. قالوا : يا رسول الله أخبرنا من هم وما إعمالهم فلعلنا نحبهم. قال : هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ، ثم قرأ الآية ). يحكى أن إبراهيم الخواص كان في البادية ومعه واحد يصحبه ، فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له فجلس في موضعه وجاءه السباع ووقفوا بالقرب منه والمريد تسلق على رأس شجرة خوفاً منها والشيخ كان فارغاً من تلك السباع ، فلما أصبح زالت تلك الحالة. ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على بدنه فأظهر الجزع من تلك البعوضة فقال المريد : كيف تليق هذه الحالة بما قبلها ؟ فقال الشيخ : تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي ، فلما غاب ذلك الوارد فإنا أضعف خلق الله. ثم أخبر الله سبحانه عنهم بأن ) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ( فقيل : بشراهم في الدنيا ما(3/596)
" صفحة رقم 597 "
بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه ) وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات ) [ البقرة : 25 ] ( يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات ) [ التوبة : 21 ] وقيل : إنها عبارة عن محبة الناس لهم وعن ذكرهم إياهم بالثناء الحسن. عن أبي ذر رضي الله عنه قلت : يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس. قال : تلك عاجل بشرى المؤمن. والدليل العقلي عليه أن الكمال محبوب لذاته فكل من اتصف بصفة الكمال كان محبوباً لكل أحد إذا أنصفه ولم يحسده ، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب في معرفة الله معرضاً عما سواه. ونور الله مخدوم بالذات ففي أي قلب حصل كان مخدوماً بالطبع لما سوى الله. وقيل : هي الرؤيا الصالحة. وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ) الرؤيا الصادقة جاء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ( وسبب تخصيص هذا العدد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استنبئ بعد أربعين سنة إلى كمال عمره - وهو ثلاث وستون سنة - وكان يأتيه الوحي أوّلاً بطريقة المنام ستة أشهر. ونسبة هذه المدة إلى ثلاث وعشرين سنة التي هي جميع مدة الوحي نسبة الواحد إلى ستة وأربعين. وأما أن الرؤيا الصادقة توبج لبشارة فلأنها دليل صفاء القلب واتصال النفس إلى عالم القدس والاطلاع على بعض ما هنالك. وعن عطاء : البشرى في الدنيا هي البشارة عند الموت ) تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة ) [ فصلت : 30 ] وأما البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرام وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرأون منها إلى آخر أحوالهم في الجنة ) لا تبديل لكلمات الله ( يدل على أنها قابلة للبديل ، وكل ما يقبل العدم امتنع أن يكون قديماً ومحل المنع ظاهر فإن نفي شيء عن شيء لا يلزم منه إمكانه له كقول الموحد : لا شريك لله. ثم سلى رسول عن صنيع الفريق المكذبين فقال : ( ولا يحزنك ( أو نقول : إنه كما أزال الحزن عنه في الآخرة بقوله : ( ألا إن أولياء الله ( أزال الحزن عنه في الدنيا بقوله : ( ولا يحزنك قولهم ( أي تكذيبهم لك وتهديهم بالخدم(3/597)
" صفحة رقم 598 "
والأموال وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك ، وبالجملة كل ما يتكلمون به في شأنك من المطاعن والقوادح. ثم استأنف قوله : ( إن العزة لله ( كأنه قيل : ما لي لا أحزن ؟ فقيل : لأن العزة لله. ) جميعاً ( إن الغلبة والقهر له ولحزبه ) كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) [ المجادلة : 21 ] وقرئ ) أن ( بالفتح لا على أنه بدل فإن ذلك يؤدي إلى أن القوم كانوا يقولون إن العزة لله جميعاً والرسول كان يحزنه ذلك وهذا كفر ، بل لأن العزة على صريح التعليل ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واثقالً بوعد الله تعالى في جميع الأحوال وإن كان قد يقع في بعض الحروب والوقائع انكسار وهزيمة فإن الأمور بخواتيمها. ثم أكد الوعد بقوله : ( هو السيمع العليم ( يسمع ما يقولون ويعلم ما يدبرون فيكفيك شرهم. ثم زاد في التأكيد مع إشارة إلى فساد عقيدة المشركين فقال : ( ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض ( فخصص ذوي العقول إما للتغليب وإما لأن الآية سيقت لبيان فساد عقائد أهل الشرك ، فذكر أن العقلاء المميزين - وهم الملائكة والثقلان - كلهم عبيد له ولا يصلح أحد منهم لأن يكون شريكاً له فما وراءهم ممن لا يسمع ولا يعقل كالأصنام أولى بأن لا يكون نداً له. ثم أكد هذا المعنى بقوله : ( وما يتبع ( ) ما ( نافية ومفعول ) يدعون ( محذوف أي ليس يتبع ) الذين يدعون من دون الله شركاء ( شركاء في الحقيقة إنما هي أسماء لا مسميات لها لأن شركة الله في الربوبية محال. وإنما حذف أحد المكررين للدلالة ، فالأول مفعول ) يدعون ( والثاني مفعول ) يتبع ( ويجوز أن تكون ) ما ( استفهامية بمعنى أي شيء يتبعون. و ) شركاء ( على هذا نصف ب ) يدعون ( ولا حاجة إلى إضمار. ويجوز أن تكون ) ما ( موصولة معطوفة على ) من ( كأنه قيل : ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي وله شركاؤهم. ثم زاد في التأكيد فقال : ( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ( وقد مر مثله في سورة الأنعام. ثم ذكر طرفاً من آثار قدرته مع إشارة إلى بعض نعمه فقال : ( هو الذين جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ( طلباً للراحة ) والنهار مبصراً ( ذا إبصار باعتبار صاحبه أي جعله مضيئاً لتهتدوا به في حوائجكم وهذان طرفان من منافع الليل والنهار ) إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ( سماع تأمل وتدبر وقبول. ثم حكى نوعاً آخر من أباطيلهم فقال : ( قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه ( وقد مر في ) البقرة (. ولما نزه نفسه عن اتخاذ الولد برهن على ذلك بقوله : ( هو الغني ( وتقريره أن الغنى التام يوجب امتناع كونه ذا أجزاء ، وحصول الولد لا يتصور إلا بعد انفصال جزء منه يكون كالبذر بالنسبة إلى النبات ، وأيضاً إنما يحتاج إلى الولد وإلى توليد المثل الذي يقوم(3/598)
" صفحة رقم 599 "
مقامه من يكون بصدد الانقضاء والانقراض فالأزلي القديم لا يفتقر إلى الولد ولا يصح له مثل. وأيضاً الغني لا يفتقر إلى الشهوة ولا إلى إعانة الولد ، ولو صح أن يتولد منه مثله لصح أن يكون هو أيضاً متولداً من مثله ولا يشكل هذا بالولد الأول من الأشخاص الحيوانية فإن المدعي هو الصحة لا الوقوع. ثم بالغ في البرهان فقال : ( له ما في السموات وما في الأرض ( وإذا كان الكل ملكه وعبيده فلا يكون شيء منها ولداً له لأن الأب يساوي الابن في الطبيعة بخلاف المالك. ثم زيف دعواهم الفاسدة فقال : ( إن عندكم من سلطان بهذا ( أي ما عندكم من حجة بهذا القول. قال في الكشاف : والباء حقها أن تتعلق بقوله : ( إن عندكم ( على أن يجعل القول مكاناً للسلطان كقولك : ما عندكم بأرضكم موز. كأنه قيل : إن عندكم فميا تقولون سلطان. أقول : كأنه نظر إلى أن استعمال الباء بمعنى ) في ( أكثر منه بمعنى ) على (. ثم وبخهم على القول بلا دليل ومعرفة فقال : ( أتقولون على الله ما لا تعلمون (. ثم أوعدهم على افترائهم فقال : ( قل أن الذين يفترون ( الآية. ثم بين أن ذلك المفتري إن فاز بشيء من المطالب العاجلة والمآرب الخسيسة من رياسة ظاهرة وغرض زائل فذلك ) متاع قليل ( في الدنيا. ثم لا بد من الموت والرجوع إلى حكم الله ثم حصول الشقاء المؤبد والعذاب الأليم أعاذنا الله منه. التأويل : ( وما تكون في شأن ( من النبوة ) وما تتلو ( من شأن النبوة ) من قرآن ( ) ولا تعملون ( يا أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) من عمل ( من ال " مال من قبول القرن ورده من مثقال ذرة مما أظهر من حركة في أ ) ض البشرية بعمل من أعمال الخير والشر. ) ولا في السماء ( أي في سماء القلوب بالنيات الصالحة والفاسدة ) ولا أصغر ( من الحركة وهو القصد دون الفعل ) ولا أكبر ( من النية وهو العمل ) ألا إن أولياء الله ( الذين هم أعداء النفوس ) لا خوف عليهم ( من تمني النظر بنفوسهم ) ولا هم يحزنون ( على ما فاتهم من شهوات النفوس للعداوة القائمة بينهم ) لهم البشرى في الحياة الدنيا ( بالوقائع والمبشرات ) وفي الآخرة ( بكشف القناع عن جمال العزة. ) لاتبديل لكلمات الله ( لأحكامه الأزلية حيث قال للولي كن ولياً وللعدوّ كن عدواً ) ولا يحزنك ( يا رسول القلب قول مشركي النفوس في تزيين شهوات الدنيا ولذاتها في نظرك ) إن العزة لله جميعاً ( يعز من يشاء في الدنيا وفي الآخرة جميعاً فلا يمنعه نعيم الدنيا عن نعيم الآخرة بل ربما يعينه على الآخرة كما جاء في الحديث الرباني ) وإن من عبادي من لا يصلحه الا الغنى فإن أفقرته يفسده ذلك ( ) ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض ( أي القلوب السماوية والنفوس الأرضية ) إن يتبعون إلا الظن ( أي يظنون أنهم يتبعون شركاء الدنيا والهوى باختيارهم لا باختيارنا(3/599)
" صفحة رقم 600 "
( هو الذي جعل لكم ) ليل البشرية لتستريحوا فيه من تعب المجاهدات ، وتزول عنكم الملالة والكلالة ونهار الروحانية ذا ضياء وبصيرة يبصر بها مصالح السلوك والترقي في المقامات ) لقوم يسمعون ( حقائق القرىن بسمع القلوب الواعية. ثم أخبر عن الشبهات التي تقع في أثناء السلوك قالوا أي مشركو النفوس عند تجلي الروح بالخلافة في صفة الربوبية معترفاً بتجلي صفة إبداع الحق ومبدعة الروح مع كمال قربه واختصاصه بالحق عند بقاء تصرفات الخيال حتى تثبت الأبوة والبنوة بين الله وبين العبد ، إذ البنوة أخص التعلقات بالوالد. وهذا الكشف والابتداء هو مبتدأ ضلالة اليهود والنصارى ) له ما في السموات ( الروحانية من الكشوف والأحوال ) وما في الأرض ( البشرية من الوهم والخيال وما ينشأ من الشبهات والآفات ) إن الذين يفترون ( هم النفوس الأمارة بالسوء ) لا يفلحون ( لا يظفرون بكشف الحقائق ) ثم نذيقهم لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فأحسوا بالألم والله أعلم. ( يونس : ( 71 - 92 ) واتل عليهم نبأ . . . .
" واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم(3/600)
" صفحة رقم 601 "
قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون "
( القراآت )
وشركاؤكم ( بالرفع : يعقوب ) إن أجري ( بفتح الياء حيث كان : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص ) ويكون لكما ( بياء الغيبة : حماد ويزيد وزيد. الباقون بتاء التأنيث ) آلسحر ( بالمد : يزيد وأبو عمرو ) أن تبويا ( بالياء : الخراز وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة. الآخرون بالهمز. ) ليضلوا ( بضم الياء : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل ) ولا تتبعان ( بتخفيف النون : ابن عامر غير الحلواني عن هشام. تتبعان ( خفيفة التاء والنون : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ، وفي كلتا القراءتين خففت النون ثم كسرت لالتقاء الساكنين تشبيهاً بنون التثينة. الباقون والحلواني عن هشام ) تتبعان ( بتشديدها في الحالين ) منت أنه ( بكسر الهمزة على الاستئناف بدلاً من ) آمنت ( : حمزة وعلي وخلف. الآخرون بالفتح. ) ننجيك ( من الإنجاء : سهل ويعقوب وقتيبة. والآخرون بالتشديد. الوقوف : ( نبأ نوح ( لئلا يوهم أن ( إذ ) ظرف لقوله : ( اتل ( بل التقدير : واذكر إذ قال. ) ولا تنظرون ( ه ) من أجر ( ط ) على الله ( ج لأن التقدير وقد أمرت ) من المسلمين ( ه ) بآياتنا ( ج للفاء ولأن أمر النظر للعبرة يقتضي التثبيت للتدبر ) المنذرين ( ه ) من قبل ( ط ) المعتدين ( ه ) مجرمين ( ه ) مبين ( ه ) لما جاءكم ( ط بناء على أن التقدير أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر والاستفهام في قوله : ( أسحر ( يستحق الابتداء وسيجيء له مزيد بيان ) هذا ( ط للفصل بين الأخبار والاستخبار ) الساحرون ( ه ) في الأرض ( ط ) بمؤمنين ( ه ) عليم ( ه ) ملقون ( ه ) ما جئتم به ( ط لمن قرأ ) آلسحر ( مستفهماً ) السحر ( ط ) سيبطله ( ط ) المفسدين ( ه ) المجرمين ( ه ) أن يفتنهم ( ط ) في الأرض ( ج لاتصال الكلام ) المسرفين ( ه ) مسلمين ( ه ) توكلنا ( ج للعدول مع اتحاد القائل ) الظالمين ( ه لا للعطف. ) الكافرين ( ه ج ) وأقيموا الصلاة ( ط لأن قوله(3/601)
" صفحة رقم 602 "
) وبشر ( خطاب لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإن أريد به موسى فلا بد من العدول ) المؤمنين ( ه ) الدنيا ( لا لتعلق قوله : ( ليضلوا ( بقوله : ( آتيت ( و ) وربنا ( تكرار للأول لأجل التضرع. ) عن سبيلك ( ج لابتداء النداء مع اتحاد القائل ) الأليم ( ه ) لا يعلمون ( ه ) وعدواً ( ط ) الغرق ( لا لأن قال جواب ( إذا ) ) المسلمين ( ه ) المفسدين ( ه ) آية ( ط ) لغافلون ( ه. التفسير : لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات والجواب عن الشبهات شرع في قصص الأنبياء المتقدمين ، لأن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب أقرب إلى انشراح الصدور ودفع الملال مع أن في ذكرها تسلية للرسول وعبرة للمعتبر إلى غير ذلك من الفوائد التي سبق ذكرها في ( الأعراف ). ومعنى كبر ثقل وشق كقوله : ( وإنها الكبيرة ) [ البقرة : 45 ] وفي مقامي وجوه منها : أنه زيادة كقولك : فعلت كذا لمكان فلان أي لأجله ، وكقوله تعالى : ( ولمن خاف مقام ربه ) [ الرحمن : 46 ] أي ربه ومثله قولهم : فلان ثقيل الظل. ومنها أن يراد به المكث أي شق عليكم مكثي بين أظهركم مدداً طوالاً ألف سنة إلا خمسين عاماً ، ولا شك أن من ألف طريقة ويدعى إلى خلافها ولا سيما إذا تكرر الدعاء كان ذلك موجباً للتنفر والثقل ، وخاصة غذا كانت تلك الطريقة مقتضاة النفس والطبيعة الداعيتين إلى اللذات العاجلة. ومنها أن يكون المقام بمعنى القيام لأنهم كانوا يقومون على أرجلهم في الوعظ والتذكير ليكون مكانهم بيناً وكلامهم مسموعاً كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود. وجواب الشرط إما قوله : ( فعلى الله توكلت ( أي غن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي وأنا لا أقابل ذلك الشر بالتوكل على الله فإن ذلك هجيراي قديماً وحديثاً وإما قوله : ( فاجمعوا ( وقوله : ( فعلى الله توكلت ( اعتراض كقولك : إن كنت أنكرت عليّ شيئاً فالله حسبي فاعمل ما تريد. ولا يحسن أن يقال : إن الفاء الثانية عاطفة للاختلاف طلباً وخبراً ، ومعنى ) فإجمعوا أمركم ( اعزموا عليه من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه قاله الفراء. وقال أبو الهيثم : أجمع أمره أي جعله جميعاً بعدما كان متفرقاً وتفرقه أنه يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا ، فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه أي جعله جميعاً. فهذا هو الأصل في الإجماع ثم صار بمعنى العزم حتى وصل ب ( على ) فقيل : أجمعت على الأمر أي عزمت عليه والفصيح أجمعت الأمر ، والمراد بالأمر وجوه مكرهم وكيدهم. وانتصب ) شركاءكم ( على المفعول معه أي مع شركائكم. ومن قرأ بالرفع جعله عطفاً على الضمير المتصل ، وإنما يحسن ذلك من غير تأكيد بالمنفصل للفصل. والمراد بالشركاء إما من هم على مثل قوهم ودينهم ، وإما الأصنام. وحسن إسناد الإجماع إليهم على وجه التهكم(3/602)
" صفحة رقم 603 "
كقوله : ( قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون ) [ الأعراف : 195 ] واعمل أنه عليه السلام قال في أول الأمر ) فعلى الله توكلت ( ليدل على أنه واثق بوعد الله جازم بأن تهديدهم إياه بالقتل لا يضره ، ثم أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه فقال : ( فأجمعوا أمركم ( كأنه قال : حصلوا كل ما تقدرون عليه من الأسباب المؤدية إلى مطلوبكم غير متقصرين على ذلك بل ضامين إلى أنفسكم شركاءكم الذي تزعمون أن حالكم يقوى بمكانهم. ثم ضم إلى ذلك قيداً آخر فقال : ( ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ( قال أبو الهيثم : أي مبهماً من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم أي التبس. وقال الليث : لقي غمة من أمره إذا لم يهتد له. وقال الزجاج : أي ليكن أمركم الذي أجمعتموه ظاهراً منكشفاً أي تجاهرونني بالإهلاك. ويحتمل أن يراد بهذا الأمر العيش والحال أي أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة أي غماً وهماً والغم والغمة كالكرب والكربة. ثم زاد قيداً آخر فقال : ( ثم اقضوا إليّ ( ذكل الأمر الذي تريدون بي أي أدوا إليّ قطعه واحكموا بصحته وإمضائه. وعن القفال إن فيه تضميناً والمعنى ألقوا إليّ ما استقر عليه رأيكم محكماً مفروغاً منه. ثم ختم الكلام بقوله : ( ولا تنظرون ( أي عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير إهمال ، ومعلوم أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عمن بلغ في التوكل الغاية القصوى. ثم بين أن كل ما أتى به فإن ذلك فارغ من الطمع الدنيوي والغرض الخسيس فقال : ( فإن توليتم ( أعرضتم عن نصحي وتذكيري ) فما سألتكم من أجر ( فما كان عندي ما ينفركم عني وتتهمونني لأجله من طمع أو غرض عاجل ) إن أجي ( ليس أجري ) إلا على الله ( أي ما نصحتكم إلا لوجهه ولا يثيبني إلا هو. وفي الآية نكتة كأنه أراد أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه لا بإيصال الشر وذلك قوله : ( فعلى الله توكلت ( إلى آخره. ولا بانقطاع الخير منهم وذكل قوله : ( فإن توليتم ( الآية. ) وأمرت أن أكون من المسلمين ( أي سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوه فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام ، أو مأمور بالاستسلام لكل ما ألقى من قبل هذه الدعوة. ) فكذبوه ( بقوا على تكذيبهم إلى آخر المدة المتطاولة. ) فنجيناه ومن معه في الفلك ( قد ذكرنا في ( الأعراف ) الفرق بين هذه العبارة وبين ما هنالك ) وجعلناهم خلائف ( يخلفون الهالكين بالطوفان ) فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ( تعظيم لشأن إهلاكهم وتحذير لغيرهم وتسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ثم بعثنا من بعده ( من بعد نوح ) رسلاً ( كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب ) فجاؤوهم بالبينات ( بالحجج الواضحات والمعجزات الباهرات ) فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ( الآية وقد مر تفسيرها في أواسط الأعراف إلا أنه زيد ههنا لفظة ( به ) فقيل : لتناسب ما قبله وهو ) كذبوا(3/603)
" صفحة رقم 604 "
بآياتنا ( وكذلك في ( الأعراف ) راعى المناسبة لأن ما قبله ) ولكن كذبوا ) [ الآية : 96 ] بغير الباء ) ثم بعثنا من بعدهم ( بعد الرسل أو الأمم ) بآياتنا ( يعني الآيات التسع ) فاستكبروا ( عن قبولها ) وكانوا قوماً مجرمين ( كفاراً ذوي ثام ولذلك اجترأوا على رد الآيات. أما قوله : ( أسحر هذا ( فليس بمقول لقوله : ( أتقولون ( لأنهم قطعوا في قوله : ( إن هذا لسحر مبين ( بأنه سحر ، وما استفهموا ولكن الوجه فيه أن يقال : إن القول ههنا بمعنى الطعن والعيب كالذكر في قوله : ( سمعنا فتى يذكرهم ) [ الأنبيا : 60 ] ومنه قولهم : فلان يخاف القالة أي مطاعن الناس فكأنه قال : أتعيبون الحق وتطعنون فيه ؟ ثم أنكر عليهم قولهم فقال : ( أسحر هذا ( أو يقال : مفعول تقولون محذوف وهو قولهم ) إن هذا لسحر مبين ( أو يقال : جملة قوله ) أسحر هذا ( ) ولا يفلح الساحرون ( حكاية لكلامهم كأنهم قالوا منكرين لما جاءا به أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ولا يفلح السحرة ، لأن حاصل صنيعهم تخييل وتمويه ) قالوا أجئتنا لتفلتنا ( التركيب يدل على الالتواء ومنه الفتل والالتفات ( افتعال ) من اللفت وهو الصرف واللي ) وتكون لكما الكبرياء في الأرض ( أي الملك والعز في أرض مصر. قال الزجاج : سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا. وأيضاً فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا اعترف القوم بصدقه صارت مقاليد أمر أمته إليه وصار أكبر القوم. وقيل : لأن الملوك موصوفون بالكبر والحاصل أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين : التمسك بالتقليد وهو عبادة آبائهم الأصنام ، والحرص في طلب الدنيا والجد في بقاء الرياسة. ويجوز أن يقصدوا ذمهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا. ثم صرحوا بالتكذيب قائلين ) وما نحن لكما بمؤمنين ( ثم حاولوا المعارضة وقد مرت تلك القصة في ( الأعراف ). أما قوله : ( ما جئتم به ( فمعناه الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله. قال الفراءك وإنما قال السحر بالألف واللام لأنه جواب الكلام الذي سبق كأنهم قالوا لموسى ما جئت به سحر. فقال موسى : بل ما جئتم به السحرز فوجب دخول الألف واللام لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة. يقول الرجل لغيره : لقيت رجلاً. فيقول له : من الرجل ؟ ولو قال : من رجل ؟ لم يقع في وهمه أنه يسأل عن الرجل الذي ذكره. ومن قرأ ) آلسحر ( بالاستفهام فما استفهامية مبتدأ و ) جئتم به ( خبره كأنه قيل أي شيء جئتم به. ثم قال على وجه التوبيخ اسحر أي أهو لسحر أو آلسحر جئتم به ) إن الله سيبطله ( بإظهار المعجزة عليه ) إن الله لا يصلح عمل المفسدين ( لا يؤيده بجميل الخاتمة ) ويحق الله الحقؤ يثبته ) بكلماته ( بمواعيده أو بما سبق من قضائه أو بأوامره ) فما آمن لموسى ( أي في أول أمره ) إلا ذريّة(3/604)
" صفحة رقم 605 "
من قومه ( قال ابن عباس : ( لفظة الذرية يعبر بها عن القوم على وجه التحقير ، ولا ريب أن المراد ههنا ليس هو الإهانة ، فالمراد التصغير بمعنى قلة العدد. وقيل : المراد أولاد من أولاد قومه كأنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون ، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف من فرعون أن يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم. وقيل : إن الذرية أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل. وقيل : الذرية مؤمن آل فرعون وآسية امرأته وخازنه وامرأة خازنه وماشطته ، فالضمير في ) قومه ( على هذا لفرعون وعوده إلى موسى أظهر لأنه أقرب المذكورين ، ولما نقل أن الذين آمنوا به كانوا من بني إسرائيل والضمير في ) ملئهم ( إما لفرعون على جهة التعظيم لأنه ذو أصحاب يأتمرون له ، أو المراد آل فرعون بحذف المضاف ، أو للذرية يعني أشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون عليهم وعلى أنفسهم يدل على ذلك قوله : ( أن يفتنهم ( أي يعذبهم فرعون. ثم اكد أٍباب الخوف بقوله : ( وإن فرعون لعال ( لغالب ) في الأرض ( أرض مصر ) وإنه لمن المسرفين ( في اقتل والتعذيب أو لمن المجاوزين الحد لأنه أخس العبيد فادعى الربوبية العليا ) وقال موسى ( تثبيتاً لقومه ) إن كنتم آمنتم بالله ( صدقتم به وبآياته ) فعليه توكلواؤ خصوه بتفويض أموركم إليه ) إن كنتم مسلمين ( قال لعلماء : المؤخر في مثل هذه السورة مقدم في المعنى نظيره : إن ضربك زيد فاضربه إن كانت بك قوة. والمراد إن كانت بك قوة فإن ضربك زيد فاضربه فكأنه قيل لهم في حال إسلامهم إن كنتم منقادين لتكاليف ربكم بالإخلاص مصدقين له بالتحقيق عارفين بأنه واجب الوجود لذاته وما سواه محدث مخلوق مقهور تحت حكمه وتدبيره ، ففوضوا جميع أموركم إليه وحده. ) فقالوا ( مؤتمرين لموسى ) على الله توكلنا ( ثم اشتغلوا بالدعاء قائلين ) ربنا لا تجعلنا فتنة ( أي موضع فتنة لهم. والمراد بالفتنة تعذيبهم أو صرفهم عن دينهم ، أو المراد لا تفتن بنا فرعون وقمه لأنك لو سلطتهم علينا صار ذلك شبهة لهم في أنا لسنا على الحق. ويجوز أن تكون الفتنة بمعنى المفتون أي لا تجعلنا مفتونين بأن تمكنهم من صرفنا عن الدين الحق ، ولما قدموا التضرع إلى الله في أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه سؤال عصمة أنفسهم فقال : ( ونجنا ( الآية. وفي ذلك دليل على أن عنايتهم بمصالح الدين فوق اهتمامهم بمصالح النفسن وهكذا يجب أن تكون عقيدة كل مسلم والله الموفق. ) وأوحنيا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً ( تبوّأ بالمكان اتخذه مباءة ومرجعاً مثل توطنه إذا اتخذه وطناً. واختلف المفسرون في البيوت فمنهم من ذهب إلى أنها المساجد كقوله : ( في بيوت أذنالله أن ترفع ((3/605)
" صفحة رقم 606 "
[ النور : 36 ] فالمراد من قوله : ( واجعلوا بيوتكم قبلة ( أن يجعل تلك البيوت مساجد متوجهة نحو القبلة وهي جهة بيت المقدس أو الكعبة علة ما نقل عن ابن عباس : وقال الحسن : الكعبة قبلة كل الأنبياء : وإنما وقع العدول عنه بأمر الله تعالى في أيام نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الهجرة. ومنهم من قال : إنها مطلق البيوت. ثم قيل : المراد واجعلوا دوركم قبلة أي صلوا في بيوتكم. وقيل : المراد اجعلوا بيوتكم متقابلة ، أما السبب في اتخاذ هذه البيوت بمكة ، أو المقصود الجمعية واعتضاد البعض بالبعض. وقيل : على التفسير الأول لما أظهر فرعون العداوة الشديدة أمر الله موسى وهارون وقومهما باتخاذ المساجدعلى رغم الأعداء وتكفل أن يصونهم عن شرهم. وإنما ثنى الخطاب أوّلاً ثم جمع لأن اختيار المكان للعبادة مما يفوض إلى الأنبياء فخوطب موسى وهارون بذلك ، ثم جعل الخطاب عاماً لهما ولقومهما لأن استقبال القبلة وإقامة الصلاة واجب على الجمهور. ثم خص موسى عيه السلام بالتبشير في قوله : ( وبشر المؤمنين ( لأن الغرض الأصلي من جميع العبادات هو هذه البشارة فلم تكن لائقة إلا بحال موسى الذي هو الأصل في الرسالة ، وفيه تعظيم لشأن البشارة والمبشر ( قال الضعيف مؤلف الكتاب ) قد سنح في خاطري وقت هذه الكتابة أن الخطاب في قوله : ( وبشر المؤمنين ( لنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) على طريقة الالتفات والاعتراض ، ومضمون البشارة أنه جعلت الأرض كلها لهذه الأمة مسجداً وطهوراً دون سار الأمم فإنهم أمروا باتخاذ موضع يرجعون إليه ألبتة للعبادة والله أعلم بمراده. ثم إن موسى عليه السلام لما بالغ في إظهرا المعجزات القاهرة ، ورأى القوم مصرين على الجحود والإنكار أخذ يدعو عليهم ، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أوّلاً سبب الدعاء عليه فلهذا ) قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً ( فالزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب وأثاث البيت والأموال ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق. عن ابن عباس كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن منذهب وفضة. قالت الأشاعرة : اللام في قوله : ( ليضلوا ( لام التعليل كأن موسى عليه السلام قال : يا رب إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا ، ففيه دلالة على أنه تعالى تسبب لضلالهم وأراد منهم ذلك وإلا لم يهيئ أسبابه. ثم شرع في الدعاء عليهم بالطمس على أموالهم. والطمس المحو أو المسخ كما مر في سورة النساء في قوله سبحانه : ( من قبل أن نطمس وجوهاً ) [ النساء : 47 ] وبالشد على قلوبهم ومعناه الاستيثاق والختم. وقالت المعتزلة : قوله ) ليضلوا ( دعاء بلفظ الأمر للغائب ، دعا عليهم بثلاثة أمور : بالضلال(3/606)
" صفحة رقم 607 "
وبالطمس وبالشد. كأن هلما علم بالتجربة وطول الصحبة أن إيمانهم كالمحال أو علم ذلك بالوحي اشتد غضبه عليهم فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره قائلاً ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال وليطبع الله على قلوبهم كما يقول الأب المشفق لولده إذا لم يقبل نصحه واستمر على غيه. سلمنا أن قوله : ( ليضلوا ( ليس دعاء عليهم لكن اللام فيه للعاقبة كقوله : ( لدوا للموت ). سلمنا أن اللام للتعليل لكنهم جعلنا الله سبباً في الضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا. ولم لايجوز أن يكون ( لا ) مقدرة أي لئلا يضلوا كقوله : ( يبين الله لكم أن تضلوا ) [ النساء : 176 ] أي أن لا تضلوا ، أو يكون حرف الاستفهام مقدراً في آتيت على سبيل التعجب. أما قوله تعالى : ( فلا يؤمنوا ( فإما أن يكون معطوفاً على قوله : ( ليضلوا ( على التفاسير كلها وما بينهما اعتراض ، وإما أن يكون جواباً لقوله ) واشدد ( ويجوز أن يكون دعاء بلفظ النهي معطوفاً على ) اشدد (. ) قال قد أجيبت دعوتكما ( أضاف الدعوة إليهما لأن موسى كان يدعو وهارون يؤمن ، ويجوز أن يكونا جميعاً يدعوان إلا أنه خص موسى بالذكر في الآية لأصالته في الرسالة ، والمعنى أن دعاءكما مستجاب وما طلبتما كائن ولكن في وقته ) فاستقيما ( فاثبتا على ما أنتما عليه من التبليغ والإنذار زيادة في إلزام الحجة ، ولا تستعجلا فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا قليلا. قال ابن جريج : فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة يدعوهم إلى الله ) ولا تتبعانّ سبيل الذين لا يعلمون ( أن الاستعجال لا يفيد في اجابة الدعاء فقد يستجاب الدعاء ولكن يظهر الأثر بعد حتى أتبعه ، والبغي الإفراط في الظلم والعدو ومجاوزة الحد وفي الآية سؤال وهو أن فرعون تاب ثلاثة مرات إحدها قوله : ( آمنت ( وثانيتها ) أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ( وثالثتها ) وأنا من المسلمين ( فلم تقبل توبتة. والجواب من وجوه : الأول أنه إيمان اليائس وأنه لا يقبل لأن الإلجاء ينافي التكليف. الثاني أنها لم تكن مقرونة بالإخلاص وإنما كانت لدفع البلية الحاضرة والمحنة الناجزة. الثالث أن ذلك التوحيد كان مينياً على محض التقليد والمخذول كان من الدهرية المنكرية لوجود الصانع ، ومثل هذا الإعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته إلا بنور الحجة القطعية. الرابع ما روي أن بعض بني إسرائيل لما جاوز البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلعله أراد الإيمان بذلك العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت ، وكانت هذه الكلمة سبباً لزيادة الكفر. الخامس أن أكثر اليهود يميلون إلى التجسيم والتشبيه ولذلك عبدوا العجل فكأنه ما ؟ آمن إلا بالإله الموصوف(3/607)
" صفحة رقم 608 "
بالجسمية والحلول والنزول. السادس لعل الإيمان إنما يتم بالإقرار بوحدانيته الله تعالى وبنبوة موسى كما أنه لو قيل ألف مرة لاغله إلا الله لم يصح إيمان إلا إذا قرن به محمد رسول الله إلى الناس كافة. السابع يورى أن جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتيا ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه ؟ فكتب فرعون فيه يقول أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعمته أن يغرق في البحرن ثم إن فرعون لما غرق دفع جبريل إليه خطه فعرفه. أما قوله ) آلآن ( فالمشهور من الأخبار أنه قول جبريل. وقيل : إنه قول الله سبحانه والتقدير : أتؤمن الساعة ي وقت الاضطرار حين ألجمك الغرق وأدركك. وقوله : ( وكنت من المفسدين ( في مقابلة قوله : ( وأنا من المسلمين ( يروى أن جبريل أخذ ميلأ فاه بالطين حين قال : ( آمنت ( لئلا يتوب غضباَ عليه ، والأقرب عند العلماء أن هذا الخبر غير صحيح لأنه إن قال ذلك حين بقاء التكليف لم يجز على جبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب أن يحثه عليها أو على كل طاعة لقوله تعالى : ( وتعاونوا ) [ المائدة : 2 ] ولو منعه لكانت التوبة ممكنة لأن الاخرس قد يتوب بأن يعزم بقلبه على ترك المعاودة إلى القبيح ، ولو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر. وكيف يليق به سبحانه أن يقول لموسى وهارون ) فقولا له قولاً ليناً ) [ طه : 44 ] ثم يأمر جبريل بمنعه عن الإيمان. ولو قيل إن جبريل فعل ذلك من تلقاء نفسه كان منفياً لقوله : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) [ مريم : 64 ] ( لا يسبقونه بالقول ) [ الأنبياء : 27 ] وإن كان قال ذلك بعد زوال التكليف فلم يكن لما فعل جبريل فائدة اللهم إلا أن يقال : إنه دس حال البحر في فيه في وقت لا ينفعه إيمانه غضباً لله على الكافر. قوله : ( فاليوم ننجيك ببدنك ( فيه أقوال منها : أن معناه نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ولكن بعد أن تغرق. وقوله : ( ببدنك ( في موضع الحال أي في احال التي لا روح فيك وإنما أنت بدن. قال كعب : رماه الماء إلا الساحل كأنه ثور ، أو لمراد ببدنك كاملاً سوياً لم ينقص منه شيء ولم يتغير ، أو عرياناً لست إلا بدناً وفيه نوع تهكم كأنه قيل : ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك كما يقال : نعتقك أو نخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت. وقيل : ننجيك ببدنك أي نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع. وقيل : ببدنك أي بدرعك. قال الليث : البدن الدرع القصير الكمين. عن ابن عباس قال : كان عليه درع من ذهب يعرف بها فأخرجه الله من الماء مع ذلك الدرع ليعرف ، فإن صحت هذه الرواية كانت معجزة لموسى عليه السلام. وأما قوله : ( لتكون لمن خلفك(3/608)
" صفحة رقم 609 "
آية ( فقيل : إن قوماً اعتقدوا في إلهيته وزعموا أن مثله لا يموت فأظهر الله تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى يشاهدوه. وزالت الشبهة عن قلوبهم وكانت مطروحة على ممر من بني إسرائيل فلهذا قيل : ( لمن خلفك ( وقيل : إنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والإهانة بعد ما سمعوا منه قوله : ( أنا ربكم الأعلى ) [ النازعات : 24 ] ليكون ذلك زجراً للعابرين عن مثل طريقته ، ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة ثم آل أمره إلى ما آل ، فلا يجترأوا على نحو ما اجترأ عليه. وقيل : المراد ليكون طرحك بالساحل وحدك دون المغرقين آية من آيات الله للأمم الآتية ، ثم زجر هذه الأمة عن ترك النظر في الدلائل وحثهم على التأمل والاعتبار فقال ) وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون (. التأويل : ( واتل عليهم نبأ نوح ( الروح ) إذ قال لقومه ( وهم القلب واسمع والنفس وصفاتها ) يا قوم إن كان ( عظم ) عليكم مقامي ( في الأخلاق الحميدة الروحانية ودعائي إلى الله ببراهينه الواضحة ) فما سألتكم من أجر ( من حظ من حظوظ مشاربكم الدنيوية ما حظي إلا من مواهب الله وشهود جماله. و ) جعلناهم خلائف ( خلفاء الله في أرضه وباقي التأويل كما مر في ( الأعراف ). وهكذا في قصة موسى ) ولا يفلح الساحرون ( لأن الفراح هو الخلاص عن قيد الوجود المجازي. ) ويحق الله الحق ( أي الذكر ) بكلماته ( وهي لا إله إلا الله ) ولو كره ( أهل الهوى والنفوس الأمارة ) فما آمن لموسى ( القلب إلا صفاته أو بعض صفات فرعون النفس بتبديل أخلاقها الذميمة بالأخلاق الحميدة القلبية ) على خوف من فرعون ( النفس والهوى والدنيا وشهواتها أن يصرفهم إلى حالها الطبيعية التي جبلت عليها. ) وأوحينا إلى موسى ( القلب وهارون السر أن هيئا لصفاتكما بمصر عالم الروح مقامات ومنازل لا في عالم النفس السفلي. واجعلوا تلك المقامات متوجهة إلى طلب الحق. ) وأقيموا الصلاة ( أديموا العروج من المقامات الروحانية إلى المواصلات الربانية ) ليضلوا عن سبيلك ( ليكون عاقبة أمرهم أي نقطعوا أو يقطعوا بتلك الملاذ عن السير في طلبك ) ربنا اطمس على أموالهم ( بمحقها وتحقيرها في نظرهم ) واشدد ( طريق النظر إلى الدنيا وما فيها ) على قلوبهم ( واجعل همتهم عليه في طلبك والنظر إليك فق ) حتى يروا العذاب الأليم ( فإن النفس وصفاتها لا يؤمنون بالآخرة وطلب الحق حتى يذيقهم ألم الفطام عن الدنيا ومشتهياتها. ) سبيل الذين لا يعلمون ( طريق الوصول إلى الله ولا يعرفون قدره ) وجاوزنا ببنى إسرائيل ( هم القلب والسر وصفاتها. والبحر بحر الروحانية والملكوتية ) فأتبعهم فرعون ( النفس وصفاتها بعد الفطام عن شوائب عالم الملك(3/609)
" صفحة رقم 610 "
قهراً وقسراً ، حتى إذا هبت رياح اللطف وتموجت بحار الفضل واستغرق موسى القلب وصفاته في لجي بحر الوصال ، وبلغت أفواج أمواجه إلى ساحل البشرية ، أدرك فرعون النفس الغرق فاستمسك بعروة ذلك الفريق : ( آمنت ( ومن أمارات أجنبية فرعون النفس من عالم الروح أنه لم يتمسك بحبل التوحيد والمعرفة بيد الصدق والاستقلال ، ولم يقل آمنت بالله الذي لا إله لإا هو وإنما تمسك بين الضاطراب والتقليد فقال : ( لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ( ) ننجيك ببدنك ( أي نخلصك مع قالبك من بحر الضلالة لتكون دليلاً على كمال قدرتنا وعنايتنا. وإن من اتبع خواص عبادنا نجعله من أهل النجاة والدرجات بعد أن كان من أهل الهلاك والدركات والله حسبنا. ( يونس : ( 93 - 109 ) ولقد بوأنا بني . . . .
" ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين " ((3/610)
" صفحة رقم 611 "
القراآت : ( وأنا ( مثل ) أنشانا ( و ) نجعل ( بالنون : يحيى وحماد. الآخرون بالياء التحتانية. ) ثم ننجي ( من الإنجاء : نصر وروح ويزيد. ) ننجي المؤمنين ( من الإنجاء أيضاً : علي وسهل ويعقوب وحفص والمفضل. الآخرون بالتشديد فيهما. الوقوف : ( الطيبات ( ج للابتداء بالنفي مع الفاء ) العلم ( ط ) يختلفون ( ه ) من قبلك ( ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى ) الممترين ( ه لا للعطف ) الخاسرين ( ه ) لا يؤمنون ( ه لا لتعلق لو بما قبلها ) الأليم ( ه ) يونس ( ط ) حين ( ه ) جمعياً ( ط الاستخبار والإخبار. ) لا يؤمنون ( ه ) من قبلهم ( ط ) من المنتظرين ( ه ) كذلك ( ج لاحتمال يراد ننجيهم كإنجاء الرسل أو يكون الوقف على ) آمنوا ( والتقدير ننجي المؤمنين إنجاء كذلك و ) حقا علينا ( اعتراض. ) المؤمنين ( ه ) يتوفاكم ( ج لاحتمال أن يراد وقد أمرت ) المؤمنين ( ه لا للعطف ) حنيفاً ( ج للعطف مع زيادة نون التأكيد المؤذن بالاستئناف ) المشركين ( ه ) ولا يضرك ( ج للابتداء بالشرط مع الفاء ) الظالمين ( ه ) إلا هو ( ج للعطف مع حق الفصل بين المتضادين ) لفضله ( ط ) من عباده ( ط ) الرحيم ( ه ) من ربكم ( ج ) لنفسه ( ج ) عليها ( ج للعطف مع النفي ) بوكيل ( ه ط ) يحكم الله ( ج لاحتمال العطف والاستئناف ) الحاكمين ( ه. التفسير : ( لما ذكر ما وقع عليه الختم في واقعة فرعون وجنوده أراد أن يذكر ما وقع عليه الختم في واقعة بني إسرائيل فقال : ( ولقد بوأنا ( أي أسكناهم مسكن صدق أو إسكان صدق فيكون المبوأ اسم مكان أو مصدراً ، والعرب إذا مدحت شيئاً أضافته فيه الصدق ليعلم أن كل ما يظن به من الخير ويطلب منه فإنه يصدق ذلك الظن ويوجد فيه فيكون المعنى منزلاً صالحاً مرضياً. والمراد ببني إسرائيل إما اليهود الذي كانوا في زمن موسى عليه السلام فمبوّأ الصدق الشام ومصر وما يدانيها فإنها بلاد كثيرة الخصب غزيرة الأرزاق ومع عذلك فقد أورثهم الله جميع ما كان تحت تصرف فرعون وقومه من الناطق والصامت ) فما اختلفوا ( في دنيهم وما تشعبوا فيه شعباً وكانوا على طريقة واحدة قرأوا التوراة فقابلوها بضد المقصود منها وبدلوا الاتفاق بالاختلاف وأحدثوا المذاهب المتعددة ، وإما اليهود المعاصرون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإلى هذا ذهب جم غفير من المفسرين. عن ابن عباس : هم قريظة والنضير وبنو قينقاع ، أنزلناهم منزل الصدق ما بين المدينة والشام ورزقناهم من طيبات تلك البلاد رطباً وتمراً ليس في غيرها ، فبقوا على دينهم ولم يظهر فيهم الاختلاف حتى جاءهم سبب العلم وهو القرآن النازل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) (3/611)
" صفحة رقم 612 "
فاختلفوا في نعته وصفته ، وآمن به قوم وبقي على الكفر آخرون. وبالجملة فالله تعالى يقضي بين المحقين منهم والمبطلين في يوم الجزاء لأن دار التكليف ليست دار القضاء. ولما بيّن كيفية اختلاف اليهود في شأن كتابهم أو في شأن رسوله حقق حقيقته وحقيقة ما أنزل عليه بقوله : ( فإن كنت في شك ( والشك في اللغة ضم الشيء بعضه إلى بعض ومنه شك الجوهر في العقد ، وشككته بالرمح أي خرقته وانتظمته ، والشكيكة الفرقة من الناس ، والشكاك البيوت المصطفة. والشاك يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه ، والخطاب فيه للرسول في الظاهر والمراد أمته كقوله : ( يا أيها النبي إذا طلقتم ) [ الطلاق : 1 ] والدليل عليه قوله بعيد ذلك ) قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني ( ولأنه لو كان شاكاً في شأنه لكان غيره بالشك أولى. ويمكن أن يقال : الخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حقيقة ولكن ورد على سبيل الفرض والتمثيل كأنه قيل : فإن وقع لك شك مثلاً والقضية الشرطية لا إشعار فيها ألبتة بوقوع الشرط ولا عدم وقوعه ، بل المراد استلزام الأول للثاني على تقدير وقوع الأول. وقد يكونان محالين كقول القائل : إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين. وفيه من الفوائد الإرشاد إلى طلب الدلائل لأجل مزيد اليقين وحصول الطمأنينة ، وفيه استمالة لأمته والحث لهم على السؤال عما كانوا منه في شك ، وفيه أن أهل الكتاب من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك بحيث يصلحون لمراجعة مثلك فضلاً عن غيرك فيكون الغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى الرسول لا وصف الرسول بالشك ، ولذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) عند نزوله : لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق. وعن ابن عباس : لا والله هما شك طرفة عين ولا سأل أحداً منهم. وقيل : ( إن ) نافية أي فما كنت في شك يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ولكن لتزداد يقيناًز وقيل : الخطاب لكل سامع يتأتى منه الشك. ومن المسؤول منه قال المحققون : هم مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وعبد الله بن صوريا وتميم الداري وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم. ومنهم من قال : الكل سواء لأنهم إذا بلغوا حد التواتر وقرأوا آية من التوراة والإنجيل تدل على البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد حصل الغرض ، لأن تلك الآية لما بقيت مع توفر دواعيهم على تحريف نعته كانت من أقوى الدلائلز والظاهر أن المقصود من السؤال معرفة حقيقة القرآن وصحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لقوله : ( مما أنزلنا إليك ( وقيل : السؤال راجع إلى قوله : ( فما اختلفوا حتى جاءهم العلم (. ثم إنه سبحانه لما بين الطريق المزيل للشك شهد بحقيته فقال : ( لقد جاءك الحق من ربك ( ثم إن فرق المكلفين بعد المصدقين إما متوقفون في صدقه وإما مكذبون فنهى الفريقين مخاطباً في الظاهر لنبيه قائلاً(3/612)
" صفحة رقم 613 "
) فلا تكونن من الممترين ولا تكونن ( الآية. المراد فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية وانتفاء التكذيب ، وفيه من التهييج والبعث على اليقين والتصديق ما فيه. ثم لما زجر كل فريق عما زجر بين أن له عباداً قضى عليهم بالشقاء وعباداً ختم لهم بالحسنى فلا يتغيرون عن حالهم ألبتة. أما الأولون فأشار إليهم بقوله : ( إن الذين حقت ( الآية : وقد مر مثله في هذه السورة. وقد قالت المعتزلة : إن عدم إيمان هذها لفريق إلىحين وقوع اليأس وموتهم على الكفر مكتوب عند الله وثبت عليهم قوله في الأزل بما يجري عليهم ، لكنها كتابة معلوم لا كتاب مقدر ومراد. وقالت الأشاعرة : كلمته حكمة وإرادته وخلقه فيهم الكفر ، وقد مر أمثال هذه الأبحاث مراراً كثيرة. وأما الآخرون فذلك قوله : ( فلولا كانت ( أي فهلا حصلت ) قرية ( واحدة ) آمنت ( تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل معانية العذاب ) فنفعها إيمانها ( لوقوعه في وقت الاختيار والتكليف دون أوان اليأس والاضطرار ) إلا قوم يونس ( هو استثناء منقطع أي ولكن قوم يونس لأن أول الكلام جرى على القرية وإن كان المراد أهلها. وقيل : إن ( لولا ) في هذا المقام بمعنى النفي كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس. يروى أن يونس ( صلى الله عليه وسلم ) بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضباً كما سيجيء في سورة الأنبياء ، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسموح وعجوا أربعين ليلة. وقيل : قال لهم يونس إن أجلكم أربعون ليلة فقالوا : إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك ، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيماً أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد سطوحهم ، فلبسوا المسموح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرّقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها ، فحنّ بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة. وعن ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى إن الرجل منهم كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيرده. وقيلك خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : قد نزل بنا العذاب فما ترى ؟ فقال لهم : قولوا يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت ، فقالوها فكشف عنهم ومتعوا بالإيمان والأعمال الصالحة وبالخيرات الدنيوية إلى حين انقضاء آجالهم. وعن الفضيل بن عياض قالوا : اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل ، افعل بنا منا أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله. ثم بيّن أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره فقال : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ( قالت الأشاعرة : هذه القضية تفيد الشمول والإحاطة(3/613)
" صفحة رقم 614 "
لكنه ما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل. وأول المعتزلة المشيئة بمشيئة الإلجاء والقسر. واجيب بأن الكلام في الإيمان الذي كان يطلبه النبي منهم وهو الإيمان المنوط به التكليف لا الإيمان القسري الذي لا ينتفع به المكلف ، فلو حمل الإيمان المذكور في الآية وكذا المشيئة على إيمان الإلجاء ومشيئة القسر لم ينتظم الكلام. ثم ذكر أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى فقال : ( أفأنت تكره ( فأولى الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه ، وإنما الكلام في المكره من هو وما هو إلا الله وحده. فحمل المعتزلة هذا الإكراه على الإلجاء ومعناه أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان. وحمل الأشاعرة الغكراه على خلق الإيمان ومعناه أنه قادر على خلق الإيمان والكفر فيهم لا أنت بدليل قوله : ( وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس ( أي الكفر والفسق ) على الذين لا يعقلون ( وفسر المعتزلة الإذن بمنح الألطاف والرجس بالخذلان ، لأن الرجس هو العذاب والخذلان سببه ، وخصصوا النفس بالنفس المعلوم إيمانها والذين لا يعقلون يعني المصرين على الكفر. واستدلت الأشاعرة بقوله : ( وما كان لنفس ( على أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع لأن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحجر. وإذا كان أصل الشرع - وهو الإيمان بإذن الله - فما ترتب عليه أولى. أجابت المعتزلة بأن المراد بالإذن التوفيق والتسهيل والألطاف. ولما بين أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض فقال : ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض ( أي شيء فيهما من الآيات والعبر. ثم ذكر أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حكم الله عليه في الأزل بالشقاء فقال : ( وما تغني ( يحتمل أن تكون ( ما ) نافية أي لا تفيد هذه ) الآيات والنذر ( وهي جمع نذير صفة أو مصدر في حق المحكوم عليهم بعدم الإيمان. وأن تكون ( استفهامية للإنكار بمعنى أي شيء يغني عنهم ؟ ثم قال : ( فهل ينتظرون ( والمراد أن الأنبياء المتقدمين كانوا يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب أو بوقائع الله فيهم وهم يكذبونهم ويسخرون منهم ، وكذلك كان يفعل الكفار المعاصرون للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال سبحانه ) قل فانتظروا ( وفيه تهديد ووعيد بأنه سينزل بهؤلاء مثل ما أنزل بأولئك من الإهلاك بعد إنجاء الرسول وأتباعه كما حكى تلك الأحوال الماضية بقوله : ( ثم ننجي رسلنا ( الآية. قالت المعتزلة : ( حقاً علينا ( المراد به الوجوب والاستحقاق إذا لا يحسن تعذيب الرسول والمؤمنين. وقالت الأشاعرة : إنه حق بحسب الوعد والحكم فإن(3/614)
" صفحة رقم 615 "
العبد لا يستحق على خالقه شيئاً. ثم أمر رسوله بإظهار التباين الصريح بين طريقته وطريقة المشركين فقال : ( قل يا أيها الناس ( والمعنى يا أهل مكة إن كنتم لا تعرفون ديني فاعلموا أني مبرأ عن أديانكم الباطلة ) ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ( وتخصيص هذا الوصف لأنه يدل علىالخلق أوّلاً وعلى الإعادة ثانياً كما مر مراراً ، أو لأن الموت أشد الأحوال مهابة في القلوب فكان أقوى في الزجر والردع ، أو لأنه قد قدم ذكر الإهلاك والوقائع النازلة بالأمم الخالية فكأنه قال : أبعد الله الذي وعدني بإهلاككم وإنجائي. وفي الآية إشارة إلى أنه لن يوافقهم في دينهم كيلا يشكوا في أمره ويقطعوا أطماعهم عنه. ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله بين أنه مأمور بالإيمان والمعرفة فقال : ( وأمرت أن أكون ( أي بأن أكون ) من المؤمنين ( ثم عطف عليه قوله : ( وأن أقم وجهك ( ولا تدع نظراً إلى المعنى كأنه قيل له : كن مؤمناً ثم أقم ولا تدع ، أو المراد وأمرت بكذا وأوحي إلي أن أقم. قال في الكشاف : قد سوغ سيبويه أن يوصل ( أن ) بالأمر والنهي وشبه ذلك بقولهم : أنت الذي تفعل على الخطاب لأن الغرض وصلها بما يكون معه في معنى المصدر ، والأمر والنهي دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال ، ومعنى ) أقم وجهك ( استقم إليه ولا تلتفت يميناً ولا شمالاً. و ) حنيفاً ( حال من ) الدين ( أو من الوجه. قال المحققون : الوجه ههنا وجه العقل أو المراد توجه الكلية إلى طلب الدين كمن يريد أن ينظر إلى شيء نظراً تاماً فإنه يقيم وجهه في مقابلته لا يصرفه عنه. ثم أكد الأمر بالنهي عن ضده فقال : ( ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضربك فإن فعلت ( أي فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ، وكنى عنه بالفعل للاختصار. و ( إذا ) جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان وجعل من الظالمين لأن إضافة التصرف بالاستقلال إلى ما سوى مدبر الكل وضع للشيء في غير موضعه. ثم صرح بأنه مبدأ الكائنات ومنتهى الحاجات لا غيره فقال : ( وإن يمسسك الله ( الآية. وقد مر تفسير مثلها في أول سورة الأنعام. قال الواحدي : ( وإن يردك بخير ( من القلب وأصله بالآخر. وأقول في تخصيص الإرادة بجانب الخير والمس بجانب الشر دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات والشر بالعرض. ثم ختم السورة بما يستدل به على قضائه وقدره في الهداية والضلال فقال : ( قل يا أيها الناس ( الآية. وفسرها الأشاعرة بأن من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع له ذلك ، وإن من حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في دفعه كما مر في سورة الأنعام ) قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ) [ الأنعام : 104 ] الآية. وقالت المعتزلة : المراد أنه بين الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة ، فمن اختار(3/615)
" صفحة رقم 616 "
الهدى فما نفع باختياره إلا نفسه ، ومن آثر الضلال فلا يعود وباله إلا على نفسه. يروى عن ابن عباس أن الآية منسوخة بآية القتال ولا يخفى ضعفه. ثم أمره باتباع الوحي والتنزيل فإن وصل إليه بسبب الاتباع مكروه فليصبر عليه إلى أن يحكم الله وهو خير الحاكمين. ولبعضهم في الصبر. سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري
وأصبر حتى يحكم الله في أمري
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني
صبرت على شيء أمر من الصبر
التأويل : ( ولقد بوأنا بني إسرائيل ( يعني متولدات الروح العلوي من القلب والسر دون النفس لأنها من البنات لا من البنين ) مبوأ صدق ( منزلاً علياً في العالم النوراني ) وزقناهم من الطيبات ( من الفيض الرباني الفائض على الروح لأن الروح مستوٍ على عرش القلب ، فكل ما فاض من صفة الروحانية على الروح يفيض الروح على القلب والسر ، فما اختلف القلب والسر حتى جاءهم دعوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : فمن قبلها صار مقبولا ، ومن ردها كان مردوداً. وبوجه آخر ) مبوأ صدق ( بين الأصبعين من أصابع الرحمن ) فما اخلتفوا ( حتى أدركهم علم الله الأزلي بالسعادة والشقاء ) فإن كنت في شك ( خلق الإنسان ضعيفاً ، فإذا انتفح عليه أبواب الكرامات وهبت رياح السعادات فربما ظن أنه مما يخادع به الأطفار فلا يدري هل هو من كرامة الاجتباء أو من وخامة الابتلاء ، فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من خصوصية ) إنما أنا بشر مثلكم ) [ الكهف : 110 ] يرتع في هذه الرياض وباختصاص ) يوحي إلي ) [ الكهف : 110 ] يسقى بكساسات المناولات من تلك الحياض. فشك عند سكره أنها من شهود التلوين أو من كشوف التمكين ، فأدركته العناية الأزلية فأكرم بخطاب ) لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن ( بل كانت هذا النهي نهي التكوين فما كان ممترياً ولهذا قال : والله لا أشك ولا أسأل. ) إلا مثل أيام الذين خلوا ( من أنه كل ميسر لما خلق له ) قل فانتظروا ( ظهور ما قدر لكم ) ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ( بالفناء عن النفس وصفاتها حنيفاً طاهراً عن لوث الالتفات إلى ما سواه والله أعلم .
تم الجزء الحادي عشر ، وبه يتم المجلد الثالث من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري ، ويليه المجلد الرابع وأوله تفسير سورة هود .(3/616)
" صفحة رقم 3 "
سورة هود
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثاني عشر من أجزاء القرآن الكريم
سورة هود مكية غير آية قوله ) وأقم الصلاة طرفي النهار (
وحروفها 7605 وكلامها 1715 وآياتها 123 ( هود : ( 1 - 24 ) الر كتاب أحكمت . . . .
" الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك(4/3)
" صفحة رقم 4 "
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون "
( القراآت )
وإن تولوا ( بإظهار النون وتشديد التاء : البزي وابن فليح ) فإني أخاف ( بفتح الياء ، أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. ) عني إنه ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابو عمرو. الوقوف : ( آلر ( ق كوفي ) خبير ( ه لا بناء على أنّ ألا يتعلق بما قبله ) إلا الله ( ط ) وبشير ( ه لا للعطف ) فضله ( ج ) كبير ( ه ) مرجعكم ( ج لاحتما الحال والاستئناف ) قدير ( ه ) منه ( ط ) ثيابهم ( لا بناء على أن عامل ) حين ( قوله : ( يعلم ( ) يعلنون ( ج ) الصدور ( ه ) ومستودعها ( ط ) مبين ( ه ) عملاً ( ط ) مبين ( ه ) ما يحبسه ( ط ) يستهزؤون ( ه ) منه ( ج لحذف جواب ) لئن ( أي لييأسن. وقيل : جوابها إنه والأول أوجه ) كفور ( ه ) عني ( ط ) فخور ( لا للاستثناء ) الصالحات ( ط ) كبير ( ه ) ملك ( ط ) نذير ( ه ) وكيل ( ه ط ( أم ) استفهام تقريع ) افتراه ( ط ) صادقين ( ه ) إلا هو ( ج ط للاستفهام مع الفاء. ) مسلمون ( ه ) يبخسون ( ه ) إلا النار ( ز بناء على أن ( ليس ) بمنزلة حرف النفي والوصل أوجه لأن ( ليس ) فعل ماض وهو مع ما عطف عليه المجموع جزاء. ) يعملون ( ه ) رحمة ( ط ) يؤمنون به ( ط ) يؤمنون به ( ط ) موعده ( ج لاختلاف الجملتين مع الفاء ) لا يؤمنون ( ه ) كذباً ( ط ) على ربهم ( الثاني ج لأن ما بعده يحتمل أن يكون من قول الاشهاد أو ابتداء إخبار. ) الظالمين ( ه لا ) عوجاً ( ط ) من أولياء ( لئلا يوهم أن ما بعده صفة أولياء ) العذاب ( ط ) يبصرون ( ه ) يفرون ( ه ) الأخسرون ( ه ) إلى ربهم ( لا لأن ما بعده خبر ( إن ). ) الجنة ( ج ) خالدون ( ه ) والسميع ( ط ) مثلاً ( ط ) تذكرون ( ه. التفسير : ( آلر ( إن كان اسماً للسورة فما بعده خبره ، وإن كان وارداً على سبيل(4/4)
" صفحة رقم 5 "
التعديد أو كان معناه أنا الله أرى فقوله : ( كتاب ( خبر مبتدأ محذوف أي هذا الكتاب. والإِشارة إما إلى هذا البعض وإما إلى مجموع القرآن. ومعنى ) أحكمت ( نظمت نظماً رصيناً من غير نقض ونقص ، أو جعلت حكيمة من حكم بالضم إذا صار حكيماً. أو منعت من الفساد والبطلان من قوله : أحكمت الدابة وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح. أي لم ينسخ بكتاب سواه كما نسخ سائر الكتب وذلك لاشتماله على العلوم النظرية والعلمية والظاهرية والباطنية وعلى أصول جميع الشرائع ، فلا محالة لا يتطرق إليه تبديل وتغيير. ) ثم فصلت ( كما تفصل القلائد بالفرائد من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص ، لكل معنى من هذه المعاني من هذه المعاني فصل انفرد به. أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية وآية ، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة ، أو فصل فيها تكاليف العباد وبين ما يحتاجون إليه في إصلاح المعاش والمعاد. ومعنى ( ثم ) التراخي في الحال كقولك : فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل. و ) أحكمت ( صفة كتاب. و ) من لدن ( صفة ثانية أو خبر بعد خبر أو صلة لأحكمت وفصلت أي من عنده إحكامها وتفصيلها. وفي قوله : ( حكيم خبير ( لف ونشر لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها خبير عالم بمواقع الأمور. احتج الجبائي بقوله : ( أحكمت ثم فصلت ( على كون القرآن محدثاً لأن الإحكام والفصيل يكون بجعل جاعل ، وكذا بقوله : ( من لدن ( لأن القديم لا يصدر من القديم. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الأصوات والحروف وإنما النزاع في الكلام النفسي. وقوله : ( ألا تعبدوا إلا الله ( مفعول له أي لأجل ذلك أو يكون ( أن ) مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل : ثم قيل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قل لهم لا تبعدوا. وجوز في الكشاف أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عما قبله محكياً على لسان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يغري أمته على اختصاص الله بالعبادة كأنه قال : ترك عبادة غير الله مثل ) فضر الرقاب ) [ محمد : 4 ] والضمير في ) منه ( لله عز وجل حالاً من ) نذير وبشير ( أي إنني لكم نذير من جهته إن لم تخصوه بالتعبد ، وبشير إن خصصتموه بذلك. ويجوز أن يكون ) منه ( صلة لنذير أي أنذركم منه ومن عذابه ، ويكون صلة بشير محذوفاً أي أبشركم بثوابه. ثم عطف على قوله : ( أن لا تعبدوا ( قوله : ( وأن استغفروا ( أي اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم. ن ثم بين الشيء الذي به يطلب ذلك وهو التوبة فقال : ( ثم توبوا إليه ( فالتوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار ، وما كان آخراً في الحصول كان من ربكم المغفرة لذنوبكم. ثم الاستغفار على التوبة. وقيل : استغفروا أي توبوا ثم قال : ( توبوا ( أي أخلصوا التوبة واستقيموا عليها. وقيل : استغفرا من سالف الذنوب ثم توبوا من أنف الذنوب. وقيل : استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة. وقيل : الاستغفار أن يطلب من الله الإعانة في(4/5)
" صفحة رقم 6 "
إزالة ما لا ينبغي ، والتوبة سعي الإنسان في الطاعة والاستعانة بفضل الله مقدم على الاستعانة بسعي النفس. ثم رتب على الامتثال أمرين : الأول التمتع بالمنافع الدنيوية إلى حين الوفاة كقوله ) فلنحيينه حياة طيبة ) [ النحل : 97 ]. سؤال : كيف الجميع بين هذا وبين قوله تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ( ) الزخرف : 33 ] وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الدنيا سجن المؤمن ) ( البلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء ) ؟ وأجيب بأن المراد أن لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أو يرزقهم كيف كان. والجواب الثاني أن الإِنسان إذا كان مشغولاً بطاعة الله مستغرقاً في نور معرفته وعبادته كان مبتهجاً في نفسه مسروراً في ذاته ، هيناً عليه ما فاته من اللذات العاجلة ، قانعاً بما يصيبه من الخيرات الزائلة. الثاني قوله : ( ويؤت ( أي في الآخرة ) كل ذي فضل فضله ( أي موجب فضل ذلك الشخص ومقتضاه يعني الجزاء المرتب على عمله بحسب تزايد الطاعات. وتسمية العمل الحسن فضلاً تشريف ويجوز أن يعود الضمير في ) فضله ( إلى الله تعالى. وفيه تنبيه على ان الدرجات في الجنة تتفاضل بحسب تزايد الطاعات. ثم أوعد على مخالفة الأمر فقال : ( وإن تولوا ( أي تتولوا فحذفت إحدى التاءين والمعنى إن تعرضوا عن الإِخلاص في العبادة وعن الاستغفار والتوبة ) فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ( هو يوم القيامة الموصوف بالعظم والثقل أيضاً ( ويذورن وراءهم يوماً ثقيلا ) ) الدهر : 27 (. ثم بين كبر عذاب ذلك اليوم بقوله : ( إلى الله مرجعكم ( أي لا حكم في ذلك اليوم إلا لله ولا رجوع إلا إلى جزائه ، وهو مع ذلك كامل القدرة نافذ الحكم فما ظنكم بعذاب يكون المعذب به مثله. وفيه من التهديد ما فيه ولكن الآية تتضمن البشارة من وجه آخر. وذلك أن الحاكم الموصوف بمثل هذه العظمة والقدرة الاستقلال في الحكم إذا رأى عاجزاً مشرفاً على الهلاك فإنه يرحم عليه ولا يقيم لعذابه وزناً. اللهم لا تخيب رجاءنا فإنك واسع المغفرة. ثم ذكر أن التولي عن الأوامر المذكورة باطناً كالتوالي عنها ظاهراً فقال : ( ألا إنهم يثنون ( يقال ثنى صدره عن الشيء إذا ازورَّ عنه وانحرف وطوى عنه كشحاً .(4/6)
" صفحة رقم 7 "
قال المفسرون : وههنا إضمار أي يثنون صدورهم ويريدون ) ليستخفوا منه ( أي من الله. ثم كرر كلمة ) ألا ( تنبيهاً على وقت استخفائهم وهو ) حين يستغشون ثيابهم ( أي يريدون الاستخفاء في وقت استغشاء الثياب. قال الكبي : ثني صدورهم كناية عن نفاقهم لما روي أن طائفة من المشركين منهم الأخنس بن شريق قالوا : إذا أغلقنا أبوابنا وأبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فكيف يعلم بنا. وعلى هذا لا حاجة إلى الإضمار. وقيل : إنه حقيقة ، وذلك أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله عليه وسلم ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه لئلا يسمع كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما يتلو ن القرآن ، وليقول في نفسه ما يشتهي من الطعن. ثم استأنف قوله : ( يعلم ما يسرون وما يعلنون ( تنبيهاً على أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء لأنه تعالى عالم بالسرائر كما أنه عالم بالظواهر. ثم أكد كونه عالماً بكل المعلومات بكونه كافلاً لأرزاق جميع الحيوانات ضامناً لمصالحها ومهامها فضلاً وامتناناً وكرماً وإحساناً فقال : ( وما من دابة ( الآية. والمستقر مكانها من الأرض ، والمستودع ما قبل ذلك من الأمكنة من صلب أو رحم أو بيضة. وقال الفراء : مستقرها حيث تأوي إليه ليلاً أو نهاراً ، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه. وقد مر تمام الأقوال في سورة الأنعام. واستدل الأشاعرة بالآية على أن الحرام رزق لأنها تدل على أن أيصال الرزق إلى كل حيوان واجب على الله بحسب الوعد عندنا أو بحسب الاستحقاق عند المعتزلة شبه النذر. ثم إنا نرى إنساناً لا يأكل من الحال طول عمره وقد سماه الله تعالى رزقاً. ثم ختم الآية بقوله : ( كل في كتاب مبين ( أي كل واحد من الدواب. في قوله : ( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب بمين ) [ الأنعام : 59 ] يروى أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه تعلق قلبه بأهله فأمره الله تعالى أنيضرب بعصاه صخرة فانشقت فخرجت منها صخرة ثانية ، ثم ضرب فانشقت فخرجت ثالثة ، ثم ضربها فخرجت دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها ، فسمع الدودة تقول : سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني. ثم أكد دلائل قدرته بقوله : ( وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ( قال كعب الأحبار : خلق الله ياقوته خضراء ، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ووضع العرض على الماء ، وقال أبو بكر الأصم : هذا كقولك : لا سماء إلا على الأرض وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملصقاً بالآخر. وعلى هذا فيكون الآن أيضاً عرشاً على الماء. وقال في الكشاف : المراد أنه ما كان تحت العرش خلق سوى الماء ، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض ،(4/7)
" صفحة رقم 8 "
وعلى أن الملائكة خلقت قبل العرش والماء ليعتبرا بهما وإلا لزم أن يكون خلقهما قبل أن يعتبر بهما عبثاً إذ لا يتصور عود نفعهما إليه تعالى. وقال أبو مسلم : العرش البناء أي الماء أي وكان عرشه يتحرك. وبالجملة مقصود الآية بيان كمال قدرته في إمساك الجرم العظيم على الصغير. أما قوله : ( ليبلوكم ( فالمعتزلة قالوا : اللام للتعليل ، وذلك أنه خلق هذا العالم الكبير لأجل مصالح المكفلين وأن يعاملهم معاملة المختبر المبتلى لأحوالهم كيف يعملون فيجازي كل فريق بما يستحقه. والأشاعرة قالوا : إن أحكامه غير معللة بالمصالح ومعناه أنه فعل فعلاً لو كان يفعله من يجوز عليه رعاية المصالح لما فعله إلا لهذا الغرض. وإما علق فعل البلوى لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إلى العلم فهو ملابس له كالنظر والاستماع في قولك : انظر أيهم أحسن وجهاً واسمع أيهم أحسن كلاماً. قال في الكشاف : الذين هم أحسن عملاً هم المتقون. وإنما خصهم بالذكر وطرح ذكر من وارءهم من الفساق والكفار تشريفاً لهم. قلت ويجوز أن يقال إن أحسن بمعنى حسن ليشمل الخطاب جميع المكلفين. ثم لما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك قوله : ( ولئن قلت ( الآية. الإشارة في قوله : ( إن هذا إلا سحر ( إلى البعث أي هو باطل كبطلان السحر أو إلى القرآن لأنه الناطق بالبعث ، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من العبث. وقال القفال : معناه أنهذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناي عن لذات الدنيا واجذابهم إلى الانقايد لكم الدخول تحت طاعتكم. ومن قرأ الرسول به أخذوا في الاستهزاء وقالوا ما الذي حبسه عنا فقال : ( ولئن أخرنا عنهم ( الآية : والأمة اشتقاقها من الأم وهو القصد المراد بها الوقت المقصود لإيقاع الموعود. وقيل : هي في الأصل الجماعة من الناس وقد يسمى الحين باسم ما يصل فيه كقولك : كنت عند فلان صلاة العصر أي في ذلك الحين. فالمراد إلى حين ينقضي أمة معدودة من الناس. وقال في الكشاف. أي جماعة من الأوقات. والعذاب عذاب الآخرة. وقيل : عذاب يوم بدر. عن ابن عباس : قتل جبريل المستهزئين. ومعنى ) ما يحبسه ( أيّ شيء يمنعه من النزول استعجالاً له على جهة الاستهزاء والتكذيب فأجابهم الله بقوله : ( أَلا يوم يأتيهم ( وهو متعلق بخبر ليس أي ليس العذاب مصروفاً عنهم يوم يأتيهم. واستدل به من جوز تقديم خبر ليس على ليس لأنه إذا جاز تقديم معمول الخبر عليها فتقديم الخبر عليها أولى وإلا لزم للتابع مزية على المتبوع. ثم قال : ( وحاق بهم ( أي أحاط بهم ) ما كانوا به(4/8)
" صفحة رقم 9 "
يستهزؤون ( أراد يستعجلون ولكنه وضع ) يستهزؤون ( موضعه لأن استعجالهم للعذاب كان على وجه الاستهزاء. وإنما قال : ( وحاق ( بلفظ الماضي لأنه جعله كالواقع. ثم حكى ضعف حال الإنسان في حالتي السراء والضراء فقال : ( ولئن أذقنا الإنسان ( الآية. واختلف المفسرون فقيل : الإنسان مطلق بدليل صحة الاستثناء في قوله : ( إلا الذين آمنوا ( ولأن هذا النوع مجبول على الضعف والنقص والعجلة وقلة الثبات. وقيل : المراد الكافر ، والاستثناء منقطع واللام للعهد. وقد مر ذكر الكافر ، ( صلى الله عليه وسلم )
1548 ; ولأن وصف اليأس والكفران والفرح المفرط بالأمور الزائلة والفخر بها لا يليق إلا بالكافر ، وذلك أنه يعتقد أن السبب في حصول تلك النعم من الأمور الاتفاقية ، فإذا زالت استبعد حدوثها مرة أخرى فيقع في اليأس الشديد ، وعند حصولها كان ينسبها إلى الاتفاق فلا يشكر الل بل يكفره ، وإذا انتقل من مكروه إلى محبوب ومن محنة إلى محنة اشتد فرحه بذلك وافتخر بها لذوله عن السعادات الأخروية الروحانية فيظن أنه قد فاز بغاية الأماني ونهاية المقاصد. وأما المؤمن فحاله على العكس ولذلك استحق وعد الله بالمغفرة والأجر الكبير. أما تفسير الألفاظ فالإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم ، وفيه دليل على أن الإِنسان لا يصبر عن أقل القليل ولا عيه ، وفيه أن جميع نعم الدنيا في قلة الاعتبار وسرعة الزوال تشبه حلم النائمين وخيالات المبرسمين. والرحمة والنعمة من صحة أو أمن أو جدة ، ونزعها سلبها واليؤوس والكفور بناءان للمبالغة ، والنعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه ، والضراء مضرة كذلك. قال الواحدي لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حوراء وعوراء. والسيئات يريد بها المصائب التي ساءته. ثم سلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله : ( فلعلك تارك ( قال ابن عباس : إن رؤساء مكة قالوا : إن كنت رسولاً فاجعل لنا جبال مكة ذهباً أو ائتنا بالملائكة ليشهدوا لك فخاطب الله سبحانه نبيه بقوله : ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ( واختلفوا في ذلك البعض فعن ابن عباس أن المشركين قالوا له : ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا. حتى نتبعك ونؤمن بكتابك. وقال الحسن : طلبوا منه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يترك قوله : ( إن الساعة آتية ) [ طه : 15 ] وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول أن يترك بعض ما أوحى الله إيه لأنه ينافي المقصود من الرسالة المعتبر فيها الأمانة ، فأوّلوا الآية بأن أمثال هذه التهديدات لعلها سبب بعدم التقصير في أداء الوحي فلهذا خوطب بها ، أو لعله ( صلى الله عليه وسلم ) بين محذورين : أحدهما ترك أداء شيء من الوحي ، وثانيهما أنهم كانوا يتلقون الوحي بالطعن والاستهزاء ، فنبه بالآية على أن تحمل الضرر الثاني أهون وإذا وقع الإِنسان بين مكروهين وجب أن يختار أسهلهما ، والعربي يقول لغيره إذا أراد أن يزجره : لعلك تفعل كذا أي لا(4/9)
" صفحة رقم 10 "
تفعل. وإنما قال : ( وضائق ( ولم يقل وضيق ) به صدرك ( دلالة على أنه ضيق حادث لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان أفسح الناس صدراً. ومعنى ) أن يقولوا ( مخافة أن يقولوا : ( لولا أنزل ( أي هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نرديه ولا نقترحه ، ثم بين أن حاله مقصور على النذارة لا يتخطاها إلى إنزال المقترحات ، والذي أرسله هو القادر على ذلك حفيظ عليه وعلى كل شيء ، ومن كما لقدرته إنزال القرآن المعجز لدهماء المصاقع وأشار إلى ذلك بقوله : ( أم يقولون ( الآية. وق مر مثله في سورة يونس. عن ابن عباس : السورة العشر هي من أول القرآن إلى ههنا. واعترض عليه بأن هذه السورة مكية وبعض السورة المتقدمة عليها مدنية ، فكيف يمكن أن يشار إلى ما ليس بمنزل بعد. فالأولى أن يقال : إن التحدي وقع بمطلق السور التي تظهر فيها قوة ترتيب الكلام وتأليفه. تحداهم أوّلاً بمجموع القرآن في قوله : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ) [ الإسراء : 88 ] الآية. وبعشر سور في هذه الآية وذلك أن العشرة أول عقد من العقود ، ثم بسورة في يونس وفي البقرة ، وهذا كما يقول الرجل لصاحبه : اكتب كمثل ما أكتب فإذا عجز قال : اكتب عشرة أسطر مثل ما أكتب ، فإذا ظهر عجزه عنه قال في آخر الأمر : قد اقتصرت منك على سطر واحد مثلهن ثم إذا أراد غاية المبالغة قال : قد جوزت لك أن تستعين بكل من تريد فإذا ظهر عجزه حال النفراد وحال الاجتماع والتعاون تبين عجزه عن المعارضة على الإطلاق ولهذا قال : ( فإن لم يستجيبوا ( إلى معارضة القرآن أو إلى الإيمان ) لكم ( أي لك وللمؤمنين لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله من النظم المعجز والاشتمال على العلوم الجمة الظاهرة الغائبة. ومعنى الأمر راجع إلى الثبات أي اثبتوا على ما أنتم عليه من العلم واليقين بشأن القرآن ودوموا على التوحيد الذي استفدتم من القرآن أو دلكم على ذلك عجز آلهتهم عن المعارضة والإعانة. ثم ختم الآية بقوله : ( فهل أنتم مسلمون ( وفيه نوع من التهديد كأنه قيل للمسلمين إذا تبينتم صدق قول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وازددتم بصيرة وطمانينة وجب عليكم الزيادة في الإخلاص والطاعة. وتفسير آخر وهو أن يكون الضمير في ) لم يستجيبوا ( لمن في ) من استطعتم ( والخطاب في ) لكم ( للمشركين ، وكذا في قوله : ( فاعلموا ( وفي ) أنتم ( والمعنى فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المظاهرة لعلمهم بالعجز عنه فاعلموا أنه منزل من عند الله وأن توحيده واجب. ثم رغبهم في أصل الإِسلام وهددهم على تركه بقوله : ( فهل أنتم ( بعد لزوم الحجة ) مسلمون ( ثم أوعد من كانت(4/10)
" صفحة رقم 11 "
همته مقصورة على زينة الحياة الدنيا وكان مائلاً عن الدين جهلاً أو عناداً فقال : ( من كان يريد ( الآية. عن أنس أنهم اليهود والنصارى. وقيل : المنافقون كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول الغنائم فكان ( صلى الله عليه وسلم ) يسهم لهم فيها. وقال الأصم : هم منكرو البعث. وقال آخرون : هي عامة في الكافر والمسلم المرائي. وقال القاضي : المراد من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم ، نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما ينالون من الصحة والكفاف وسائر اللذات المنافع. عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جامع للقرآن فيقال له : ما عملت فيه ؟ فيقول : يا رب قمت فيه آناء الليل والنهار. فيقول الله : كذبت أردت أن يقال فلان قارىء. وقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله ألم أوسع عليك فماذا عملت فيه ؟ فيقول : وصلت الرحم وتصدقت فيقول الله : كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك. ثم يؤتى بمن قتل في سبيل الله فيقول : قاتلت في الجهاد حتى قتلت فيقول الله تعالى : كذبت بل أردت أن يقال فلان جريء. ) قال أبو هريرة : ثم ضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ركبتي وقال : ( يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة ). ( وروي أن أبا هريرة ذكر هذا الحديث عند معاوية فبكى معاوية حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق فقال : صدق الله ورسوله : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ( الآيتان. ثم بين أن بين طالب الدنيا وحدها وبين طالب السعادات الباقية تفاوتاً بيناً فقال : ( أفمن كان ( والمعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كما كان على بينة أي لا يعقبونهم في المنزلة عندا لله ولا يقاربونهم ؟ نظيره إذا أتاك العلماء والجهال فاستأذن الجهال للدخول قبل العلماء فتقول : الجهال ثم العلماء كلا وحاشا تريد أن العلماء ينبغي أن يدخلوا أولاً ثم الجهال. ويمكن أن يقال : التقدير أفمن كان ) على بينة من ربه ( كمن يريد الحياة الدنيا فحذف الخبر للعلم به ومثله ) أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ) [ فاطر : 35 ] ( أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائما ) [ الزمر : 9 ] واعلم أن أول هذه الآية يشتمل على ألفاظ أربعة مجملة : الأول أن هذا الذي وصفه الله بأنه على بينة من هو ؟ الثاني ما المراد بالبينة ؟ الثالث ما معنى يتلوه أهو من التلاوة أم من التلو ؟ الرابع الشاهد من هو ؟ وللمفسرين فيها أقوال : أصحها أن معنى البينة البرهان العقلي الدال على صحة الدين الحق ، والذي هو على البينة مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه ، ومعنى يتلوه يعقبه وتذكير الضمير العائد إلى البينة(4/11)
" صفحة رقم 12 "
بتأويل البيان والبرهان ، والمراد بالشاهد القرآن ومنه أي من الله أو من القرآن المتقدم ذكره في قوله : ( أم يقولون افتراه ( ، ) ومن قبله كتاب موسى ( أي ويتلو ذلك البرهان من قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة حال كونها ) إماماً ( أو أعني إماماً كتاباً مؤتماً به في الدين قدرة فيه ) ورحمة ( ونعمة عظيمة على المنزل إليهم. والحاصل أن المعارف اليقينية وإذا اجتمع على بعض المطالب هذان الأمران واعتضد كل واحد منهما بالآخر كان المطلوب أوثق. ثم إذا توافقت كلمة الأنبياء على صحته بلغ المطلوب غاية القوة والوثوق ، ثم إنه حصل على تقرير صحة هذا الدين هذه الأمور الثلاثة جميعاً : البينة. وهي الدلائل العقلية اليقينية ، والشاهد وهو القرآن المستفاد من الوحي ، وكتاب موسى المشتمل على الشرائع المتقدمة عليه الصالح لاقتداء الخلف به ، وعند اجتماع هذه الأمور لم يبق لطالب الحق المنصف في صحة هذا الدين شك وارتياب. وقيل : أفمن كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، والبينة القرآن ، ويتلوه يقرؤه شاهد هو جبرائيل نزل بأمر الله وقرأ القرآن على محمد أو شاهد من محمد هو لسانه ، أو شاهد من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو صورته ومخايله ، فإن من نظر إليه بعقله تفرس أنه ليس بمجنون ولا وجهه وجه كذاب ولاكاهن. وقيل : الكائن على البينة هم المؤمنون ، والبينة القرآن ، ويتلوه يعقب القرآن شاهد من الله هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو الإنجيل لأنه يعقبه في التصديق والدلالة على المطلوب وإن كان موجداً قبله ، أو ذلك الشاهد كونه القرآن واقعاً على وجه يعرف المتأمل فيه عجازه لاشتماله على فنون الفصاحة وصنوف البلاغة إلى غير ذلك من المزايا التي قلما يخبر عنها إلا الذوق السليم : ثم مدح الكائن على البينة بقوله : ( أولئك يؤمنون به ( أي بالقرآن. ثم أوعد غيرهم بقوله : ( ومن يكفر به من الأحزاب ( يعني أهل مكة ومن انحاز معهم كاليهود والنصارى والمجوس ) فالنار موعده فلا تك في مرية ( في شك ) منه ( من القرآن أو من الموعد ، ولما أبطل بعض عادات الكفرة من شدة حرصهم على الدنيا وذلك قوله : ( من كان يريد الحياة الدنيا ( ومن إنكارهم نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك قوله : ( أفمن كان على بينة ( أراد أن يبطل ما كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها شفعاء تشفع لهم فقال ، ) ومن أظلم (. ثم قال : ( أولئك يعرضون ( لم يحمل عليهم العرض لأنهم مخصوصون بالعرض فإن العرض عام ، ولكن فائدة الحمل ترجع إلى المعطوف. أراد أنهم يعرضون فيفضحون بقول الأشهاد. ومعنى عرضهم على ربهم أنهم يعرضو على الأماكن المعد للحساب. والسؤال أو المراد عرضهم على من(4/12)
" صفحة رقم 13 "
يوبخ ويبكت بأمر الله من الأنبياء والمؤمنين ، أو أراد أنهم يحبسون في المواقف وتعرض أعمالهم على الرب. قال مجاهد : الأشهاد الملائكة والحفظة. وقال قتادة : هم الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد أي الناس. وقيل : هم الأنبياء لقوله : ( ولنسألن المرسلين ) [ الأعراف : 6 ] والأشهاد إما جمع شاهد كصاحب وأصحاب ، أو جمع شهيد كشريف وأشراف. قال أبو علي : وهذا أرجح لكثرة ورود شهيد في القرآن ) ويكون الرسول عليكم شهيدا ) [ البقرة : 143 ] ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) [ النساء : 41 ] والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضحية. وباقي الآية قد مر تفسير مثلها في ) الأعراف (. ) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ( أي لم يكن يمكنهم أن يهربوا من عذابنا لأنه سبحانه قادر على جميع الممكنات ولا تتفاوت قدرته بالنسبة إلى القريب والبعيد والضعيف والقوي. ) وما كان لهم من دون الله من أولياء تنصرهم وتمنعهم من عقابه. جمع تعالى بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم وبين بذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة. وقيل : هذا من كلام الأشهاد والمراد أنه تعالى لو شاء عقابهم في الدنيا لعاقبهم ولكنه أراد إنظارهم وتأخيرهم إلى هذا اليوم ) يضاعف لهم العذاب ( من قبل الكفر والصد أي الضلال والإِضلال. ) ما كانوا يستطيعون السمع ( يريد ما هم عليه في الدنيا من صمم القلوب. وعمى البصائر. ثم إن الأشاعرة قالوا : إن ذلك بتخليق الله تعالى حيث صيرهم عاجزين ممتنعين عن الوقوف على دلائل الحق ، ويوافقه ما روي عن ابن عباس أنه قال : إنه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وذلك قوله : ( ما كانوا يستطيعون ( الآية. وفي الآخرة كما قال : ( يدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) [ القلم : 42 ]. وقالت المعتزلة : المراد استثقالهم لاستماع الحق ونفورهم عنه كقول القائل : هذا الكلام مما لا أستطيع أن أسمعه ، وهذا الشخص لا أستطيع أن أبصره. والمراد بالأولياء الأصنام كأنه قال : الذي سموه أولياء ليسوا في الحقيقة بأولياء. ثم نفى كونهم أولياء بأنهم لا يمسعون ولا يبصرون فكيف يصلحون للولاية ؟ وعلى هذا يكون قوله : ( يضاعف لهم العذاب ( اعتراضاً بوعيد. واعلم أنه سبحانه وصف الكفار في هذه الآيات بصفات كثيرة. الأولى ) ومن أظلم ممن افترى ( الثانية ) أولئك يعرضون ( أي في موقف الذل والهوان. الثالثة بيان الخزي والفضيحة في قوله : ( ويقول الأشهاد ( الرابعة اللعنة عليهم. الخامسة الصد عن سبيل الله. السادسة سعيهم في إلقاء الشبهات وذلك قوله : ( ويبغونها عوجاً ( السابعة كونهم كافرين بالآخرة. الثامنة كونهم عاجزين عن الفرار ) أولئك لم يكونوا (. التاسعة ) وما كان لهم(4/13)
" صفحة رقم 14 "
من دون الله من أولياء (. العاشرة مضاعفة العذاب لهم. الحادية عشرة والثانية عشرة ) ما كانوا يستطيعون ( الآية. الثالثة عشرة ) أولئك الذين خسروا أنفسهم ( وقد مر في ) الأنعام (. الرابعة عشرة ) وضل عنهم ما كانوا يفترون ( وقد سبق في ) يونس (. الخامسة عشرة ) لا جرم ( قال الفراء إنها بمنزلة قولك لا بد ولا محالة ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً. وقال النحويون : ( لا ( حرف فس وجرم أي قطع معناه لا قطع قاطع ) أنهم في الآخرة هم الأخسرون ( وقال الزجاج ) لا ( نفي لما ظنوا أنه ينفعهم و ) جرم ( معناه كسب ، والمعنى لا ينفعهم ذلك وكسب لهم ذلك الفعل خسار الدارين. قال الأزهري : وهذا من أحسن ما قيل في هذه اللفظة قوله في وعد المؤمنين ) وأخبتوا إلى ربهم ( معناه اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع من الخبت وهي الأررض المطمئنة ، وفيه إشارة إلى أن الأعمال لا بد فيها من الأحوال القلبية الموجبة للالتفات عما سوى الله. وقيل : المراد اطمئنانهم وتصديقهم كل ما وعد الله به من الثواب وضده. وقيل : المراد كونهم خائفين من قوع الخلل في بعض تلك الأعمال. ثم ضرب للفريقين مثلاً وهو إما تشبيهان بأن شبههما تارة بالأعمى والبصير وأخرى بالأصم والسميع ، وإما تشبيه واحد والواو لعطف الصفة على الصفة فيكون قد شبه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين البصر والسمع. ولا شك أن الفريق الكافر هو الذي وصفه بالصفات الخمس عشرة ، وأما الفريق المؤمن فقيل : المراد به قوله : ( أفمن كان على بينة ( وقيل : المذكرون في قوله : ( إن الذين آمنوا ( ثم أنكر تساويهما في الأحكام والمراتب بقوله ) هل يستويان مثلاً ( أي تشبيهاً. وفي قوله : ( أفلا تذكرون ( تنبيه على أن علاج هذا العمى وهذا الصمم ممكن بتبديل الأخلاق وتغيير الأحوال بتيسير الله تعالى وتوفيقه. التأويل : ( آلر ( إشارة إلى الله ، واللام إلى جبرائيل ، والراء إلى الرسول. يعني ما أنزل الله على لسان جبرائيل إلى الرسول كتاب مبين من لدن حكيم خبير كقوله : ( وعلمناه من لدنا ) [ الكهف : 65 ] ورأس العلم اللدني أن تقول لأمتك يا محمد ) أن لا تعبدوا إلا الله وأن استغفروا ربكم ( مما ضاع من عمركم في غير طلب الله ) ثم توبوا ( ارجعوا ) إليه ( بقدم السلوك لتكون التوبة تحلية لكم بعد التزكية بالاستغفار. ) يمتعكم متاعاً حسناً ( هو الترقي في المقامات العلية ) إلى أجل مسمى ( هو حين انقضاء المقامات وابتداء درجات الوصول ) ويؤت كل ذي فضل فضله ( أي يؤت كل ذي صدق واجتهاد في الطلب درجات الوصول ، فإن المشاهدات بقدر المجاهدات. والحاصل أن المتاع الحسن في مراتب السير إلى الله وإيتاء الفضل في درجات السير في الله. ) عذاب يوم كبير ( هو عذاب الانقطاع(4/14)
" صفحة رقم 15 "
عن الله الكبير ) ألا حين يستغشون ( ثياب الجسمية على وجه الروح كان ) يعلم ما يسرون ( من حرمان النور المرشش ومن نقص الحرمان تحت ثياب القالب ) وما يعلنون ( من ثني الصدور ) إنه عليم بذات الصدور ( أي بما في الصدور من القلوب الظلمانية. ) وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ( لأن كل حيوان له صفة مخصوصة ومزاج مخصوص وغذاؤه يجب أن يكون ملائماً لمزاجه. فعلى ذمة كرم الله أنه كما خلق أجسادها على الأمزجة المتعينة يخلق غذاءها موافقاً لمزاج كل منها ، ثم يهديها إلىما هو أوفق لها ) ويعلم مستقرها ( في العدم كيف قدرها مستعدة للصور المختصة بها ) ومستودعها ( الذي تؤول إليه عند ظهور ما فيها بالقوة إلى الفعل. ) ليبلوكم ( فإن العالم بما فيه محل الابتلاء ومحك السعداء والأشقاء. ) ولئن قلت ( للأشقياء موتوا عن الطبيعة باستعمال الشريعة ومزاولة الطريق لتحيوا بالحقيقة فإن الحياة الحقيقية تكون بعد الموت عن الحياة الطبيعية ) ليقولن الذين كفروا ( ستروا حسن استعدادهم الفطري بتعلق الشهوات الفانية ) إن هذا إلا سحر مبين ( أي كلام مموه لا أصل له. ) ولئن أخرنا عنهم ( عذاب البعد ) إلى أمة ( إلى حين ظهور ذوق العذاب فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. ( هود : ( 25 - 49 ) ولقد أرسلنا نوحا . . . .
" ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من(4/15)
" صفحة رقم 16 "
قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين "
( القراآت )
إني لكم ( بكسر الهمزة : نافع وابن عامر وعاصم وحمزة. الآخرون بفتحها ) بادىء ( بالهمزة : أبو عمرو ونصير. ) الرأي ( بالياء : أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الموقف ) فعميت ( مجهولاً مشدداً. حمزة وعلي وخلف وحفص. الباقون بضدهما ) أنلزمكموها ( باختلاس ضمة الميم : عباس ) أجري إلا ( بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص ) ولكني أريكم ( بالفتح حيث كان : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) نصحي إن ( أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) بأعيننا ( مدغماً. حيث كان : عباس ) من كل ( بالتنوين حيث كان : حفص والمفضل ) مجريها ( بفتح الميم بالإِمالة : حمزة وعلي وخلف وحفص ) اركب معنا ( مظهراً : عاصم وحمزة ) عمل ( على أنه فعل غير بالنصب : علي وسهل ويعقوب. الآخرون ) عمل ( غير بالرفع فيهما ) تسألن ( بالنون المشددة المسكورة لإدغام النون المخففة في نون الوقاية بعد حذف ياء المتكلم في(4/16)
" صفحة رقم 17 "
الحالين : ابن عامر وقالون : بإثبات الياء في الوصل : أبو جعفر ونافع غي قالون بفتح النون المشددة : ابن كثير ) تسألني ( بغير نون التأكيد وإثبات الياء في الحالين سهل ويعقوب الباقون بغير يا في الحالين ) إني أعظك ( ) إني أعوذ ( بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو. الوقوف : ( مبين ( ه لا ) إلا الله ( ط ) أليم ( ه ) الرأي ( ج ) كاذبين ( ه ) فعيمت عليكم ( ط ) كارهون ( ه ) مالاً ( ط ) آمنوا ( ط ) تجهلون ( ه ) طردتهم ( ط ) تذكرون ( ه ) خيراً ( ط ) أنفسهم ( ج ) الظالمين ( ه ) الصادقين ( ه ) بمعجزين ( ه ) أن يغويكم ( ط ) ترجعون ( ه ط ) افتراه ( ط ) تجرمون ( ه ) يفعلون ( ه ج للآية والعطف ) ظلموا ( ج لا حتمال التعليل. ) مغرقون ( ه ) سخروا منه ( ه ) تسخرون ( ه ط ) تعلمون ( ه لا لأن ما بعده مفعول ) مقيم ( ه ) التنور ( ه لا لأن ما بعده جواب ( إذا ) ) ومن آمن ( ط ) قليل ( ه ط ) ومرساها ( ط ) رحيم ( ه ) الكافرين ( ه ) من الماء ( ط ، ) رحم ( ج لاتفاق الجملتين مع اختلاف العامل. ) المغرقين ( ه ) الظالمين ( ه. ) الحاكمين ( ه ) من أهلك ( ج ) علم ( ط ) الجاهلين ( ه ) علم ( ط ) الخاسرين ( ه ) معك ( ط ) أليم ( ه ) إليك ( ج ط لاحتمال ما بعده الحال أو الاستئناف ) هذا ( ط وعلى قوله : ( فاصبر ( أحسن للابتداء ب ( أن ) ) للمتقين ( ه. التفسير : لما أورد على الكفار أنواع الدلائل أكدها بالقصص على عادته من التفنن في الكلام والنقل من أسلوب إلى أسلوب في الموعظة فبدأ بقصة نوح. ومعنى ) إني لكم ( أي متلبساً بهذا الكلام وهو قوله : ( إني لكم ( فلما اتصل به الجار فتح ومن كسر فعلى إرادة القول. و ) أن لا تبعدوا ( بدل من ) إني لكم نذير ( أي أرسلناه بأن لا تعبدوا ) إلا الله ( أو يكون ( أن ) مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير. ووصف اليوم بأليم لوقوع الألم فيه فيكون مجازاً. وكذا لو جعل الوصف للعذاب والجر بالجوار. ثم حكى أنه طعن أشراف قومه في نبوته من ثلاث جهات. الأولى أنه بشر مثلهم. الثانية أنه لم يتبعه إلا الأراذل يعنون أصحاب الحرف الخسيسة كالحياكة وغيرها قالوا : لو كنت صادقاً لاتبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم. والأراذل جمع أرذل. وقيل : جمع الأرذال جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته. ومعنى ) بادي الرأي ( أول الرأي وهو نصب على الظرف أي اتبعك في ابتداء حدوث الرأي من غير روية ، أو معناه ظاهر الرأي من قولك بدا الشيء إذا ظهر ، ومنه البادية للبرية لظهروها وبروزها للناظر. وهذا تفسير من(4/17)
" صفحة رقم 18 "
قرأ بغير همز. وعلى هذا فالمراد أنهم اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه ، أو اتبعوك وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يتعلق ) بادي الرأي ( بقوله : ( أراذلنا ( أي كونهم كذلك أمر ظاهر لكل من يراهم عياناً ، ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه قرأ ) إلا الذين هم أراذلنا رأي العين ( وإنما استرذلوا المؤمنين لاعتقادهم أن المزية عند الله سبحانه بالمال والجاه ولم يعلموا أن ذلك مبعد من الحق لا مقرب منه ، وأن الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف يجعل قلة المال طعناً في النبوة وفي متابعة النبي. الشبهة الثالثة : ( وما نرى لكم علينا من فضل ( لا في العقل ولا في كيفية رعاية المصالح ولا في قوة الجدل ) بل نظنكم كاذبين ( خطاب لنوح ولم نآمن به بتبعيته ، أو خطاب للأراذل كأنهم نسبوهم إلى الكذب في ادعاء الإيمان. ثم حكى ما أجاب به نوح قومه وهو أن حصول المساواة في صفة البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة وذلك قوله : ( أرأيتم إن كنت على بينة ( برهان ) من ربي وآتاني ( بإيتاء تلك البينة ) رحمة ( وعلى هذا البينة هي الرحمة ، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة وبالرحمة النبوة وقيل بالعكس ) فعيمت ( خفيت أو أخفيت البينة أو كل من البينة والرحمة أي صارت مظلمة مشتبهة في عقولكم. والبينة توصف بالإبصار والعمى مجازاً باعتبار نتيجتها كما أن دليل القوم إن كان بصيراً اهتدوا وإن كان أعمى بقول خابطين متحيرين. ثم قال : ( أنلزمكموها ( أي أنكرهكم على قبول البينة ) وأنتم لها كارهون ( والمراد أنا لا نقدر على إيصال حقيقة البينة إليك. وإنما يقدر على ذلك من هو قادر على الإيجاد والإعدام وتغيير الأحوال وتبديل الأخلاق. ثم ذكر أنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالاً حتى يتفاوت الحال بسبب كون المجيب غنياً أو فقيراً ) وما أنا بطارد الذين آمنوا ( عن ابن جريج أنهم قالوا : إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم ، فلم يبذل ملتمسهم وعلل ذلك بقوله ) إنهم ملاقو ربهم ( فيعاقب من يطردهم أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من الإيمان الصحيح أو النفاق بزعمكم ، أو المراد أنهم متقدون لقاء ربهم ) ولكني أراكم قوماً تجهلون ( لقاء ربكم وأنهم خير منكم ، أو قوماً تسفهون حيث تسمون المؤمنين أراذلنا. ثم أكد عدم طردهم بقوله : ( ويا قوم من ينصرني من الله ( من يمنعني من عقابه ) إن طردتهم ( لأن العقل والشرع توافقا على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر المتقي ومن إهانة الكافر الفاجر فكيف يليق بنبي الله أن يقلب هذه القضية. سؤال : إن كان طرد المؤمن لطلب مرضاة الكافر معصية فكيف فعل ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى نهي عنه بقوله : ( ولا(4/18)
" صفحة رقم 19 "
تطرد الذين يدعون ربهم ( ؟ الجواب أنه لم يكن ذلك طرداً مطلقاً وإنما عين لأجلهم أوقاتاً مخصوصة ، ولأشراف قريش أوقاتاً أخرى فعوتب على ذلك القدر. احتجت المعتزلة بالآية على عدم الشفاعة للفاسق إذ لو كانت جائزة لكانت في حق نوح أولى ، فلم يقل من الذي يخلصني من عذابه. وأجيب بأنه مخصوص بآيات العفو. ثم ذكر أنه كما لا يسألهم مالاً فإنه لا يدعي أن عنده خزائن الله حتى يجحدوا أن له فضلاً عليهم من هذه الجهة. ) ولا أعلم الغيب ( حتى أصل به إلى ما أريده لنفسي ولأتباعي وأطلع على الضمائر ) ولا أقول إني ملك ( أتعظم بذلك عليكم بل طريقي الخضوع والتواضع وعدم الاستنكاف عن مخالطة الفقراء وقد مر في ( الأنعام ) سائر ما يتعلق بالآية. ومعنى ) تزدري ( تعيب وتحقر والازدراء افتعال من زرى عليه إذا عابه. وفي قوله تعالى ) الله أعلم بما في أنفسهم ( دلالة على أنهم كانا ينسبون اتباعه مع الفقر والذلة إلى النفاق ) إني إذا ( أي إن قلت شيئاً من ذلك كنت من الظالمين لنفسي. أو إن قلت إن الله لن يؤتيهم خيراً مع أنه لا وقوف لي على باطنهم. ثم إن قومه وصفوه بكثرة الجدال قائلين ) يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ( قال أهل المعاني : أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته كقوله : جاد لي فلان فأكثر. لم ترد أنه أعطى عطيتين أقل فأكثر بل تريد أن الوصف مقارن للموصوف. وفي الآية دلالة على أن الجدال في تقرير دلائل التوحيد من دأب أكابر الأنبياء. ثم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به فأجباب نبي الله بأن ذلك ليس إليّ وإنما هو بمشيئة الله وإرادته ولا يعجزه عن ذلك أحد. وقوله : ( ولا ينفعكم نصحي ( كقول القائل لامرأته : أنت طالق إن دخلت الدار إن أكلت الخبز لم يقع الطلاق إلا إذا دخل الدار فأكل الخبز. ولهذا قال الفقهاء : المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى فكأنه قيل : ( إن كان الله يريد أن يغويكم ( فإن أردت أن أنصح لكم لم ينفعكم نصحي. واحتجاج الأشاعرة بالآية ظاهر. وأجابت المعتزلة بأنه لا يلزم من فرض أمر وقوعه ، ولعل نوحاً إنا قال ذلك ليبين لهم أنه تعالى بنى أمر التكليف على الاختيار وإلا لم يكن للنصح فائدة ، ولو تشبث الخصم بالجبر لزم إفحام النبي. ومن الجائز أن يراد بالإغواء التعذيب من غوى الفصيل إذا بشم فهلك ، أو يراد به الخيبة كقوله : ( فسوف يلقون غياً ) [ مريم : 59 ] أي خيبة من خير الآخرة ، أو يراد به منع الألطاف وقد تقدم أمثال ذلك مراراً. ثم أشار إلى المبدإ والمعاد بقوله : ( هو ربكم وإليه ترجعون ( ثم أنكر الله سبحانه عليهم قولهم إنما ادعاء نوح أنه أوحي إليه مفترى فقال : ( أم يقولون افتراه ( فأمره بأن يجيب بكلام منصف وهو قوله : ( قل إن افتريته فعليّ إجرامي ( أي عقاب إثمي وهو الافتراء. ) وأنا بريء مما تجرمون ( أي من(4/19)
" صفحة رقم 20 "
إجرامكم وهو إسناد الافتراء إليّ وههنا إضمار كأنه قيل : لكني ما افتريته فالإجرام وعقابه عليكم وأنا بريء منه. وأكثر المفسرين على أن هذه الآية من تمام قصة نوح. وعن مقاتل أنها من قصة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقعت في أثناء قصة نوح. قوله سبحانه : ( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن ( إقناط له من إيمانهم الذي كان يتوقعه منهم بدليل قوله : ( إلا من قد آمن ( فإن ( قد ) للتوقع. وقوله : ( فلا تبتئس ( تسلية له أي لا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك فقد حان وقت الانتقام منهم. قال أكثر المعتزلة : إنه لا يجوز أن ينزل الله عذاب الاستئصال على قوم يعلم أن فيهم من يؤمن أو في أولادهم من يؤمن بدليل دعاء نوح ) رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ( إلى قوله : ( إلا فاجراً كفاراً ) [ نوح : 27 ] علل الإهلاك بمجموع الأمرين فدل ذلك على أنهما لو لم يحصلا لم يجز الإهلاك. وذهب كثير منهم إلى الجواز ، فليس كل خبر معلوم بواجب الوقوع نعم كلما يقع يجب أن يكون على الوجه الأصلح. ومذهب الأشاعرة في هذا المعنى ظاهر فله أن يفعل في ملكه ما شاء. ثم عرفه وجه إهلاكهم وألهمه وجه خلاص من آمن فقال : ( واصنع الفلك ( وهو أمر إيجاب على الأظهر لأنه لا سبيل إلى صون روحه عن الهلاك في الطوفان إلا بذلك ، وصون النفس واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقيل : أمر إباحة كمن أمر أن يتخذ الإنسان لنفسه داراً يسكنها. والإنصاف أن الأمر ظاهره الوجوب وإن قطعنا النظر عن فائدته وغايته. وقوله : ( بأعيننا ووحينا ( في موضع الحال أي متلبساً بذلك. والسبب فيه أن إقدامه على صنعة السفينة مشروط بأمرين : أحدهما أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل وأشار إليه بقوله : ( بأعيننا ( وليست العين بمعنى الجارحة لأنه منزه عن الجوارح والأعضاء فالمراد بها الحفظ والحياطة والكلاءة لأن العين آلة الحفظ والحراسة. والثاني أن يكون عالماً بكيفية تركيب الأخشاب ونحتها. عن ابن عباس : لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر. وقيل : المراد عين الملك الذي كان يعرّفه كيفية اتخاذ السفينة. ثم قال : ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا ( أي في شأنهم. وقيل : علل عدم الخطاب بقوله : ( إنهم مغرقون ( أي إنهم محكوم عليهم بالإغراق وقد جف القلم عليهم بذلك فلا فائدة للشفاعة. وقيل : لا تخاطبني في تعجيل عقابهم فإنهم يغرقون في الوقت المعين لذلك فلا فائدة في الاستعجال فلكل أمة أجل. وقيل : المراد بالذين ظلموا امرأته واعلة وكنعان ابنه. ثم حكى الحال الماضية بقوله : ( ويصنع الفلك ( الحال أنه ) كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ( يحتمل أن يكون هذا جواباً ل ( كلما ) وقوله : ( قال إن تسخروا ( استئناف(4/20)
" صفحة رقم 21 "
على تقدير سؤال سائل كأنه قيل : ماذا قال حينئذٍ ؟ ويحتمل أن يكون ) سخروا ( بدلاً من ) مر ( أو صفة ل ) ملأ ( و ) قال ( جواب ) قيل ( كانوا يقولون : يا نوحكنت نبياً فصرت نجاراً ، ولو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق. وقيل : إنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك فكانوا يتعجبون ويسخرون. وقيل : إنها كانت كبيرة وكان يصنعها في مفازة بعيدة عن الماء فكانوا يقولون هذا من باب الجنون. وقيل : طالت مدته وكان ينذرهم الغرق في الدنيا ولاحرق في الآخرة وليس منه عين ولا أثر فغلب على ظنونهم كونه كاذباً فيسخرون منه فأجابهم بقوله : ( إن تسخروا منا ( في الحال ) فإنا نسخر منكم ( في المستقبل إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. أو إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله ، أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم لأنكم لا تستجهلون إلا عن الجهل بحقيقة الأمر. والبناء على ظاهر الحال كما هو عدة الإغمار. وسمي جزاء السخرية سخرية كقوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] ثم هددهم بقوله : ( فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ( من الدنيا وهو عذاب الغرق ) ويحل عليه عذاب مقيم ( في الآخرة لازم لزوم الدين الحال للغريم. و ( من ) موصولة أو استفهامية وقد مر في ( الأنعام ). وري أن نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين وكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعاً وارتفاعها ثلاثين. وكانت من خشب الساج ، وجعل لها ثلاثة بطون : الأسفل للوحوش والسباع والهوام ، والأوسط للدواب والأنعام ، والأعلى للناس ولما يحتاجون إليه من الزد وحمل معه جسد آدم. وقال الحسن : كان طولها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة. قوله : ( حتى إذا جاء أمرنا ( هي غاية لقوله : ( ويصنع الفلك ( أي كان يصنعها إلى أن جاء وقت الأمر بالإهلاك. ) وفار التنور ( أي نبع الماء من بشدة وسرعة تشبيهاً بغليان القدر. والتنور هي التي يختبز فيها فقيل : هو ما استوى فيه العربي والعجمي. وقيل : معرب لأنه لا يعرف في كلام العرب نون قبل راء. عن ابن عباس والحسن ومجاهد : هو تنور نوح. وقيل : كان لآدم وحواء حتى صار لنوح وموضعه بناحية الكوفة قاله مجاهد والشعبي. وعن علي رضي الله عنه أنه في مسجد الكوفة وقد صلى فيه سبعون نبياً. وقيل : بالشام بموضع يقال له عين وردة قاله مقاتل. وقيل : بالهند. روي أن امرأته كانت تخبز فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في تلك الحال بوضع الأشياء في السفينة وكان الله تعالى جعل هذه الحالة علامة لواقعة الطوفان. ويروى عن علي رضي الله عنه(4/21)
" صفحة رقم 22 "
أيضاً أن المراد بالتنور وجه الأرض لقوله : ( وفجرنا الأرض عيوناً ) [ القمر : 12 ] وعنه أيضاً كرم الله وجهه أن معنى ) فار التنور ( طلع الصبح. وقيل : معناه اشتد الأمر كما يقال حي الوطيس. والمراد إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فاركب في السفينة وذلك قوله ) قلا احمل فيها من كل زوجين اثنين ( والزوجان شيئان يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى. فمن قرأ بالإضافة فمعناه احمل من كل صنفين بهذا الوصف اثنين ، ومن قرأ بالتنوين. فالمراد حمل من كل شيء زوجين. واثنين للتأكيد ولا يبعد أن يكون النبات داخلاً فيه لاحتياج الناس إليه ) وأهلك ( معطوف على مفعول ) احمل ( وكذا ) من آمن ( وقوله ( إلا من سبق عليه القول ( قال الضحاك : أراد ابنه وامرأته قدر الله لهما الكفر إذا علم منهما ذلك. ثم قال ) وما آمن معه إلا قليل ( أي نفر قليل : عن مقاتل أنهم ثمانون وبهم سموا قرية الثمانين بناحة الموصل لأنهم لما خرجا من السفينة بنوها. وقيل : اثنان وسبعون رجلاً وامرأة ، وأولاد نوح : سام وحام ويافث ونساؤهم. فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء. وعن محمد بن إسحاق كانوا عشرة ، وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا ثمانية ، نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم. وقيل في بعض الروايات : إن إبليس دخل معه السفينة وفيه بعد لأنه جسم ناري فلا يؤثر الغرق فيه. قوله سبحانه وتعالى حكاية عن نوح وأهله ) وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها ( الآية. فيه أبحاث الأول : أن الركوب متعد بنفسه يقال : ركبت الدابة والبحر والسفينة أي علوتها. فما الفائدة في زيادة لفظة ( في ) ؟ قال الواحدي : فائدته أن يعلم أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهره. الثاني قوله : ( بسم الله ( إما أن تتعلق بقوله : ( اركبوا ( حالاً من الواو أي مسمين الله ، أو قائلين باسم الله ) ومجريها ومرسيها ( مصدران حذف منهما الوقت المضاف كقولهم : جئتك خفوق النجم ومقدم الحاج ، أو يراد مكان الإجراء والإرساء أو زمانها. وانتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل ، أو بالقول المقدر. وعلى التقادير يكون مجموع قوله : ( وقال اركبوا ( إلى قوله : ( ومرساها ( كلاماً ترسوا قال بسم الله فرست. ويجوز أن يقحم الاسم كقوله : تم اسم السلام عليكما ، وإذا أراد أن بالله إجراؤها وإرساؤها ، وكان نوح أمرهم بالركوب أوّلاً ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. وجوز في الكشاف أن تكون هذه الجملة في موضع الحال من ضمير الفلك ولا تكون جملة مستأنفة ولكن فضلة من تتمة الكلام الأول كأنه قال اركبوا(4/22)
" صفحة رقم 23 "
فيها مقدرين أن إجراءها وإرساءها باسم لله تعالى. يقال : رسا الشيء يرسو إذا ثبت ، وأرساه غيره. يروى أنا سارت لأول يوم من رجب أو لعشر مضين منه فسارت ستة أشهر ثم استوت على الجودي يوم العاشر من المحرم. ويروى أنها مرت بالبيت وطافت به سبعاً فأعقتها الله من الغرق. البحث الثالث قوله : ( إن ربي لغفور رحيم ( كيف ناسب مقام الإهلاك وإظهار العزة ؟ والجواب كان القوم اعتقدوا أنهم نجوا ببركة إيمانهم وعملهم ، فنبههم الله تعالى بهذا الذكر على أن الإنسان في كل حال من أحواله لا ينفك عن ظلمات الخطأ والزلل فيحتاج إلى مغفرة الله ورحمته. وفي الآية إشارة إلى أن العاقل إذ ركب في سفينة الفكر ينبغي أن يكون قد برىء من حوله وقوته وقطع النظر عن الأسباب وربط قلبه وعلق همته بفضل واهب العقل بلسان الحال بسم الله مجريها ومرسيها حتى تصل سفينة فكره إلى ساحل الإيقان ، وتتخلص عن أمواج الشبه والظنون والأوهام. قال في الكشاف : ( وهي تجري بهم ( متصل بمحذوف كأنه قيل : فركبوا فيها يقولون باسم الله وهي تجري بهم وهم فيها ) في موج كالجبال ( في التراكم والارتفاع ، فلعل الأمواج أحاطت بالسفينة من الجوانب فصارت كأنها في داخل تلك الأمواج. واختلف المفسرون في قوله : ( ونادى نوح ابنه ( فالأكثرون على أنه ابن له في الحقيقة لئلا يلزم صرف الكلام عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة ، ولا استبعاد في كون ولد النبي كافراً كعكسه. واعترض عل هذا القول بأنه كيف ناداه مع كفره وقد قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ) [ نوح : 26 ] وأجيب بأنه كان منافقاً وظن نوح أنه مؤمن أو ظن أنه كافر إلا أنه توقع منه الإيمان عند مشاهدة العذاب بدليل قوله : ( ولا تكن مع الكافرين ( أو لعل شفقة الأبوة حملته على ذلك النداء. وعن محمد بن علي الباقر والحسن البصري أنه كان ابن امرأته ويؤيده ما روي أن علياً رضي الله عنه قرأ ) ونادى نوح ابنها ( ويؤكد هذا الظن قوله : ( إن ابني من أهلي ( دون أن يقول ( إنه مني ) وقيل : إنه ولد على فراشه لغير رشده وإليه الإشارة بقوله تعالى ) فخانتاهما ) [ التحريم : 10 ] ورد هذا القول بأنه يجب صون منصب الأنبياء عن مثل هذه الفضيحة لقوله : ( الخبيثات للخبيثين ) [ النور : 26 ] وفسر ابن عباس تلك الخيانة بأن امرأة نوح كانت تقول زوي مجنون. وامرأة لوط دلت الناس على ضيفه. وقوله : ( وكان في معزل ( هو مفعل من عزله عنه إذا نحاه أو أبعده أي كان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن السفينة وعمن فيها ، أو كان في معزل عن دين أبيه. وقيل في معزل عن الكفار ولهذا ظن نوح أنه يريد مفارقة الكفرة ، ولكن قوله : ( ولا تكن مع الكافرين ( لا يساعد هذا القول. وقوله ( يا بني ( بكسر الياء(4/23)
" صفحة رقم 24 "
لأجل الاكتفاء به عن ياء الإضافة ، وبفتحها اكتفاء به عن الألف المبدلة من الياء ، ويجوز أن يكون الياء والألف ساقطتين من اللفظ فقط لالتقاء الساكنين. ثم حكى إصرار ابنه على الكفر بأن قال ) سآوي إلى جبل ( فأجاب نوح بأنه ) لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ( واعترض عليه بأن معنى ) من رحم ( من رحمه الله وهو معصوم فكيف يصح استثناؤه من العاصم ؟ وأجيب بأن ( من ) فاعلة في المعنى لا مفعول ، والمراد نو ح لأنه سبب الرحمة والنجاة كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام ، أو الرحيم الذي مر ذكره في قوله : ( إن ربي لغفور رحيم ( وهو عاصم لا معصوم ، أو هو استثناء مفرغ والتقدير لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا لمن رحم ، أو العاصم بمعنى ذو العصمة مفرغ والتقدير لا وذو العصمة المعصوم أو المضاف محذوف والتقدير لا عاصم قط إلا مكان من رحمهم الله ونجاهم يعني السفينة ، أو هو استثناء منقطع كأنه قيل : ولكن من رحمه الله فهو المعصوم ) وحال بينهما الموج ( أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح فصار من جملة الغرقى. وقوله سبحانه : ( وقيل يأرض ( الآية. مما اختص بمزيد البلاغة حتى صارت متداولة بين علماء المعاني فتكلموا فيها وفي وجوه محاسنها فلا علينا أن نورد ههنا بعض ما استفدنا منهم فنقول : النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني ، ومن جهتي الفصاحتين المعنوية واللفظية. أما من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز الاستعارة والكناية وما يتصل بها. فالقول فيه أنه عز سلطانه أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض ، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاؤه وإغراق قومه كما وعدناه فقضي ، وأن تستوي السفينة على الجودي - وهو جبل بقرب الموصل - فاستوت ، وأبقينا الظلمة غرقى ، فبنى الكلام على تشبيه الأرض والسماء بالمأمور الذي لا يتأتى منه - لكمال هيبته - العصيان ، وعلى تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود تصويراً لاقتداره ، وأن السماء والأرض مع عظم جرمهما تابعتان لإرادته وإعداماً وتغييراً وتصريفاً كأنهما عقلاء مميزون قد أحاطا علماً يوجب الامتثال والإذعان لخالقهما ، فاستعمل ) قيل ( بدل ( أريد ) مجازاً إطلاقاً للمسبب على السبب ، فإن صدور القول إنما يكون بعد إرادته. وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد بقوله : ( يا أرض ابلعي ماءَك ويا سماء ( والخطابان أيضاً على سبيل الاستعارة للشبه المذكور وهو كون السماء والأرض كالمأمورين المنقادين. وأيضاً(4/24)
" صفحة رقم 25 "
استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال القوة الجاذبة في الطعوم للشبه بين الغور والبلع وهو الذهاب إلى مقر خفيّ. ووجعل قرينة الاستعارة نسبه الفعل إلى المفعول ، وفي جعل الماء مكان الغذاء أيضاً استعارة لأنه شبه الماء بالغذاء لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوّي الآكل بالطعام ، وجع لقرينة الاستعارة لفظة ) ابلعي ( لكونها موضعة للاستعمال في الغذاء دون الماء. ثم أمر الجماد على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره وخاطب في الأمر دون أن يقول ليبلع ترشيحاً لاستعارة النداء إذ كونه مخاطباً من صفات الحي كما أن كونه منادى من صفاته ثم قال ) ماءك ( بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيهاً لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك. واختار ضمير الخطاب دون أن يقول ( ليبلع ماؤها ) لأجل الترشيح المذكور. ثم اختار مستعيراً لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في لمثل ما تقدم في ) ابلعي ( من ترشيح استعارة النداء. ثم قال ) وغيض الماء ( غاض الماء قل ونضب ، وغاضه الله يتعدى ولا يتعدى ) قضى الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً ( فلم يصرح بالفاعل سلوكاً لسبيل الكناية لأن هذه الأمور لا تتأتى إلا من قدير قهار فلا مجال لذهاب الوهم إلى غيره ، ومثله في صدر الآية ليستدل من ذكر الفعل وهو اللازم على الفاعل وهو الملزوم وهذا شأن الكناية ، ثم ختم الكلام بالتعرض لأنه ينبىء عن الظلم المطلق وعن علة قيام الطوفان. وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة منها ، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها ، فذلك أنه اختير ( يا للنداء لأنها أكثر استعمالاً ولدلالتها على تبعيد المنادى الذي يستدعيه مقام العزة والهيبة ، ولهذا لم يقل ) يا أرضي ( بالإضافة تهاوناً بالمنادى ، ولم يقل ) يا أيتها الأرض ( للاختصار مع الاحتراز عن تكلفة التنبيه لمن ليس من شأنه التنبيه. واختير لفظ الأرض والسماء لكثرة دورانهما مع قصد المطابقة ، واختير ) ابلعي ( على ) ابتلعي ( لكونه أخصر ولمجيء حظ التجانس بينه وبين ) أقلعي ( أوفر. وقيل : ( ماءك ( بلفظ المفرد لما في الجمع من الاستكثار المتأتي عنه مقام العزة والاقتدار ، وكذا في إفراد الأرض والسماء. ولم يحذف مفعول ) ابلعي ( لئلا يلزم تعميم ) أقلعي ( حذراً من التطويل. وإنما لم يقل ) ابلعي ماءك فبلعت ( لأن عدم تخلف المأمور به عن أمر الآمر المطاع معلوم. واختير ) غيض ( على غيض المشددة للاختصار ولمثل هذا عرف الماء والأمر دون أن يقال ماء الطوفان ، أو أمر نوح للاستغناء عن الإضافة(4/25)
" صفحة رقم 26 "
بالتعريف العهدي ولم يقل سويت لتناسب أول القصة وهي تجري بهم من بناء الفعل للفاعل ، ولأن ) استوت ( أخصر لسقوط همزة الوصل. ثم قيل : ( بعداً للقوم ( دون أن يقال ) ليبعد القوم من بعد ( بالكسر يبعد بالفتح إذا هلك ، للتأكيد مع الاختصار ودلالة ) لام ( الملك على أن البعد حق لهم. وقول القائل ) بعداً له ( من المصادر التي لا يستعمل إظهار فعلها. ثم أطلق الظلم ليتناول ظلم أنفسهم وظلمهم غيرهم. وأما ترتيب الجمل فقدم النداء على الأمر ليتمكن الأمر الوارد عقيب النداء كما في نداء الحي ، وقدم نداء الأرض لابتداء الطوفان منها بدليل قوله : ( وفار التنور ( ثم بين نتيجة البلع والإقلاع بقوله : ( وغيض الماء ( ثم ذكر مقصود القصة وهو قوله ) وقضي الأمر ( أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء المؤمنين. ثم بين حال استقرار السفينة بقوله : ( واستوت على الجودي ( وكان جبلاً منخفضاً فكان استواء السفينة عليه دليلاً على انقطاع مادة الماء. ثم ختمت القصة بما ختمت من التعريض. قيل : كيف يليق بحكمة الله تغريق الأطفال بسبب أجرام الكفار ؟ وأجيب على أصول الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل ، وعلى أصول المعتزلة بأنه يعوض الأطفال والحيوانات كما في ذبحها واستعمالها في الأعمال الشاقة. وقد روى جمع من المفسرين أنه سبحانه أقعم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ أربعين. وهذا مع تكلفه لا يتمسى في الجواب عن إهلاك سائر الحيوانات. والظاهر أن القائل في قوله : ( وقيل بعداً ( هو الله تعالى لتناسب صدر الآية ، ويحتمل أن يكون القائل نوحاً وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع القوم الظلمة أنه يقول مثل هذا الكلام ، ولأنه جارٍ مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق. وأما النظر في الآية من جهة الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف ، وتأدية المرا بأبلغ وجه وأتمه. وأما من جهة الفصاحة اللفظية فهي كالعسل في الحلاوة ، وكالنسيم في الرقة عذبه على العذبات سلسة على الأسلات ، ولعل ما تركنا من لطائف هذه الآية بل كل آية أكثر مما نذكر والله تعالى أعلم بمراده من كلامه. ) ونادى نوح ربه ( أي أراد أن يدعوه ) فقال رب إن ابني من أهلي ( بعض سواء كان من صلبه أو ببياً له ) وإن وعدك ( أي كل ما تعد به ) الحق ( الثابت الذي لا شك في إنجازه وقد وعدتني أن تنجي أهلي ) وأنت أحكم الحاكمين ( أعلمهم وأعدلهم لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل ، ويجوز أن يكون الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدراع. ) قال يا نوح إنه ليس من أهلك ( أي من أهلك دينك أو من أهلك الذين وعدتهم الإنجاء معك. ثم صرح(4/26)
" صفحة رقم 27 "
بأن العبرة بقرابة الدين والعمل الصالح لا بقرابة النسب فقال : ( إنه عمل غير صالح ( من قرأ على لفظ الفعل فمعناه أنه عمل عملاً غير صالح وهو الإشراك والتكذيب ، ومن قرأ على لفظ الاسم فللمبالغة كما يقال : فلان كرم وجود إذا غلب عليه الكرم والجود وفي قوله : ( غير صالح ( دون أن يقول ) فاسد ( تعريض بل تصريح أنه إنما نجا من نجا بالصلاح ، ويحتمل على هذه القراءة أن يعود الضمير في ) إنه ( إلى سؤال نوح أي إن نداءك هذا المتضمن لسؤال إنجاء ابنك عمل غير صالح. وقيل : المراد أن هذا الابن ولد زنا وقد عرفت سقوطه. ثم نهاه عن مثل هذا السؤال ووبخه عليه بقوله : ( فلا تسألن ما ليس لك به علم إن يأعظك أن تكون من الجاهلين ( قال المحققون : الظاهر أن ابنه كان منافقاً فلذلك اشتبه أمره على نوح ، وحمله شفقة الأبوة أوّلاً على دعوته إلى ركوب السفينة ، فلما حال بينهما الموج لجأ إلى الله في خلاصه من الغرق ، فعوتب على ذلك لأنه لما وعده الله إنجاءه أهله واستثنى منهم من سبق عليه القول كان عليه أن يتوكل على الله حق توكله ويعلم أن كل من كان من أهله مؤمناً لإإنه يخلص من الغرق لا محالة. ولما لم يصبر لى تبين الحال توجه إليه العتاب على ترك الأولى فلذلك تنبه ورجع إلى الله قائلاً ) رب إن يأعوذ بك أن أسألك ( فيما يستقبل من الزمان ) ما ليس بن علم ( تأدباً بآدابك واتعاظاً بعظتك. ) وألا تغفر لي ( ما فرط مني من الخطأ في باب الاجتهاد ، أو من قلة الصبر على ما يجب عليه الصبر ، وهذا التضرع مثل تضرع أبيه وأبينا آدم في قوله : ( ربنا ظلمنا ) [ الأعراف : 23 ] الآية. فلذلك عفى عنه. ) وقيل يا نوح اهبط ( أي من السفينة بعد استوائها على الجبل ، أو انزل من الجبل إلى الفضاء ملتبساً ) بسلام منا ( بسلامة من التهديد والوعيد بل من جميع الآفات والمخافات ، لأنه لما خرج من السفينة كان خائفاً من عدم المأكول والملبوس وسائر جهات الحاجات لأنه لم يبق في الأرض شيء يمكن أن ينتفع به من النبات والحيوانات ، بأنه وعد له بأن جميع أهل الأرض من الأشخاص الإنسانية يكون من نسله إما لأنه لم يكن في السفينة إلا من هو ذريته ، وإما لأنه لما خرج من السفينة مات من لم يكن من أهله وبقي النسل والتوالد في ذرّيته ، دليله قوله سبحانه ) وجعلنا ذريته هم الباقين ) [ الصافات : 77 ] فنوح آدم الأصغر. وقيل : لما وعده السلامة من الآفات وعده أن موجبات السلامة والراحة تكون في التزايذ والثبات لا عليك وحدك بل ) وعلى أمم ممن معك ( إن كان ) من ( للبيان فالمراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات ، أو هم أصل(4/27)
" صفحة رقم 28 "
الأمم التي انشبعت منه. وإن كان لابتداء الغاية فالمعنى على أمم ناشئة ممن معك إلى آخر الدهر. وهذا شأن الأمة المؤمنة ثم ذكر حال الأمة الكافرة المتوالدة فقال : ( وأمم ( وهو رفع على الباتداء والخبر محذوف أي وممن معك أمم ) سنمتعهم ( في الدنيا ) ثم يمسهم ( في الآخرة ) منا عذاب أليم ( عن ابن زيد : هبوطوا والله عنهم راض ، ثم أخرج منهم نسلاً منهم من رحم ومنهم من عذب ، وخصص بعضهم الأمم الممتعة بقوم هود وصالح ولوط وشعيب و ) تلك ( إشارة إلى قصة نوح وهو مبتدأ والجمل بعدها أخبار. وقوله ( ولا قومك ( للمبالغة كقول القائل : لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا قومك ولا أهل بلدك. والمراد تفاصيل القصة وإلا فمجملها أشهر من أن يخفى. ومعنى ) من قبل هذا ( أي من قبل هذا الإيحاء أو العلم الذي كسبته بالوحي ، أو من قبل هذا الوقت وكأن هذه القصة أعيدت في هذه السورة تثبيتاً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) على إنذار قومه ولذلك ختمت بقوله : ( فاصبر ( كما صبر نوح و ) إن العاقبة ( الحميد ) للمتقين ( التأويل : ( ما نراك إلا بشراً مثلنا ( أي مخلوقاً محتاجاً مثلنا. وفيه أن النفس بنظرها السفلي ترى الروح العلوي سفلياً فلهذا تنظر إلى النبي ولا ترى نبوته الحميدة ، بل تراه بنظر الكذب والسحر والجنون ) إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ( والأراذل من اتباع الروح الجوارح والجوارح الظاهرة ، فإن الغالب على الخلق أن البدن يقبل دعوة الروح ويستعمل يشتغل بالأعمال الشرعية الدينية إلا لغرض فاسد ومصلحة نيوية كما هو المعتاد لأكثر الخلق. ) وما أنا بطارد الذين آمنوا ( من طبع النفس أن تتأذى من استعمال البدن وجوارحه في التكاليف الشرعية فتقول للروح : إن ترد أن أومن بك وأتخلق بأخلاقك فأمتع البدن وجوارحه في التكاليف ) من ينصرني من الله ( من يمنعني من قهره إن منعت البدن من الطاعة ، فاقتصر على مجرد إيمان النفس وتخلقها بأخلاق الروح كما هو معتقد أهل الفلسفة والإباحة يقولون : إن أصل العبودية معرفة الربوبية وجمعية الباطن والتحلي بالأخلاق الحميدة. ) أفلا تذكرون ( أن جميعة الباطن ونوره من نتائج استعمال الشرع في الظاهر ؟ فالنور في الشرع والظلمة في الطبع ، وإنما بعث الأنبياء ليخرجوا الخلق من العلوية وإنهم مخلوقون من السفليات الله أعلم بما في نفس كل جارحة من استعداد تحصيل الكمال ) وأنا برىء مما تجرمون ( من التكذيب. وفيه أن ذنوب النفس لا تؤثر في صفاء الروح ولا يتكدر بها ما كان الروح متبرئاً من ذنوب النفس متأسفاً على معاملات(4/28)
" صفحة رقم 29 "
النفس وتتبع هواها. ) وأوحي إلى نوح ( الروح ) أنه لن يؤمن من قومك ( وهم القلب وصفاته والسر والنفس وصفاتها والبدن وجوارحه ) إلا من قد آمن ( من خواص العباد وهم القلب وصفاتها والسر وصفات النفس والبدن وجوارحه. فأما النفس فإنها لا تؤمن أبداً اللهم إلا نفوس الأنبياء وخواص الأولياء فإنها تسلم أحياناً دون الإيمان ) فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ( لأن أعمال الشر لنفوس السعداء كالجسد للإكسير ينقلب ذهباً مقبولاً عند طرح الروح عليها ، فكذلك تنقلب أعمال الشر خيراً عند طرح التوبة عليها ) أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ( ولا تبتئس على نفوس الأشقياء لأن أعمالها حجة الله على شقاوتهم ، وبتلك السلاسل يسحبون في النار على وجوههم ) واصنع الفلك ( اتخذ يا نوح الروح سفينة الشريعة بنظرنا لا بنظرك فإن نظرك تبع الحواس يبصر ظاهرها ويغفل عن أسرارها ) ولا تخاطبني في الذين ظلموا ( فإن الظلم من شيم النفوس ) إنهم مغرقون ( في بحر الدنيا وشهواتها. ) وكلما مر عليه ملأ ( هم النفس وهواها وصفاتها ) يسخرون ( من استعمال أركان الشريعة إذ لم يفهموا حقائقها ) حتى إذا جاء أمرنا ( وهو حد البلوغ والركوب في سفينة الشريعة ) وفار ( ماء الشهوة من تنور القالب ) قلنا احمل ( في سفينة الشريعة من كل صفة وزوجها : كالشهوة وزوجها العفة. والحرص وزوجها القناعة ، والبخل وزوجها السخاء ، والغضب وزوجه الحلم ، وكذا الحقد مع السلامة ، والعداوة مع المحبة ، والكبر مع التواضع ، والتأني مع العجلة ) وأهلك ( وهم سفات الروح لا النفس ) ومن آمن ( وهم القلب والسر. وفي قوله تعالى : ( وقال اركبوا فيها باسم الله ( إشارة إلى أن من ركب سفينة الشرع بالطبع وتلقيد الآباء والمعلمين لم يحصل له النجاة الحقيقة كما ركب إبليس بالطبع في سفينة نوح وإنما النجاة لمن ركب بأمر الله وذكره مجراها من الله ومرساها إلى الله كقوله : ( وأن إلى ربك المنتهى ) [ النجم : 42 ] ( في موج ( من الفتن ) كالجبال ونادى نوح ( الروح ) ابنه ( كنعان النفس المتولد بينه وبين القالب ) وكان في معزل ( من معرفة الله وطلبه ) سآوي إلى الجبل ( العقل ) يعصمني من الماء ( الفتن ) لا عاصم اليوم ( أي إذا نبع ماء الشهوات من أرض البشرية ونزل ماء ملاذ الدنيا وزينتها من سماء القضاء فلا يتخلص منه إلا من يرحمه الله بالاعتصام بسفينة الشريعة ) ابلغي ( ماء شهواتك ) اقلعي ( عن إنزال مطر الآفات ) وغيض ( ماء الفتن ببركة الشرع ) وقضي الأمر ( ما كان مقدراً من طوفان الفتن للابتلاء والتربية ، ) واستوت ( سفينة الشريعة ) على الجودي ( وهو مقام التمكين بعدمقامات التلوين ) وإن وعدك الحق ( وهو ما وعد نوح الروح عند إهباطه إلى العالم السفلي من الرجوع إلى العالم العلوي : ( إنه ليس من أهلك ( وكان للروح أربعة بنين : ثلاثة من المؤمنين وهم القلب والسر والعقل ، وواحد(4/29)
" صفحة رقم 30 "
كافر وهو النفس. فنفى عن النفس أهلية الدين والملة لأنها خلقت للأمارية ) اهبط ( من سفينة الشريعة عند مفارقة الجسد والخلاص من طوفان الفتن ) وأمم سنمتعهم ( هم النفوس متعت بالحظوظ الدنيوية ) ثم يمسهم ( في الآخر عذاب البعد عن المألوفات ، ) فاصبر ( على تربية الروح والنفس ) إن العاقبة ( لمن اتقى طوفان فتن الدنيا والنفس والهوى. ( هود : ( 50 - 68 ) وإلى عاد أخاهم . . . .
" وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود "
( القراآت )
فطرني ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع والبزي غير الخزاعي ) إني أشهد ((4/30)
" صفحة رقم 31 "
بالفتح : أبو جعفر ونافع. ) فإن تولوا ( بتشديد التاء : البزي وابن فليح. ) ويستخلف ( بالجزم : الخزاز عن هبيرة. الباقون بالرفع ) يومئذ ( بفتح الميم وكذلك في ( المعارج ) : أبو جعفر ونافع غير إسماعيل وعلي الشموني والبرجمي وعباس. الآخرون بالجر. ) ألا ان ثمود ( غير منصرف والوقف بغير الألف : حمزة وحفص وسهل ويعقوب. الباقون بالتنوين والوقف بالألف. ) لثمود ( بالتنوين في الوصل : علي. الوقوف : ( هوداً ( ط ) غيره ( ط ) مفترون ( ه ) أجراً ( ط ) فطرني ( ط ) تعقلون ( ه ) مجرمين ( ه ) بمؤمنين ( ه ) بسوء ( ط ) تشركون ( ه لا ) لا تنظرون ( ه ) وربكم ( ط ) بناصيتها ( ط ) مستقيم ( ه ) به إليكم ( ط للاستئناف إلا لمن قرأ ) ويستخلف ( بالجزم ) غيركم ( ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال ) شيئاً ( ط ) حفيظ ( ه ) منا ( ج لحق المحذوف أي وقد نجيناهم ) غليظ ( ه ط ) عنيد ( ه ) ويوم القيامة ( ط ) ربهم ( ط ) هود ( ه ) صالحاً ( لم امر في ( الأعراف ). ) غيره ( ط ) إليه ( ط ) مجيب ( ه ) مريب ( ه ) تخسير ( ه ) قريب ( ه ) أيام ( ط ) مكذوب ( ط ) يومئذٍ ( ط ) العزيز ( ه ) جاثمين ( ه لا لكاف التشبيه ) فيها ( ط ) ربهم ( ط ) لثمود ( ه. التفسير : قد مر في ( الأعراف ) تفسير قوله : ( وإلى عاد ( الآية. ومعنى قوله : ( إن أنتم إلا مفترون ( أنكم كاذوبن في قولكم إن هذ الأصنام يحسن عبادتها مع أنها لا حس لها ولا شعور. ثم قال مثل قول نوح ) يا قوم لا أسألكم عليه أجراً ( لأن النصيحة لا يمحضها إلا حسم المطامع ) أفلا تعقلون ( أن نصح من لا يطلب الأجر إلا من الله لا يكون من التهمة في شيء. قيل : إنما قال في قصة نوح ) مالاً ( دون أجراً ( لذكر الخزائن بعده ، فلفظ المال بها أليف. وحذف الواو من ) يا قوم ( لأنه أراد الاستئناف أو البدل دون العطف. ) ويا قو استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ( قد مر مثله في أول السورة. وقال الأصم : المراد سلوه أن يغفر لكم ما تقدم لكم من إسرافكم ثم اعزموا على أن لا تعودوا إلى مثله. ثم قصد استمالتهم وترغيبهم في الإِيمان بكثرة المطر وزيادة القوة لأن القوم كانوا حراصاً على جميع الأموال من وجوه العمارة والزراعة مفتخرين بما أوتوا من البطش والقوة ، فقدم إليهم في باب الدعوة إلى الدين والترغيب فيه ما كانت همتهم معقودة به ليحصل في ضمنه الغرض الكلي والمقصود الأصلي وهو الفوز بالسعادات الأخروية ، وكأنه إنما خصص هذين النوعين من السعادات الدنيوية لأن الأول أصل جميع النعم ، والثاني أصل في الانتفاع بتلك النعم. وقيل : المراد بالقوة الزيادة في المال. وقيل(4/31)
" صفحة رقم 32 "
في النكاح. وروي أنه حبس عنهم القطر بشؤم التكذيب ثلاث سنين وأعقم نساؤهم فوعدوا أنهم إن آمنوا أحياء الله بلادهم ورزقهم المال والولد. والمدرار الكثير الدر كما مر في أول ( الأنعام ). عن الحسن بن علي رضي الله عه أنه وفد على معاوية فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال : إني رجل ذو مال لا يولد لي فقال : عليك بالاستغفار. فكان يكثر الاستغفار حتى إنه ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة فولد له عشرة بنين فبلغ ذلك معاوية فقال : هلا سألته مم قال ذلك ؟ فوفد وفدة أخرى فسأله الرجل فقال : ألم تسمع قول هود ) ويزدكم قوة إلى قوتكم ( وقول نوح ) ويمددكم بأموال وبنين ) [ نوح : 12 ] ثم قول هود ) لا تتولوا ( أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه ) مجرمين ( مصرين على الإِجرام والآثام. فجحدوا هوداً وقالوا ما جئتنا ببينة كما قالت قريش لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لولا أنزل عليه آية من ربه ) [ الرعد : 27 ] ولم يشتهر منه معجزة ولكن العلماء قالوا : إظهار الدعوة مع أولئك الأقوام من غير مبالاة وتوانٍ آية من الآيات. وقوله : ( عن قولك ( حال من الضمير كأنه قيل : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك ) وما نحن لك بمؤمنين ( لا يصدق مثلنا مثلك أبداً. ثم زعموا أن بعض آلهتهم اعتراه بسوء أي غشيه وأورثه الخبل والجنون لأنه كان يسب آلهتهم وذلك قولهم : ( إن نقول إلا اعتراك ( وإلا لغو أي ما نقول شيئاً إلا هذا القول فمن ثم يتكلم بكلام المجانين. والمراد أن الأصنام كافأته على سوء فعله بسوء الجزاء فأظهر نبي الله الجلادة والثقة بالله فيما هو بصدده وتبرأ منهم ومن شركهم فأشهد الله وذلك إشهاد صحيح. وأشهدهم أيضاً وهذا كالتهاون وقلة المبالاة بهم كقول الرجل لمن نوى قطعه بالكلية : أشهد عليَّ أني لا أحبك تهكماً به. وقد مر قوله : ( فكيدوني ( الآية في آخر سورة الأعراف. وقوله : ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ( تمثيل لغاية التسخير ونهاية التدليل ، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته فكان علامة لقهره. قالت المعتزلة : هذا دليل التوحيد لدلالته على أنه لا ملك إلا هو. وقوله : ( إن ربي على صراط مستقيم ( دليل العدل. والأشاعرة قالوا : معناه معنى. ) إن ربك لبالمرصاد ) [ الفجر : 14 ] أي لا يخفى عليه شيء ولا يفوته هارب ) فإن تولوا فقد أبلغتكم ( كقول القائل إن أكرمتني الآن فقد أكرمتك فيما مضى. والمراد فإن تتولوا فأنا غير معاتب ولا مقصر لأني قد قضيت حق الرسالة. وفي قوله : ( ويستخلف ( إشارة إلى عذاب الاستئصال وأنه يخلق بعدهم من هو أطوع منهم وأنه لا ينقص من ملكه شيئاً ) إن ربي على كل شيء حفيظ ( يحفظ أعمال العباد حتى يجازيهم عليها ، أو يحفظني من شرككم وكيدكم ، أو يحفظني من الهلاك ) والذين آمنوا معه ( قيل : كانوا أربعة آلاف(4/32)
" صفحة رقم 33 "
) برحمة منا ( أي بفضل وامتنان أو بسبب ما هم فيه من الإيمان والعمل الصالح ) ونجيناهم من عذاب غليظ ( أطلق التنجية أوّلاً ثم قيدها على معنى وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ سموم تدخل في أفواههم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضواً عضواً. ويحتمل أن يراد بالثانية النجاة من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه. ولما ذكر قصتهم خاطب محمداً وأشارا إلى قبورهم وآثارهم بقوله : ( وتلك عاد ( فانظروا واعتبروا. ثم استأنف وصف أحوالهم مجملة فقال : ( جحدوا بآيات ربهم ( فلم يتسلقوا المعجزات إلى صدق الأنبياء ، ولم يرتقوا من الممكنات إلى وجود الواجب بالذات ) وعصوا رسله ( قيل : لم يرسل إليه إلا هود ، وصح الجمع لأن عصيان رسول واحد يتضمن عصاين كلهم ) ا نفرق بين أحد من رسله ) [ البقرة : 285 ] ( واتبعوا لأمر كل جبار عنيد ( أطاعوا رؤساؤهم وكبراءهم المتمردة والمعاندة ولهذا جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين. وفي تكرير ( ألا ) والنداء على كفرهم ، والدعاء عليهم بالبعد بعد إهلاكهم دلالة على تفظيع شأنهم وأنهم كانوا مستأهلين للدعاء عليهم بالهلاك ، ويحتمل أن يراد البعد من رحمة الله في الآخرة. وقوله : ( قوم هود ( عطف بيان لعاد إما للتأكيد ومزيد التقرير ، وإما لأن عاداً عادان القديمة التي هي قوم هود ، والأخرى وهي إِرم. قوله في قصة ثمود ) هو أنشأكم ( تقديم الضمير للحصر أي لم ينشئكم إلا هو ، ومعنى الإنشاء من الأرض أن الكل مخلوق من صلب آدم وهو مخلوق من الأرض. ويمكن أن يقال : إن الإنسان مخلوق من المني وهو يحصل من الغذاء والغذاء ينتهي إلى النبات ثم إلى الأرض. وقيل : إن ( من ) بمعنى ( في ). ) واستعمركم ( من العمارة أي جعلكم عماراً للأرض ، وأمركم بالعمارة. فمنها واجب وندب ومباح ومكروه ، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار فعمروا الأعمار الطوال مع ما كان منهم من الظلم. فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب بتعميرهم فأوحى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي وقيل : من العمر نحو استبقاكم من البقاء. وقيل : من العمرى. ومعناه أعمركم الله فيها دياركم ثم هو وارثها منكم عند انقضاء أعماركم. أو جعلكم معمرين دياركم فيها لأن الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنه أعمره إياها لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لوارثه. ومعنى كونه تعالى قريباً قد مر في قوله : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) [ البقرة : 186 ] وذلك في ( البقرة ) ) قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً ( عن ابن عباس : فاضلاً خيراً نقدمك على جميعنا. وقيل : كنا نظن بك الرشد والصلاح وكمال العقل وإصابة الرأي. وقيل : كنت تعطف على فقيرنا وتعيد ضعيفنا وتعود مرضانا فظننا أنك من الأنصار(4/33)
" صفحة رقم 34 "
والأحباب وأهل الموافقة في الدين ، فكيف أظهرت العداوة والبغضاء ؟ ثم أضافوا إلى هذا الكلام التمسك بالتقليد ومتابعة الآباء ، ثمصرحوا بالتوقف والريب في أمره. ومريب من أرابه إذا أوقعه في الريبة ، أو من أراب الرجل إذا كان ذا ريبة وهو من الإِسناد المجازي واعلم أن قوله ) وإنا لفي شك ( بنون الوقاية ههنا على الأصل ، وأما في سورة إبراهيم فإنما قال : ( وإنا ( بغير نون الوقاية لقوله بعده : ( تدعوننا ) [ الآية : 9 ] على الجمع فكان اجتماع النونات مستكرهاً. فأجابهم هو بقوله : ( إن كنت على بينة ( الآية. وبنى أمره على الفرض والتقدير لأن خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبول كأنه قال : قدروا أني على بينة ) من ربي ( وأني نبي على الحقيقة فمن يمنعني من عذاب الله ) إن عصيته ( في أوامره ) فما تزيدونني غير تخسير ( أي على هذا التقدير تخسرون أعمالي وتبطلونها ، أو فما تزيدونني بما تحملونني عليه إلا أني أنسبكم إلى الخسران وأقول إنكم خاسرون. والمعنى الأول أقرب لأنه كالدلالة على أن متابعتهم لا تزيده إلا خسران الدارين. ) ويا قوم هذه ناقة الله ( قد مر تفسيره في ( الأعراف ). ومعنى ) عذاب قريب ( عاجل لا يستأخر إلا ثلاثة أيام و ) غير مكذوب ( من باب الاتساع أي غير مكذوب فيه فحذف الحرف. وأجرى الضمير مجرى المفعول به أو من باب المجاز كأن الوعد إذا أوفى به فقد صدق ولم يكذب أو المكذوب مصدر كالمجلود وصف به. قوله : ( فلما جاء أمرنا ( بالفاء. وفي قصة هود بالواو ولمكان التعقيب ههنا بدليل قوله : ( عذاب قريب ( ومثله في قصة لوط لقوله : ( أليس الصبح بقريب ) [ هود : 81 ] وأما في قصة هود فإنه قال : ( ويستخلف ( بلفظ المستقبل ومثله في قصة شعيب ) سوف تعلمون من يأتيه ( بحرف التسويف فلم يكن الفاء مناسباً. واعتبر هذا المعنى في سائر المواضع كما في سورة يوسف قال : ( ولما جهزهم ) [ الآية 59 ] بالواو أوّلاً لأن التعقيب لم يكن مراداً ثم قال : ( فلما جهزهم ) [ الآية : 70 ] لمكان التعقيب والله أعلم. قوله : ( ومن خزي يومئذٍ ( معطوف على محذوف والتقدير نجينا صالحاً ومن معه من العذاب يومئذ كما قال : ( ونجناهم من عذاب غليظ ( والمعنيان كما قلنا هناك. والقراءتان في ) يومئذٍ ( لأن الظرف المضاف إلى ( إذ ) يجوز بناؤه على الفتح ، والتنوين في ( إذ ) عوض من المضاف إليه أعني الجملة ، والتقدير يوم إذ كان كذا وكسر الذال للساكنين ) إن ربك هو القوي العزيز ( القادر الغالب فمن قدرته ميز المؤمن من الكافر ، ومن عزته وقهره أهلك الكفار بالصيحة التي سمعوها من جانب السماء إما بواسطة جبرائيل وإما لإحداثها في(4/34)
" صفحة رقم 35 "
سحاب مع برق شديد محرق. وإنما تصير الصيحة سبباً للهلاك لأن التموج الشديد في الهواء يوجب تأذي صماخ الإنسان ، وقد يتمزق غشاء الدماغ بذلك ، والأعراض النفسانية أيضاً إذا قويت أوجبت الموت وتمام القصة مذكور في سورة الأعراف ، وقوله : ( ألا إن ثمود ( إلى الآخره. شبيه بما مر في قصة هود ، والتأويل كما مر في سورة الأعراف والله أعلم. ( هود : ( 69 - 83 ) ولقد جاءت رسلنا . . . .
" ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد "
( القراآت )
سلم ( بكسر السين بلا ألف فيهما. حمزة وعلي ) ويعقوب ( بالنصب : ابن عامر وحمزة وحفص ، الآخرون بالرفع. ) سيء بهم ( وبابه كضرب مجهولاً : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي ورويس. الآخرون ) سيء ( مثل ) قيل ( ) تخزوني ( بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل. وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل ) ضيفي ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) فاسر ( وبابه بهمزة الوصل : أبو جعفر ونافع وابن كثير وعباس من طريق الموصلي وحمة في الوقف وإن شاء لين الهمزة ) إلا امرأتك ( بالرفع : ابن كثير وأبو عمرو. الباقون بالنصب .(4/35)
" صفحة رقم 36 "
الوقوف : ( سلاماً ( ط ) حنيذ ( ه ) خيفة ( ط ) قوم لوط ( ه ط ) بإسحق ( ط لمن قرأ ) يعقوب ( بالرفع ) يعقوب ( ه ) شيخاً ( ط ) عجيب ( ه ) أهل البيت ( ط ) مجيد ( ه ) في قوم لوط ( ط ) منيب ( ) عن هذا ( ج لاحتمال التعليل ) أمر ربك ( ج للاتبداء بأن مع اتصال المعنى. ) مردود ( ه ) عصيب ( ه ) إليه ( ج للعطف ولاختلاف النظم ) السيئات ( ط ) ضيفي ( ط ) أصابهم ( ط ) الصبح ( ط ) بقريب ( ه ) منضود ( ه لا لأن ما بعده صفة حجارة ) عند ربك ( ط ) ببعيد ( ه. التفسير : الرسل ههنا الملائكة ، وأجمعوا على أن الأصل فيهم جبرائيل ، ثم اختلفوا فقيل : كان معه اثناء عشر ملكاً على أحسن ما يكون من صورة الغلمان. وقال الضحاك : كانوا تسعة. وقال ابن عباسك كانوا ثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرائفيل وهم الذين ذكر الله تعالى في سورة الحجر ) ونبئهم عن ضيف إبراهيم ) [ الآية : 51 ] وفي الذاريات ) هل أتاك حديث إبراهيم ) [ الآية : 24 ] والظاهر أن البشرى هي البشارة بالولد. وقيل : بهلاك قوم لوط. ومعنى ) سلاماً ( سلمنا عليك. ومعنى ) سلام ( أمركم سلام أو سلام عليكم. ولأن الرفع يدل على الثبات والاستقرار ، والنصب يدل على الحدوث لماكان تقدير الفعل. قال العلماء : إن سلام إبراهيم كان أحسن اقتداء بقوله تعالى : ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحس منها ) [ النساء : 86 ] وإنما صح وقوع ) سلام ( مبتدأ مع كونه نكرة لتخصصها بالإِضافة إلى المتكلم إذ أصله سلمت سلاماً فعدل إلى الرفع لأفادة الثبات. ومن قرأ ) سلماً ( فمعناه السلام أيضاً. قال الفراء. سلم وسلام كحل وحلال وحرم وحرام. وقال أبو علي الفارسي : يحتمل أن يراد بالسلم خلاف الحرب. قالوا : مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه شيف فاغتم لذلك فجاءته الملائكة فرأى أضيافاً لم ير مثلهم فيما لبث ) حنيذ ( مشوي في حرفة من الأرض بالحجارة المحماة وهو نفعل أهل البادية معروف. ومعناه محنوذ كطبيخ بمعنى مطبوخ. وقيل : الحنيذ الذي يقطر دسماً لقوله : ( بعجل سمين ) [ الذاريات : 26 ] تقول : حنذت الفرس إذا ألقيت عليها الجل حتى يقطر عرقاً ) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه ( إلى العجل أو الطعام ) نكرهم ( أي أنكرهم أي أنكرهم واستنكر فعلهم ) وأوجس ( أضمر ) منهم خيفة ( لأنه ما كان يعرف أنهم ملائكة وكان من عادة العرب أنه إذا نزل بهم الضيف ولم يتناول طعامهم وتوقعوا منه المكروه والشر. وقيل : إنه كان ينزل في طرف من الأرض بعيد عن الناس ، فلما امتنعوا من الأكل خاف أن يريدوا به شراً. وقيل : إنه كان(4/36)
" صفحة رقم 37 "
يعرف أنه ملائكة الله لقولهم : ( لا تخف (. وإنا أرسلنا إلى قوم لوط ( لم يقولوا لا تخف إنا ملائكة بل ذكروا سبب الإرسال وهو إهلاك قوم لوط. وعلى هذا فإنما خاف أن يكون نزلوهم لأمر أنكره الله أو لتذعيب قومه ، والاحتمال الأول وهو أنه كان لا يعرف أنهم ملائكة أقرب بدليل إحضاره الطعام واستدلاله بترك أكلهم على توقع الشر منهم. وإنما ذكروا سبب الإرسال إيجازاً واختصاراً لدلالة الإرسال على كونهم رسلاً لا أضافياً. وإنما أتوه على صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها لأنه كان مشغوفاً بالضيافة. وبم عرف الملائكة خوفه ؟ قيل : بالتغير في وجهه أو بتعريف الله ، أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب ) وامرأته ( وهي سارة بنت هاران بن ناحورا بنت عم إبراهيم ) قائمة ( وراء التسر تمسع تحاورها ، أو كانت قائمة على رؤوسهم تخدمهم وهو قعود ) فضحكت (. قال العلماء : لا بد للضحك من سبب فقيل : سببه السرور بزوال الخيفة. وقيل : بهلاك أهل الخبائث. وعن السدي أن إبراهيم قال لهم : ألا تأكلون ؟ قالوا : إن لا نأكل طعاماً إلا بالثمن. فقالك ثمنه أن تذكروا اسم الله على أوله وتحمدوه في آخره. فقال جبرائيل لميكائيل : حق لمصل هذا الرجل أن يتخذه ربه خليلاً ، فضحكت امرأته فرحاً بهذا الكلام. وقيل : كانت تقول لإبراهيم اضمم لوطاً ابن أخيك إليك فإني أعلم أنه ينزل بهؤلاء القوم عذاب ، ففرحت بموافقة قولهم لقولها فضحكت. وقيل : طلب إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) منهم معجزة داتلة على أنهم من الملائكة فدعوا ربهم بإحياء العجل المشوي فطفر ذلك العجل المشوي إلى مرعاه فضحكت سارة من طفرته. وقيل : ضحكت تعجباً من قوم أتاهم العذاب وهو غافلون. وقيل : تعجبت من خوف إبراهيم مع كثرة خدمه وحشمه من ثلاثة أنفس. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير أي فبشرناها بإسحاق ، فضحكت سروراً. وعن مجاهد وعكرمة ضحكت أي حاضت ومنه ضحكت الطلعة إذا انشقت يعني استعدادها لعلوق الولد. من قرأ ) يعقوب ( بالرفع فعلى الابتداء والخبر محذوف أي يعقوب مولود أو موجود بع إصحاق ، ومن قرأ بالنصب فعلى العبارة المتروك كأنه قيل : ووهبنا لها إسحق ومن بعد إسحق يعقوب. أقول من المحتمل أن يكون ) يعقوب ( مجروراً بالعبارة الموجودة أي وبشرناها بيعقوب من بعد إسحاق وقيل : الوراء ولد الولد ووجهه أن يراد بيعقوب أولاده كما يقال هاشم ويراد أولاده ) يا ويلتي ( كلمة تلهف وقد مرت في ( المائدة ) في ) يا ويلتي أعجزت ) [ المائدة : 31 ] و ) شيخاً ( نصب الحال والعامل فيه ما في هذا من معنى أنبه أو أشير ) إن هذا ( يعني غن تولد ولد من هرمين ) لشيء(4/37)
" صفحة رقم 38 "
عجيب ( عادة فأزال الملائكة تعجبها منكرين عليها بقولهم على سبيل الاستئناف ) رحمة الله وبركاته عليكم ( يا أهل بيت خليل الرحمن. والمقصود أن رحمته عليكم متكاثرة وبركاته فيكم متواترة وخرق العادات في أهل بيت النبوة غير عجيب. ويحتمل أن يكون انتصاب ) أهل البيت ( على الاختصاص. وقيل : الرحمة النبوة والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء منهم وكلهم من ولد إبراهيم. ثم أكدوا إزالة التعجب بقولهم : ( إنه حميد ( محمود في أفعاله ) مجيد ( ذو الكرم الكامل فلا يليق به منع الطالب عن مطلوبه. ) فلما ذهب عن إبراهيم الروع ( الخوف الذي لحقه حين أنكر أضيافه ) وجاءته البشرى ( البشارة بحصول الولد ) يجادلنا في قوم لوط ( في معناهم وفي شأنهم وهو جواب ( لما ) على حكاية الحال ، أو لأن ( لما ) ترد المضارع عكس ( إن ) ، ويحتمل أن يكون جواب ( لما ) محذوفاً دل عليه ) يجادلنا ( أي اجترأ على خطابنا أو قال كذا ، ثم ابتدأ فقال : ( يجادلنا ( وقيل : معناه أخذ يجادلنا ولا بد من حذف مضاف أي يجادل رسلنا لا بمعنى مخالفة أمر الله فإن ذلك يكون معصية بل سعياً في تأخير العذاب عنهم رجاء إيمانهم وتوبتهم. ويروى أنهم قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية فقال : أرأيتم لو كان فيها خمسون من المؤمنين أتهلكونها ؟ قالوا : لا قال : فأربعون ؟ قالوا : لا حتى بلغ العشرة قالوا لا. قال : فإن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها ؟ قال : لا. فعند ذلك ) قال إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لنُنَجِّيَنهُ وأهله ) [ العنكبوت : 32 ] قال الأصوليون : إن إبراهيم كان يقول : إن أمر الله ورد بايصال العذاب ومطلق الأمر لا يوجب الفور ، والملائكة يدعون الفور إما للقرائن أو لأن مطلق الأمر يستدعي ذلك ، فهذه هي المجادلة. أو لعل إبراهيم كان يدعي أن الأمر مشروط لم يحصل بعدوهم لا يسلمون. وبالجملة فإن العلماء يجادل بعضهم بعضاً عند التمسك بالنصوص وليس يوجب القدح في واحد منهم فكذلك ههنا ولذلك مدحه بقوله : ( إن إبراهيم لحليم ( غير عجول في الأمور ) أوّاه ( كثير التأوّه من الذنوب ) منيب ( راجع إلى الله في كل ما يسنح له. وهذه الصفات تدل على رقة القلب الشفقة على خلق الله حتى حملته على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع العذاب عنهم. ولما عرفت الملائكة أن العذاب قد حق عليهم قالوا : ( يا إبراهيم أعرض عن هذا ( الجدال ) إنه قد جاء أمر ربك ( بإهلاكهم ) وإنهم آتيهم ( لاحق بهم ) عذاب غير مردود ( فلا راد لقائه فلا ينفع فيهم جدال ولا دعاء. ) ولما جاءت رسلنا ( المذكورون ) لوطاً سيء بهم ( أصله ( سوى ) لأنه من ساءه يسوءه نقيض سره يسره ، نقلت الكسرة إلى الفاء وأبدلت العين ياء ، ومن قرأ ) سيء ((4/38)
" صفحة رقم 39 "
بإبدال العين ياء مكسورة فلكراهة اجتماع الواو والهمزة. ) وضاق بهم ذرعاً ( قال الأزهري : الذرع يوضع موضع الطاقة وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوه ، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فجع لضيق الذرع عبارة عن قلة الوسع والطاقة ، وربما قالوا ضقت بالأمر ذرعاً. ) وقال هذا يوم عصيب ( أي شديد من العصب الشد كأنه أريد اشتداد ما فيه من الأمور. عن ابن عباس : انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم في غاية الحسن ، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله فساءه مجيئهم واعتم لذلك لأنه خاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم. وقيل : سبب المساءة أنه لم يكن قادراً على القيام بحق ضياقتهم لأنه ما كان يجد ما ينفق عليهم. وقيل : السبب أن قومه منعوه عن إدخال الضيف داره. ويل : عرف أنهم ملائكة جاؤوا لإهلاك قومه فرق قلبه على قومه. والصحيح هو الأول. يروى أنه تعالى قال لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات. فلما مشى معهم منطلقاً به إلى منزلة قال لهم : أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا : وما أمرهم ؟ قال : أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملاً - يقول ذلك أربع مرات - فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها فذلك قوله : ( وجاءه قومه يهرعون إليه ( قال أبو عبيدة : يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضاً. وقال الجوهري : الإهراع الإسراع. وأهرع الرجل على ما لم يسم فاعله فهو مهرع إذا كان يرعد من حمى أو غضب أو فزع. وقيل : إنما لم يسم فاعله للعلم به. والمعنى أهرعه خوفه أو حرصه. ثم بين إسراعهم إنما كان لأجل العمل الخبيث فقال : ( ومن قبل كانوا يعملون السيئات ( الفواحش فمرنوا عليها فلذلك جاؤوا مجاهرين لا يكفهم حياء. وقيل : معناه وكان لوط قد عرف عادتهم في ذلك العمل قبل ذلك فأراد أن يقي أضيافه ببناته فقالك ) هؤلاء نباتي ( عن قتادة : بناته من صلبه. وعن مجاهد وسعيد بن جبير : أراد نساء أمته لأن النبي كالأب لأمته. واخيرت هذا القول لأن عرض البنات الحقيقيات على الفجار لا يليق بذوي المروءات. ولأن اللواتي من صلبه لا تكفي للجمع العظيم ، ولما روي أنه لم يكن له إلا بنتان وأقل الجمع ثلاثة. والقائلون بالقول الأول قالوا ما دعا القوم إلى الزنا بهن وإنما دعاهم إلا التزوج بهن بعد الإيمان أو مع الكفر ، فلعل تزويج المسلمات من الكفار كان جائزاً كما في أول الإسلام ، زوج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع بن عبد العزى - وهما كافران - فنسخ بقوله : ( ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ) [ البقرة : 221 ] وقيل : كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه ، وقيل : إن بناته كن أكثر من ثنتين. ويجوز أ يكون قد عرض البنات عليهم لا(4/39)
" صفحة رقم 40 "
بطريق الجد بل طمعاً فيهم أن يستحيوا منه ويرقوا له. و ) أطهر ( بمعنى الطاهر لأنه لا طهارة في نكاح الرجال ) فاتقوا الله ( بإيثارهن عليهم ) ولا تخزون ( ولا تفضحوني من الخزي أو لا تخجلوني من الخزاية وهي الحياء. ) في ضيفي ( في حق أضيافي فخزي الضيف والجار يورث للمضيف العار والشنار. والضيف يستوي فيه الواحد والجمع ويجوز أن يكون مصدراً. ) أليس منكم رجل رشيد ( صالح أو مصلح مرشد يمنتع أو يمنع عن مثل هذا العمل القبيح. ) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق ( من شهوة ولا حاجة لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق ولذلك قالوا ) وإنك لتعلم ما نريد ( ويجوز أن يراد إنهن لسن لنا بزواج فلا حق لنا فيهن من حث الشرع ومن حيث الطبع ، أو يراد إنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ونحن لا نؤمن ألبتة فلا يتصور لنا حق فيهن. قال لوط ) لو أن لي بكم قوّة ( وجوابه محذوف أي لفعلت بكم وصنعت وبالغت في دفعكم. قال أهل المعاني : حذف الجواب أبلغ لأن الوهم يذهب إلى أنواع كثيرة من الدفع والمنع. والمراد لو أن لي ما أتقوى به عليكم فسمى موجب القوة بالقوة ، ويحتمل أن يريد بالقوة القدرة والطاقة ) أو آوي ( أنضم ) إلى ركن شديد ( حام منيع شبه الركن من الجبل في شدته. وقوله : ( أو آوي ( عطف على الفعل المقدر بعد ( لو ). والحاصل أنه تمنى دفعهم بنفسه أو بمعاونة غيره ، قال ذلك من شدة القلق والحيرة في الأمر النازل به ولهذا قالت الملائكة وقد رقت عليه وحزنت له : إن ركنك لشديد. وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد فما بعث نبي بعد ذلك إلا في ثروة من قومه ) ويحتمل أن يريد بالركن الشديد حصناً يتحصن تمني حصول قوة قوية على الدفع. ثم استدرك وقال بل الأولى أن آوي إلى ركن شديد وهو الاعتصام بعناية الله. روي أنه أغلق بابه لما جاؤوا فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب ) قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ( وهذه جملة موضحة للتي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصل الأعداء إليه ولن يقدروا على ضرره ، فأمره الملائكة أن يفتح الباب فدخلوا فاستأذن جبرائيل ربه في عقوبتهم فأذن له ، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم كما قال سبحانه ) ولقد راودوه(4/40)
" صفحة رقم 41 "
عن ضيفه فطمسنا أعينهم ) [ القمر : 37 ] فصاروا لا يعرفون الطريق فخرجوا وهم يقولون إن في بيت لوط سحرة. ثم بين نزول العذاب ووجه خلاص لوط وأهله فقال : ( فأسر بأهلك ( الباء للتعدية إن كانت الهمزة للوصل من السرى ، أو زائدة وإن كانت للقطع من الإسراء. ) بقطع من الليل ( عن ابن عباس : أي في آخر الليل بسحر. وقال قتادة : بعد طائفة من الليل. وقيل نصف الليل كأنه قطع نصفين ) ولا يلتفت منكم أحد ( أي لا ينظر إلى ما رواءه ) إلا امرأتك ( أكثر القراء على النصب فاعترض بأن الفصيح في مثله هو البدل لأن الكلام غير موجب فكيف اجتمع القراء على غير فصيح ؟ فأجاب جار الله بأن الرفع بدل من ) أحد ( على القياس والنصب مستنثى من قوله : ( فأسر ( لا من قوله ) لا يلتفت ( وزيف بأن الاستثناء من ) أسر ( يقتضي كونها غير مسرى بها ، والاستثناء ) لا يلتفت ( يقتضي كونها مسرياً بها لأن الالتفات بعد الإسراء فتكون مسرياً بها غير مسرى بها. ويمكن أن يجاب بأن ) أسر ( وإن كان مطلقاً في الظاهر إلا أنه في المعنى مقيد بعدم الالتفات إذ المراد أسر بأهلك إسرائ لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراء مع الالتفات ، فاستثن على هذا إن شئت من ) أسر ( وإن شئت من ) لا يلتفت ( ولا تناقض. وبعضهم - كابن الحاجب - جعل ) إلا امرأتك ( في كلتا القراءتين مستنثى من ) لا يلتفت ( ولم يستبعد اجتماع القراء على قراءة غير الأقوى. ويمكن أن يقال : إنما اجتمعوا على النصب ليكون استثناء من ) أسر ( إذ لو جعل استثناء من ) لا يلتفت ( لزم أن تكون مأمورة بالالتفات لأن القائل إذا قال لا يقم منكم إلا زيد كان ذلك أمراً لزيد بالقيام اللهم إلا أن يجعل الاستثناء منقطعاً على معنى ولا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم ، وإذا كان هذ الاستثناء منقطعاً كان التفاتها موجباً للمعصية. قاله في الكشاف. وروي أنه أمر أن يخلفها مع قومها فلم يسر بها. واختلفا القراءتين لاختلف الروايتين. أقول : في هذا الكلام خلل لا يمكن اجتماعهما على الصحة ، والقراءتان يجب اجتماعهما على الصحة لتواتر القراآت كلها. روي أنها لما سمعت هدّة العذاب أي صوته التفتت وقالت : يا قوماه : فأدركها حجر قتلها. وقيل : المراد بعدم الالتفات قطع تعلق القلب عن الأصدقاء والأموال والأمتعة. فعلى هذا يصح الاستثناءان من غير شائبة التناقض كأنه أمر لوطاً أن يخرج بقومه ويترك هذه المرأة فإنها هالكة من الهالكين. ثم أمر أن يقعطوا العلائق وأخبر أن امرأته تبقى متعلقة القلب بها. يروى أنه قال لهم متى موعد هلاكهم فقيل له ) إن موعدهم الصبح ( فقال أريد أسرع من ذلك فقالوا : ( أليس الصبح بقريب ؟ ( ) فلما جاء أمرنا ( بإهلاكهم ) جعلنا ( أي جعل(4/41)
" صفحة رقم 42 "
رسلنا ) عاليها سافلها ( روي أن جبرائيل أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلات وصياح الديوك لم يتبدد لهم طعام ولم يتكسر لهم إناء ، ثم قلبها دفعة وضربها على الأرض ، ثم أمطر عليهم حجارة من سجيل - وهو معرب سنك وكل - كأنه مركب من حجر وطين وهو في غاية الصلابة. ويل : سجيل أي مثل السجل وهي الدلو العظيمة أو مثلها في تضمن الأحكام الكثيرة ، وقيل : أي مرسلة عليهم من أسجلته إذا أرسلته. وقيل : أي مما كتب الله أن يعذب به أو كتب عليه أسماء المعذبين من السجل وقد سجل لفلان. وقيل : من سجين أي من جهنم فأبدلت النون لاماً. ويل : إنه اسم من أسماء السماء الدنيا. ومعنى ) منضود ( موضع بعضها فوق بعض في النزول يأتي على سبيل المتابعة والتلاصق. أو نضد في السماء نضداً معداً لإهلاك الظلمة وفي السماء معادنها في جبال مخصوصة كقوله : ( من جبال فيها من برد ) [ النور : 43 ] ( مسوّمة ( معلمة للعذاب أو بياض وحمرة ، عن الحسن والسدي عليها أمثال الخواتيم. وقال ابن جريج كان عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض. وقال الربيع : مكتوب على كل حجر اسم من يرمى به. وقال أبو صالح : رأيت منها عند أم هانىء حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع. ومعنى ) عند ربك ( أي في خزائنه لا يتصرف في شيء منها إلا هو ، أو مقرر في علمه إهلاك من أهلك بكل واحد منها ) وما هي ( أي تلك الحجارة ) من الظالمين ( أي من كل ظالم ) ببعيد ( وهو وعيد لأهل مكة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سأل جبرائيل عن هذا فقال يعني من ظالمي أمتك ما من ظالم إلا وهو بصد سقوط الحجر عليه ساعة فساعة. وقيل : أي تلك القرى ليست ببعيدة من ظالمي أهل مكة يمرون بها في مسايرهم إلى الشام. وقيل : المراد أنها وإن كانت في السماء إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقاً بالمرمى فكانت كأنها بمكان قريب والله تعالى أعلم بمراده. ( هود : ( 84 - 102 ) وإلى مدين أخاهم . . . .
" وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما(4/42)
" صفحة رقم 43 "
أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد "
( القراآت )
إني ( بالفتح ) أريكم ( بالإمالة : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو والبزي ، وكذلك روى عن أهل مكة. ) إني أخاف ( ) شقاقي أن ( بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ) وصلواتك ( كما مر في سورة التوبة في قوله : ( إن صلاتك سكن ( ) التوبة : 103 ] ( توفيقي ( بالفتح : أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ونافع ) أرهطي ( بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ) بعدت ثمود ( بالإظهار : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وخلف ويعقوب وعاصم غير الأعشى. الوقوف : ( شعيباً ( ط ) غيره ( ط ) محيط ( ه ) مفسدين ( ه ) مؤمنين ( ج للابتداء بالنفي مع الواو ) بحفيظ ( ه ) ما نشاء ( ط ) الرشيد ( ه ) حسناً ( ط ) عنه ( ط ) ما استطعت ( ط ) إلا الله ( ط ) أنيب ( ه ) صالح ( ط ) ببعيد ( ه ) إليه ( ط ) ودود ( ه ) ضعيفاً ( ج لأن ( لولا ) للابتداء مع الواو ) لرجمناك ( ز لحق النفي وكون الواو للحال أوجه ) بعزيز ( ه ) من الله ( ط للفصل بين الاستخبار والاختبار واتحاد المقصود وجه للوصل ) ظهرياً ( ط ) محيط ( ه ) عامل ( ط ) تعلمون ( ه لا ) كاذب ( ط للفصل بين(4/43)
" صفحة رقم 44 "
الخير والطلب ) رقيب ( ه ) جاثمين ( ه لا ) فيها ( ط ) ثمود ( ه ) مبين ( ه لا لتعلق الجار ) فرعون ( ج للنفي مع الواو للعطف أو للحال ) برشيد ( ه ) النار ( ط ) المورود ( ه ) القيامة ( ط ) المرفود ( ه ) وحصيد ( ه ) أمر ربك ( ج ) تتبيب ( ه ) ظالمة ( ط ) شديد ( ه. التفسير : نقص المكيال يشمل معنيين : بأن ينقص في الإيفاء من القدر الواجب ، ويزيد في الاستيفاء على القدر الواجب فيلزم في كلا الحالين نقصان حق الغير. ثم علل النهي بقوله : ( إني أراكم بخير ( أي بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف ، أو بنعمة من الله حقها أن تشكر لتزداد لا أن تكفر فتزال. ) وإني أخاف عليكم ( عن ابن عباس أنه فسر الخوف بالعلم. وقال آخرون : إنه الظن الغالب لأنه كان يجوز ازدجارهم وانتهاءهم. والعذاب المحيط المهلك المستأصل كأنه أحاط بهم بحيث لا ينفلت منهم أحد. وزيادة اليوم لأجل المبالغة والإِسناد المجازي باعتبار ما هو واقع فيه واستمل عليه ذلك اليوم : قيل : هو عذاب الاستئصال في الدنيا. وقيل : عذاب الآخرة والأظهر العموم. قوله : ( أوفوا المكيال ( إلى قوله ) أشياءهم ( قد مر تفسير مثله في الأعراف. وقوله : ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( مضى تفسيره في أوائل البقرة ، بقي في الآية سؤال وهو أنه سبحانه نهى أوّلاً عن النقص ثم أمر بالإيفاء فهل فيه فائدة سوى التأكيد والتقرير ؟ والجواب بعد تسليم أن النهي عن الشيء أمر بضده ، هو أن النهي عن النقص في المبايعة وإن كان يفيد تصريحة تعييراً وتوبيخاً لكنه ويهم النهي عن أصل المبايعة ، فلدفع هذا الخيال أمر بإيفاء الكيل ، ففيه إباحة أصل المبايعة ، مع التصريح بالنعت المستحسن في العقول لزيادة الترغيب. وفي أيضاً فائدة أخرى من قبل تقييد الإيفاء بالقسط ليعلم أن ما جاوز العدل ليس بجواب بل هو فضل ومروءَة لا تقف عند حد ، وإنما الواجب شيء من الإيفاء بقدر ما يخرج عن العهدة بيقين كما أن غسل الوجه لا يحصل باليقين إلا عند غسل شيء من الرأس ) بقية الله ( قيل : ثواب الله. وقيل : طاعته ورضاه كقوله : ( والباقيات الصالحات خير ) [ الكهف : 46 ] وقيل : أي ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم ) خير لكم ( بشرط أن تؤمنوا الأن شيئاً من الأعمال لا ينفع مع الكفر إن كنتم مصدقين لي فيما أنصح لكم. ولا ريب أن الأمانة تجر الرزق لاعتماد الناس وإقبالهم عليه فينفتح له أبواب المكاسب ، والخيانة تجر الفقر لتنفر الناس عنه وعن معاملته وصحبته. قالت المعتزلة. في إضافة البقية إلى الله دليل على أن الحرام لا يسمى رزق الله. وقرىء ) تقية الله ( بالتاء الفوقانية أي اتقاؤه الصارف عن المعاصي والقبائح ) وما أنا عليكم بحفيظ ( أحفظ(4/44)
" صفحة رقم 45 "
أعمالكم لأجازيكم إنما أنا مبلغ ناصح وقد أعذر من أنذر. قوله : ( أصلاتك ( قيل : أي دينك وإيمانك لأن الصلاة عماد الدين فعبر عن الشيء باسم معظم أركانه. وقيل : المراد الأتباع لأنه أصل الصلاة ومنه المصلي للذي يتلو السابق والمعنى دينك أي أتباعه يأمرك بذلك. والأظهر أن المراد به الأعمال المخصوصة يروى أن شعيباً عليه السلام كان كثير الصلاة فكان قومه إذا رأوه يصلي تغمزوا وتضاحكوا فقصدوا بقولهم : ( أصلاتك تأمرك ( السخرية والهزء فكأن الصلاة التي يداوم عليها ليلاً ونهاراً هي من باب الجنون والوساوس. ومعنى ) تأمرك أن نترك ( تأمرك بتكليف أن نترك على حذف المضاف لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره. وقوله ( أو أن نفعل ( معطوف على ما في ما يعبد أي تأمرك صلاتك بترك ما عبد آباؤنا وبترك أن نفعل ) في أموالنا ما نشاء ( روي أنه كان ينهاهم عن قطع أطراف الدراهم كما كان يأمرهم بترك التطفيف والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير. ) إنك لأنت الحليم الرشيد ( قيل : إنه مجاز والمراد نسبته إلى غاية السفاهة والغواية فعكسوا تهكماً به. وقيل : حقيقة وإنه كان معروفاً فيما بينهم بالحلم والرشد فكأنهم قالوا له : إنك المعروف بهذه السيرة فكيف تنهانا عن دين ألفناه وسيرة تعودناها. ثم أضار عليه السلام إلى ما آتاه الله من العلم والهداية والنبوة والكرامة والرزق الحلال الحاصل من غير بخس ولا تطفيف ، وجواب الشرط محذوف اكتفي عنه بما ذكر في قصتي نوح وصالح ، والمعنى أرأيتم إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وقد آتاني بعد هذه السعادات الروحانية السعادات الدنيوية من الخيرات والمنافع الجليلة هل يسعني مع هذه الإكرامات أن أخون في وحيه ولا آمركم بترك الشرك وبفعل الطاعة والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك ؟ ) وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ( يقال : خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه. فالمعنى لا أجعل فعلي مخالفاً لقولي فلا أٍبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها ) إن أريد إلا الإصلاح ( إلا أن أصلحكم بالموعظة. والنصحية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ) ما استطعت ( ما للمد ظرفاً للإصلاح أي مدة استطاعتي لإصلاحكم ، أو بدل من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته منه ، أو لمضاف محذوف أي إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت ، أو مفعولاً للإصلاح فقد يعمل المصدر المعرف كقوله : ضعيف النكاية أعداءه. أي إلا أن أصلح ما استطعت إصالحه من فسادكم. ثم بين أن كل ما يأتي ويذر فوقوعه بتسهيل الله وتأييده فقال : ( وما توفيقي إلا بالله ( والتوفيق أن توافق إرادة العبد إرادة الله ) عليه توكلت ( أخصه بتفويض الأمور إليه لأنه مبدأ المبادىء ) وإليه أنيب ( لأنه المعاد الحقيقي وفي ضمنه تهديد وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم منه. ثم(4/45)
" صفحة رقم 46 "
أوعدهم بقوله ) لا يجرمنكم شقاقي ( لا يكسبنكم خلافي ) إن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح ( من الغرق ) أو قوم هود ( من الريح العقيم ) أو قوم صالح ( من الصيحة ) وما قوم لوط منكم ببعيد ( لم يقل ( ببعيدة ) حملاً على لفظ القوم لأنه مؤنث ، ولا ( ببعيدين ) حملاً على معناه ولكنه على تقدير مضاف أي وما إهلاكهم ببعيد لأنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدهم. أو المراد وما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد. وجوزوا أن يسوّى في بعيد وقريب وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما. ) إن ربي رحيم ودود ( يجوز أن يكون بمعنى ( فاعل ) أو ( مفعول ) كقوله : ( يحبهم ويحبونه ) [ المائدة : 54 ] وهذا حث لهم على الاستغفار والتوبة ، وتنبيه على أن سبق الكفر والمعصية لا ينبغي أن يمنعهم عن الإيمان والطاعة. ولما بالغ خطيب الأنبياء في التقرير والبيان ) قالوا يا شعيب ما نفقهُ كثيراً مما تقول ( إما لقلة الرغبة أو قالوا تهكماً واستهانةكما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول. كأنهم جعلوا كلامه تخليطاً وهذياناً لا ينفعهم كثير منه. وقيل : لأنه كان ألثغ ) وإنا لنراك فينا ضعيفاً ( عن الحسن : مهينا أي لا عزة لك فيما بيننا ولا قوة فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروهاً. وفسر بعضهم الضعيف بالأعمى لأن العميى سبب الضعف ، أو لأنه لغة حمير. وزيف هذا القول أما عند من لا يجوزه - كبعض المعتزلة - فلأن الأعمى لا يمكنه الاحتراز من النجاسات وأنه يخل بجواز كونه حاكماً وشاهداً ، فلأن يمنع من النبوة كان أولى. ثم ذكروا أنهم إنما لم يريدوا به المكروه ولم يوقعوا به الشر لأجل رهطه - والرهط من الصلاة إلى العشرة وقيل إلى السبعة - والرجم شر القتل وهو الرمي بالحجارة ، أو المراد الطرد والإبعاد ومنه الشيطان الرجيم. ثم أكدوا المذكور بقولهم ) وما أنت علينا بعزيز ( وإنما العزيز علينا رهطك لا خوفاً من شوكتهم ولكن لأنهم من أهل ديننا ، فالكلام واقع في فاعل العز لا في الفعل وهو العز ولذلك قال في جوابهم ) أرهطي أعز عليكم من الله ( ولو قيل وما عززت علينا لم يصح هذا الجواب ، وإنما لم يقل أعز عليكم مني إيذاناً بأن التهاون بنبي الله كالتهاون بالله كقوله : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) [ النساء : 80 ] ( واتخذتموه ( أي أمر الله أو جئت به ) وراءكم ظهرياً ( منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب أي جعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر غير ملتفت إليه. ثم وصف الله تعالى بما يتضمن الوعيد في حقهم قال : ( إن ربي بما تعملون محيط (. ثم زاد في الوعيد والتهديد بقوله : ( اعملوا على مكانتكم ( وقد مر تفسير مثله في ( الأنعام ) قال في(4/46)
" صفحة رقم 47 "
الكشاف : الاستئناف يعني في ) سوف تعلمون ( وصل خفي تقديري وإنه أقوى من الوصل بالفاء وهوباب في أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه. ثم بالغ في التهديد بقوله : ( وارتقبوا ( انتظروا عاقبة الشقائق ) إني معكم رقيب ( راقب كالضريب بمعنى الضارب ، أو مراقب كالعشير والنديم ، أو مرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع. وباقي القصة على قياس قصة صالح وأخذ الصيحة وأخذت الصحية كلتا العبارتين فصيحة لمكان الفاصل إلا أنه لما جاء في قصة شعيب مرة الرجفة ومرة الظلة ومرة الصيحة ازداد التأنيث حسناً بخلاف قصة صالح. وإنما دعاه عليه بقوله : ( كما بعدت ثمود ( لما روى الكلبي عن ابن عباس قال : لم يعذب الله آمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح. فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم ، وأما قوم شعيب فأخذتهم من فوقهم. قوله سبحانه ) بآياتنا وسلطان مبين ( قال في التفسير الكبير : الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات المفيدة للظن وبين الدلائل التي تفيد اليقين. والسلطان اسم لما يفيد القطع وإن لم يتأكد بالحسن ، والسلطان المبين مخصوص بالدليل القاطع الذي يعضده الحس. وقال في الكشف : يجوز أن يراد أن الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوته ، وأن يرا بالسلطان المبين العصا لأنها أبهرها ، وقوله : ( إلى فرعون ( متعلق ب ) أرسلنا ( ) فاتبعوا أمر فرعون ( أي شأنه وطريقه أو أمره إياهم بالكفر والجحود وتكذيب موسى ) وما أمر فرعون برشيد ( أي ليس في أمره رشد إنما فيه غير وضلال ، وفيه تعريض بأن الرشد والحق في أمر موسى. ثم إن قومه عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في أمره رشد قط ، فلا جرم كما كان فرعون قدوة لهم في الضلال فكذلك يقدمهم أي تقدمهم يوم القيامة إلى النار وهم على أثره ، ويجوز أن يراد بالرشد الإحماد وحسن العاقبة فيكون المعنى وما أمر فرعون بحميد العاقبة. ثم فسره بأنه ) يقدم قومه ( أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته. ويقال : قدمه وقدمه بالتخفيف والتشديد بمعنى تقدمه ومنه مقدمة الجيش ومثله أقدم ومنه مقدم العين. وإنما قال ) فأوردهم ( بلفظ الماضي تحقيقاً للوقوع. والورد المورود الذي وردوه ، شبّه فرعون بمن يتقدم الواردة إلى الماء ، وشبه أتباعه بالواردة. ثم نعى عليهم بقوله : ( وبئس الورد ( الذي يردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضده وتذكير ) بئس ( لتذكير الورد الورد وإن كان هو عبارة عن النار كقولك : نعم المنزل دارك ولو قلت : نعمت جاز نظراً إلى الدار. وفي تشبيه النار بالماء نوع تهكم بهم ) وأتبعوا في هذه ( حذف صفته في هذه الآية اكتفاء بما مر في قصة عاد. و ) بئس الرفد المرفود ( أي بئس العطاء المعطى ذلك. وقيل : الرفد العون والمرفود المعان(4/47)
" صفحة رقم 48 "
وذلك أن اللعنة في الدنيا رفدت أي أعينت وأمدت باللعنة في الآخرة ، قال قتادة : ترادفت عليهم لعنتان لعنة من الله والملائكة واللاعنين في الدنيا ولعنة في الآخرة. ) ذلك ( الذي ذكرنا أو ذلك النبأ بعض ) أنباء القرى ( المهلكة ) نقصه عليك ( خبر بعد خبر ، ثم على ساقه وبعضها عافي الأثر كالزرع المحصود ) وما ظلمناهم ( بإهلاكنا إياهم ) ولكن ظلموا أنفسهم ( بارتكاب ما به أهلكوا. عن ابن عباس : وما نقصناهم في الدنيا في النعيم والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفوا بحقوق الله ) فما أغنت ( فما قدرت أن ترد ) عنهم آلهتهم التي يدعون ( يعبدون وهي حكاية حال ماضية بأس الله حين جاء ) وما زادوهم ( يعني آلهتهم ) غير تتبيب ( تخسير. تب خسر وتببه غيره أوقعه في الخسران. كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين في الدنيا على تحصيل المنافع ودفع المضار. وستنفعهم عند الله في الآخرة فلم تنفعهم في الدنيا حين جاءهم عذاب الله وسيؤرثهم ذلك الإعتقاد عذاب النار في الآخرة فهم في خسران الدارين. ثم بيَّن أن عذابه غير مقصور على أولئك الأقوام ولكنه يعم كل ظالم سيوجد فقال : ( وكذلك ( أي مثل ذلك الأخذ ) أخذ ربك ( فالأخذ مبتدأ وذلك خبره وقوله ( وهي ظالمة ( حال من القرى باعتبار أهلها ) إن أخذه أليم شديد ( وجيع صعب على المأخذ وهو تحذير من وخامة عاقبة كل ظلم على الغير أو على النفس فعلى العاقل أن يبادر إلى التوبة ولا يغتر بالإمهال. التأويل : ( ولا تنقصوا ( مكيال المحبة وميزان الطلب ، فمكيال المحبة عداوة ما سوى الله ، وميزان الطلب السير على قدمي الشريعة والطريقة ) إني أراكم بخير ( هو حسن الاستعداد الفطري وإني أخاف عذاب فساد الاستعداد في طلب غيرالحق ) بالقسط ( في تعظيم أمرالله والشفقة على خلق الله. ) ولا تبخسوا الناس أشياءهم ( حقوق النصيحة ببقائه ) خير لكم ( مما فاتكم بإيفاء المكيال والميزان. ) رزقاً حسناً ( نوراً تاماً أراني به. إصلاح الأمور والاستعدادات إن ساعدني التوفيق ) وما ( معاملة ) قوم لوط ( من معاملتكم ) ببعيد ( لأن الكفر كله ملة واحدة. ) وما أمر فرعون برشيد ( لأن فرعون النفس أمارة بالسوء. ) إذا أخذ القرى ( قرى الأجساد ) منها قائم ( قابل لتدارك ما فات. ومنها ما هو محصود بفوات الاستعداد والله تعالى أعلم بالصواب ( هود : ( 103 - 123 ) إن في ذلك . . . .
" إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما(4/48)
" صفحة رقم 49 "
الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون "
( القراآت )
وما يؤخره ( بالياء : يعقوب والمفضل. الباقون بالنون ) يوم يأتي ( بإثبات الياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو جعر ونافع وأبو عمروا وعلي في الوصل. الآخرون بحذف الياء ) لا تكلم ( بتشديد التاء : البزي وابن فليح ) سعدوا ( بضم السين : حمزة وعلي وخلف وحفص. قيل إنه على حذف الهمزة من ( أسعدوا ) لأن ) سعدوا ( لازم ولكنه قد جاء المسعود ، الآخرون بفتحها ) وإن كلاً ( بالتخفيف : ابن كثير ونافع وأبو بكر وحماد. الباقون بالتشديد. ) لما ( مشدداً : ابن عامر وعاصم ويزيد وحمزة ونافع وأبو بكر وحماد. الباقون بالتخفيف ) وزلفاً ( بضمتين : يزيد. الآخرون بفتح اللام ) فؤادك ( وبابه بغير همز : الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف ) يرجع مجهولاً : نافع وحفص والمفضل ) تعملون ( خطاباً وكذلك في آخر ( النمل ) : أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب وحفص. الباقون على الغيبة .(4/49)
" صفحة رقم 50 "
الوقوف : ( الآخرة ( ط ) مشهود ( ه ) معدود ( ط ) بإذنه ( ج لاختلاف الجملتين مع فاء التعقيب. ) وسعيد ( ه ) شهيق ( ه لا لأن ما يتلوه حال والعامل فيه ما في النار من معنى الفعل ) شاء ربك ( ط ) يريد ( ه ) شاء ربك ( ط لأن التقدير يعطون عطاء ) مجذوذ ( ه ) هؤلاء ( ط ) من قبل ( ط ) منقوص ( ه ) فاختلف فيه ( ط ) بينهم ( ط ) مريب ( ه ) أعمالهم ( ط ) خيبر ( ه ) ولا تطغوا ( ط ) بصير ( ه ) النار ( لا لأن ما بعده من تمام جزاء ولا تركنوا ) تنصرون ( ه ) من الليل ( ط ) السيئات ( ط ) للذاكرين ( ه ) المحسنين ( ه ) منهم ( ج لأن التقدير وقد اتبع ) مجرمين ( ه مصلحون ( ه ) مختلفين ( ه لا ) رحم ربك ( ط ) خلقهم ( ط ) أجميعن ( ه ) فؤادك ( ج إذ التقدير وقد جاءك ) للمؤمنين ( ه ) مكانكم ( ط ) عاملون ( ه لا للعطف ) وانتظروا ( ج أي فإنا ) منتظرون ( ط ) وتوكل عليه ( ط ) تعملون ( ه. التفسير : ( إن في ذلك ( الذي قصصنا عليك من أحوال الأمم ) لآية ( لعبرة ) لمن خاف ( أي لمن هو أهل لأن يخاف ) عذاب الآخرة ( كقوله : ( هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] لأن انتفاعه يعود إليهم. قال القفال - في تقرير هذا الاعتبار : إنه إذاعلم أن هؤلاء عذبوا على ذنوبهم في الدنيا وهي دار العمل فلأن يعذبوا عليها في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى. واعترض عليه في التفسير الكبير بأن ظاهر الآية يقتضي أن العلم بأن القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بظهور عذاب الاستئصال في الدنيا. والقفال جعل الأمر على العكس قال : والأصوب عندي أن هذا تعريض لمن زعم أن إله العالم بأن القيامة لا فاعل مختار ، وأن هذه الأحوال التي ظهرت في أيام الأنبياء عليهم السلام مثل الغرق والخسف والصيحة إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب ، وإذا كان كذلك فلا يكون حصولها دليلاً على صدق الأنبياء عليهم السلام. أما الذي يؤمن بالقيامة ويخاف عذابها فيقطع بأن هذه الوقائع ليست بسبب الكواكب واتصالاتها فيستفيد مزيد الخشية والاعتبار. أقول : وهذا نظر عميق والأظهر ما ذكرت أوّلاً ومثله في القرآن كثير. ) إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ) [ النازعات : 26 ] ( إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ) [ النحل : 13 ] ثم لما كان لعذاب الآخرة دلالة على يوم القيامة أشار إليه بقوله : ( ذلك يوم مجموع ( أي يجمع لما فيه من الحساب والثواب والعقاب. ) الناس ( وأوثر اسم المفعول على فعله لأجل إفادة الثبات وأن حشر الأولين والآخرين فيه صفة له لازمة نظيره قول المتهدد : إنك لمنهوب مالك محروب قومك. فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل ) وذلك يوم مشهود ( أي مشهود فيه الخلائق فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به. والفرق(4/50)
" صفحة رقم 51 "
بين هذا الوصف والوصف الأول أن هذا يدل على حضور الناس فيه مع اطلاع البعض منهم على أحوال الباقين من المحاسبة والمساءلة ليس بحيث لا يعرف كل واحد إلا واقعة نفسه. والجمع المطلق لا يفيد هذ المعنى وإنما فسرنا اليوم بأنه مشهود فيه لا أنه مشهود في نفسه لأن سائر الأيام تشركه في كونا مشهودات. وإنما يحصل التمييز بأنه مشهود فيه دون غيره كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهوداً فيه دونها ) وما نؤخره إلا ( لانتهاء ) لأجل معدود ( أي انقضاء مدة معلومة عيَّن الله وقوع الجزاء بعدها وفيه فائدتان : إحداهما أن وقت القيامة متعين لا يتقدم ولا يتأخر ، والثانية أن ذلك الأجل متناهٍ وكل منتاهٍ فإنه يفنى لا محالة وكل آتٍ قريب. ثم ذكر بعض هذيل ، وفاعل ) يأتي ( قيل : الله كقوله : ( أو يأتي ربك ) [ الأنعام : 158 ] أي أمره أو حكمه دليله قراءة من قرأ ) وما يؤخره ( بالياء وقوله : ( بإذنه (. وقيل : المراد الشيء المهيب الهائل المستعظم فحذف ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف. وقيل : فاعله ضمير اليوم والمراد إتيان هوله وشدائده كيلا يصير اليوم ظرفاً لإتيان اليوم. وانتصاب ) يوم ( ب ) لا تكلم ( أو باذكر مضمراً أو بالانتهاء المقدر أي ينتهي الأجل يوم يأتي وتاء التأنيث محذوفة من لا تكلم ، والآيات الدالة على التكلم في ذلك اليوم مع الآيات الدالة على نفي التكلم كقوله تعالى : ( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ( ) النحل : 111 ] وكقوله : ( هذا يوم لا ينطقون ( ) المرسلات : 35 ] محمولة على اختلاف المواطن والأزمنة ، أو نفى العذر الصحيح المقبول وأثبت العذر الباطل الكاذب. ثم قسم أهل الموقف المجموعتين للحساب أو الأفراد العامة التي دلت عليها نفس فقال : ( فمنهم شقي وسعيد ( أي ومنه سعيد. ولا خلاف في أن الشقاء والسعادة مقترنان بالعمل سبب للشقاء مثلاً كما هو مذهب المعتزلة ، أو الشقاء سبب العمل كما هو مذهب أهل السنة ، فيختلف تفسير الشقاء بحسب المذهبين فهو عند المعتزلة الحكم بوجوب النار له لإساءته ، وعند السني جريان القلم عليه في الأزل بأنه من أهل النار وأنه يعمل عمل أهل النار والتحقيق في المسألة قد مر مراراً. قيل : قد بقي ههنا قسم أخر ليسوا من أهل النار ولا من أهل الجنة كالمجانين والأطفال فهم أصحاب الأعراف ، وتخصيص القسمين بالذكر لا يدل على نفي الثالث. أما قوله في صفة أهل النار ) لهم فيها زفير وشهيق ( ففيه وجوه قال الليث وكثير من الأدباء : الزفير استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه(4/51)
" صفحة رقم 52 "
وحينئذٍ يرتفع صدره وينتفخ جنباه ، والشهيق إخراج ذلك الهواء بجهد شديد من الطبيعة ، وكلتا الحالتين تدل على كرب شديد وغم عظيم. الحاصل أنهم جعلوا الزفير بمنزلة ابتداء نهيق الحمار ، والشهيق بمنزلة آخره. وقال الحسن : إن لهب جهنم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلوا إلى أعلى دركات جهنم وطمعوا في أن يخرجوا منها ضربتهم الملائكة بمقامع من حديد ويردونهم إلى الدرك الأسفل من النار ، فارتفاعهم في النار هو الزفير ، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق. وقال أبو مسلم : الزفير ما يجتمع في الصدر من النفس عند البكاء الشديد فينقطع النفس ، والشهيق هو الصوت الذي يظهر عند اشتداد الكربة والحزن ، وربما يتبعها الغشية ، وربما يحصل عقيبه الموت. وقال أبو العالية : الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدر. وقيل : الزفير الصوت الشديد ، والشهيق الصوت الضعيف. وعن ابن عباس : لهم فيها بكاء لا ينقطع وحزن لا يندفع. وقال أهل التحقيق : قوة ميلهم إلى الدنيا ولذاتها زفير ، وضعفهم عن الاستسعاد بكمالات الروحانيات شهيق. ثم إن قوماً ذهبوا إلى أن عذاب الكفار منقطع وله نهاية واستدلوا على ذلك بالقرآن والحديث والمعقول. أما القرآن فقوله سبحانه : ( خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ( أي مدة بقائهما ) إلا ما شاء ربك ( وفي استدلالان : الأول مدة عقابهم مساوية لمدة بقائهما ) لابثين فيها أحقاباً ( ) النبأ : 23 ] وأما الحديث فما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ) ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد ( وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً. وأما المعقول فهو أن العقاب ضرر خال عن النفع لا في حق الله تعالى ولا في حق المكلف فيكون قبيحاً. وأيضاً الكفر جرم متناه ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم. والجمهور من الأمرة على أن عذاب الكافر دائم. وأجابوا عن الآية بأن المراد سموات الآخرة وأرضها المشار إليهما بقوله : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات ) [ إبراهيم : 48 ] ولا بد لأهل الآخرة مما يظلمهم ويقلهم فهما السماء والأرض ، وإذا علق حصول العذاب للكافر بوجودهما لزم الدوام. وأيضاً القرآن قد ورد على استعمالات العرب. وإنهم يعبرون عن الدوام والتأبيد بقولهم ) ما دامت السموات والأرض ( ونظيره قوله : ( ما اختلف الليل والنهار ) و ( ما أقام ثبير وما لاح كوكب ). ويمكن أيضاً أن يقال : حاصل الآية يرجع إلى شرطية هي قولنا : إن دامت السموات والأرض دام عقابهم فإذا قلنا لكن السموات والأرض دائمة لزم دوام عقابهم وهو المطلوب ، وإن قلنا لكنهما لم تدوما فإنه لا ينتج مطلوب الخصم لأن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئاً. وبعبارة أخرى دلت الآية على أنه(4/52)
" صفحة رقم 53 "
كلما وجدت السموات والأرض وجد عقابهم. فلو قلنا لكنهما لم يوجدا لم يلزم منه أن لا يوجد عقابهم ، أو يوجد فالآية لا تدل على حصول العقاب لهم دهراً طويلاً ومدة مديدة. وأما إنه هل يكونله آخر أم لا فذلك إنما يستفاد من دليل آخر كقوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] وأما الاستدلال بالاستثناء فقد ذكر ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء أن هذا الاستثناء لا ينافي عدم المشيئة كقولك و ) الله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك ( وقد يكون عزمك على ضربه ألبته وتعلم أنك لا ترى غير ذلك. وردّ بالفرق ، فإن معنى الآية الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء الله ، فالمشيئة قد حصلت جزماً. ولقائل أن يقول : المضاي ههنا في معنى الاستقبال مثل ) ونادى أصحاب الأعراف ) [ النساء : 48 ] ( وسيق الذين اتقوا ) [ الزمر : 73 ] فلم يبق فرق : وقيل : ( إلا ( بمعنى ) سوى ( أي سوى ما يتجاوز ذلك ن الخلود الدائم كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه ، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له. وقال الأصم وغيره : المراد زمان مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو في الموقف. وقيل : الاستثناء يرجع إلى قوله : ( لهم فيها زفير وشهيق ( كأنهم يصيرون آخر الأمر إلى الهمود والخمود. وقيل : فائدة الاستثناء أن يعلم إخراج أهل التوحيد من النار والمراد إلا من شاء ربك ، وهذا التأويل إنما يليق بقاعدة الأشاعرة وأكدوه بقوله : ( إن ربك فعال لما يريد ( فكأنه تعالى يقول : أظهرت القهر والقدرة ثم أظهرت المغفرة والرحمة لأني فعال لما أريد ، وليس لأحد عليّ حكم ألبته. وأما المعتزلة فكأنهم لا يرضون بهذا ويقولون : إن الاستثناء الثاني لا يساعده الحصول الإجماع على أن أحداً من أهل الجنة لا يدخل النار. فالصواب أن يقال : إنه استثناء من الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة ، فإن أهل النار ينقلون إلى الزمهرير وإلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله ، وأهل الجنة ينقلون إلى العرش أو إلى ما هو أعلى حالاً من الجنة كقوله : ( ورضوان من الله أكبر ) [ التوبة : 72 ] ثم قالا : إنه ختم آية الوعيد بقوله : ( إن ربك فعال لما يريد ( وآية الوعد بقوله : ( عطاء غير مجذوذ ( رعاية للمطابقة كأنه قال : إنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له والجذ القطع. وأما الجواب عن الحديث فقد قال في الكشاف : إن صح فمعناه أنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها. وأقول : يحتمل أن يكون الألف سبب عدم الإحساس بالعذاب بل يكون سبب الالتذاذ بالمألوف فيكون خلوّ جهنم إشارة إلى هذا المعنى. وأما الجواب عن المعقول فهو أن السير في الله ومبدأه من عالم التكاليف لما كان غير متناهٍ فعذاب البعد عنه أيضاً يجب أن(4/53)
" صفحة رقم 54 "
يكون غير متناهٍ : أو نقول : لا نهاية لنوره فلا غاية لظلمة الغافل عنه والمنكر له. أو نقول : أوضح الأشياء الوجود الواجب فإذا كان الشخص ذاهلاً عنه كان مسلوب الاستعداد بالكلية فلا يكون إنساناً في الحقيقة ، فلا تصور له عروج من عالم الطبيعة ، والعبارات في هذا المقام كثيرة والمعنى واحد يدركه من وفق له وخلق لأجله. ولما فرغ من أقاصيص عبدة الأصنام وبيان أحوال الأشقياء والسعداء سلّى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن نهي له عن الامتراء في سوء مغبتهم قائلاً ) فلا تك ( حذف النون لكثرة الاستعمال ) في مرية ( في شك ) مما يعبد ( ) ما ( مصدرية أو موصولة أي من عبادة ) هؤلاء ( أو من الذي يعبده هؤلاء المشركون والمراد النهي عن الشك في سوء عاقبة عبادتهم. ثم علل النهي مستأنفاً فقال : ( ما يعبدون إلا كم يعبد ( كالذي يعبده ) آباؤهم ( أو كعبادة آبائهم. والحاصل أنهم شبهوا بآبائهم في لزوم الجهل والتقليد. ) وإنا لموفوهم نصيبهم ( من الرزق والخيرات الدنيوية أو من إزالة العذر وإزاحة العلة بإرسال الرسول وإنزال الكتاب ، أو نصيبهم من العذاب كما وفينا آباؤهم أنصباؤهم. وفي الكشاف أن ) غير منقوص ( حال من النصيب ليعلم أنه تام كامل إذ يجوز أن يوفي بعض الشيء. كقولك وفيته شطر حقه. قلت : هي مغالطة لأن قول القائل : ( وفيته شطر حقه ( التوفية تعود إلى الشطر. فلو قيل : غير منقوص كان كالمكرر. وعاد السؤال. فالصواب أن يقال : إنه حال مؤكدة أو صفة تقوم مقام المصدر أي توفيه نحو ) ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) [ البقرة : 60 ] أي إفساداً. ثم أورد نظيراً لإنكارهم نبوّة محمد صلى الله عليه السلام فقال : ( ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ( آمن به قوم وكفر به قوم آخرون كما اختلف في القرآن ، والغرض أن إنكار الحق عادة قديمة للخلق ) ولولا كلمة سبقت من ربك ( هي أن رحمتي سبقت غضبي أو هي ان دار الجزاء الآخرة لا الدنيا أو هي أن هذه الأمة لا يعذبون بعذاب الاستئصال. ) لقضي بينهم ( بين قوم موسى أو بين قومك بتمييز المحق من المبطل بسبب الإنجاء والإهلاك وهذه من جملة التسلية أيضاً ) وإنهم ( يعني قوم موسى أو قومك ) لفي شك منه ( من كتابه أو من كتابك أو من أمر المعاد أو القضاء أو الجزاء. ثم جميع الأولين والآخرين في حكم توفية الجزاء ثواباً أ وعقاباً فقال : ( وإن كلاً ( التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي وإن كلهم يعني أن جميع المختلفين فيه. ومن قرأ بالتخفيف فعلى أعمال المخففة إذ لا يلزم من التخفيف إبطال العمل كما في ) لم يكن ( ) ولم يكن (. ومن قرأ ) لما ( مخففاً فاللام هي الداخلة في خبر ) إن ( و ) ما ( مزيدة للفصل بين لام ) إن ( وبين لام جواب القسم المقدر كما فصلوا بالألف بين النونات في قولهم ) أضربنان (. ويمكن أن يكون ) ما ((4/54)
" صفحة رقم 55 "
نكرة أي لخلق أو جمع. والله ليوفينه ربك أعمالهم من حسن وقبيح وإيمان وجحود. ومن قرأ ) لما ( مشدداً فأصله ) لمن ما ( قلبت النون ميماً فاجتمع ثلاث ميمات ، فحذفت الأولى تخفيفاً ، وجاز حذف الأولى وإبقاء الساكنة لاتصال اللام بها. ويجوز أن يكون أصله ) لما ( بالتنوين - كما في قراءتي الزهري وسليمن بن أرقم - فحذف فبقى ) لما ( ممدوداً ومعناه ملومين أي مجموعين. وقرأ أبيّ ) وإن كل لما ليوفينهم ( على أن ) إن ( نافية و ) لما ( بمعن ) إلا ( كما في الطارق. ولا يخفى ما في الآية من مؤكدات توفية الجزماء وأن شيئاً من الحقوق لا يضيع عنده. منها لفظة ) إن ( ، ومنها لام خبر ) إن ( ، ومنها ) كل ( ، ومنها ) ما ( المزيدة ، ومنها القسم ، ومنها لا القسم ، ومنها لام القسم ، ومنها نون التأكيد ، ومنها لفظ التوفية ، ومنها ربك فإن من يربيك يقدر على توفية حقك ، ومنها الجميع المضاف ، ومنها ختم الآية بقوله : ( إنه بما يعملون خبير ( فإنه إذا كان عالماً بكل المعلومات قادراً على كل المقدورات كان عالماً بعمل كل أحد وبمقدار جزاء عمله ، وقادراً على إيصال ذلك إليه ، ثم إن كلامه حق وصدق وقد أخبر عن التوفية مع المؤكدات المذكورة فيقع وعده ووعيده لا محالة. ثم أمر نبيه لتقتدي به أمته بكلمة جامعة للعقائد والأعمال قائلاً ) فاستقم كما أمرت ( عن جعفر الصادق رضي الله عنه. معنه افتقر إلى الله بصحة العزم يعني الوثوق به والتوكل عليه ) ومن تاب معك ( عطف على الضمير في ) فاستقم ( وصح للفصل أو هو ابتداء أي ومن تاب معك فليستقم أو مفعول معه. ثم كما أمر بالاستقامة على جادّة الحق نهى عن الانحراف عنها فقال ) ولا تطغوا ( والطغان مجاوزة الحد. وقال ابن عباس : يريد تواضعوا للحق ولا تتكبروا على الخلق. وخصص بعضهم الطغيان بالتجاوز عن حدود القرآن بتحليل حرامه وتحريم حلاله. وهذه الآية أصل عظيم في الشريعة فيكون الترتيب في الوضوء واجباً كما ورد في القرآن ، وكذلك القول في الحدود والكفارات ونصاب الزكاة وأعداد الركعات وغيرها من جميع المأمورات والمنهيات. ويجب الاحتياط في المسائل الاجتهادية وفي القياسات. وكذا في الأخلاق والملكات وفي كل ما له طرفا إفراط وتفريط فيهما مذمومان. والمحمود هو الوسط وهو الصراط المستقيم المأمور بالاستقامة والثبات عليه. ولا ريب أن معرفته صعبة وبتقدير عرفته فالعمل به والبقاء عليه أصعب ولهذا قال ابن عباس : ما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) آية في القرآن أشد ولا أشق من هذه حتى إن أصحابه قالوا له : لقد أسرع فيك الشيب فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( شيبتني هود ( أعني هذه الآية منها. ثم لما كان لقرين السوء مدخل عظيم في تغيير العقائد وتبديل الأخلاق نهى عن مخالطة من يضع الشيء في غير موضعه فقال : ( ولا تركنوا ( أي لا(4/55)
" صفحة رقم 56 "
تميلوا بالمحبة والهوى ) إلى الذين ظلموا ( فقال المحققون : الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة وتحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب ، فأما مداخلتهم لدفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة فغير داخلة في الركون. أٌول : هذا من طريق المعاش والرخصة ، ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية ) أليس الله بكاف عبده ) [ الزمر : 36 ] وفي قوله : ( فتمسكم النار ( إشارة إلى أن الظلمة أهل النار بل هم في النار أو كالنار ) أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ) [ البقرة : 174 ] ومصاحبة النار توجب لا محالة مس النار. وقوله : ( وما لكم من دون الله ( من تتمة الجزاء. وقال في الكشاف : الواو للحال ) من أولياء ( من أنصار أي لا يقدر على منعكم من عذاب الله إلا هو. ) ثم لا تنصرون ( ثم لا ينصركم هو أيضا. وفيه أقناط كلي. وفائدة ) ثم ( تبعيد النصرة من الظلم. قال أهل التحقيق : الركون الميل اليسير وقوله : ( إلى الذين ظلموا ( أي الذين حدث منهم الظلم. فلم يقل ) ولا تميلوا إلى الظالمين ( ليدل على أن قليلاً من الميل إلى من حدث منه شيء من الظلم يوجب هذا العقال ، وإذا كان هذا الحال من ركن إلى من ظلم فكيف يكون حال الظالم في نفسه ؟ عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من دعا الظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه (. وقال سفيان : في جهنم وادٍ لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. وعن محمد بن مسلمة : الذباب على العذرة أحسن من قارىء على باب هؤلاء. ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هي سيقى شربة ماء ؟ فقال : لا. فقيل له : يموت. فقال : دعه يموت. ثم خص من أنواع الاستقامة إقامة الصلاة تنبيهاً على شرفها فقال : ( وأقم الصلاة ( قيل : تمسك بعض الخوارج بهذه الآية على أن الواجب من الصلاة ليس إلا الفجر والعشاء لأنهما طرفا النهار وهما الموصوفان بكونهما زلفاً من الليل ، فإن ما لم يكون ليلاً. غاية ما في الباب أن هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف وهو كثير في كلامهم ، ولئن سلم وجوب صلاة أخرى إلا أن قوله : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ( يشعر بأن إقامة الصلاة طرفي النهار كفارة لترك سائر الصلوات. وجمهور الأمة على بطلان هذا القول واستدلوا بالآية على وجوب الصلوات الخمس لأن طرفي النهار منصوب على الظرف لإضافتهما إلى الوقت فيكتسب المضاف حكم المضاف إليه كقولك ) أتيته نصف النهار ( والطرفان هما الغدوة وهي الفجر والعشية وفيها الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشيّ ) وزلفاً ( جمع زلفة كظلم وظلمة أي ساعات ) من الليل ( قريبة من آخر النهار من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه. وقرىء ) زلفاً ( بسكون اللام نحو ) بسرة ( و ) بسر (. والزلف فيمن قرأ بضمتين نحو ) بسر ( و ) بسر ( .(4/56)
" صفحة رقم 57 "
وقيل : ( زلفاً ( أي قرباً فيكون معطوفاً على الصلاة أي أقم الصلاة وأقم زلفاً أي صلوات يتقرب بها إل الله عز وجل في بعض الليل. وبالجملة فصلاة الزلف والمغرب والعشاء. وقيل : إن طرفي النهار لا يشمل إلا الفجر والعصر وبه استدل على مذهب أبي حنيفة أن التنوير بالفجر أفجر وتأخير العصر أفضل ، لأن الأمة أجمعت على أن نفس الطرفين - وهما وقت الطلوع والغروب - لا يصلح لإقامة الصلاة ، فكل وقت كان أقرب إلى الطرفين كان أولى بإقامة الصلاة فيه حملاً للمجاز على ما هو أقرب إلى الحقيقة ما أمكن. هذا ما ذكره فخر الدين الرازي في تفسيره. ولقائل أن يقول : هذا لا يتمشى في صلاة الفجر لأن الطرف الأولى للنهار في الشرع هو طلوع الصبح الصادق ، والتنوير مبعد الصلاة منه لا مقربّ. ولا أدري كيف ذهب عليه هذا المعنى مع إفراط عصبيته للشافعي. واستدل أيضاً لأبي حنيفة على مذهبه في وجوب الوتر أن أقل الجمع ثلاثة فتجب إقامة الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ثلاث زلف من الليل أي ثلاث ساعات ذهب نها ساعتان للمغرب والعشاء فتعين أن تكون الساعة الثالثة للوتر ، وإذا وب عليه وجب على أمته لقوله : ( فاتبعوه ) [ الأنعام : 153 ] ولمانع أن يمنع أن أقل الجمع ثلاثة أشياء ، ثم إن كل ساعة لأجل صلاة ، ثم إن كل ما يجب على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يجب على الأمة لأن الاتباع هو الإتيان بمثل فعله أعم من أن يكون على تلك الجهة أم لا. ) إن الحسنات يذهبن السيئات ( قال المفسرون : نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري ، كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته فقال لها : إن في البيت أجود من هذا. فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها وأصاب منها كل ما يصيب الرجل من زوجته سوى الجماع ، ثم ندم فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره بما فعل فقال : انتظر أمر ربي فلما صل صلاة العصر نزلت فقال : نعم اذهب فإنها كفارة لما عملت. فقيل له : هذا له خاصة أم للناس عامة ؟ فقال : بل للناس عامة. وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال له : ( توضأ وضوءاً حسناً وصل ركعتين (. ) إن الحسنات يذهبن السيئات ( قال ابن عباس : أي الصلوات الخمس كفارة لسائر الذنوب ما لم تكن كبيرة. وقيل : المراد إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن مجاهد : الحسنات قول العبد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وقد يحتج بالآية على أن المعصية لا تضرّ مع الإيمان الذي هو رأس الأعمال الحسنة. ) ذلك ( المذكور من قوله : ( فاستقم ( إلى ههنا ) ذكرى للذاكرين ( عظة للمتعظين وإرشاد للمسترشيدن. ثم أمر بالصبر على التكاليف المذكورة أمراً ونهياً ، ونص عن أن الإتيان بها إحسان وأن جزاءه سيحصل لا محالة فقال : ( واصبر ( الآية. ثم عاد على أحوال الأمم اخالية وبين أن السبب في حلول عذاب الاستئصال بهم أمران :(4/57)
" صفحة رقم 58 "
الأول أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد وذلك قوله : ( فلولا ( أي فهلا ) كان من القرون من قبلكم أولو بقية ( ذوو خير ورشد وفضل ، وذلك أن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصارت البقية مثلاً في الجودة. يقال : فلان من بقية القوم أي من خيارهم. ومن أمثالهم ) في الزاوية خبايا وفي الرجال بقايا (. وجوّز في الكشاف أن يكون من البقوى كالتقية في التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه ) إلا قليلاً ( استثناء متصل لأن في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل : ما كان منالقرون ناس ناهون إلا ناساً قليلاً. ومن في ) ممن أنجيبنا ( للبيان أي هم الذين أنجيناهم. قال في الشكاف : لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم. ولقائل أن يقول : إذا كان النهي عن المنكر فرض كفاية لم يلزم أن تنحصر النجاة في الناهين ؟ فيحتمل أن تكون من للتبعيض ويجوز - على ما في الكشاف - أن يكون الاستثناء منقطعاً معناه ولكن قليلاً ممن أنجيناه من القرون نهوا عن الفساد. قال : ولو جعلته متصلاً على ما عليه ظاهر الكلام كان المعنى فاسداً لأنه يكون تحضيضاً لأولي البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول : هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم. تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن : أقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من استثناء الصلحاء منهم أنه لا حاجة لهم إلى التحضيض كأنك قلت : أحضض قومك على القراءة إلا الصلحاء فإنهم لا يحتاجون إلى ذلك لأنهم مواظبون عليها ، على أن في جعل الاستثناء منقطعاً شبه تناقض ، لأن أول الكلام يدل على أنه لم يكن فيهم ناهٍ وآخره يدل على أن القليل منهم قد نهوا فتأمل في هذا المقام فإنه من مزلة الأقدام. السبب الثاني. في نزول العذاب قوله : ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا ( ما غرقوا ) فيه ( من التنعيم والتترف من حيث الرياسة والثروة وأسباب العيش الهنيّ ورفضوا ما وراء ذلك مما تيعلق بأمر الدين ، فهذه الجملة معطوفة على مدلول الجملة التحضيضية أي ما كان من القرون ناس كذا واتبع الظالمون كذا. ويجوز أن يكون في الكلام إضمار والواو للحال كأنه قيل : أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاء إترافهم. والمترف الذي أبطرته النعمة ، وصبي مترف منعم البدن. وقوله : ( وكانوا مجرمين ( إما معترضة وإما معطوف على ) اتبع ( أي وكانوا مجرمين بذلك ، أو على ) أترفوا ( أي اتبعوا الإتراف. وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام ، أو أريد بالأجرام إغفالهم للشكر. ثم بين أنه ما ينبغي له سبحانه أن يهلك القرى بظلم. قال أهل السنة : أي بسبب مجرد الشرك والحال أنهم مصلحون في المعاملة والعشرة فيما بينهم ، وذلك أن حقوق الله تعالى مبنية على(4/58)
" صفحة رقم 59 "
المساهلة بخلاف حقوق العباد ، وهذا كما قيل : الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم. ويؤكد هذا التفسير أن عذاب الاستئصال إنما نزل بقوم لوط وشعيب لما حكى الله عنهم من إيذاء الناس والإفساد في الأرض. وقالت المعتزلة قوله : ( بظلم ( حال من الفاعل والمعنى استحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالماً لها وأهلها قوم مصلحون في العمل تنزيهاً لذاته عن الظلم وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين ظلم. ثم ذكر أن الكل بمشيئته وإرادته فقال : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ( مهدية. والمعتزلة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر وقد مر مراراً. ) ولا يزالون مختلفين ( في الأديان والأخلاق الأفعال ، فمنهم من أنكر العلوم كلها حتى الحسيات والضروريات وهم السوفسطائية ، ومنهم من سلم استنتاج العلوم كلها والمعارف ولم يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلاً وهم الدهرية ، ومنهم من أثبت له مبدأ موجباً بالذات وهم الفلاسفة على ما أشتهر منهم ولهذا المقام تحقيق ليس ههنا موضع بيانه ، ومنهم من أنكر النبوات وهم البراهمة ، ومنهم من أثبتها وهم المسلمون والمجوس واليهود والنصارى. وفي كل واحد من هذه الطوائف اختلافات لا تكاد تدخل تحت الحصر ، وإنما لا يحمل الاختلاف في الآية على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمار بل حملناه على الاختلاف في الأديان وما يتعلق بها لأنه ينبو عن ذلك ما قبل الكلام وهو قوله : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ( وما بعده وهو قوله : ( إلا من رحم ربك ( قالت المعتزلة : إلا ناساً هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على الدين الحق. وقال أهل السنة : جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضاً في حق الكافر وهذه الرحمةأمر مختص بالمؤمن مرجح لجانب الإيمان وصدوره منه فإذن الإيمان بخلق الله وتكوينه وكذا ضده. ثم قال : ( ولذلك خلقهم ( فاختلف العلماء في المشار إليه بذلك ، فالمعتزلة قالوا : ولذلك من التمكين والاختيار الذي كان منه الاختلاف خلقهم يثيب مختار الحق بحسن اختياره ، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره ، أو ولما ذكر من الرحمة خلقهم. والأشاعرة قالوا : ولأجل ما ذكر من الاختلاف خلقهم لما صح في الحديث أنه خلق الجنة وخلق لها أهلاً ، وخلق النار وخلق لها أهلاً. وللدلائل الدالة على أن الكل بإيجاده وتخليقه وأن خلاف معلومه محال وإلى هذا أشار بقوله : ( وتمت كلمة ربك ( أي علمه وإرادته أو قوله للملائكة ) لأملأن جهنم ( الآية. وفرق المعتزلة بين معلومه ومراده. ثم ذكر طرفاً من فوائد القصص المذكور في السورة فقال : ( وكلاً ( أي وكل نبأ ) نقص عليك ( وقوله : ( من أنباء الرسل ( بيان لكل و ) ما نثبت ( بدل من ) كلاً ( أو المراد وكل نوع من الاقتصاص على أنه مصدر أي على(4/59)
" صفحة رقم 60 "
الأساليب المختلفة نقص ، و ) ما نثبت ( مفعول. ومعنى تثبيت فؤاده زيادة اليقين والطمأنينة لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم ، أو المعنى تثبيت قلبه على أداء الرسالة وتحمل الأذى من قومه أسوة بسائر الأنبياء. ) وجاءك في هذه ( السورة أو في هذه الأنباء ) الحق ( وهو البراهين القاطعة الدالة على صحة المبدأ والوسط والمعاد ) وموعظة ( وهي الدلائل المقنعة الموقعة للتصديق بقدر الإمكان والأول للخواص أنفع والثاني للعوام أنجع. ) وذكرى للمؤمنين ( وهي الإرشاد إلى الأعمال الصالحة النافعة في الآخرة المحصلة لما هنالك من السعادة ، فإن حسن هذا الدين معلوم لمن رجعل إلى نفسه وعمل بمقتضى تذكره وفكره. وأعلم أن المعارف الإليهة لا بد لها من قابل وفاعل ، وقابلها السبب قدم ذكر إصلاح القلب وعلاجه وهو تثبيت الفؤاد ، ثم عقبه بذكر المؤثر الفاعل وهو مجيء هذه السورة بل آية منها وهي قوله : ( فاستقم كما أمرت ( مشتملة على الحق والموعظة والذكرى ، وهذا ترتيب في غاية الحسن. ثم أمر بالتهديد لمن لم يؤثر فيهم هذه البيانات من أهل مكة وغيرهم فقال : ( وقل للذين لا يؤمنون اعملوا ( وقد مر تفسير مثله في هذه السورة وفي ) الأنعام ( ) وانتظروا ( ما يعدكم الشيطان ) إنا منتظرون ( ما وعدنا الرحمن من الغفران والإحسان. وعن ابن عباس : انتظروا بن الدوائر فإنا منتظرون بكم العذاب كما حل بنظرائكم. ثم ختم السورة بآية مشتملة على جميع المطالب من أمر المبدإ والوسط والمعاد وقد سبق تقريره في آخر ) البقرة ( في تفسير آية ) آمن الرسول ) [ البقرة : 285 ] فلا حاجة إلى الإعادة. التأويل : ( ما دامت السموات والأرض ( أي ما دامت سموات الأرواح والقلوب وأرض النفوس البشرية ) إلا ما شاء ربك ( من الأشقياء ، وذلك أن أهل الشقاء ضربان : شقي وأشقى. فالشقي بالمعاصي سعيد بالتوحيد فيخلص من النار آخراً ، والأشقى وهو الكافر يبقى فيها مخلداً ، ومن أهل الجنة سعيد يبقى خالداً فيها ، وأسعد وهم الذين يترقون إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر. وهناك مقام الوحدة الذي لا انقطاع له كما قال : ( عطاء غير مجذوذ ( ) لموفوهم نصيبهم ( الذي قدر لهم في الأزل من الشقاء. ) ولولا كلمة سبقت من ربك ( باستكمال الشقاء لقضي بينهم بالهلاك عاجلاً ) لفي شك منه ( إشارة إلى الضلال. وقوله : ( مريب ( إشارة إلى الإضلال. ) وإن كلاً ( أي كل واحد من الضالين ومن المضلين ) فاستقم ( أمر التكوين ولذلك قال : ( كما أمرت ( أي في الأزل ، وفي قوله : ( ومن تاب معك ( إشارة إلى أن النفوس جبلت على الاعوجاج فيحتاج إلى الرجوع من(4/60)
" صفحة رقم 61 "
الطريق المنحرف إلى الصراط المستقيم إلى من اختص بالاستقامة بسبب أمر التكوين كالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) إن الحسنات يذهبن السيئات ( يعني أن الأعمال الصالحة في الأوقات المعدودة تزيل ظلمات الأوقات المصروفة في قضاء الحوائج النفسانية الضرورية ، وذلك أن تعلق الروح النوري العلوي بالجسد الظلماني السفلي موجب لخسران الروح كقوله : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) [ العصر : 1 ] إلا أن يتداركه أنوار العمل الصالح فيرقيه من حضيض البشر ية إلى ذروة الروسحانية بل إلى الوحدة الربانية ، فتندفع عنه ظلمة الجسد السفلي مثاله : إلقاء الحبة في الأرض فإنه من خسران الحبة إلى أن يتداركه الماء وسائر الأسباب فيربيها إلى أن تصير الحبة الواحدة إلى سبعمائة. وما زاد ذلك الذي ذكرنا من التدارك عظة للذاكرين الذين يريدون أن يذكروا الله في جميع الأحوال فإنهم إذا حافظوا على هذه الأوقات فكأنهم حافظا على جميعها لأأن الإنسان خلق ضعيفاً ليس يقدر على صرف جميع الأوقات في محض العبودية والعبادة. ) فلولا كان من القرون ( صورة التحضيض وحقيقته السؤال ليجاب بأنه لم يكن كذلك لأنك فاعل مختار ، فعال لما تريد ، خلقت خلقاً للإقرار وخلقت خلقاً للإنكار ولا اعتراض لأحد عليك يؤديه قوله : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ( طالبة للحق متوجهة إليه ) ولا يزالون مختلفين ( منهم من يطلب الدنيا ، ومنهم من يطلب العقبى ، ومنهم من يطلب المولى وهم المشار إليهم بقوله : ( إلا من رحم ربك ( ) ولذلك ( أي لطلب الله ) خلقهم ( بحسن الاستعداد ولأن رحمته سبقت غضبه ، ولكن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في الوجود وهو قوله : ( وتمت كلمة ربك ( جرى به القلم للضرورة وما نثبت به فؤادك التثبيت منه والتكشيك منه ، بيده مفاتيح أبواب اللطف والقهر ) إنا عاملون ( في طلب الحق من باب لطفه ) وانتظروا ( نتائج أعمالكم ) إنا منتظرون ( ثمرات أعمالنا ) ولله غيب السموات والأرض ( أي ما غاب عنكم مما أودع من لطفه في سموات القلوب ومن قهره في أرض النفوس ) وإليه يرجع ( أمر أهل السعادة والشقاء ومظاهر اللطف والقهر ) فاعبده ( أيها الطالب للحق لإنك مظهر اللطف ) وتوكل عليه ( في الطلب لا على طلبك فإنك إن طلبته بك لم تجده ) وما ربك بغافل ( في الأزل ) عما تعملون ( إلى الأبد والله حسبي .(4/61)
" صفحة رقم 62 "
سورة يوسف
سورة يوسف عليه السلام مكية وقيل نزلت فيما بين مكة إلى المدينة وقت الهجرة
حروفها سبعة آلاف ومائة وست وستون كلمها ألف وسبعمائة وست وأربعون آياتها مائة وإحدى عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
( يوسف : ( 1 - 20 ) الر تلك آيات . . . .
" الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وجاؤوا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت(4/62)
" صفحة رقم 63 "
لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين "
( القراآت )
يا أبت ( بفتح التاء والوقف بالهاء : يزيد وابن عامر. وقرأ ابن كثير ويعقوب بكسر التاء والوقف بالهاء. الباقون بالكسر في الحالين ) أحد عشر ( بسكون العين : يزيد وابن عباس والخزاز ) لي ساجدين ( بفتح الياء : الأعشى والبرجمي ) يا بني ( بفتح الياء أياً كان : حفص والمفضل. الباقون بكسرها ) رؤياك ( بالإمالة : عليّ غير قتيبة ولياً. وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة ، وقرأ يزيد وأبو عمر غير شجاع ، وورش من طريق الأصبهاني والاعشى وحمزة في الوقف بغير همزة ) آية للسائلين ( على التوحيد : ابن كثير : الآخرون ) آيات ( على الجمع. ) يخل لكم ( بالإدغام : شجاع من طريق أبي غالب وأبو شعيب ) غيابات ( وما بعده على الجمع : أبو جعفر ونافع. الباقون ) غيابة ( على التوحيد ) لا تأمنا ( بغير إشمام ضمة النون : يزيد والحلواني عن قالون. الآخرون بإشمام ) الذئب ( وما بعده بغير همزة : أبو عمرو غير شجاع وأوقية ويزيد والأعشى وورش وخلف وعلي وحمزة في الوقف ) يرتع ويلعب ( بالياء فيهما وبالجزم : عاصم وحمزة وعليّ وخلف. بكسر العين في الأول : أبو جعفر ونافع. بالنون فيهما وبالجزم : ابن عامر وأبو عمرو. وبكسر العين : ابن كثير سوى الهاشمي وأبي ربيعة عن قنبل فإنهما ) نرتعي ( بالكسر مع الياء بعده ) نرتع ويلعب ( بالجزم فيهما مع النون في الأول والياء في الثاني : يعقوب عن رويس ) ليحزنني أن ( بفتح الياء أبو جعفر ونافع وابن كثير. وقرأ نافع ) ليحزنني أن ( بفتح الياء أيضاً ولكن من باب الأفعال ) بل سولت ( وبابه مدغماً : حمزة وعلي وهشام. ) يا بشرى ( بالإمالة غير مضافة : حمزة وعليّ وخلف وحماد والخزاز عن هبيرة. ) يا بشرى ( بغير إمالة وإضافة : عاصم غير حماد والخزاز. الباقون ) يا بشراي ( بالإضافة إلى ياء المتكلم. الوقوف : ( آلر ( قف كوفي ) المبين ( ه ط كوفي أيضاً وغيرهم لا يقفون عليها لأنهم يجعلون إنا جواب معنى القسم في ) آلر ( ) القرآن ( ق والوصل أصح لأن الواو للحال ) الغافلين ( ه ) ساجدين ( ه ) كيداً ( ط ) مبين ( ه ) وإسحق ( ط ) حكيم ( ه ) للسائلين ( ه ) عصبة ( ط ) مبين ( ه ج والعربية توجب الوقف وإن قيل إن الابتداء به لا يحسن ) صالحين ( ه ) فاعلين ( ه ) لناصحون ( ه ) لحافظون ( ه ) غافلون ( ه ) لخاسرون ( ه في غيابة الجب ( ج لاحتمال أن يكون جواب ( لما ) محذوفاً والواو في(4/63)
" صفحة رقم 64 "
) وأوحينا ( للاستئناف تقديره فعلوا وأمضوا عليه ، وأن تكون الواو مقحمة والجواب ) أويحنا ( ) لا يشعرون ( ه ) يبكون ( ه ط ) فأكله الذئب ( ج لابتداء النفي مع واو العطف ) صادقين ( ه ) كذب ( ط ) أمراً ( ط ) جميل ( ط ) تصفون ( ه ) دلوه ( ط ) غلام ( ط ) بضاعة ( ط ) يعملون ( ه ) معدودة ( ج لاحتمال الواو والحال ) الزاهدين ( ه. التفسير : قال في الكشاف : ( تلك ( إشارة إلى ) آيات ( السورة و ) الكتاب المبين ( السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليها في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم ، أو التي بين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر ، أو الواضحة التي لا يشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم ، أو قد أبين فيها ما سألت اليهود عنه من قصة يوسف ، فقد روي أن ع لماء اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف. أقول : مدار هذه التفاسير على أن أبان لازم ومتعد يقال : أبان الشيء وأبان هو بنفسه ) إنا أنزلناه ( أي هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف يعني هذه السورة في حال كونه ) قرآناً عربياً ( والقرآن اسم جنس يقع على كله وعلى بعضه. وقوله : ( قرآناً عربياً ( يسمى حالاً موطئة لأن المراد وصفه بالعربية. احتج الجبائي بإنزال القرآن وبكونه عربياً وآيات على أن أنه محدث لأن هذه من أوصاف المحدثات. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الألفاظ وإنما النزاع في الكلام النفس ومعنى ) لعلكم تعقلون ( إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه لا يلتبس عليكم لأنه بلغتكم. قال الجبائي : فيه دليل على أنه أراد من المكلفين كلهم أن يعقلوا توحيده وأمر دينه. وأجيب بأن الآية لا تدل إلى على أنه أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفية هذه القصة ، ولا دلالة فيه على أنه أراد من الكل الإيمان العمل الصالح. قال أهل اللغة : فشيئاً ، ومثله التلاوة لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية ، ثم إن كان القصص مصدراً بمعنى الاقتصاص فيكون ) أحسن ( مثله فإضافته إلى المصدر ، ويكون المفعول أي المقصوص محذوفاً وهو الوحي لدلالة ) أوحينا ( عليه ، أو يكون هذا القرآن مفعوله ومفعول ) أوحينا ( محذوفاً كأنه قيل : نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إياه إليك. وعلى هذا فالحسن يرجع إلى المنطق لا إلى القصة. م وحسن المنطق كونه على أبدع طريق وأعجب أسلوب لأن هذه الحكاية مقتصة في كتب الأولين وفي كتب التواريخ ولم يبلغ شيء منه إلى حد الإعجاب ، وإن أريد بالقصص المقصوص كما يراد(4/64)
" صفحة رقم 65 "
بالنبأ والخبر المنبأ والمخبر ، فالحسن يرجع إلى القصة ولا سيما فيما يرجع إلى صلاح حال المكلف في الدارين ، ووجه حسنها اشتمالها على الغرائب والعجائب والنكت والعبر وأن الصبر مفتاح الفرج ، وأن ما قضى الله كائن لا محالة لا يردّه كيد كائد ولا حسد حاسد. ويروى أن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ملوا فقالوا : يا رسول الله لو حدثتنا. فأنزل الله عز وجل ( الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً ) [ الزمر : 23 ] ثم إنهم ملوا فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله ) نحن نقص عليك أحسن القصص ( كل ذلك يؤمرون بالقرآن ) وإن كنت ( هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة. والمعنى وإن الشأن كنت أنت من قبل إيحائنا إليك ) لمن الغافلين ( عن هذ القصة أو عن الدين والشريعة ) إذ قال ( بدل اشتمال من أحسن القصص لأن الوقت مشتمل على القصص فإذاً قص وقته فقد قص المقصوص أو منصوب بإضمار ( اذكر ). ) يوسف ( ليس عربياً على الأصح إذ لا سبب فيه بعد التعريف إلا العجمة فهو اسم عبراني ، ومن ظن أنه من آسف يؤسف بناء على أنه قراىء بكسر السين وبفتحها فيوجد فيه وزن الفعل أيضاً فقد أخطأ ، لأن القراءة المشهورة تأباه ولن يكون الاسم عربياً تارة وأعجمياً أخرى. وهذا الخلاف روي في ( يونس ) أيضاً. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ) قال النحويون : التاء في ) يا أبت ( عوض من ياء الإضافة وهي للتأنيث لأنها قد تقلب هاء في الوقف. ويجوز إلحاق التاء بالمذكر نحو ( حمامة ) ذكر والكسرة فيه لمناسبة الياء التي هي بدل منها. والفتحة إما فتحة الياء فيمن يفتحها أو الفتحة الباقية بعد حذف الألف من ياء يا أبتا ) إني رأيت ( هو من الرؤيا التي تختص بالمنام لا من الرؤية التي تشمل اليقظة بدليل قول يعقوب له ) ولا تقصص رؤياك ( ولأن ذلك لو كان في اليقظة لكانت آية عظيمة ولم تخف على أحد. من قرأ ) أحد عشر ( بسكون العين فلكراهة توالي المتحركات فيما هو في حكم كلمة ، وكذا إلى تسعة عشر إلا اثني عشر لئلا يلتقي ساكنان. قال في الكشاف : روى جابر أن يهودياً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف. فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل جبريل فأخبره بذلك فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لليهودي : ( إن أخبرتك هل تسلم ؟ ) قال : نعم. قال : جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفيق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو(4/65)
" صفحة رقم 66 "
الكتفين. رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له. فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها. وأقول : إن أكثر هذه الأسماء ليست مما اشتهر عند أهل الهيئة ، فإن صح الخبر فهي من العلوم التي تفرد بها الأنبياء. وإفراد الشمس والقمر من الكواكب بعد ذكرها دليل على شرفهما كقوله ) وملائكته وجبريل وميكائيل ) [ البقرة : 98 ] وإنما كرر الفعل لطول الكلام أو على تقدير سؤال كأنه قيل له : كيف رأيتها ؟ فقال : رأيتهم لي ساجدين. والظاهر أن هذه السجدة كانت بمعنى وضح الجبهة إذ لا مانع من حملها على الحقيقة لكنها كانت على وجه التواضع. وإنما أجريت الكواكب مجرى العقلاء في عود الضمير إليها لأن السجود من شأن العقلاء كقوله للأصنام : ( وتراهم ينظرون إليك ) [ الأعراف : 198 ] وعند الفلاسفة هم أحياء نطاقة فلا حاجة إلى العذر. عبر أبوه رؤياه بأن إخوته سيسجدون له وهم أحد عشر ، وكذا أبواه وهما الشمس والقمر. وقيل : هما أبوه خالته لأن أمه لم تدخل مصر وتوفيت قبل ذلك. وعن وهب أن يوسف رأى - وهو ابن سبع سنين - أن إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة التي حول القمر وهي الهالة ، وإذا عصا صغير وثبت عليها حتى اقتلعها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لإخوتك. ثم رأى - وهو ابن اثنتي عشرة سنة - الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال له : لا تقصها عليه فيبغوا لك الغوائل ، وقيل : كان بين رؤيا الردية يظهر أثرها عن قريب كيلا يبقى المؤمن في الغم والحزن ، والرؤيا الجيدة يبطى أثرها لتكون بهجة المؤمن أدوم. قوله ) فيكيدوا ( منصوب بإضمار ( أن ) جواباً للنهي. واللام في ) لك ( لتأكيد الصلة مثل ( نصحتك ) و ( نصحت لك ). وقال في الكشاف : ضمن الكيد معنى الاحتيال ليفيد معى الفعلين فيكون أبلغ في التخويف. وقيل : متعلق بالمصدر الذي بعده. ثم إنه وصل بهذه النصيحة شيئاً ن تعبير رؤياه فقال : ( وكذلك ( أي ومثل اجتبائك لهذه الرؤيا الشريفة ) يجتبيك ربك ( لأمور عظام. والأجتباء افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك ، وجبيت الماء في الحوض جمعته ، وخصص التشبيه كأنه قيل : وهو يعلمك ويتم نعمته عليك. أقول : ولعل إدخاله في حكم التشبيه ليس بضائر. وفي ) تأويل الأحاديث ( وجوه منها : أنه تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم ، سمى التعبير تأويلاً لأنه يؤول أمره إلى ما آراه في المنام أو يؤول أمر ما رآه في المنام إلى ذلك. والأحاديث اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة لأنها التي يتحدث(4/66)
" صفحة رقم 67 "
بها الناس. ومنها أنه تبيين معاني كتب الله وسنن الأنبياء لأن المفسر والمحدّث يحدّثان عن الله ورسوله فيقولان : قال الله كذا وقال الرسول كذا. ومنها أن الحديث بمعنى الحادث والمراد كيفية الاستدلال بالحادث على القديم سبحانه. وأما إتمام النعمة فيمن فسر الاجتباء بالنبوة فسر الإتمام بالسعادات الدنيوية والأخروية من المال والجاه والعوم والأخلاق الفاضلة ، ومن فسر ذلك بالدرجات العالية فسر هذا بالنبوة لأن التمام المطلق في حق البشر ليس إلا بالنبوة ، ولأن إتمام النعمة عليه مشبه بإتمامها على إبراهيم وإسحق ، ومن المعلوم أن الامتياز بينهما وبين أقرانهما لم يكن إلا بالنبوة وقد يفسر إتمام النعمة على إبراهيم بالخلة والإنجاء من النار ومن ذبح الولد ، وعلى إسحق بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه ، ويكون وجه التشبيه إنجاءه من السجن والمحن كإنجائهما من النار والذبح. والمراد بآل يعقوب نسله قيل : علم يعقوب أن يوسف وإخوته أنبياء استدلالاً بضوء الكواكب. واعترض بما فرط منهم في حق يوسف. وأجيب بأن ذلك قبل النبوة. وقيل : إتمام النعمة وصل نعمة الدنيا بنعم الآخرة وذلك أنه جعلهم ملوكاً وأنبياء و ) إبراهيم وإسحاق ( عطف بيان لأبويك لأن أبا الجد في حكم الأب ) إن ربك عليم ( بمن يستحق الاجتباء ) حكيم ( لا يضع الشي إلا في موضعه فلا دليل على جزمه بها فكيف خاف بعدها على يوسف حتى قال : ( وأخاف أن يأكله الذئب ( ؟ والجواب لعل جزمه بذلك كان مشروطاً بعدم كيد إخوته ، ولعل قوله : ( أخاف أن يأكله الذئب ( كيلا يتهاونوا في حفظه فإن للوسائط والأسباب مدخلاً عظيماً في وجود الأشياء وحصولها ) لقد كان في يوسف وأخوته ( أي في قصتهم وحديثهم ) آيات للسائلين ( لمن سأل عن تلك القصة وعرفها ، أو آيات على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم بها من غير سماع العلم. وفيه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) يجب أن يصبر على بغي قومه إلى أن يظهر أمره كما فعل يوسف. يروى أن أسامي إخوته : يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وربالون ويشجر ودينه - وهؤلاء من ليا بنت خالة يعقوب - ودان ونفتالي وجاد وآشر - وهم من سريتين زلفة وبلهة - فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف. ) إذ قالوا ( ظرف لكان أو منصوب بإضمار ( اذكر ) ) ليوسف ( في لام الابتداء تحقيق لمضمون الجملة. ) وأخوه ( أي لأبيه وأمه عنوا بنيامين ) أحب ( إذا كان أفعل التفضيل مستعملاً بمن لم يتصرف فيه ) ونحن عصبة ( الواو للحال والعصبة العشرة فصاعداً لأن الأمور تعصب بكفايتهم أي إنه يفضلهما في المحبة علينا وهما ابنان صغيران(4/67)
" صفحة رقم 68 "
لا كفاية فيهما ولا منفعة ونحن جماعة نكفي هماته ونقوم بمصالحه ) إن إبانا لفي ضلال مبين ( أرادوا ضلالاً خاصاً وهو البعد عن طريق الصلاح وحسن المعاشرة مع الأولاد ، ولم يعلموا أن المحبة أمر يتعلق بالقلب وليس لله فيه تكليف ، ولعل يعقوب تفرس في يوسف ما أوج باختصاصه بمزيد البر. ومن جملة أقوالهم أنهم قالوا لما تشاوروا في أمره ) اقتلوا يوسف ( قيل : الآمر بالقتل شمعون أو دان ورضي به الباقون فجعلوا جميعاً آمرين. والظاهر أنه قال بعضه بذلك بدليل أنه لم يقع القتل ولقولهم ) أو اطرحوه ( فكان بعضهم أشار إلى القتل وبعضهم إلى الطرح ومهما صدر أمر من بعض القوم صح إسناده إليه كقوله ) وإذا قتلتم نفسا ) [ البقرة : 72 ] وانتصب ) أرضاً ( على الظرف كالظروف المبهمة أي أرضاً مجهولة بعيدة عن العمارة ) يخل لكم وجه أبيكم ( تخلص محبته لكم سليمة عن التنازل فيها وكان ذرك الوجه تصويراً لإقباله بالكلية ، ويجوز أن يراد بالوجه ذاته أو المراد يفرغ لكم من الشغل بيوسف ) وتكونوا ( مجزوم لأنه معطوف على جواب الأمر ) من بعده ( من بعد قتله أو إطراحه أو من بعد يوسف إذا قتل أو غرب ) قوماً صالحين ( تائبين إلى الله أو إلى أبيه لعذر تمهدونه مما جنيتم عليه ، أو المراد صلاح دنياهم وانتظام أمورهم وتفرغهم لمهماتهم بعد يوسف بفراغ البال ) قال قائل منهم ( هو يهوذا وكان أسحنهم فيه رأياً وأدباً وهو الذي قال : ( فلن أبرح الأرض ) [ يوسف : 80 ] ( لا تقتلوا يوسف ( لأن القتل عظيم ولا سيما قتل الأخ وخاصة إذا كان القاتل والمقتول من أولاد الأنبياء ) وألقوه في غيابت الجب ( سمى البئر جباً لأنها قطعت قطعاً ولم يحصل فيها شيء سوى القطع للأرض ، والغيابة غور البئر وما غاب منها عن عين الناظر وأظلم من أسفلها. ون قرأ على الجمع فلأن للجب أقطاراً ونواحي ) يلتقطه بعض السيارة ( أي الرفقة السائرة قال ابن عباس : أي المارة ، والالتقاط تناول الشيء من الطريق ونحوه يستعمل في الإنسان وغيره ومنه اللقيط للمنبوذ ) إن كنتم فاعلين ( إن لم يكن من فعل هذا الأمر بد فهذا هو الرأي. ثم إن يعقوب كان خائفاً على يوسف من كيدهم وكان يظهر أمارات ذلك على صحائف أعماله وأقواله فلذلك قالوا : ( ما لك لا تأمنا على يوسف إنا ( له لناصحون ( ما وجد منا في بابه سوى النسح والإشفاق على الإطلاق ) أرسله معنا غداً يرتع ويلعب ( من قرأ بالجزم فمن الرتعة كالأمنة وهي الخصب والسعة ، ومن قرأ بالكسر فعلى حذف الياء من يرعي مستعاراً من ارتعاء الإبل والماشية. واللعب ترك ما ينفع إلى ما لا ينفع. فمن قرأ بالياء فلا إشكاك لأن الصبي لا تكليف عليه ، ومن قرأ بالنون قال كان لعبهم الاستباق والانتضال بدليل قوله ) إنا ذهبنا نستبق ( سمي لعباً لأنه في صورته ، أو(4/68)
" صفحة رقم 69 "
اللعب قد يطلق على استعمال المباحات لأجل انشراح الصدر قال ( صلى الله عليه وسلم ) لجابر : ( فهلا تزوجت بكراً تلاعبها وتلاعبك. ) ) قال إني ليحزنني ( لام الابتداء للتأكيد أو لتخصيص المضارع بالحار ) وأخاف أن يأكله الذئب ( أصله الهمز ولهذا قال بعضهم : إنه مشتق من تذأبت الريح إذا أتت من كل جهة. قيل : كان أرضهم مذأبة فلذلك قال : ( أخاف (. وقيل : رأى في النوم أن الذئب قد شد على يوسف وكان يحذره فلقنهم العذر كما جاء في أمثالهم البلاء موكل بالمنطق. قوله : ( إن اذاً ( جواب للقسم ساد مسد جواب الشرط ، حلفوا له أن كان ما خافه وحالهم أنهم رجال كفاة وحماة فهم إذ ذاك خاسرون عاجزون أو مستحقون للدعاء عليهم بالخسار ، أو المراد إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا وخسرناها. كان يعقوب قد اعتذر إليهم بأمرين : أحدهما أن ذهابهم به مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة ، والثاني خوفه عليه من الذئب فلم يجيبوا عن الأول لأنه هو الذي كان يغيظهم فلم يعبئوا بذلك الكلام فخصوا الجواب بالثاني ، وههنا إضمار والتقدير فأذن لهم وأرسله معهم ) فلما ذهبوا به وأجمعوا ( عزموا على ) أن يجعلوه في غيابت الجب ( قيل : هو بئر ببيت المقدس. وقيل : بأرض الأردن. وقيل : بين مصر ومدين : وقيل : على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوبٍ. ثم إن كان جواب ( لما ) محذوفاً ففي الآية إضمار آخر كما تقدم في الوقوف. قال السدي : إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء. فقال يهوذا أما أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه ، فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخواه بالدم ويحتالوا به على أبيهم. فقال : يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به فقالوا له : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً حتى ينقذوك ودلوه في البئر ، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان يهوذا يأتيه بالطعام. وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال : يا شاهداً غير غائب ، ويا قريباً غير بعيد ، ويا غالباً غير مغلوب ، اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً. وحكي أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحاق وإسحق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف فجاء جبرائيل فأخرجه وألبسه إياه ) وأوحينا إليه ( في صغر السن كما أوحي إلى يحيى وعيسى. وقيل : كان إذ ذاك بالغاً(4/69)
" صفحة رقم 70 "
وعن الحسن كان له سبع عشر سنة ) لتنبئنهم ( لتحدثن إخوتك بما فعلوا بك ) وهم لا يشعرون ( أنك يوسف لعلو شأنك وبعد حالك عن أوهامهم ولطول العهد المنسي المغير للهئيات والأشكال. . يروى أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال : إنه ليخيرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم ويقال له يوسف وكان يدنيه دونكم وإنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيه أكله الذئب وبعتموه بثمن بخس. ويجوز أن يراد وهم لا يشعرون أنا آنسناه بالوحي وأزلنا الوحشة عن قلبه فتتعلق الجملة بقوله ) وأوحينا ( روي أن امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال له الشعبي : يا أبا أمية أما تراها تبكي ؟ قال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة وما ينبغي لأحد أن يقضي إلا بما أمر أن يقضي به من السنة المرضية. عن مقاتل : إنما جاءوا عشاء لئلا تظهر أمارة الخجل والكذب على وجوههم. ولما سمع صوتهم يعقوب فزع وقال : ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء ؟ قالوا لا. قال : فما لكم وأين يوسف ) قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق ( أي نتسابق في العدو أو في الرمي وقيل ننتضل ) وما أنت بمؤمن لنا ( أي بمصدق لشدة محبتك ليوسف ، وفيه دليل لمن يزعم أن الإيمان هو التصديق ) ولو كنا صادقين ( ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا ) وجاؤوا على قميصه ( نصب على الظرف أي فوق قميصه لا على الحال المتقدمة لأن حال المجرور لا تتقدم عليه ) بدم كذب ( ذي كذب أو دم هو الكذب بعينة مبالغة. يروى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها ، ويروى أن يعقوب لما سمع بخير يوسف صاح بأعلى صوته وقال : أين القميص ؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص. وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه. وقيل : كان في قميص يوسف ثلاث آيات آية ليعقوب على كذبهم ، وآية حين ألقاء البشير على وجهه فارتد بصيراً ، وآية على براءة يوسف حين قدّ من دبر ، ولما تبين يعقوب بالآيات المذكورة أو بالوحي أنهم كاذبون قالعلى سبيل الإضراب. ) بل سوّلت ( قال ابن عباس بل زينت ) لكم أنفسهم أمراً ( في شأنه وهو تفعيل من السول الأمنية. قال الأزهري : وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة. وقال في الكشاف : سوّلت سهلت من السول بفتحتين وهو الاسترخاء والتنكير دليل التعظيم ) قصير جميل ( لا بد من تقدير مبتدأ أو خبر أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أمثل. وفي الحديث أنه الذي لا شكوى فيه أي إلى الخلق لقوله : ( إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله ) [ يوسف : 86 ] وقيل : أي لا أعايشكم على كآبة الوجه بل أكون لكم كما كنت. يحكى أنه(4/70)
" صفحة رقم 71 "
سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فقيل له : ما هذا ؟ فقال : طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني ؟ قال : يا رب خطيئة فاغفرها لي. ثم بين أن الصبر على ما وصوفه من هلاك يوسف لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى فقال : ( والله المستعان على ما تصفون ( فالقرينتان كقوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ( ) الفاتحة : 5 ] ويعلم من الآية أن الصبر إن كان لأجل الرضا بقضاء الله تعالى أو لاستغراقه في شهود نور الحق بحيث يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء فذلك صبر جميل وإلا فلا. واعترض بأن هذا الصبر كان فيه إعانة الظالمين وإهمال لتخليص المظلوم من المحن والشدائد والترقية فكيف جاز صبر يعقوب حتى لم يبالغ في التفتيش والتنقير ، ولو بالغ لظهر عليه الأمر لشهرته وعظم قدره ؟ وأجيب بأن الله سبحانه لعله منعه عن الطلب تشديداً للمحنة عليه ، أو لعله إن بالغ في البحث أقدموا على قتله ، أو علم أن الله تعالى يصون يوسف وسيعظم أمره بالآخرة فلم يرد هتك ستر أولاده وإلقاءهم في ألسنة الناس كقول القائل : فإذا رميت يصيبني سهمي فكان الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى. ثم شرع في حكاية خلاص يوسف فقال : ( وجاءت سيارة ( عن ابن عباس : قوم يسيرون من مدين إلى مصر وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب فأخطئوا الطريق فنزلوا قريباً منه ، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة. وقيل : كان ماؤه ملحاً فعذب حين ألقي فيه يوسف. ) فأرسلوا واردهم ( رجلاً يقال له مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء. ومعنى الوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم ) فأدلى دلوه ( أرسلها في البئر. قال الواحدي : فإذا نزعها وأخرجها قيل دلا يدلو. ) قال يا بشرى ( التقدير فظهر يوسف فقال الوارد : يا بشرى كأنه ينادي البشرى ويقول تعالي فهذا أوانك. ومتى قال الوارد هذا الكلام ؟ قال جمع من المفسرين : حين رأى يوسف متعلقاً بالحبل. وقال آخرون : لما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشروهم به. قال السدي : كان للوارد صاحب يقال له بشرى فنادى يا بشرى كما يقال يا زيد. والأكثرون على أنها بمعنى البشارة. فقال أبو علي : يحتمل أن يكون منادى مضموماً مثل يا رجل وأن يكون منصوباً مثل يا رجلاً كأنه جعل ذلك النداء شائعاً في جنس البشرى. ومن قرأ بالإضافة فنصبه ظاهر. والضمير في ) وأسروه ( إما عائد إلى الوارد وأصحابه أي أخفوه من الرفقة لئلا يدعوا المشاركة في الالتقاط ، أو في الشراء إن قالوا اشتريناه. وطريق الإخفاء أنهم كتموه من الرفقة أو قالوا إن أهل الماء(4/71)
" صفحة رقم 72 "
جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر ، وإما عائد إلى أخوة يوسف بناء على ما روي عن ابن عباس أنهم قالوا للرفقة : هذا غلام لنا قد آبق فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه ، ولعل الوجه الأول أولى بدليل قوله ) بضاعة ( وهي نصب على الحال أي أخفوه متاعاً للتجارة. وأصل البضع القطع والبضاعة قطعة من المال للتجارة والله تعالى أعلم. ) والله عليم بما يعملون ( فيه وعيد إما للوارد وأصحابه حيث استبضعوا ما ليس لهم أو لإخوة يوسف وذلك ظاهر ، وفيه أن كيد الأعداء لا يدفع شيئاً مما علم الله من حال المرء. والضمير في قوله : ( وشروه ( إما أن يعود إلى الوارد وأصحابه أي باعوه ) بثمن ( قليل لأن الملتقط للشيء متهاون به ) وكانوا فيه من الزاهدين ( ممن يرغب عما في يده. قال أهل اللغة : زهد فيه معناه رغب عنه وزهد عنه معناه رغب فيه ، وإما أن يعود إلى الإخوة والمعنى باعوه ، أو إلى الرفقة والمعنى اشتروه ، وهكذا الضمير في ) وكانوا ( إن عاد إلى الإخوة فقلة رغبتهم في يوسف ظاهرة وإلا لم يفعلوا به ما فعلوا ، وإن عاد إلى الرفقة فذلك أنهك اعتقدوا أنه أبق فخافوا إعطاء الثمن الكثير. عن ابن عباس أن إخوته عادوا إلى الجب بعد ثلاثة أيام يتعرفون خبره ، فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا : هذا عبد أبق منا فقالوا لهم : فبيعوه منا فباعوه منهم ، ولعلهم عرفوا أنه ولد يعقوب فكرهوا اشتراءه خوفاً من الله ومن ظهور تلك الواقعة إلا إنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة بثمن بخس أي مبخوس ناقص عن القيمة أو ناقص العيار. وقال ابن عباس : البخس هنا الحرام لأن ثمن الحر حرام دراهم لا دنانير معدودة قليلة تعد عدّاً. ولا توزن لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية وهي الأربعون. عن ابن عباس كانت عشرين درهماً. وعن السدي اثنين وعشرين أخذ كل واحد من الإخوة درهمين إلا يهوذا فإنه لم يأخذ شيئاً. ويروى أن إخوته اتبعوهم يقولون استوثقوا منه لا يأبق. والظاهر أن الضمير في ) فيه ( عائد إلى يوسف. ويحتمل أن يعود إلى الثمن البخس أي أخذوا في ثمنه ما ليس يرغب فيه. قال النحويون : قوله : ( فيه ( ليس من متعلقات الزاهدين لأن الألف واللام فيه موصول وزاهدين صلة ، وكما لا تتقدم نفس الصلة فكذا ما هو متعلق به فلا يقال مثلاً : وكانوا زيداً من الضاربين فهو بيان كأنه قيل في أي شيء زهدوا ؟ فقيل : زهدوا فيه والله تعالى أعلم. التأويل : ( تلك آيات الكتاب ( دلالات كتاب المحبوب إلى المحب للهداية إلى طريق الوصال ولهذا كانت أحسن القصص لأنها أتم قصص القرآن مناسبة ومشابهة بأحوال الإنسان ) إذ قال يوسف ( القلب ) لأبيه ( يعقوب الروح ) إني رأيت أحد عشر كوكباً ( هن(4/72)
" صفحة رقم 73 "
الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة أي المذكرة والحافظة والمتخيلة والمتوهمة والحسن المشترك مع المفكرة ، وبكل من هذه إضاءة أي أدراك للمعنى المناسب له وهم إخوة يوسف القلب لأنهم تولدو بازدواج يعقوب الروح وزوج النفس والشمس والقمر الروح والنفس ) رأيتهم لي ساجدين ( وهذا مقام كمالية الإنسان أن يصير القلب سلطاناً يسجد له الروح والنفس والحواس والقوى ) وكذلك يجتبيك ربك ( على سائر المخلوقات وهذا كمال حسن يوسف ) ويعلمك من تأويل الأحاديث ( العلم اللدني المختص بالقلب ) ويتم نعمته عليك ( بأن يتجلى لك ويستوي لك إذ القلب عرش حقيقي للرب ) وعلى آل يعقوب ( أي متولدات الروح من القوى والحواس ) كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم ( السر ) وإسحاق ( الخفي وبهما يستحق القلب لقبول فيض التجلي ، وهناك لله ألطاف خفية لا يتبع الإنسان فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل. ) آيات للسائلين ( عن طريق الوصول إلى الله ) ليوسف ( القلب ) وأخوه ( بنيامين الحس المشترك فإن له اختصاصاً بالقلب ) أحب إلى أبينا منا ( لأن القلب عرض الروح ومحل استوائه عليه ، والحسن المشترك بمثابة الكرسي للعرش. ) اقتلوا يوسف ( القلب بسكين الهوى وبسم الميل إلى الدنيا ) أو اطرحوه ( في أرض البشرية ) يخل لكم وجه أبيكم ( يقبل الروح بوجهه إلى الحواس والقوى لتحصيل شهواتها ) وتكونوا ( بعد موت القلب ) قوماً صالحين ( للنعم الحواني والنفساني. ) قال قائل منهم ( هو يهوذا القوة المفكرة ) لا تقتلوا يوسف ( القلب ) وألقوه في غيابت الجب ( القالب وسفل البشرية ) يلتقطه بعض ( سيارة الجواذب النفسانية. يرتع ( في المراتع البهيمية ) ويلعب ( في ملاعب الدنيا ) وإنا له لحافظون ( من فتنة الدنيا وآفاتها ) لئن أكله الذئب ( الشيطان ) إنا إذا لخاسرون ( لأن خسران جميع أجزاء الإنسان في هلاك القلب وربحها في سلامة القلب ) وهم لا يشعرون ( فيه إشارة إلى أن من خصوصية تعلق الروح بالقالب أن يتولد منهما القلب العلوي والنفس السفلية والحواس والقوى فيحصل التجاذب. فإن كانت الغلبة لروح سعد ، وإن كانت للنفس شقي ) وجاؤوا أباهم عشاء ( أي في النصف الآخر من مدّة العمر ) نستبق ( نتشاغل باللهو في أيام الشباب ) وتركنا يوسف ( أي قالب مهملاً معطلاً عن الاستكمال ) فأكله ( ذئب الشيطان. ) وجاؤا على قميصه ( أي قالب القلب ) بدم كذب ( هو آثار الملكات الردية ، زعموا أنها قد سرت إلى القلب وأزالت نور الإيمان عنه بالكلية. ) قال ( يعقوب الروح ) بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل ( على ما قضى الله وقدر ) والله المستعان على ما تصفون ( من رين القلب وموته ) وجاءت سيارة ( هي هبوب نفحات ألطاف الحق ) فأرسلوا واردهم ( وارداً من واردات الحق ) فأدلى(4/73)
" صفحة رقم 74 "
دلوه ( جذبه من جذبات الرحمن ) قال يا بشرى ( فيه إشارة إلى أن للجذبة بشارة في تعلقها بالقلب كما أن للقلب بشارة في خلاصة من جب الطبيعة كما قال تعالى : ( يحبهم ويحبونه ) [ المائدة : 54 ] ( والله عليم ( بحكمة البشارتين و ) بما يعملون ( من شرائه ) بثمن بخس ( هو الحظوظ الفانية في أيام معدودة ) وكانوا فيه من الزاهدين ( لأنهم ما عرفوا قدره وإنما ميلهم إلى استجلاب المنافع الردية العاجلة والله أعلم. ( يوسف : ( 21 - 35 ) وقال الذي اشتراه . . . .
" وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين "
( القراآت )
هيت لك ( بضم التاء وفتح الهاء : ابن كثير ) هيت ( بكسر الهاء وفتح التاء : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان والرازي عن هشام مثله ولكن بالهمز ، الحلواني عن هشام مثل هذا لكن بضم التاء ، النجاري عن هشام. والباقون ) هيت لك ( بفتحتين(4/74)
" صفحة رقم 75 "
وسكون الياء ) المخلصين ( بفتح اللام حيث كان : أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف ) ربي أحسن ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن كثير ) من قبل ( و ) من دبر ( بالاختلاس : عباس ) قد شغفها ( مدغماً : أبو عمرو وعلي وحمزة وخلف وهشام ) وقالت اخرج ( بكسر التاء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم. الآخرون بالضم للإتباع. ) حشا لله ( وما بعده في الحالين بالألف : أبو عمرو ) ربي السجن ( بفتح السين على أنه مصدر : يعقوب. الباقون. بالكسر. الوقوف : ( ولداً ( ط ) في الأرض ( ز بناء على أن الواو مقحمة واللام متعلقة ب ) مكنا ( أو هي عطف على محذوف قبله ليتمكن ولنعلمه ، والأظهر أنها تتعلق بمحذوف بعده أي ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك التمكن ) الأحاديث ( ط ) لا يعلمون ( ه ) وعلماً ( ط ) المحسنين ( ه ) هيت لك ( ط ) الظالمون ( ه ) همت به ( ز قد قيل بناء على أن قوله ) وهم ( جواب ( لولا ) وليس بصحيح لأن جواب ( لولا ) لا يتقدم عليه وإنما جوابه محذوف وهو لحقق ما هم به كذا. قال السجاوندي : وأقول لو وقف للفرق بين الهمين لم يبعد ) وهم بها ( ج ) برهان ربه ( ط ) والفحشاء ( ط ) المخلصين ( ه ) لدى الباب ( ه ) أليم ( ه ) عن نفسي ( لم يذكر الأئمة عليه وقفاً ولعل الوقف عليه حسن كيلا يظن عطف ) وشهد ( على ) راودتني ( أو على جملة ) هي راودتني (. ) من أهلها ( ج على تقدير وقال إن كان ) من الكاذبين ( ه ) الصادقين ( ه ) من كيدكن ( ط ) عظيم ( ه ) عن هذا ( سكته للعدول عن مخاطب إلى مخاطب ) لذنبك ( ج لاحتمال التعليل ) الخاطئين ( ه ) عن نفسه ( ج لأن ( قد ) لتحسين الابتداء مع اتحاد القائل ) حباً ( ط ) مبين ( ه ) عليهن ( ه ) إليه ( ج للشرط مع الواو ) الجاهلين ( ه ) كيدهن ( ط ) العليم ( ه ) حين ( ه. التفسير : قد ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين ذهب به إلى مصر وباعه فاشرتاه العزيز - واسمع قطفير أو أطفير - ولم يكن ملكاً ولكنه كان يلي خزائن مصر ، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف فملك بعده قابوس بن مصعب ولم يؤمن بيوسف. روي أن العزيز اشتراه ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزله ثلاثة عشرة واستوزره بعد ذلك ريان بن الوليد ثم آتاه الله الحكمة والعلم ابن ثلاث وثلاثين وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى ، عاش أربعمائة سنة دليله قوله : ( ولقد جاءكم يوسف من قبل(4/75)
" صفحة رقم 76 "
بالبينات ) [ غافر : 34 ] وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف. والمعنى ولقد جاء آباءكم. وقيل : اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وزوجي نعل وثوبين أبيضين. وقيل : أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه مسكاً وورقاً وحريراً فاتباعه قطفير بذلك المبلغ. ومعنى ) أكرمي مثواه ( اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً أي حسناً مرضياً. وفي هذه العبارة دلالة على أنه عظم شأن يوسف كما يقال سلام على المجلس العالي. وقال في الكشاف : المرا تعهديه بحسن الملكة حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا. ويقال للرجل : كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل الرجل به من إنسان رجل أو امرأة يراد هل تطيب نفسك بثوائك عنده ؟ واللام في ) لامرأته ( تتعلق ب ) قال (. ثم بين الغرض من الإكرام فقال : ( عسى أن ينفعنا ( بكفاية بعض مهماتنا ) أو نتخذه ولداً ( لأن قطفير كان لا يولد لهولد وكان حصوراً. وعن ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين قال لامرأته أكرمي مثواه فتفرس في يوسف ما تفرس ، والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها يا أبت استأجره ، وأبو بكر حين استخلف عمر. وروي أنه سأله عن نفسه فأخبره بنسبه فعرفه. ثم قال : ( وكذلك ( أي كما أنعمنا عليه بالإنجاء من الجب وعطف قلب العزيز عليه ) مكنا له ( في أرض مصر حتى يتصرف فيها بالأمر والنهي ) ولنعلمه ( قد مر في الوقوف بيان متعلقه وفي أوائلا لسورة معنى تأويل الأحاديث. والمراد من الآية حكاية إعلاء شأن يوسف في الكمالات الحقيقية وأصولها القدرة ، وأشار إليها بقوله : ( مكنا ( والعلم وأشار إليه بقوله ) ولنعلمه ( ولا ريب أن ابتداء ذلك كان حين ألقي في الجب كما قال ) وأوحينا إليه لتنبئنهم ( وكان يرتقي في ذلك إلى أن بلغ حد الكمال وصار مستعداً للدعوة إلى الدين الحق وللإرسال إلى الخلق ) والله غالب على أمره ( أي على أمر نفسه لا منازع له ولا مدافع ، أو على أمر يوسف لم يكله إلى غيره ولم ينجح كيد إخوته فيه ولم يكن إلا ما أراد الله ودبر. ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( أن الأمر كله بيد الله. ثم إنه سبحانه بين وقت استكمال أمره فقال : ( ولما بلغ أشدّة ( قيل في الأشد ثماني عشرة سنة وعشرون ، وثلاث وثلاثون وأربعون إلى ثنتين وستين ) آتيناه حكماً وعلماً ( فالحكم الحكمة العملية والعلم الحكمة النظرية ، وإنما قدمت العملية لأن أصحاب الرياضيات والمجاهدات يصلون أوّلاً إلى الحكمة العملية ثم إلى العلم اللدني بخلاف أصحاب الأفكار والأنظار ، والأول هو طريقة يوسف لأنه صبر على البلاء ، والمحن ففتح عليه أبواب المكاشفات ، وقيل : الحكم النبوّة لأن النبي حاكم على الخلق والعلم علم الدين. وقيل : الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على النفس الأمارة قاهرة لها ، فحينئذٍ تفيض الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس. والتحقيق في هذا الباب أن استكمال النفس(4/76)
" صفحة رقم 77 "
الناطقة إنما يتيسر بواسطة استعمال الآلات الجسدانية ، وفي أوان الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها فتضعف تلك الآلات ، فإذا كبر الإنسان واستولت الحراة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت فصارة الآلات صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية في تحصيل المعارف واكتساب الحقائق. فقوله ) ولما بلغ أشده ( إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية ، وقوله : ( آتيناه حكماً وعلماً ( إشارة إلى استكمال النفس الناطقة وقوة لمعان الأضواء القدسية فيها. قال في الكشاف : ( وكذلك نجزي المحسنين ( فيه تنبيه على أنه كان محسناً في عمله متقياً في عنفوان أمره ، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه. واعترض عليه بأن النبوة غير مكتسبة. والحق أن الكل بفضل الله ورحمته ولكن للوسائط والمعدات مدخل عظيم ف يكل ما يصل إلى الإنسان من الفيوض والآثار ، فالأنوار السابقة تصير سبباً للأضواء اللاحقة وهلم جراً. عن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله. ثم إن يوسف كان في غاية الحسن والجمال ، فلما شب طمعت فيه امرأة العزيز وذلك قوله : ( وراودته ( والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب ، ضمنت معنى الخداع أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه حتى يزله عن الشي الذي يريد أن يخرجه من يده ، وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال : راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حاول كل منهما الوطء والجماع ، وإنما قال : ( التي هو في بيتها ( ولم يقل زليخا قصداً إلى زيادة التقرير مع استهجان اسم المرأة ) وغلقت الأبواب ( لا ريب أن التشديد يدل على التكثير لأن غلق متعد كنقيضه وهو فتح. والمفسرون رووا أن الأبواب كانت سبعة ) وقالت هيت لك ( هذه اللغة في جميع القراآت اسم فعل بمعنى هلم إلا عند من قرأ ) هئت لك ( بهاء مكسورة بعدها همزة ساكنة ثم تاء مضمومة فإنها معنى تهيأت لك. يقال : هاء يهيء مثل جاء يجيء بمعنى تهيأ. قال النحويون : هيت جاء بالحركات الثلاثة : فالفتح للخفة ، والكسر للالتقاء الساكنين ، والضم تشبيهاً بحيث. وإذا بين باللام نحو ( هيت لك ) فهي صوت قائم مقام المصدر كأفٍ له أي لك أقول هذا. وإذا لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر قائم مقام الفعل ويكون اسم فعل ، ومعناه إما خبر أي تهيأت وإما أمر أي أقبل. وقد روى الواحدي بإسناده عن أبي زيد ) قالت هيت لك ( بالعبرانية هيتالج أي تعالى عربة القرآن. وقال الفراء : إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها. وقال ابن الأنباري : هذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران كما اتفقت لغة العرب والروم في القسطاس ، ولغة العرب والفرس في السجيل ، ولغة العرب والترك في الغساق ، ولغة(4/77)
" صفحة رقم 78 "
العرب والحبشة في ناشئة الليل. ثم إن المرأة لما ذكرت هذا الكلام أجاب يوسف عليه السلام بثلاثة أجوبة : الأول ) قال معاذ الله ( وهو من المصادر التي لا يجوز إظهار فعلها أي أعوذ بالله معاذاً ، وفيه إشارة إلى أن حق الله تعالى يمنع عن هذا العمل ، الثاني ) إنه ( والضمير للشأن ) ربي ( أي سيدي ومالكي بزعمهم واعتقاهم وإلا فيوسف كان عالماً بأنه حر والحر لا يصير عبداً بالبيع ، أو المراد التربية أي الذي رباني ) أحسن مثواي ( حين قال ) أكرمي مثواه ( وفي هذا إشارة إلى أن حق الخلق أيضاً يمنع عن ذلك العمل. وقيل : أراد بقوله : ( ربي ( الله تعالى لأنه مسبب الأسباب. الثالث قوله : ( إنه لا يفلح الظالمون ( الذين يجازون الحسن بالسيء ، أو أراد الذين يزنون لأنهم ظلموا أنفسهم. وفيه إشارة إلى الدليل العقلي فإن صون النفس عن الضرر واجب وهذه اللذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة ، فعلى العاقل أن يحترز عنها فما أحسن نسق هذه الأجوبة. قوله سبحانه ) ولقد همت به وهمّ بها ( لا شك أن الهم لغة هو القصد والعزم ، لكن العلماء اختلفوا فقال جم غفير من المفسرين الظاهريين : إن تلك الهمة بلغت حد المخالطة فقال أبو جعفر الباقر رضي الله عنه بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إنها طمعت فيه وإنه طمع فيها حتى هم أن يحل التكة. وعن ابن عباس أنه حل الهميان أي السربال وجلس منها مجلس المجامع. وعنه أيضاً استقلت له وقعد هو بين شعبها الأربع. وروي أن يوسف حين قال : ( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ( قال له جبرائيل : ولا حين هممت يا يوسف ؟ فقال يوسف عند ذلك ) وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ( وقال آخرون : إن الهمة ما كانت إلا ميلة النفس ولم يخرج شيء منها من القوة إلى الفعل ولكن كانت داعية الطبيعة وداعية العقل والحكمة متجاذبتين. أما الأولون فقد فسروا برهان ربه بأن المرأة قامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في زاوية من زاوية البيت فسترته بالأثواب فقال يوسف : ولم ؟ فقالت : أستحيي من إلهي هذا أن يراني على المعصية. فقال يوسف : تستحيي من صنم لا يسمع ولا يعقل ولا أستحيي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت ، فوالله لا أفعل ذلك أبداً. وعن ابن عباس أنه مثل له يعقوب عاضاً فوه على أصابعه قائلاً : أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء ؟ وإلى هذا ذهب عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين. وقال سعيد بن جبير : تمثل له يعقوب فضربه في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقيل : صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له رئيس فلما زنى قعد لا ريش له. وقيل : بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها ) وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين ((4/78)
" صفحة رقم 79 "
) الإنفطار : 11 ، 12 ] فلم ينصرف ثم رأى فيها ) ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً ) [ الإسراء : 32 ] فلم ينته ثم رأى فيها ) واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ) [ البقرة : 281 ] فلم ينجع فيه فقال الله تعالى لجبرائيل : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة. فانحط لجبرائيل وهو يقول : يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في يوان زمرة الأنبياء ؟ وقيل : رأى تمثال العزيز. وأما الآخرون فما سلموا شيئاً من هذه الروايات. وعلى تقدير التسليم فتوارد الدلائل على المطلوب الواحد غير بعيد وكذا ترادف الزواجر فهو عليه وجوب اجتناب المحارم وبحسب ما أعطاه الله من الفس القدسية المطهرة النبوية ، لكنه انضاف إلى ذلك البرهان هذ الزواجر تكميلاً للألطاف وتتميماً للعناية. قالوا : ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم إذا لقي ما لقي به نبي الله ما ذكروا لما بقي منه عرق ينبض وعضو يتحرك فكيف احتاج النبي إل جميع هذه الزواجر والمؤكدات حتى ينتهي عن إمضاء العزمة. قالوا : والهم لا يتعلق بالأعيان وإنما يتعلق بالمعاني ، فأنتم تضمرون أنه قد هم بمخالطتها ونحن نقول هم بدفعها لولا أن عرف برهان ربه وهو أن الشاهد سيشهد له أنه كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ، فلعله لو اشتغل بأن يدفعها أمكن أن يتمزق قميصه من قبل فكانت الشهادة عليه لا له فلذلك ولى هارباً عنها. وفي قوله : ( وهمّ بها ( فائدة أخرى هي أن ترك المخالطة بها ما كان لعدم رغبته في النساء وعوز قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل ، وكيف يظن بيوسف معصية وق دادعى البراءة بقوله : ( هي راودتني ( وبقوله : ( رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ( والمرأة اعترفت بذلك حين قالت للنسوة ) ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ( وقالت ) الآن حصحص الحق ( وزوج المرأة صدّقه فقال : ( إنه من كيدكن أن كيدكن عظيم ( وشهد له شاهد من أهلها كما يجيء وشهد له الله تعالى فقال : ( كذلك ( أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو الأمر مثل ذلك ) لنصرف عنه السوء ( خيانة السيد ) والفحشاء ( الزنا أو السوء مقدمات الجماع من القبلة والنظر بشهوة ونحو ذلك. ثم أكد الشهادة بقوله : ( إنه من عبادنا ( والإضافة للتشريف كقوله : ( وعباد الرحمن ) [ الفرقان : 63 ] ثم زاد في التأكيد فوصفه بالمخلصين أي هو من جملة من اتصف في طاعاته بصفة الإخلاص ، أو من جملة من أخلصه الله تعالى بناء على قراءتي فتح اللام وكسرها. ويحتمل أن يكون ( من ) للابتداء لا للتبعيض أي هو ناشىء منهم لأنه من ذرية إبراهيم عليه السلام. فكل هذه الدلائل تدل على عصمة يوسف عليه السلام وأنه بريء من الذنب ، ولو كان قد وجدت منه زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما في آدم وذي النون(4/79)
" صفحة رقم 80 "
وغيرهما ولما استحق هذا الثناء والله أعلم بحقائق الأمور. وقوله : ( واستبقا الباب ( أي تسابقا إليه على حذف الجار وإيصال الفعل مثل ) واختار موسى قومه ) [ الأعراف : 155 ] أو على تضمين استبقا معنى ابتدرا. وإنما وحد الباب لأنه أراد الداني لا جميع الأبواب التي غلقتها. روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب ) وقدت قميصها من دبر ( لأنها اجتذبته من خلفه فانقد أي انشق طولاً ) وألفيا سيدها ( صادفا بعلها وهو قطفير. وإنما لم يقل سيدهما لأن ملك يوسف لم يكن ملكاً في الحقيقة. روي أنهما ألفياء مقبلاً يريد أن يدخل وقيل جالساً مع ابن عم للمرأة. ثم إنه كان للسائل أن يسأل فما قالت المرأة إذا ذاك ؟ فقيل : قالت : ( ما جزاء ( هي استفهامية أو نافية معناه أي شيء جزاؤه ، أو ليس جزاءه إلا السجن أو العذاب الأليم. وربما فسر العذاب ) الأليم بالضرب بالسياط جمعت بين غرضين تنزيه ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف وتخويفه طمعاً في أن يواتيها خوفاً وإن لم يواتيها طوعاً. ثم إنها لحبها يوسف راعت دقائق المحبة فذكرت السجن أوّلاً ثم العذاب لأن المحب لا يريد ألم المحبوب ما أمكن. وأيضاً لم تصرح بذكر يوسف وأنه أراد بها سوءاً بل قصدت العموم ليندرج يوسف فيه. وفي قولها : ( إل أن يسجن ( إشعار بأن ذلك اسلجن غير دائم بخلاف قول فرعون لموسى ) لأجعلنك من المسجونين ) [ الشعراء : 29 ] ففيه إشعار بالتأييد ) قال ( يوسف ) هي راودتني عن نفسي ( وإنما صرح بذلك لأنها عرضته للسجن والعذاب فوجب عليه الدفع عن نفسه ولولا ذلك لكتم عليها. قال سبحانه ) وشهد شاهد من أهلها ( قال جمع من المفسرين : الشاهد ابن عم المرأة وكان رجلاً حكيماً ، اتفق في ذلك الوقت أنه كان مع العزيز فقال : قد سمعت الجلبة من وراء الباب وشق القميص الشق من خلقه قال ابن عمها : ( إنه من كيدكن ( وعن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك أن الشاهد ابن خال لها وكان صبياً في المهد وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه ( تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم ). وعن مجاهد : الشاهد هو القميص المشقوق من خلف وضعف بان القميص لا يوصف بالشهادة ولا بكونه من ألأهل ، واعترض على القول الأول(4/80)
" صفحة رقم 81 "
بأن العلامة المذكورة لا تدل قطعاً على براءة يوسف لاحتمال أن الرجل قصد المرأة وهي قد غضب عليه ففر فعدت خلفه كي تدركه وتضربه ضرباً وجيعاً. وأجيب بأن هناك أمارات أخر منها أن يوسف كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد ، ومنها قرينة الحال كتزين المرأة فوق المعتاد وما شوهد من أحوال يوسف في مدة إقامته بمنزلهم. واعترض على القول الثاني بأن شهادة الصبي أمر خارق للعادة فتكون حجة قطعية فلم يبق للاستدلال بحال القميص ولا لكونه من أهلها فائدة. وأيضاً لفظ ) شاهد ( لا يقع في العرف إلا على من تقدمت معرفته بالواقعة. والجواب أن تعيين الطريق في الإخبار والإعلام غير لازم ، وكون الشاهد من أهلها أوجب للحجة عليها وألزم لها والشهد ههنا مجاز ووجه حسنه أنه أدى مؤدى الشاهد حيث ثبت به قول يوسف وبطل قولها. قال في الكشاف : التنكيرب في ( قبل ). و ( دبر ) معناه من جهة يقال لها قبل ومن جهة يقال لها دبر. أما الضمير في قوله : ( فلما رأى ( وفي قوله : ( قال إنه من كيدكن ( فقيل : إنه للشاهد الذي هو ابن عمها كما ذكرنا أي إن قولك وهو ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ، أو إن هذا الأمر وهو الذي أفضى إلى هذه الريبة من عملكن ) إن كيدكن عظيم ( قال بعض العلماء : أنا أخاف النساء أكثر مما أخاف الشيطان لأنه تعالى يقول : ( إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ) [ النساء : 76 ] وقال للنساء : ( إن كيدكن عظيم ( وأقول : لا شك أن القرآن كلام الله إلا أن هذا حكاية قول الشاهد فلا يثبت به ما ادعاه ذلك العالم ولو سلم فالمراد إن كيد الشيطان ضعيف بالنسبة إلى ما يريد الله تعالى إمضاءه وتنفيذه ، وكيد النساء عظيم بالنسبة إلى كيد الرجال فإنهم يغلبنهم ويسلبن عقولهم إذا عرضن أنفسهن عليهم ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( النساء حبائل الشيطان ). ثم قال الشاهد : ( يوسف ( أي يا يوسف فحذف حرف النداء ) أعرض عن هذا ( الأمر واكتمه ولا تحدّث به ) واستغفري ( يا امرأة ) لذنبك ( والاستغفار إما من الزوج أو من الله تعالى لأنهم كانوايثبتون الإله الأعظم ويجعلون الأصنام شفعاء ولهذا قال يوسف لصاحبه في السجن ) أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) [ يوسف : 39 ] ( إنك كنت من الخاطئين ( من المتعمدين للذنب. يقال : خطىء إذا أذنب متعمداً والتذكير للتغليب. وقيل : الضمير في ) رأى ( وفي ) قال ( لزوج المرأة وأنه كان قليل الغيرة فلذلك اكتفى منها بالاستغفار قاله أبو بكر الأصم. ) وقال نسوة ( هو اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي ولذلك حسن حذف التاء من فعله وقد تضمن نونها. قال الكلبي : هن أربع في المدينة مصر : إمرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب الدواب وامرأة صاحب السجن ،(4/81)
" صفحة رقم 82 "
وزاد مقاتل امرأة الحاجب ، والفتى الغلام الشاب والفتاة الجارية ) قد شغفها ( أي خرق حبه شغاف قلبها والشغاف حجاب القلب ، وقيل : جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب و ) حباً ( نصب على التمييز وحقيقة شغفه أصاب شغافه كما يقال : كبده إذا أصاب كبده وكذا قياس سائر الأعضاء. وقرىء بالعين المهملة أي أحرقها مع تلذذ من شغف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران. وقال ابن الأنباري : هذا من الشغف وهو رؤوس الجبال أي ارتفع محبته إلى أعلى المواضع من قلبها. والضلال المبين الخطأ عن طريق الصواب. ) فلما سمعت بمكرهن ( اغتيابهن وسوء قالتهن فيها ، وإنما حسن التعبير عن الاغتياب بالمكر لاشتراكهما في الإخفاء. وقيل : التمست منهن كتمان سرها فأفشينه فسمي مكراً ) أرسلت إليهن ( تدعوهن. وقيل : أردن بذلك أن يتوسلن إلى رؤية يوسف عليه السلام فلهذا سميى مكراً. وقيل : كن أربعين. ) وأعتدت ( وهيأت ) لهن متكئاً ( موضع اتكاء وأصله موتكئاً لأنه من توكأت أبدلت الواو تاء ثم أدغمت ، والمراد هيأت لهن نمارق يتكئن عليها كعادة المترفهات كأنها قصدت بذلك تهويل يوسف عليه السلام من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهن السكاكين توهمه أنهن يثبن عليه. وقيل : المتكأ مجلس الطعام لأنهن كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث على هيئة المتنعمات ، ولذلك نهى أن يأكل الرجل متكئاً. وآتتهن السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن بها. وقيل : أراد بالمتكأ الطعام على سبيل الكناية لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له متكأ. وقال مجاهد : هو طعام يحتاج إلى أن يقطع بالسكين لأن القاطع متكىء على المقطوع بآلة القطع وقرىء متكاً مضموم الميم ساكن التاء مقصوراً وهو الأترج ) فلما رأيته أكبرته ( أعظمنه وهبن ذلك الجمال ، وكان أحسن خلق الله إلا أن نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) كان أملح. قيل : كان يشبه آدم عليه السلام ويم خلقه ربه وما كان أحد يستطيع وصفه ويرى تلألؤ وجهه على الجداران وقد ورث الجمال من جدته سارّة. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء فقلت لجبرائيل : ما هذا ؟ فقال : يوسف. فقيل : يا رسول الله كيف رأيته ؟ قال : كالقمر ليلة البدر ) وقال الأزهري : أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت. يقال : أكبرت المرأة أي دخلت في الكبر بالحيض ، ووجه حيضهن حينئذٍ بأن المرأة إذا فزعت أسقطت ولدها فحاضت ، فالمراد حضن ودهشن. وقيل : أكبرنه لما رأين علي من نور النبوة وسيماء الرسالة وآثار الخضوع والإخبات والأخلاق. الفاضله الملكية كعدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح فلذلك وقعت الهيبة والرعب في قلوبهم ) وقطعن أيديهن ( أي جرحنها بأن لم يعرفن الفاكهة من اليد ، أو بأن لم يفرقوا بين الجانب الحاد من السكين وبين مقابله فوقع الطرف الحاد في أيديهن وكفهن وحصل الاعتماد على ذلك(4/82)
" صفحة رقم 83 "
الطرف فجرح الكف وهذا القول شديد الملاءمة لقولهن ) حاش لله ( أي ننزهه عما يشينه من خصلة ذميمة ) إن هذا إلا ملك كريم ( في السيرة والعفة والطهارة. وأما قول زليخا : ( فذلكن الذي لمتنني فيه ( فإنما ينطبق على هذا التأويل من حيث إن الصورة الحسنة مع العفة الكاملة توجب حصول اليأس من الوصال وحصول الغرض المجازي وذلك يستتبع فرط الحيرة وزيادة العشق. وعلى القولين الأولين فالمعنى تنزيه الله من صفات العجز والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله ، كما أن قولهن ) حاش لله ما علمنا عليه ( تعجب من قدرته على خلق عفيف مثله. قال صاحب الكشاف : ( حاشا ) كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء واللام في ) لله ( لبيان من يبرأ وينزه وهي حرف من حروف الجر وضع موضع التنزيه والبراءة. وقال أبو البقاء : الجمهور على أنه ههنا فعل لدخوله على حرف الجر وفاعله مضمر ، وحذف الألف من آخره للتخفيف وكثرة دوره على الألسنة تقديره حاشى يوسف أي بعد عن المعصية لخشية الله وصار في حاشية أي ناحية. ) ما هذا بشراً ( أعمال ما عمل ليس لغة حجازية ) إن هذا ( أي ما هذا الشخص ) غلا ملك كريم ( استدل بعضهم بالآية على أفضلية الملك كما مر في أول سورة البقرة قالوا : وإنما قلن ذلك لما رزكز في العقول أن لا أحسن من صورة الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من صورة الشيطان. واعترض عليه بأنه لا مشابهة بين صورة الإنسان وصورة الملك. وأجيب بعد التسليم بتغيير المدعي وهو أنهن أردن المشابهة في الأخلاق الباطنة وبها يحصل المطلوب ، وزيف بأن قول النساء لا يصلح للحجة ، وفي الآية دلالة على أن اللوم انتفى لأنه لحقهن بنظرة واحدة يلحقها في مدة طويلة وأنظار كثير فلذلك ) قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ( وسئل ههنا إن يوسف كان حاصراً فلما أشارت بعبارة البعيد ؟ وأجاب أبن الأنباري بأنها أشارت إليه بعد انصرافه من المجلس وهذا شيء يتعلق بالنقل. وأما علماء البيان فإنهم بنوا الأمر على أن يوسف حاضر وأجابوا بأنها لم تقل فهذا رفعاً لمنزلته في الحسن واستحقاق أن يحب ويفتتن به واستبعاداً لمحله ، أو هو إشارة إلى المعنيّ بقولهن في المدينة عشقت عبدها الكنعاني كأنها قالت هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكن ثم لمتتني فيه يعني أنكن لم تصوّرنه قبل ذلك حق التصوير وإلا عذرتنني في الافتتان به. ولما أظهرت عذرها عند النسوة صرحت بحقيقة الحال فقالت : ( ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ( قال السدي : أي بعد حل السراويل : والذين يثبتون عصمة الأنبياء قالوا : إن ) استعصم ( بناء مبالغة يدلعلى الامتناع البليغ والتحرز الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاتزادة منها ، وفيه شهادة من المرأة على أن يوسف ما(4/83)
" صفحة رقم 84 "
صدر عنه أمر بخلاف الشرع والعقل أصلاً. ) ولئن لم يفعل ما آمره ( قال في الكشاف : معناه الذي آمر به فحذف الجار كما في أمرتك الخير ، أو ما مصدرية والضمير ليوسف أي أمري إياه أي موجب أمري ومقتضاه ) وليكونا من الصاغرين ( هي نون التأكيد المخففة ولهذا تكتب بالألف لأن الوقف عليها بالألف. والصغار الذل والهوان ، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس جليل القدر مثل يوسف ثم إنه اجتمع على يوسف في هذه الحالة أنواع من المحن والفتن منها : أن زليخا كانت في غاية الحسن ، ومنها أنها كانت ذات مال وثروة قد عزمت أن تبذل الكل ليوسف على تقدير أن يساعدها ، ومنها أن النسوة اجتمعن عليه مرغبات ومخوفات ، ومنها أنها كانت ذات قدرة ومكنة وكان خائفاً من شرها ومن إقدامها على قتله ، ولا ريب أن نطاق عصمة البشرية يضيق عن بعض هذه الأسباب فضلاً عن كلها وعن أزيد منها ولهذا لجأ يوسف عليه السلام إلى الله تعالى قائلاً : ( رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه ( لأن السجن وإن كان مشقة فهي زائلة والذي يدعونه إليه وإن كان لذة إلا أنها عاجلة مستعقبة. لخزي الدنيا وعذاب الآخرة ) وإلا تصرف عني كيدهن ( بترجيح داعية الخير وعزوف النفس أو بمزيد الألطاف والعصمة ) أصب إليهن ( والصبوة الميل إلى الهواى ومنها الصبا لأن النفوس تصبوا إلى روحها. ) وأكن من الجاهلين ( الذين لا يعملون بما يعلمون ولا يكون في علمهم فائدة ، أو من السفهاء لأن الحكيم لا يفعل القبيح. ولما كان في قوله : ( وإلا تصرف ( معنى الدعاء وطلب الصرف قال سبحانه ) فاستجاب له ربه ( ثم إن المرأة أخذت في الاحتيال وقالت لزوجها إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس ويقول لهم في المجالس إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري ، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر ، وإما أن تحبسه كما حبستني فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى ينسى الناس هذا الحديث فذلك قوله تعالى : ( ثم بدا ( أي ظهر ) لهم ( للعزيز ومن يليه أو له وحده والجمع على عادتهم في تعظيم الأشراف ) من بعد ما رأو الآيات ( الدالة على براءة يوسف من شهادة الصبي واعتراف المرأة وشهادة النسوة. بالسيرة الملكية والعفة. وفاعل بدا مضمر أي ظهر لهم رأي أو سجنه وإنما حذف لدلالة ما يفسره عليه وهو ) ليسجننه ( والقسم محذوف ) حتى حين ( إلى زمان ممتد. عن أبي عباس : إلى زمان انقطاع القالة وما شع في المدينة. وعن الحسن : خمس سنين. وعن غيره سبع سنين. وعن مقاتل : أنه حبس اثنتي عشرة سنة. التأويل : لما أخرجوا يوسف القلب من جب الطبيعة ذهبوا به إلى مصر الشريعة(4/84)
" صفحة رقم 85 "
فاشتراه عزيز مصرها وهو الدليل المربي على جادة الطريقة ليوصله إلى عالم الحقيقة. ) فقال لامراته ( وهي الدنيا ) أكرمي مثواه ( اخدميه بقدر الحاجة الضرورية ) عسى أن ينفعنا ( حتى يكون صاحب الشريعة فيتصرف في الدنيا باكسير النبة فتصير الشريعة حقيقة والدنيا آخرة ) أو نتخذه ولداً ( نربيه بلبان ثدي الشريعة والطريقة إلى أن يرى الفطام عن الدنيا الدنية ) وكذلك مكنا ( يشير إلى أن تمكين يوسف القلب في أرض البشرية إنما هو لتعلم العلم اللدني ، لأن لاثمرة إنما تظهر على الشجرة إذا كان أصل الشجرة راسخاً في الأرض ) والله غالب على ( أمر القلب في توجيهه على محبة الله وطلبه ، أو على أمر القالب بجذبات العناية وإقامته على الصراط المستقيم فتكون تصرفاته بالله ولله وفي الله ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( أنهم خلقوا مستعدّين لهذا الكمال ) وكذلك نجزي المحسنين ( أي كما أفضنا على القلب ما هو مستحقه من الحكمة والعلم كذلك نجزي لأعضاء الرئيسية والجوارح إذا أحسنوا الأعمال والأخلاق على قاعدة الشريعة والطريقة خير الجزاء ، وهو التبليغ إلى مقام الحقيقة. ) وراودته ( فيه إشارة إلى أن يوسف القلب وإن استغرق في بحر صفات الألوهية لا ينقطع عنه تصرفات زليخا الدنيا ما دام هو في بيتها أي في الجسد الدنياوي ) وغلقت ( أبواب أركان الشريعة ) وقالت هيت لك ( أقبل إلى وأعرض عن الحق ) قال ( أي القلب الفاني عن نفسه الباقي ببقاء ربه ) معاذ الله ( عما سواه. ) أحسن مثواي ( في عالم الحقيقة رغنه لا يفلح الظالمون ( الذين يقبلون على الدنيا ويعرضون عن المولى ) وهمّ بها ( فوق الحاجة الضرورية ) لولا أن رأى برهان ربه ( وهو ) والفحشاء ( بصرف حب الدنيا فيه ) إنه من عبادنا المخلصين ( الذي خلصوا من سجن لوجود المجازي ووصلوا إلى الوجود الحقيقي. ) واستبقا ( باب الموت الاختياري ) وقدت ( قميص بشريته ) من دبر ( بيد شهواتها قبل خروجه من الباب ) وألفيا سيدها ( تصرف الرجل في المرأة ) وشهد شاهد من أهلها ( هو حاكم العقل الغريزي دون العقل المجرد الذي هو ليس من الدنيا وأهلها في شيء ، فبين حاكم العقل أن يد تصرف زليخا. الدنيا لتصل إلى يوسف القلب إلا بواسطة قميص بشريته ) إن كيدكن عظيم ( وهو قطع طريق الوصول إلى الله العظيم على القلب السليم. ) يوسف أعرض عن هذا ( فإن ذكر الدنيا يورث محبتها وحب الدنيا رأس كل خطيئة. ) وقال نسوة ( هي الصفات البشرية من البهيمية والسبعية والشيطانية في مدينة الجسد ) تراود فتاها ( لأن الرب إذا تجلى للعبد خضع له كل شيء ( يا دنيا اخدمي من خدمني ) ) واعتدت لهن متكئاً ( أطعمة مناسبة لكل(4/85)
" صفحة رقم 86 "
منها ) وآتت كل واحد منهن سكيناً ( هو سكين الذكر ) وقالت اخرج عليهن ( إشارة إلأى غلبات أحوال القلب على الصفات البشرية ) وقطعن أيديهن ( بالذكر عما سوى الله. ) ثم بدا لهم ( أي ظهر لمربي القلب بلبان الشريعة وهو شيخ الطريقةومن يراعي صلاح حال القلب ) من بعد ما رأوا ( آثار عناية الله وعصمة القلب من الالتفات إلى ما سواه ) ليسجننه ( في سجن الشرع إلى حين قطع تعلقه عن الجسد بالموت نظيره ) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [ الحجر : 99 ] وإذا كان النبي مع نهاية كماله مأموراً بأن يكون مسجوناً في هذا السجن فكيف بمن دونه والله أعلم. ( يوسف : ( 36 - 53 ) ودخل معه السجن . . . .
" ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله(4/86)
" صفحة رقم 87 "
ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم " ( القراآت ) إني أراني أعصر ( بالفتح في الحرفين : أبو جعفر ونافع ، وأبو عمرو وافق ابن كثير في ) أراني ( كليهما. الباقون : بسكون ياء المتكلم في الكل : ( نبينا ( بغير همزة : أوقية والأعشى وحمزة في الوقف. ) ترزقانه ( مختلسة : الحلواني عن قالون ) نبأتكما ( مثل ) أنشأنا ( ) ربي إني ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) آبائي ( بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ) إني أرى ( بالفتح : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) رؤياي ( بالإمالة : عليّ غير قتيبة. أبو عمرو بالإمالة اللطيفة. ) لعلي أرجع ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ابن مجاهد عن ابن ذكوان وأبو عمرو ) دأبا ( بفتح الهمزة : حفص. الآخرون بالسكون ) تعصرون ( بتاء الخطاب : حمزة وعليّ وخلف المفضل. الباقون على الغيبة. ) ما بال النسوة ( بضم النون : الشموني والبرجمي ) نفسي ( ) رحم ربي ( بالفتح فيهما : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو الوقوف : ( فتيان ( ط ) خمراً ( ج فصلاً بين القضيتين مع اتفاق الجملتين ) الطير منه ( ط للعدول عن قول آخر منهما إلى قولهما المضمر أي فقالا. ) نبئنا بتأويله ( ج لاحتمال التعليل. ) المحسنين ( ه ) أن يأتيكما ( ط ) ربي ( ط ) كافرون ( ه ) ويعقوب ( ط ) من شيء ( ط ) لا يشكرون ( ه ) القهار ( ه ط ) من سلطان ( ط ) إلا الله ( ط ) إلا إياه ( ط ) لا يعلمون ( ه ) خمراً ( ج فصلا بين الجوابين مع اتفاق الجملتين ) من رأسه ( ط لأن قوله : ( قضى ( جواب قولهما كذبنا وما رأينا رؤيا ) تستفتيان ( ط لاستئناف حكاية أخرى ) عند ربك ( ز ) سنين ( ه ط ) يابسات ( ط ) تعبرون ( ه ) أحلام ( ج للنفي مع العطف ) بعالمين ( ه ) فأرسلون ( ه ) ياباسات ( لا لتعلق ( لعلى ) ) يعلمون ( ه ) دأباً ( ج للشرط مع الفاء ) تأكلون ( ه ) تحصنون ( ه ) يعصرون ( ه ) ائتوني به ( ج ) أيديهن ( ط ) عليم ( ه ) عن نفسه ( ط ) من سوء ( ط ) الحق ( ز(4/87)
" صفحة رقم 88 "
لانقطاع النظم واتصال المعنى واتحاد القائل. ) الصادقين ( ه ) الخائنين ( ه ) نفسي ( ج للحذف أي عن السوء ) ربي ( ط ) رحيم ( ه. التفسير : تقدير الكلام فحبسوه ) ودخل معه ( أي مصاحباً له في الدخول ) السجن فتيان ( غلامان للملك الأكبر خبازه وشاربيه نقلاً عن أئمة التفسير أو استدلالاً برؤياهما المناسبة لحرفتهما. رفع إلى الملك أنهما أرادا سمه في الطعام والشراب فأمر بإدخالهما السجن ساعة إذا دخل يوسف ) قال أحدهما إني أراني ( أي في المنام لقولهما : ( نبئنا بتأويله ( وهو حكاية حال ماضية ) أعصر خمراً ( أي عنباً تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه. وقيل : الخمر بلغة عمان اسم العنب. والضمير في قوله : ( بتأويله ( يعود إلى ما قصا عليه وقد يوضع الضمير موضع اسم الإشارة كأنه قيل : نبئنا بتأويل ذلك ) إنا نراك من المحسنين ( عبارة الرؤيا. وكان أهل السجن يقصون عليه رؤياهم فيؤوّلها لهم ، أو نراك من العلماء عرفا ذلك بالقرائن أو من المحسنين إلى أهل السجن كان يعود مرضاهم ويوسع عليهم ويراعي دقائق مكارم الأخلاق معهم ، أو من المحسنين في طاعة الله وطلب مرضاته ففرج عنا غلمة بتأويل ما راينا وإن كانت لك يد في تأويل الرؤيا. وعن قتادة : كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول : أبشروا اصبرا تؤجروا. فقالوا : ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت يا فتى ؟ فقال : أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل إبراهيم. فقال له عامل السجن : لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت. وعن الشعبي ومجاهد أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي : أراني في بستان فإذا بأصل كرم عليه ثلاثة عناقيد من عنب فقطعتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته. وقال الخباز : إني أراني وفوق رأسي ثلاثة سلال فيها أنواع الأطعمة ، وإذا سباع الطير تنهش منها ) قال لا يأتيكما طعام ( إلى آخره هذا ليس بجواب لهما ظاهراً وإنما قدم هذا الكلام لوجوه منها : أن أحد التعبيرين لما كان هو الصلب وكان في إسماعه كراهة ونفرة أراد أن يقدم قبل ذلك ما يؤثق بقوله ويخرجه عن معرض التهمة والعداوة. أو أراد أن يبين علوّ مرتبته في العلم وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون عن ظن وتخمين ، ولهذا قال السدي : أراد لا يأتيكما طعاما ترزقانه في النوم. بين بذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس مقصوراً على شيء دون غيره وقيل : إنه محمول على اليقظة وإنه ادعى معرفة الغيب كقول عيسى عليه السلام ) وأنبئكم بما تأكلون ) [ آل عمران : 49 ] أي أخبركما ) قبل ان يأتيكما ( أنه أي طعام هو وأيّ لون(4/88)
" صفحة رقم 89 "
هو وكيف تكون عاقبته أهو ضار أم نافع وأن فيه سماً أم لا. فقد روي أن الملك كان إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً مسموماً فأرسله إليه. ثم قال : ( ذلكما ( أي هذا التأويل والإخبار بالمغيبات من قبيل الوحي والإلهام لا من التكهن التنجيم الذي يكثر فيهما وقوع الخطأ. ثم بيّن سيرته وملته مشيراً فيه إلى أنه رسول من عند الله ومنبهاً على أن الاشتغال بمصالح الدين أهم من الاشتغال بمصالح الدنيا حتى إن الرجل الذي سيصلب لعله يسلم فلا يموت على الكفر فقال : ( إني تركت ( أي رفضت بل ما كنت قط ، ويجوز أن يكون قبل ذلك غير مظهر للتوحيد خوفاً منهم لأنه كان تحت أيديهم. وإنما كررت لفظة ( هم ) تنبيهاً على أنهم مختصون في ذلك الزمان بإنكار المعاد وتعريضاً بأن إيداعه السجن بعد معاينة الآيات الشاهدة على براءته لا يصدر إلا عمن ينكر الجزاء أشد الإنكار. والمراد باتباع ملة آبائه الاتباع في الاصول التي لا تتبدل بتبدل الشرائع ، ومعنى التنكير في قوله : ( من شيء ( الرد على كل طائفة خالفت الملة الحنيفية من عبدة الاصنام والكواكب وغيرهم ) ذلك ( التوحيد ) من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ( نعمة الإيمان أو نعمة إعطاء القدرة والاختيار على الإيمان فلا ينظرون في الدلائل ، وهذا يناسب أصول المعتزلة. وعن بعضهم إنا لا نشكر الله على الإيمان بل الله يشكرنا عليه كما قال : ( فأولئك كان سعيهم مشكوراً ) [ الإسراء : 91 ] ( يا صاحبي السجن ( أراد يا صاحبي السجن كقوله ( يا سارق الليلة ) خصمهما بهذا النداء لأنهما دخلا السجن معه أو أراديا ساكني السجن كقوله : ( أصحاب النار ) [ الأعراف : 44 ] فسبب التعييين أنهما استفتياه في بين الساكنين. ثم أنكر عليهم عبارة الأصنام فقال : ( أأرباب متفرقون ( في العدد وفي الحجمية وفيما يتبعها من اختلاف الأعراض والأبعاض ) خير ( إن فرض فيهم خير ) أم الله الواحد القهار ( لأن وحدة المعبود تستدعي توحيد المطلب وتفريد المقصد ، وكونه قهاراً غالباً غير مغلوب من وجه يوجب حصول كل ما يرجى منه من ثواب وصلاح إذا تعلقت إرادته بذلك فلا يصلح للمعبودية إلا هو ولا تصلح حقيقة الإلهية في غيره فلذلك قال : ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها ( أي سميتم الآلهة بتلك الأسماء ) أنتم وآبائكم ( والخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر فكأنهم لا يعبدون إلا أسماء فارغة عن المسميات ) ما أنزل الله بها ( بتسميتها ) من سلطان ( أي حجة. ثم لما نفى معبودية الغير بين أن لا حكم في أمر الدين والعبادة إلا له فقال : ( إن الحكم إلا لله ( ثم ذكر ما حكم به فقال : ( أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ( الثابت بالبراهين ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( أنه مبدأ المبادىء والمعاد الحقيقي فيتخذون غيره معبوداً ويجعلون لغيره من الأصنام والأجرام(4/89)
" صفحة رقم 90 "
بالاستقلال فعلاً وتأثيراً. ثم شرع في إجابة مقترحهما وهو تأويل رؤياهما فقال : ( أما أحدكما ( يعني الشاربي ) فيسقي ربه ( سيده ) خمرا ( يروى أنه قال له : ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده ، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي ثم تخرج فتصلب فتأكل الطير في رأسك. وقال للثاني : ما رأيت من السلال ثلاث أيام وحد الأمر وهما أمران مختلفان استفتيا فيهما ، لأن المراد بالأمر ما اتهما به من سم الملك وما سجنا لأجله فكأنهما استفتياه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك استدلالاً برؤياهما فقال : إن ذلك الذي ذكرت من أمر التأويل كائن لا محالة صدقتما أو كذبتما. وقيل : جحدا رؤياهما. وقيل : عكسا رؤياهما ، فلما علم الخباز أن تأويل رؤياه شر أنكر كونه صاحب تلك الرؤيا فقال يوسف : إن الذي حكمت به لكل منكما واقع لا بد منه ومن هنا قالت الحكما : ينبغي أن لا يتصرف في الرؤيا ولا تغير عن وجهها فإن الفأل على ما جرى. ) وقال ( يوسف ) للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك ( أي اذكر عند الملك أني مظلوم من جهة إخوتي أخرجوني وباعوني ، ثم إني مظلوم من جهة النسوة اللاتي حسبتني. والضمير في ) ظن ( إن كان للرجل الناجي فلا إشكال لأنهما ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف بل كانا حسني الإعتقاد فيه وكأن قوله لم يفد في حقهما إلا مجرد الظن ، وإن عاد إلى يوسف فيرد عليه أنه كان قاطعاً بنجاته فما المعنى للظن ؟ وأجيب بأنه إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الأصول المقررة في ذلك العلم فكان كالمسائل الاجتهادية. والأصح أنه قضي بذلك على سبيل ألبت والقطع لقوله : ( لا يأتيكما طعام ( إلى قوله : ( ذلكما مما علمني ربي ( فالظن على هذا بمعنى اليقين كقوله : ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) [ البقرة : 46 ] أما الضمير في قوله : ( فأنساه الشيطان ( فمن الناس من قال : إنه يعود بعد الرجل الناجي أي أنساه الشيطان ذكر يوسف لسيده أو عند سيده فإضافة الذكر إلى الرب للملابسة لا لأجل أنه فاعل أو مفعول ، أو المضاف محذوف تقديره فأنساه ذكر إخبار ربه وإسناد الإنساء إلى الشيطان مجاز لأن الإنساء عبارة عن إزالة العلم عن القلب والشيطان قدرة له على ذلك وإلا لإزال معرفة الله من قلوب بني آدم ، وإنما فعله إلقاء الوسوسة وأخطار الهواجس التي هي من أسباب النسيان. ومنهم من قال : الضمير راجع إلى يوسف ، والمراد بالرب هو الله تعالى أي الشيطان أنسى يوسف أن يذكر الله تعالى ، وعلى القولين عوتب باللبث في السجن بضع سنين. والبضع ما بين الثلاثة إلى العشر لأن القطعة من العدد والبضع القطع ومثله العضب. والأكثرون على أن المراد في الآية سبع(4/90)
" صفحة رقم 91 "
سنين. وعن ابن عباس : كان ق لبث خمس سنين وقد اقترب خروجه ، فلما تضرع إلى ذلك الرجل لبث بعد ذلك سبع سنين. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ) وعن مالك أنه لما قال له اذكرني عند ربك قيل له يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً ، لأطيلن حبسك. فبكى يوسف وقال : طول البلاء أنساني ذكر المولى فويل لإخوتي. قال المحققون : الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة. فقد روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يأخذه النوم ليلة من الليالي وكان يطلب من يحرسه على جاء سعد بن أبي وقاص فنام. وقال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام : ( من أنصاري إلى الله ) [ الصف : 14 ] ولا خلاف في جواز الاستعانة بالكفار في دفع الظلم والغرق والحرق إلا أن يوسف عليه السلام عوتب على قوله : ( اذكرني عند ربك ( لوجوه منها : أنه لم يقتد بالخليل جده حين وضع في المنجنيق فلقيه جبرائيل في الهواء وقال : هل من حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا مع أنه زعم أنه الرب بمعنى الإله إلا أن إطلاق هذا اللفظ على الله لا يليق بمثله وإن كان رب الدار ورب الغلام متسعملاً في كلامهم. ومنها أنه لم يقرن بكلامه إن شاء الله ، ولما دنا فرج يوسف أرى الله الملك في المنام سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان ، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ، فاضطرب الملك بسببه لأن فطرته قد شهدت بأن استيلاء الضعيف على القوي ينذر بنوع من أنواع الشر إلا أنه لم يعرف تفصيله ، والشيء إذا علم من بعض الوجوه عظم الشوق إلى تكميل تلك المعرفة ولا سيما إذا كان صاحبه قذا قدرة وتمكين ، فبهذا الطريق أمر الملك بجمع الكهنة والمعبرين وقال : ( يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي ( ثم إنه تعالى إذا أراد أمراً هيأ أسبابه فأعجز الله أولئك الملأ عن جواب المسألة وعماه عليهم حتى ) قالوا ( إنها ) أضغاث أحلام ( ونفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بتأويلها. واعلم أن الله سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك ومطالعة اللوح المحفوظ إلا أن المانع لها عن ذلك في اليقظة هو اشتغالها بتدبير البدن وبما يرد عليها من وقفت الروح على حالة من تلك الأحوال فإن بقيت في الخيال كما شوهدت لم يحتج إلى التأويل ، وإن نزلت آثار مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحاني إل عالم الخيال فهناك(4/91)
" صفحة رقم 92 "
يفتقر إلى المعبر. ثم منها ما هي منتسقة منتظمة يسهل على المعبر الانتقال من تلك المتخيلات إلى الحقائق الروحانيات ، وممنها ما تكون مختلطة مضطربة لا يضبط تحليلها وتركيبها لتشويش وقع في ترتيبها وتأليفها فهي المسماة بالأضغاث. وبالحقيقة ، الأضغاث ما يكون مدؤها تشويش القوة التخيلة لفساد وقع في القوى البدنية ، أو لورود أمر غريب عليه من خارج ، لكن القسم المذكور قد يعد من الإضغاث من حيث إنها أعيت المعبرين عن تأويلها. ولنشتغل بتفسير الألفاظ ، أما الملك فريان بن الوليد ملك مصر ، وقوله : ( إني أرى ( حكاية حال ماضية. وسمان جمع سمينة وسمين وسمينة يجمع على سمان كما يقال : رجال كرام ونسوة كرام قال النحويون : إذا وصف المميز فالأولى أن يوقع الوصف ليكون وصفاً لبقرات ، ويحصل التمييز لسبع بنوع من البقرات وهي السماء منهن ، ولو نصب جعل تمييز السبع بجنس البقرات أولاً ثم يعلم من الوصف أن المميز بالجنس موصوف بالسمن. العجف هو الهزال الذل الذي ليس بعده هزال ، والنعت أعجف وعجفاء وهما لا يجمعان على فعال ولكنه حمل على سمان لأنه نقيضه. وقوله سبع عجاف تقديره بقرات سبع عجاف فحذف للعلم به كما في قوله : ( وأخر يابسات ( التقدير وسبعاً أخر لانصباب المعنى إلى هذا العدد. وإنما لم يقال سبع عجاف على الإضافة لأن البيان لا يقع بالوسف وحده. وقولهم ( ثلاثة فرسان ) و ( خمسة أصحاب ) لأنه وصف جرى مجرى الاسم ، ولا يجوز أن يكون قوله ) وأخر ( مجروراً عطفاً على ) سنبلات ( لأن لفظ الأخر يأباه ويبطل مقابلة السبع بالسبع ، وأراد بالملأ الأعيان من العلماء والحكماء ، واللام في ) للرؤيا ( للبيان كما قلنا في ) وكانوا فيه من الزاهدين ) [ يوسف : 20 ] أو لأن عمل العامل فيما تقدم عليه يضعف فيعضد باللام كما يعضد اسم الفاعل بها وإن تأخر معموله ، أو لأن قوله : ( للرؤيا ( خبر ( كان ) كقوله هو لهذا الأمر أي متمكن من مستقل به و ) تعبرون ( خبر آخر أو حال أو لتضمن ) تعبرون ( معنى تنتدبون لعبارة الرؤيا والفصيح عبرت الرؤيا بالتخفيف ، وقد يشدد واشتقاقه من العبر بالكسر فالسكون وهو جانب النهر فيقال : عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه ، وعبرت الرؤيا إذا تأملت ناحيتها فانتقلت من أحد الطرفين إلى الآخر. والأضغاث جمع ضغث وهو الحزمة من أنواع النبت والحشيش مما طال ولم يقم على ساق ، والإضافة بمعنى من أي أضغاث من أحلام والصيغة للجمع ولكن الواحد قد يوصف به كما قال : رمح أقصاد وبرمة أعشار. فالمراد هي حلم أضغاث أحلام. وقد يطلق الجمع ويراد به الواحد كقولهم ( فلان يركب الخيل(4/92)
" صفحة رقم 93 "
ويلبس العمائم ) وإن لم يركب إلا فرساً واحداً ولم يلبس إلا عمامة واحدة. ويجوز أن يكون قد قص عليهم أحلاماً أخر. واللام في ) الأحلام ( أما للعهد كأنهم أرادوا المنامات الباطلة ، أو للجنس وأرادوا أنهم غير متبحرين في علم تأويل الرؤيا. ولما أعضل على الملأ تأويل رؤيا الملك تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤيا ورؤيا صاحبه المصلوب ، وتذكر قوله : ( اذكرني عند ربك ( وذلك قوله سبحانه : ( واذكر ( وأصله ( اذتكر ) قلبت التاء والذال كلاهما دالاً مهملة وأدغمت. ) بعد أمة ( أي بعد حين كأنها حصلت من اجتماع أيام كثيرة. وقرىء بكسر الهمزة وهي النعمة أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة. وقرىء ) بعد أمه ( بوزن عمه. ومعنى ) أنا أنبئكم بتأويله ( أخبركم به عمن عنده علمه ) فأرسلون ( إليه لأسلأله والخطاب للملك والجمع للتعظيم أو له وللملأ حوله. والمعنى مروني باستعباره. وعن ابن عباس : لم يكن السجن في المدينة. وههنا إضمار والمراد فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال ) يوسف ( أي يا يوسف ) أيها الصديق ( البليغ الكامل في الصدق وصفه بهذه الصفة لأنه تعرف أحواله من قبل. وفيه أنه يجب على المتعلم تقديم ما يفيد المدح لمعلمه. وإنما أعاد عبارة الملك بعينها لأن التعبير يختلف باختلاف العبارات. وقوله : ( لعلي أرجع ( فيه نوع من حسن الأدب لأنه لم يقطع بأنه يعيش إلى أن يعود إليهم ، وعلى تقدير أن يعيش فربما عرض له ما يمنعه عن الوصول إليهم من الموانع التي لا تحصى كثرة. وكذا في قوله : ( لعلهم يعلمون ( فضلك ومكانك من العلم فيخلصوك أو يعلمون فتواك فيكون فيه نوع شك لأنه رأى عجز سائر المعبرين وقيل : كرر لعل مراعاة لفواصل الآي وإلا كان مقتضى النسق لعلي أرجع إلى الناس فيعلموا ، ومثله في هذه السورة ) لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ) [ يوسف : 62 ]. ) قال ( يوسف في جواب الفتوى ) تزرعون سبع سنين ( وهو خبر في معنى الأمر يفيد المبالغة في إيجاب إيجاد المأمور به. قال في الكشاف : والدليل على كونه في معنى الأمر قوله : ( فذروه في سنبله ( وأقول : يمكن أن يكون قوله : ( تزرعون ( إخباراً عما سيوجد منهم في زمن الغيث والمطر ، لأن الزرع يلزم بنزول الأمطار عادة ، وقوله : ( فما حصدتم ( إرشاد لهم إلى الأصلح لهم في ذلك الوقت. و ) دأباً ( بتسكين الهمزة وتحريكها مصدر دأب في العمل إذا استمر عليه. وانتصاصبه على الحال أي تزرعون ذوي دأب ، أو على المصدر والعامل فعله أي تدأبون دأباً. وإنما أمرهم بأن يتركوه في السنابل إلا القدر الذي يأكلونه في الحال لئلا يقع فيه السوس ) ثم يأتي من بعد ذلك ( فيه دليل على أن ) تزرعون ( إخبار لا أمر ) سبع ( سنين ) شداد ( على الناس ) يأكلن ما قدمتم(4/93)
" صفحة رقم 94 "
لهن ( من الإسناد المجازي لأن الآكلين أهل تلك السنين لا السنون ) إلا قليلاً مما تحصنون ( تحرزون وتخبؤن. والإحصان جعل الشيء في الحصن كالإحراز جعل الشيء في الحرز أخبر أنه يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس من الغوث ، أو من الغيث يقال : غيثت البلاد إذا مطرت ) وفيه يعصرون ( العنب والزيتون والسمسم. وقيل : يحلبون الضروع ، تأويل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب والعجاف واليابسات بالسنين. ثم بشرهم بالبركة في العام الثامن. فقال المفسرون : إنه قد عرف ذلك بالوحي. عن قتادة : زاده الله علم سنة. وقيل : عرف استدلالاً فليس بعد انتها الجدب ، إلا الخصب. والجواب أنه لا يلزم من انتهاء الجدب الخصب والخير الكثير فقد يكون توسط الحال. وأيضاً في قوله : ( وفيه يعصرون ( نوع تفصيل لا يعرف إلا بالوحي. ولما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير استحسنه وقال : ( ائتوني به ( فجعل الله سبحانه علمه مبدأ لخلاصه من المحنة الدنيوية فيعلم منه أن العلم سبب للخلاص في المحن الأخروية أيضاً. ) فلما جاءه الرسول ( وهو الشرابي فقال : أجب الملك ) قال ( يوسف ) ارجع إلى ربك فاسأله ا بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ( ما شأنهن وما حالهن ) إن ربي ( أي الله العالم بخفيات الأمرو أو العزيز الذي رباه ) بكيدهن عليم ( وعلى الأول أراد إنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله لعبد غوره ، أو استشهد بعلم الله على أنهن كذبة ، أو أراد الوعيد أي هو عليم بكيدهن فيجازيهن عليه. وكيدهن ترغيبهن إياه في مواضعة سيدته أو تقبيح صورته عند العزيز حتى يرضى بسجنه. ومن لطائف الآية أنه أراد فسأل الملك أن يسأل ما بالهن إلا أنه راعى الأدب فاقتصر على سؤال الملك عن كيفية الواقعة فإن ذلك مما يهيجه على البحث والتفتيش. ومنها أنه لم يذكر سيدته بسوء بل ذكر النسوة على التعميم ومع ذلك راعى جانبهن أيضاً فوصفهن بتقطيع الأيدي فقط لا بالترغيب في الخيانة. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني. ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر إن كان لحليماً ذا أناة ) قال العلماء : الذي عمله يوسف هو اللائق بالحزم والعقل ، لأنه لو خرج في الحال فربما بقي في قلب الملك من تلك التهمة أثر ، ولعل الحساد يتسلقون بذلك إلى تقبيح أمره عنده ،(4/94)
" صفحة رقم 95 "
وفي هذا التأني والتثبت تلاف لما صدر منه في قوله للشرابي : ( اذكرني عند ربك (. ) قال ( الملك بعد إحضار النسوة ) ما خطبكن ( ما شأنكن العظيم ) إذ راودتن يوسف ( هل وجدتن منه ميلاً إليكن أو إلى زليخا ؟ قيل : الخطاب لزليخا والجمع للتعظيم. وقيل : خاطبهن جميعاً لأن كل واحدة منهن راودت يوسف لنفسها أو لأجل امرأة العزيز. ) قلن حاش لله ( تعجباً من عفته ونزاهته ) قالت امرأت العزيز ( حين عرفت أن لا بد من الاعتراف ) الآن حصحص الحق ( وضح وانكشف وتمكن في القلوب من قولهم حصحص البعير إذا ألقى ثفناته للإناخة والاستقرار على الأرض. وقال الزجاج : اشتقاقه من الحصة أي بانت حصة الحق من حصة الباطل. أما قوله سبحانه : ( ذلك ليعلم ( إلى تمام الآيتين ففيه قولان : الأول - وعليه الأكثرون - أنه حكاية قول يوسف. قال الفراء : ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذى دلت القرينة الصارفة لكل منها إلى ما يليق به. والإشارة إلى الحداثة الحاضرة بقوله : ( ذلك ( لأجل التعظيم والمراد ما ذكر من رد السول والتثبت وإظهار البراءة. وعن ابن عباس : أنه لما دخل على الملك قال ذلك ، والأظهر أنه قال ذلك في السجن عند عود الرسول إليه. ومحل ) بالغيب ( نصب على الحال من الفاعل أي وأنا غائب عنه ، أو من المفعول أي وهو غائب عني ، أول على الظرف أي بمكان الغيب وهو الاستتار وراء الأبواب المغلقة. وقيل : هذه الخيانة قد وقعت في حق العزيز فكيف قال ذلك ليعلم الملك ؟ وأجيب بأنه إذا خان وزيره فقد خان الملك من بعض الوجوه ، أو أراد ليعلم الله لأن المعصية خيانة ، أو المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز ، أو ليعلم العزيز أني لم أخنه وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين لا ينفذه ولا يسدده ، وفي تعريض بامرأته الخاسنة وبالعزيز حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه فكأنه خان حكم لله ، وفيه تأكيد لأمانته وأنه لو كان خائناً لم يهد الله كيده. ولا يخفى أن هذه الكلمات من يوسف مع الشهادة الجازمة والاعتراف الصريح من المرأة دليل على نزاهة يوسف عليه السلام من كل سوء. قال أهل التحقيق : إنه لما راعى حرمة سيدته في قوله : ( ما بال النسوة اللاتي ( دون أن يقول ( ما بال زليخا ) أرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء واعترفت بأن الذنب كله منها ، فنظيره ما يحكى أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى يتمكن الشهود من أداء الشهادة. فقال الزوج : لا حاجة إلى ذلك فإني مقر بصدقها في دعواها. فقالت المرأة : لما أكرمني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمته من كل حق لي عليه. ولما كان قول يوسف عليه السلام ذلك ليعلم جارياً مجرى تزكية النفس على الإطلاق أو في هذه الواقعة وقد قال تعالى : ( فلا تزكوا أنفسكم ) [ النجم :(4/95)
" صفحة رقم 96 "
32 ] أتبع ذلك قوله : ( وما أبرىء نفسي إن النفس ( أي هذا الجنس ) لأمارة بالسوء ( ميالة إلى القبائح راغبة في المعاصي. وفيه أن ترك تلك الخيانة ما كان حظ النفس وشربها ولكن كان بتوفيق الله تعالى وتسهيله وصرفه ) إلا ما رحم ربي ( إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة ، أو المراد أنها أمارة بالسوء في كل وقت وأوان إلا وقت رحمة ربي ، أو الاستثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة : القول الثاني أنه حكاية قول المرأة لأن يوسف عليه السلام ما كان حاضراً في ذلك المجلس والمعنى ، وإن كنت أحلت عليه الذنب عند حضوره ولكني ما أحلته عليه في غيبته حين كان في السجن ) وأن الله لا يهدي ( فيه تعريض فأنها لما قدمت على المكر فلا جرم افتضحت ، وأنه لما كان بريئاً من الذنب لا جرم طهره الله منه ) وما أبرىء نفسي ( من الخيانة مطلقاً فإني قد خنته حين قلت ) ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ( أو حين أودعته السجن. ثم إنها اعتذرت عما كان منها فقالت : ( إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ( كنفس يوسف ) إن ربي غفور رحيم ( أو استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت. قال المحققون. النفس الإنسانية شيء واحد فإذا مالت إلى العالم العلوي كانت مطمئنة ، وإذا مالت إلى العالم السفلي وإلى الشهوة والغضب سميت أمارة وهذا في أغلب أحوالها لإلفها إلى العالم الحسي وقرارها فيه فلا جرم إذا خليت وطباعها انجذبت إلى هذه الحالة فلهذا قيل : إنها من حيث هي أمارة بالسوء. وإذا كانت منجذبة مرة إلى العالم العلوي ومرة إلى العالم السفلي سيمت لوامة. ومنهم من زعم أن النفس المطمئنة هي النطاطقة العلوية ، والنفس الأمارة منطبعة في البدن تحمله على الشهوة الغضب وسائر الأخلاق الرذيلة. وتمسكت الأشاعرة بقوله : ( إلا ما رحم ( ظاهراً لأنه دل على أن صرف النفس عن السوء بخلق الله وتكوينه. وحملته المعتزلة على منح لألطاف والله أعلم بالحقائق. التأويل : لما أدخل يوسف القلب سجن الشريعة دخل معه غلامان لملك الروح لما النفس والبدن ، فإن الروح العلوي لا يعمل عملاً في السفل الدنيوي إلا من مشرب النفس فهي صاحب شرابه. والبدن يهيء من الأعمال الصالحة ما يصلح لغذاء الروح ، فإن الروح لا يبقى إلا بغذاء روحاني كما أن الجسم لا يبقى إلا بغذاء جسماني. وإنما حبسا في سجن الشريعة لأنهما متهمان بجعل سم الهوى والمعصية في شراب ملك الروح وطعامه ، وفي رؤياهما دلالة على أنهما من الدنيا ، وأهل الدنيا نيام فإذا ماتوا انتبهوا ) إنا نراك من المحسنين ( الذي يبعدون الله عياناً وشهوداً ) إني تركت ملة قوم ( فيه إشارة إلى أن القلب مهما ترك ملة النفس والهوى والطبيعة علمه الله علم الحقيقة ) أما أحدكما فيسقي ربه ( أي سيده بأقداح المعاملات والمجاهدات شراب الكشوف والمشاهدات وهي باقية في خدمة(4/96)
" صفحة رقم 97 "
ملك الروح أبداً ) وأما الآخر ( وهو البدن ) فيصلب ( بنخيل الموت ) فيأكل ( طير أعوان ملك الموت من رأسه الخيالات الفاسدة ) قضي ( في الأزل هذا ) الأمر ( ) اذكرني عند ربك ( يعني أن القلب المسجون في بدء أمره يلهم النفس بأن تذكره المعاملات المستحسنة الشرعية عند الروح ليتوقى بها الروح وينتبه عن نوم الغفلة الناشئة من الحواس الخمس ويسعى في استخلاص القلب عن أثر الصفات البشرية بالمعاملات الروحانية مستمداً من الألطاف الربانية. ثم إن الشيطان بوساوسه محا عن النفس أثر إلهامات القلب ، أو الشيطان أنسى القلب ذكر الله حين استغاث النفس لتذكره عند الروح ، ولو استغاث بالله لخلصه في الحال ) فلبث في السجن بضع سنين ( إشارة إلى الصفات البشرية السبع التي بها القلب محبوس وهي : الحرص والبخل والشهوة والحسد والعداوة والغضب والكبر ) إني أرى سبع بقرات سمان ( هن الصفات المذكورة ) يأكلهن سبع عجاف ( هن أضدادها وهي : القناعة والسخاوة والعفة والغبطة والشفقة والحلم والتواضع ) يا أيها الملأ ( يعني الأعضاء والجوارح والحواس والقوى ) أفتوني ( فيما رأيت في غيب الملكوت ) وما نحن بتأويل الأحلام ( أي ليس التصرف في الملكوت وشواهدها من شأننا ) فأرسلون ( فيه أن النفس إذا أرادت أن تعلم شيئاً مما يجري في الملكوت ترجع بقوة التفكر إلى القلب فتستخبر عنه ، فالقلب ترجمان بين الروحانيات ولانفس فيما يفهم من لسان الغيب ) أيها الصديق ( لأنه مصدق فيما يرى من شواهد الحق ، ويصدق فيما يروي للخلق ) ما كذب الفؤاد ما رأى ) [ النجم : 11 ] ( حدثني قلبي عن ربي ) قال في الكشاف : أرجع إلى الناس أي إلى الأجزاء الإنسانية ) تزرعون سبع سنين ( إشارة إلى تربية الصفات البشرية السبع بالعادة والطبيعة في أوان الطفولية ) فذروه في سنبله ( أي ما حصلتم من هذه الصفات فذروه في أماكنة ولا تستعملوه ) إلا قليلاً ( مما تعيشون به إلى أوان البلوغ وظهور نور العقل في مصباح السر في زجاجة القلب كأنه كوكب دري. ثم إذا أيد نور العقل بأنوار تكاليف الشرع وشرف بإلهام الحق في إظهار فجور النفس وتقواها فيزكيها عن هذه الصفات ويجليها بالصفات الروحانية السبع ، فكأن السبع العجاف أكلن السبع السمان. وإنما سمى ما هو من عالم الأرواح عجافاً للطافتها ، وما هو من عالم الأجسام سماناً لكثافتها كثيراً إلا قليلاً مما يحسن به الإنسان حياة قالبه ) ثم يأتي من بعد ذلك عام ( أي بعد غلبات الصفات الروحانية واضمحلال الصفات البشرية يظهر مقام فيه يتدارك السالك جذبات العناية ، وفي يبرأ العبد من معاملاته وينجو من حبس وجوده وحجب أنانيته. ولما أخبر القلب بنور الله أرآه الروح في عالم الملكوت وتأوله استحق قرب الروح وصحبته فاستدعى حضوره على(4/97)
" صفحة رقم 98 "
لسان رسول النفس فرده إليه وقال سله ) ما بال النسوة ( لأن الأوصاف الإنسانية لما رأين جمال القلب المنور بنور الله ) فطعن أيديهن ( من ملاذ الدنيا وشهواتها وآثرن السعادة الأخروية على الشهوات الفانية ) ليعلم أني لم أخنه بالغيب ( أي القلب المنظور بنظر الانية لما غاب عن حضرة الروح لاشتغاله بتربية النفس والقالب ما خانه بالالتفات إلى الدنيا ونعيمها ) وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ( الذين يبيعون الدين بالدنيا. ثم قال إظهاراً للعجز عن نفسه وللفضل من ربه ) وما أبرىء نفسي إن النفس ( جبلت على الأمارية ، ولكن إذا رحمها ربها يقلبها ويغيرها فإذا تنفس صبح الهداية صارت لوامة نادمة على فعلها ، والندم توبة وإذا طلعت شمس العناية وصارت ملهمة ) فألهمها فجورها وتقواها ) [ الشمس : 8 ] وإذا بلغت شمس العناية وسط سماء الهداية أشرقت الأرض بنور ربها وصارت النفس مطمئنة مستعدة لجذبة ) ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) [ الفجر : 28 ] ( إن ربي غفور ( لنفس تابت ورجعت إليه ) رحيم ( لمن أحسن طاعته وعبادته والله حسبنا ونعم الوكيل .
تم الجزء الثاني عشر ويليه الجزء الثالث عشر أوله ) وقال الملك ائتوني به. .. ((4/98)
" صفحة رقم 99 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثالث عشر من أجزاء القرآن الكريم
( يوسف : ( 54 - 68 ) وقال الملك ائتوني . . . .
" وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون " ( القراآت ) حيث نشاء ( بالنون : ابن كثير. الآخرون بيان الغيبة ) أني أوف ( بفتح ياء(4/99)
" صفحة رقم 100 "
المتكلم : نافع غير إسماعيل : ( فتيانه ( ) خير حافظاً ( حمزة وعلي وخلق غير أبي بكر وحماد. الباقون ) لفتيته ( ) خير حافظاً ( ) يكتل ( بيان الغيبة : حمزة علي وخلف الباقون بالنون. ) تؤتوني ( بالياء في الحالين : أبن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو يزيد وإسماعيل في الوصل. الوقوف : ( لنفسي ( ج ) أمين ( ه ) الأرض ( ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى ) عليم ( ه ) في الأرض ( ج لاحتمال ما بعده الاستئناف أو الحال ) حيث نشاء ( ط ) المحسنين ( ه ) يتقون ( ه ) منكرون ( ه ) من أبيكم ( ج لحق الاستفهام مع اتحاد القائل ) المنزلين ( ه ) ولا تقربون ( ه ) لفاعلون ( ه ) يرجعون ( ه ) لحافظون ( ه ) من قبل ( ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار ) حافظاً ( ص ) الراحمين ( ه ) إليهم ( ط لتمام جواب ( لما ) ) ما نبغي ( ط لأن ما بعده جملة مستأنفه موضحة للاستفهامية أو المنفية قبلها ) إلينا ( ج لاحتمال الاستئناف والعطف على ونحن نمير ) كيل بعير ( ه ط ) يسير ( ه ) بكم ( ط ) قال الله ( قيل : يسكت بين الفعل والاسم لأن القائل يعقوب لا الله سبحانه ، والأحسن أن يفرق بينهما بقوة النغمة فقط لئلا يلزم الفصل بين القائل والمقول ) وكيل ( ه ) متفرقة ( ط ) من شيء ( ط ) الله ( ط ) توكلت ( ط ) المتوكلون ( ه ) أبوهم ( ط لأن جواب ( لما ) محذوف أي سلموا بإذن الله ) قضاها ( ط ) لا يعلمون ( ه. التفسير : الأظهر أن هذا الملك هو الريان لا العزيز لأن قوله ) أستخلصه لنفسي ( يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصاً له وقد كان يوسف قبل ذلك خالصاً للعزيز. وفي قول يوسف : ( اجعلني لى خزائن الأرض ( دلالة أيضاً على ما قلنا. والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك ، ومن عادة الملوك أن يتفردوا بالأشياء النفسية. روي أن جبريل دخل على يوسف في السجن وقال : قل اللَّهم اجعل لي من عندك فرجاً ومخرجاً وارزقني من حيث لا أحتسب. فقبل الله دعاءه وأظهر هذا النسبب في تخليصه فجاءه الرسول وقال : أجب الملك فخرج من السجن ودعا لأهله وكتب على باب السجن : ( هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ) ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثياباً جدداً ، فما دخل على الملك قال : اللَّهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم سلم عليه. ) فلما كلمه ( احتمل أن يكون ضمير الفاعل ليوسف وللملك. وهذا أولى لأن مجالس الملوك لا يحسن ابتداء الكلام فيها لغيرهم. يروى أن الملك قال له : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك. قال : رأيت بقرات فوسف لونهن وأحوالهن. ومكان خروجهن ، ووصف السنابل وما كان منها(4/100)
" صفحة رقم 101 "
على الهيئة التي رآها الملك بعينها ، فتعجب من وفور علمه وحدسه - وكان قد علم من حاله ما علم من نزاهة ساحته وعدم مسارعته في الخروج من السجن - وقد وصف له الشرابي من جده في الطاعة والإحسان إلى سكان السجن ما وصف فعظم اعتقاده فيه فعند ذلك ) قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ( ويندرج في المكان كمال القدرة والعلم. أما القدرة فظاهرة ، وأما العلم فلأن كونه متمكناً من أفعال الخير يتوقف على العلم بأفعال الخير وبأضدادها ، وكونه أميناً متفرع عن كونه حكيماً لأن لا يفعل لداعي الشهوة وإنما يفعله لداعي الحكمة. قال المفسرون : لما حكى يوسف رؤيا الملك وعبرها بين يديه قال له الملك : فما ترى أيها الصديق ؟ قال : أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً وتبني الخزائن والأهراء وتجمع الطعام فيها فيأتيك الخلق من النواحي ويمتارون منك ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد من قبلك ، فقال الملك : ومن لي بهذا الشغل ؟ فقال يوسف : ( اجعلني على خزائن الأرض ( اللام للعهد أي ولني خزائن أرض مصر. والخزائن جمع الخزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ ) إني حفيظ ( للأمانات وأموال الخزائن ) عليم ( بوجوه التصرف فيها على وجه الغبطة والمصلحة وقيل : حفيظ لوجوه أياديكم عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والشفقة. قال الواحدي : هذا الطلب خطيئة منه فكانت عقوبته أن أخر عنه المقصود سنة. عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته لكن لما قال ذلك أخره الله تعالى عنه سنة ) وقال آخرون : إن التصرف في أمور الخلق كان واجباً عليه لأن البي يجب عليه رعاية الأصلح لأمته بقدر الإمكان ، وقد علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضنك فأراد السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم ، وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى دفع الظلم والضر عن الناس إلا بالاستعانة من كافر أو فاسق فله أن يستظهر به ، على أن مجاهداً قد زعم أن الملك كان قد أسلم. وقيل : كان الملك يصدر عن رأيه فكان في حكم التابع لا المتبوع. ووصف نفسه عليه السلام بالحفظ والعلم على سبيل المبالغة لم يكن لأجل التمدح ولكن للتوصل إلى الغرض المذكور. ) وكذلك ( أي مثل ذلك التقريب والإنجاء من السجن ) مكنا ليوسف في الأرض ( أرض مصر وهي أربعون فرسخاً في أربعين. ) يتبؤّأ منها حيث يشاء ( هو أو نشاء نحن على القراءتين والمراد بيان استقلاله بالتقلب والتصرف فيها بحيث لا ينازعه أحد. ) نصيب برحمتنا من نشاء ( فيه أن الكل من الله وبتيسيره. وقالت المعتزلة : تلك المملكة لما لم تتم إلا بأمور فعلها الله صارت كأنها من قبل الله تعالى ، وعلقوا أيضاً المشيئة بالحكمة ورعاية الأصلح. والأشاعرة ناقشوا في هذا القيد. ) ولا نضيع أجر(4/101)
" صفحة رقم 102 "
المحسنين ( لأن إضاعة الأجر تكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حقه تعالى. ) ولأجر الآخرة خير ( من أجر الدنيا أو خير في نفسه. وفي قوله المحسنين وقوله : ( للذين آمنوا وكانوا يتقون ( إشارة من إلى أن يوسف كان في الزمان السابق من المحسنين ومن المتقين ففيه دلالة على نزاهة يوسف عن كل سوء. قال سفيان بن عيينة : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة ، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق. يروى. أن الملك توجه وختمه بخاتمه وردّاه بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت فقال له : أما السرير فأشدّ به ملكك ، وأما الخاتم فأدبر به أمرك ، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي. فقال : قد وضعته إجلالاً لك وإقراراً بفضلك. فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوّض الملك إليه أمره وعزل قطفير ، ثم مات بعد فزوّه الملك امرأته فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيراً مما طلب فوجدها عذراء فولدت له ولدين : افراثيم وميشا. وأقام العدل بمصر وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها ، ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب ، ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم جميعاً فقالوا : والله ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم منه فقال للملك : كيف رأيت صنع الله بي فيما خوّلني مما ترى ؟ قال : الرأي رأيك. قال : فإني أشهد اللهوأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم. وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطاً بين الناس. وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا فذلك قوله سبحانه : ( وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ( لم يعرفوه لأن طول العهد ينسي ولاعتقادهم أنه قد هلك أو لذهابه عن أوهامهم حين فارقوه مبيعاً بدراهم معدودة ثم رأوه ملكاً مهيباً جالساً على السرير في زي الفراعنة ، ويحتمل أن يكون بينه وبينهم مسافة وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج. وإنما عرفهم لأن أثر تغيير الهيئات عليهم كان أقل لأنه فارقهم وهم رجال ولم يغيروا زيهم عما هو عادتهم ، ولأن همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم ، ويحتمل أن يكون عرفهم بالوحي. وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرفوا له. ) ولما جهزهم بجهازهم ( هو ما يحتاج إليه في كل باب ومنه جهاز العروس والميت. قال الليث : جهزت القوم تجهيزاً إذا تكلفت لهم جهازاً للسفر. قال : وسمعت أهل البصرة يحكمون الجهاز بالكسر. وقال الأزهري : القراء كلهم على فتح الجيم والكسر لغة جيدة ) قال ائتنوني بأخ لكم من أبيكم ( قال العلماء : لا بد من كلام يجر هذا الكلام فروي أنه لما(4/102)
" صفحة رقم 103 "
رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم : ما أنتم ؟ وما شأنكم فإني أنكركم. قالوا : نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد وجئنا نمتار. فقال : لعلكم جئتم عيوناً ؟ قالوا : معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب. قال : كم أنتم ؟ قالوا : كنا اثني عشر فهلك منا واحد. فقال : فكم أنتم ههنا ؟ قالوا : عشرة قال : فأين الأخر الحادي عشر ؟ قالوا : هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك. قال : فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون ؟ قالوا : إنا ببلاد لا يعرفنا أحد. قال : فدعوا بعضكم عندي رهيناً وأتوني بأخيكم من أبيكم يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم. فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأياً في يوسف فخلفوه عنده. وقيل : كانوا عشرة فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا : إن لنا شيخاً كبيراً وأخاً آخر فبقي معه ولا بد لهما من حملين آخرين. فاستدل الملك ببقائه عند أبيه على زيادة محبته إياه وكونه فائقاً في الجمال والأدب فاستدعى منهم إحضاره. وقيل : لعله لما ذكروا أباهم قال يوسف : فلم تركتموه وحيداً فريداً ؟ فقالوا : بل بقي عنده واحد. فقال لهم : لم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده ؟ قالوا : لا بل لزيادة محبته. فقال : إن أباكم رجل عالم حكيم. ثم إنه خصه بمزيد المحبة مع أنكم فضلاء أدباء فلا بد أن يكون هو زائداً عليكم في الكمال والجمال فائتوني. به لأشاهده. والأوّل قول المفسرين ، والآخران محتملان. ولما طلب منهم إحضار الأخ جمع لهم بين الترغيب والترهيب فالأوّل قوله : ( ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ( المضيفين وكان قد أحسن ضيافتهم أو زاد لكل من الأب والأخ الغائب حملاً ، والثاني ) فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عند يولا تقربون ( مجزوم على النهي أو لأنه داخل في حكم الجزاء كأنه قيل : فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا ) قالوا سنراود عنه أباه ( سنخادعه عنه ونجتهد حتى ننتزعه من يده ) وإنا لفاعلون ( كل ما في وسعنا في هذا الباب أو لقادرون على ذلك. وقال لفتيانه ( أو ) لفتيته ( قراءتان وهما جمع فتى كالأخوان والإخوة في أخر ففعلة للقلة ووجهه أن هذا اعلم من الأسرار فوجب كتمانه عن العدد الكثير ، وفعلان للكثرة ووجهه أنه قال : ( اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ( والرحال عدد كثير ويناسبه الجم الغفير من الغلمان الكيالين ، والبضاعة ما قطع من المال للتجارة ، والرحال جمع رحل والمراد به ههنا ما يستصبحه الرجل معه من الأثاث. والأكثرون على أنه أمر بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجه لا يعرفون بدليل قوله : ( لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم ( وفرغوا ظروفهم ) لعلهم يرجعون ( لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا وكانت بضاعتهم النعل والأدم. وقيل : أمر بوصفها على(4/103)
" صفحة رقم 104 "
وجه عرفوها ، والمعنى لعلهم يعرفون حق ردّها. أما السبب الذي لأجله أمر يوسف بذلك فقيل : ليعلموا كرم يوسف فيبعثهم ذلك على المعاودة. وقيل : خاف أن لا يكون عند أبيه من البضاعة ما يدعوهم إلى الرجوع ، أو أراد به التوسعة على أبيه لأن الزمان كان زمان قحط ، أو لأن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته لؤم ، أو أراد أن يرجعوا ليعرفوا سبب الرد لأنهم أولاد الأنبياء فيحترزوا أن يكون ذلك على سبيل السهو ، أو أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم عيب ولا منة فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه. وقيل : ( يرجعون ( متعدٍ أي لعلهم يردونها. ) قالوا : يا أبانا منع منا الكيل ( أرادوا قول يوسف ) فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم ( لأن إنذار المنع بمنزلة المنع يؤيده قراءة من قرأ ) نكتل ( بالنون أي نرفع المانع ونأخذ من الطعام ما نحتاج إليه ، ويحتمل أن يراد بالمنع أنهم إذا طلبوا الطعام لأبيهم والأخ المخلفة فلعله منع من ذلك ، ويقوّي هذا الاحتمال قراءة الغيبة أي ) يكتل ( أخونا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا. ) قال هل آمنكم عليه ( ضمنوا كونهم حافظين له فقال يعقوب : إنك ذكرتم مثل هذا الكلام في يوسف فهل يكون أماني الآن إلا كأماني فيما قبل يعني كما لم يحصل الأمان وقتئذ فكذا الآن. والظاهر أن ههنا إضماراً والتقدير فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم وقال : ( فالله خير حافظاً ( و ) حافظاً ( نصب على التمييز واحتمل الثاني الحال نحو ( لله درّه فارساً ) وهو أرحم الراحمين ( أرجوا أن لا يجمع عليّ مصيبتين. وقيل : إنه تذكر يوسف فقال : فالله خير حافظاً أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي ) ولما فتحوا متاعهم ( هو عام في كل ما يستمتع به ويجوز أن يراد به ههنا الطعام أو الأويعة. أما قوله ) ما نبغي ( فالبغي الطالب و ( ما ) نافية أو استفهامية. المعنى ما نطلب شيئاً وراء ما فعل بنا من الإحسان أو ما نريد منك بضاعة أخرى أو أيّ شيء نطلب وراء هذا نستظهر بالبضاعة المردودة إلينا. ) ونمير أهلنا ( في رجوعنا إلى الملك ) ونحفظ أخانا ( فما يصيبه شيء مما يخافه ) ونزداد ( باستصحاب أخينا وسق بعير زائداً على أوساق أباعرنا فأيّ شيء نبغي وراء هذه المباغي ؟. ويجوز أن يكون البغي بمعنى الكذب والتزيد في القول على أن ( ما ) نافية أي ما نكذب فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه ، وكانوا قالوا له : إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب معطوفاً على معنى قوله : ( هذه بضاعتنا ( وإنما يكون قوله : ( هذه بضاعتنا ( بياناً لصدقهم ، وقوله : ( ونمير ( معطوفاً على ) ما نبغي ( أو يكون كلاماً مبتدأ أي ونبغي أن نمير كما تقول : سعيت في حاجة فلان ويجب أو ينبغي أن أسعى ويجوز أن يراد ما نبغي(4/104)
" صفحة رقم 105 "
ما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من إرسال إخينا معنا. ثم بينوا كونهم مصيبين في رأيهم بقولهم : ( هذه بضاعتنا ( نستظهر بها ونمي رأهلنا إلى آخره. يقال : ماره يميره إذا أتاه بميرة أي بطعام ) ذلك كيل يسير ( أي ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه ما يكال لأجل أخينا. وقال مقاتل. ذلك إشارة إلى كيل بعير أي ذلك القدر سهل على الملك لا يضايقنا فيه ولا يطول مقامنا بسببه. واختاره الزجاج. وجوز في الكشاف أن يكون هذا من كلام يعقوب يعني أن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد. ) قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً ( تعطوني ما أثق به من عند الله وهو الحلف ) لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ( استثناء من أعم العام في المفعول وقد يقع مثل هذا الاستثناء في الإثبات إذا استقام المعنى نحو ( قرأت إلا يوم كذا ) وإن شئت فأوّله بالنفي أي لا تمتنعون من الإتيان به لعلة من العلل إلا بعلة واحدة هي أن يحاط بكم أي تهلكوا جميعاً قاله مجاهد ، أو تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به قاله قتادة : ( على ما نقول ( من طلب الموثق وإعطائه ) وكيل ( مطلع رقيب. قال جمهور المفسرين : إنما نهاهم أن يخلوا من باب واحد خوفاً عليهم من إصابة العين. وههنا مقامان : الأوّل أن الإصابة بالعين حق لإطباق كثير من الأمة ولما روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول : ( أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة. ) أي جامعة لشر من لمه إذا جمعه أو المراد ملمة والتغيير للمزاوجة. وعن عبادة بن الصامت قال : دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أول النهار فرأيته شديد الوجع ، ثم عدت إليه آخر النهار فرءَته معافى. فقال : إن جبرائيل عليه السلام قال : فأفقت. وروي أنه دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيت أم سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا : يا رسول الله أصابته العين. قال : أفلا تسترقون له من العين ؟ وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر ) وقالت عائشة : كان يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين. المقام الثاني في الكشف عن حقيقته. قال الجاحظ : يمتد من العين أجزاء فتتصل بالشخص المستحسن فتوثر وتسري فيه كتأثير اللسع والسم. واعترض الجبائي وغيره بأنه لو كان كذلك لأثر ي غير المستحسن كتأثير في المستحسن. وأجيب بأن المستحسن إن كان صديقاً للعائن عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله ،(4/105)
" صفحة رقم 106 "
وإن كان عدواً حصل له خوف شديد من حصوله ، وعلى التقديرين يسخن الروح وينحصر في داخل القلب ويحصل في الروح الباصرة كيفية مسخنة مؤثرة ، فلهذا السبب أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) العائن بالوضوء من أصابته العين بالاغتسال منه. وقال أبو هاشم وأبو القاسم البخلي : لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كان المصلحة له في تكليفه أن غير الله ذلك الشخص حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقاً به. وقال الحكماء : ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة بل قد يكون التأثير نفسانياً محضاً أو وهمياً كما للماشي على الجذع ، أو تصوّرياً كما في الحركات البدنية ، وقد يكون للنفوس خواص عجيبة تتصرف غير أبدانها بحسبها فمنها المعجز ومنها السحر ومنها الإصابة بالعين. أما الجبائي وغيره ممن أنكر العين فقد قالوا : إن أولاد يعقوب اشتهروا بمصر وتحدث الناس بكمالهم وجمالهم وهيئتهم فلم يأمن يعقوب أن يخافهم الملك الأعظم على ملكه فيحبسهم. وقيل : إنه كان عالماً بأن الملك ولده إلا أن الله تعالى لم يأمره بإظهاره وكان غرضه أن يصل بنيامينإليه في غيبتهم قاله إبراهيم النخعي. واعلم أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد والقدرة ولكنه بعد السعي البلغي يجب أن يعلم أن كل ما يدخل في الوجود فهو بقضاء الله وقدره وأن الحذر لا يغني عن القدر فلهذا قال يعقوب : ( وما أغني عنكم من الله من شيء ( فقوله الأوّل مبني على رعاية الأسباب والوسائط ، وقوله الثاني إلى آخر الآية إشارة إلى الحقيقة وتفويض الأمر بالكلية إلى مسبب الأسباب. وقد صدقه الله تعالى في ذلك بقوله : ( ما كان يغني عنهم من الله من شيء ( قال ابن عباس : ما كان ذلك التفرق يردّ قضاء الله تعالى. وقال الزجاج وابن الأنباري : لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم عند الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم. وقال آخرون : ما كان يغني عنهم رأي يعقوب شيئاً قط حيث أصابهم ما ساؤهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم وأخذ الأخ وتضاعف المصيبة على الأب ) إلا حاجة ( استثناء منقطع أي ولكن حاجة ) في نفس يعقوب قضاها ( وهي إظهار الشفقة والنصيحة ، أو الخوف من إصابة العين ، أو من حسد أهل مصر ، أو من قصد الملك. ثم مدحه الله تعالى بقوله : ( وإنه لذو علم ( يعنى علمه بأن الحذر لا يدفع القدر ) لما علمناه ( ( ما ) مصدرية أو موصولة أي لتعليمنا إياه ، أو للذي علمناه. وقيل : العلم الحفظ والمراقبة. وقيل : المضاف محذوف أي لفوائد ما علمناه وحسن آثاره وإشارة إلى كونه عاملاً يعلمه ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( مثل علم يعقوب أو لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة في العلم. وقيل : المراد بأكثر الناس المشركون لا يعلمون أنالله تعالى كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة .(4/106)
" صفحة رقم 107 "
التأويل : لما تبين لملك الروح قدر يوسف القلب وأمانته وصدقه وحسن استعداده سعى في خلاصه من سجن صفات البشرية ليكون خالصاً له في كشف حقائق الأشياء ، ولم يعلم أنه خلق لصلاح جميع رعاية ممكلة روحانية وجسمانية. كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن في جسد بني آدم مضغة ، إن صلحت صلح بها سائر الجسد وإن فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب ). وللقلب اختصاص آخر بالله دون سائر المخلوقات قال سبحانه : ( لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن ) ) اجعلني على خزائن ( أرض الجسد فإن الله تعالى في كل عضو من الأعضاء خزانة من اللطف إن استعمله الإنسان فيما خلق ذلك العضو لأجله ، وخزانة من القهر إن استعمله في ضده ) إني حفيظ ( للخزائن ) عليم ( باستعمالها فيما ينفعها دون ما يضرها ) نصيب برحمتنا ( فيه أن إصابة اللطف من تلك الخزائن دون القهر موكولة إلى مشيئة الله تعالى. ) وجاء إخوة يوسف ( وهم الأوصاف البشرية ) فعرفهم ( يوسف القلب لأنه ينظر بنور الله ) وهم له منكرون ( لبقائهم في الظلمة حرمانهم عن النور. ) ولما جهزهم ( يشير إلى أن يوسف القلب لما التجأت إليه الأوصاف البشرية بدل صفاتها الذميمة النفسانية بالصفات الحميدة الروحانية ، فاستدعى منهم إحضار بنيامين السر لأن السر لا يحضر مع القلب إلا بعد التبديل المذكور ، وإذا حضر معه يوفى بأوفى الكيل ما لم يوف إلى الأوصاف البشرية ) اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ( فيه أن البضاعة كل عمل من الأعمال البدنية التي تحيا بها الأوصاف البشرية إلى حضرة يوسف مردودة إليها ، لأن القلب مستغن عنها. وإنما الأوصاف البشرية محتاجة إليه لأن النفس تتأدب وتتزكى بها كما قال تعالى ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ) [ الإسراء : 7 ] وأن تربية القلب الأعمال القلبية كالنيات الصالحة ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( نية المؤمن خير من عمله ). وكالعزائم الخالصة والأخلاق الحميدة والتوكل والإخلاص. ثم قال : كمال تربية القلب التخلية وتجلي صفات الحق وصفات ذاته ) لعلهم يرجعون ( من صفة الأمارية إلا المأمورية والاطمئنان فيستحق بجذبه ) ارجعي إلى ربك ) [ الفجر : 28 ] ( ردّت إلينا ( فوائده ما ترجع إلى يوسف القلب ) ونمير أهلنا ( الأعضاء والجوارح نحصل لهم قوّة زائدة على الطاعة بواسطة رسوخ الملكة له ) ونحفظ أخانا ( من الحوادث النفسانية والوساوس الشيطانية ) ونزداد ( بواسطة حضور السر عند القلب ) كيل بعير ( من الفوائد الربانية ) وذلك كيل يسير ( لمن يسره الله ) لتأتنني به ( مع(4/107)
" صفحة رقم 108 "
الفوائد الربانية ) إلا أن يحاط بكم ( إلا أن يغالب عليكم الأحكام الأزلية ) لا تدخلوا من باب واحد ( لا تتقربوا إلى القلب بنوع واحد من المعاملات فللأسبابمدخل في التقريب إلا أن الكل موكل إلى مسبب الأسباب. ( يوسف : ( 69 - 83 ) ولما دخلوا على . . . .
" ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم "
( القراآت )
أني أخوك ( بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع. ) نرفع درجات من نشاء ( بالإضافة وبياء الغيبة في الفعلين : سهل ويعقوب. بالنون وبالتنوين : عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون : بالنون وعلى الإضافة. ) فلما استيأسوا ( وبابه بالألف ثم الياء : أبو ربيعة عن البزي وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة الباقون : بياء ثم همزة على الأصل ) لي أبي ( بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وافق ابن كثير في أبي. الوقوف : ( يعملون ( ه ) لسارقون ( ه ) تفقدون ( ه ) زعيم ( ه ) سارقين ( ه ) كاذبين ( ه ) فهو جزاؤه ( ط ) الظالمين ( ه ) من وعاء أخيه ( ط ) ليوسف ( ط ) يشاء(4/108)
" صفحة رقم 109 "
الله ( ط لأن ما بعده مستأنف ) نشاء ( ط ) عليم ( ه ) من قبل ( ط ) مكاناً ( ج ) تصفون ( ه ) مكانه ( ج الثلاثة لانقطاع النظم مع اتصال المعنى المحسنين ( ه عنده لا لتعلق ( إذا ) بما قبلها ) لظالمون ( ه ) نجيا ( ط ) يوسف ( ط للابتداء بالنفي مع فاء التعقيب ) يحكم الله لي ( ج لاحتمال ما بعده الابتداء أو الحال ) الحاكمين ( ه ) سرق ( ج لانقطاع النظم. مع اتحاد القائل ) حافظين ( ه ) أقبلنا فيها ( ط لاختلاف الجملتين والابتداء بأنّ : ( لصادقون ( ه ) أمراً ( ط ) جميل ( ط ) جميعاً ( ط ) الحكيم ( ه. التفسير : روي لما أتوه بأخيهم بنيامين أنزلهم وأكرمهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة ، فبقي بنيامين وحده فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه. فقال يوسف : بقي أخوكم وحيداً فأجلسه معه على مائدته. ثم أمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتاً وقال : هذا لا ثاني له فارتكوه معى فآواه إليه أي أنزله في المنزل الذي كان يأوي إليه : فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح. ولما رأى تأسفه لأخ هلك قال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك ؟ قال : من يجد أخاً مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل : فبكى يوسف وقام إليه وعانقه و ) قال إني أنا أخوك ( قال وهب : أراد أني أقوم لك مقام أخيك في الإيناس وعدم التوحش. وقال ابن عباس وسائر المفسرين : أراد تعريف النسب لأن ذلك أقوى في إزالة الوحشة ولا وجه لصرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة ) فلا تبتئس ( افتعال من البؤس الشدّة والضر أراد نهيه عن اجتلاب الحزن ) بما كانوا يعلمون ( من دواعي الحسد والأعمال المنكرة التي أقدموا عليها. يروى أن بنيامين قال ليوسف : أنا لا أفارقك. فقال له يوسف : قد علمت اغتمام والدي بن فإذا حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن أنسبك إلى ما ليس يحسن. قال : أنا راض بما رضيت. قال : فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك أنك قد سرقته فذلك قوله سبحانه ) فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ( والسقاية مشربة يسقى بها ذهب أو فضة مموهة بالذهب أو مرصعاً بالجواهر أقوال ) ثم أذن مؤذن ( نادى منادٍ ومعناه راجع إلى الإيذان والأعلام إلا أن التشديد يفيد التكثير أو التصويب بالنداء ) إيتها العير ( أراد أصحاب العير كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا خيل الله اركبي ) والعير الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء. وقيل : هي قافلة الحمير كأنها جمع عير وأصلها ( فعل ) بالضم كسقف فأبدلت الضمة كسرة لأجل الياء كما في ( بيض ) ثم كثر في الاستعمال حتى قيل لكل قافلة عير وههنا سؤال وهو أنه كيف جاز لنبي الله أن يرضى بنسبة قومه إلى السرقة وهم برآء ؟ وأجاب العلماء بأنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم لأنهم لما لم يجدوا السقاية(4/109)
" صفحة رقم 110 "
غلب على ظنونهم أنه أخذوها ، أو المؤذن ذكر ما ذكر على سبيل الاستفهام ، أو المراد أنهم سرقوا يوسف عليه السلام من أبيهم ، أو المراد أن فيكم سارقاً وهو الأخ الذي رضي بذلك البهتان فلا ذنب لأن الخصم رضي بأن يقال في حقه ذلك. ثم إن إخوة يوسف ) قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ( قيل : صواع اسم للصاع والسقاية وصف ) ولمن جاء به ( أي بالصواع ) حمل بعير ( من طعام جعلاً لمن حصله ) وأنا به زعيم ( كفيل هو من قول المؤذن وفيه أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم أيضاً إذا كان معلوماً فكأن حمل بعير كان عندهم شيئاً معلوماً كوسق مثلاً إلا أن هذه كفالة مال لرد السرقة وهو كفالة ما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئاً على رد السرقة ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم ) قالوا تالله ( التاء مبدلة من الواو فضعفت عن التصرف في سائر الأسماء وجعلت فيما هو أحق بالقسم وهو اسم الله عز جل. حلفوا على أمرين معجبين : أحدهما أنهم علموا أن إخوة يوسف ما جاءوا لأجل الفساد في الأرض بالنهب والغصب ونحو ذلك حتى روي أنهم دخلوا وأفواه دوابهم مشدودة خوفاً من أن تتناول زرعاً أو طعاماً لأحد في الطرق والأسواق ، وكانوا مواظبين على أنواع الطاعات ورد المظالم حتى حكي أنهم ردوا بضاعتهم الت يوجدوها في رحالهم. وثانيهما أنهم ما وصفوا قط بالسرقة. ) قالوا ( أي أصحاب يوسف. ) فما جزاؤه ( قال في الكشاف : الضمير للصواع والمضاف محذوف أي فما جزاء سرقته إن كنتم من الكاذبين في جحودكم وادعائكم البراءة ؟ قلت : ويحتمل أن يعود إلى السارق ، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة فلذلك استفتوا في الجزاء حتى ) قالوا جزاؤه من وجد في رحله ( أي جزاؤه الرق. قال الزجاج : وقوله ( فهو جزاؤه ( زيادة في البيان أي فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كما يقال ق السارق القطع جزاؤه لتقرر ما ذكر من استحقاقه ، ويجوز أن يكون مبتدأ وباقي الكلام جملة شرطية مرفوعة المحل بالخبرية على أن الأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو ليكون الضمي رالثاني عائد إلى المبتدأ والأول إلى ( من ) ولكنه وضع المظهر مقام المضمر للتأكيد والمبالغة. وجوز في الكشاف أن يكون ) جزاؤه ( خبر مبتدأ محذوف أي المسؤول عنه جزاؤه ، ثم أفتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه. أما قوله : ( كذلك ( أي مثل ذلك الجزاء ) نجزي الظالمين ( فيحتمل أن يكون من بقية كلام أخوة يوسف وأن يكون من كلام أصحاب يوسف والله أعلم. ثم قال لهم المؤذن ومن معه : لا بد من تفتيش أوعيتكم فانصرف بهم إلى يوسف ) فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ( لنفي التهمة والوعاء كل ما إذا وضع فيه شيء أحاط به .(4/110)
" صفحة رقم 111 "
قال قتاة : كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثماً مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا أخوه قال : ما أظن هذا أخذ شيئاً. فقالوا : والله لا تتركه حتى تنظر في رحله فنظر. ) ثم استخرجها ( أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث. ) من وعاء أخيه ( فأخذوا برقبته وحكموا برقيته. ثم قال سبحانه ) كذلك ( أي مثل ذلك الكيد العظيم ) كدنا ليوسف ( يعني علمناه إياه وأوحينا به إليه. والكيد مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة ونهايته إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر به في أمر مكروه ولا سبيل إلى دفعه ، وقد سبق فيما تقدم أن أمثال هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات لا على البدايات. وما هذا الكيد ؟ قيل : هو أن إخوة يوسف سعوا في إبطال أمره والله تعالى نصره وقواه. وقيل : الكيد يستعمل في الخير أيضاً والمعنى كفعلنا بيوسف من الإحسان إليه ابتداء فعلنا به انتهاء وقيل : تفسير هذا الكيد هو قوله : ( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ( لأن حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم مثلي ما سرق فما كان يوسف قادراً على حبس أخيه بناء على دين الملك وحكمه. ومعنى ) إلا أن يشاء الله ( هو أن الله كاد له فأجرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق حتى توصل بذلك إلى أخذ أخيه ، وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى بعض الأغراض الدينية والدنيوية. ثم مدحه على الهداية إلى هذه الحيلة كما مدح إبراهيم على ما حكى عنه من دلائل التوحيد والبراءة من إلهية الكوكب ثم القمر ثم الشمس فقال : ( نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ( فوقه أرفع درجة منه في علمه. ثم إن أطلق على الله تعالى أنه ذو علم كان هذا العام مخصوصاً لأنه لا عليم فوقه ، وإن قيل : إنه عالم بلا علم كما يقوله بعض المعتزلة كان النص باقياً على عمومه ، وإن قلنا إن الكل بمعنى المجموع كان المعنى وفوق جميع العلماء عليم هم دونه في العلم وهو الله تعالى والميل إلى هذا التفسير لأن قوله : ( ذو علم ( مسعر بكون علمه زائداً على حقيقته ووصفه تعالى عين ذاته ، وفي هذا البحث طول وفي الرمز كفاية. يروى أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء وأقبلوا عليه وقالوا له : ما الذي صنعت ففضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل ، ما يزال لنا منكم بلاء متى أخذت هذا الصاع ؟ فقال : بنو راحيل هم الذين لا يزال منكم عليهم البلاء ، ذهبتم بأخي فأهلكموه ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم فعند ذلك ) قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ( عنوا به يوسف. واختلف في تلك السرقة فعن سعيد بن جبير أن جده أبا أمه كان يبعد الوثن فأمرته أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادتها. وقيل : سرق عناقاً من أبيه أو دجاجة ودفعها إلى مسكين. وقيل : كانت لإبراهيم عليه السلام منطقة يتوارثها أكابر ولده فورثها إسحاق(4/111)
" صفحة رقم 112 "
ثم وقعت إلى ابنته عمه يوسف فحضنت يوسف إلى أن شب فأراد يعقوب أن ينتزعه منها وكانت تحبه حباً شديداً فشدت المنطقة على يوسف تحت ثيابهثم زعمت أنه قد سرقها ، وكان في شرعهم استرقاق السارق فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها. وقيل إنه كذبوا عليه وبهتوه حسداً وغيظاً. ) فأسرّها يوسف ( قال الزجاج وغيره : الضمير يعود إلى الكلمة أو الجملة كأنه قيل : فأسر الجملة في نفسه ولم يبدها لهم ، ثم فسرها بقوله : ( قال أنتم شر مكاناً ( والمعنى أنه قال هذه الجملة على سبيل الخفية. وطعن الفارسي في هذا الوجه فقال : إن هذا النوع من الإضمار عائد على الإجابة أي أسر يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر. وقيل : يعود إلى المقالة أو السرقة أي لم يبين يوسف أن تلك السرقة كيف وقعت وأنه ليس فيها ما يوجب الذم والعار. وعن ابن عباس أنه قال : عوقب يوسف ثلاث مرات : عوقب بالحبس لأجل همه بها ، وبالحبس الطويل لقوله : ( اذكرني عند ربك ( وبقولهم : ( فقد سرق أخٌ له من قبل ( لقوله : ( إنكم لسارقون ( ومعنى ) شر مكاناً ( شر منزلة لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم على التحقيق وقلتم أكله الذئب ) والله أعلم بما تصفون ( المرا أنه يعلم أن يلست بسارق في التحقيق ولا أخي ، أو الله أعلم بأن الذي وصفتموه هل يوجب ذماً أم لا. قال ابن عباس : لما قال يوسف هذا القول غضب يهوذا وكان إذا غضب وصاح لم تسمع صوته حامل إلا وضعت وقام شعره على جلده فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه. فقال لبعض إخوته : اكفوني أسواق أهل مصر وأنا أكفيكم الملك فقال يوسف لابن صغير له : مسه فمسه فذهب غضبه وهم أن يصيح فركض يوسف رجله على الأرض ليريه أن شديد وجذبه فسقط فعند ذلك ) قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً ( في السن أو في القدر وهو أحب إليه منا ) فخذ أحدنا مكانه ( استعباداً أو رهناً حتى نبعث الفداء إليك فلعل العفو أو الفداء كان جائزاً أيضاً عندهم ) إنا نراك من المحسنين ( لو فعلت ذلك أو من المحسنين إلينا بأنواع الكرامة ورد البضاعة إلى رحالنا أو أرادوا الإحسان إلى أهل مصر حيث أعتقهم بعدما اشترى رقابهم بالطعام ) قال ( يوسف ) معاذ الله ( من ) أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً ( أي إذا أخذنا غيره ) لظالمون ( في مذهبكم لأن استبعاد غير من وجد الصواع في رحله ظلم عندكم ، أو أراد إن الله أمرني وأوحى إليّ بأخذ بنيامين فلو أخذت غيره كنت عاملاً بخلاف الوحي ) فلما استيأسوا منه ( حيث لم يقبل الشفاعة أي يئسوا والزيادة للبالغة. ) خلصوا ( اعتزلوا عن الناس خالصين لا يخالطهم غيرهم ) نجياً ( مصدر والمضاف محذوف أي ذوي نجوى ، أو المراد أنهم(4/112)
" صفحة رقم 113 "
التناجي في أنفسهم لاستجماعهم بذلك واندفاعهم فيه بجد واهتمام كما يقال : رجل جور ورجال عدل ، أو صفة لموصوف محذوف أي فوجاً نجياً بمعنى مناجياً بعضهم لبعض كالعشير بمعنى المعاشر. وفيم كان تناجيهم ؟ الجواب في تدبير أمرهم على أيّ وجه يذهبون وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم فعند ذلك ) قال كبيرهم ( في السن وهو روبيل ، أو في القدر وهو شمعون لأنه كان رئيسهم ، أو في العقل والرأي وهو يهوذا. وقوله : ( ما فرطتم ( إما أن تكون ( ما ) صلة أي ومن قبل هذا قصرتم ) في ( شأن ) يوسف ( ولم توفوا بعهدكم أباكم ، وإما أن تكون مصدرية محله الرفع على الابتداء وخبره بالظرف تقديره ومن قبل تفريطكم أي وقع من قبل تقصيركم في حقه ، أو النصب عطفاً على مفعول ألم تعلموا كأنه ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطكم من قبل ، وإما أن تكون موصولة بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي قدمتموه في شأن يوسف من الجناية والخيانة ومحل الموصول الرفع أو النصب على الوجهين. ) فلن أبرح الأرض ( فلن أفارق أرض مصر ) حتى يأذن لي أبي ( في الانصراف ) أو يحكم الله لي ( بالخروج منها أو بالنتصاف من أخذ أخي أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب. ثم إنه بقي ذلك الكبير في مصر وقال لغيره من الإخوة. ) ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق ( قاله بناء على ما شاهده من استخراج اصواع من وعائه ، أو أراد أنه سرق في قول الملك وأصحابه كقول قوم شعيب ) إنك لأنت الحليم الرشيد ) [ هود : 87 ] أي في زعمك واعتقادك ، أو المراد إن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة. وإطلاق اسم أحد الشبيهين على الآخر جائز أو القوم ما كانوا حينئذ أنبياء فلا يبعد منهم الذنب. وعن ابن عباس أنه قرأ ) سرق ( مشدداً مبنياً للمفعول أي نسب إلى السرقة. وعلى هذا فلا إشكال ، ومما يدل على أنهم بنوا الأمر على الظاهر قوله ) وما شهنا إلا بما علمنا ( أي إلا بقدر ما تيقناه من رؤية الصواع في وعائه ) وما كنا للغيب ( للأمر الخفي ) حافظين ( فإن الغيب لا يعلمه إلا الله. وعن عكرمة أن الغيب الليل معناه لعل الصواع دس في رحله بالليل من حيث لا يشعر ، أو ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق قاله مجاهد والحسن وقتادة ، أو ما علمنا أنا إذا قلنا إن شرع بني إسرائيل هو استرقاق السارق أخذ أخونا بتلك الحيلة : ثم بالغوا في إزالة التهمة فقالوا : واسأل القرية التي كنا فيها ( الأكثرون على أنها مصر. وقيل : قرية على باب مصر وقع فيها التفتيش أي أرسل إلى أهلها فاسألهم عن كنه القصة ) و ( اسأل أصحاب ) العير التي أقبلنا فيها ( وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوب. وقيل : قوماً من أهل صنعاء. وقال ابن الأنباري : إن يعقوب كان من أكابر الأنبياء فلا يبعد أن يحمل سؤال القرية على الحقيقة بأن ينطق الله الجمادات لأجله معجزة ، فالمراد اسأل(4/113)
" صفحة رقم 114 "
القرية والعير والجدران والحيطان فإنها تجبيك بصحة ما ذكرنا. وقيل : إن الشيء إذا ظهر ظهوراً تاماً فقد يقال سل عنه السماء والأرض وجميع الأشياء ويراد إنه ليس للشك فيه مجال. ثم زادوا في تأكيد نفي التهمة قائلين ) وإنا لصادقون ( وليس غرضهم إثبات صدقهم فإن ذلك يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ولكن الإنسان إذا ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده أنا صادق فتأمل فيما ذكرته ليزول عنك الشك. وههنا إضمار التقدير فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم فعند ذلك : ( قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل ( وقد مر تفسيره في أول السورة. ولكن المفسرين زادوا شيئاً آخر فقيل : المراد أنه خيل إليكم أنه سرق وما سرق. وقيل : أراد سوّلت لكم أنفسكم إخراج بنيامين والمصير به إلى مصر طلباً للمنفعة فعاد من ذلك شر وضرر وألححتم عليّ في إرساله معكم ولم تعلموا أن قضاء الله ربما جاء على خلاف تقديركم. وقيل : أراد فتواهم وتعليمهم وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته. واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز على يعقوب السعي في إخفاء حكم الله تعالى ؟ وأجيب بأن ذلك الحكم لعله كان مخصوصاً بما إذا كان المسروق له مسلماً وكان الملك في ظن يعقوب كافراً ، ولما طال بلاؤه ومحنته علم بحسن الظن والرجاء أنه سبحانه سيجعل له فرجاً ومخرجاً عما قريب ، أو لعله علم بالوحي أن يوسف حي وكان بنيامين والكبير الذي قال : ( فلن أبرح الأرض ( قد بقيا في بصر فلذلك قال : ( عسى الله أن يأتيني بهم ( أي بالثلاثة الغائبين ) جميعاً إنه هو العليم ( بحالي ) الحكيم ( في كل ما يفعله من الابتلاء والإبلاء. التأويل : لما دخل الأوصاف البشرية ومعهم السر ) على يوسف ( القلب ) آوى ( القلب السر ) إليه ( لأنه أخوه الحقيقي بالمناسبة الروحانية ) فلا تبتئس ( إذا وصلت بي ) بما كانوا يعملون ( معك في مفارقتي لأن السر مهما كان مفارقاً من قل بمقارناً للأوصاف كان محروماً عن كمالات هو مستعد لها ) فلما جهزهم ( جهز القلب الأوصاف بما يلائم أحوالها ) جعل السقاية ( وه يمشربة كان منها شربه ) في رحل أخيه ( لأنهما رضيعا لبان واحد ) إنكم لسارقون ( سرقتم في الأول يوسف القلب وشريتموه بثمن بخس من متاع الدنيا وشهواتها ، وسرقتم في الآخر مشربة ليست من مشاربكم ، وفيه أن من ادعى الشرب من مشارب الرجال وهو طفل بعد أخذ بالسرقة واستردت منه ) ولمن جاء به حمل بعير ( من علف الدواب ومراتع الحيوانات لأنه ليس مستحقاً للشرب من مشارب الملوك ) لقد علمتم ( أن المقبولين المقبلين على يوسف القلب لا نريد الإفساد في أرض الدنيا كما قالت الملائكة ) أتجعل فيها من يفسد فيها ) [ البقرة : 30 ] ( وما كنا سارقين ( إذ(4/114)
" صفحة رقم 115 "
أخذنا يوسف القلب وألقيناه في غيابة الجب البشرية بل سعينا في أن ينال مملكة مصر العبودية ليكون عزيزاً فيها ونحن أذلاء له ) جزاؤه من وجد في رحله ( أي لكل شارب مشرب ولكل شرب فيدة. ففدية الشارب من مشرب الدنيا صنعته وحرفته وكسبه ، وفدية الشارب من مشرب الآخرة الدنيا وشهواتها ، وفدية الشارب من شرب المحبة بذل الوجود ) كذلك نجزي الظالمين ( الذين وضعوا صواع الملك في غير موضعه طمعاً في أن يكونوا حريف الملك وشريبه ) كذلك كدنا ليوسف ( أي كما كاد الأوصاف البشرية في الأبتداء بيوسف القلب إذ ألقوه في جب البشرية كدنا بهم عند قمسة الأقوات من خزانة الملك فجعلنا قسمتهم من مراتع الحيوانات يأكلون كما تأكل الأنعام ، وقسمة بنيامين السر من مشربة الملك. ) وفوق كل ذي علم ( آتيناه علم الصعود ) عليم ( بجذبه من المصعد الذي يصعد إليه بالعلم المخلوق إلى مصعد لا يصعد إليه إلا بالعلم القديم وهو السير في الله بالله إلى الله ، وهذا صواع لا تسعه أوعية الإنسانية ) إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ( فيه إشارة إلى السر والقلب مع أنهما مخصوصان بالحظوظ الأخروية والروحانية فإنهم قابلان للاسترقاق من الشهوات الدنياوية والنفسانية ولما رأت الأوصاف البشرية عزة القلب وعرفت اختصاص البشرية أرادت أن تفدي نفسها وسيلة إلى يعقوب الروح فقالت : ( فخذ أحدنا مكانه ( ) قال معاذ الله ( أن نقبل بالصحبة والمخالطة ) إلا من وجدنا متاعنا ( من الصدق والمحبة والإخلاص عنده أي لا تكون صحبتنا بالكراهية والنفاق وإنما تكون بعلة الجنسية ) فلما استيأسوا ( من صحبة القلب ) خلصوا ( عن الأوصاف الذميمة للتناجي ) قال كبيرهم ( هو العقل ألم تعلموا أن أباكم وهو الروح ) قد أخذ عليكم موثقاً من الله ( يوم الميثاق أن لا تعبدوا إلا الله ) فلن أبرح ( أرض فناء القلب وهي الصدر. والحاصل أن صفة العقل لما تخلصت عن الأوصاف البشرية خرجت عن أوامر النفس وتصرفاتها وصارت محكومة لأوامر الروح مستسلمة لأحكام الحق. ) ارجعوا إلى أبيكم ( الروح على أقدام العبودية وتبديل الأخلاق ) إن ابنك سرق ( لأنه وجد في رحله مشربه المحبة التي بها يكال الحب على وفده. ) وما كنا للغيب ( عند ارتحالنامن الغيب إلى الشهادة ) حافظين ( لأنه جعل السقاية في رحله في غيبتنا. ) واسأل ( أهل مصر الملكوت وأرواح الأنبياء والأولياء ) قال بل سولت ( فيه أن للنفس تزيينات وللأوصاف البشرية خيالات يتأذى بها يعقوب الروح لكن عليه أن يصبر على إمضاء أحكام الله وتنفيذ قضائه ) عسى الله أن يأتيني ( فيه أن متولدات الروح من القلب والأوصاف وغيرها وإن تفرقوا وتباعدوا عن الروح في الجسد للاستكمال فإن الله بجذبات العناية يجمعهم في مقعد صدق عنده مليك مقتدر ) إنه هو العليم ( بافتراقهم ) الحكيم ( بما في التفريق والجمع من الفوائد .(4/115)
" صفحة رقم 116 "
( يوسف : ( 84 - 102 ) وتولى عنهم وقال . . . .
" وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون "
( القراآت )
مزجاة ( بالإمالة : حمزة وعلي وخلف ) حزني ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو. ) قالوا إنك ( على الخبر أو على حذف حرف الاستفهام : ابن كثير ويزيد. ) أئنك ( بهمزتين : عاصم وحمزة علي وخلف وهشام يدخل بينهما مدة. ) إينك ( بهمز ثم ياء : نافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد ) آينك ( بهمزة ممدودة ثم ياء : أبو عمرو وزيد وقالون. ) من يتقي ( بالياء في الحالين : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل. الباقون بغير ياء ) إني أعلم ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو(4/116)
" صفحة رقم 117 "
عمرو ) ربي إنه ( بالفتح أيضاً : أبو جعفر وأبو عمرو ) أبي إذ ( بالفتح أيضاً عندهم ) إخوتي ( ) ربي ( بفتح الياء أيضاً : يزيد والنجاري عن ورش وقالون غير الحلواني والله أعلم. الوقوف : ( كظيم ( ه ) الهالكين ( ه ) لا تعلمون ( ه ) ولا تيأسوا من روح الله ( ط ) الكافرون ( ه ) وتصدق علينا ( ط ) المتصدقين ( ه ) جاهلون ( ه ) لأنت يوسف ( ط ) أخي ( ز لتعجيل الشكر مع اختلاف الجملتين. ) علينا ( ط ) لاحتمال أنه ابتداء إخبار من الله ، وإن كان من قول يوسف جاز الوقوف أيضاً لاتحاد القائل مع الابتداء بأن ) المحسنين ( ه ) الخاطئين ( ه ) اليوم ( ط لاختلاف الجملتين نفياً وإثباتاً أو خبراً ودعاء ) لكم ( ط لاحتمال الاستئناف والحال أوضح ) الراحمين ( ه ) يأتي بصيراً ( ج لطول الكلام واعتراض الجواب مع اتفاق الجملتين ) أجمعين ( ه ) تفندون ( ه ) القديم ( ه ) بصيراً ( ج لاحتمال أن يكون ما بعده جواب ( لما ) وقوله ( ألقاه ( حالاً بإضمار ( قد ) ) ما لا تعلمون ( ه ) خاطئين ( ه ) ربي ( ط ) الرحيم ( ه ) آمنين ( ه ) سجداً ( ج ) من قبل ( ز لتمام الجملة لفظاً دون المعنى. ) حقاً ( ط لتمام بيان الجملة الأولى وابتداء جملة عظمى ) إخوتي ( ط ) لما يشاء ( ط ) الحكيم ( ه ) الأحاديث ( ج لحق حذف حرف النداء مع اتصال الكلام ) والآخرة ( ج لانقطاع النظم مع اتصال الثناء بالدعاء ) الصالحين ( ه. التفسير : لما سمع يعقوب ما سمع من حال ابنه ضاق قلبه جداً ) وتولى عنهم ( أي أعرض عن بنيه الذين جاءوا بالخبر وفارقهم ) وقال يا أسفي على يوسف ( الأسف أشد الحزن. والألف فيه مبدل من ياء الإضافة ونداء الأسف كنداء الويل وقد مر في المائدة. والتجانس بين لفظي الأسف ويوسف لا يخفى حسنه وهو من الفصاحة اللفظية. وكيف تأسف على يوسف دون أخيه الآخر الذي أقام بمصر والرزء الأحدث أشد ؟ الجواب لأن الحزن الجديد يذكر العتيق والأسى يجلب الأسى ، ولأن رزء يوسف كان أصل لتلك الرزايا فكان الأسف عليه أسفاً على الكل ولأنه كان عالماً بحياة الآخرين دون حياة يوسف ) وابيضت عيناه من الحزن ( أي من البكاء الذي كان سببه الحزن. قال الحكماء : إذا كثر الاستعبار أوجب كدورة في سواد العين مائلة فيكون منها العمى لإيلام الطبقات ولا سيما القنية والنصاب الفضول الردية إليها. قال مقاتل : لم يبصر ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف. وقال آخرون : لم يبلغ حد العمى وكان يدرك إدراكاً ضعيفاً ، أو المراد بالبياض غلبة البكاء كأن العين ابيضت من بياض ذلك الماء. روي أنه لم تجف عين(4/117)
" صفحة رقم 118 "
يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سأل جبريل ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف ؟ وجد سبعين ثكلى. قال : فما كان له من الأجر ؟ قال : أجبر مائة شعيد وما ساء ظنه بالله ساعة قط. ونقل أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف حين ما كان في السجن فقال : إن بصر أبيك ذهب من الحزن عليك. فوضع يوسف يده على رأسه وقال : ليت أمي لم تلدني فلم أكن حزناً على أبي ، قال أكثر أهل اللغة : الحزن والحزن لغتان بمعنى. وقال بعضهم : الحزن بالضم فالسكون البكاء ، والحزن بفتحتين ضد الفرح ، وقد روى يونس عن أبي عمروا قال : إذا كان في موضع النصب فتحوا كقوله ) تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ) [ التوبة : 92 ] وإذا كان في موضع الجر أو الرفع ضموا كقوله من الحزن. وقوله : ( إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله ( قال : هو في موضع رفع بالابتداء قيل : كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ ؟ وأجيب بأن المنهي من الجزع هو الصياح والنياحة وضرب الخد وشق الثوب لا البكاء ونفثة المصدور ، فلقد بكى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ولده إبراهيم وقال : القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون. ومما يدل على أن يعقوب عليه السلام أمسك لسانه عن النياحة وعما لا ينبغي قوله : ( فهو كظيم ( ( فعيل ) بمعنى ( مفعول ) أي مملوء من الغيظ على أولاده من غير شدة على ملئه ، أو بمعنى الفاعل أي الممسك لحزنه غير مظهر إياه. والحاصل أنه غرق ثلاثة أعضاء شريفة منه في بحر المحنة : فاللسان كان مشغولاً بذكر ) يا أسفا ( والعين كانت مستغرقة في البكاء ، والقلب كان مملوءاً من الحزن. ومثل هذا إذا لم يكن بالاختيار لم يدخل تحت التكليف فلا يوجب العقاب. يروى أن ملك الموت دخل على يعقوب فقال له : جئتني لتقبضني قبل أن أرى حبيبي ؟ قال : لا ولكن جئت لا حزن لحزنك وأشجو لشجوك. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لم تعط أمة من الأمم ) إنا لله وإنا إليه راجعون ( عند المصيبة إلا أمة محمد ، ألا ترى إلى يعقوب حين أصبه ما أصابه لم يسترجع وإنما قال يا أسفا ) وضعف هذه الرواية فخر الدين الرازي في تفسيره وقال : من المحا لأن لا تعرف أمة من الأمم أن الكل من الله وأن الرجوع لا محالة إليه. وأقول : هذا نوع من المكابرة فإن منكري المبدأ والمعاد أكثر من حصباء الوادي ، على أن المراد من الإعطاء الإرشاد إلى هذا الذكر وخصوصاً عند المصيبة وقد أخبر الصادق عليه السلام أن هذا مما خصت هذه الأمة به والله أعلم ، ) قالوا ( الأظهر أنهم ليسوا أولاه الذين تولى عنهم وإنما هم جماعة كانوا في الدار من خدمه وأولاده أولاده. ) تالله تفتؤ ( أراد ( لا تفتؤ ) فحذف حرف النفي(4/118)
" صفحة رقم 119 "
لعدم الإلباس إذ لو كان إثباتاً لم يكن بد من اللام والنون. قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة أي لا تزال تذكر. وعن مجاهد : لا تفتر من حبه كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين. قال أبو زيد : ما فتئت أذكره أي ما زلت لا يتكلم به إلا مع الجحد ) حتى تكون حرضاً ( وصف بالمصدر للمبالغة. والحرض فساد في الجسم والعقل للحزن والحب حتى لا يكون كالأحياء ولا كالأموات ، أرادوا أنك تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تشفى على الهلاك أو تهلك فأجابهم بقوله : ( إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله ( قالت العلماء : إذا أسر الإنسان حزنه كان هماً ، وإذا لم يقدر على إسراره فذكر لغيره كان بثاً. فالبث أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس. فمعنى الآية إني لا أذكر الحزن الشديد ولا القليل إلا مع الله ملتجئاً إليه وداعياً له فخلوني وشكايتي. وهذا مقام العارفين الصديقين كقول نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعوذ بك منك ). ويحتمل أن يكون هذا معنى توليه عنهم أي تولى عنهم إلى الله الشكاية إليه. يحكى أنه دخل على يعقوب رجل وقال له : ضعف جسمك ونحف بدنك وما بلغت سناً عالياً. فقال : الذي بي لكثرة غمومي. فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي ؟ فقال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي فغفر له. فكان بعد ذلك إذا سأل قال : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ( وروي أنه أوحي إلى يعقوب إنما وجدت - أي غضبت - عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء ثم المساكين فاصنع طعاماً وادع عليه المساكين. وقيل : اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت. واعلم أن حال يعقوب في تلك الواقعة كانت مختلفة ؛ فتارة كان مستغرقاً في بحار معرفة الله ، وتارة كان يستولى عليه الحزن والأسف فلهذا كانت هذه الحادثة بالنسبة إليه كإلقاء إبراهيم في النار ، وكابتلاء إسحق بالذبح ، وكان شغل همه بيوسف بغير اختيار منه ، وكذا تأسفه عليه ، وما روي أنه عوتب على ذلك فلأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وبالحقيقة كانت واقعة يعقوب أمراً خارق العادة أراد الله تعالى بذلك ابتلاءه وتمادي أسفه وحزنه وإلا فمع غاية شهرته وشدة محبته وقرب المسافة بينه وبين ابنه كيف خفي حال يوسف ولم لم يبعث يوسف إليه رسولاً بعد تملكه وقدرته ، ولم زاد في حزن أبيه بحبس أخيه عنده ؟ أما قوله : ( وأعلم من الله ما لا تعلمون ( فمعناه أعلم من حرمته وإحسانه ما لا تعلمون ، فأرجوا أن يأتيني الفرج من حيث لا أحتسب. وقيل : إنه رأى ملك الموت في المنام فقال له : يا ملك المو هل قبضت روح ابني يوسف ؟ قال : لا يا نبي الله. ثم أشار إلى جانب مصر وقال : اطلبه ههنا. وقيل : إنه كان(4/119)
" صفحة رقم 120 "
قد رأى أمارات الرشد والكمال في يوسف علم أن رؤياه صادقة لا تخطىء. وقال السدي : أخبره بنوه بسيرة الملك وكماله حاله في أقواله وأفعاله أنه ابنه ، أو علم أن بنيامين لا يسرق وسمع أن الملك ما آذاه فغلب على ظنه أن الملك هو يوسف. وقيل : أوحى الله تعالى إليه أنه سيلقى ابن ولكنه ما عين الوقت فلذلك قال ما قال. ثم دعا بنيه على سبيل التطلف فقال : ( يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف ( وهو طلب الشيء بالحاسة كالتسمع والتبصر ومثله التجسس بالجيم. وقد قرىء بهما وربما يخص الجيم بطلب الخبر في ضد الخير ) ولا تيأسوا من روح الله ( من فرجه وتنفسيه وقرىء بالضم أي من رحمته التي تحيا بها العباد. قال الأصمعي : الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه ، والتركيب يدل على الحركة والهزة فكل ما تهتز بوجوده وتلتذ به فهو روح ) إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ( لأن هذا اليأس دليل على أنه اعتقد أن الله تعالى غير قادر على كل المقدورات ، أو غير عالم بجميع المعلومات ، أو ليس بجواد مطلق ولا حكيم لا يفعل العبث ، وكل واحدة من هذه العقائد كفر فضلاً عن جميعها اللَّهم إني لا أيأس من روحك فافعل بي ما أنت أهله. ثم ههنا إضمار والتقدير فقبلوا وصية أبيهم وعادوا إلى مصر ) فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز ( أي الملك القادر المنيع ) مسنا وأهلنا الضر ( الفقر والحاجة إلى الطعام وعنوا بأهلهم من خلفهم ) وجئنا ببضاعة مزجاة ( مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها من أزجيته إذا دفعته قال سبحانه ) ألم تر أن الله يزجي سحاباً ) [ النور : 43 ] ومنه قوله : ( فلان يزجي العيش ) أي يدفع الزمان بالقليل. قال الكلبي. هي من لغة العجم. وقيل : لغة القبط. والأصح أنها عربية لوضوح اشتقاقها. قيل : كانت بضاعتهم الصوف والسمن. وقيل : الصنوبر والحبة الخضراء. وقيل : سويق المقل والأقط. وقيل : دراهم زيوفاً لا تؤخذ إلا بنقص لأنها لم يكن عليها صورة يوسف وكانت دراهم مصر ينقش عليها صورته. ) فأوف لنا الكيل ( الذي هو حقنا. ) وتصدق علينا ( واعلم أنهم طلبوا المسامحة بما بين الثمنين وأن يسعر لهم بالرديء كما يسعر بالجيد. واختلف العلماء في أنه هل كان ذلك منهم طلب الصدقة ؟ فقال سفيان بن عيينة : إن الصدقة كانت حلالاً على الأنبياء سوى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . وقال آخرون : أرادوا بالصدقة التفضيل بالإغماض عن رداءة البضاعة وبإيفاء الكيل والصدقات محظورة على الأنباء كلهم. وقوله : ( إن الله يجزي المتصدقين ( يمكن تنزيله على القولين لأن كل إحسان يبتغى به وجه الله فإن ذلك لا يضيع عنده والصدقة العطية التي ترجى بها المثوبة عند الله ومن ثم لم يجوز العلماء أن يقال : الله تعالى متصدق أو اللَّهم تصدق علي بل يجب أن يقال : اللَّهم أعطني أو تفضل علي أو ارحمني .(4/120)
" صفحة رقم 121 "
كان يعقوب أمرهم بالتحسس من يوسف وأخيه والمتحسس يجب عليه أن يتول إلى مطلوبه بجميع الطرق كما قيل : الغريق يتعلق بكل شيء. فبدأوا بالعجز والاعتراف بضيق اليد وإظهار الفاقة فرقق الله تعالى قلبه وارفضت عيناه فعند ذلك قال : ( هل علمتم ما فعلتم بيوسف ( وقيل : أدوا إليه كتاب يعقوب : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح اله ابن إبراهيم خليل الله إلأى عزيز مصر أما بعد ، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء. أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى وجعلت النار عليه برداً وسلاماً ، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله ، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهب عيناي من بكائي عليه ، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا إنه سرق وإنك حبسته لذلك ، وإما أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك. وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب : ( اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا ). وقوله : ( هل علمتم ( استفهام يفيد تعظيم الواقعة ومعناه ما أعظم الأمر الذي ارتكبتم من يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه كما يقال للمذنب : هل تدري من عصيت. وفيه تصديق لقوله سبحانه : ( لتنبئهم بأمرهم هذا ) [ يوسف : 15 ] وأما فعلهم بأخيه فتعريضهم إياه للغم بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه وإيذاؤهم له بالاحتقار والامتهان. وقوله : ( إذ أنتم جاهلون ( جارٍ مجرى الاعتذار عنهم كأنه قال : إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في أوان الصبا وزمان الجهالة : والغرة إزالة للخجالة عنهم فإن مطية الجهل الشباب وتنصحاً لهم في الدين أي هل علمتم قبحه فتبتم لأن العلم بالقبح يدعو إلى التوبة غالباً فآثر كما هو عادة الأنبياء حق الله على نفسه في المقام الذي يتشفى المغيظ وينفث المصدور ويدرك ثأره الموتور. وقيل : إنما نفى العلم عنهم لأنهم لم يعملوا بعلمهم. ولما كلمهم بذلك ) قالوا أئنك لأنت يوسف ( عرفوه بالخطاب الذي لا يصدر إلا عن حنيف مسلم عن سنخ إبراهيم ، أو تبسم عليه السالم فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم ، أو رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء كان ليعقوب واسارة مثلها ) قال أنا يوسف ( صرح بالاسم تعظيماً لما جرى عليه من ظلم إخوته كأنه قال : أنا الذي ظلمتموني على أشنع الوجوه والله أوصلني إلى أعظم المناصب ، أنا ذلك الأخ الذي قصدتم قتله ثم صرت كما ترون ولهذا قال : ( وهذا أخي ( مع أنهم كانوا يعرفونه لأن مقصوده أن يقول وهذا أيضاً كان مظلوماً كما كنت صار منعماً عليه من الله وذلك قوله : ( قد منَّ الله علينا ( أي بكل خير دنيوي(4/121)
" صفحة رقم 122 "
وأخروي أو بالجمع بعد التفرقة ) إنه ( أي الشأن ) من يتق ( عقاب الله ) ويصبر ( عن معاصيه وعلى طاعته ) فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ( أراد أجرهم فاكتفى من الربط بالعموم. ومن قرأ ) يتقي ( بإثبات الياء فوجهه أن يجعل ( من ) بمعنى ( الذي ) ، ويجوز على هذا الوجه أن يكون قوله : ( ويصبر ( في موضع الرفع إلا أنه حذفت الحركة للتخفيف أو المشاكلة. وفي الآية دليل على براءة ساحة يوسف ونزاهة جانبه من كل سوء وإلا لم يكن من المتقين الصابرين. ) قالوا تالله لقد آثرك الله علينا ( اعتراف منهم بتفضيله عليهم بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين وصورة الأحسنين. ولا يلزم من ذلك أن لا يكون أنبياء وإن احتج به بعضهم لأن الأنبياء متفاوتون في الدرجات ) تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) [ البقرة : 253 ] ( وإن كنا ( وإن شأننا أنا كنا خاطئين. قال أبو عبيدة : خطىء وأخطأ بمعنى واحد. وقال الأموي : المخطىء من أرد الصواب فصار إلى غيره ومنه قوله : ( المجتهد يخطىء ويصيب ). والخاطىء من تعمد ما لا ينبغي. قال أبو علي الجبائي : إنهم لم يعتذروا عن ذلك الذي فعلوا بيوسف لأنه وقع منهم قبل البلوغ ومثل ذلك لا يعد ذنباً ، وإنما اعتذروا من حيث إنهم أخطئوا بعد ذلك حين لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنه حي وأن الذئب لم يأكله. واعترض عليه فخر الدين الرازي بأنه يبعد من مثل يعقوب أن يبعث جمعاً من الصبيان من غير أن يبعث معهم رجلاً بالغاً وعاقلاً ، فالظاهر أنه وقع ذلك منهم بعد البلوغ. سلمنا لكن ليس كل ما لا يجب الاعتذار عنه لا يحسن الاعتذار عنه ، ولما اعترفوا بفضله عليهم وبكونهم متعمدين للإثم ) قال ( يوسف ) لا تثريب عليكم ( لا تأنيب ولا توبيخ. وقيل : لا أذكر لكم ذنبكم. وقيل : لا مجازاة لكم عندي على ما فعلتهم. وقيل : لا تخليط ولا إفساد عليكم واشتقاقه من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كالتجليد ولتقريد لإزالة الجلد والقراد وذلك لأنه إذا ذهب منه الثرب كان في غاية الهزال والعجف فصار مثلاً للتقريع المدنف المضني. وقوله : ( اليوم ( إما أن يتعلق بالتثريب أو بالاستقرار المقدر على عليكم أي لا أثربكم اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره. ثم ابتدأ فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم ليكون عقاب الدارين مزالاً عنهم. وأصل الدعاء أن يقع على لفظ المستقبل فإذا أوقعوه لفظ الماضي فذلك للتفاؤل ، ويحتمل أن يكون ) اليوم ( متعلقاً بالدعاء فيكون فيه بشارة بعاجل غفران الله لتجدد توبتهم وحدوثها في ذلك اليوم. يروى أن إخوته لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشياً ونحن نستحيي منك لما فرط منا فيك. فقال يوسف : إن أهل مصر وإن ملكت فيهم(4/122)
" صفحة رقم 123 "
فإنهم ينظرون إليّ شزراً ويقولون : سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني في حفدة إبراهيم. عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أخذ يوم الفتح بعضادتي باب الكعبة فقال لقريش : ما ترونني فاعلاً بكم ؟ قالوا : نظن خيراً أخ كريم وابن أخر كريم وقد قدرت. فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : أقول ما قال أخي يوسف ) لا تثريب عليكم اليوم (. قال عطاء الخراساني : طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ ، ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته ) لا تثريب عليكم اليوم ( وقول يعقوب : ( سوف أستغفر لكم ( ولما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيهم فقالوا ذهبت عيناه فقال : ( اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً ( كقولك جاء البنيان محكماً ومثله ) فارتد بصيراً ( أو المراد يأت إلى وهو بصير دليله قوله : ( وأتوني بأهلكم أجمعين ( قيل : هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف. وكان من الجنة أوحى الله إليه أن فيه عافية كل مبتلي وشفاء كل سقيم. وقالت الحكماء : لعله علم أن أباه ما كان أعمى وإنما صار ضعيف البصر من كثرة البكاء فإذا ألقى عليه قميصه صار منشرح الصدر فتقوى روحه ويزول ضعفه. روي أن يهوذا حمل القميص وقال : أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخاً بالدم فأفرحه كما أحزنته ، فحمله وهو حافٍ حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً. عن الكلبي : كان أهله نحواً من سبعين إنساناً. وقال مسروق : دخل قوم يوسف مصر وهم ثلاثة وتسعون من بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم نحو من ستمائة ألف. ) ولما فصلت العير ( خرجت من عريش مصر فصل من البلد فصولاً انفصل منه وجاوز حياطنه ، وفصل مني إليه كتاب إذا نفذ وإذا كان فصل متعدياً كان مصدره الفصل ) قال أبوهم ( لمن حوله من قومه ) إن لأجد ( بحاسة الشم ) ريح يوسف ( قال مجاهد : هبت ريح فصفقت القميص ففاحت راحة الجنة في الدنيا فعلم يعقوب أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كامن من ذلك القميص. قال أهل التحقيق : إن الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عند انفضاء مدة المحنة ومجيء أوان الروح والفرح من مسيرة ثمان ، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب البلدين في مدة ثمانين سنة أو أربعين عند الأكثرين وكلاهما معجزة ليعقوب خارقة للعادة ، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب وكل صعب فإنه في زمان الإقبال سهل. وقوله : ( لولا أن تفندون ( جوابه محذوف أي لولا تفنيدكم إياي لصدّقتموني. والتفنيد النسبة إلى الفند وهو الخرف وتغير العقل من هرم يقال : شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة لأنها لم تكن ذات رأي فتفند في الكبر. ) قالوا ((4/123)
" صفحة رقم 124 "
يعني الحاضرين عنده ) تالله إنك لفي ضلالك القديم ( أي فيما كنت فيه قدماً من البعد عن الصواب في إفراط محبة يوسف كما قال بنوه ) إن أبانا لفي ضلال مبين ) [ يوسف : 8 ]. وقيل : لفي شقائك القديم بما تكابد على يوسف من الأحزان. قال الحسن : إنما قالوا هذه الكلمة الغليظة لاعتقادهم أن يوسف قد مات. ) فلما أن جاء ( ( أن صلة ) أي فملا جاء مثل ) فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) [ هود : 74 ] وقيل : هي مع الفعل في محل الرفع بفعل مضمر أي فلما ظهر أن جاء البشير وهو يهوذا ) ألقاه ( طرحه البشير أو يعقوب على وجهه ) فارتد بصيراً ( أي انقلب من العمى إلى البصر أو من الضعف إلى القوة ) قال ألم أقل لكم ( جوز في الكشاف أن يكون مفعوله محذوفاً وهو قوله : ( إني لأجد ريح يوسف ( أو قوله : ( ولا تيأسوا من روح الله ( ويكون قوله : ( إني أعلم ( كلاماً مستأنفاً. والظاهر أن مفعوله قوله : ( إني أعلم من الله ما لا تعلمون ( وذلك أنه كان قال لهم : ( إنما أشكوا بثي وحزني إلى الهل وأعلم من الله ما لا تعلمون ( وروي أنه سأل البشير كيف يوسف ؟ فقال : هو ملك مصر. قال : ما أصنع بالملك على أي دين تركته ؟ قال : على دين الإسلام. قال : الآن تمت النعمة. ثم إن أولاده أخذوا يعتذرون إليه فوعدهم الاستغفار. قال ابن عباس والأكثرون : أرد أن يستغفر لهم في وقت السحر لأنه أرجى الأوقات إجابة. وعن ابن عباس في رواية أخرى أخر إلى ليلة الجمعة تحرياً لوقت الإجابة. وقيل : أخر لتعرف حالهم في الإخلاص. وقيل : استغفر لهم في الحال ووعدهم دوام الاستغفار في الاستقبال. فقد روي أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. روي أنه قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرغ رفع يديه وقال : اللَّهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم فأوحي إليه أن الله قد غفر لك ولهم أجمعين. وروي أنهم قالوا له - وقد علتهم الكآبة - وما يغني عنا عفوكما إن لم يعف عنا ربنا فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرت لنا عين أبداً. فاستقبل الشيخ القبلة قائماً يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى جهدوا وظنوا أنهم هلكوا نزل جبريل فقال : إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة. واختلاف الناس في نبوتهم مشهور ، يحكى أنه وجه يوسف إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه ، وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم فتلقوا يعقوب وهو يمشي ويتوكأ على يهوذا ، فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا أهذا فرعون مصر ؟ قال : لا هذا ولدك : فلما لقيه قال يعقوب : السلام عليك يا مذهب الأحزان. فأجابه يوسف وقال : يا أبت بكيت حتى ذهب بصرك ألم تعلم(4/124)
" صفحة رقم 125 "
أن القيامة تجمعنا ؟ قال : بلى ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بين وبينك. ومعنى ) آوى إليه أبويه ( ضمهما إليه واعتنقهما. قال ابن إسحق : كانت أمة باقية إلى ذلك الوقت أو ماتت إلى أن الله تعالى أحياها ونشرها من قربها تحقيقاً لرؤية يوسف. وقيل : المراد بأوبويه أبوه وخالته لأن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين حتى قيل إن بنيامين بالعبرية ابن الوجع ، ولما توفيت أمه تزوج أبوه بخالته فسماها الله تعالى أحد الأبوين لأن الخالة تدعى أماً لقيامها مقام الأم ، أو لأن الخالة أم كما أن العم أب فيكف وقد اجتمع ههنا الأمران. قال السدي : كان دخولهم على يوسف قبل دخولهم على مصر كأنه حين استقبلهم نزل لأجلهم في خيمة أو بيت هناك فدخلوا عليه وضم إليه أبويه ) وقال ادخلوا مصر ( فعلى هذا جاز أن يكون الاستثناء عائداً إلى الدخول. وعن ابن عباس : ادخلوا مصر أي أقيموا بها. وقوله : ( إن شاء الله آمنين ( تعلق بالدخول المكيف بالأمن فكأنه قيل : اسلموا وأمنوا في دخولكم وإقامتكم إن شاء الله وجواب الشرط بالحقيقة محذوف والتقدير ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين ، أراد الأمن على أنفسهم وأموالهم وأهليهم بحيث لا يخافون أحداً وكانوا فيما سلف يخافون ملك مصر ، أو أراد الأمن من القحط والشدة أو من تعييره إياهم بالجرم السالف. ) ورفع أبويه على العرش ( السرير الرفيع الذي كان يجلس عليه ) وخروا له سجداً ( لسائل أن يقول : السجود لا يجوز لغير الله فكيف سجدوا ليوسف ؟ وأيضاً تعظيم الأبوين تالي تعظيم الله سبحانه فمن أين جاز سجدة أبويه له ؟ والجواب عن ابن عباس في رواية عطاء أن المراد خرّوا لأجل وجدانه سجداً لله فكانت سجدة الشكر لله سبحانه ، وكذا التأويل في قوله : ( والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) [ يوسف : 4 ] أي أنها سجدت لله تعالى لأجل طلب مصلحتي وإعلاء منصبي. وأحسن من هذا أن يقال : إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكراً على لقائه ، أو يراد بالسجدة التواضع التام على ما كانت عاتدهم في ذلك الزمان من التحية ، ولعلها ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجبهة. واعترض على هذا الوجه بأن الفظ الخرور يأباه. بأن الخرور قد يعني به المرور قال تعالى. ) لم يخروا عليها صماً وعمياناً ) [ الفرقان : 73 ] أي لم يمروا. وقيل : الضمير عائد إلى إخوته فقط. ورد بأن قوله : ( هذا تأويل رؤياي ( من قبل ينبوا عنه. وأجيب بأن التعبير لا يلزم أن يكون مطابقاً للرؤيا من كل الوجوه فيحتمل أن تكون السجدة في حق الإخوة التواضع التام ، وفي حق أبويه مجرد ذهابهما من كنعان إلى مصر ، ففيه تعظيم تام للولد. وقيل : إنما سجد الأبوان لئلا تحمل الأنفة إخوته على عدم السجود فيصير سبباً(4/125)
" صفحة رقم 126 "
لثوران الفتن وإحياء الأحقاد والضغائن ، أو لعله تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا الله تعالى ، ورضي بذلك يوسف موافقة لأمر الله ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن يوسف لما رأى سجودهم له اقشعر جلده ولكن لم يقل شيئاً وكأن الأمر بتلك السجدة كان تمام التشديد والبلية والله أعلم. ) وقد أحسن بي ( يقال : أحسن به وإليه بمعنى. ) إذ أخرجني من السجن ( لم يذكر إخراجه من البئر لأنه نوع تثريب للأإخوة وقد قال : ( لا تثريب عليكم ( ولأنه لم يكن نعمة لأنه حينئذ صار عبدا وصار. مبتلى بالمرأة ولأن هذا الإخراج أقرب وأشمل ) وجاء بكم من البدو ( أي من البادية سمى المكان باسم المصدر لظهور الشخص فيه من بعيد ، وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش يتنقلون في المياه والصحارى. قال ابن الأنباري. بدا موضع معروف هنالك. روي عن ابن عباس أن يعقوب كان قد تحول إليه وسكن فيه ومنه قدم إلى يوسف ، على هذا كان يعقوب وولده أهل الحضر والبدو قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا والمعنى جاء بكم من قصد بدا ذكره الواحدي في البسيط. قال الجبائي والكعبي والقاضي : إنه تعالى أخبر عن يوسف أنه أضاف الإحسان إلى الله ونسب النزغ إلى الشيطان وهو الإفساد والإغراء ، ففيه دليل على أن الخير من الله دون الشر. وأجيب بأنه إنما راعى الأدب وإلا فليس فعل الشيطان إلا الوسوسة ، وأما صرف الداعية إلى الشر فلا يقدر عليه إلا الله فإن العاقل لا يريد ضرر نفسه. ) إن ربي لطيف لما يشاء ( فإذا أراد حصول أمر هيأ أسبابه وإن كان في غاسة البعد عن الأوهام. ) إنه هو العليم ( بالوجه الذي تسهل به الصعاب ) الحكيم ( في أفعاله حتى تجيء على الوجه الأصوب والنحو الأصلح. يحكى أن يوسف أخذ بيد يعقوب وطاف به في خزائنه فأدخله خزائن الورق والذهب وخزائن الحلي والثياب والسلاح وغير ذلك ، فلما أدخله خزائن القراطيس قال : يا بني ما أعقط عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل قال : أمرني جبريل. قال : أو ما تسأله ؟ قال : أنت أبسط إليه مني فسأله قال جبريل : الله أمرني بذلك لقولك : ( وأخاف أن يأكله الذئب ) [ يوسف : 13 ] قال : فهلا خفتني. ثم إن يعقوب أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثم عاد إلى مصر وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة. فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له قال : ( رب آتيتني من الملك ( شيئاً من ملك الدنيا أو من ملك مصر لأنه كان دون ملك فوقه ) وعلمتني من تأويل الأحاديث ( بعضاً من ذلك لأنه لا يمكن أن يحصل للإنسان في العمر المتناهي والاستعداد المعين المحصور سوى المتناهي من السعادات الدنيوية والكمالات الأخروية ) فاطر السموات والأرض ( منادى ثان أو صفة النداء الأول أي مبدعهما على النحو الأفضل من مادة سابقة(4/126)
" صفحة رقم 127 "
كالدخان أو من عدم محض ) أنت وليي في الدنيا والآخرة ( لا يتولى إصلاح مهماتي في الدارين غيرك. ولما قدم النداء والثناء كما هو شرط الأدب الحسن ذكر المسألة فقال ) توفني مسلماً ( أراد الوفاة على حال الإسلام والختم بالحسنى كقول يعقوب لولده : ( ولا تموتن إلى وأنتم مسلمون ) [ آل عمران : 102 ] ( وألحقني بالصالحين ( من آبائي أو على العموم. قيل : الصلاح أول درجات المؤمنين الصالحين فاواصل إلى الغاية وهي النبوة كيف يليق به أن يطلب البداية ؟ والجواب إن أراد الإلحاق بأهل الصلاح فإن اجتماع النفوس المشرقة بالأنوار الإلهية له أثر عظيم وفوائد جمة كالمرآة المستنيرة المتقابلة التي يتعاكس أضواؤها ويتكامل أنوارها إلى حيث لا تطيقها الضعيفة ، هذا مع أن الختم على الصلاح نهاية مراتب الصديقين. وههنا بحث للأشاعرة وهو أن التوفي على الإسلام والإلحاق بأهل الصلاة لو لم يكن من فعل الله تعالى كان طلبه من الله جارياً مجرى قول القائل : افعل يا من لا يفعل. وهل هذا إلا كتشنيع المعتزلة علينا إذ كان الفعل من الله فكيف يجوز أن يقول للمكلف افعل مع أنه ليس بفاعل ؟ أجاب الجبائي والكعبي بأن المراد ألطف بي بالإقامة على الإسلام إلى أن أموت فألحق بالصلحاء. ورد بأنه عدول عن الظاهر مع أن كل ما في مقدور الله ن الألطاف فقد فعله في حق الكل. سؤال آخر : الأنبياء يعلمون أنهم يموتون على الإسلام ألبتة. فما الفائدة في الطلب ؟ الجواب : العلم الإجمالي لا يغني عن العلم التفصيلي ولا سيما في مقام الخشية والرهبة. وقال في التفسير الكبير : المطلوب ههنا حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر وهي الاستسلام لحكم الله والرضا بقضائه. وعن قتادة وكثير من المفسرينأنه تمنى الموت واللحوق بدار البقاء في زمرة الصلحاء ولم يتمن الموت نبي قبله ولا بعده. قال أهل التحقيق : لا يبعد من الرجل العاقل إذا كما عقله أن تعظم رغبته في الموت لوجوه منها : أن مراتب الموجودات ثلاث : المؤثر الذي لا يتأثر وهو الإله تعالى وتقدس ، والمتأثر الذي لا يؤثر وهو عالم الأجساد فإنها قابلة للتشكيل والتصوير والصفات المختلفة والأعراض المتضادة ، ويتوسطهما قسم ثالث هو عالم الأرواح لأنها تقبل الأثر والتصرف من العالم الإلهي ، ثم إذا أقبلت على عالم الأجساد تصرفت فيه وأثرت. وللنفوس في التأثير والتأثر مراتب غير متناهية لأن تأثيرها بحسب تأثرها مما فوقها والكمال الإلهي غير متناه فإذن لا تنفك النفس من نقصان ما ، والناقص إذا حصل له شعور(4/127)
" صفحة رقم 128 "
بنقصانه وقد ذاق لذة الكمال بقي في القلق وألم الطلب ولا سبيل له إلى دفع هذا القلق والألم إلا الموت فحينئذ يتمنى الموت. ونها أن سعادات الدنيا ولذاتها سرعية الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها ، ثم إنها مخلوطة بالمنغصات والأراذل من الخل قيشاركون الأفاضل فيها بل ربما كانت حصة الأراذل أكثر فلا جرم يتمنى العاقل موته ليتخلص من هذه الآفات. ومنها أن اللذات الجسمانية لا حقيقة لها لأن حاصلها يرجع إلى دفع الآلام. وقد قررنا هذا المعنى فيما سلف. ومنها أن مداخل اللاذت الدنيوة ثلاثة : لذة الأكل ولذة الوقاع ولذة الرياسة ولكل منها عيوب ؛ فلذة الأكل مع أنها غير باقية بعد البلع فإن المأكول يتخلط بالبصاق المجتمع في الف ولا شك أنه شيء منفر ، ثم لم يصل إلى المعدة يستحيل إلى ما ذكره منفر فكيف به ومن هنا قالت العقلاء : من كانت همته ما يدخل في جوفه كانت قمته ما يخرج من بطنه ، هذا مع اشتراك الحيوانات الخسيسة فيها. وأيضاً اشتداد الجوع حاجة والحاجة نقص وآفة وكذا الكلام في لذة النكاح وعيوبها مع أن فيها احتياجاً إلى زيادة المال ، والنفقة للزوج والولد وما يلزمهما ، والاحتياج إلى المال يلقي المرء في مهالك الاكتساب ومهاوي الانتجاع ، ولذى الرياسة أدنى عيوبها أن كل واحد يكره بالطبع أن يكون خادماً مأموراً ويحب أن يكون مخدوماً ، فسعي الإنسان في الرياسة سعي في مخالفة كل من سواه. ولا ريب أن هذا أمر صعب الحصول منيع المرام وإذا ناله كان على شرف الزوال في كل حين وأوان لأن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر فيكون دائماً في الحزن والخوف. فإذا تأمل العاقل في هذه المعاني علم قطعاً أنه لا صلاح في اللذات العاجلة ولكن النفس جبلت على طلبها والرغبة فيها فيكون دائماً في بحر الآفات وغمرات الحسات فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة. وقد سبق منا في تمني الموت كلام آخر في سورة البقرة في تفسير قوله : ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) [ الجمعة : 6 ] فليتذكر. قال أهل السير : لما توفي يوسف تخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال ، فرأوا من الرأي أن عملوا له صندوقاً من مرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل بمكان يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا فيه شرعاً. وولد له أفراثيم وميشا وولد لإفراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى ، ثم بقي يوسف هناك إلى أن بعث الله موسى فأخرج عظامه من مصر ودفنها عند قبر أبيه والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. التأويل : إن يعقوب الروح لا يتأسف على فوات شيء من المخلوقات إلا على يوسف القلب لأنه مرآة جمال الحق لا يشاهد الحق إلا فيها فلذلك أبيضت عيناه في(4/128)
" صفحة رقم 129 "
انتظارها فلامه على ذلك الأوصاف البشرية بقولهم ) تفتؤ تذكر يوسف ( وأين أهل السلوة من أهل العشق ، أين الخلي من الشجي ، ولا بد للمحب من ملامة الخلق فأول ملامتي آدم عليه السلام حين قالت الملائكة لأجله ) أتجعل فيها من يفسد فيها ) [ البقرة : 30 ] بل أول ملامتي هو الله تعالى حين قالوا له : ( أتجعل فيها ) [ الأعراف : 62 ] من جماله وكماله ) اذهبوا فتحسسوا ( فيه أن الواجب على كل مسلم أن يطلب يوسف قلبه وبنيامين سره ، وإن ترك لطف الله واليأس عن وجدانه كفر. فلما رأت الأوصاف البشرية آثار العزة من رب العزة على صفحات أحوال يوسف القلب حين وصلوا بتيسير أحكام الشريعة وتدبير آداب الطريقة إلى سردافات حضرة القلب ) قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا ( وهم القوى الإنسانية ) ضر ( البعد عن الحضرة الربانية ) وجئنا ببضاعة مزجاة ( من الأعمال البدينة ) فأوف لنا الكيل ( بإفاضة سجال العوارف وإسباغ ظلال العواطف ) إذ أنتم جاهلون ( إذ كنتم على صفة الظلومية والجهولية ) لقد آثرك الله علينا ( بالطلب والصدق والشوق والمحبة والوصول والوصال ) وإن كنا لخاطئين ( في الإقبال على استيفاء الحظوظ الحيوانية التي تضر القلب والسر والروح ) لا تثريب عليكم اليوم ( لأنه صدر منها ما صدر بحكمة من الله تعالى وتربية القلب وإن كان مضراً له ظاهراً كما أن صنيع إخوة يوسف في البداية صار سببياً لرفعة منزلته في النهاية ) اذهبوا بقميصي ( وهو نور جمال الله ) ولما وفصلت ( عير واردات القلب وهبت نفحات ألطاف الحق ) إنك لفي ضلالك القديم (. يا عاذل العاشقين دع فئة
أضلها الله كيف ترشدها
) فارتد بصيراً ( لأن الروح كان بصيراً في بدو الفطرة ثم عمي لتعلقه بالدنيا وتصرفه فيها ثم صار بصيراً بوارد من القلب : ورد البشير بما أقر الأعينا
وشفى النفوس فنلن غايات المنى
والقلب في بدو الأمر كان محتاجاً إلى الروح في الاستكمال ، فلما كل وصلح لقبول فيضان الحق بين إصبعين ونال مملكة الخلافة بمصر القربة في النهاية صار الروح محتاجاً إليه لاستنارته بأنوار الحق ، وذلك أن القلب بمثابة المصباح في قبول نار النور الإلهي والروح كالزيت فيحتاج المصباح في البداية إلى الزيت في قبول النار ، ولكن الزيت يحتاج إلى المصباح في البداية وتزكيته في النهاية لتقبل بواسطة النار ) ادخلوا مصر إن شاء الله ( لأنه لا يصل إلى الحضرة الأحدية إلا بجذبة المشيئة آمنين من الانقطاع والانفصال(4/129)
" صفحة رقم 130 "
) وخروا له سجداً ( لما رأوه وعرفوه أنه عرش الحق تعالى ، فالسجدة كانت في الحقيقة لرب العرش لا للعرش ) هذا تأويل رؤياي من قبل ( إن كنت نائماً في نوم العدم ) إذ أخرجني من السجن ( سجن الوجود ولم يقل من الجب لأنه لا يخرج من جب البشرية ما دام في الدنيا ) من البدو ( بدو الطبيعة ) آتيتني من الملك ( ملك الوصال والوصول ) فاطر سموات ( عالم الأرواح وأرض البشرية ) توفني مسلماً ( أخرجني من قيد الوجود المجازي وأبقني ببقائك مع الباقين بك بفضلك وكرمك. ( يوسف : ( 103 - 111 ) وما أكثر الناس . . . .
" وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون " ( القراآت ) سبيلي ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع ) نوحي ( بالنون وكسر الحاء : حفص. الآخرون بالياء وفتح الحاء ) يعقلون ( على الغيبة : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وابن كثير والأعشى والبرجمي. والباقون بتاء الخطاب. ) كذبوا ( مخففاً : عاصم وحمزة وعلي وخلف ويزيد. الباقون بالتشديد. ) فنجي ( بضم النون وكسر الجيم المشددة وفتح الياء : ابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب. فعلى هذا يكون فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول. وعن الكسائي مثل هذا ولكن بسكون الياء. وخطأه علي بن عيسى بناء على أنه فعل مستقب من الإناء والنون لا يدغم في الجيم ، أو من التنجية والنون المتحركة لا تدغم في الساكن. وأقول : إن كان فعلاً ماضياً من التنجية والنون المتحركة لا تدغم كما في القراءة الأولى ولكن سكن الياء للتخفيف لم يلزم منه خطأ. الآخرون : قرأوا بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء فعلاً مضارعاً من الإنجاء على حكاية الحال الماضية. الوقوف : ( إليك ( ج لابتداء النفي مع واو العطف ) يمكرون ( ه ) بمؤمنين ( ه(4/130)
" صفحة رقم 131 "
) أجر ( ط ) للعالمين ( ه ) معرضون ( ه ) مشركون ( ه ) لا يشعرون ( ه ) ومن اتبعن ( ط ) المشركين ( ه ) القرى ( ط ) من قبلهم ( ط ) اتقوا ( ط ) تعقلون ( ه ) نصرنا ( ط رمن قرأ ) فننجي ( بالتخفيف ولا وقف على ) من نشاء ومن قرأ ) فنجي ( مشددة وصله بما قبله ووقف على ) من نشاء ( ) المجرمين ( ه ) الألباب ( ط ) يؤمنون ( ه. التفسير ) ذلك ( الذي ذكر من نبأ يوسف هو من أخبار الغيب وقد مر تفسير مثل هذا في آخر قصة زكريا في سورة آل عمران. ومعنى إجماع الأمر العزم عليه كما مر في سورة يونس في قصة نوح. وأراد عزمهم على إلقاء يوسف في البئر وهو المكر بعينه وذلك مع سائر الغوائل من المجيء على قميصه بدم كذب ومن شراهم إياه بثمن بخس. قال أهل النظم : إن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التعنت ، فاعتقد رسول الله أنه إذا ذكرها فربما أمنوا فلما ذكرها لهم أًروا على كفرهم فنزل : ( وما أكثر الناس ( أي أكثر خلق الله المكلفين أو أكثر أهل مكة قاله ابن عباس. ) ولو حرصت ( جوابه مثل ما تقدم أي ولو حرصت فما هم ) بمؤمنين ( والحرص طلب الشيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد ونظير الآية قوله : ( إنك لا تهدي من أحببت ) [ القصص : 56 ] ( وما تسألهم عليه ( على ما تحدثهم به ) من أجر ( كما سأل القاص ) إن هو إلا ذكر ( عظة من الله ) للعالمين ( عامة على لسان رسوله. ) وكأين من آية ( الأكثرون على أنه لفظ مركت بمن كاف التشبيه وأيّ التي هي في غاية الإبهام إذا قطعت عن الإضافة لكنه انمحى عن الجزأين معناهما الإفرادي وصار المجموع كاسم مفرد بمعنى ( كم ) الخيرية. والتمييز عن الكاف لا عن أي كما في مثلك رجلاً ، والأكثر إدخال ( من ) في تمييزه وقد مر في سورة البقرة في تفسير قوله سبحانه : ( إن في خلق السموات والأرض ( ) الآية : 164 ] وفي مواضع أخر تفصيل بعض الآيات السماوية والأرضية الدالة على توحيد الصانع وصفات جلاله. ومن جلمة الآيات قصص الأوّلين وأحوال الأقدمين. ومعنى ) يمرون عليها ( أشياء يشاهدونها ) وهم عنها معرضون ( لا يعتبرون بها. وقرىء ) والأرض ( بالرفع على الابتداء خبره ) يمرون ( والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر. والحاصل أن جملة العالم العلوي والعالم السفلي محتويه على الدلائل والبينات على وجود الصانع ونعوت كماله ولكن الغافل يتعامى عن ذلك. ) وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ( وذلك أنهم كانوا مقرين بإلاله ) ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ) [ لقمان : 25 ] لكنهم كانوا يثبتون له شريكاً في المعبودية هو الأصنام ويقولون : هم الشفعاء. وكان أهل مكة يقولون : الملائكة بنات الله .(4/131)
" صفحة رقم 132 "
وعن الحسن : هم أهل الكتاب يقولون عزير ابن الله والمسيح ابن الله. وعن ابن عباس : هم الذين يشبهون الله بخلقه. احتجت الكرامية بالآية على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار. والجواب أن مجرد الإقرار لو كان كافياً لما اجتمع مع الشرك غاشية عقوبة تغشاهم وتغمرهم. ) قل ( يا محمد لهم ) هذه ( السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان ) سبيلي ( وسيرتي وقوله ( أدعو إلى الله ( تفسير ل ) سبيلي ( و ) على بصيرة ( يتعلق بأدعوا و ) أنا ( تأكيد للمستتر في أدعو رومن اتبعن ( عطف عليه ويجوز أن يكون ) على بصيرة ( حالاً من أدعو عاملة في ) أنا ومن اتبعن ( ، ويجوز أن يكون ) إنا ( مبتدأ معطوفاً عليه و ) من اتبعن ( و ) على بصيرة ( خبراً مقدماً فيكون ابتداء إخبار بأنه ومن اتبعه على حجة وبرهان لا على هوى وتشهٍ ) و ( قل ) سبحان الله ( تنزيهاً له عما أشركوا ) وما أنا من المشركين ( لا شركاً جلياً ولا شركاً خفياً. قال : ( وما أرسلنا من قبلك ( وفي ( الأنبياء ) ) قبلك ) [ الأنبياء : 7 ] بغير ( من ) لأن قبلاً اسم للزمان السابق على ما أضيف إليه و ( من ) تفيد استيعاب الطرفين ، وفي هذه السورة أريد الاستيعاب. قوله : ( إلا رجالاً ( ردّ على من زعم أن الرسول ينبغي أن يكون ملكاً أو يمكن أن يكون امرأة مثل سجاح المتنبئة. وقوله : ( من أهل القرى ( خصهم بالاستنباء لما في أهل البادية في الغلظ والجفاء ) فبما رحمة من الله لنت لهم ( ) آل عمران : 159 ] قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل ) ) أفلم يسيروا في الأرض فينظروا ( إلى مصارع الأمم المكذبة إنما قال : ( أفلم يسيروا ( بالفاء بخلاف ما في ( الروم ) والملائكة لاتصاله بقوله : ( وما أرسلنا من قبلك ( فكان الفاء أنسب من الواو ) ولدار الآخرة ( موصوفه محذوف أي ولدار الساعة والحال الآخرة لأن للناس حالين : حال الدنيا وحال الآخرة. وبيان الخيرية قد مر في ( الأنعام ). وإنما خصت ههنا بالحذف لتقدم ذكر الساعة. قال في الكشاف : حتى غاية المحذوف دل عليه الكلام والتقدير فتراخى نصر أولئك الرجال حتى إذا استيأسوا عن النصر أو عن إيمان القوم ) وظنوا أنهم قد كذبوا ( فيه وجوه لقراءتي التخفيف والتشديد ولإمكان عود الضمير في الفعلين إلى الرسل أو إلى المرسل إليهم الدال عليهم ذكر الرسل أو السابق ذكرهم ) أفلم يسيروا ( وأما وجوه التخفيف فمنها : وظن الرسل أنهم قد كذبوا أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون ، أو كذب رجاؤهم لقولهم رجاء صادق وكاذب. والمراد أن مدة التكذيب(4/132)
" صفحة رقم 133 "
والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله قد تطاولت وتمادت حتى توهموا أن لا نصر لهم في الدنيا. قال ابن عباس : ظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر. قال : وكانوا بشراً ألا تراً إلى قوله : ( وزلزلوا ( والعلماء حملوا قول ابن عباس على ما يخطر بالبال شبه الوسواس وحديث النفس من عالم البشرية. وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الىخر فلا ، لأن الرسل أعرف الناس بالله وبأن ميعاده مبرأ عن وصمة الأخلاف. ومنها وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا من النصر والظفر. ومنها وظن المرسل إيلهم أنهم قد كذبوا من جهة الرسل أي كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليه ولم يصدقوهم فيه. وأما قراءة التشديد فإن كان الظن بمعنى اليقين فمعناه أيقن الرسل أن الأمم كذبوهم تكذيباً لا يصدر عنهم الإيمان بعد فحينئذ دعوا عليهم فهناك نزل عذاب الاستئصال ، أو كذبوهم فيما وعدوهم من العذاب والنصرة عليهم. وإن كان بمعنى الحسبان فالمعنى توهم الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم وهذا تأويل عائشة قالت : ما وعد الله محمداً شيئاً إلا وعلم أنه سيوفيه ، ولكن البلاء لم يزل بالأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم. ) لقد كان في قصصهم ( قصص الرسل إضافة للمصدر إلى الفاعل ، ويحسن أن يقال : الضمير لإخوة يوسف وله لاختصاص هذه السورة بهم. والعبرة نوع من الاعتبار وهي العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول ، ووجه الاعتبار على العموم أن يعلم أنه لا خير إلا في العمل الصالح والتزوّد بزاد التقوى فإن الملوك الذي عمروا البلاد وقهروا العباد لثم لم يراعوا حق الله في شيء من ذلك ماتوا وانقرضوا وبقي الوزر والوبال عليهم. وعلى الخصوص أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب وإعلاء شأنه بعد حبسه في السجن واجتماعه بأهله بعد طول البعاد قادر على إظهار محمد وإعلاء كلمته. والكل مشترك في الدلالة على صدق محمد لأن هذا النوع من القصص الذ أعجز حملة الأحاديث ورواة الأخبار ممن لم يطالع الكتب ولم يخالط العلماء دليل ظاهر وبرهان باهر على أنه بطريق الوحي والتنزيل ، وإنما يكون دليلاً واعتبار ) لأولي الألباب ( واصحاب العقول الذين يتأملون ويتفكرون لا الذين يمرون ويعرضون على أن الدليل في نفسه للعقلاء وإن لم ينظر فيه مستدل قط كما أن الرئيس الحقيقي من له أهلية الرياسة وإن كان في نهاية الخمول ) ما كان ( مدلول القصص وهو المقصوص أو القرآن ) حديثاً يفترى ( لظهور إعجازه ) ولكن ( كان ) تصديق الذي بين يديه ( من الكتب السماوية ) وتفصيل كل شيء ( يحتاج إليه في الدين لأنه القانون الذي يستند إليه السنة والإجماع والقياس. وقيل :(4/133)
" صفحة رقم 134 "
تفصيل كل شيء من واقعة يوسف مع أبيه وإخوته قال الواحدي : وعلى التفسيرين فهو ليس على عمومه لأن المراد به الأصول والقوانين وما يؤل إليها ) وهدى ( في الدنيا ) ورحمه ( في الآخرة ) لقوم يؤمنون ( لأنهم هم المنتفعون بذلك. التأويل : ( من أنباء الغيب ( لأن هذا الترتيب في السلوك لا يعلمه إلا الوالجون ملكوت السماء الغوّاصون في بحر بطن القرآن ) وما كنت لديهم ( بالصورة ولكن كنت حاضراً بالمعنى ) وما أكثر الناس ( وهم صفات الناسوتية ) وما تسألهم عليه من أجر ( لأن اللاهوتية غير محتاجة إلى الناسوتية وإن دعتها إلى الاستكمال لأنها كاملة في ذاتها مكملة لغيرها ) وكأين من آية ( في سماوات القلوب وأرض النفوس تمر الأوصاف الإنسانية عليها ) وهم عنها معرضون ( لإقبالها على الدنيا وشهواتها ) وما يؤمن ( أكثر الصفات الإنسانية بطلب الله وتبدل صفاته ) إلا وهم مشركون ( في طلب الدنيا وشهواتها ، أو طلب الآخرة ونعمها ، أو وما يؤمن أكثر الخلق بالله وطلبه إلا وهم مشركون برؤية الإيمان والطب أنها منهم لا من الله ، فكل من يرى السبب فهو مشرك ، وكل من يرى المسبب فهو موحد كل شيء هالك في نظر الموحد إلى وجهه ، أو وما يؤمن أكثر الناس بالله وبقدرته وإيجاده إلا وهم مشركون في طلب الحاجة من غير الله ) غاشية ( جذبة تقهر إرادتهم. وتسلب اختيارهم كما قيل : العشق عذاب الله ) أو تأتيهم الساعة ( ساعة الانجذاب إلى الله ) هذه سبيلي ( لأن طريق السير والسلوك مختص به وبأمته ) إلا رجالاً من أهل قرى ( الملكوت دون مدن الملك والأجساد ، والرجال من القرى ويسبه أن يعبر عن عالم الأرواح بالقرى لبساطتها. والقرى أقل الأجزاء من المدن ) أفلم يسيروا في ( أرض البشرية على قدمي الشريعة والطريقة ليصلوا إلى فضاء علام الحقيقة ) وظنوا أنهم قد كذبوا ( ففي إبطاء النصر ابتلاء للرسل ؛ الله حسبي ونعم الوكيل .(4/134)
" صفحة رقم 135 "
سورة الرعد
سورة الرعد مكية وقيل مدنية سوى آية نزلت بجحفة قوله ) وهم يكفرون (
حروفها 3506 كلمها 855 آياتها 43 بسم الله الرحمن الرحيم
( الرعد : ( 1 - 11 ) المر تلك آيات . . . .
" المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال "
( القراآت )
وزرع ونخيل صنوان وغير ( بالرفع فيهن : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص والمفضل. الآخرون بالجر فيهن عطفاً على ) أعناب (. ) يسقي ( بالياء المثناة من تحت على تقدير يسقى كله أو للتغليب : ابن عامر وعاصم ويزيد ورويس. الباقون بتاء(4/135)
" صفحة رقم 136 "
التأنيث لقوله : ( جنات ( ) ويفضل ( على الغيبة : حمزة وعلي وخلف. الباقون بالنون على ونحن نفضل ) أئذا ( بهمزتين ) إنا ( بهمزة واحدة على أيذا بقلب الثانية ياء والباقي كما مر : نافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد ) آئذا إنا ( بالمد والباقي مثله : زيد وقالون إذا بهمزة واحدة أئنا بهمزتين : ابن عامر. هشام يدخل بينهما مدة إذا بهمزة واحدة ) آينا ( بهمزة ممدودة ثم ياء : يزيد ) أيذا أينا ( بهمزة ثم ياء فيهما : ابن كثير مثله ولكن بالمد أو عمرو ) أئذا آئنا ( بهمزتين فيهما : عاصم وحمزة وخلف ) هادي ( ) وافى ( ) وإلى ( ) باقي ( في الوقف : يعقوب وابن كثير غير ابن فليح وزمعة ، وروى ابن شنبوذ عن قنبل بالياء في الوقف وعن البزي بغير ياء ) المتعالي ( في الحالين : ابن كثير ويعقوب وافق سهل وعباس في الوصل. الوقوف : ( المر ( كوفي ) آيات الكتاب ( ط ) لا يؤمنون ( ه ) والقمر ( ط ) مسمى ( ط ) يوقنون ( ه ) وأنهارا ( ط ) النهار ( ط ) يتفكرون ( ه ) بماء واحد ( ز قف لمن قرأ ) ونفضل ( بالنون ) في الأكل ( ط ) يعقلون ( ه ) جديد ( ط ) بربهم ( ط ) في أعناقهم ( ج ) النار ( ج ) خالدون ( ه ) المثلات ( ط ) على ظلمهم ( ج لتنافي ه ) بالنهار ( ه ) من أمر الله ( ط ) ما بأنفسهم ( ط ) فلا مرد له ( ج لاختلاف الجملتين ) وال ( ه. التفسير : ( تلك ( الآيات التي في هذه السورة آيات السورة العجيبة الكاملة في بابها ) والذي أنزل إليك من ربك ( أي القرآن كله هو ) الحق ( الذي لا محيد عنه والمراد أنه لا تنحصر الحقية في هذه السورة وحدها. ثم أخذ في تفصيل الحق فبدأ بالدلالة على صحة المبدأ والمعاد فقال : ( الله ( وهو مبتدأ خبره ) الذي ( أو الموصول صفة المبتدأ ، وقوله : ( يدبر الأمر يفصل الآيات ( خبر بعد خبر. والعمد بفتحتين جمع عمود وهو ما يعمد به الشيء شبه الأسطوانة. وقوله : ( ترونها ( كلام مستأنف على سبيل الاستشهاد أي وأنتم ترونها مرفوعة بلا عماد. وقال الحسن : ترونها صفة للعمد. ثم زعم من تمسك بالمفهوم أن للسموات عمدا لكنا لا نراها وما تلك العمد ؟ قال بعض الظاهريين : هي جبل من زبرجد محيط بالدنيا يمسى جبل قاف. ولا يخفى سقوط هذا القول ألن كل جسم لو كان يلزم أ يكون معتمداً على شيء فذلك الجبل أيضاً كان متعمداً على شيء وتسلسل. وقال بعض من ترقى في حضيض الصورة إلى ذروة عالم المعقول :(4/136)
" صفحة رقم 137 "
إن تلك العمد هي قدرة الله تعالى وحفظه الذي أوقفها في الجوّ العالي. ونحن لا نرى ذلك التدبير ولا نعرف كيفية ذلك الإمساك. أما قوله : ( كل يجري لأجل مسمى ( فعن ابن عباس أن للشمس مائة وثمانين منزلاً في مائة وثمانين يوماً ، إنها تعود مرة أخرى إلى واحد واحد منها في أمثال تلك الأيام ومجموع تلك الأيام سنة تامة. أقول : إن صح عنه فلعله أراد تصاعدها في دائرة نصف النهار وتنازلها عنها في أيام السنة ، وأراد نزولها في فلكها الخارج المركز من الأوج إلى الحضيض ، ثم صعودها من الحضيض إلى الأوج فإن لها بحسب كل جزء من تلك الأجزاء في كل يوم من أيام السنة تعديلاً خاصاً زائداً أو نقاصاً كما برهن عليه أهل النجوم. وأمال القمر وبعد ذلك تنقطع الحركات وتنتهي المسيرات كقوله : ( وأجل مسمى عنده ) [ الأنعام : 2 ] واللام للتاريخ كما تقول : كتبت لثلاث خلون. وإنما قال في سورة لقمان ) إلى أجل مسمى ) [ لقمان : 29 ] موافقة لقبيل ذلك ومن يسلم وجهه إلى الله والقياس لله كما في قوله : ( أسلمت وجهي لله ) [ آل عمران : 20 ] ( يدبر الأمر ( إجمال بعد التفصيل أي أمر العالم العلوي والعالم السفلي من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن ، لأن تدبيره لعالم الأرواح كتدبيره لعالم الأشباح ، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير لا يختلف بالنسبة إلى قدرته أحوال شيء من ذلك في الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة وتبديل الصور والأعراض وتغيير الأشكال والأوضاع ) يفصل الآيات ( الدالة على وحدانيته وقدرته ، ويحتمل أن يراد بتدبير الأمر تدبير عالم الملكوت ، ويكون معنى تفصيل الآيات إنزال الكتب وبعث الرسل وتكليف العباد الذي هو أثر ذلك العالم في العالم السفلي. ويجوز أن يكون تدبير الأمر إشارة إلى القضاء ، وتفضيل الآيات إشارة إلى القدر. وقوله : ( لعلكم بلقاء ربكم توقنون ( على كل التفاسير إشارة إلى إثبات المعاد لأن المقر بتبيره وتقديره على الأنهاج المذكور لا بد أن يعترف باقتداره على الإعادة والجزاء. ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها الدلائل الأرضية فقال : ( وهو الذي مد الأرض ( قال الأصم : أي بسطها إلى ما لا يريك منتهاه ، وهذ االامتداد الظاهر لحس البصر لا ينافي كريتها لتباعد أطرافها ) وجعل فيها رواسي ( أي جبالاً ثوابت في أحيازها غير منتقلة عن أماكنها. وكيفية تكوّن الجبال على بسيط الأرض لا يعلم تفصيلها إلا موجدها. وزعمت الفلاسفة أنها من تأثير المسوات في الأجزاء الأرضية القابلة لذلك الأثر بعد امتزاجها بالأجزاء المائية وغيرها ، وقد يعين على ذلك نزول الأمطال وهبوب الرياح وهذا إن صح(4/137)
" صفحة رقم 138 "
فعلم إجمالي. وزعم بعضهم أن البحار كانت في جانب الشمال مدة كون حضيض الشمس هناك ، وحين انتقل الحضيض إلى الجنوب انجذبت المياه إلى ذلك الجانب لأن الشمس تصير في الحضيض أقرب إلى الأرض فتوجب شدة السخونة الجاذبة للرطوبات فصار الطين اللزج حجراً وحدثت الجبال والإوار بحسب المواضع المرتفعة والمنخفضة وبإعانة من السموات والآثر العلوية. وبالجملة فالأسباب تنتهي لا محالة إلى مسبب لا سبب له وهو الله سبحانه. ومن الدلائل الدالة على وجود الصانع ووحدانيته جريان الأنهار العظيمة على وجه الأرض الكائنة فيها من احتباس الأبخرة ، وأكثر ذلك أنما يتكّون في الجبال فلذا قرن الجبال بالأنهار في القرآن كثيراً كقوله : ( وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتاً ) [ المرسلات : 27 ] وقد يحصل فيها معادن الفلزات ومواضع الجواهر ومكامن الأجسام المائعة من النفظ والقير ولاكبريت وغيرها ، وكل ذلك دليل على وجود فاعل مختار ومدبر قهار. ثم يحدث على الأرض بتربية المياه وتغذيتها أنواع النبات فللك قال : ( ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ( وللمفسرين فيه قولان : الأول أنه حين مد الأرض خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين ، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوّعت فيكون كل زوجين بالنسبة إلى ذلك النوع كآدم وحواء وبالإضافة إلى الإنسان. القول الثاني : إنه أراد بالزوجين الأسود والأبيض والحلو والحامض والصغير والكبير وما أشبه ذلك من الاختلاف الصنفي. ووصف الزوجين بالاثنين للتأكيد مثل نفخة واحدة. أما قوله : ( يغشي الليل النهار ( فقد مر تفسيره في ( الأعراف ) وإنما ذكر هذا الإنعام في أثناء الدلائل الأرضية لأن النور والظلمة إنما يحدثان في الجوّ الذي يسميه الحكماء كرة النسيم وكرة البحار وليس فيما وراء ذلك ضياء ولا ظلام. فتعاقب الليل والنهار من جملة الأحداث السفلية وإن كان سببها طلوع الشمس وغروبها في الأف. ويحتمل أن يقال : إن هذا دليل سماوي وإنه سبحانه عاد مرة أخرى إلى الدليل السماوي ثم إلى الدليل الأرضي وذلك قوله : ( وفي الأرض قطع متحاورات ( أي بقاع مختلفة مع كونها متجاورة ومتلاصقة طيبة إلى سبخة ، وصلبة إلى رخوة ، وصالحة للزرع لا للجشر إلى أخرى على خلافها ، وفي هذا دلالة ظاهرة على أنها بجعل فاعل مختار موقع لأفعاله على حسب إرادته ، وكذا الكروم والزروع والنخيل الكائنة في هذه القطع مختلفة الطابع متخالفة الثمار في اللون والطعم والشكل وهي تسقى بماء واحد ، فدل ذلك على أن هذه الاختلافات لا تستند إلى الطبيعة فقط ولكنها بتقدير العزيز العليم. وإنما ذكر الزرع بين الأعناب والنخيل لأنها كثيراً ما تكون كذلك في الوجود كقوله ) جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً ) [ الكهف : 32 ] والصنوان جمع صنو وهي النخلة لها رأسان وأصلهما(4/138)
" صفحة رقم 139 "
واحد. وعن ابن الأعرابي : الصنو المثل ومنه قوله صل الله عليه وسلم ( عم الرجل صنو أبيه ). فمعنى الآية على هذا أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون ، والأكل الثمر الذي يؤكل. قاله الزجاج. وعن غيره أنه عام في جميع المطعومات. وإنما ختم الآية السابقة بقوله : ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ( وهذه بقوله : ( لقوم يعقلون ( لأن المقام الأوّل يحتاج إلى لتفكر لأن الفلاسفة يسندون الحوادث السفلية إلى الآباء الأثيرية والأمهات العنصرية ، لكن العاقل إذا تفكر في اختصاص كل ممتزج بحيز معين وشكل معين وطبيعة وخاصية مخالفتين لغيره علم أن كل هذه الاختلافات لا تستند إلى أشعة كواكب معدودة ولا إلى طبائع عناصر محصورة كما أشير إلى ذلك بقوله : ( وفي الأرض قطع ( الآية. ولئن سلم أن الاتصالات الفلكية واختلافات الفواعل والقوابل قد ترتقي إلى حد يظهر منها هذه الآثار فلا بد لكل سبب من الانتهاء إلى مسبب لا سبب فوقه وليس ذلك إلا الله وحده ، فهذا مقام لا يجحده إلا عادم عقل بل فاقد حس. والحاصل أن التفكر في الآيات يوجب عقلية ما جعلت الآيات دليلاً عليه فهو الأوّل المؤدي إلى لثاني والله ولي التوفيق. ثم عاد سبحانه إلى ذكر المعاد فقال : ( وإن تعجب ( قال ابن عباس : إن تعجب يا محمد من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا أنك من الصادقين ، فهذا أعجب. أو إو تعجب من عبادتهم الأصنام بعد الدلائل الالة على التوحيد ، أو إن تعجب يا محمد فقد عجبت في موضع العجب لأنهم اعترفوا بأنه تعالى رفع السموات بغير عمد وسخر الشمس والقمر على وفق مصالح العباد وأظهر الغرائب والعجائب في عالم الخلق ، ثم أنكروا الإعادة التي هي أهون وأسهل. قال المتكلمون : موضع العجب هو الذي لا يعرف سببه وذلك في حقه تعالى محال ، فالمراد وإن تعجب ) فعجب ( عندك ) قولهم ( وإن سلم أن المراد عجب عند الله كما قراىء في الصافات ) بل عجبت ) [ الصافات : 12 ] بضم التاء فتأويله أنه محمول على النهاية لا على البداية أي منكر عند الله ما قالوه فإن الإنسان إذا تعجب من شيء أنكره. قال في الكشاف ) أئذا كنا ( إلى آخر قولهم ، يجوز أن يكون في محل الرفع بدلاً من قولهم ، وأن يكون منصوباً بالقول. وإذا نصب بما دل عيه قوله : ( أئنا لفي خلق جديد ( وهو نبعث أو نحشر. ثم حكم عليهم بأمور ثلاثة : الأول ) أولئك الذي كفروا بربهم ( يعني أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم وذلك أن إنكار البعث لا(4/139)
" صفحة رقم 140 "
يكون إلا عن إنكار القدرة أو عن إنكار كمالها بأن يقال : إنه موجب بالذات لا فاعل بالاختيار فلا يمكنه إيجاد الحيوان إلا بواسطة الأبوين وتأثير الطبائع والأفلاك أو إنكار العلم بأن يقال : إنه غير عالم بالجزيئات بدن عمرو ، أو إنكار الصدق كما إذا قيل : إنه أخبر عنه ولكنه لا يفعل لأن الكذب جائز عليه كما لا يكذب أحدنا بناء على مصلحة عامة أو خاصة وكل واحدة من هذه العقائد كفر فضلاً عن جميعها. والثاني : ( وأولئك الأغلال في أعناقهم ( قال ألاصم : المراد بذلك كفرهم. وذلتهم ونقيادهم للأصنام. يقال للرجل هذا غل في عنقك للعمل الرديء إذا كان لازماً له وهو مصر على فعله. وقال آخرون : هو من جملة الوعيد. ولا بد من تجوّز على القولين : أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلأن المراد أنه سيحصل هذا المعنى. والظاهر أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني قوله : ( إذا الأغلال في أعناقهم والسلاسل ( والأول قوله : ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ) [ يس : 8 ] والثالث : ( وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( وربما يستدل الأشاعرة به أن الصيغة للحصر فيدل على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار ، ويمكن أن يناقش في إفادتها الحصر. ثم إنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يهددهم تارة بعذاب الآخرة وكانوا ينكرون البعث لذلك كما تقدم ، ويخوفهم تارة أخرى بعذاب الدنيا فيستعجلونه به زعماً منهم أنه كلام لا أصل له وإلى هذا أشير بقوله : ( ويستعجلونك بالسيئة ( بالعذاب والعقوبة التي تسوءهم. ) قيل ( تمام ) الحسنة ( وهي العافية والإحسان إليهم بالإهمال والتأخير ) وقد خلت من قبلهم المثلات ( أي عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها ؟ وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه لأن العقاب مماثل للمعاقب عليه ومنه ( المثلة ) بالضم والسكون لتقبيح الصورة بقطع الأنف والأذن وسمل العين ونحو ذلك ، وذلك أنه ليس تغييراً كلياً لا يماثل الصورة الأولى وإنما ذلك تغيير تبقى الصورة معه قبيحة. ) وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ( قالت الأشاعرة : فيه دلالة على جواز العفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة لأن قوله : ( على ظلمهم ( حال منهم ، ومن المعلوم أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا يكون تائباً لكن الآية دلت على أنه تعالى يغفر الذنوب قبل الاشتغال بالتوبة ترك العمل بها في حق الكافر فيبقى معمولاً بها في حق أهل الكبائر. لا يقال : إن المراد من هذه المغفرة تأخير العقاب إلى الآخرة ليقع جواباً عن استعجالهم. أو ألمراد غفران الصغائر لمجتنب الكبائر ، أو غفران الكبائر بشرط التوبة فإن تاب وإلا فهو شديد العقاب لأنا(4/140)
" صفحة رقم 141 "
نقول : تأخير العقاب إلى الآخرة لا يسمى مغفرة وإلا كان غافراً للكفار. وأيضاً إنه تعالى مدح نفسه بهذا والتمدح إنما يحصل بالتفضل لا بأداء الواجب. وعندكم يجب غفران الصغائر لمن اجتنب الكبائر. . وجواب الباقي ما مر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد ) قال أهل النظم : إن الكفار طعنوا في نبوته بسبب الطعن في الحشر والنشور ، ثم طعنوا في نبوّته بسبب استبطاء نزول العذاب ، ثم طعنوا في نبوّته بسبب عدم الاعتداد بمعجزاته وذلك قوله : ( ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه ( وقد تقدم مثل هذا في ( الأنعام ) في تفسير قوله : ( وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه ) [ الأنعام : 8 ] ويجيء مثل هذه بعينها في هذه السورة. قيل : وليس بتكرار محض لأن المراد بالأول آية مما اقترحوا نحو ما في قوله : ( لن نؤمن لك حتى تفجر ) [ الإسراء : 90 ] الآيات وبالثاني آية ما لأنهم لم يهتدوا إلى أن القرآن آية فوق كل آية وأنكروا سائر آياته ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو لعلهم ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر معجزات فأجاب سبحانه تسلية لرسوله ) إنما أنت منذر ( ما عليك إلا الإتيان بما يصح به دعوى إنذارك ورسالتك ) ولكل قوم هاد ( من الأنبياء يدعوهم إلى الله بوجه من الهداية والإرشاد يليق بزمانه وبأمته. ولم يجعل الأنبياء شرعاً في المعجزات فعلى هذا التقدير المنذر النبي والهادي نبي إلا أن الأول محمد والثاني نبي كل زمان. وقيل : المنذر محمد والهادي هو الله تعالى قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك. والمعنى أنهم إن جحدوا كون القرآن معجزاً فلا يضيقن قلبك بسببه فما عليك إلا الإنذار. وأما الهداية فمن الله. وقيل : المنذر النبي والهادي هو علي. روي عن ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وضع يده على صدره فقال : أنا المنذر وأومأ إلى منكب علي فقال : وأنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون بعدي قاله في التفسير الكبير. ثم أكد المعاني المذكورة في الآيات السابقة بقوله : ( الله يعلم ( لأنه إذا كان عالماً بجميع المعلومات قدر على تمييز أجزاء بدن كل مكلف من غيره فلا يستنكر منه البعث. ويكون نزول العذاب مفوّضاً إلى عمله فلا يجوز استعجاله به ، وكذا إنزاله الآيات يكون موكولاً إلى تبديره فإن علم أن المكلفين اقترحوها لأجل الاسترشاد ومزيد البيان أظهرها الله تعالى لهم وإلا فلا ، وفيه أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره أمر مدبر بالعلم النافذ مقر بالحكمة الربانية. وعلى القول الثاني فيه أن من هذه قدرته وهذاعلمه وهو القادر وحده على هدايتهم بأي طريق شاء ، وعلى هذا احتمل أن يكون ) الله ( خبر مبتدأ محذوف والجملة مفسرة ل ) هاد ( أي هو الله. ثم ابتدأ فقيل : ( يعلم ( ) ما تحمل كل(4/141)
" صفحة رقم 142 "
أنثى ( قال في الكشاف : لفظة ( ما ) في ) ما تحمل ( و ) ما تغيض ( و ) ما تزداد ( إما أن تكون مصدرية والمعنى يعلم حمل كل أنثى ويعلم غيض الأرحام وازديادها أو غيوض ما فيها وزيادته على أن الفعلين غيرمتعديين فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها. والازدياد ( افتعال ) من زاد فأبدلت التاء دالاً ، وإنه يتعدى ولا يتعدى كثلاثيه. أو موصولة والمرا يعلم ما تحمله من الولد ذكورته وأنوثته وتخاطيط أعضائه وسائر أحواله من السعادة وضدها ومن العلم وضده إلى غير ذلك ، ويعلم ما تغيضه الأرحام أي تنقصه كقوله : ( وغيض الماء ) [ هود : 44 ] وما تزداده من العدد فقد يكون واحداً وأكثر ، ومن الخلقة يكون تماماً أو مخدجاً ، ومن المدة فقد يكون أقل من تسعة أشهر أو أزيد إلى سنتين عند أبي حنيفة ، وإلى أربع عند الشافعي ، وإلى خمس عند مالك ، ومن دم الحيض. قال ابن عباس : كلما سال الحيض يوماً زاد في مدة الحمل يوماً ليحصل الجبر ويعتدل الأمر. ثم بين كمال علمه ونفاذ أمره بقوله : ( وكل شيء عنده بمقدار ( واحد لا يتجاوزه في طرفي التفريط والإفراط ، والمراد بالعندية العلم كما يقال : هذه المسألة عند الشافعي كذا. وذلك أنه سبحانه خصص كل حاث بوقت معين وحالة معينة حسب مشيئته الأزلية وإرادته السرمدية. وقال حكماء الإسلام : وشع أسباباً كلية وأودع فيها قوى وخواص وحرك الأجرام بحيث يلزم من حركتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية معينة ومناسبات معلومة مقدّرة ، ومن جملتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال ولذلك ختم الآية بقوله : ( عالم الغيب والشهادة ( أي هو عالم بما غاب عن الحسن وبما حضر له ، أو بما غاب عن ا لخلق وبما شهدوه أو بالمعدومات وبالموجودات ) الكبير ( في ذاته لا بحسب الحجمية بل بالرتبة والشرف لأنه أجل الموجودات ) المتعال ( المنزه عن كل ما يجوزعليه في ذاته في صفاته وفي أفعاله. ثم زاد في التأكيد فقال : ( سواء منكم في أسر القول ومن جهر به ( أي مستوفى علمه هذان لأنه يعلم كما يعلم الجهر لا يتفاوت في علمه أحد الحالين ) و ( سواء عنده ) من هو مستخف بالليل وسارب ( على أن ) سارب ( معطوف على ) من ( لا على ) متسخف ( ليتناول معنى الاستواء شخصين : أحدهما والآخر سارب. وإلا فلم يتناول إلا واحداً هو مستخف وسارب إلا أن يكون ( من ) في معنى الاثنين حتى كأنه قيل : سواء منكم اثنان متسخف بالليل وسارب ) بالنهار ( وفي المستخفي والسارب قولان : أحدهما أن المستخفي هو المستتر الطالب للخفاء في ظلمة الليل ، والسارب من يضطرب في الطرقات ظاهراً بالنهار كل أحد. يقال : سرب في الأرض سروباً أي ذهب في(4/142)
" صفحة رقم 143 "
سربه بالفتح والسكون وهو الطريق ويؤديه قول مجاهد : معناه سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليالي ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التوالي. وثانيهما نقل الواحدي عن الأخفش وقطرب : المستخفي الظاهر من قولهم : ( اختفيت الشيء ) أي استخرجته ، والسارب المتواري الداخل سرباً بفتحتين ومنه انسرب الوحش إذا دخل في كناسه. وهذا وإن صح من حيث اللغة لكن قرينتي الليل والنهار إنما تساعدان القول الأول ، ولهذا أطبق أكثر المفسرين عليه. ثم ذكر ما يجري في الظاهر مجرى السبب لاستواء علمه بحال المسر والمعلن فقال : ( له ( أي لمن أسر ومن جهر ومن استخفى ومن سرب ) معقبات ( جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته. والأصل معتقبات فأغمت ، أو هو على أصله من عقبه بالتشديد إذا جاء على عقبه لأن بعضهم يعقب بعضاً ، أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه. والتأنيث للمبالغة نحو ( نسابة ) و ( علامة ) ، أو لأنه جمع معقبة أي ملائكة معقبة أو جماعة معقبة. وقوله : ( ومن أمر الله ( ليس من صلة الحفظ لأنه قدرة للملك ولا لأحد من الخلق على أن يحفظوا أحداً من قضاء الله وإنما هو صفة أخرى كأنه قيل : له معقبات من أمر الله يحفظونه ، أو له معقبات يحفظونه ، ثم بين سبب الحفظ فقال : ( من أمر الله ( أي من أجل أن الله أمرهم بحفظه فمن بمعنى الباء وقرأ به عليّ وابن عباس وغيرهما ، ويجوز أن يكون صلة على معنى يحفظونه من بأس الله إذا أذنب بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب. قال ابن جريج : هو مثل قوله تعالى : ( عن اليمين وعن الشمال قعيد ) [ ق : 17 ] صاحب اليمين يكتب الحسنات والذي عن يساره يكتب السيئات. وقال مجاهد : ما من عبد إلا وله ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته. وقيل : المراد يحفظونه من جميع المهالك من بين يديه ومن خلفه لأن كلاّ من المستخفي والسارب إذا سعى في مهماته فإنما يحذر من الجهتين. وما الفائدة في تسليط هؤلاء على ابن آدم ؟ قال علماء الشريعة : إن الشياطين يدعون إلى المعاصي والشرور وهؤلاء الملائكة يدعون إلى الخيرات والطاعات بالإلهامات الحسنة والإخطارات الشريفة. وإذا علم ابن آدم أن معه ملائكة يحصون عليه أفعاله وأقواله استحيا منهم وكان ذلك له رادعاً قوياً ، وق مر في هذا الباب كلام في ( الأنعام ) في قوله : ( ويرسل عليكم حفظةً ( فليتذكر ) الآية : 61 ]. وللآية تفسير آخر منقول عن ابن عباس وختاره أبو مسلم الأصفهاني قال : قال : المعقبات الحرس وأعوان الملوك ، والجملة وهي قوله : ( ) له معقبات ( صفة للمستفي والسارب أو حال منه لكونه نكرة موصوفة أي يستوي في علم الله السر والجهر ، والمستخفي بظلمة الليل والسارب بالنهار مستظهراً(4/143)
" صفحة رقم 144 "
بالمعاونين والأنصار. والمقصود بعث الأمراء والسلاطين على أن يطلبوا الخلاص عن المكاره بعصمة الله لا بالحرس والأعوان ولذلك ختم الآية بقوله : ( وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا رد له وما لهم من دونه من وال ( ممن يلي أمرهم يودفع عنهم. قالت الأشاعرة : في هذا الكلام دلالة على أن العبد غير مستقل في الفعل لأنه إذا كفر العبد فلا شك أنه تعالى حكم بكونه مستحقاً للذم في الدنيا والعقاب في الآخرة ، فلو كان العبد مستقلاً لحصل الإيمان وكان راداً لقضاء الله تعالى. وقالت المعتزلة : هذا معارض بما تقدم عليه من كلام الله وهو قوله : ( إن الهل لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( لأنه لو ابتدأ بالعبد أول ما يبلغ بالضلال والخذلان كان ذلك من أعظم العقاب مع أنه ما كان منه تغيير. قالوا : وفيه دليل على أنه لا يعاقب أطفال المشركين بذنوب آبائهم لأنهم لم يغيروا ما بأنفسهم من نعمة فيغير الله ما بهم من النعمة إلى العقاب. أجابت الأشاعرة بأن هذا راجع إلى قوله : ( ويستعجلونك ( بين الله سبحانه بذلك أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر حتى قالوا : إذا كان المعلوم أن فيهم من يؤمن أو في أعقابهم من يؤمن فإنه لا يستأصلهم. ورد بأن هذا خلاف الظاهر وقد صرح بذلك في سورة الأنفال في قوله : ( ذلك بأن لله لم يك مغيراً ) [ الآية : 53 ] الآية. والحق أن ترتب النقمة على تغيير النعمة لا ينافي استناد تغيير النعمة إليه فإنه مبدأ المبادىء وانتهاء الوسائط وسبب الأسباب. التأويل : ( المر ( الألف الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، اللام له مقاليد السموات والأرض ، الميم ملك يوم الدين ، الراء رب العالمين من الأزل إلى الأبد أقسم بهذه الأمور أن الذي أنزل على عبده محمد هو الحق ، وأنه حبل الله الذي به يوصل المؤمن من هبوط عالم الطبيعة إلى ذروة عالم الحقيقة لأنه ) الله الذي رفع السموات ( المحسوسة ) بغير عمد ( فكما أنه رفع السموات بقدرته فكذلك رفع الدرجات برحمته ، أو كما أنه رفع السموات المحسوسة بعمد القدرة كذلك يرفع سموات القلوب بجذبة العناية ، وسخر شمس الروح وقمر القلب أو النفس لتدبير مصالح العالم الصغير. وإنما تظهر هذه الغرائب والعجائب لحصول كما الإيقان بالرجوع إلى الله والفناء فيه بل البقاء به. ومن حسن العناية ، ) ومن كل الثمرات ( وهي الملكات والأخلاق ) جعل فيها زوجين اثنين ( ملكة روحانية حميدة وأخرى نفسانية وذميمة. فالأولى نورانية كالنهار والأخرى ظلمانية كالليل ، يغلب هذه تارة وتلك أخرى وهذا معنى قوله : ( يغشي الليل النهار ( وفي أرض الإنسانية(4/144)
" صفحة رقم 145 "
) قطع متجاورات ( هي النفس والقلب والروح السر والخفي حيوانية وملكوتية روحانية وجبروتية وعظموتية ) وجنات ( هي هذه الأعيان المتسعدة لقبول الفيض عند بلوغها ) من أعناب ( هي ثمرة النفس من الصفات التي هي أصل الإسكار كالغفلة والحمق والسهو واللهو ) وزرع ( هو ثمرة القلب فإن القلب كالأرض الطيبة التي منها غذاء الروح ) ونخيل ( هو الروح ذو الأخلاق الحميدة كالكرم والجود والشجاعة والقناعة والحياء والتواضع والشفقة ) صنوان ( هو السر الجبروتي الكاشف عن أسرار الجبروت بين الرب والعبد فإنه إذا حكى السر للعبد كان المحكى مثالاً لما عليه الوجود ) وغير صنوان ( هو الخفي الواقف على أسرار العظموت الت يلا مثل لها ولا أمثال ولا تحكى لعبده كما قال ) فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 10 ] وكما قال : بين المحبين سر ليس يفشيه ) يسقي بماء واحد ( هو ماء القدرة والحكمة ) الله يعلم ما تحمل كل أنثى ( أي ما في استعداد كل مستعد من الفضائل ، أو ما في كل ذرّة من ذرّات المكونات من الخواص والطبائع ، أو ما في كل منها من الآيات الدالة على موجدها ) سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) [ فصلت : 53 ] ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ( أي ما يظهر من تلك الآيات الاستعدادات في جانبي التفريط والإفراط ، والمراد ما ينقص من أرحام الموجدات أو المعدومات فمهما أوجد شيء نقص من رحم العدم واحد وزاد في رحم الوجود واحد وبالعكس في جانب الإعدام. مستخف بليل العدم وظاهر النهار الوجود له أي لله معقبات من العلم والقدرة من بين يدي المعلوم ومن خلفه أي في حالتي عدمه ووجوده من أزله إلى أبده ) يحفظونه من أمر الله ( أي لأجل أمره حتى لا يخرج من قبضة تدبيره ) إن الله لا يغير ما بقوم ( من الوجود والعدم ) حتى يغيروا ما بأنفسهم ( من استدعاء الوجود أو العدم بلسان استحقاق الوجود أو العدم كما تقتضيه حكمته وتدبيره. ( الرعد : ( 12 - 29 ) هو الذي يريكم . . . .
" هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله(4/145)
" صفحة رقم 146 "
شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا من ما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب "
( القراآت )
كباسط ( مثل ) بسطة ) [ البقرة : 247 ] وقد مر في البقرة ) أم هل يستوي ( بيان تحتانية : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل : الآخرون بتاء التأنيث. ) يوقدون ( على الغيبة : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون : على الخطاب إما للكفرة في قوله : ( قل أفاتخذتم ( وإما للمكلفين على العموم كما في القراءة الأخرى والضمير يعود إلى الناس المعلوم من سياق الكلام. الوقوف : ( الثقال ( ه ج لاختلاف الفاعل مع اتفاق اللفظ ) من خيفته ( ج لذلك ) في الله ( ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف ) المحال ( ه ط للآية وانقطاع النظم ) دعوة الحق ( ط ) يبالغه ( ط ) ضلال ( ه ) والآصال ( ه ) والأرض ( ط ) قل الله ( ط ) ولا ضراً ( ط ) والبصير ( ه ط للعطف ) والنور ( ج لاحتمال أن يكون هذا الاستفهام بدلاً عن الأوّل ) عليهم ( ط ) القهار ( ه ) رابياً ( ط ) مثله ( ط ) والباطل ( ط ) جفاء ( ج لاتفاق الجملتين مع كون ( إما ) للتفصيل ) في الأرض ( ط ) الأمثال ( ه ط ) الحسنى ((4/146)
" صفحة رقم 147 "
ط ) لافتدوا به ( ط ) الحساب ( ه لا ) جهنم ( ج ) المهاد ( ه ) هو أعمى ( ط ) الألباب ( ه لا ) الميثاق ( ط للعطف ) سوء الحساب ( ه ط ) الدار ( ه لأن قوله : ( جنات عدن ( بدل من ) عقبى ( ) من كل باب ( ه ج لحق المحذوف أي قائلين. عقبى الدار ( ط ) في الأرض ( لا ) سوء الدار ( ه ) ويقدر ( ط ) الدنيا ( ط ) متاع ( ز ) من ربه ( ط ) أناب ( ه ) بذكر الله ( الأوّل ط ) القلوب ( ه ) مآب ( ه. التفسير : خوّف عباده بإنزال ما لا مردَّ له أتبعه دلائل تشبه اللطف من بعض الوجوه والقهر من بعضها وهي أربعة : البرق والسحاب والرعد والصاعقة. وقد مر في أوّل سورة البقرة تفسير هذه الألفاظ وقول الحكماء في أسباب حدوثها. وانتصاب ) خوفاً وطعماً ( إما على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع والتقدير ذا خوف وطمع ، أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين ، وإما على أنه مفعول له على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع. وإنما وجب تقدير المضاف ليكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل كما هو شرط نصب المفعول له. ومعنى الخوف والطمع من وقوع الصواعق والطمع في نزول الغيث. وقيل : يخاف المطر من له فيه ضرر إما بحسب الزمان وإما بحسب المكان ، فمن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر ويطمع فيه من له فيه نفع. وعن ابن عباس أن اليهود سألت النبي عن الرعد فقال : ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه خاريق من نار يسوق بها السحاب. فعلى هذا الصوت المسموع هو صوت ذلك الملك الموكل المسمى بالرعد. وعن الحسن. خلق الله ليس بملك. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله ينشىء السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك فنطقه الرعد وضحكه البرق ). وهذا غير مستبعد من قدرة الله وخصوصاً عند من لا يجعل البنية شرطاً في الحياة. وقيل : المضاف محذوف أي يسبح سامعو الرعد من العباد الراجلين للمطر حامدين له أو متلبسين بسبحان الله والحمد لله. وعن علي رضي الله عنه : سبحان من سبحت له. وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول إذا اشتد الرعد : ( اللَّهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك ). وقيل : معنى تسبيح الرعد أن هذا الصوت المخصوص لهوله ومهابته يدل على وجود إله قهار كقوله : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ]. قال في الكشاف : ومن بدع المتصوّفة الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم. والمطر بكاؤهم. أما قوله : ( والملائكة من خيفته ( أي ويسبح الملائكة من هيبته وجلاله فقد ذكر جمع من المفسرين أنه عنى بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد فإنه سبحانه جعل له أعواناً. قال ابن عباس : إنهم خائفون من الله لا كخوف ابن آدم فإن أحدهم لا يعرف من(4/147)
" صفحة رقم 148 "
على يمينه ومن على يساره ولم يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء. وقالت الحكماء : إنما تتم الآثار العلوية بقوى روحانية فلكية ، فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار فهذا هو المراد بالملائكة في الآية. قوله : ( ويرسل الصواعق ( قد عرفت أنها نار تتولد من السحاب وتنزل بقوّة شديدة فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان. ووجه الاستدلال بها على الصانع أن النار حارة يابسة وطبيعة السحاب يغلب عليها الرطوبة والبرودة للأجزاء المائية فيه ، وحصول الضد من الضد لا يكون بالطبع وإنما يكون بتدبير القادر المختار وتسخيره. ولما بين دلائل كمال العلم في قوله : ( والله يعلم ( ودلائل كمال القدرة في هذه الآية قال : ( وهم يجادلون في الله ( لأن إنكار المدلول بعد وضوع الدليل جدال بالباطل وعناد محض ، ويحتمل أن تكون الواو للحال أي فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم ويؤكده ماروي عن ابن عباس في رواية أبي صالح وابن جريج وابن زيد أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد بن ربيعة أقبلا يريدان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رجل من أصحابه. يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك. فقال : دعه فإن يرد الله به خيراً يهده. فأقبل حتى قام عليه فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت. فقال : لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم. قال تجعل لي الأمر بعدك. قال : لا ليس ذلك إليّ إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء قال : فتجعلني على الوبر وأنت على المدر. قال : لا. قال : فماذا تجعل لي ؟ قال : أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها. قال : أوليس ذلك إليّ اليوم ؟ وكان أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر عليه من خلفه فاضربه بالسيف. فجعل يخاصم رسول الله ويراجعه ويجادل في الله يقول أخبرني عن ربك أمن نحاس هو أم من حديد ، فدار أربعد خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليضربه فاخترط من سيفه شبراً ثم بسه الله فلم يقدر على سله ، وجعل عامر يومىء إليه فالتفت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فرأى أربد وما يصنع بسيفه فقال : اللَّهم أكنفيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته وولى عامر هارباً وقال : يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلاً جرداً وفرساناً مرداً. فقال رسول الله : يمنعك الله ن ذلك وأبنا قيلة - يريد الأوس والخزرج - فنزل عامر بيت امرأة سلولية فلما أصبح ضم عليه سلاحه وخرج وهو يقول : واللات لئن أصحر إليّ محمد وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذنهما برمحي فأرسل الله إليه ملكاً فلطمه بجناحه فأذراه في التراب وخرجت على ركبته غدة في الوقت عظيمة فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول : أغدّة كغدة البعير وموت في بيت السلولية ؟ ثم مات على ظهر فرسه وأنزل الله الآية(4/148)
" صفحة رقم 149 "
في هذه القصة. قوله : ( وهو شديد المحال ( معناه شديد المكر والكيد لأعدائه ، والمماحلة شدة المماكرة ومنه تمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه ، ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان ومنه الحديث : ( اللَّهم اجعله - أي القرآن - لنا شافعاً مشفعاً ولا تجعله علينا ماحلاً مصدّقاً ). ومن سنة المح لشدتها وصعوبة أمرها. وأما عبارات المفسرين فقال مجاهد وقتادة : شديد القوّة. أبو عبيدة : شديد العقوبة. الحسن : شديد النقمة. وقيل : شديد الحقد ومعناه راجع إلى إرادة إيصال الشر إلى مستحقه مع إخفاء تلك الإرادة عنه ثم أثنى على نفسه بالحقية وشهد على الأصنام. بالبطلان فقال : ( له دعوة الحق ( فأضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما تضاف الكلمة إلى الحق والمراد أنه سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة إذا أراد فهو حقيق بأن يوجه إليه الدعاء لما في دعوته من الجدوى والنفع بخلاف ما لا فائدة في دعائه. وعن الحسن : الحق هو الله والمعنى له دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب ولهذا أجاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الكافرين حين دعا عليهما. وعن ابن عباس : دعوة الحق قوله لا إله إلا الله. وقيل : الدعوة العبادة فإن عبادته هي الحق والصدق وقد سلف تحقيق الحق في أوّل هذا الكتاب في تفسير البسملة. ) والذين يدعون من دونه ( أي الآلهة الذين يدعوهم أو يعبدهم. الكفار من دون الله. ) لا تستجيبون لهم بشيء ( إلا استجابة كاستجابة الماء من بسط يديه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر به. والحاصل أن الكفار وذلك الطالب ليهما شترك في الخيبة لاشتراكهما في دعاء الجماد. وقيل : شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فبسطهما ناشراً أصابعه فلا جرم لا يبلغ طلبته. ثم أكد خيبتهم بقوله : ( وما دعاء الكافرين إلى في ضلال ( في ضياع وذهاب عن المنفعة لأنهم إن دعوا الله لا يجيبهم لحقارة أمرهم عنده ، وإن دعوا الآلهة لم تستطع أجابتهم. ثم زاد في الثناء فقال : ( ولله يسجد من في السموات والأرض ( فإن كان السجود بمعنى وضع الجبهة فذلك ظاهر في المؤمنين لأنهم يسجدون له ) طوعاً ( أي بسهولة ونشاط ) وكرهاً ( أي على تعب واصطبار ومجاهدة. وأما في حق الكفار فمشكل ووجهه أن يقال : المراد حق له أن يسجد لأجله جميع المكلفين من الملائكة والثقلين فعبر عن الوجوب بالوقوع ، وإن كان بمعنى الانقياد والخضوع والاعتراف بالإلهية وترك الامتناع عن نفوذ مشيئته فيهم فلا إشكال نظيره قوله : ( وله أسلم من في السموات والأرض ) [ آل عمران : 83 ] وقد مر في ( آل عمران ) أما قوله : ( وظلالهم ( فقد قال جمع المفسرين(4/149)
" صفحة رقم 150 "
كمجاهد والزجاج وابن الأنباري : لا يبعد أن يخلق الله للظلال أفهاماً تسجد بها لله وتخضع له كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيحه فظل المؤمن يسجد لله طوعاً وهو طائع وظل الكافر يسجد لغير الله كرهاً ويسجد لله طوعاً. وقال آخرون : المراد من سجود الظلال تقلصها وامتدادها بحسب ارتفاع الشمس وانحطاطها فهي منقادة مستسمة لما أتاح لله لها في الأحوال. وتخصيص الغدوّ والآصال بالذكر لغاية ظهورها وزديادها في الوقتين. ومعنى الغدّو والآصل قد مر في آخر ( الأعراف ). واعلم أنه سبحانه ذكر آية السجدة في النحل بعبارة أخرى فقال : ( ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة ) [ الآية : 49 ] لأنه تقدم ذكر ما خلق الله على العموم ولم يكن فيه ذكر الملائكة ولا الإنس بالصريح فعمم لشمل الإنس وصرح بالملائكة. وقال في ( الحج ) ) ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض ) [ الحج : 18 ] بتكرير ( من ) لأنه تقدم ذكر المؤمنين وسائر الأديان فقدم ذكر ) من في السموات ( تعظيماً لهم ولها وذكر ) من في الأرض ( لأنهم هم الذي تقدم ذكرهم. وأما في هذه السورة فقد تقدمت ذكر العلويات من الرعد والبرق ، ثم ذكر الملائكة وتسبيحهم ، ثم انجر الكلام إلى ذكر الأصنام والكفار فبدأ في آية السجدة بذكر من في السموات والأرض وذكر الأرض تبعاً ولم يذكر من فيها استخفافاً بالكفرة وأصنافهم فتبين أنه أورد كل آية بما لاق بمقامها والله تعالى أعلم بمراده. ثم أخبر عن التخسير بسؤال التقرير ردّاً على بعدة الأصنام فقال : ( قل من رب السموات والأرض قل الله ( وهذه حكاية لاعترافهم لأنهم كانوا يعترفون بأنه الإله الأعظم وهذا كما يقول المناظر لصاحبه : أهذا قولك ؟ فإذا قال هذا قولي قال هذ قولك فيحكي إقراره استئنافاً منه يقول له : فيلزمك على هذا القول كيت وكيت وذلك قوله : ( قل أفاتخذتم ( ويجوز أن يكون تلقيناً لما ليسوا منكرين له. والهمزة في ) أفاتخذتم ( للإنكار والمعنى أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم ) من دونه أولياء ( جمادات عجزة عن تحصيل المنافع والمضارّ لأنفسهم فضلاً عن غيرهم. وموضع الإنكار أنهم جعلوا ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من العلم والإقرار سبب الإشراك ، ثم جعلوا مع ذلك أخس الأشياء مكان أشرف الذوات وهذا جهل لا مزيد عليه فلهذا شبههم بالأعمى وشبه جهالتهم بالظلمات وأنكر أن يكون شيء منهما مساوياً لنقيضه فقال : ( قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور ( جمع الظلمات ووحد النور لأن السبل المنحرفة غير محصورة والصراط المستقيم واحد. ثم أكد الإنكار المذكور بقوله : ( أم جعلوا ( والمراد بل جعلوا ) لله شركاء ( خالقين مثل خلقه ) فتشابه الخلق ( أي خلق(4/150)
" صفحة رقم 151 "
الله وخلقهم ) عليهم ( أي ليس لهذه الشركاء خلق مثل خلق الله حتى يشتبه الأمر عليهم بل ليس لهم خلق أصلاً بل كان ما سوى الله عاجز عن الخلق بدليل قوله : ( قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ( المتوحد بالربوبية الذي لا يغالب وما عداه مربوب ومقهور. قالت المعتزلة : للعبد فعل وتأثير ولكنا لا نقول إنه يخلق كخلق الله لأن العبد يفعل لجلب منفعة أو دفع مضرة والله تعالى منزه عن ذلك. وأجيب بأن المخالفة من بعض الوجوه لا تقدح في المماثلة من وجه آخر ، فلو كان فعل العبد كالتحريك مثلاً واقعاً بقدرته لكان مثلاً للتحريك الواقع بقدرة الله تعالى وهذا الإشكال وارد أيضاً على من يثبت للعبد كسباً. ثم ضرب مثلاً آخر للحق وذويه والباطل ومنتحليه فقال : ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية أي مياهها والوادي الفضاء المنخفض عن الجبال والتلال الذي يجري فيه السيل. وقيل : الوادي اسم للماء من ودى إذا سال ، والمعنى سالت مياه. قال الفارسي : لا نعلم فاعلاً جمع على ( أفعلة ) إلا هذا وكأنه حمل على ( فعيل ) فجمع على ( أفعلة ) كجريب وأجربة كما أن فعيلاً حمل على فاعل فجمع على ( أفعال ) مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر. وقال غيره : نظير وادٍ وأودية نادٍ وأندية. ومعنى التنكير في أودية أن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوية بين البقاع فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض. قال في الكشاف : معنى ) بقدرها ( بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم بدليل قوله : ( وأما ما ينفع الناس ( وقال الواحدي : معناه سالت مياه الأودية بقدر الأودية فإن صغر الوادي قل الماء وإن استع كثر الماء. والزبد هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل ونحوه. ومعنى ) رابياً ( قال الزجاج : طافياً فوق الماء. وقال غيره : زائداً بسبب انتفاخه من ربا يربو إذا زاد. ثم قال سبحانه إظهاراً للكبرياء كما هو ديدن الملوك ) ومما يوقدون عليه ( ( من ) لابتداء الغاية أي ومنه ينشأ زيد مثل زبد الماء. أو للتبعيض بعض بمعنى بعضه زبد مثله أراد به الأجسام المتطرقة المتفرقة الرابية : والإيقاد على الشياء قسمان : أحدهما أن لا يكون ذلك الشيء في النار كالآجر في قوله : ( أوقد لي ياهامان على الطين ) [ القصص : 38 ] والثاني أن يكون ف يالنار كأنواع الفلز ولهذا قال ههنا بزيادة لفظة ) في النار ( قال في الكشاف : فائدة قوله ) ابتغاء حلية أو متاع ( مثل فائدة قوله ) بقدرها ( لأنه جميع بين لماء والفلز في النفع في قوله : ( وأما ما ينفع الناس ( أي وأما ما ينفعهم به من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع بالفلز وهو اتخاذ الحلي من الذهب والفضة واتخاذ سائر أثاث البيت وأمتعته من الحديد والنحاس والرصاص والأسرب وما يتركب منها والمتاع كل ما تمتع به. ) وكذلك يضرب الله الحق(4/151)
" صفحة رقم 152 "
والباطل ( أي يضرب الأمثال للحق والباطل ومثله يف آخر الآية فاختصر الكلام بأن حذف الأمثال من الأوّل والحق والباطل من الثاني تأكيداً للمقصود مع رعاية الاختصار. ثم شرع في تتميم المثل قائلاً ) فأما الزبد فيذهب جفاء ( نصب على الحال وهو اسم لما ينفيه السيل. يقال : جفأ الوادي بالهمزة جفأ إذا رمى بالقذر والزبد ، وكذلك القدر إذا رمت بزبدها عند الغليان ) وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ( حاصل المثل أن الوادي إذا جرى طفتا عليه زبد وذلك الزبد يبطل ويبقى الماء النافع في العيون والآبار والأنهار ، وكذا الأجساد المتطرقة إذا أذيبت لأجل اتخاذ الحلي أو سائر الأمتعة انفصل عنها خبث وزبد فيبطل ويتلاشى ويبقى ذلك الجوهر المنتفع به أزمنة متطاولة. وتطبيق المثال على الحق والباطل أنه سبحانه أنزل من سماء الوحي ماء بيان القرآن فسالت أودية القلوب بقدرها فإن كل قلب إنما يحصل فيه من أنوار علم القرآن ما يليق بذلك القلب على قدر استعداده. ثم إنه يختلط بذلك البيان شكوك وشبهات ولكنها بالآخرة تضمحل ويبقى العلم واليقين ، فزبد السيل والفلز مثل للباطل في سرعة اضمحلاله وانسلاخه من المنفعة ، والماء والفلز الصافي مثل للح قفي البقاء والانتفاع به. ثم ذكر أحوال السعداء وتبعات الأشقياء فقال ) للذين استجابوا لربهم ( أي فيما دعاهم إليه من التوحيد والنبوة والتكاليف ) الحسنى ( أي المثوبة الحسنى وهي الجنة ) والذين لم يستجيبوا له ( مبتدأ آخر خبره الجملة الشرطية بعده. وقيل : إن الكلام متصل بما قبله أي يضرب الله الأمثال لهذين الفريقين. وقوله : ( الحسنى ( صفة لمصدر استجابوا أي الاستجابة الحسنى. وقوله : ( لو أن لهم ( كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين ومن ذلك قوله ) أولئك لهم سوء الحساب ( قال الزجاج : لأن كفرهم أحبط أعمالهم. وقال غيره : سوء الحساب المناقشة فيه. وعن النخعي : هو أن يحاسب الرجال بذنبه كله لا يغفر منه شيء. وقال الحكماء : هو ظهور آثار الملكات الردية والهيئات الذميمة على النفس ولم يكن قبل ذلك له شعور بها لاشتغاله بعالم الحس. ) ومأواهم جهنم ( لأنهم أقبلوا على النيا وأعرضوا عن المولى فلا جرم إذا ماتوا فارقوا معشوقهم فأورثهم الحرمان والخسران والاحتراق بنار الفراق. ثم أنكر بعد هذه البيانات أن يسوّى بين الناقد والبصير والجاهل الضرير فقال ) أفمن يعلم أنما ( أي أن الذي ) أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ( القلب ) إنما يتذكر ( أي لا ينتفع بالأمثال إلا ) أولوا الألباب ( الذي يعبرون من القشر إلى الباب. ثم وصفهم بقوله : ( الذين يوفون بعهد الله ( ويجوز أن يكون نصباً على الندح وأن يكون مبتدأ خبره ) أولئك ( أما عهد الله فعن ابن عباس : هو المذكور في(4/152)
" صفحة رقم 153 "
قوله : ( وإذا أخذ ربك من بني آدم ) [ الأعراف : 172 ] وقيل : هو كل ما قام عليه دليل عقلي أو سمعي من الأفعال والتروك ولا عهد أوكد من الحجة بدليل أ من حلف على الشيء فإنما يلزمه الوفاء به إذا ثبت بالدليل جوازه ) ولا ينقضون الميثاق ( تأكيد للوفاء بالعهد بعبارة أخرى تلزم الأولى كقولك : لما وجب وجوده لزم أن يمتنع عدمه. وقيل : الوفاء بعهد الله إشارة إلى ما كلف الله العبد به ابتداء ، وعدم نقض الميثاق أراد به ما التزمه العبد بالنذر. وقيل : الوفاء بالعهد عهد الربوبية والعبودية والميثاق أعم لشموله كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله ومن سائر المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد ، والوفاء بالعهد أمر مستحسن في العقول والشرائع كلها قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من عاهد الله فغدر كانت فيه خصلة من النفاق ) ) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ( إفراد لما بينه وبين العباد بالذكر فقيل : المراد صلة الرحم. وقيل : هو مؤازة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعاونته ونصرته في الجهاد. وقيل : رعاية جميع حقوق الناس بالشفقة عليهم والنصيحة في كل حال وكل حين ومن ذلك عيادة المريض وشهو دالجنائز ومراعاة الرفقاء والجيران والخدم ومن يطيف به حتى الهرة والدجاج ) ويخشون ربهم ( وإن أتوا بكل ما قدروا عليه في باب التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله خوفاً من وعيده كله ) ويخافون ( خصوصاً ) سوء الحساب ( ويلزم ذلك أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا. وقيل : الخشية نوعان : خشية الجلال كالعبد إذا حضر بين يدي السلطان ومن ذلك خشية الملائكة ) يخافون ربهم من فوقهم ( ) النحل : 50 ] وإلى هذا أشار بقوله : ( ويخشون ربهم ( وخشية أن يقع في العبادة خلل أو نقص يوجب فسادها أو نقصان ثوابها. وإليه الإشارة بقوله : ( ويخافون سوء الحساب ( ) والذين صبروا ( عن المعاصي وعلى الطاعات وعلى المصائب ) ابتغاء وجه ربهم ( لا لأجل أن يقال ما أورعه وما أزعهد وما أصبره وغير ذلك من الأغراض الفاسدة ، وإنما يصبر على التكاليف لأنها أحكام المعبود الحق ويصبر على الرزايا لأنها قسمة قسام متصرف في ملكه كيف يشاء ، أو لأنه مشغول بالمقدر والقاضي لا بالقدر والقضاء وقد يرضى العاشق بالضرب والإيلام لالتذاذه بالنظر إلى وجه معشوقه فهكذا العارف يصبر على البلايا والمحن لاستغراقه في بحر العرفان وفيضان أنوار المعروف عليه. ) وأقاموا(4/153)
" صفحة رقم 154 "
الصلاة ( ولا يمتنع دخول النوافل فيها لقوله : ( ما زال العبد يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحببته ). ) وأنفقوا مما رزقناهم سر وعلانية ( يتناول النفل لأنه في السر أفضل ، والفرض لأنه في الجهر أفضل كما مر في أواخر سورة البقرة ) ويدرءُون بالحسنة السيئة ( أي يدفعون بالتوبة وهي الخصلة الحسنة المعصية. قال ( صلى الله عليه وسلم ) لمعاذ بن جبل ( إذا عملت سيئة فاعلم بجنبها حسنة تمحها ) وقيل لا يقابلون الشر بالشر وإنما يقابلونه بالخير كما روي عن الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن عباس : يدفعون بالحسن من الكلام ما ير عليهم من سيىء غيرهم. يروى أن شقيق بن إبراهيم البلخي دخل على عبد الله بن المبارك متفكراً فقال : من أين أتيت ؟ قال : من بلخ. فقال : وهل تعرف شقيقاً ؟ فقال : نعم. فقال : كيف طريقة أصحابه ؟ فقال : إذا منعوا صبروا وإذا أعطوا شكروا فقال عبد الله : هكذا طريقة كلابنا ، وإنما الكاملون الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا. وقيل مراد الآية أنهم إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره ) أولئك لهم عقبى الدار ( عاقبة الدنيا وهي الجنة التي أرادها الله تعالى أن تكون مرجع أهلها. والعقبى مصدر كالعاقبة ومثله البشرى والقربى ، ويجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل والمعنى أولئك لهم أن يعقب أعمالهم الدار التي هي الجنة. ومعنى ) جنات عدن ( تقدم في سورة براءة ) ومن صلح ( معطوف على فاعل ) يدخلونها ( ويجوز أن يكون مفعولاً معه. قال ابن عباس : يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعمل مثل أعمالهم. وقال الزجاج : بين أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة. قال الواحدي : والأول أصح لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة فلو دخلوهم بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ، ويمكن أن يوجه قول الزجاج بأن المقصود بشارة المؤمن بأن أهل الصلاح من أصوله وفصوله وأزواجه يجتمعون به في دار الثواب فقد يمكن أن يكون جميعاً في الجنة ولا يجتمعون في موضع. ولقائل أن يقول : الدخول أعم من الاجتماع ولا دلالة للعام على الخاص فصح اعتراض الواحدي. والأول أصح لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة فلو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ، ويمكن أن يوجه قول الزجاج والآباء جميع أبوي كل واحد منهم فكأنه قيل : من آبائهم وأمهاتهم. وليس في الآية ما يدل على التمييز بين زوجه وزوجة ولعل من مات عنها أو ماتت عنه ويؤيده ما روي عن سودة أنه لما هم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بطلاقها قالت : دعني يا رسول الله أحشر في زمرة نسائك .(4/154)
" صفحة رقم 155 "
قال ابن عباس : لهم خيمة من درة مجوّفة فرسخ وعرضها فرسخ لها أبواب مصاريعها من ذهب يدخل عليهم الملائكة من كل باب يقولون لهم عليكم بما صبرتم على أمر الله. وقال أبو بكر الأصم : من كل باب من أبوب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ويقولون : نعم ما أعقبكم الله بعد الدار الأولى. وهذا يناسب قول حكماء الإسلام إن لكل مرتبة من مراتب الكمالات جوهراً قدسياً وروحاً علوياً يختص بتلك الصفة ، فبعد المفارقة يفيض على النفس الكاملة من ملك الصبر كما مخصوص ، ومن ملك الشكر كذلك وعلى هذا القياس. وقد يتسدل بالآية على أن الملك أفضل من البشر وإلا فلم يكن دخولهم على المؤمنين موجباً لتحيتهم وإكرامهم. ويمكن أن يجاب بأن وجه التكريم هو مجيئهم بإذن الله ومن عنده لا مجرد المجيء : والباء في قوله : ( بما صبرتم ( يتعلق بالسلام. والمعنى إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم على الطاعات وعن المحرمات. وقيل : يتعلق بمحذوف أي هذا الثواب بسبب صبركم أو بدل صبركم. وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. ثم أتبع أحوال السعداء أحوال الأشقياء وقد مر تفسيره في أوّل ( البقرة ) على أن الضد قد يعلم من الضد بسهولة وقد مر آنفاً. وقوله : ( سوء الدار ( في مقابلة ) عقبى الدار ( كأن العاقبة لا تطلق إلا على العاقبة الحميدة كقوله ) والعاقبة للمتقين ) [ الأعراف : 128 ] لأن غير الحميدة ل تستأهل لأن تكون عاقبة. وقال في الكشاف : المراد سوء عاقبة الدنيا ولا حاجة إلى هذا ا لإضمار بناء على ما قلنا. قال : ويجوز أن يراد بالدار جهنم وبسوئها عذابها ذكر أهل النظم أنه لما بين سوء حال الناقصين كان لقائل أن يقول : فما بالهم قد فتح الله عليهم أبواب الرزق في الدنيا فأجاب بقوله : ( الله يبسط الرزق ( والمراد أن الدنيا دار امتحان لا دار جزاء ، فقد يتفق أن يكون الجاهل الكافر خليّ البال والعالم المؤمن رديّ الحال ولا تعلق لهذا المعنى بالكفر والإيما ، ز والتركيب للحصر أي هو وحده يوسع الرزق على من يشاء كأهل مكة و ) يقدر ( أي يضيق ومعناه أنه يعطيه بقدر الضرورة وسد الرمق لا يفضل منه شيء ) وفرحوا ( يعني أهل مكة وأضرابهم بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح تحدث بنعمة الله وإظهاراً لفضله عليهم ) وما الحياة الدنيا ( ونعيمها في جنب نعيم الآخرة ) إلا متاع ( شيء نزر يتمتع به أياماً قلائل ثم بعد ذلك حسرات لا نهاية لها ، ومثل هذا لا يوجب الفرح بل لا يجوّزه. ثم حكى نوعاً آخر من قبائح الكفرة فقال : ( ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه ( وقد مر مثله في هذه السورة وذكرنا أنه ليس بتكرار(4/155)
" صفحة رقم 156 "
محض إلا أن قوله في جوابهم ) قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ( أقبل على الحق وحقيقته دخل في نوبة الخير فيه غموض. وأجيب بأنه يجري مجرى التعجب كأنه قيل : ما أعظم عنادكم بعدما أنزل من الآيات الباهرة أن الإضلال والهداية من الله ، أو المراد لا تشتغلوا بطلب الآيات ولكن تضرعوا إلى الله في طلب الهداية فإن الذي أضله الله يرى الآية سحراً ، والذي هداه يراها معجزة. وقال الجبائي : المعنى إن الله يضل من يشاء عن طريق الصواب ويهدي إليه أقواماً آخرين فلولا أنكم تستحقون العقاب لهداكم لهداكم إلى الصواب بإنزال ما اقترحتموه. وقيل : المراد أنه تعالى أنزل آيات ظاهرة ولكن الإضلال والهداية من الله فلو شاء لهداكم فلا فائدة في تكثير المعجزات ) الذين آمنوا ( بدل ممن أناب ) وتطمئن قلوبهم ( عن ابن عباس : يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت. والاطمئنان بآيات الوعد لا ينافي الوجل من آيات الوعيد حيث قال ) إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) [ الأنفال : 2 ] أو المراد أن علمهم بكون القرآن معجزاً يوجب حصول الطمأنينة لهم بأنه سبحانه واحد لا شريك له صادق في وعده وعيده وبأن محمداً نبي حق ) ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( التحقيق فيه أن الإنسان متوسط الرتبة بين عالم الأرواح وعالم الأجساد ، فإذا توجه إلى عالم الجسد اشتاق إلى التصرف فيه فيظهر له هناك أمور ضرورية في التعيش أدونها ليس بأهون من خرط القتاد فيتوزع فكره وتضطرب أحواله ، أما إذا توجه إلى عالم الروح فإنه يزول الاضطراب ويتوحد المطلب ويحصل الاستغراق في بحر العرفان والاستنارة بنور الإيقان ، ومن وقع في لجة البحر لا يبالي أين وقع : أنا الغريف فما خوفي من البلل وقيل : إن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على النحاس انقلب ذهباً صافياً باقياً على كر الدهور ، فإكسير جلال الله إذا وقع في القلب السليم كيف لا يقلبه جوهراً صافياً نورانياً آمناً من التغير والزوال ) الذين آمنوا ( مبتدأ خبره ) طوبى لهم ( وجوّز في الكشاف أن يكون بدلاً على حذف المضاف أي قلوب الذين آمنوا. و ) طوبى ( مصدر من طاب يطيب كبشرى وواو منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها واللام للبيان مثل ( سقيا لك ). والمعنى طيب لهم على الدعاء أو الخبر. عن ابن عباس : فرح وقرة عين. الضحاك : غبطة لهم. قتادة. أن أطيب الأشياء في كل الأمور حاصل لهم. وقيل : طوبى شجرة في الجنة. حكى الأصم أن أصلها في دار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي دار كل مؤمن منها غصن. روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( طوبى شجرة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور(4/156)
" صفحة رقم 157 "
الجنة ) وعن بعضهم أن طوبى هي الجنة بالحبشية والمآب المرجع. التأويل : ( هو الذي يريكم ( برق أنوار الجلال فيغلب عليكم خوف الانقطاع واليأس ، ويريكم برق أضواء الجمال فيغلب عليكم طمع الوصل ورجاء الاستئناس ) وينشىء السحاب ( النوال والأفضال ) الثقال ( بمطر القبول والإقبال ) ويسبح الرعد ( وهو الملك المخلوق من نور الهيبة والجلال فتع الهيبة في قلوب الخلق كلهم حتى الملائكة فيسبحون من خيفته ، ويرسل صواعق القهر ) فيصيب بها من يشاء ( من أهل الخذلان فيحرق حسن استعدادهم في قبول الإيمان. ومن نتائج ذلك أنهم يجادلون في ذات الله وفي صفاته كالفلاسفة الذين لا يتابعون الأنبياء والشرئع ، وكبعض المتكلمين من أهل الأهواء والبدع ) له دعوة الحق ( أي دعوته حق لمن دعاه فيستجيبه كما قالت السموات والأرض أتينا طائعين له دعاة يدعون الخلق بالحق إلى الحق ) والذين يدعون من دونه ( أي بغير الحق ) لا يستجيبون لهم بشيء ( إذ لا يؤثر في الخلق نصحهم كمن يبسط يده إلى الماء إراءة إلى الحق أنه يريد شربه ) وما هو ببالغه ( فلا يستجابون على الحقيقة وإن استجيبوا في الظاهر لأنهم استجابوا لهم على الهوى كما دعوا إلى الحق بالهوى يدل عليه قوله : ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ولله يسجد من في السموات والأرض ( من الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء والصلحاء ) طوعاً ( ومن أرواح الكافرين والمنافقين والشياطين ) كرهاً ( بالتذليل والتسخير تحت الأحكام والتقدير ) وظلالهم ( أي نفوسهم فإن النفوس ظلال الأرواح ، وليس السجود ن شأنها لأنها أمارة بالسوء إلا ما رحم الرب لإإنها تسجد بتبعية الروح. معنى آخر : ولله يسجد من في سموات القلوب من صفات القلوب والأرواح والعقول ، طوعاً ومن في أرض النفوس من صفات النفس والقوى الحيوانية والسبعية والشيطانية كرهاً ، وظلالهم وهي آثارهم ونتائجها. آخر : ولله يسجد الأرواح في الحقيقة وظلالهم وهي أجسادهم بالتبعية ، وهذا السجود بمعنى وضع الجبهة ، وخص الوقتان بالذكر لأن آثار القدرة فيهما أكثر ، وإن أريد الانقياد والتسخير احتمل أن يراد بالوقتين وقتا الانتباه والنوم ، ففي الأول تطلع شمس الروح من أفق الجسد ، وفي الثاني تغرب فيه أنزل من سماء القلوب ماء المحبة. ) فسالت أودية ( النفوس ) فاحتمل السيل زبداً رابياً ( من الأخلاق الذميمة النفسانية والحيوانية ، أو أنزل من سماء الأرواح ماء مشاهدة أنواع الجمال ) فسالت أودية ( القلوب ) فاحتمل السيل زبداً رابياً ( من الأوصاف البشرية ، أو أنزل من سماء الأسرار ماء كشوف الجمال ) فسالت أودية ( الأرواح ) فاحتمل السيل زبداً رابياً ( من أناية الروحانية ، أو أنزل من سماء الجبروت ماء تجلي صفات(4/157)
" صفحة رقم 158 "
الألوهية ) فسالت أودية ( الأسرار بقدرها ) فاحتمل السيل ( زبد الوجود المجازي ) ومما توقدون عليه ( من البقاء في نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فلا تبقي ولا تذر وهي التذكية بالفناء ) ابتغاء حلية ( وهي التحلية بالبقاء الحقيقي ) أو متاع ( وهو التمتع به ) زبد مثله ( مثل زبد البشرية وهو زبد المعرفة والتوحيد ) فأما الزبد ( في الأحوال كلها ) فيذهب جفاء ( بالفناء ) وأما ما ينفع الناس ( من البقاء بالله ) فيمكث في ( أرض الوحدة المستعدة لقبول الفيض الإلهي. ) للذين استجابوا لربهم الحسنى ( وهي العناية الأزلية التي الاستجابة من نتائجها كقوله : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ) [ الأنبياء : 101 ] ( والذين لم يستجيبوا له ( حين دعاهم للوصول والوصال لو حصل لهم ما في الأرض البشرية من أنواع اللذات والحظوظ وأضعافها لجعلوه فداء ألم عذاب القطيعة ) وأنفقوا مما رزقناهم ( أي انفصلوا عما سواه ليتصلوا به ) سراً ( بالانقطاع عما يشغل بواطنهم ) وعلانية ( بالانفصال عما يشغل ظاهرهم ) ويدرءُون ( بالأعمال والأحوال الحسنة في صدق الطلب الأحوال السيئة من الوقائع والفترات ) والملائكة يدخلون عليهم ( تبركاً وتيمناً بهم تبعاً لهم من كل باب دخلوه بالاستقلال على أقدام السير بالله إلى اله ) سلام عليكم بما صبرتم ( عن غير الله وعلى صدق الطلب ) ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( القلوب أربعة : قلب قاس كقلوب الكفار والمنافقين فاطمئنانه بالدنيا وشهواتها رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، وقلب ناس وهو قلب المسلم المذنب كقوله : ( فسي ولم نجد له عزماً ) [ طه : 115 ] فاطمئنانه ) بالتوبة فتاب عليه وهدى ، وقلب مشتاق وهو قلب المؤمن فاطمئنانه بذكر الله كما في الآية. وقلب وحداني وهو قلب الأنبياء وخواص الأولياء فاطمئنانه بالله وصفاته كقول الخليل ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولكن ليطمئن قلبي ) [ البقرة : 260 ] أي نفسه فتصير مطمئنة أيضاً فيستحق بجذبات العناية لخطاب ) ارجعي ) [ الفجر : 28 ] ثم أشار إلى أنّ الاطمئنان ثمرة غرس شجرة الإيمان والعمل الصالح في أرض القلب فقال : ( الذين آمنوا ( الآية. فالإشارة بطوبى إلى حقيقة شجرة ( لا إله إلا الله ) مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ولم يكن إلا في قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبتبعيته في قلوب المؤمنين ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( طوبى شجرة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة ) فافهم. ( الرعد : ( 30 - 43 ) كذلك أرسلناك في . . . .
" كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو(4/158)
" صفحة رقم 159 "
يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب "
( القراآت )
متابي ( و ) عقابي ( و ) مآبي ( بالياء في الحالين : يعقوب والسرنديبي عن قنبل وافق سهل وعباس في الوصل ) بل زين ( ونحوه بالإدغام : علي وهشام ) وصدوا ( بضم الصاد وكذا في ( حم المؤمن ) : عاصم وحمزة وعلي وخلف ويعقوب. الباقون بفتحها. ) ويثبت ( مخففاً من الإثبات : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم. الآخرون بالتشديد من التثبيت ) الكافر لمن ( على التوحيد : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. الباقون ) الكفار ( على الجمع. الوقوف : ( بالرحمن ( ط ) إلا هو ( ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل : ( متاب ( ه ) الموتى ( ط لأن جواب ( لو ) محذوف أي لكان هذا القرآن. ) جميعاً ( ط في الموضعين ) وعد الله ( ط ) الميعاد ( ه ) أخذتهم ( ج للاستفهام مع الفاء ) عقاب ( ه ) بما كسبت ( ج لحق الخبر المحذوف التقدير كمن ينفع ولا يضر ، ولأن قوله : ( وجعلوا ( يصلح استئنافاً أو حالاً بإضمار ( قد ) ) شركاء ( ط ) سموهم ( ط لحق الاستفهام ) من القول ((4/159)
" صفحة رقم 160 "
ط ) عن السبيل ( ه ) هاد ( ه ) أشق ( ج لاتفاق الجملتين مع النفي في الثانية ) واق ( ه ) المتقون ( ه ط لأن التقدير فما يتلى عليك مثل الجنة وللوصول وجه يذكر في التفسير. ) الأنهار ( ط ) وظلها ( ط ) اتقوا ( ق قد قيل : والوصل أجوز لأن الجميع بين بيان الحالين أدل على الانتباه ) النار ( ه ) بعضه ( ط ) ولا أشرك به ( ط ) مآب ( ه ) عربياً ( ط ) العلم ( لا لأن ما بعده جواب. ) واق ( ه ) وذرية ( ط ) بإذن الله ( ط ) كتاب ( ه ) ويثبت ( ج والوصل أجوز لتمام مقصود الكلام ) الكتاب ( ه ) الحساب ( ه ) طرافها ( ط ) لحكمه ( ط ) الحساب ( ه ) جميعاً ( ط ) كل نفس ( ط ) الدار ( ه ) مرسلاً ( ط ) وبينكم ( ط للعطف ) الكتاب ( ه. التفسير : عن ابن عباس والحسن ) أرسلناك ( كما أرسلنا الأنبياء قبلك ) في أمة قد خلت من قبلها أمم ( وقال آخرون : معنى التشبيه كما أرسلنا إلى أمم وآتيناهم كتباً تتلى عليهم كذلك آتيناك هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم فلم اقترحوا غيره ؟ وقال في الكشاف : معناه مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني أرسلناك إرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات. ثم فسر كيف أرسله فقال : ( في أمة قد خلت من قبلها أمم ( كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء. ثم ذكر مقصود الإرسال فقال ) لتتلو ( أي لتقرأ ) عليهم ( الكتاب العظيم ) الذي أوحينا إليك وهم يكفرون ( وحال هؤلاء أنهم يكفرون ) بالرحمن ( للمفسيرين خلاف في تخصيص لفظ الرحمن بالمقام فقال جار الله : المراد كفرهم بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء وما بهم من نعمة فمنه ، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال مثل هذا القرآن المعجز المصدق لسائر الكتب عليهم. وعن ابن عباس في رواية الضحاك : نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : اسجدوا للرحمن فقالوا وما الرحمن ؟ فقيل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل ( لهم إن الرحمن الذين أنكرتم معرفته ) هو ربي لا إله إلا هو ( الواحد القهار المتعالي عن الشركاء. ) عليه توكلت ( في نصرتي عليكم ) وإليه متاب ( رجوعي فيثيبني على مصابرتكم. وقيل : نزلت في صلح الحديبية حين أرادوا كتاب الصلح فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي عليه السلام : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل بن عمرو والمشركون : ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة - يعنون مسيلمة الكذاب - اكتب باسمك اللَّهم وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون. فأنزل الله الآية. فعلى هاتين الروايتين كان الذم متوجهاً على كفرهم بإطلاق هذا الاسم على غير الله تعالى لا على جحودهم أو إِشراكهم. روي أن أهل مكة قعدوا في فناء الكعبة فأتاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعرض عليهم الإسلام فقال له رؤساؤهم - كأبي جهل وعبد الله بن أمية المخزومي - سير(4/160)
" صفحة رقم 161 "
لنا جبال مكة حتى ينفسح المكان علينا واجعل لنا فيها أنهاراً نزرع فيها ، وأحي لنا بعض أمواتنا لنسألهم أحق ما تقوله أم باطل فقد كان عيسى يحيى الموتى ، أو سخر لنا الريح حتى نركبها ونسير في البلاد فقد كانت الريح مسخرة لسليمان ولست بأهون على ربك منه فنزل قوله : ( ولو أن قرآناً سيرت به الجبال ( عن مقارها وأزيلت عن مراكزها ) أو قطعت به الأرض ( أي وقع به السير في البلاد فوق المعتاد شبه طي الأرض أو شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً ) أو كلم به الموتى ( بعد إحيائهم به لكن هذا القرآن. قال الراوي : لما سري عن رسول الله عليه وسلم بعد نزول هذا الوحي قال : والذي نفسي بيده لقد أعطاني ما سألتم ولو شئت لكان ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم ثم إن كفرتم يعذبكم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين فاخترت باب الرحمة. وقال الزجاج : معناه ولو أن قرآناً وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض. وتكليم الموتى أي تنبيههم لما آمنوا به كقوله : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ) [ الأنعام : 111 ] الآية. وقال في الكشاف : هذه الآية لبيان تعظيم شأن القرآن. ومعنى تقطيع الأرض تصدعها كقوله ) ولو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً ) [ الحشر : 21 ] ونقل في الشكشاف عن الفراء أن الآية تتعلق بما قبلها والمعنى وهم يكفرون بالرحمن. وبمدلول عليهم ) بل لله الأمر جميعاً ( قال أهل السنة : يعني إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا اعتراض لأحد عليه. وقالت المعتزلة : له القدرة على الآيات التي اقترحتموها إلا أن علمه بأن إظهار مفسدة يصرفه ، أوله أن يلجئهم إلى الإيمان إلا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار. قالوا : ويعضده قوله : ( أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله ( مشيئة الإلجاء ) لهدى الناس جميعاً ( أولو يشاء لهداهم إلى الجنة ، أو المراد نفي العموم لا عموم النفي وذلك أنه ما شاء هداية الأطفال والمجانين. أجاب أهل السنة بأن كل هذا خلاف الظاهر. ومعنى ) أفلم ييأس ( أفلم يعلم. وهذا لغة قوم من النخع. وقال الزجاج : إنه مجاز لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون نظيره استعمال الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في معنى الترك لتضمنهما إيهما ، ويؤيده قراءة علي عليه السلام وابن عباس وجماعة ) أفلم يتبين ( وهو تفسير ) أفلم ييأس (. وقيل : إن قراءتهم أصل والمشهورة تصحيف وقع من جهة أن الكاتب كتبه مستوي السينات. وهذا القول سخيف جداً والظن بأولئك الثقات الحفظة غير ذلك ولهذا قال في الكشاف : هذه والله فرية ما فيها مرية. وجوز أن يتعلق ) أن لو يشاء ( ب ) آمنوا ( معناه أفلم يقنط من إيمان هؤلاء الكفرة الذين(4/161)
" صفحة رقم 162 "
آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً. ثم أوعد الكافرين بقوله : ( ولا يزال الذين كفروا ( يعني عامة الكفار ) تصيبهم بما صنعوا ( كفرهم وسوء أعمالهم ) قارعة ( داهية تقرعهم من السبي والقتل ) أو تحل ( القارعة ) قريباً من دراهم ( فيتطاير إليهم شررها. ) حتى يأتي وعد الله ( وهو إسلامهم أو متهم أو القيامة. وقيل : خاصة في أهل مكة ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يزال يبعث السايا حول مكة فتغير عليهم وتخطف منهم ، وعلى هذا احتمل أن يكون قوله : ( أو تحل ( خطاباً أي تحل أنت يا محد قريباً من دراهم بجيشك كما في يوم الحديبية حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة ، وكان قد وعده الله الفتح عموماً وخصوصاً وكان كما وعد وكان معجزاً ) إن الله لا يخلف الميعاد ( قد مر البحث في أول سورة آل عمران ثم ازداد في الوعيد فقال : ( ولقد استهزىء ( الآية. والإملاء الإمهال وقد مر هناك. والاستفهام في قوله : ( فكيف كان عقاب ( للتقرير والتهديد. ثم أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج والتوبيخ والتعجب من عقولهم فقال : ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ( ومعنى القائم الحفيظ والرقيب أي الله العالم بكل المعلومات القادر على كل الممكنات كمن ليس كذلك. وجوز في الكشاف أن يقدر الخبر بحيث يمكن عطف وجعلوا عليه التقدير : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه وجعلوا له شركاء فيكون قوله : ( لله ) من وضع الظاهر مقام الضمير ، وذكر السيد صاحب حل القعد أنه يجوز أن يجعل الواو في قوله : ( وجلعوا لله ( للحال ويضمر للمبتدأ خبر يكون المبتدأ معه جملة مقررة لإنكار ما يقارنها من الحال والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس موجود والحال أنهم جعلوا له ) شركاء ( فأقيم الظاهر مقام المضمر كما قلنا تقريراً للإلهية وتصريحاً بها وإنه هو الذي يستحق العبادة وحده وهذا كما تقول معطي الناس ومغنيهم موجود يحرم مثلي. ثم زاد في المحاجة فقال : ( قل سموهم ( أي جعلتم له شركاء فسموهم له من هم وأنبئوه بأسمائهم. وإنما يقال ذلك في الشيء المستحقر الذي لا يستحق أن يلتفت إليه فيقال : سمه إن شئت يعني أنه أخس من أن يسمى ويذكر ، ولكنك إن شئت أن تضع له اسماً فافعل. وقيل : المراد سموهم بالآلهة على سبيل التهديد. قال في الشكاف : ( أم ) في قوله ) أم تنبئونه ( منقطعة كقولك للرجل قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف. أقول : وذلك لأنه لا شيء محض إذ لو كان الشريك موجوداً وهو أرضيّ لتعلق به علم العالم بالذات المحيط بجميع السفليات ونحوه ) قل أتنبئون الله بما لا يعلم ) [ يونس : 18 ] وقد مر في أول ( يونس ). ثم أكد هذا المعنى بقوله : ( أم بظاهر من القول ( أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من الكلام من غير أن يكون له حقيقة(4/162)
" صفحة رقم 163 "
كقوله : ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها ) [ يوسف : 40 ] وهذا الاحتجاج من أعاجيب الأساليب التي اختص بها القرآن الكريم المعجز فللَّه در شأن التنزيل. ثم بين سوء طريقتهم فقال : ( بل للذين كفروا مكرهم ( قال الواحدي : معنى ( بل ) ههنا كما يقال دع ذكر الدليل فإنه لا فائدة فيه إنه كذا وكذا. والكلام في أن المزين هو الله تعالى أو غيره قد مر في أول سورة آل عمران ، وكذا البحث فيمن قرأ ) وصدوا ( بضم الصاد ، وأما من قرأ بالفتح فيحتمل أن يكون لازماً أي أعرضوا عنه ، ويحتمل أن يكون متعدياً أي صرفوا غيرهم ، والخلاف في قوله : ( ومن يضلل الله ( تقدم في مواضع منها آخر الأعراف ثم عاد إلى الإيعاد فقال : ( لهم عذاب في الحياة الدنيا ( من القتل والقتال واللعن والذم لا المصائب والأمراض لأنها قد تصيب المؤمنين أيضاً ، ولأنها مأمور بالصبر عليها والعقاب لا يكون كذلك ) ولعذاب الآخرة أشق ( لأنه أشد وأدوم ) وما لهم من الله ( أي من عذابه ) من واق ( من حافظ أو ما لهم من جهة الهل واق أي دافع ومانع من رحمته بل إنما يمنع رحمته منهم باختياره وحكمه. ثم عقب الوعيد فقال : ( مثل الجنة ( وتقديره عند سيبويه فيما قصصنا عليكم في الجنة. وقال غيره : الخبر ) تجري ( كما تقول صفة زيد أسم. وقال الزجاج : إنه تمثيل للغائب بالشاه ومعناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار. وقيل : إن فائدة الخبر ترجع إلى قوله : ( أكلها دائم ( كأنه قال مثل الجنة ) التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار ( كما تعلمون من حال جناتكم إلا أن هذه ) أكلها دائم ( كقوله : ( لا مقطوعة ولا ممنوعة ) [ الواقعة : 33 ] ( وظلها ( دائم أيضاً. والمراد أنه لا حر هناك ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة ، وقد مر هذا البحث في سورة النساء في قوله : ( وندخله ظلاً ظليلاً ) [ الآية : 57 ] قيل : في الآية دلالة على أن حركات الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم كما يقوله أبو الهذيل وأتباعه. قال القاضي : وفيها دليل على أن الجنة لم تخلق بعد وإلا انقطع أكلها لقوله تعالى : ( كل من عليها فان ) [ الرحمن : 26 ] ، ) كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] قال : ولم ننكر أن تحصل الآن في السموات جنات تتمتع بها الملائكة ومن يعد حياً من الأنبياء والشهداء وغيرهم إلا أن جنة الخلد خاصة إنما تخلق بعد الإعادة. وأجيب بأننا نخصص عموم كل شيء هالك بالدليل الدال على أن الجنة مخلوقة وهو قوله : ( أعدت للمتقين ) [ آل عمران : 133 ]. ثم ذكر عقائد الفرق في شأن القرآن المتلو فقال : ( والذين آتيناهم الكتاب ( قيل : أراد بالكتاب القرآن يعني أن المسلمين ) يفرحون بما أنزل إليك ( من الشرائع والعلوم ) ومن الأحزاب ( الجماعات من اليهود والنصارى وغيرهم ) من ينكر بعضه ( لأنهم كانوا(4/163)
" صفحة رقم 164 "
لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام المطابقة لشرائعهم وعقائدهم. وإنما أنكروا ما يختص به الإسلام من نعت الرسول وغيره قاله الحسن وقتادة. واعترض عليه بأن أهل الإسلام فرحهم بنزول القرآن معلوم فلا فائدة في ذكره. ويمكن أن يقال : المراد زيادة الفرح والاستبشار بما فيه من العلوم والفاوئد وأنهم يتلقون نزول الوحي بالبشر والطلاقة لا بالتثاقل والجهالة. وقيل : الكتاب التوراة والإنجيل ، والمراد من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً : أربعون بنجران ، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة ، وثمانية أهل اليمن ، فرحوا بالقرآن لأنهم آمنوا به وصدقوه ، والأحزاب بقية أهل الكتاب والمشركون قاله ابن عباس. وقال مجاهد : أراد أن اليهود والنصارى كلهم يفرحون بما أنزل إليك لأنه مصدق لما معهم ، ومن سائر الكفرة من ينكر بعضه. واعترض بأنهم كلهم لا يفرحون بكل ما أنزل رسولنا. وقوله : ( بما أنزل ( يفيد العموم. وأجيب بالنع من أن ما يفيد العموم لصحة الاستثناء ولصحة إدخال كل عليه ولا تكرير وإدخال بعض ولا نقص. ثم لما بين عقائد الفرق أمر نبيه بأن يصرح بطريقته فقال : ( قال إنما أمرت أن أعبد الله ( ما أمرت إلا بعبادته وعدم الإشراك به ويندرج فيه جميع وظائف العبودية. ثم ذكر أنه مع كماله مكمل فقال : ( إليه أدعو ( خصه بالدعاء إلى عبوديته دون غيره كائناً ن كان. ثم ختم بذكر المعاد فقال : ( إليه أدعو ( لا مرجع لي إلا إليه. ومن تأمل في هذه الألفاظ عرف أنها مع قلتها مشتملة على حاصل علوم المبدأ والوسط والمعاد. ثم ذكر بعض فضائل القرآن وأوعد على الإعراض عن اتباعه فقال : ( وكذلك أنزلناه ( الضمير يعود إلى ما في قوله : ( بما أنزل إليك ( أو إلى القرآن في قوله : ( ولو أن قرآنا ( ووجه التشبيه كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم كذلك أنزلنا إليك هذا القرآن. وقال في الكشاف : معناه ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه والإنذار بدار الجزاء ) حكماً عربياً ( نصب على الحال أي حكمة مترجمة بلسان العرب. وقيل : سمي حكماً لأنه حكم على جميع المكلفين بقبوله والعمل به ، أو لأنه اشتمل على أصول الأحكام والشرائع فجعل نفس الحكم للمبالغة. روي أن الكفار كانوا يدعون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أمور ليوافقهم فيها منها : أن يصلي إلى قبلتهم بعدما حوله الله عنها فأوعد على ذلك. وعن ابن عباس : الخطاب له والمراد أمته وقد مر الوجوه في مثله في أوائل سورة البقرة. قال الكلبي : عيرت اليهود رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت : ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح. ولو كان نبياً كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء فأنزل الله تعالى : ( ولقد(4/164)
" صفحة رقم 165 "
أرسلنا ( الآية. وفيه أن الرسل كانوا من جنس البشر لا من جنس الملك وما كان لهم نقص من قبل الزوج والولاد فقد كان لسليمان ثلثمائة امرأة منكوحة وسبعمائة سرية ، ولداود مائة ، وذراري يعقوب أكثر من أن تحصى ، وكانوا يقترحون الآيات فأجاب الله تعالى عنه بقوله : ( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ( ولا بد لكل نبي من معجز واحد والزائد على ذلك بل أصل النبوة وتعيين المعجز الواحد مفوض إلى مشيئته سبحانه ولا حكم لأحد عليه ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخوفهم بنزول العذاب وظهور نصرة الإسلام وذويه فكانوا يكذبونه ويستبطئون موعده فأجيبوا بقوله : ( لكل أجل كتاب ( أي لكل وقت حكم مكتوب وحادث معين لا يتأخر ذلك الحكم والحادث عنه ولا يتقدم عليه. وقيل : هذا على القلب أي لكل مكتوب وقت معين. والتحقيق أنه لا حاجة إلى ارتكاب القلب لأن المعية تقتضي التلازم وكانوا ينكرون النسخ في الشرائع وفي التكاليف فنزل : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ( أي يثبته فاستغنى بالصريح عن الكناية. والمحو ذهاب أثر الكتابة ونحوها. وفي الآية قولان : الأول أنها عامة وأنه سبحانه يمحو من الرزق ويزيد فيه كذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود ، وقد رواه جابر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . والذاهبون إليه يدعون ويتضرعون إلى الله في أن يجعلهم سعداء إن كانوا أشقياء وهذا لا ينافي قوله : ( جف القلم ) لأن المحو والإثبات أيضاً من جملة ما قضى به. الثاني أنها خاصة في بعض الأشياء فقيل : أراد نسخ حكم وإثبات آخر مكانه وقد مر تمام البحث في النسخ في ( البقرة ) في قوله : ( ما ننسخ من آية ) [ الآية : 106 ] وقيل : يمحو من دويان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ويثبت غيره. واعترض الأصم عليه بأنه ينافي قوله تعالى ) ما لهذا الكتاب لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها ) [ الكهف : 49 ] وأجاب القاضي بأن المراد صغائر الذنوب وكبائرها. ورد بأن هذا اصطلاح المتكلمين والمفهوم اللغوي أعم فيتناول المباحات أيضاً. وقيل : يمحو بالتوبة ما يشاء من الكفر والمعاصي ويثبت بدلها الحسنة كقوله : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) [ الفرقان : 70 ]. وقيل : يثبت في أول السنة أحكام تلك السنة فإذا مضت السنة محيت ويثبت كتاب آخر للمستقبل. وقيل : يمحو نور القمر ويثبت نور الشمس أو يمحو الدنيا ويثبت الآخرة. أما قوله : ( وعنده أم الكتاب ( أي أصله فقيل : هو اللوح المحفوظ. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كان الله ولا(4/165)
" صفحة رقم 166 "
شيء ثم خلق اللوح المحفوظ وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى يوم القيامة ) فعلى هذا عند الله كتابان : أحدهما اللوح المحفوظ وإنه لا يتغير ، وثانيهما الذي تكتبه الملائكة على الخلق وهو محل المحو والإثبات. روى أبو الدرداء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن الله سبحانه في ثلاث ساعات بقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء (. وقيل : هو علم الله تعالى المتعلق بجميع الموجودات والمعلومات وإنه لا يتغير ولا يتبدل بتغير المتزمنات وتبدلها ، وقد مر تحقيقه في مواضع. ولما بين كيفية انطباق الحوادث على أوقاتها قال : ( وإما نرينك ( يعني كيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من العذاب أو توفيناك قبل ذلك ، فليس يجب عليك إلا التبليغ وما حسابهم وما جزاؤهم إلا علينا. والبلاغ بمعنى التبليغ كالسلام والكلام. ثم ذكر أن آثار حصول تلك المواعيد وأماراتها قد ظهرت وقربت وأن تباشير الظفر قد طلعت ولاحت فقال : ( أو لم يروا أنا نأتي الأرض ( يعني إتيان القهر والغلبة بدليل ) ننقصها من أطرافها ( والأرض أرض مكة كان المسلمون ينالون من أهاليها ونواحيها في البعوث. والسرايا والجيوش ، والآن صارت الأرض أعم وأشمل ولله الحمد على إعلاء شأن المسلمين زاده الله علواً ، فلا يزال ينقص شيء من ديار الكفر ويريد في بلاد الإسلام. ونقل عن ابن عباس أن المراد ينقص أطراف الأرض موت أشرافها وكبرائها وعلمائها. وصلحائها. قال الواحدي. الأليق بالمقام هو القول الأول. وقد يوجه الثاني بأنه أراد أنهم إذا شاهدوا هذه التغيرات فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله عليهم الأمر فيجعلهم أذلة مغلوبين بعد أن كانوا أعزة غالبين. ثم أكد هذا المعنى بقوله : ( والله يحكم ( ومحل ) لا معقب لحكمه ( نصب على الحال والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله وذلك أنه يعقبه بالرد والإبطال فكأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه. ) وهو سريع الحساب ( عن ابن عباس : هو سريع الانتقام فيعاقبهم في الدنيا ثم في الآخرة. ثم سلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله : ( وقد مكر الذين من قبلهم ( برسلهم كنمرود بإبراهيم وفرعون بموسى واليهود بعيسى. ) فللَّه المكر جميعاً (. قال الواحدي : لأن مكر جميع الماكرينبتخليقه وإرادته ولأنه لا يضر إلا بإذنه ولا يؤثر إلا بتقديره. وقالت المعتزلة : إنه جعل مكرهم كلامكر بالإضافة إلى مكره. وقيل : أراد فللَّهَ جزاء مكر الماكرين. قال الواحدي : والقول الأوّل أظهر بدليل قوله : ( يعلم ما تكسب كل نفس ( يريد أن أكسابها بأسرها معلومة لله تعالى وخلاف معلومه ممتنع الوقوع فلا يقدر العبد على خلاف معلومه. وناقضت المعتزلة بأنه أثبت لكل نفس كسباً فدل على أنه مقدور العبد. وأجيب بأن المقتضي للفعل عندنا هو مجموع القدرة(4/166)
" صفحة رقم 167 "
والداعي وهذا معنى قولهم الكسب حاصل للعبد. ثم ختم الآية بوعيد آخر إجمالي فقال : ( وسيعلم الكفار ( من قرأ على الجمع فظاهر ، ومن قرأ على الواحدة فالمراد الجنس. وعن ابن عباس أن المراد أبو جهل. وعن عطاء أراد المستهزئين وهم خمسة ، والمقتسمين وثم ثمانية وعشرون. ثم ذكر حاصل شبههم مع الجواب القاطع فقال : ( ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً ( والمراد من هذه الشهادة أنه أظهر المعجزات على وفق دعواه ولا شهادة أعلى من هذه الشهادة القولية منا لا تفيد إلا غلبة الظن وهذه تفيد القطع بصحة نبوته. ثم عطف على اسم الله قوله : ( ومن عنده علم الكتاب ( أي الذي حصل عنده علم القرآن وفهم معانية واشتماله على دلائل الإعجاز من النظم الأنيق والأسلوب العجيب الفائت لقوى البشر. فمن علم هذا الكتاب على هذا الوجه شهد بأنه معجز قاهر وأن الذي ظهر هذا المعجز عليه نبي حق ورسول صدق. وعن الحسن وسعيد بن جبير والزجاج : أن الكتاب هو اللوح والمحفوظ. والمعنى كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح المحفوظ إلا هو يعني الله جل وعلا شهيداً. ويعضده قراءة من قرأ ومن عنده على من الجارة. واعترض على هذا القول بأن عطف الصفة على الموصوف بعيد لا يقال : شهد بهذا زيد والفقيه ، وإنما يقال : زيد الفقيه. وقيل : المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا برسول الله كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري لأنهم يشهدون بنعمته في كتبهم. والاعتراض بأن إُبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع جواز الكذب على أمثالهما لكونهم غير معصومين لا يجوز. وقال الزجاج : الأشبه أن الله تعالى لا يستشهد على صحة حكمه بغيره. وعن الحسن : لا والله ما يعني إلا الله. وعن سعيد بن جبير أن السورة مكية وابن سلام وأصحابه آمنوا بالمدينة بعد الهجرة والله أعلم بمراده. التأويل : ( وهم يكفرون بالرحمن ( يعنى أن الصفة الرحمانية اقتضت إيجاد جميع الموجودات وإفاضة جميع النعم كما أن صفة القهارية كانت مقتضية للوحدة بأن لا يكون معه شيء ولا نعمة أجل من بعث الرسل ، ففيه صلاح حال الدارين لهم ، فإذا جحدوا الرسول فقد جحدوا الرحمن وهذا سبب تخصيص هذا الاسم بالمقام كقوله : ( إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً ) [ مريم : 93 ] ولذلك أمر بأن يقول في الجواب : ( هو ربي ( الذي رباني ) لا إله إلا هو ( لا يستحق العبادة إلا هو ولا أفوض أمري إلا إليه وإليه مرجعي كما كان منه مبدئي ) سيرت به ( جبال النفوس ) أو قطعت به ( أرض البشرية ) أو كلم به ( القلوب الميتة بتلاوته عليهم ) تصيبهم بما صنعوا ( من كفرهم(4/167)
" صفحة رقم 168 "
بالرحمن ) قارعة ( من الأحكام الأزلية تقرعهم في أنواع المعاملات التي تصدر عنهم موجبة للشقاوة ) أو تحل قريباً من دراهم ( قالبهم بأن تصدر تلك المعاملة ممن يصحبهم : عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ) حتى يأتي وعد الله ( يدرك الشقاء الأزلي. ومن أمارات الشقاوة الاستهزاء بالأنبياء والأولياء ) ثم أخذتهم ( أي أمسكتهم لئلا يرجعوا عن مقام الشقاوة ) لهم عذاب في الحياة الدنيا ( بالبعد والحجاب وعبودية النفس والهوى ) ولعذاب الآخرة ( بأنواع الحسرات والشعور بالهيئات والملكات الموجبة للدركات ) أكلها دائم ( هي مشاهدات الجمال ومكاشافات الجلال ) وظلها ( أي إنهم في ظل معاملاتهم وأحوالهم التابعة لشمس وجودهم على الدوام ) والذين آتيناهم الكتاب ( هم السر والروح والقلب الذين فهموا أسرار القرآن ) ومن الأحزاب ( النفس والهوى والقوى ) من ينكر بعضه ( لثقل التكليف عليهم وللجهل بفوائده ) ولئن اتبعت أهواء ( المخالفين بالشرك في الطلب ) من بعد ما جاءك من العلم ( وهو طلب الوحدانية ببذل الأنانية ) وجعلنا لهم أزواجاً وذرية ( فيه أن ارسل جذبتهم العناية في البداية فترقوا من حضيض الحيوانية إلى أوج الروحانية ثم إلى معارد النبوة والرسالة في النهاية قلم يبق فيهم من دواعي البشرية ما يزعجهم إلى طلب الأزواج بالطبيعة والركون إلأى الأولاد بخصائص الحيوانية بل رغبهم الله سبحانه في ذلك على وفق الشريعة بخصوصية الخلافة بإظهار صفة الخالقية ومثله ) وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام ) [ الأنبياء : 8 ] ( يمحوا الله ما يشاء ( لأهل السعادة من أفاعيل أهل الشقاوة ) ويثبت ( لهم من خصال أهل السعادة وبالعكس لأهل الشقاوة ) وعنده أم الكتاب ( الذي قدر فيه خاتمة كل من الفريقين ) وإما نرينك ( بالكشف بعض مقاماتهم كما أخبر عن العشرة المبشرة بأنهم في الجنة وعن غيرهم بأنه في النار. ) أنا نأتي الأرض ( أرض البشرية فتنقص منا بالزدياد في الأوصاف الروحانية .(4/168)
" صفحة رقم 169 "
سورة إبراهيم
سورة إبراهيم عليه السلام مكية غير آيتين نزلتا في بدر ) ألم تر إلى الذين بدلوا (
الآيتان حروفهما 3434 كلمها 855 آياتها اثنتان وخمسون بسم الله الرحمن الرحيم
( إبراهيم : ( 1 - 17 ) الر كتاب أنزلناه . . . .
" الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون(4/169)
" صفحة رقم 170 "
وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ "
( القراآت )
الله الذي ( بالرفع على الابتداء في الحالين : أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل ، وقرأ يعقوب والخزاعي عن ابن فليح بالرفع إذا ابتدأ وبالخفض إذا وصل. الباقون بالجر مطلقاً ) وعيدي ( بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل. الوقوف : ( الر ( قف كوفي ) الحميد ( ه ط لمن قرأ ) الله ( بالرفع. ) وما في الأرض ( ط ) شديد ( ه لا بناء على أن ) الذين ( صفة الكافرين ) عوجاً ( ط بناء على ما قلنا أو على أن ) الذين ( منصوب أو مرفوع على الذم أي أعني الذين أوهم الذين ، وإن جعل ) الذين ( مبتدأ خبره ) أولئك في ضلال ( فلا وفق على ) عوجاً ( ولك أن تقف على ) شديد ( للآية ) بعيد ( ه ) ليبين لهم ( ط لأن قوله : ( فيضل ( حكم مبتدأ خارج عن تعليل الإرسال ) ويهدي من يشاء ( ط ) الحكيم ( ه ) بأيام الله ( ط ) شكور ( ه ط ) نساءكم ( ط ) عظيم ( ه ) لشديد ( ه ) جميعاً ( لا لأن ما بعده جزاء ) حميد ( ه ) وثمود ( ط لمن لم يعطف وجعله مستأنفاً ومن عطف فوقه على ) من بعدهم ( ط ) إلا الله ( ط ) مريب ( ه ) والأرض ( ط فصلاً بين الاستخبار والإخبار ) مسمى ( ط لتقدير همزة الاستفهام في ) تريدون (. ) مبين ( ه ) من عباده ( ط ) وبإذن الله ( ط ) المؤمنون ( ه ) سبلنا ( ط ) آذيتمونا ( ط ) المتوكلون ( ه ) في ملتنا ( ط ) من بعدهم ( ط ) وعيد ( ه ) عنيد ( ه لا لأن ما بعده وصف ) صديد ( ه لا لذلك ) يميت ( ط ) غليظ ( ه. التفسير : كون السورة مكية أو مدنية إنما يفيد في الأحكام لتعرف المنسوخ من الناسخ وفي غير ذلك المكية والمدنية سيان. قوله : ( ألر كتاب ( أي السورة المسماة ب ) ألر ( كتاب ) أنزلناه إليك ( لغرض كذا وإن كان ) الر ( مذكوراً على جهة التعديد فقوله : ( كتاب ( خبر مبتدأ محذوف أي هذا القرآن أو هذه السورة كتاب. والظلمات استعارة لطرق الضلال ومظانه والنور مستعار للحق. واللام في ) لتخرج ( للغرض عند(4/170)
" صفحة رقم 171 "
المعتزلة ، وللغاية عند الحكيم ، وإن شئت فقل : للعاقبة. واللام في ) الناس ( للجنس المتسغرق ظاهراً ففيه دليل على أن دعوته ( صلى الله عليه وسلم ) عامة. ومعنى إخراج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الظلمات إلى النور ( أنه سبحانه جعل إنزال الكتاب عليه ودعوته ( صلى الله عليه وسلم ) إياهم به إلى الحق واسطة لهدايتهم لا مطلقاً ولكن ) بإذن ربهم ( أي بتسهيله وتيسيره وكل ميسر لما خلق له. والحاصل أن المراد من الإذن معنى يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم ومتى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب عند المحققين ، ولك أ تعبر عن ذل المعنى بداعية الإيمان. احتج بالآية من قال : إن معرفة الله تعالى لا تمكن إلا بالتعليم الذي عبر عنه بالإخراج من الظلمة إلى النور : وأجيب بأن معنى الإخراج التنبيه. وأما المعرفة فإنما تحصل من الدليل وقوله ( إلى صراط العزيز الحميد ( بدل من قوله : ( إلى النور ( بتكرير العامل الجار. وجوز في الكشاف أن يكون على جهة الاستئناف كأنه قيل : إلى أي نور ؟ فقيل : إلى صراط العزيز الحميد. وفي ذكر الوصفين تأكيد لحقية الصراط واستنارته لأن العزيز هو القادر الغالب ، والحميد هو الكامل في خصائص الحمد من العلم والغنى وغير ذلك. ولا ريب أن من هذه صفته كان سبيله الذي نهج لعباده مفضياً إلى صلاح حالهم ديناً ودنيا ، إذ لا حاجة له إلى ارتكاب عبث أو قبيح. قال بعض العلماء : إنما قدم ذكر العزيز لأن الصحيح أن أول العلم بالله العلم بكونه قادراً غالباً وهو معنى العزيز ، ثم بعد ذلك العلم بكونه عالماً والعلم بكونه غنياً عن الحاجات والنقائص وهذا معنى الحميد ، ثم أنثى على نفسه تحقيقاً لحقية صراطه وبياناً لتنزهه عن العبث فقال : ( الله الذي ( مبتدأ وخبر والمبتدأ محذوف تقديره هو الله. ومن قرأ بالجر فعلى أنه عطف بيان للوصفين بناء على أن لفظ ) الله ( جار مجرى اسم العلم ، وقد سبق هذا البحث مشبعاً في تفسير البسملة من سورة الفاتحة. ثم ختم الآية بوعيد من لا يعترف بربوبيته ولا يقر بوحدانيته ذلك قوله : ( وويل للكافرين ( وهو دعاء عليهم بالهلاك والثبور وكل سوء. قال في الكشاف : وجه اتصال قوله : ( من عذاب شديد ( بالويل أنهم يولولون من العذاب ويقولون يا ويلاه. ) الذين يستحبون ( أي يؤثرون ويختارون لأن المرثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون ذلك الشيء عنده أحب من الآخر وذلك أن الإنسان قد يحب الشيء ولكنه يكره كونه محباً له ، أما إذا أحب الشيء وطلب كونه محباً له وأحب تلك المحبة فتلك نهاية المحبة وهذا شأن محبة أهل الدنيا للدنيا ولكنها أدنى مراتب الضلال. وقوله : ( ويصدون عن سبيل الله ( إشارة إلى الضلال. وقوله : ( ويبغونها عوجاً ( أراد به الإضلال بإلقاء الشكوك والشبهات ، واجتماع هذه الخصال نهاية الضلال فلهذا وصف ضلالهم بالبعد عن(4/171)
" صفحة رقم 172 "
الحق لأنه وقع عنه في الطرف الآخر فبينهما غاية الخلاف ويمكن أن يكون إسناداً مجازياً باعتبار أن صاحبه بعيد عن طريق الحق. ثم لما مَنَّ على المكلفين بإنزال الكتاب وإرسال الرسول ذكر أن من كمال تلك النعمة أن يكون ذلك الكتاب بلسان المرسل إليهم. احتج أصحاب أبي هاشم بالآية على أن اللغات اصطلاحية وضعها البشر واحد وجماعة وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن كالأطفال. قالوا : إن كانت توقيفية والتوقيف إنما يكون بالوحي والوحي موقوف على لغة سابعة لقوله : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ( أي بلغتهم لزم الدور. أجيب بأن الآية تختص برسول له قوم ولا قوم لآدم فينتهي التوقيف إليه فيندفع الدور. وتمسك طائفة من اليهود - يقال لهم العيسوية - بهذه الآية في أن محمداً رسول الله ولكن إلى العرب لأنهم قومه وهم الذين عرفوا فصاحة القرآن وإعجازه ، فيكون القرآن حجة عليهم لا على غيرهم. والجواب سلمنا أن قومه هم العرب ولكن قوم النبي أخص من أهل دعوته فقد يكون أهل دعوته الناس كافة بل الثقلين كما في حق نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) لأن التحديث وقع بالفريقين في قوله : ( قل لئن اجتمع الإنس والجن ) [ الإسراء : 88 ] وإنما يكون أولى الألسنة لسان قوم الرسول لأنهم أقرب إليه فيرسل الرسول أوّلاً إليهم ليبين لهم فيفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ، ثم ينوب التراجم في كل أمة من أمم دعوته مقام الأصل ويكفي التطول ويؤمن اللبس والتخليط ويوجب للمفسرين الثواب الجزيل في التعلم والتعليم والإرشاد والاجتهاد. وقالت المعتزلة : إن مقدمة هذه الآيات وهي قوله : ( لتخرج الناس ( ووسطها وهو قوله : ( ليبين لهم ( فإن فائدة النبيين إنما تظهر إذا كان للمكلف قدرة واختيار ، وآخرها وهو قوله ) الحكيم ( فإن الحكمة تنافي خلق الكفر ، والقبائح تدل على صحة مذهب الاعتزال. وقالت الأشاعرة. قوله : ( بإذن ربهم ( وقوله : ( فيضل الله من يشاء ( وقوله : ( العزيز ( فإن العزة لإ تجامع أن يكون لغيره قدرة وتصرف يؤيد مذهبنا. أقول : نحن قد حققنا مسألة الجب مراراً فتذكر. ومما يخص هذا الموضع قول الفراء إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن لميكن النسق مشاكلاً للأول فالرفع على الاستئناف هو الوجه كقوله : ( لنبين لكم ونقر ) [ الحج : 5 ] بالرفع نظيره في الآية قوله : ( فيضل ( بالرفع على الاستئناف كأنه قال : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلغة ألفوها واعتادوها. ومع ذلك فإن المضل والهادي هو الله والبيان لا يوجب حصول الهداية إلا إذا جعله الله واسطة وسبباً لما بين أن المقصود من بعثة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، أرد أن يبين أن الغرض من إرسال جميع الأنبياء لم يكن(4/172)
" صفحة رقم 173 "
إلا ذلك وذكر لذلك مثالاً. وخص موسى بالذكر لأنه أمته أكثر الأمم سوى أمة محمد كما جاء في الحديث ولكثرة معجزاته الباهرة. ومعنى ) أن أخرج ( أي أخرج لأن الإرسال فيه معنى القول : ويجوز أن تكون أن ناصبة والتقدير بأن أخرج. ومعنى التذكير بأيام الله الإنذار بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم. ويقال : أيام العرب لحروبها وملاحمها. وعن ابن عباس : أيام الله نعماؤه من تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وبلاؤه إهلاك القرون ، أو الأيام التي كانوا فيها تحت تسخير فرعون ، أو المراد عظهم بالترغيب والترهيب ) إن في ذلك ( التذكير والتنبيه دلائل ) لكل صبار ( على الضراء شكور ( على السراء. وذلك أن فائدة الآيات إنما تعود عليهم حيث ينتفعون بها. ولما أمر الله موسى بالتذكير حكى عنه ذكرهم ولم يقل ههنا ( يا قوم ) كما ذكر في المائدة اقتصاراً على ما ذكره هناك. وقوله : ( عليكم ( إن كان صلة للنعمة بمعنى الإنعام فقوله : ( إذ أنجاكم ( ظرف للإنعماء أيضاً ، وإن كان مستقراً بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرة عليكم جاز أن ينتصب ) إذ أنجاكم ( ب ) عليكم ( وفي الوجهين جاز أن يكون ( إذ ) بدلاً من النعمة أي ذاكروا وقت إنجائكم وهو بدل الاشتمال ، وباقي الآية قد مر في أول البقرة. ومن جملة النعم قوله : ( وإذ تأذن ( أي واذكروا حين آذن ) ربكم ( إيذاناً بليغاً ينتفي عنده الشكوك وتنزاح معه الشبهات. وقد تقدم في أواخر ( الأعراف ) أن فيه معنى القسم ولذلك دخلت اللام الموطئة في الشرط والنون المؤكدة في الجزاء ، وقد سلف منا في هذا الكتاب أن الشكر بالحقيقة عبارة عن صرف العبد جميع أقسام ما أنعم الله تعالى به عليه فيما أعطاه لأجله. ولا شك أن المكلف إذا سلك هذا الطريق كان دائماً في مطالعة أقسام نعم الله وفي ملاحظة دقائق لطفه وصنعه وفي إعمال الجوارح في الأعمال الصالحة الكاسبة لأنوار الملكات الحميدة ، وشغل النفس بمطالعة النعم يوجب مزيد محبة المنعم ، وقد يترقى العبد من هذه الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلاً له عن رؤية النعم ، ويصدر منه الأعمال الصالحة بطريق الاعتياد حتى يصير التطبع طباعاً والتكلف خلقاً ، وهذا معنى اقتضاء الشكر مزيد الإنعام وقد يفيض عليه بحكم وعد الله الذي هو الحق والصدق سجال مواهبه الدينية والدنيوية لأنه مهما صار مطيعاً منقاداً لواجب الوجود سبحانه تجلى فيه نور الوجود ، فلا غرو - أي لا عجب - أن ينقاد لذلك النور كثير من الممكنات وينفتح عليه باب التصرف في الخلق بالحق للحق ، وإن كان حال المكلف بضد ما قلنا ظهر عليه أضداد تلك الآثار لا محالة وذلك قوله : ( ولئن كفرتم ( يعني كفران النعم ) إن عذابي لشديد ( ثم بين أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحبه أو عليه والله تعالى غني عن(4/173)
" صفحة رقم 174 "
ذلك كله فقال : ( إن تكفروا أنتم ( الآية. وذلك أن واجب الوجود في ذاته واجب الوجود في جميع صفاته ولن يكون كذلك إلا إذا كان غنياً عن الحاجات متصفاً بكل الكمالات أهلاً للحمد وإن لم يكن حامداً. وقوله : ( ألم يأتكم ( يحتمل أن يكون خطاباً من موسى لقومه والغرض تخويفهم بمثل هلاك من تقدم من القرون فيكون داخلاً تحت التذكير بأيام الله ، واحتمل أن يكون مخاطبة من الله على لسان موسى لقومه يذكرهم أمر القرون الأولى قاله أبو مسلم. والأكثرون على أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تحذيراً لهم عن مخالفته. وقوله : ( والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ( إن كان جملة من مبتدأ وخبره فالمجموع اعتراض وإن كان قوله : ( والذين من بعدهم ( معطوفاً على قوم نوح فقوله : ( لا يعلمهم إلا الله ( وحده اعتراض. ثم إن عدم العلم إما أن يكون راجعاً إلى صفاتهم بأن تكون أحوالهم وأخلاقهم ومدد أعمارهم غير معلومة ، وإما أن يكون عائداً إلى ذواتهم بأن يكون فيما بين القرون أقوام ما بلغنا أخبارهم كما روي عن ابن عباس : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا وقد نفى الله علمها عن العباد. ونظير الآية قوله : ( وقروناً بين ذلك كثيراً ) [ الفرقان : 38 ] ( منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ) [ غافر : 78 ] قال القاضي : وعلى هذا الوجه لا يمكن القطع بمقدار السنين من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الوقت لأنه لو أمكن ذلك لم يبعد تحصيل العلم بالأنساب الموصولة. ثم إنه تعالى حكى عن هؤلاء الأقوام أنهم لما ) جاءتهم رسلهم بالبيانات ( أتوا بأمور أحدها ) فردوا أيديهم في أفواههم ( وفيه قولان : أحدهما أن المراد باليد والفم الجارحتان ، وعلى هذا فيه احمالان : الأول أن الكفار ردّوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظاً وضجراً مما جاءت به الرسل قوله : ( عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) [ آل عمران : 119 ]. قاله ابن عباس وابن مسعود وهو الأظهر ، أو وضعوا الأيدي على الأفواه ضحكاً واستهزاء كمن غلبه الضحك ، أو وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن قفوا عن هذا الكلام واسكتوا عن هذا الحديث قاله الكلبي ، أو أشاوروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم ) إنا كفرنا بما أرسلتم به ( أي هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق ، وهذا قول قويّ لعطف قوله : ( وقالوا ( على قوله : ( فردّوا ( الاحتمال الثاني : أن تكون الضمائر راجعة إلى الرسل والمراد أن الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم على أفواه أنفسهم أرادوا أنهم لا يعودون إلى ذلك الكلام ألبتة. أو يكون الضميران الأخيران راجعين(4/174)
" صفحة رقم 175 "
إلى الرسل ، والمعنى أن الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم ، أو يكون الضمير الأخير فقد عائداً على الرسل والمراد أن الكفار لما سمعوا وعظ الأنبياء ونصائحهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل تكذيباً لهم وردّاً عليهم ، أو وضعوا أيديهم على أفواه الأنبياء منعاً لهم من الكلام فهذه جملة الاحتمالات على القول الأول. القول الثاني : أن ذكر اليد والفم توسع ومجاز. عن أبي مسلم : أن المراد باليد ما نطقت به الرسل بأفواههم من الحجج لأن دلائل الوحي من أجل النعم لأنهم إذا كذبوا الآيات ولم يقبلوها فكأنهم ردّوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل. ونقل محمد بن جرير عن بعضهم أنه يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب ردّ يده في فيه. فمعنى الآية أنهم سكتوا عن الجواب ، وزيف بأنهم قد أجابوا بالتكذيب وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به. والمراد بما زعمتهم أن الله أرسلكم به وكأنهم في أوّل الأمر حاولوا إسكات الأنبياء ، وفي المرتبة الثانية صرحوا بتكذيبهم ، وفي الثالثة قالوا : ( وإنا لفي شك ( وقد مر مثله في سورة هود. فإن قلت : كيف صرحوا بالكفر ثم بنوا أمرهم على الشك ؟ قلنا : أرادوا إنا كافرون برسالتكم وإن نزلنا عن هذا المقام فلا أقل من أنا نشك في صحة نبوتكم ، ومع كمال الشك لا مطمع في الاعتراف بنبوتكم. ثم إنه سبحانه حكى جواب الرسل وذلك قولهم : ( أفي الله شك فاطر السموات والأرض ( أدخل همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه وأن وجود الله لا يحتمل الشك. قال الضعيف المذنب المفتقر إلى عفو ربه الكريم مؤلف الكتاب الحسن بن محمد المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحوالهم في الدارين. إنه كان من عقيدتي أن العلم بوجود الواجب في الخارج من جملة البديهيات وكان يستبعد ذلك كثير من أقراني وأصحاب لما رأوا أن الأقدمين ما زالوا يبرهنون على ذلك في الكتب الكلامية والحكمية ، فكنت قد كتبت لأجلهم رسالة في الإلهيات مشتملة على دلائل تجري مجرى المنبهات على ذلك المعنى ، فإن الضروريات قد ينبه عليها وإن لم تحتج في الاقتناص إلى البراهين. والآن أرى أن أذكر بعض تلك المنهبات في هذا المقام لأنها مقررة لقوله سبحانه : ( أفي الله شك ( فأقول وبالله التوفيق : المفهوم بالنظر إلى ذاته وإلى الخارج إما أن يكون واجب الوجود فقط ، أو واجب العدم فقط ، أو ممكن الوجود والعدم معاً ، أو واجب العدم وممكن الوجود والعدم معاً ، أو واجب الوجود وواجب العدم وممكن الوجود والعدم(4/175)
" صفحة رقم 176 "
جميعاً. فهذه أقسام سبعة والعقل الصريح لا يشك في استحالة خمسة أقسام منها في الخارج : الأول واجب العدم لذاته فقط ، الثاني واجب الوجود لذاته وواجب العدم في ذاته معاً ، الثالث واجب الوجود لذاته وممكن الوجود والعدم لذاته. والرباع واجب العد لذاته وممكن الوجود والعدم لذاته. الخامس واجب الوجود لذاته وواجب العد لذاته وممكن الوجود والعدم في ذاته. ثم نقول : إن العقل كما لا يشك في استحالة الوجود الخارجي لهذه الأقسام الخمسة ينبغي أن لا يشك في وجود الواجب لذاته فقط في الخارج ، لأنه لو لم يكن موجوداً في الخارج كان معدوماً في الخارج. فإن كان عدمه لذاته كان من القسم الثاني من الممتنعات ، وإن كان لغيره كان من القسم الثالث منها وكلاهما محال إذ المفروض خلاف ذلك فثبت كونه موجوداً في الخارج بالضرورة وهو المطلوب ، فهذه طريقة عذراء تيسرت لنا من غير احتياج إلى دور وتسلسل يرد عليها المنوع المشهورة. وجه ثانٍ : الموجود في الخارج إما واجب أو ممكن ، وهذه قضية اتفقوا على ضروريتها لأنها إن كان مستغنياً عن المؤثر في وجوده الخارجي فواجب وإلا فممكن فنقول : إن كانت القمسة قسمة تنويع حتى يكون المعنى أن الموجود في الخارج هذان النوعان فقد ثبت وجود الواجب في الخارج بالضرورة وهو المطلوب ، وإن كانت القسمة قسمة انفصال ولا محالة تكون مانعة الخلو فقط. أما كونها مانعة الخلو فلاستحالة العقل رفعهما معاً في الخارج ضرورة ثبوت موجود ما في الخارج بالضرورة ، وأما أنها ليست بمانعة الجمع فلأن الممكن موجود بالضرورة ولا منافاة بين وجود الواجب ووجود الممكن بالضرورة وإلا لم يستدل العقلاء من وجود الممكن على إثبات الواجب ، بل يستدلون منه على نفيه. وإذا كان الجمع بين الواجب والممكن ممكناً في الوجود والممكن موجود بالضرورة مع أنه مفتقر في وجوده إلى مؤثر موجود ، فلأن يكون الواجب موجوداً يكون أولى بالضرورة لاستغنائه عن المؤثر وكون ذاته كافية في إيجاب الوجو له وهذه مقدمة جلية مكشوفة لمن تأمل في مفهوم واجب الوجود إذا لا معنى لوجوب الوجود إلا أنه وجود يوجد ألبته من تلقاء نفسه ومع قطع النظر عما سواه ولهذا قال المحققون : إن الوجود يقع على الواجب وعلى الممكن بالتكشيك بمعنى أنه في الواجب أولى وأولى منه في الممكن. وجه ثالث : طبيعة الواجب وطبيعة الممكن من حيث ذاتاهما يشتركان في صحة وجودهما الخارجي بالضرورة ، ويفترقان في أن الواجب ذاته كافية في إيجاب الوجود له ، والممكن لا يكفي فيه ذلك بل يحتاج في إيجاب وجوده الخارجي إلى الغير ، ولا ريب أن(4/176)
" صفحة رقم 177 "
الأوّل أقرب إلى طبيعة الوجود من الثاني لأن الموقوف على مقدمات أكثر أعسر وجوداً والثاني واقع بالضرورة فالأولى أولى بكونه ضروري الوقوع. وجه رابع : نسبة كل محمول إلى موضعه لا تخلو في نفس الأمر من أن تكون بالوجوب أو بالإمكان أو بالامتناع. فنسبة الوجود الخارجي إلى الماهيات الخارجية من حيث ذواتها لا تخلو من أحد الأمور الثلاثة ، لكنم نسبته إليها بالامتناع ظاهرة الاستحالة ، فهي إما بالإمكان أو بالوجوب ، ولا شك أن نسبة الوجود إلى ذات الموجود أولى من نسبته إلى غيره إذا الأصل عدم الغير ، فكل ما دل البرهان على أن وجوده من غيره لتغير فيه أو نقص يحكم عليه بأنه ممكن الوجود ، وما لم يدل البرهان فيه على ذلك بل يدل على وجوب وجوده بجميع صفاته الكماليات فو واجب الوجود. ومن شك في وجود في وجوده من تلقاء نفسه ويكون متصفاً بجميع الكمالات بعد مشاهدة ما وجوده من غيره وهو عرضة للنقائص والرذائل كان أهلاً لأن يهجر الحكمة. وجه خامس : نفس الإمكان نقص لا نقص فوقه لاستتباعه العجز والافتقار وصحة العدم عليه الذي لا ضعف مثله ، والوجود المتصف به متحقق بالضرورة. فالوجود الذي يجوّزه العقل الصريح متصفاً بصفة الوجوب كيف لا يكون متحققاً ، ومن استبهم عليه مثل هذا الجلي فلا يلومن إلا نفسه. وجه سادس : مقتضى ذات الشيء أقرب إيجاباً له عند العقل من مقتضى كل ما يغايره ، لكن الوجود الذي مقتضاه الإمكان ثابت في الخارج مع أنه ثوته في الخارج مقتضي الغير ، فالوجوب ثابت بالطريقة الأولى. وجه سابع : الوجود ثابت بالضرورة وليس ثبوت ذلك الوجود من تلقاء نفسه وإلا كان وجوداً واجباً لأنا لا نعني بالوجود الواجب إلا هذا. فإما أن يكون من وجود واجب وهو المطلوب ، أو من وجود مثله وحينئذ ما لم يكن ثابتاً في نفسه لم بتصوّر منه إفادة مثله ، فإذا حصل لنا وجود ممكن موصوف الثبوت في نفسه وموصوفاً بكونه مفيداً لوجود مثله. فإذا صح هذان الوصفان للوجود الممكن المفتقر فكيف لا يصحان للوجود الواجب الغني بل نسبتهما إلى الثاني أولى من نسبتهما إلى الأوّل بحكم الفهم الصحيح. وجه ثامن : كون الشيء موجوداً في نفسه أقرب وأقبل عند العقل من كونه موجوداً لغيره ، إذا ليس كل من له وجود في نفسه يكون موجداً لغيره ، وكل موجد لغيره موجود(4/177)
" صفحة رقم 178 "
في نفسه. وإذا كان اتصاف الوجود الممكن مع ضعفه بأبعد الأمرين عن القبول واقعاً ، فكيف لا يكون اتصاف الوجود الواجب مع قوّته بأقربهما من القبول واقعاً ؟ وجه تاسع : انجذاب النفوس السليمة وغير السليمة من الأنبياء والأولياء والحكماء وسائر العقلاء من إخوان الصفاء الوفاء وأرباب البدع والأهواء إلى وجود واجب متى رجوا إلى أنفسهم وطالعوا ملكوت السموات والأرض وتأملوا في الأحوال الواردة عليهم من كشف كرب أو هجوم نعمة ، ألى دليل على وجود رب جليل منزه عن سمات النقص والأفول في حيز الإمكان ، مفيض للخيرات مدبر للممكنات ولهذا قال رب السموات والأرضين عن الظلمة والمعاندين ) ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ) [ لقمان : 25 ] ثم أخبر أنهم يعتذرون عن أصنامهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، إذ لم يكن جحدهم وعنادهم عن تحقيق وصدق وإنما كانوا مكابرين في الظاهر ابتلاء من الله وشقاء منهم ، فالحاصل أن المؤمن والمشرك والمقر والجاحد سيان في أنه تشهد فطرته بوجود صانع للعالم واجب في ذاته وصفاته ، ولا أدل من ذلك على أنه ضروري. وجه عاشر : وهو الاستدلال بالآفاق كل موجود سوى الواجب فله ظهور في الخارج ، لكنه إذا اعتبر في نفسه لم يكن له ذلك من تلقاء نفسه فكان فقيراً في نفسه وذلك أفول له في أفق الإمكان ، وإذا كان مقتضى ذاته الأفوال طالعاً فما مقتضى ذاته الطلوع أولى بأن يكون طالعاً. وجه حادي عشر : وهو الاستدلال بالأنفس. من تأمل في ذاته وفرض شخصه في هواء طلق لا يحس فيه بمتضاد وأغفل الحواس عن أفعالها وجد شيئاً هو به هو ، وبذلك يصح انيته وهو نفسه الناطقة التي نسبتها إلى بدنه نسبة الملك إلى المدينة يتصرف فيها كيف يشاء. ومهما انقطعت علاقته عن البدن مات صاحبه وانخرط في سلك الجمادات ، فكما أن البدن لضعفه وخسته مفتقر في قوامه وقيامه إلى مدبر يديمه ويقيمه ، فجميع العالم الجسماني بل الممكنات بأسرها لخستها وفقرها تستند لا محالة إلى ما هو أشرف منها وذلك ما وجوده من تلقاء نفسه وهو الواجب الحق تعالى شأنه ، ولولاه لتبددت نظام العالم. ولم يكن من الوجود عين ولا أثر. وجه ثاني عشر : وهو أنور الوجوه وأظهرها وهو الاستدلال بالنور على النور. لا شك أنه نور ونعني به ما هو ظاهر في نفسه مظهر لغيره فنقول : إن كان ظهوره في نفسه(4/178)
" صفحة رقم 179 "
بنفسه فهو المطلوب وإلا فيحتاج إلى ما يظهره ، وما يظهره لا يمكن أن لا يكون ظاهراً في نفسه لأن ما لا يكون له ظهور في نفسه لا يفيد ظهوراً لغيره فننقل الكلام إلى ذلك الظاهر بأن نقول : إن كان ظهوره في نفسه بنفسه فذاك وإلا احتاج إلى ما يظهره ، ولا بد أن ينتهي في طرف الصعود إلى ما يكون ظهوره في نفسه بنفسه وإلا لم ينته الأمر في طرف النزول إلى الظاهر المفروض أوّلاً. فنهاية ما لا نهاية له محال من أي جانب فرض ، ولا تنتهض العودة اليومية نقضاً علينا بناء على أنها مسبوقة بعودات ما لا تتناهى ، فإن لا تناهيها في جانب الأزل محال عندنا. وكنا قد كتبنا في بعض كتبنا بيان استحالة ذلك ، فإن نقلت الكلام إلى فيض الواجب وقلت الفيض الواقع في زمان الحال مسبوق بإفاضات غير متناهية لا محالة ، قلنا : قلنا : لو سلمنا ذلك لكنه لا يتسحيل في الواجب لأن وجوده وأوصافه المعتبرة كلها مقتضيات ذاته ، ومقتضى ذات الشيء يدوم بدوام الشيء ومستحيل انفكاكه عنه ، فلا نهاية فيضانه تابعة للامسبوقة بغيره وكون وجوده من ذاته. ولا يلزم من كون مطلق الفيض أزلياً أن يكون الفيض المخصوص أزلياً ، وإذا ثبت وجوب انتهاء الظاهر المفروض إلى ما هو ظاهر في نفسه بنفسه ثبت المطلوب وهو وجود نور الأنوار تعالى شأنه وبهر برهانه ، وهو نهاية الممكنات في جانب الأزل وبدايتها في جانب الأبد ، فهو قديم أزلي ، ولأن وجوده مقتضى ذاته وما بالذات لا يزول فهو الباقي الدائم. هذا ما سنح من المنبهات لهذا الضعيف أثبتها في هذا الكتاب الشريف ليبقى إن شاء الله على وجه الدهر ، وينظر فيها من هو من أهلها في كل عصر والله المستعان. قال بعض العقلاء : من لطم على وجه صبي فتلك اللطمة تدل على وجود الصانع المختار ، وعلى حصول التكليف ، وعلى ثبوت دار الجزاء ، وعلى ضرورة بعثه النبي. أما الأوّل فلأن الصبي يصيح ويفول : من الذي ضربني وما ذاك إلا بشهادة فطرته على أن هذه اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فاعل مختار أدخلها في الوجود ، وإذا كان حال هذا الحادث مع حقارته هكذا فما ظنك بجميع الحوادث الكائنة في العالم العلوي والعالم السفلي ؟ وأما دلالتها على وجوب التكليف فلأن ذلك الصبي ينادي ويصيح ويقول : لم ضربي ذلك الضارب ؟ وفيه دلالة على أن الأفعال الإنسانية داخلة تحت التكليف ، وأن الإنسان ما خلق حتى يفعل أي شيء اشتهى. وأما دلالتها على الجزاء فلأنه يطلب الجزاء على تلك اللطمة ولا يتركه ما أمكنه. وإذا كان الحال في هذا العمل القليل كذلك فكيف يكون الحال في جميع الأعمال ؟ وأما وجوب النبوّة فلأنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم أن العقوبة الواجبة على ذلك القدر من الجناية كم هي ، ولا فائدة في بعثة النبي إلا تبيين الشرائع والأحكام ، ومما يدعو العاقل إلى الاعتراف بالمبدأ والمعاد أنه لو أقر بهما ثم بان(4/179)
" صفحة رقم 180 "
أن الأمر على خلافه فلا ضرر فيه ألبته ، أما إذا أنكر الصانع والتكليف والجزاء وكانت هذه الأمور في الخارج ثابتة حقة ففي إنكارها أعظم المضار ، فيلزم على العاقل أن يعترف بهذه الأمور أخذاً بالأحوط. ثم إن الرسل بعد التنبيه على وجود الصانع ذكروا فائدة الدعوة وغايتها وذلك ثنتان : الأولى قوله : ( يدعوكم ( أي إلى الإيمان ) ليغفر لكم من ذنوبكم ( استدل بالآية من جوّز زيادة ( من ) في الإثبات وذلك لقوله تعالى في موضع آخر : ( إن الله يغفر الذنوب جميعاً ( ) الزمر : 53 ]. وأجيب بأنه لا يلزم من غفران جميع الذنوب لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) غفران جميع الذنوب لغيرهم ، فالوجه أن تكون ( من ) للتبعيض تمييزاً بين الفريقين ، ويؤيد ما ذكرنا استقراء الآيات فإنها ما جاءت في خطاب الكافرين إلا مقرونة ب ( من ) كما في هذه الآية ، وفي سورة نوح وسورة الأحقاف. وقال في خطاب المؤمنين في سورة الصف ) يغفر لكم ذنوبكم ) [ الآية : 12 ] بغير ( من ). وقيل : أراد أن يغفر لهم ما بينهم وبين الله بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم. وقيل : ( من ) للبدل أي لتكون المغفرة بدلاً من الذنوب. وضعف بأنه لم يوجد له في اللغة نظير. وعن الأصم : أنه أراد إذا تبتم يغفر لكم بعض الذنوب التي هي الكبائر. فأما الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في أنفسها مغفورة. وقيل : المراد أن الكافر قد نسى بعض ذنوبه في حال توبته وإيمانه فلا يكون المغفور منها إلا ما ذكره وتاب منه. وقال الإمام فخر الدين الرازي : في الآية دلالة على أنه تعالى قد يغفر ذنب أهل الإيمان من غير توبة لأنه وعد بغفران بعض الذنوب مطلقاً من غير اشتراط التوبة ، وذلك البعض ليس هو الكفر لانعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيما ، فوجب أن يكون ذلك البعض هو ما عدا الكفر من الذنوب. ولقائل أن يقول : لانسلم أنه لم يشترط التوبة في الآية ، لأن قوله : ( يدعوكم ( أي إلى الإيمان معناه آمنوا ليغفر لكم فكأنه قيل : إن الإيمان شرط غفران بعض الذنب فلم لا يجوز أن يكون ذلك البعض هو الكفر ؟. الغاية الثانية قوله : ( ويؤخركم إلى أجل مسمى ( عن ابن عباس : أي يمتعكم في الدنيا باللذات والطيبات إلى الموت الطبيعي وإلا عاجلكم بعذا الاستئصال. وقد مر تحقيق الأجل في أوّل ( الأنعام ). ثم شرع في حكاية شبه الكفار وأنها ثلاث : الأولى قولهم : ( إن أنتم إلا بشر مثلك ( وذلك لاعتقادهم أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية ، فيمتنع أن يبلغ التفاوت(4/180)
" صفحة رقم 181 "
بينهم إلى هذا الحد مع اشتراك الكل في الضروريات البشرية من الحاجة إلى الأكل والشرب والوقاع وغير ذلك. الثانية التمسك بطريقة التقليد وذلك قوله : ( تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ( الثالثة إنكارهم دلالة المعجزة على الصدق. وعلى تقدير التسليم زعموا أنهم ما أتوا بحجة أصلاً لاعتقادهم أن معجزاتهم من جنس الأمور المعتادة ، فاقترحوا سلطاناً مبيناً أي برهاناً باهراً وحجة قاهرة. ثم إن الأنبياء سلموا أنهم بشر مثلهم ولكنهم وصفوا أنفسهم بمزية من عند الله بطريق المنة والعطية ، وبهذا استدل من جعل النبوّة محض العطاء من الله. أجاب المخالف بأنهم لم يذكروا فضائلهم النفسانية والجسمانية تواضعاً منهم ، ولأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لها لخصائص فيها. وأما الشبهة الثانية فإنما لم يذكروا الجواب عنها لأن صحة النبوّة تهدم قاعدة التقليد ، وأما الشبهة الثالثة فجوابها ) وما كان لنا ( أي ما صح منا ) أن نأتي بآية ( اقترحتموها من تلقاء أنفسنا وإنما ذلك أمر يتعلق بمشيئة الله. والظاهر أن الأنبياء لما أجابوا عن شبهاتهم بما أجابوا فالقوم أخذوا في السفاهة والتخويف وعند ذلك قالت الأنبياء ) وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( إلى قوله : ( وعلى الله فليتوكل المتوكلون ( قال علماء المعاني : الأول لاستحداث التوكل ، والثاني للسعي في إبقائه وإدامته. وقيل : معنى الأول أن الذين يطلبون المعجزات يجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله لا علينا ، فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها. ومعنى الثاني إبداء التوكل على الله في دفع شر الكفار وسفاهتهم. وفي قولهم : ( وقد هدانا سبلنا ( إشارة إلى ما سهل الله عليهم من طريقة التكميل والإرشاد وتحمل أعباء الرسالة والصبر على متاعبها ، فإن تأثير نفوسهم في عالم الأرواح كتأثير الشمس في عالم الشمس في عالم الأجسام بالإضاءة والإنارة ، وقد عرفوا بالنفوس المشرقة والأنوار الإلهية أو بالوحي الصريح أنه تعالى يعصمهم من كيد الأعداء ومكر الحساد. وفي قولهم. ) ولنصبرن على ما آذيتمونا ( دليل على أن الصبر مفتاح الفرج ومطلع الخيرات ومثمر السعادات. أما قول الكفار للرسل : ( أو لتعودن في ملتنا ( فقد مر البحث عليه في سورة الأعراف في قصة شعيب. وقال صاحب الكشاف : العود ههنا بمعنى الصيرورة ، حلفوا أن يخرجوهم ألبتة إلا أن يصيروا كافرين مثلهم ) فأوحى إليه ربهم لنهلكن الظالمين ( أجرى الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه أو أضمر القول. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من آذى جاره ورّثه الله داره ) ) ذلك ( الذي قضى الله به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم حق ) لمن خاف مقامي ( يريد موقف الله الذي يقف به عباده يوم القيامة وهو موقف الحساب ، أو(4/181)
" صفحة رقم 182 "
المقام مصدر أي خاف قيامي عليه بالحفظ والمراقبة كقوله : ( أفمن هو قائم على كل نفس ) [ الرعد : 33 ] أو قيامي بالعدل والصواب مثل ) قائماً بالقسط ) [ آل عمران : 18 ] أو المقام مقحم أي خافني مثل سلام الله على المجلس العالي : ( وخاف وعيد ( قال الواحدي : هو اسم من الإيعاد وهو التهديد. قال المحققون : إن الخوف من الله مغاير للخوف من وعيد كما أن حب الله مغاير لحب ثوان الله ، وهذه فائدة عطف أحد الخوفين على الآخر. قوله : ( واستفتحوا ( الضمير إما للرسل والمعنى استنصروا الله على أعدائهم أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة ، وإما للكفرة بناء على ظنهم أنهم على الحق والرسل على الباطل. وعلى الأول يكون في الكلام إضمار التقدير : فنصروا وفازوا بالمقصود. ) وخاب كل جبار عنيد ( معاند. وأصل العنود الميل من العند الناحية والجانب كأن كلاً من المتعاندين في جانب آخر. قيل : الجبار وهو المتكبر إشارة إلى أن فيه خلق الاستكبار ، والعنيد إشارة إلى الأثر الصادر عن ذلك الخلق وهو كونه مجانباً للحق منحرفاً عنه وأصل الكلام على الأول : واستفتح الرسل وخاب الكفرة ، وعلى الثاني : استفتحوا وخابوا. فوضع الأعم موضع الأخص. والظاهر مقام الضمير تنصيصاً على الكفرة بأن سبب خيبتهم عن السعادة الحقيقية تجبرهم وعنادهم ) من ورائه ( أي من بين يديه. يقال : الموت وراء كل أحد. وذلك أن قدام وخلف كلاهما متوارٍ عن الشخص فصح إطلاق لفظ وراء على كل واحد منهما. وقال أبو عبيدة : هو من الأضداد لأن أحدهما ينقلب إلى الآخر. وهذا وصف حاله في الدنيا أو في الآخرة حين يبعث ويوقف. قال جار الله : قوله : ( ويسقى ( معطوف على محذوف تقديره يلقى في جهنم ما يلقى ) ويسقى من ماء صديد ( أي من ماء بيانه أو صفته هذا. والصديد ما يسيل من جلود أهل النار واشتقاقه من الصد لأنه يصد الناظر عن رؤيته أو تناوله. وقيل : يخلق الله في جهنم ما يشبه الصديد في النتن والغلظ والقذارة. ) يتجرعه ( يتكلف جرعه ) ولا يكاد يسيغه ( أي لم يقارب الإساغة فضلاً عن الإساغة قيل : ليس المراد بالإساغة مجرد حصول المشروب في الجوف لأن هذا المعنى حاصل لأهل النار بدليل قوله : ( يصهر به ما في بطونهم ) [ الحج : 20 ] وإنما المراد جريان المشروب في الحلق في الاستطابة وقبول النفس بالكراهية والتأذي. قلت : يحتمل أن يراد بالإساغة مجرد الحصول ، والآية - أعني قوله : ( ويصهر ( - لا تدل على الحصول لقوله قبله : ( يصب من فوق رؤوسهم الحميم ) [ الحج : 19 ]. ) ويأتيه الموت من كل مكان ( من جسده حتى من إبهام رجله. وقيل : من أصل كل شعرة. وقيل : المراد أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات ومع ذلك فإنه لا يموت فيها ولا يحيا. ثم أخبر - والعياذ بالله - أن العذاب في كل(4/182)
" صفحة رقم 183 "
وقت يفرض من الأوقات المستقبلة يكون أشد وأنكى مما قبله فقال : ( ومن ورائه عذاب غليظ ( عن الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد. قال في الكشاف : يحتمل أن يكون أهل مكة استفتحوا أي استمطروا. والفتح المطر في سني القحط التي سلطت عليهم بدعوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يسقوا فذكر سبحانه ذلك ، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء أحرّ وهو صديد أهل النار. وعلى هذا الفسير يكون قوله : ( واستفتحوا ( كلاماً مستأنفاً منقطعاً عن حديث الرسل وأممهم. التأويل : بسم الله أي باسم الذات وهو الاسم الأعظم ابتدأت بخلق عالم الدنيا. إظهار الصفات الرحمانية التي هي للمبالغة لاشتراك الحيوان والجماد والمؤمن والكافر في الرحمة ، وبخلق عالم الآخرة إظهار الصفة الرحيمية لاختصاصها بالمؤمنين خاصة. قوله : ( الر ( أي بالآئي وبلطفي إن القرآن أنزلناه إليك لتخرج الناس بدلالة نوره من ظلمات عالم الطبيعة والكثرة إلى نور علام الروح والوحدة. ) بإذن ربهم ( الذي يربيهم هو لا أنت. وفي قوله : ( إلى صراط ( إشارة إلى أن القرآن هو طريق الوصول إلى من احتجب بحجب العزة والمحمدة واستتر بأستار مظاهر القهر واللطف. وفي الاختتام بقوله : ( الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ( إشارة إلى أن من بقي في أفعاله وهي المكونات لم يصل إلى صفاته ، ومن بقي في صفاته لم يصل إلى ذاته ، ومن وصل إلى ذاته بالخروج عن أنانيته إلى هويته انتفع بصفاته وأفعاله. ) وويل للكافرين ( من شدة ألم الانقطاع عن الله. ثم أخبر أن الكافر الحقيقي هو الذي قنع بالإيمان التقليدي فأقبل على الدنيا وأعرض عن المولى فضل وأضل. ) إلا بلسان قومه ( أي يتكلم معهم بلسان عقولهم. ) ولقد أرسلنا ( بواسطة جبريل الجذبة ) موسى ( القلب بآيات عصا الذكر واليد البيضاء من الصدق والإخلاص. ) أن أخرج قومك ( وهم الروح والسر والخفي من ظلمات الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي ) وذكرهم بأيام الله ( التي كان الله ولم يكن معه شيء وهو بحبهم بلاهم ) إن في ذلك ( التذكير ) لآيات ( في نفي الوجود ) لكل صبار ( بالله مع الله من غير الله ) شكور ( لنعمة الوجود الحقيق ببذل الوجود المجازي ) ولئن شكرتم ( بالطاعة. ) لأزيدنكم ( في تقربي إليكم ، لأزيدنكم في محبتي لكم ، ولئن شكرتم في محبتي لكم لأزيدنكم في الخدمة ، ولئن شكرتم في الخدمة لأزيدنكم في الوصول ، ولئن شكرتم في الوصول لأزيدكم في التجلي ، ولئن شكرتم في التجلي لأزيدنكم في الفناء عنكم ، ولئن شكرتم في الفناء لأزيدنكم في البقاء ، ولئن شكرتم في البقاء لأزيدنك في الوحدة ، ) ولئن كفرتم ( نعمتي في المعاملات كلها ) إن عذابي ( قطيعتي ) لشديد ( ) وقال(4/183)
" صفحة رقم 184 "
موسى ( القلب ) إن تكفروا أنتم ( أيها الروح والسر والخفى بالإعراض عن الحق والإقبال على الدنيا بتبعية النفس ومن في أرض البشرية من النفس والهوى والطبيعة. ) يدعوكم ( من المكونات إلى الملكوت ) ليغفر لكم ( بصفة الغفارية ) من ذنوبكم ( التي أصابتكم من حجب عالم الخلق ) ويؤخركم ( في التخلق بأخلاقه ) إلى أجل مسمى ( هو وقت الفناء في الذات ) وعلى الله فليتوكل المتوكلون ( للتوكل مقامات : ( فتوكل المبتدىء قطع النظر عن الأسباب في طلب المرام ثقة بالمسبب ، وتوكل المتوسط قطع تعلق الأسباب عن الأسباب في طلب المرام ثقة بالمسبب ، وتوكل المتوسط قطع تعلق الأسباب بالمسبب ، وتوكل المنتهي قطع تعلق ما سوى الله والاعتصام ببابه. ) لمن خاف مقامي ( وهو مقام الوصول إليّ فإن هذا مقام الأخص ، وأما خوف الخواص فعن مقام الجنة ، وخوف العوام عن مقام النار ) وخاف وعيد ( القطيعة واستنصر القلب والروح من أمر الله على النفس والهوى. ) من وراثه ( أي قدام النفس في متابعة الهوى ) جهنم ( الصفات الذميمة ) ويسقى من ماء صديد ( هو ما يتولد من الصفات والأخلاق من الأفعال الرذيلة ، يسقى منه صاحب النفس الأمارة ) يتجرعه ( بالتكلف ) ولا يكاد يسيغه ( لانه ليس من شربه ) يأتيه ( أسباب ) الموت من كل مكان ( من كل فعل مذموم ) ومن ورائه عذاب غليظ ( هو عذاب القطيعة والبعد والله أعلم بالصواب. ( إبراهيم : ( 18 - 34 ) مثل الذين كفروا . . . .
" مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله(4/184)
" صفحة رقم 185 "
الظالمين ويفعل الله ما يشاء ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار "
( القراآت )
الرياح ( على الجمع : أبو جعفر ونافع. الباقون على التوحيد ) خالق السموات والأرض ( بلفظ اسم الفاعل : حمزة وعلي وخلف. الباقون بلفظ الفعل. ) سبلنا ( بإسكان الباء حيث كان : أبو عمرو ) لي عليكم ( بفتح الياء : حفص. ) بمصرخي ( بكسر الياء : حمزة. الآخرون بالفتح ) أشركتموني ( بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل ، وافق عمرو ويزيد وقتيبة وإسماعيل في الوصل ) البوار ( ممالة : أبو عمرو وعلي : ( ليضلوا ( بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون بضمها. ) لعبادي الذين ( مرسلة : الياء : ابن عامر وحمزة وعلي ويعقوب والأعشى. الباقون بالفتح. ) من كل ( بالتنوين : يزيد وعباس. الباقون بالإضافة. الوقوف : ( عاصف ( ط بناء أن ما بعده مستأنف كأن سائلاً هل يقدرون من أعمالهم ) على شيء ( ط ) البعيد ( ه ) بالحق ( ط ) جديد ( ه لا لأن ما بعده يتم معنى الكلام ) بعزيز ( ه ) من شيء ( ط ) لهديناكم ( ط لابتداء النفي ) فأخلفتكم ( ط الحق أن من قال إن الابتداء بقوله : ( إني كفرت ( قبيح فجوابه أن الكفر بالإشراك واجب كالإيمان ) من قبل ( ط ) أليم ( ه ) بإذن ربهم ( ط ) سلام ( ه ) في السماء ( ه لا ) ربها ( ط ) يتذكرون ( ه ) من قرار ( ط ) وفي الآخرة ( ج لتكرار اسم الله تعالى في الفعلين مع أن كليهما مستقل بخلاف قوله : ( ويفعل الله ( لأنه في المعنى بيان قوله : ( ويضل الله ( ) وما يشاء ( ه ) البوار ( لا ) جهنم ( ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً أو حالاً من فاعل ) أحلوا ( أو مفعوله أو من كليهما ) يصلونها ( ط ) القرار ( ه ) عن سبيله ( ط ) إلى النار ( ه ) ولا خلال ( ه ) رزقاً لكم ( ط ) بأمره ( ج ) الأنهار ( ج ) دائبين ((4/185)
" صفحة رقم 186 "
ج ) والنهار ( ج لحسن هذه الوقوف مع العطف لتفصيل النعم تنبيهاً على الشكر ) سألتموه ( ط لابتداء الشرط مع تمام الكلام ) لا تحصوها ( ط ) كفار ( ه. التفسير : لما ذكر في الآيات المتقدمة أنواع عذاب الكفار أراد أن يبين غيابة حسرتهم ونهاية خيبتهم. فقال : ( مثل الذين ( وارتفاعه عند سيبويه على الابتداء والخبر محذوف أي فيما يتلى أو يقص عليكم مثلهم. وقوله : ( أعمالهم كرماد ( جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم. وقال الفراء : المضاف محذوف أي مثل أعمال الذين كفروا. وإنما جاز حذفه استغاء بذكره ثانياً. وقيل : المثل صفة فيها غرابة فأخبر عنها بالجملة المراد صفة الذين كفروا ) أعمالهم كرماد ( كقولك ( صفة زيد عرضه مصون وماله غير مخزون ) ويجوز أن يكون ) أعاملهم ( بدلاً والخبر ) كرماد ( وحده. والمراد بأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأسارى وعقر الإبل للأضياف وإغاثة الملهوفين وإعانة المظلومين ، شبهها في حبوطها - لبنائها على غير أساس التوحيد والإيمان - برماد طيرته الريح في يوم عاصف. قال الزجاج : جعل العصف لليوم وهو لما فيه يعني الريح مجازواً كقولك ( يوم ماطر ). قال الفراء : وإن شئت قلت في يوم ذي عصوف أو في يوم عاصف الريح فحذف لذكره مرة. وقيل : المراد من أعمالهم عباداتهم للأصنام. ووجه حسرتهم أنهم أتعبوا أبدانهم فيها دهراً طويلاً. ثم لم ينتفعوا بذلك بل استضروا به. وقوله : ( مما كسبوا على شيء ( القياس عكسه كما في ( البقرة ) لأن ( على ) من صلة القدرة ولأن مما كسبوا صفة لشيء ولكنه قدم في هذه السورة لأن الكسب - أعني العمل الذي ضرب له المثل - هو المقصود بالذكر ولهذا أشار إليه بقوله : ( ذلك هو الضلال البعيد ( أي عن الحق والثواب. ثم كان لسائل أن يسأل : كيف يليق. بحكمته إضاعة أفعال المكلفين ؟ فقال : ( ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق ( مستتبعة للفوائد والحكم دالة على وجود الصانع القدير ، فحبوط الأعمال إنما يلزم من كفر المكلفين وكونها غير مبنية على قاعدة الإيمان والإخلاص لا من أنه سبحانه يمكن أن يوجد في أفعاله عبث أو خلل أو سهو. ثم بين كمال قدرته واستغنائه عن الظلم والقبائح وعن عمل كل عامل فقال : ( إن يشأ يذهبكم ( وقد مر مثله في سورة النساء. ) وما ذلك على الله بعزيز ( بمتعذر لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور. فإن قيل : الغرض من الآية إظهار القدرة وزجر المكلفين عن المعصية وذلك إنما يتم بقوله : ( إن يشأ يذهبكم ( فما فائدة قوله : ( ويأت بخلق جديد ( وهل فيه دليل على أن الفياض لا يوجد بدون الفيض ؟ قلنا : على تقدير تسليمه لا تنحصر الفائدة فيه بل لعل الفائدة هي(4/186)
" صفحة رقم 187 "
تأكيد التخويف فإن التألم من تصور العدم المجرد ليس كالتألم من تصور عدمه مع إقامة غيره مقامه ، على أن الإذهاب لا يلزم منه الإعدام فيكون شبيهاً بعزل شخص ونصب غيره مقامه. وللحكيم أن يستدل بقوله : ( يذهبكم ( على أن مادة الجوهر لا تعدم وإنما تنعدم الصور والأعراض. والجواب أن الإذهاب ههنا بمعنى الإعدام ، ولو سلم فلا يلزم من عدم وقوع الإعدام ههنا امتناعه في جميع الصور. وفيه أنه الحقيق بأن يخشى عقابه ويرجى ثوابه فلذلك أتبعه أحوال الآخرة فقال : ( وبرزوا ( بلفظ الماضي تحقيقاً للوقوع مثل ) وسيق ) [ الزمر : 73 ] ( ونادى ) [ الأعراف : 48 ] والتركيب يدل على الظهور بعد الخفاء ومنه ( امرأة برزة ) إذا كانت تظهر للناس ( وبرز فلان على أقرانه ) إذا فاقهم. ومعنى بروزهم لله وهو سبحانه لا يخفى عليه شيء أنهم كانوا يستترون عن العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خافٍ على الله. فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية ، أو المضاف محذوف أي برزوا لحساب الله وحكمه. قال أبو بكر الأصم : قوله : ( وبرزوا لله ( هو المراد من قوله : ( ومن ورائه عذاب غليظ ( وعلى قواعد الحكماء : النفس إذا فارقت الجسد زال الغطاء بعالم الحس فذلك هو البروز لله ، فإن الهيئات التي كان يمنعها عن الشعور بها اشتغالها بعالم الحسن فذلك هو البروز لله ، فإن كانوا من السعداء برزوا لموقف الجمال بصفاتهم القدسية وهيئاتهم النورية ، فما أجل تلك الأحوال ويا طوبى لأهل النوال. وإن كانوا من الأشقياء برزوا لموقف الجلال بأوصافهم الذميمة وهيئاتهم المظلمة ، فما أعظم تلك الفضيحة وما أشنع تلك المهانة. كتب ) الضعفواء ( بواو قبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ومثله : ( علمواء بني إسرائيل ) [ الشعراء : 197 ] والضعفاء العوام الأراذل ، والذين استكبروا سادتهم وأشرافهم الذين استنكفوا عن عبادته تعالى فضلوا وأضلوا. قال الفراء : أكثرهم أهل اللغة على أن التبع جمع تابع كخدم وخادم وحرس. وجوز الزجاج أن يكون التبع مصدراً أي ذوي أتباع إما في الكفر أو في الأمور الدنيوية ) فهل أنتم مغنون ( هل يمكنكم دفع عذاب الله ) عنا ( ومن في ) من عذاب الله ( للتبيين وفي ) من شيء ( للتبعيض. والمعنى هل تدفعون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله أو كلاهما للتبعيض بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله ) قالوا لو هدانا الله لهديناكم (. عن ابن عباس : لو أرشدنا الله لأرشدناكم قال الواحدي : معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال لأن الله أضلهم ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى. وقال في الكشاف : لعلهم قالوا ذلك مع أنه كذبوا فيه كقوله : ( يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما(4/187)
" صفحة رقم 188 "
يحلفون لكم ) [ المجادلة : 18 ] واعترض عليه بأن هذا خلاف مذهبه لأنهم لا يجوّزون صدور الكذب عن أهل القيامة كما مر في أوائل ( الأنعام ) في قوله : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الآية : 23 ] وجوز أيضاً أن يكون المراد لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان. وزيف بأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف فقد فعله. وقيل : لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة ، ويؤكد هذا التفسير قوله : ( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ( وإعرابه كقوله : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) [ البقرة : 6 ] أرادوا إقناطهم من دفع العذاب بالكلية ، أو أرادوا أن عتاب الضعفاء لهم وتوبيخهم إياهم نوع من الجزع ولا فائدة فيه ولا في الصبر. وجوز في الكشاف أن يكون قوله : ( سواء علينا ( الخ من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً نظيره في وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر ، قوله : ( ذلك ليعلم أني لم أخنه ( ) يوسف : 52 ] والمحيص المنجي والمهرب مصدر كالمغيب والمحيص ، أو مكان كالمبيت والمضيف. ولما ذكر مناظر شياطين الإنس أتبعها مناظرة شيطان الجن. ومعنى ) قضي الأمر ( قطع وفرغ منه وذلك حين انقضاء المحاسبة. والأكثرون على أنه بعد الحساب ودخول الأشقياء النار والسعداء الجنة. وعند أهل السنة هو بعد خروج الفساق من النار فليس بعد ذلك إلا الدوام في الجنة أو في النار. يروى أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيباً في النار فيقول : ( إن الله وعدكم وعد الحق ( وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم يقول الكافرون قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن لنا ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول ). ووعد الحق من إضافة الموصوف إلى صفته مثل ( مسجد الجامع ) ، أو تأويله وعد اليوم الحق ، أو الأمر الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال. وفي الآية إضماران : الأول وعدكم وعد الحق فوفى لكم بما وعدكم. الثاني ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم الوعد. ووجه الإضمار الأول دلالة الحال عليه لأنهم كانوا يشاهدون وليس وراء العيان بيان ، ولأن ذكر نقيضه وهو إخلاف الوعد من الشيطان يغني عنه ، ووجه الثاني أيضاً مثل ذلك. ثم ذكر طريق وسوسته اعتذاراً منهم فقال : ( وما كان لي عليكم من سلطان ( من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي ) إلا أن دعوتكم ( قال النحويون : هذا الاستثناء منقطع لأن الدعاء ليس من جنس السطان فالمراد لكن دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوسة ، ويمكن أن يوجه الاستثناء بالاتصال لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة تكون بالقسر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاءه الوساوس إليه فهذا نوع من أنواع التسلط .(4/188)
" صفحة رقم 189 "
) فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ( لأنكم ما سمعتم مني إلا الدعاء والتزيين وكنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبيائه فكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي ولا تلتفتوا إليّ. قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ، وليس من الله إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين ، ولو كان الأمر كما يزعم المجبرة لقال : ( فلا تلوموني ولا أنفسكم ) فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه ، وقول الشيطان وإن لم يصلح للحجة إلا عدم إنكار الله تعالى عليه حجة. هذا مع أن اول كلام اللعين مبني على الإنصاف والصدق فكذا ينبغي أن يكون آخره. قال المحققون. الشيطان الأصلي هو النفس وذلك أن الإنسان إذا أحس بشيء أو أدركه ترتب عليه شعوره بكونه ملائماً له ، أو بكونه منافراً له ويتبع هذا الشعور الميل الجازم إلى الفعل أو إلى الترك ، وكل هذه الأشياء من شأن النفس ولا مدخل للشيطان في شيء من هذه المقامات إلا بأن يذكره شيئاً من أن الإنسان كان غافلاً عن صورة امرأة فيلقى الشيطان حديثها في خاطره. وكيف يعقل تمكن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان وإلقاء الوسوسة إليه ؟ جوابه أن الشيطان إذا كان جسماً لطيفاً والله سبحانه ركبه تركيباً عجيباً لا يقبل التفرق والتمزق مع لطافته فلا يستبعد نفوذه في الأجرام الكثيفة كالنار تسري في الفحم وكالدهن في السمسم وإن كان جوهراً نورانياً مجبولاً على الشر ، والنفس الإنسانية أيضاً جوهر علوي مجرد فلا يبعد وصول أثر أحدهما إلى الآخر. وذهب بعض الحكماء إلى أن كل روح من الأرواح البشرية فإنه ينتسب إلى روح معين من الأرواح السماوية ، وأنها تتولى إرشاد الأرواح الإنسانية إلى مصالحها بالإلهامات الحسنة في حالتي النوم واليقظة. هذا إذا كانت خيرة ، وأما إذا كانت شريرة فإنها توسوسها بالخواطر والأعمال القبيحة ، والقدماء كانوا يسمون كلاً من تلك الأرواح بالطباع التام. وذكر بعض العلماء احتمالاً آخر وهو أن النفوس البشرية إذا فارقت أبدانها قويت في تلك الصفات التي اكتسبتها في تلك الأبدان وكملت فيها ، فإذا حدثت نفس أخرى مشاكلة لتلك النفس المفارقة في بدن مشاكل لبدن تلك النفس المفارقة حدث بين تلك النفس المفارقة وبين هذا البدن نوع تعلق ، فتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن وتعضدها على أحوالها وأفعالها ، فإذا كان هذا المعنى في أبواب الخير كان إلهاماً ، وإن كان في باب الشر كان وسوسة. ثم حكى الله سبحانه عن الشيطان أنه قال : ( ما أنا بمصرخكم ( قال ابن عباس : يريد بمعينكم ولا منقذكم. قال ابن الأعرابي : الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث. صرخ فلان إذا استغاث. وقال واغوثاه ، وأصرخته أي أغثته. وعاب النحويون على حمزة(4/189)
" صفحة رقم 190 "
أنه قرأ : ( وما أنتم بمصرخيّ ( لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف في نحو ( عصاي ) فما بالها وقبلها ياء. وحاصل ما عابوا عليه أنه لم يوجد له نظير في استعمال العرب ، لكنك تعلم أن القرآن حجة على غيره. قوله : ( إني كفرت بما أشركتموني ( إن كان ( ما ) مصدرية فالمعنى إن يكفرت أي أنا جاحد وما كان لي رضا بإشراككم لي في الدنيا مع الله في الطاعة وفي أن لي تدبيراً وتصرفاً في هذا العالم ، وإن كانت موصولة على ما قاله الفراء من أن ( ما ) في معنى ( من ) كقوله : ( سبحان ما سخركن لنا ) فالمراد إني كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالله الذي أشركتمونيه. ووجه نظم الكلام على هذا التفسير أن إبليس كأنه يقول : لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت بالله قبل أن كفرتم ، وما كان كفري بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى السوسة ، وهذا التقرير يناسب أصول الأشاعرة. أما قوله : ( إن الظالمين لهم عذاب أليم ( فالأظهر أنه كلام الله ، ويشمل إبليس ومن تابعه من الثقلين وليس ببعيد أن يكون من بقية كلام إبليس قطعاً لأطماع أولئك الكفار عن إثاته. ثم شرع في أحوال السعداء وقال : ( وأدخل ( على لفظ الماضي تحقيقاً للوقوع ، وقوله : ( بإذن ربهم ( متعلق ب ) أدخل ( أي أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره. وقرأ الحسن ) وأدخل ( على لفظ المتكلم. قال في الكشاف : فعلى هذا يتعلق قوله : ( بإذن ربهم ( بما بعده يعني أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم. وقد تقدم معنى قوله : ( تحيتهم فيها سلام ( في أول سورة يونس. ثم لما بين أحوال السعداء وكان قد ذكر أحوال أضدادهم ، أراد أن يذكر لكل من الفريقين مثلاً. قال في الكشاف ) كلمة طيبة ( نصب بمضمر أي جعل كلمة طيبة ) كشجرة طيبة ( وهو تفسير لقوله : ( ضرب الله مثلاً ( أو ضرب بمعنى جعل أي جعل الله كلمة طيبة مثلاً. ثم قال كشجرة طيبة أي هي كشجرة. وقال صاحب حل العقد : أظن أن الوجه أن يجعل قوله : ( كلمة ( عطف بيان ، وقوله : ( كشجرة ( مفعول ثانٍ. عن ابن عباس : الكلمة الطيبة هي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله. والشجرة الطيبة شجرة في الجنة. وعن ابن عمر : هي النخلة. وقيل : الكلمة الطيبة كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة. والشجرة كل شجرة مثمرة طيية الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك. وقيل : لا حاجة بنا إلى تعيين تلك الشجرة ، والمراد أن الشجرة الموصوفة ينبغي لكل عاقل يسعى في تحصيلها وادّخارها لنفسه سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن. أما صفات الشجرة فالأولى كونها طيبة ويشمل طيب المنظر والشكر والرائحة وطيب(4/190)
" صفحة رقم 191 "
الفاكهة المتولدة منها وطيب منافعها والثانية : ( أصلها ثابت ( راسخ آمن من الانقطاع. ولا شك أن الشيء الطيب إنما يكمل الفرح بحصوله إذا أمن انقراضه وزواله. والثالث ) وفرعها في السماء ( أي في جهة العلو وهذا تأكيد لرسوخ أصله فإن الأصل كلما كان أقوى وأرسخ كان الفرع أعلى وأشمخ. ومن فوائد ارتفاع الأغصان بعدها عن عفونات الأرض ونقاؤها عن القاذورات. قال في الكشاف : فرعها أعلاها ورأسها ، ويجوز أن يريد وفروعها على الاكتفاء بلفظ الجنس. الصفة الرابعة ) تؤتي أُكلها كل حين ( أي تعطي ثمرها كل وقت وقَّته الله لأثمارها. وعن ابن عباس : الحين ستة أشهر لن من حملها إلى صرامها ستة أشهر. وقال مجاهد وابن زيد : سنة لأن الشجرة من العام إلى العام تحمل الثمرة ولا سيما النخلة إذا تركوا عليها التمر بقي من السنة إلى السنة. وقال الزجاج : الحين الوقت طال أم قصر. والمراد أنه ينتفع بها في وقت يفرض ليلاً ونهاراً صيفاً وشتاءً ) بإذن ربها ( بتيسير خالقها وتكوينه. قال المحققون : معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته وطاعته هي الشجرة الطيبة بل لا طيب ولا لذيذ إلا هي ، لأن المدركات المحسوسة إنما تصير مدركة لملاقاة شيء من المحسوس شيئاً من الحارس. أما نور معرفة الله وإشراقها فإنما ينفذ ويسري في جميع جواهر النفس حتى إنه يكاد يتحد به. ثم إن سائر اللذات منقطعة متناهية ، ولذة المعرفة لا تكاد تنتهي إلى حد. وإن عروق هذه الشجرة ثابتة راسخة في جوهر النفس الناطقة ولها شعب وأغصان صاعدة في هواء العالم الروحاني يجمعها التعظيم لأمر الله ، ومنشؤها القوة النظرية ، وغايتها الحكمة العملية بأقسامها وأصولها وفروعها ، وأغصان نابتة في فضاء العالم الجسماني ومنبتها القوة العملية وفائدتها الحكمة الخلقية التي يجمعها الشفقة على خلق الله عموماً وخصوصاً. وأثر رسوخ شجرة ثابتة راسخة في جوهر النفس الناطقة ولها شعب وأغصان صاعدة في هواء العالم الروحاني يجمعها التعظيم لأمر الله ، ومنشؤها القوة النظرية ، وغايتها الحكمة ا لعملية بأقسامها وأصولها وفروعها ، وأغصان نابتة في فضاء العالم الجسماني ومنبتها القوة العملية وفائدتها الحكمة الخلقية التي يجمعها الشفقة على خلق الله عموماً وخصوصاً. وأثر رسوخ شجرة المعرفة في القلب أن يكون نظره للاعتبار ) فاعتبروا يا أولي الأبصار ) [ الحشر : 2 ] وسمعه للحكمة ) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) [ الزمر : 18 ] ونطقه بالصدق والصواب ) وقولوا قولاً سديداً ) [ الأحزاب : 70 ] وكذا الكلام في سائر القوى والأعضاء. وهنالك مراتب لا تكاد تنحصر بحسب مراتب الاستعدادات. وإذا صار جوهر النفس كاملاً بحسب هذه الفضائل فقد يكون مكملاً لغيره وذلك قوله : ( تؤتي أكلها كل حين (. وفي قوله : ( بإذن ربها ( إشارة إلى أن النظر في جميع هذه المراتب يجب ان يكون على المفيض لا على الفيض ، وعلى المنعم لا على النعمة. و ) ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ( المبدأ وعرفانه والمعاد وإتيانه فيختار الكمال على النقصان. وأثر العرفان للمعروف لا للعرفان فيكون حينئذ جوهر النفي كلمة طيبة كما قال في حق عيسى ) كلمة(4/191)
" صفحة رقم 192 "
من الله ) [ آل عمران : 39 ]. وإذا عرفت الكلمة الطيبة والشجرة الطيبة سهل عليك معرفة ضديهما. فالكلمة الخبيثة كلمة الشرك أو كل كلمة قبيحة أو كل نفس شريرة ، والشجرة الخبيثة الباطل أو كل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والثوم ونحو ذلك. ومعنى اجتثت استؤصلت وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها ) ما لها من قرار ( أي من استقرار مصدر كالثبات والنبات. وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء ما تقول في كلمة خبيثة ؟ فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقراً ولا في السماء مصعداً إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها القيامة. قلت : وذلك أن الباطل نقيض ذلك بل الباطل لا يستقر صاحبه عليه ولا يحصل له منه برد مضمحل زائل. والحق نقيض ذلك بل الباطل لا يستقر صاحبه عليه ولا يحصل له منه برد اليقين. وكذا النفس الخبيثة لا تكون لها طمأنينة ولا وقار ، تراها أبداً تسعى في الطرق المضلة والسبل المنحرفة كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران. ولما شبه حال الفريقين بما شبه بين مآل حالهما فقال : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ( أي الذي ثبت بالحجة والبرهان وتمكن في قلب صاحبه بحيث لم يكن للتشكيك فيه مجال. هذا في الحياة الدنيا فلا جرم إذا فتنوا في دينهم لم يزالوا كأصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا في القبول لم يتلعثموا ، وإذا وقفوا بين يدي الجبال لم يبهتوا. عن ابن عباس : من دوام على الشهادة في الحاية الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقه إياها. وقد ورد في حديث سؤال القبر عن البراء بن عازب مثل ذلك. والسبب العقلي فيه أن المواظبة على الفعل توجب رسوخ الملكة بحيث لا تزول بتبدل الأحوال وتقلب الأطوار. وإنما فسرت الآخرة ههنا بالقبر لأن الميت ينقطع بالموت عن أحكام الدنيا ويدخل في أحكام الآخرة. فمعنى الآية يثبت الله الذين آمنوا بالله وبما يجب الإيمان به على ما آمنوا به في الدارين ، على الثواب والكرامة سببب القول الثابت الذي كان يصدر عنهم حال ما كانوا في الحياة الدنيا ، وسيصدر عنهم حال ما يكونون في الآخرة. ويرد عليه أن الآخرة ليست دار عمل وإن كان قوله : ( في الحياة الدنيا ( متعلقاً بقوله : ( ويثبت ( أي ثبتهم على الثواب في الدارين لقوله سبحانه : ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) [ النحل : 97 ] ( ويضل الله الظالمين ( الذين وضعوا الباطل موضع الحق والشرك بدل التوحيد في الدارين ، فلا جرم إذا سئلوا في قبورهم قالوا لا ندري. ) ويفعل الله ما يشاء ((4/192)
" صفحة رقم 193 "
من التثبيت والإضلال. ولا اعتراض لأحد عليه أو من منح الألطاف ومنعها كما تقتضيه الحكمة. ثم عجب من ظالمي مكة بقوله : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله ( أي شكر نعمته ) كفراً ( أي وضعوا مكان الشكر الكفر أو بدلوا نفس النعمة كفراً أي سلبوا النعمة فلم يبق معهم إلا الكفر. وذلك أنه تعالى أسكنهم حرمه ووسع عليهم معايشهم وأكرمهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يقوموا بشكر تلك النعم فضربهم بالقحط سبع سنين وقتلوا يوم بدر وبقي الكفر طوقاً في أعناقهم وأعناق من تابعهم وذلك قوله : ( وأحلوا قومهم دار البوار ( أي الهلاك. وقوله ( جهنم ( عطف بيان ) وبئس القرار ( أي المقر مصدر سمى به. قوله : ( ليضلوا ( من قرأ بضم الياء فاللام للغرض أو للعاقبة ، ومن قرأ بفتحها فاللام للعاقبة لأن العاقل لا يريد ضلال نسه ولكنه قد يريد إضلال الغير لمصلحة دنيوية. وإنما حسن استعمال اللام لأجل العاقبة من حيث إنهاتشبه الغاية والغرض من قبل حصولها في آخر المراتب والمشابهة أحد الأمور المصححة للمجاز. ) قل تمتعوا ( أمر وعيد وتهديد. قال جار الله : فيه إيذانبأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر مأمورون به قد أمرهم آمر مطاع هو آمر الشهوة. والمعنى إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة ) فإن مصيركم إلى النار ( وإنما سمى عيش الكفار تمتعاً لأن إمهالهم في الدنيا على أيّ وجه يفرض يكون أسهل مما أعد لهم في الآخرة من العقاب. ومن الذين نزل فيهم ؟ روي عن عمر أنه قال : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أمية. فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين. وقيل : هم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه. ولما أمر الكافرين بالتمتع بنعيم الدنيا تهديداً أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بحث المؤمنين على خلاف ذلك وهو الإقبال على ما ينفعهم في الآخرة فقال : ( قل لعبادي الذين ( المقول محذوف لأن جواب ( قل ) يدل عليه التقدير : قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا. وجوز بعضهم أن يكون المذكور هو المقول بناء على أنه أمر غائب محذوف اللام. وإنما حسن الحذف لأن الأمر الذي هو ( قل ) عوض منه ، ولول قيل : ( يقيموا الصلاة وينفقوا ) ابتداء بحذف اللام لم يجز. والخلال المخالة أراد أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في هذا اليوم الذي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مصادقة ، وإنما ينتفع بالإنفاق لوجه الله. ونفي المخالة في هذه الآية وفي قوله في البقرة : ( لا بيع فيه ولا خلة ) [ الآية : 254 ] لا ينافي إثباتها في قوله : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ ولا المتقين ) [ الزخرف : 67 ] لأن المنفية هي التي سببها ميل الطبيعة ورغبة النفس ، والمثبتة هي التي يوجبها الاشتراك في الإيمان العمل الصالح .(4/193)
" صفحة رقم 194 "
ولما ختم أحوال المعاد عاد إلى المبدإ فقال : ( الله ( وهو مبتدأ خبره ) الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم ( وقد مر في أول ( البقرة ) والمراد من السماء جهة العلو. وقيل : نفس السماء ، وزيف بأن الإنسان ربما كان واقفاً على قلة جبل عال ويرى الغيم أسفل منه ، وإذا نزل من ذلك الجبل يرى الغيم ماظراً عليه. ) وسخر لكم الفلك ( كقوله في أواسط البقرة ) والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ( ) الآية : 164 ] وقد مر. ومعنى ) بأمره ( بتيسيره وتسييره لأنه خلق موادها وألهم صنعتها وجعل الماء بحيث يسهل على وجهه جريها ، ولأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال إنه أمر بكذا. ومنهم من حمل الأمر على الظاهر أي بقوله : ( كن ). ) وسخر لكم الأنهار ( وجه المنة فيها أن البحر قلما ينتفع به في العمارة والزراعة لعمقه ولملوحته ففجر الله الأنهار والعيون والآبار الصالحة للانتفاع بها كما لا يخفى ) وسخر لكم الشمس والقمر ( أي صيرهما تحت تصرفه وتسخيره بحيث يعود انتفاع ذلك عليكم من التسخين والترطيب والإضاءة والإنارة لأنهما مذللان للإنس. وقوله : ( دائبين ( نصب على الحال. والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة مطردة أي يدأبان في مسيرهما وإنارتهما وسائر نافعهما وخواصهما ، وهكذا معنى التسخير في قوله : ( وسخر لكم الليل والنهار ( أي قدر هذين العرضين المتعاقبين لراحة الإنسان ولمعاشه. ولما فصل طرفاً من النعم أجمل الباقية منها بقوله : ( وآتاكم من كل ما سألتموه ( أي بعض جميع ما سألتموه. ومن قرأ بالتنوين ف ( ما ) إما نافية والجملة نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ، أو موصولة بمعنى وآتاكم منكل ذلك ما احتجتم إليه وطلبتموه بلسان الحال. ثم بين أن نعم الله على عبيده غير متناهية فقال : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ( أي لا تقدرون على تعدادها لكثرتها بل لعدم تناهيها. قال الواحدي : النعمة ههنا اسم أقيم مقام المصدر كالنفقة بمعنى الإنفاق ولهذا لم تجمع. ومن تأمل في تشريح الأبدان وفي أعضاء الحيوان وأجزائها من العروق الدقاق ولاأوردة والشرايين وفي كل واحد من الأعضاء البيسطة والمركبة ووقف على منافعها ، عرف بعض دقائق نعم الله تعالى على عباده. وإذا جاوز النفس إلى الآفاق وسير فكره في أحوال الأجسام السفلية والعلوية ، وقف من بديع صنعتها وعظيم منفعتها على ما يقضى منه العجب. وإذا عبر الملك إلى الملكوت تاه في أودية الحيرة والدهشة وتلاشى عقله عند أدنى سرادقات العزة والهيبة. قال الحكيم : إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها. أما الذي قبلها فكالخبز والطحن والزرع وغير ذلك من الآلات المعينة والأسباب الفاعلية(4/194)
" صفحة رقم 195 "
والقابلية حتى تنتهي إلى الأفلاك والعناصر ، وأما الذي بعده فكالقوى المعينة على الجذب والإمساك والهضم والدفع وكالأعضاء الحاملة لتلك القوى وكسائر الأمور النافعة في ذلك الباب خارجة من البدن أو داخلة فيه ، فإنها لا تكاد تنحصر. وإذا كانت نعم الله تعالى في تناول لقمة واحدة تبلغ هذا المبلغ فكيف فيما جاوز ذلك ؟ إذا كنت في عالم الأجساد ، فإذا تخطيت إلى عالم الأرواح وأجلت طرف عقلك في ميادين القدس وحظائر الأنس وصادفت بعض ما هنالك من الكرامات واللذات فلعلك تعرف حق النعمة إذ تغرق في لجة المنة أو تغرف من نهر المنحة والنعم هنالك على وفق الاستعداد وإدراك النعم بمقدار الفهم والرشاد ، فإن كنت أهلاً لها فذاك وإلا فلا تلم إلا نفسك ) إن الإنسان ( أي هذا الجنس ) لظلوم ( يظلم النعمة بإغفال شكرها ) كفار ( شديد الكفران لها وذلك أنه مجبول على النسيان والملالة فلا بد أن يقع في إغفال شكر النعمة إن نسيها ، أو في كفران النعمة إذا ملها. وقيل : ظلوم في الشدائد بالشكاية والجزع كفار في السعة يجمع ويمنع. واعلم أنه ختم الآية في هذه السورة بما ختم وختمها في النحل بقوله : ( إن الله لغفور رحيم ( وكأنه قال : إن كنت ظلوماً فأنا غفور ، وإن كنت كفاراً فأنا رحيم فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ، ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء ، تلك صفتك في الأخذ وهذه صفتي في الإعطاء. التأويل : ( وبرزوا ( من القشور الفانية ) لله جميعاً ( من القويّ والضعيف ) فقال الضعفاء ( وهم المقلدة ) للذين استكبروا ( من المبتدعين ) إني كفرت بما أشكرتموني ( آمن اللعين حين لا ينفع نفساً إيمانها ) وأدخل ( فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا خلى وطباعه لا يدخل الجنة لأنه خلق ظلوماً جهولاً سفلي الطبع ، وإنما يدخله الله بفضله وعنايته ) جنات ( القلوب ) تجري من تحتها ( أنهار الحكمة ) خالدين فيها بإذن ربهم ( أي بعنايته وإلا لم يبق فيها ساعة كما لم يبق آدم. تحية أهل القلوب على أهل القلوب لسلامة قلوبهم ، وتحيتهم على أهل النفوس لمرض قلوبهم ليسلموا من شر نفوسهم ) وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) [ الفرقان : 63 ] ( ألم تر ( أي ألم تشاهد بنور النبوّة ) كيف ضرب الله مثلاً ( للاستعداد الإنساني القابل للفيض الإلهي دون سائر مخلوقاته ) كلمة طيبة ( هي كلمة التوحيد ) كشجرة طيبة ( عن لوث الحدوث مثمر إثمار شواهد أنوار القدم ) أصلها ثابت ( في الحضرة الإلهية فإنها صفة قائمة بذاتها ) وفرعها ( في سماء القلوب ) تؤتي أكلها ( من أنوار المشاهدات والمكاشفات ) كل حين ( يتقرب العبد إلى ربه يتقرب الرب تعالى إليه ) ويضرب الله الأمثال للناس ( لمن نسي العهد الأوّل ) لعلهم يتذكرون ( الحالة الأولى فيسعون في إدراكها ) ومثل كلمة ( تتولد من خباثة النفس(4/195)
" صفحة رقم 196 "
) اجتثت من فوق ( أرض البشرية ) ما لها من قرار ( لأنها من الأعمال الفانيات لا من الباقيات الصالحات. ) يثبت الله الذين آمنوا ( يمكنهم في مقام الإيمان بملازمة كلمة لا إله إلا الله والسير في حقائقها ) في الحياة الدنيا وفي الآخرة ( لأن سير أصحاب الأعمال ينقطع بالموت وسير أرباب الأحوال لا ينقطع أبداً. ) وأحلوا قومهم ( أرواحهم وقلوبهم ونفوسهم وأبدانهم ، أنزلوا أبدانهم جهنم البعد ونفوسهم الدركات وقلوبهم العمى والصمم والجهل ، وأرواحهم العلوية أسفل سافلين الطبيعة فبدلوا نعم الأخلاق الحميدة كفراً لأوصاف الذميمة ) الله الذي خلق ( سموات القلوب وأرض النفوس ) وأنزل من ( سماء القلوب ) ماء ( الحكمة ) فأخرج به ( ثمرات الطاعات ) رزقاً ( لأرواحكم ) وسخر لكم ( فلك الشريعة ) لتجري في ( بحر الطريقة بأمر الحق لا بالهوى والطبع. وكم لأرباب الطلب من سفن انكسرت بنكباء الهوى ) وسخر لكم ( أنهار العلوم الدينية وشمس الكشوف وقمر المشاهدات وليل البشرية ونهار الروحانية. ومعنى التسخير في الكل جعلها أسباباً لاستكمال النفس الإنسانية ) وآتاكم من كل ما سألتموه ( من سائر الأسباب المعينة على ذلك ، فجميع العالم بالحقيقة تبع لوجود الإنسان وسبب لكماليته وهو ثمرة شجرة المكونات فلذلك قال : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ( لأن مخلوقاته غير منحصرة ولكها مخلوق لاستكماله ) إن الإنسان لظلوم ( بإفساد استعداده ) كفار ( لا يعرف قدر نعمة الله في حقه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. قوله تعالى : ( إبراهيم : ( 35 - 52 ) وإذ قال إبراهيم . . . .
" وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم(4/196)
" صفحة رقم 197 "
من زوال وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب "
( القراآت )
إبراهام ( بالألف : هشام الأخفش عن ابن ذكوان ) إني أسكنت ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ) ومن عصاني ( بالإمالة. علي ) دعائي ( بالياء في الحالين : ابن كثير ويعقوب. وقرأ أبو عمرو ويزيد وورش وحمزة وسهل والبرجمي والخزاز عن هبيرة وأحمد بن فرج عن أبو عمرو ويزيد وورش وحمزة وسهل والباقون والهاشمي عن ابن فليح بغير ياء في الحالين. ) نؤخرهم ( بالنون : عباس والمفضل في رواية أب زيد. الآخرون بالياء. ) لتزول ( بفتح الأول ورفع الآخر : عليّ. الباقون بكسر الأول ونصب الآخر. ) القهار ( مثل ) البوار ( ) قطر ( بكسر القاف وسكون الطاء والراء مكسورة منونة. ) آن ( على أنه اسم فاعل : يزيد عن يعقوب والوقف على قراءته ) آني ( بالياء. الوقوف : ( الأصنام ( ط ) من الناس ( ج ) مني ( ج فصلاً بين النقيضين مع اتحاد الكلام ) رحيم ( ه ) المحرم ( لا لأن قوله : ( ليقيموا ( يتعلق بقوله : ( أسكنت ( وكلمة ) ربنا ( تكرار ) يشكرون ( ه ) ما نعلن ( ط ) ولا في السماء ( ه لا ) وإسحاق ( ط ) الدعاء ( ه ) ومن ذريتي ( ز قد قيل : ( والوصل أولى للعطف ) وربنا ( تكرار ) دعاء ( ه ) الحساب ( ط ) الظالمون ( ه ط ) الأبصار ( ه لا لأن ما بعده حال ) طرفهم ( ج لاحتمال أن قوله : ( وأفئدتهم ( يكون من صفات أهل المحشر وأن يكون من صفة الكفار في الدنيا ) هواء ( ه ط ) قريب ( لا لأن قوله : ( نجب ( جواب ) أخرنا ( ) الرسل ( ط ) زوال ( ه لا للعطف على ) أقسمتم ( ) الأمثال ( ه ) وعند الله مكرهم ( ) القهار ( ه ) في الأصفاد ( ه ج للآية ولأن الجملة بعد من صفات المجرمين ) النار ( ه لا لتعلق لام كي ) ما كسبت ( ط ) الحساب ( ه ) الألباب ( ه .(4/197)
" صفحة رقم 198 "
التفسير : إن قصة إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) يحتمل أن تكون مثالاً للكلمة الطيبة وأن تكون دعاء إلى التوحيد وإنكار لعبادة الأصنام ، وأن تكون تعديداً لبعض نعمه على عبيده فإن وجود الصالحين ولا سيما الأنبياء والمرسلين رحمة فيما بين العالمين كما قال : ( لقد منَّ الله على المؤمنين إذا بعث فيهم رسولاً ) [ آل عمران : 164 ]. وذلك بدعاء إبراهيم ومن نسله ( صلى الله عليه وسلم ) نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) . حكى الله سبحانه عنه طلب أمور منها : قوله : ( رب اجعل هذا البلد آمناً ( وقد مر في ( البقرة ) الفرق بين هذه العبارة وبين ما هنالك. ولا ريب أن في مكة مزيد أمن ببركة دعائه حتى إن الناس مع شدة العداوة بينهم كانوا يتلاقون بمكة فلا يخاف بعضهم بعضاً ، وكان الخائف إذا التجأ بمكة أمن ، وللوحش هناك استئناس ليس في غيرها ، وإنما قدم طلب الأمن على سائر المطالب لأنه لولاه لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من مهمات الدين والدنيا ومن هنا جاز التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه. وسئل بعض الحكماء أن الأمن أفضل أم الصحة ؟ فقال : الأمن دليله أن شاء لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان ، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل وإنها لو ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناول شيئاً إلى أن تموت ، فدل ذلك على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الألم الحاصل للجسد. ومنها قوله : ( واجنبني ونبيّ أن نعبد الأصنام ( قال جار الله : أهل الحجاز يقولون : جنبني شره بالتشديد. وأهل نجد : جنبني وأجنبني. وفائدة الطلب - والاجتناب حاصل - التثبت والإدامة ولا أقل من هضم النفس وإظهار الفقر والحاجة والتماس العصمة من الشرك الخفي. أما قوله : ( وبني ( فقيل : أراد بنيه نم صلبه وأنهم ما عبدوا صنماً ببركة دعائه. وقيل : أولاده وأولاد أولاده ممن كانوا موجودين حال دعوته. وقال مجاهد وابن عيينة : لم يبعد أحد من ولد إبراهيم صنماً وهو التمثال المصور ، وإنما عبدت العرب الأوثان يعني أحجاراً مخصوصة كانت لكل قوم زعموا أن البيت حجر فحيثما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت ، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار ولذلك استحب أن يقال : طاف بالبيت ولا يقال دار بالبيت. وضعف هذا الجواب بأنه إذا عبد غير الله فالوثن والصنم سيان ، على أنه سبحانه وصف آلهتهم بما ينبىء عن كونهم مصورين كقوله : ( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ) [ الأعراف : 198 ] الآيات إلى قوله : ( وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) [ الأعراف : 198 ]. وقيل : إن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده بدليل قوله : ( فمن تبعني فإنه مني ( أي من أهلي فإنه يفهم منه أن من لم يتبعه في دينه فإنه ليس من أهله كقوله لابن نوح ) إنه ليس من أهلك ) [ هود : 46 ] وقيل : إنه وإن عمم الدعاء إلا أنه أجيب في البعض كقوله : ( ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) [ البقرة : 124 ]. قالت(4/198)
" صفحة رقم 199 "
الأشاعرة : لو لم يكن الإيمان والكفر بخلق الله تعالى لم يكن لالتماس التبعيد عن الكفر معنى. وحمله المعتزلة على منح الألطاف. أما قوله : ( رب إنهن أضللن كثيراً ( فاتفقوا على أن نسبة الإضلال إليهن مجاز لأنهن جمادات فهو كقولهم ( فتنتهم الدنيا وغرتهم ) أي صارت سبباً للفتنة والاغترار بها ) فمن تبعني ( بقي على الملة الحنيفة ) فإنه مني ( أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي ) ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( قال السدي : معناه ومن عصاني ثم تاب. وقيل : إن هذا الدعاء كان قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك. وقيل : المراد أنك قادر على أن تغفر له وترحمه لأن تنقله من الكفر إلى الإسلام. وقيل : أراد أن يمهلهم حتى يتوبوا وقيل : ومن عصاني فيما دون الشرك فاستدل الأشاعر بإطلاقه من غير اشتراط التوبة على أنه شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر ، وإذا ثبت هذا في حق إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) ثبت في حق نبينا بالطريق الأولى. ثم أراد أن يعطف الله بدعائه قلوب الناس كلهم أو جلهم على إسماعيل ومن ولد منه بمكة وأن يرزقهم من الثمرات فمهد لذلك مقدمة فقال : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي ( أي بعضهم ) بواد غير ذي زرع ( أي لم يكن فيه شيء من زرع قط كقوله : ( قرآناً عربياً غير ذي عوج ) [ الزمر : 28 ] أي لا اعوجاج فيه أصلاً ولم يوجد ذلك فيه في زمن من الأزمان. وقد سبق في سورة البقرة قصة مجيء إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) بإسماعيل وأمه هاجر إلى هنالك. وفي قوله : ( عند بيتك الحرام ( دليل على أنه دعا هذه الدعوة بعد بناء البيت لا في حين مجيئه. بهما. ومعنى كون البيت محرماً أن الله حرم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرماً لأجل وقيل : سمي محرماً لأنه حرم على الطوفان أي منع منه كما سمي عتيقاً لأنه أعتق منه فلم يستول عليه ، أو حرم على المكلفين أن يقربوه بالدماء والأقذار ، أو لأنه أمر الصائرون إليه يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل ) ربنا ليقيموا الصلاة ( أي ما أسكنتهم بهذا الوادي القفر إلا لإقامة الصلاة عند البيت وعمارته بالذكر والطواف. ) فاجعل أفئدة من الناس ( ( من ) للتبعيض أي أفئدة من أفئدة الناس. قال مجاهد. لو قال أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند. وعن سعيد بن جبير : لو قال أفئدة الناس لحجة اليهود والنصارى والمجوس ولكنه أراد أفئدة المسلمين. وجوز في الكشاف أن يكون ( من ) للابتداء كقولك ( القلب مني سقيم ). وعلى هذا فإنما يحصل التبعيض من تنكير أفئدة فكأنه قيل : أفئدة ناس. ومعنى ) تهوي ( تسرع ) إليهم ( وتطير نحوهم شوقاً ونزاعاً. وقيل : تنحط وتنحدر. الأصمعي : هوى يهوي هوياً(4/199)
" صفحة رقم 200 "
بفتح الهاء إذا سقط من علو إلى سفل وفي هذا الدعاء فائدتان : إحداهما ميل الناس إلى تلك البلدة للنسك والطاعة ، والأخرى نقل الأقمشة إليه للتجارة ، وفي ضمن ذلك تتسع معايشهم وتكثر أرزاقهم ومع ذلك قد صرح بها فقال : ( وارزقهم من الثمرات ( فلا جرم أجاب الله دعاءه فجعله حراماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء. وقيل : أراد أن يحصل حواليها القرى والمزارع والبساتين. ثم ختم الآية بقوله : ( لعلهم يشركون ( لعلم أن المقصود الأصلي من منافع الدنيا وسعة الرزق هو ا لتفرغ لأداء العبادات وإقامة والوظائف الشرعية. ثم أثنى على الله سبحانه تمهيداً لدعوة أخرى وتعريضاً ببقية الحاجات فقال : ( ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن ( على الإطلاق لأن الغيب والشهادة بالإضافة إلى العالم بالذات سيان. وقيل : ما نخفي من الوجد بسبب الفرقة بيني وبين إسماعيل ، وما نعلن من البكاء والدعاء ، أو أراد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع : إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله أكلكم. قال المفسررون : ( وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ( من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم ، ويحتمل أن يكون من كلام إبراهيم و ( من ) للاستغراق أي لا يخفى على الذين يستحق العبادة لذاته شيء ما في أيّ مكان يفرض. ) الحمد لله الذي وهب لي على الكبر ( أي مع كبر السن وفي حال الشيخوخة ) إسماعيل وإسحاق ( ذكر أوّلاً كونه تعالى عالماً بالضمائر والسرائر ، ثم حمده على هذه الموهبة لأن المنة بهبة الولد في حال وقوع اليأس من الولادة أعظم لأنها تنتهي إلى حد الخوارق فكأنه رمز إلى أنه يطلب من الله سبحانه أن يبقيهما بعده ولهذا ختم الآية بقوله : ( إن ربي لسيمع الدعاء ( وهو من إضافة الصفة إلى مفعولها أي مجيب الدعاء ، أو إلى فاعلها بأن يجعل دعاء الله سميعاً على الإسناد المجازي ، والمراد سماع الله تعالى ، ويحتمل أن يكون قوله : ( إن ربي لسميع الدعاء ( رمزاً إلى ما كان قد دعا ربه وسأله الولد بقوله : ( رب هب لي من الصالحين ) [ الصافات : 100 ] روي أن إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة. وقيل : إسماعيل لأربع وستين ، وإسحق لتسعين. وعن سعيد بن جبير : لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة. ثم ختم الأدعية بقوله : ( رب اجعلني مقيم الصلاة ( أي مديمها ) ومن ذريتي ( أي واجعل بعض ذريتي كذلك لم يدع للكل لأنه علم بإعلام والله تعالى أنه يكون في ذريته كفار وذلك قوله سبحانه ) لا ينال عهدي الظالمين ) [ البقرة : 124 ] ( ربنا وتقبل دعائي ( عن(4/200)
" صفحة رقم 201 "
ابن عباس : أي عبادتي ، وحمله على تقبله الأدعية السابقة في الآية غير بعيد ) ربنا اغفر لي ( طلب المغفرة لا يوجب سابقة الذنب لأن مثل هذا إنما يصدر عن الأنبياء والأولياء في مقام الخوف والدهشة على أن ترك الأولى لا يمتنع منهم وحسنات الأبرار سيئات المقربين. أما قوله : ( ولوالدي ( فاعترض عليه بأنه كيف استغفر لأبويه وهما كافران ؟ وأجيب بأنه قال ذلك بشرط الإسلام ، وزيف بأن قوله تعالى : ( إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ) [ الممتحنة : 4 ] مستثنى من الأشياء التي يؤتسى فيها بإبراهيم ، ولو كان استغفاره مشروطاً بإسلام أبيه لكان استغفاراً صحيحاً فلم يحتج إلى الاستثناء. وقيل : أراد بوالديه آدم وحواء والصحيح في الجواب أنه استغفر له بناء على الجواز العقلي والمنع التوفيقي بعد ذلك لا ينافيه ) يوم يقوم الحساب ( أي يثبت مستعار من قيام القائم على الرجل ومثله قولهم ( قامت الحرب على ساقها ) أو أسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازياً ، أو المضاف محذوف مثل ) واسأل القرية ) [ يوسف : 82 ]. ثم عاد إلى بيان الجزاء والمعاد لأن دعاء إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) قد انجر إلى ذكر الحساب فقال : ( ولا تحسبن الله غافلاً ( إن كان الخطاب لكل مكلف أو للنبي والمراد أمته فلا إشكال ، وإن كان للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فمعناه التثبت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله إلا عالماً بجميع المعلومات ، أو المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يقولون ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. وعن ابن عيينة : تسلية للمظلوم وتهديد للظالم. قالت : لأنه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لزم أن يكون غافلاً عن الظلم أو عاجزاً عن الانتقام أو راضياً بالظلم وكل ذلك مناف لوجوب الوجود المستلزم لجميع الكمالات ) إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ( أي أبصارهم كقوله : ( واشتعل الرأس ) [ مريم : 4 ] سخص بصر الرجل إذا بقيت عينه مفتوحة لا تطرف وذلك إنما يكون عند غاية الحيرة وسقوط القوة ) مهطعين ( مسرعين قاله أبو عبيدة. والغالب من حال من يبقى بصره شاخصاً من شدة الخوف أن يبقى واقفاً ، فبين الله تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد لأنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مسرعين نحو ذلك البلاء. وقال أحمد بن يحيى : المهطع الذي ينظر في ذل وخضوع. وقيل : هو الساكت ) مقنعي رؤوسهم ( رافعيها وهذا أيضاً بخلاف المعتاد لأن الغالب ممن يشاهد البلاء أنهيطرق رأسه لكيلا يراه ) لا ترتد إليهم طرفهم ( الطرف تحريك الأجفان على الوجه الذي خلق وجبل عليه. وسمى العين بالطرف تسمية بفعلها أي لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم. والمراد دوام الشخوص المذكور. وقيل : أي لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم ) وأفئدتهم هواء ( والهواء الخلاء الذي يشغله الأجرام. وصف قلب الجبان به لأنه لا قوة فيه ، ويقال للأحمق أيضاً قلبه هواء. والمعنى(4/201)
" صفحة رقم 202 "
أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخوطر والأفكار لعظم ما نالهم ، وعن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العذاب. والأظهر أن هذه الحالة لهم عند المحاسبة لتقدم قوله : ( يوم يقوم الحساب ( وقيل : هي عندما يتميز السعداء من الأشقياء. وقيل : عند إجابة الداعي والقيام من القبور. وعن ابن جريج : أراد أن أفئدة الكفار في الدنيا صفر من الخير خاوية منه. قال أبو عبيدة : جوف لا عقول لهم ) وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ( مفعول ثان لأنذروا اليوم يوم القيامة ، واللام في العذاب للمعهود السابق من شخوص الأبصار وغيره ، أو للمعلوم وهو عذاب النار. ومعنى ) أخرنا ( أمهلنا ) إلى ( أمد وحد من الزمان ) قريب ( أو يوم هلاكهم بالعذاب النار. ومعنى ) أخرنا ( أمهلنا ) إلى ( أمد وحد من ولقاء الملائكة بلا بشرى ) أو لم تكونوا ( على إَمار القول أي فيقال لهم ذلك. وأقسامهم إما بلسان الحال حيث بنوا شديداً وأملوا بعيداً ، وإما بلسان المقال أشراً وبطراً وجهلاً وسفهاً. و ) ما لكم من زوال ( جواب القسم. ولو قيل ( ما لنا من زوال ) على حكاية لفظ المقسمين لجاز من حيث العربية. والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء أو لا تنتقلون إلى دار أخرى هي دار الجزاء كقوله : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ) [ النحل : 38 ]. ثم زادهم توبيخاً بقوله : ( وسكنتم ( استقررتم ) في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ( بالكفر والمعاصي وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ) وتبين لكم ( بالأخبار والمشاهدة والبيان والعيان ) كيف فعلنا بهم ( من أصناف العقوبات ) وضربنا لكم الأمثال ( قال جار الله : أراد صفات ما فعلوا وما فعل بهم وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم. وقال غير : المراد ما أور في القرآن من دلائل القدرة على الإعادة والإبداء وعلى العذاب المعجل والمؤجل. ثم حكى مكر أولئك الظلمة فقال : ( وقد مكروا مكرهم ( أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم. وقيل : الضمير عائد إلى قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كما قال : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك ) [ الأنفال : 30 ] وقيل : أراد ما نقل أن نمروذ حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتاً وربط قوائمه الأربع بأربع نسور ، وكان قد جوعها ورفع من الجوانب الأربعة على التابوت عصياً أربعاً وعلق على كل واحدة منها قطعة من اللحم ، ثم إنه جلس مع صاحبه في ذلك التابوت. فلما أبصرت النسور ذلك اللحم تصاعدت في جو الهواء ثلاثة أيام وغابت الأرض عن عين نمروذ ورأى السماء بحالها ، فعكس تلك العصيّ التي عليها اللحوم فهبطت النسور إلى الأرض. وضعفت هذه الرواية لأنه لا يكاد يقد عاقل على مثل هذا الخطر. ) وعند الله مكرهم ( إن كان مضافاً إلى(4/202)
" صفحة رقم 203 "
الفاعل فالمعنى ومكتوب عند الله مكرهم فيجازيهم عليه بأعظم من ذلك ، وإن كان مضافاً إلى المفعول فمعناه وعنده مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يستحقونه فيأتيهم به من حيث لا يشعرون. أما قوله : ( وإن كان مكرهم لتزول ( من قرأ بكسر اللام الأولى ونصب الثانية فوجهان : أحدهما أن تكون ( إن ) مخففة من الثقيلة فزوال الجبال مثل لعظم مكرهم وشدته أي وإن الشأن كان مكرهم معداً لذلك. وثانيهما أن تكون ( إن ) نافية واللام المكسورة لتأكي النفي كقوله : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) [ البقرة : 143 ] والمعنى ومحال أن تزول الجبال بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه الثابتة على حالها أبد الدهر. ومن قرأ بفتح اللام الأولى ورفع الثانية فإن مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة ، والمعنى كما مر. ثم إنه سبحانه أكد كونه مجازياً لأهل المكر على مكرهم بقوله : ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ( قال جار الله : قدم المفعول الثاني - وهو الوعد - على المفعول الأول ليعلم أنه غير مخلف الوعد على الإطلاق. ثم قال : ( رسله ( تنبيهاً على أنه إذا لم يكن من شأنه إخلاف الوعد فكيف يخلفه رسله الذين هم صفوته. والمراد بالوعد قوله : ( إنا لننصر رسلنا ) [ غافر : 51 ] ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) [ المجادلة : 21 ] ونحوهما من اللآيات. قوله : ( إن الله عزيز ذو انتقام ( قد مر في أول ( آل عمران ) ) يوم تبدل الأرض ( قال الزجاج : انتصاب يوم على البدل من ) يوم يأتيهم ( أو على الظرف للانتقام. والأظهر انتصابه باذكر كما مر في الوقوف. ومعنى قوله : ( والسموات ( أي وتبدل السموات قال أهل اللغة : التبديل التغيير وقد يكون في الذوات كقولك ( بدلت الدراهم دنانير ) وفي الأوصاف كقولك ( بدلت الحلقة خاتماً ) إذا أذبتها وسوّيتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل. وتفسير ابن عباس يناسب الوجه الثاني قال : هي تلك الأرض وإنما تغير فتسير عنها جبالها وتفجر بحارها وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت ، وتبدل السماء بانتثار كواكلها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبواباً. وعن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدّها مدّ الأديم العكاظي فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ) وهذا القول يناسب مذهب الحكماء في أن الذوات لا يتطرق إليها العدم وإنما تعدم صفاتها وأحوالها. نعم جوزوا انعدام الصور مع أنها جواهر عندهم. وتفسير ابن مسعود يناسب الوجه الأول قال : يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة. وعن علي كرم الله وجهه : تبدل أرضاً من فضة وسموات من ذهب وعن الضحاك : أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف. وقيل : لا يبعد أن يجعل الله الأرض(4/203)
" صفحة رقم 204 "
جهنم السموات الجنة. ) وبرزوا لله ( قد ذكرناه في أول السورة. وتخصيص ) الواحد القهار ( بالموضع تعظيم وتهويل وأنه لا مستغاث وقتئذ إلى غيره ولا حكم يومئذ لأحد إلا له يتفرد في حكمه ويقهر ما سواه. ومن نتائج قهره قوله : ( وترى المجرمين يومئذ مقرنين ( قرن بعضهم مع بعض لأن الجنسية علة الضم أو مع الشياطين الذين أضلوهم. قالت الحكماء : هي الملكات الذميمة والعقائد الفاسدة التي اكتسبوها في تعلق الأبدان. وقوله : ( في الأصفاد ( أي القيود إما أن يتعلق بمقرنين وإما أن يكون وصفاً مستقلاً أي مقرنين مصفدين. وقيل : الأصفاد الأغلال. والمعنى قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. وحظ العقل فيه أن الملكات الحاصلة في جوهر النفس إنما تحصل بتكرير الأفعال الصادرة من الجوارح والأعضاء. ) سرابيهم ( جمع سربال وهو القميص ) من قطران ( هو ما يتحلب أي يسيل من شجرة يسمى الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحره وحدّته ، وقد تبلغ حرارته الجوف ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار ، وقد يستسرج به وهو أسود اللون منتن الريح فيطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلأوه لهم كالسرابيل فيجمع عليهم اللذع والحرقة والاشتعال والسواد والنتن ، على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين والوجه العقلي فيه أن البدن بمنزلة القميص للنفس ، وكل ما يحصل للنفس من الآلام والغموم فإنما يحصل بسبب هذا البدن ، فلهذا البدن لذع وحرقة في جوهر النفس بنفوذ الشهوة والحرص والغضب واسائر آثار الملكات الردية فيه. ومن قرأ ) من قطرآن ( فالقطر النحاس والصفر المذاب والآني المتناهي حره. قال ابن الأنباري : وتلك النار لا تبطل ذلك السربال ولا تفنيه كما لا تهلك النار أجسادهم والأغلال التي كانت عليهم ) وتغشى وجوههم النار ) خص الوجه بالذكر لأنه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه فعبر به عن الكل. قوله : ( ليجزي ( اللام متعلقة ب ) تغشى ( أو بجميع ما ذكر كأنه قيل : يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي ) الله كل نفس ما كسبت ( قال الواحدي : أراد نفوس الكفار لأن ما سبق لا يليق إلا بهم. ويحتمل أن يراد كل نفس مجرمة ومطيعة لأنه تعالى إذا عاقب المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المطيعين لطاعتهم. ثم أشار إلى القرآن إلى ما في اسورة أو إلى ما مر من قوله : ( ولا تحبسن الله غافلاً ( إلى ههنا فقال ) هذا بلاغ ( كفاية ) للناس ( في التذكير والموعظة لينصحوا ) والينذروا به ( بهذا البلاغ. ثم رمز إلى استكمال القوةّة النظرية بقوله : ( وليعلموا أنما هو إله واحد ( وإلى استكمال القوة العملية بقوله : ( وليذكروا أولوا الألباب ( لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به دعتهم الخافة إلى استكمال النفس بحسب القوتين والله ولي التوفيق .(4/204)
" صفحة رقم 205 "
التأويل : ( وإذ قال إبراهيم ( الروح ) رب اجعل ( بلد القلب ) آمناً ( من وسوسة الشيطان وهواجس ا لنفس وآفات الهوى ) واجنبني وبني ( هم الفؤاد والسر والخفى ) أن نعبد الأصنام ( وهو كل ما سوى الله. فصنم النفس الدنيا ، وصنم القلب العقبى ، وصنم الروح الدرجات العلى ، وصنم السر العرفان والقربات ، وصنم الخفى الركون إلى المكاشفات والمشاهدات وأنواع الكرامات ) ومن عصاني فإنك غفور ( فيه نكتتان : إحداهما لم يقل ( ومن عصاك ) إشارة إلى أن عصيان الله لا يستحق المغفرة والرحمة ، والثانية لم يقل ( فأنا أغفره وأرحم عليه ) لأن عالم الطبيعة البشرية يقتضي المكافأة وإنما المغفرة والرحمة من شأن الغني المطلق ) أسكنت من ذريتي ( هم صفات الروح والعقل والسر والخفى ) بواد غير ذي زرع ( وهو وادي النفس ) عند بيتك المحرم ( على ما سواك وهو كعبة القلب حرام أن يكون بيتاً لغيري الله ( لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن ). وفيه أنه توسل في أجابة الدعاء بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكأنه قال : إن ضيعت هاجر وإسماعيل فقد ضيعت محمداً. وفي قوله : ( ليقيموا الصلاة ( إشارة إلى أنه لو لا تعلق الروح بالجسد وحلوله بأرض القالب لم يمكن استكمال الروح بالأعمال البدنية ، وأنه لولا غرض هذا الاستكمال لم يحصل ذلك التعلق ) فاجعل أفئدة ( الفات الناسوتية ) تهوي ( إلى الصفات الروحانية ) وارزقهم من ( ثمرات الصفات اللاهوتية ) لعلهم يشكرون ( هذه النعمة الجسيمة التي ليس ينالها الملائكة المقربون ، وفي هذا سر عظيم لا يمكن إنشاؤه ) ربنا إنك تعلم ما نخفي ( من حقائق الدعاء ) وما نعلن ( من ظاهر القصة ) وما يخفى على الله من شيء ( في أرض المعاملات الصورية ولا في سماء القلوب من الغيوب ) على الكبر ( أي بعد تعلق الروح بالقالب ) إسماعيل ( السر ) وإسحق ( الخفي ) مقيم الصلاة ( دائم العروج فإن الصلاة معراج المؤمن ) ربنا اغفر لي ( استرني وامنحني بصفة معرفتك ) ولوالدي ( من الآباء العلوية والأمهات السفلية لئلا يحجوني عن رؤيتك يوم يقوم حسابك بكمالية كل نفس ونقصانها لأكون في حساب الكاملين لا في حساب الناقصين. ) ولا تحسبن ( أي لم يكن ) الله غافلاً ( في الأزل بل الكل بقضائه وقدره ) وإنما يؤخرهم ( ليبلغوا إلى ما قدر لهم من الأعمال فإنها مودعة في الأعمار ، وبذلك يصل كل من أهل السعادة والشقاوة إلى منازلهم ) ما لكم من زوال ( فيه من إبطال مذهب التناسخية. زعموا أن نفوسهم لا تزال تتعلق بالأبدان ) وسكنتم في مساكن الذين ظلموا ( تعلقتم بأبدان مثل أبدانهم منهمكين في ظلمات الأخلاق الذميمة ) وعند الله ( مقدار ) مكرهم وإن كان مكرهم ( بحيث يؤثر في إزالة الجبال عن أماكنها ولكنه لا تحرك شعرة إلا بإذن الله بقضائه ) يوم تبدل ( أرض البشرية بأرض القلوب فتضمحل ظلماتها بأنوار(4/205)
" صفحة رقم 206 "
القلوب ، وتبدل سموات الأسرار بسموات الأرواح فإن شموس الأرواح إذا تجلت لكواكب الأسرار انمحت أنوار كواكبها بسطوة أشعة شموسها ، بل تبدل أرض الوجود المجازي عن إشراق تجلي أنوار هيته بحقائق أنوار الوجود الحقيقي كما قال : ( وأشرقت الأرض بنور ربها ) [ الزمر : 69 ] وحينئذ ) برزوا لله الواحد القهار ( فإن شموس الأرواح تصير مقهورة في تجلي نور الألوهية. ) وترى المجرمين ( يوم التجلي ) مقرنين ( في قيود الصفات الذميمة لا يستطيعون البروز لله. ) سرابيلهم من قطران ( المعاصي وظلمات النفوس فهم محجبون بهما عن الله ) وتغشى وجوههم ( نار الحسرة والقطيعة ) هذا بلاغ للناس ( الذين نسوا عالم الوحدة ) وليذروا به ( قبل المفارقة فإن الانتباه بالموت لا ينفع ) وليعلموا أنما هو إله واحد ( فيعبدوه ولا يتخذوا إلهاً غيره من الدنيا والهوى والشيطان ) وليتذكر أولوا الألباب ( علام الشهود فيخرجوا من قشر الوجود ، والله أعلم .
تم الجزء الثالث عشر ، ويليه الجزء الرابع عشر أوله تفسير سورة الحجر(4/206)
" صفحة رقم 207 "
سورة الحجر
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الرابع عشر من أجزاء القرآن الكريم
سورة الحجر مكية بالإجماع
وحروفها ألف وسبعمائة وواحد وسبعون وكلماتها ستمائة وأربعة وخمسون وآياتها تسع وتسعون ( الحجر : ( 1 - 50 ) الر تلك آيات . . . .
" الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن(4/207)
" صفحة رقم 208 "
يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم "
( القراآت )
ربما ( بفتح الباء مخففة : أبو جعفر ونافع وعاصم غير الشموني و ) ربما ( بضم الباء خفيفة : الشموني. الباقون بالفتح والتشديد ) ما ننزل ( بالنون ) الملائكة ( بالنصب : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. ) ما تنزل ( بضم التاء وفتح الزاي المشددة ) الملائكة ( بالرفع : أبو بكر وحماد الباقون مثله ، ولكن بفتح التاء ) ما تنزل ( بالإدغام : البزي وابن فليح ) سكرت ( خفيفة : ابن كثير ) فتحنا ( بالتشديد : يزيد ) الريح ( على التوحيد : حمزة وخلف ) صراط على ( بكسر اللام ورفع الياء على النعت : يعقوب الآخرون ) عليّ ( جاراً ومجروراً ) وعيون ( بكسر العين : حمزة وعلي وابن كثير وابن ذكوان والأعشى ويحيى وحماد. الباقون بضمها ) نبىء عبادي ( مثل نبئنا عبادي أني بالفتح فيهما : ( أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. والآخرون بالإسكان. الوقوف ) آلر ( قف كوفي ) مبين ( ه ) مسلمين ( ) يعلمون ( ه ) معلوم ( ه ) وما يستأخرون ( ه ) لمجنون ( ه ط لأن التحضيض له صدر الكلام ) الصادقين ( ه ) منظرين ( ه ) لحافظون ( ه ) الأولين ( ه ) يستهزءُون ( ه ) المجرمين ( ه ) الأولين ( ه ) يعرجون ( ه ) مسحورون ( ه ) للناظرين ( لا ) رجيم ( لا ه ) مبين ( ه ) موزون ( ه ) برازقين ( ه ) خزائنه ( ز لاتفاق الجملتين مع الفصل بي معنيي الجمع في التقدير ه ) الوارثون ( ه ) المستأخرين ( ه ) يحشرهم ( ط ) عليم ( ه ) مسنون ( ه ج لاتفاق الجملتين مع تقدم المفعول في الثانية ) السموم ( ه ) مسنون ( ه ) ساجدين ( ه(4/208)
" صفحة رقم 209 "
) أجمعون ( ه لا ) إلا إبليس ( ط ) الساجدين ( ه ) مسنون ( ه ) رجيم ( ه ) الدين ( ه ) يبعثون ( ه ) من المنظرين ( لا ه ) المعلوم ( ه ) أجمعين ( لا ه ) المخلصين ( ه ) مستقيم ( ه ) الغاوين ( ه ) أجمعين ( ه ) أبواب ( ط ) مقسوم ( ه ) وعيون ( ه لإرادة القول بعده ) آمنين ( ه ) متقابلين ( ه ) بمخرجين ( ه ) الرحيم ( لا ) الأليم ( ه. التفسير قال جار الله : ( تلك ( إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآي والكتاب والقرآن المبين السورة. وتنكير القرآن للتفخيم على آخرون : الكتاب والقرآن المبين هو الكتاب الذي وعد الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى تلك الآيات آيات ذلك الكتاب الكامل في كونه كتاباً وفي كونه قرآناً مفيداً للبيان. أما قوله ) ربما يود ( فذكر السكاكي أن فيه سبع لغات أخر بعد المشهورة : رب بالراء مضمومة ، والباء مخففة مفتوحة أو مضمومة أم مسكنة ، ورب بالراء مفتوحة والباء كذلك مشددة ، وربة بالتاء مفتوحة والباء كذلك أي مفتوحة أخبار الله بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل : ربما ود. و ( ما ) هذه كافة أي تكف رب عن العمل فتتهيأ بذلك للدخول على الفعل. وقيل : إن ( ما ) بمعنى شيء أي رب شيء يوده الذين كفروا. ورب للتقليل فأورد عليه أن تمنيهم يكثر ويتواصل فما معنى التقليل ؟ وأجيب بأنه على عادة العرب إذا أرادوا التكثير ذكروا لفظاً وضع لأجل التقليل كما إذا أرادوا اليقين ذكروا لفظاً وضع للشك. والمقصود إظهار الترفع والاستغناء عن التصريح بالتعريض فيقولون : ربما ندمت على ما فعلت ، ولعلك تندم على فعلك. وإن كان العلم حاصلاً بكثرة الندم ووجوده بغير شك أرادوا لو كان الندم قليلاً أو مشكوكاً فيه لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من الغم القليل كما يحذرون من الكثير ، ومن الغم المظنون كما من المتيقن. فمعنى الآية لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة كان جديراً بالمسارعة إليه فكيف وهو يودونه في كل ساعة. وقوله ( لو كانوا مسلمين ( إخبار عن ودادتهم كقولك ( حلق بالله ليفعلن ). ولو قيل ( لو كنا مسلمين ) جاز من حيث العربية كقولك ( حلف بالله لأفعلن ). ومتى تكون هذه الودادة ؟ قال الزجاج : إن الكافر كلما رأى حالاً من أحوال العذاب أو رأى أحوالاً من أحوال المسلم ود لو كان مسلماً. وعلى هذا فقد قيل في وجه التقليل : إن العذاب يشغلهم عن كثير التمني فلذلك قلل. وقال الضحاك : هي عند الموت إذا شاهد أمارات العذاب. وقيل : إذا اسودت وجوههم. روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا كان يوم القيامة اجتمع أهل النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة. فقال الكفار لهم : ألسم مسلمين ؟ قالوا : بلى قالوا : فما أغنى عنكم من(4/209)
" صفحة رقم 210 "
إسلامكم وقد سرتم معنا في النار ؟ فيغضب الله لهم فيأمر لكل من كان من أهل القبلة بالخروج فحينئذٍ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. وقرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الآية ). وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : ما يزال الله يرحم المؤمنين ويخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بشفاعة الملائكة والأنبياء حتى إنه تعالى في آخر الأمر يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة فهناك يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) ذرهم ( ظاهره أمر لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه يخليهم وشأنهم ، فاحتجت الأشاعرة به على أنه سبحانه وتعالى قد يصد عن الإيمان ويفعل بالمكلف ما يكون مفسدة في الدين. وقالت المعتزلة : ليس هذا إذناً وتجويزاً وإنما هو تهديد ووعيد وقطع طمع النبي عن ارعوائهم ، وفيه أنهم من أهل الخذلان ولا يجيء منهم إلا ما هم فيه ، ولا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ. وفي الآية تنبيه على أن إيثار التلذذ والتمتع وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين ) و ( معنى ) يلههم الأمل ( يشغلهم الرجاء عن الإيمان والطاعة. لهيت عن الشيء بالكسر ألهى لهياً إذا سلوت عنه وتركت ذكره وأضربت عنه. وألهاني غيره. عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خط خطأ وقال : هذا الإنسان. وخط آخر إلى جنبه وقال : هذا أجله. وخط آخر بعيداً منه فقال : ( هذا الأمل. فبينما هو كذلك إذا جاءه الأقرب ) فسوف يعلمون ( سوء صنيعهم مزيد تأكيد للتهديد. ثم ذكر ما هو نهاية في الزجر والتحذير فقال ) وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب ( أي مكتوب ) معلوم ( وهو أجلها الذي كتب في اللوح. قال جار الله : قوله ) ولها كتاب ( جملة واقعة صفة لقرية والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف. وذكر السكاكي في المفتاح أن هذا سهو لأن الفصل بين الموصوف والصفة لا يجوز ولكن الجملة حال من قرية ومثل هذا جائز ، ولو كان ذو الحال نكرة محضة كقولك ( جاءني رجلٌ وعلى كتفه سيف ) لعدم التباس الحال بالوصف لمكان الفاصلة إذا التقدير : وما أهلكنا قرية من القرى من قبل إفادة من الاستغراق. قال قوم : المراد بهذا الهلاك عذاب الاستئصال الذي كان ينزله الله بالمكذبين المعاندين من الأمم السالفة. وقال آخرون : أراد الموت والأول أقرب لأنه في الزجر أبلغ وكأنه قيل : إن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العاقل فإن لكل أمة وقتاً معيناً في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر. وقيل : أراد مجموع الأمرين. قال صاحب النظم : إذا كان السبق واقعاً على شخص فمعناه جاز وخلف كقولك ( سبق زيد عمراً ) أي جازه وخلقه وأنه قصر عنه وما بلغه ، وإذا كان واقعاً على زمان فعلى العكس كقولك ( سبق فلان(4/210)
" صفحة رقم 211 "
عالم كذا ) معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه. فمعنى الآية أنه يحصل أجل أمة قبل وقته ولا بعده كما في كل حادث ، وقد مر بحث الأجل في أول سورة الأنعام. وأنث الأمة أولاً ثم ذكرها آخراً في قوله ) وما يستأخرون ( حملاً على اللفظ والمعنى ، وحذف متعلق ) يستأخرون ( وهو عنه للعلم به. ولما بالغ في تهدي الكفار شرع في تعديد بعض شبههم ومطاعنهم في النبي. فالأولى أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنو لأنهم كانوا يسمعون منه ( صلى الله عليه وسلم ) . ما لا يوافق آراءهم ولا يطابق أواءهم وإنما نادوه ) يا أيها الذي نزل عليه الذكر ( مع أنهم كانوا لا يقرون بنزول الوحي عليه تعكيساً للكلام استهزاءً وتهكماً ، وأردوا يا أيها الذين نزل عليه الوحي في زعمه واعتقاده وعند أصحابه وأتباعه ، الثانية. ) لو ما تأتينا بالملائكة ( ( لو ما ) حرف تحضيض مركب من ( لو ) المفيدة للتمني ومن ( ما ) المزيدة ، فأفاد المجموع الحث على الفعل الداخل هو عليه والمعنى. هلا تأتينا بالملائكة ليشهدوا على صدقك ويعضدوك على إنذارك ؟ والمراد هلا تأتينا بملائكة العذاب إن كنت صادقاً في أن تكذيبك يقتضي التعذيب العاجل ؟ فأجاب الله سبحانه عن شبههم بقوله ) ما ننزل الملائكة إلا بالحق ( قالت المعتزلة : أي تنزيلاً متلبساً بالحكمة والمصلحة والغاية الصحيحة ، ولا حكمة في أن تأتيكم عياناً فإن أمر التكليف حينئذٍ يؤول إلى الاضطرار والإلجاء ، ولا فائدة تعود عليكم لأنه تعالى يعلم إصراركم على الكفر فيصير إنزالهم عبثاً ، أو لا حكمة في إنزالهم لأنهم لو نزلوا ثم لم تؤمنوا وجب عذاب الاستئصال وذلك قوله ) وما كانوا إذاً منظرين ( فإن التكليف يزول عند نزول الملائكة وقد علم الله من المصلحة أن لا يهلك هذه الأمة ويمهلهم لما علم من إيمان بعضهم أو إيمان أولادهم. وقالت الأشاعرة : إلا بالحق أي إلا بالوحي أو العذاب. قال صاحب النظم : لفظ ( إذن ) مركبة من ( إذ ) بمعنى ( حين ) ومن ( أن ) الدالة على مجيء فعل بعده ، فخففت الهمزة بحذفها بعد نقل حركتها وكأنه قيل : وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا. وقال غيره : ( إذن ) جواب وجزاء تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذابهم. ثم أنكر على الكفار استهزاءهم في قولهم ) يا أيها الذي نزل عليه الذكر ( فقال على سبيل التوكيد ) إنا نحن نزلنا الذكر ( ثم دل على كونه آي منزلة من عنده فقال ) وإنا له لحافظون ( لأنه لو كان من قول البشر أو لم يكن آية لم يبق محفوظاً من التغيير والاختلاف. وقيل : الضمير في ) له ( لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كقوله ) والله يعصمك من الناس ) [ المائدة : 67 ] والقول الأول أوضح. ووجه حفظ القرآن قيل : هو جعله معجزاً مبايناً لكلام البشر حتى لو زادوا فيه شيئاً ظهر ذلك للعقلاء. ولم يخف ، فلذلك بقي مصوناً عن التحريف. وقيل : حفظ بالدرس(4/211)
" صفحة رقم 212 "
والبحث ولم يزل طائفة يحفظونه ويدرسونه ويكتبونه في القراطيس باحتياط بليغ وجد كامل حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن في حرف من كتاب الله لقال له بعض الصبيان : أخطأت. ومن جملة إعجاز القرآن وصدقه أنه سبحانه أخبر عن بقائه محفوظاً عن التغيير والتحريف وكان كما أخبر بعد تسعمائة سنة فلم يبق للموحد شك في إعجازه. وههنا نكتة هي أنه سبحانه تولى حفظ القرآن ولم يكله إلى غيره فبقي محفوظاً على مر الدهور بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتول حفظها وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم ووقع التحريف. ثم ذكر أن عاد هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء كذلك ، والغرض تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . وفي الكلام إضمار والتقدير ) ولقد أرسلنا من قبلك ( رسلاً إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه. ومعنى ) في شيع الأولين ( في أممهم وأتباعهم وقد مر معنى الشيعة في آخر ( الأنعام ) قال جار الله : معنى أرسلنا فيهم جعلناهم رسلاً فيما بينهم. قال الفراء : إضافة الشيع إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله ) حق اليقين ) [ الواقعة : 95 ] و ) بجانب الغربي ) [ القصص : 44 ] وقوله ( وما يأتيهم ( حكاية حال ماضية. وإنما كان الاسهزاء بالرسل عادة الجهلة في كل قرن لأن الفطام عن المألوف شديد وكون الإنسان مسخراً لأمر من هو مثله أو أقل حالاً منه في المال والجاه والقبول أشد ، على أن السبب الكلي فيه هو الخذلان وعدم التوفيق من الله سبحانه ووقوعهم مظاهر القهر في الأزل. قوله ) كذلك نسلكه ( السلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط. وقالت الأشاعرة : الضمير في ) نسلكه ( يجب عوده إلى أقرب المذكورات وهو الاستهزاء الدال عليه ) يستهزءُون ( وأما الضمير في قوله ) لا يؤمنون به ( فيعود إلى الذكر لأنه لو عاد إلى الاستهزاء وعدم الإيمان بالاستهزاء حق وصواب لم يتوجه اللوم على الكفار ، ولا يلزم من تعاقب الضمائر عودها على شيء واحد وإن كان الأحسن ذلك. والحاصل أن مقتضى الدليل عود الضمير إلى الأقرب إلا إذا منع مانع من اعتباره. وقال بعض الأدباء منهم : قوله ) لا يؤمنون به ( تفسير للكناية في قوله ) نسلكه ( أي نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به فثبتت دلالة الآية على أن الكفر والضلال والاستهزاء ونحذها من الأفعال كلها بخلق الله وإيجاده. وقالت المعتزلة : الضميران يعودان إلى الذكر لأأنه شبه هذا السلك بعمل آخر قبله وليس إلا تنزيل الذكر. والمعنى مثل ذلك الفعل نسلك الذكر في قلوب المجرمين. ومحل ) لا يؤمنون به ( نصب على الحال أي غير مؤمن به أو هو بيان لقوله ) كذلك نسلكه ( والحاصل أنا نلقيه في قلوبهم مكذباً مستهزأً به غير مقبول نظيره ما إذا أنزلت(4/212)
" صفحة رقم 213 "
بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت : كذلك أنزلها باللئام تعني مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية. واعتراض بأن النون إنما يستعمله الواحد المتكلم إظهاراً للعظمة والجلال ومثل هذا التعظيم إنما يحسن ذكره إذا فعل فعلاً يظهر له أثر قويّ كامل ، أما إذا فعل بحيث يكون منازعه ومدافعه غالباً عليه فإن ه يستقبح ذكره على سبيل التعظيم ، والأمر ههنا كذلك لأنه تعالى سلك استماع القرآن وتحفيظه وتعليمه في قلب الكافر لأجل أن يؤمن به ، ثم إنه لم يلتفت إليه ولم يؤمنبه فصار فعل الله كالهدر الضائع وصار الشيطان كالغالب المدافع فكيف يحسن ذكر النون المشعر بالتعظيم في هذا المقام ؟ أما قوله ) وقد خلت سنة الأولين ( فقيل : أي طريقتهم التي بينها الله في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم وبالذكر المنزل عليهم ، وهذا يناسب تفسير المعتزلة ، وفيه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم. وقيل : قد مضت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم وهذا قول الزجاج ، ويناسب تفسير الأشاعرة. ثم حكى إصرارهم على الجهل والتكذيب بقوله ) ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا ( أي هؤلاء الكفار ) فيه يعرجون ( يتصاعدون ) لقالوا إنما سكرت أبصارنا ( هو سكر الشراب أو من سكر سدّ الشق يقال : سكر النهر إذا سدّه وحبسه من الجري. والتركيب يدل على قطع الشيء من سننه الجاري عليه ومنه السكر في الشراب لأنه ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو. فمعنى الآية حيرت أبصارنا ووقع بها من فساد النظر ما يقع بالرجل السكران ، أو حبست عن أفعالها بحيث لا ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقائقها. عن ابن عباس : المراد لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه وإلى عباده الملائكة الذين هم من خشية ربهم مشفقون لتشككوا في تلك الرؤية وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر وما خص به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس ان يأتوا بمثله. قال في الكشاف : ذكر الظلول يعني أنه قال ) فظلوا ( ولم يقل ( فباتوا ) ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون. وقال : إنما سكرت ليدل على أنهم يبتون القول بأن ذلك ليس إلا تسكيراً للأبصار. وقيل : الضمير في ) فظلوا ( للملائكة أي لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عياناً لقالوا : إن السحرة سحرونا وجعلونا بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها. وههنا سؤال وهو أنه كيف جاز من جم غفير أن يصيروا شاكين فيما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح ؟ وأجيب بأنهم قوم مخصوصون لم يبلغوا مبلغ التواتر وكانوا رؤساء قليلي العدد فجاز تواطؤهم على المكابرة والعناد لا سيما إذا جمعهم غرض معتبر كدفع حجة أو غلبة خصم .(4/213)
" صفحة رقم 214 "
ولما أجاب عن شبه منكري النبوة بما أجاب وكان القول بالنبوة مفرعاً على القول بالصانع أتبعه دلائل ذلك فقال ) ولقد جعلنا في السماء بروجاً ( وهي أثنا عشر عند أهل النجوم ، وذلك أنهم قسموا نطاق الفلك الثامن عندهم باثني عشر متساوية ، ثم أجيز بمنتهى كل قسم وبأوله مبتدأة من أول الحمل نصف دائرة عظيمة مارة بقطبي الفلك فصار الفلك أيضاً منقسماً باثنتي عشرة قطعة كل منها تشبه ضلعاً من أضلاع البطيخ تسمى برجاً. ولا شك أن هذه البروج مختلفة الطباع ، كل ثلاثة منها على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة فلذلك يسمى الحمل والأسد والقوس مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. ثم إن كانت أجزاء الفلك مختلفة في الماهية على ما يجوّزه المتكلمون ، أو كانت متساوية ثم تمام الماهية مختلفة في التأثير كما يقول به الحكيم ، فعلى التقديرين يكون اختصاص كل جزء بطبيعة معينة أو بتأثير معين مع تساوي الكل في حقيقة الجسمية دالاً على صانع حكيم ومدبر قدير. الدليل الآخر قوله ) وزيناها ( أي بالشمس والقمر والنجوم ) للناظرين ( بنظر الاعتبار الاستبصار. وقال المنجمون. إن الكواكب الثابتة كلها على الفلك الدنيا مزينة بها ، والآية لا تدل إلا على هذا القدر. ونظير هذه الآية قوله تعالى في ( حم السجدة ) ) وزينا السماء الدنيا بمصابيح ) [ فصلت : 12 ] ومثله في سورة الملك. الدليل الثالث قوله ) وحفظناها ( أي البروج أو السماء ) من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع ( نصب عل الاستثناء المنقطع أي لكن من استرق وجائز أن يكون مخفوضاً أي إلا ممن استرق. وعن ابن عباس : يريد الخطفة اليسيرة ) فاتبعه ( أي أدركه ولحقه ) شهابٌ مبين ( ظاهر للمبصرين والشهاب شعلة نار ساطع ، وقد يمسى الكوكب شهاباً لأجل لمعانه وبريقه. قال ابن عباس : كانت الشياطين لا يحجبون من السموات وكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها على الكهنة ، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ، فلما ولد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) منعوا من السموات كلها وهذا هو المراد بحفظ السموات كما لو حفظ أحدنا منزله ممن بتجسس ويخشى منه الفساد. والاستراق السعي في استماع الكلام مستخفياً. قال الحكماء : إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس ، فإذا بلغ النار التي دون الفلك احترق بها واشتعل لدهنية فيه فيحدث منها أنواع النيران من جملتها الشهب ، فلا ريب أنها كانت موجودة قبل مبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أنها لم تكن مسلطة(4/214)
" صفحة رقم 215 "
على الشياطين. وإنما قيض كونها رجوماً للشياطين في زمن عيسى عليه السلام ثم في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . أسئلة : كيف يجوز أن يشاهد هؤلاء الجن واحداً كان أو أكثر من جنسهم يسترقون السمع فيحرقون ، ثم إنهم مع ذلك يعودون لمثل صنيعهم ؟ والجواب : إذا جاء القضاء عمي البصر ، فإذا قيض الله لطائفة منهم الحرق لطغيانها قدر له من الدواعي المطمعة في درك المقصود ما عندها يقدم على المفضي إلى الهلاك والبوار. آخر : قد ورد في الأخبار أن ما بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، فهؤلاء الجن أن قدروا على خرق السماء ناقض قوله سبحانه ) هل ترى من فطور ) [ الملك : 3 ] وإن لم يقدروا فكيف يمكنهم استماع أسرار الملائكة من ذلك البعد البعيد ، ولم لا يسمعون كلام الملائكة حال كونهم في الأرض ؟ وأجيب بأنا سلمنا أن بعد ما بين كل سماء ذلك القدر إلا أن نحن الفل لعله قدر قليل ، وقد روى الهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : بينما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جالسٌ في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستتار فقال : ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا ؟ قالوا : كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم. فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا يرمى لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ثم سبح أهل السماء وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ، ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ولا يزال ينتهي ذلك الخبر من سماء إلى سماء إلى أن ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، ويتخطف الجن فيرمون فما جاءُوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون ) آخر : الشياطين مخلوقون من نار فكيف تحرق النار النار ؟ والجواب : أن الأقوى قد يبطل الأضعف وإن كان من جنسه. آخر : إن هذا الرجم لو كان من معجزات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقي بعد وفاته ؟ الجواب : هذا من المعجزات الباقية والغرض منه إبطال الكهانة. آخر : إن الشهب قد تحدث بالقرب من الأرض وإلا لم يمكن الإحساس بها فكيف(4/215)
" صفحة رقم 216 "
تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك حين الاستراق ؟ وأجيب بأن البعد عندنا غير مانع من السماع فلعله تعالى أرى عادته بأنهم إذا وقعوا في تلك المواضع سمعوا كلام الملائكة. آخر : لو كان يمكنهم نقل أخبار الملائكة إلى الكهنة فكيف لم يقدروا على نقل أسرار المؤمنين إلى الكفار ؟ وأجيب بأنه تعالى أقدرهم على شيء وأعجزهم عن شيء ولا يسأل عما يفعل. وأقول : لعل السبب فيه أن نسبتهم إلى الروحانيات أكثر. آخر : إذا جوذزتم في الجملة اطلاع الجن على بعض المغيبات فقد ارتفع الوثوق عن إخبار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن بعض الغيوب فلا يكون دليلاً على صدقه. لا يقال : إنه تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنا نقول : صدق هذا الكلام مبني على صحة نبوّته ، فلو أثبتنا صحة نبوّته به لزم الدور ؟ والجواب : أنا نعرف صحة نبوّته بدلائل أخر حتى لا يدور ، ولكن لا ريب أن إخباره عن بعض المغيبات مؤكد لنبوّته وإن لم يكن مثبتاً لها. الدليل الرابع : قوله ) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي ( وقد مرّ تفسير مثله في أوّل سورة الرعد. الدليل الخامس قوله : ( وأنبتنا فيها ( أي في الأرض أو في الجبال الرواسي ) من كل شيء موزون ( بميزان الحكمة ومقدر الحاجة ، وذلك أن الوزن سبب معرفة المقدار فأطلق اسم السبب على المسبب. وقيل : أي له وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة. وقيل : أراد أن مقاديرها من العناصر معلومة وكذا مقدار تأثير الشمس والكواكب فيها. وقيل : أي مناسب أي محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن واللطافة. يقال : كلام موزون أي مناسب ، وفلان موزون الحركات. وقيل : أراد ما يوزن من نحو الذهب والفضة والنحاس وغيرها من الموزونات كأكثر الفواكه والنبات. ) وجعلنا لكم فيها ( أي في الأرض أو في تلك الموزونات ) معايش ( ما يتوصل به إلى المعيشة وقد مر في أول ( الأعراف ). ) ومن ( عطف على معايش أي جعلنا لكم من ) لستم له برازقين ( أو عطف على محل لكم لا على المجرور فقط فإنه لا يجوز في الأكثر إلا بإعادة الجار والتقدير : وجعلنا لكم معايش لمن لستم له برازقين. وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين رازقهم في الحقيقة هو الله تعالى وحده لا الآباء والسادات المخاديم ، ويدخل فيه يحكم التغليب غير ذوي العقول في الأنعام والدواب والوحش والطير كقوله : ( وما من دابة في(4/216)
" صفحة رقم 217 "
الأرض إلا على الله رزقها ) [ هود : 6 ] وقد يذكر من يعقل بصفة من يعقل بوجه ما من الشبه كقوله : ( يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ) [ النمل : 18 ] والدواب تشبه ذوي العقول من جهة أنها طالبة لأرزاقها عند الحاجة. يحكى أنه قلت مياه الأودية في بعض السنين واشتد عطش الوحوش فرفعت رأسها إلى السماء فأنزل الله المطر. ثم بين غاية قدرته ونهاية حكمته فقال : ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ( قال جمع من المفسرين : أراد بالشيء ههنا المطر الذي هو سبب لأرزاق بني آدم وغيرهم من الطير والوحش ، وذلك أنه لما ذكر معايشهم بين أن خزائن المطر الذي هو سبب المعايش عنده أي في أمره وحكمه وتدبيره. قوله : ( وما ننزله إلا بقدر معلوم ( عن ابن عباس : يريد قدر الكفاية. وقال الحكم : ما من عام بأكثر مطراً من عام آخر ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون ، وربما كان في البحر ، واعلم أن لفظ الآية لا يدل على هذين القولين فلو ساعدهما نقل صحيح أمكن أن يقبلهما العقل والا كان شبه تحكم والظاهر عموم الحكم ، وإن ذكر الخزائن تمثيل لاقتداره على كل مقدور. والمعنى إن جميع الممكنات مقدورة ومملوكة له يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء ، وهي إن كانت غير متناهية بالقوّة لأن كلاً منها يمكن أن يقع في أوقات غير محصورة على سبيل البدل ، وكذا الكلام في الأحياز وسائر الأعراض والأوصاف. فاختصاص ذلك الخارج إلى الوجود بمقدار معين وشكل معين وحيز ووقت معين إلى غير ذلك من الصفات المعينة دون أضدادها لا بد أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر وهو المراد من قوله : ( وما ننزله إلا بقدر معلوم ( وقد يتمسك بالآية بعض المعتزةل في أن المعدوم شيء. قيل : المراد أن تلك الذوات والماهيات كانت مستقرة عند الله بمعنى أنها كانت ثابتة من حيث إنها حقائق وماهيات ، ثم إنه تعالى نزل أي أخرج بعضها من العدم إلى الوجود. الدليل السادس : قوله ) وأرسلنا الرياح ( ومن قرأ الريح فاللام للجنس ) لواقح ( قال ابن عباس : معناه ملاقح جمع ملقحة لأنها تلقح السحاب بمعنى أنها تحمل الماء وتمجه في السحاب ، أو لأنها تلقح الشجر أي تقوّيها وتنميها إلى أن يخرج ثمرها. قاله الحسن وقتادة والضحاك. وقد جاء في كلام العرب ( فاعل ) بمعنى ( مفعل ) قال : ومختبط مما تطيح الطوائح يريد المطاوح جمع مطيحة. وقال ابن الأنباري : تقول العرب : أبقل النبت فهو باقل أي مبقل. وقال الزجاج : معناه ذوات لقحه لأنها تعصر السحاب وتدره كما تدر اللقحة(4/217)
" صفحة رقم 218 "
كما يقال رامح أي ذو رمح - ولابن وتامر أي ذو لبن وذو تمر. وقيل : إن الريح في نفسها لاقح أي حالة للسحاب أو للماء من قوله تعالى : ( حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً ) [ الأعراف : 57 ] أو حاملة للخير والرزق كما قيل لضدها الريح العقيم ) فأسقيناكموه ( أي جعلناه لكم سقياً قال أبو عليّ : يقال سقيته الماء إذا أعطاه قدر مما يروى ، وأسقيته نهراً أي جعلته شرباً له. والذي يؤكد هذا اختلاف القراء في قوله : ( نسقيكم مما في بطونه ) [ النحل : 66 ] ولم يختلفوا في قوله : ( وسقاهم ربهم شراباً طهوراً ) [ الدهر : 21 ] ويقال : سقيته لشفته وأسقته لماشيته وأرضه. ) وما أنتم له بخازنين ( نفى نهم ما أثبته لنفسه في قوله ) وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ( أي نحن الخازنون للماء لا أنتم أراد عظيم قدرته وعجز من سواه. الدليل السابع : قوله ) وإنا لنحن نحيي ونميت ( والغرض الاستدلال بانحصار الإحياء والإماتة فيه على أنه واحد في ملكه. قال أكثر المفسرين : إنه وصف النبات فيما قبل فهذا الإحياء مختص بالحيوان ، ومنهم من يحمله على القدر المشترك بين إحياء النبات وبين إحياء الحيوان ) ونحن الوارثون ( مجاز عن بقائه بعد هلاك ما عداه كما مر في آخر ( آل عمران ) في قوله : ( ولله ميراث السموات والأرض ) [ الآية : 180 ] قوله : ( ولقد علمنا ( عن ابن عباس في رواية عطاء ) المستقدمين ( يريد أهل طاعة الله ، والمستأخرين يريد المتخلفين عن طاعته. ويروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) رغب الناس في الصف الأول في الجماعة فازدحم الناس عليه فأنزل الله الآية. والمعنى إنا نجزيهم على قدر نياتهم. وقال الضحاك ومقاتل : يعني في صف القتال. وقال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء : كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان قوم يتقدمون إلى الصف الأول لئلا يروها ، وآخرون يتخلفون ويتأخرون ليروها ، وكان قوم إذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطنهم فنزلت. وقيل : المستقدمون هم الأموات والمستأخرون هم الأحياء. وهذا القول شديد المناسبة لما قبل الآية ولما بعدها. وقيل : المستقدمون هم الأمم السالفة والمستأخرون هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . وقال عكرمة : المستقدمون من خلق ، والمستأخرون من لم يخلق بعد. والظاهر العموم وأن علمه تعالى شامل لجميع الذوات والأحوال الماضية والمستقبلة فلا ينبغي أن تخص الآية بحالة دون أخرى. ثم نبه على أن الحشر والنشر أمر واجب ولا يقدر على ذلك أحد إلا هو فقال : ( وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ( فلحكمته بني أمر العباد على التكليف والجزاء ، ولعلمه قدر على توفية مقادير الجزاء. الدليل الثامن : الاستدلال على خلق الإنسان خاصة وذلك أنه لا بد من انتهاء الناس(4/218)
" صفحة رقم 219 "
إلى إنسان أول ضرورة امتناع القول بوجود حوادث لا أول لها. وقد أجمع المفسرون على أنه آدم عليه السلام ، ورأيت في كتب الشيعة عن محمد بن في الباقر ري الله عنه أنه قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر ، وكيف كان فلا بد من إنسان هو أول الناس. والأقرب أنه تعالى خلق آدم من تراب ثم من طين ثم من حمإٍ مسنون ثم من صلصال كالفخار. وقد كان قادراً على خلقه من أيّ جنس من الأجسام كان ، بل كان قادراً على خلقه ابتداء. وإنما خلقه على هذا الترتيب لمحض المشيئة. أو لما كان فيه من زلة الملائكة والجن ، أو لغير ذلك من المصالح ، ولا شك أن خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشيء من شكله وجنسه ، والصلصال الطين اليابس الذي يصلصل أي يصوّت وهو غير مطبوخ فإذا طبخ فهو فخار. وقيل : هو تضعيف صل إذا أنتن. والحمأ الأسود المغير من الطين ، وكذلك الحمأة بالتسكين. المسنون المصوّر من سنة الوجه أي صورته قاله سيبويه. وقال أبو عبيدة : المسنون المصبوب المفرغ أي أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصورة من الجواهر المذابة. وقال ابن السكيت : سمعت أبا عمرو يقول : معنا متغير منتن وكأنه من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فالذي يسيل منهما سنين ولا يكون إلا منتناً. قال في الكشاف : قوله : ( من حمإٍ ( صفة صلصال أي خلقه من صلصال كائن من حمإ. قلت : ولا يبعد أن يكون بدلاً أي خلقه من حما. قال : وحق مسنون بمعنى مصوّر أن يكون صفة لصلصال كأنه أفرغ الحمأ فصوّر منها تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر. قوله : ( والجانّ ( قال الحسن ومقاتل وقتادة وهو رواية عطاء عن ابن عباس يريد إبليس - وعن ابن عباس - في رواية أخرى : هو أبو الجن كآدم أبي الناس وهو قول اأكثرين. والتركيب يدل على السبق والتواري عن الأعين وق مر فيما سلف ولا سيما في تفسير الاستعاذة في أول الكتاب ) خلقناه من قبل ( قال ابن عباس : أي من قبل خلق آدم و ) السموم ( الريح الحارة النافذة في السمام تكون في النهار وقد تكون بالليل. ومسام البدن الخروق الخفية التي يبرز منها العرق وبخار الباطن ، ولا شك أن تلك الريح فيها نار ولها لفح على ما ورد في الخبر أنه لفح جهنم. قال ابن مسعود : هذه السموم جزءاً من سبعين جزءاً من سموم النار التي خلق. الله منها الجان. ولا استبعاد في خلق الله الحيوان من النار فإنا نشاهد السمندل قد يتولد فيها. على قاعدة الحكيم : كل ممتزج من العناصر فإنه يمكن أن يغلب عليه أحدها ، وحينئذٍ يكون مكانه مكان الجزء الغالب والحرارة مقوية للروح لا مضادة لها. ثم إنه لما استدل بحدوث الإنسان الأول على كونه قادراً مختاراً ذكر بعده واقعته. والمراد بكونه بشراً أنه يكون جسماً كثيفاً يباشر ويلاقي ، والملائكة والجن لا يباشرون للطاقة أجسامهم .(4/219)
" صفحة رقم 220 "
والبشرة ظاهر الجلد من كل حيوان. ) فإذا سوّيته ( عدلت خلقته وأكملتها أو سويت أجزاء بدنه بتعديل الأركان والأخلاط والمزاج التابع لذلك اعتدالاً نوعياً أو شخصياً. ) ونفخت فيه من روحي ( النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر. فمن زعم أن الروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن فمعناه ظاهر ، ومن قال إنه جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في متحيز فمعنى النفخ عنده تهيئة البدن لأجل تعلق النفس الناطقة به. قال جار الله : ليس ثم نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل لتحصي لما يحيا به فيه. وتمام الكلام في الروح سوف يجيء إن شاء الله في قوله : ( يسألونك عن الروح ) [ الإسراء : 85 ]. ولا خلاف في أن الإضافة في قوله : ( روحي ( للتشريف والتكريم مثل ( ناقة الله ) و ( بيت الله ) والفاء في قوله : ( فقعوا ( تدل على أن وقوعهم في السجود كان واجباً عليهم عقيب التسوية والنفخ من غير تراخ. قال المبرد : قوله ) كلهم ( أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجدوا. وقوله : ( أجمعون ( أزال احتمال أنهم سجدوا متفرقين ، وقال سيبويه والخليل ) أجمعون ( توكيد بعد توكيد ، ورجح الزجاج هذا القول لأن أجميع معرفة فلا يقع حالاً ، ولو صح أن يكون حالاً وكا منتصباً لأفاد المعنى الذي ذكره المبرد ، ثم استثنى إبليس من الملائكة وقد سلف وجه الاستثناء في أول البقرة. ثم استأنف على تقدير سؤال سائل هل سجد ؟ فقال : ( أبى أن يكون مع الساجدين ( يعني إباء استكبار. ثم قال سبحانه وتعالى خطاب تقريع وتعنيف لا تعظيم وتشريف ) يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين ( وقال بعض المتكلمين : خاطبه على لسان بعض رسله لأن تكليم الله بلا واسطة منصب شريف فكيف يناله اللعين ؟ قال جار الله : حرف الجر مع أن محذوف ومعناه أيّ غرض لك في الامتناع من السجود ) قال لم أكن لأسجد ( اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد ) لبشر ( وحاصل شبهة اللعين أنه روحاني لطيف وآدم جسماني كثيف ، وأصله نوارني شريف وأصل آدم ظلماني خسيس ، فعارض النص بالقياس فلا جرم أجيب بقوله : ( فاخرج منها ( أي من الجنة أو من السماء أو من جملة الملائكة. وضرب يوم الدين أي يوم الجزاء حداً للعنة جرياً على عادة العرب في التأبيد كما في قوله : ( ما دامت السموات والأرض ) [ هود : 107 ] أو أراد اللعن المجرد من غير تعذيب حتى إذا جاء ذلك اليوم عذب بما ينسى اللعن معه. قال صاحب الكشاف : وأقول : هذا إن أريد باللعن مجرد الطرد عن الحضرة. أما إن أريد به الإبعاد عن كل خير فيتعين الوجه الأول إلا عند من أثبت لإبليس رجاء العفو. وإنما ذكر اللعنة ههنا بلام الجنس لأنه ذكر آدم بلفظ الجنس حيث قال : ( إني خالق بشراً ( ولما خصص آدم بالإضافة إلى نفسه في(4/220)
" صفحة رقم 221 "
سورة ( ص ) حيث قال : ( لما خلقت بيدي ) [ الآية : 75 ] خصص اللعنة أيضاً بالإضافة فقال : ( وإن عليك اللعنة ( فافهم. ) قال رب فأنظرني ( قد مر مثله في أول ( الأعراف ). ومعنى ) الوقت المعلوم ( أن إبليس لما عينه وأشار إليه بعينه صار كالمعلوم والمراد منه الوقت القريب من البعث الذي يموت فيه الخلائق كلهم ليشمل الموت اللعين أيضاً. وقيل : لم يجب إلأى ذلك وأنظر إلى يوم لا يعلمه إلا الله ) قال رب بما أغويتني ( قد مر مباحثه في ( الأعراف ). ومفعول ) لأزينن ( محذوف أي أزين لهم المعاصي في الأرض أي في الدنيا التي هي دار الغرور ، أو أراد أنه قدر على الاحتيال لآدم وهو في السماء فهو على التزيين لأولاده وهم في الأرض أقدر ، أو أراد لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض بأن أزين الأرض في أعينهم وأحدثهم أن الزينة هي في الأرض وحدها كقوله : وإن يعتذر بالمحل من ذي ضروعها من الضيف يجرح في عراقيبها نصلي أراد يجرح عراقيبها نصلي ثم استثنى اللعين عباد الله المخلصين لأنه علم أن كيده لا يؤثر فيهم. قال بعض الحذاق : احترز إبليس بهذا الاستثناء من الكذب فيعلم منه أن الكذب في غاية السماحة والإخلاص فعل الشيء خالصاً لله من غير شائبة الغير لا أقل من أن يكون حق الله فيه راجحاً أو مساوياً. ولما ذكر إبليس من الاستثناء ما ذكر ) قال ( الله سبحانه ) هذا ( يعني الإخلاص طريق مستقيم عليّ ان أراعيه أو عليّ مروره أي على رضاني وكرامتي. وقيل : لما ذكر اللعين أنه يغوي بني آدم لا من عصمه الله بتوفيقه تضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى مشيئته تعالى فأشير إليه بقول : ( هذا ( أي تفويض الأمرو إلى إرادتي ومشيئتي. ) صراط عليّ ( تقريره وتأكيده ، ومن قرأ ) عليّ ( بالتوين فهو من علو الشرف أي الإخلاص أو طريق التفويض إلى الله والإيمان بقضائه طريق رفيع. ) مستقيم ( لا عوج له. وقال جار الله : هذا إشارة إلى ما بعده وهو قوله : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ( قال الكلبي : المذكورون في هذه الآية هم الذين استثناهم إبليس وذلك أنه لما ذكر ) إلا عبادك ( بين به أنه لا يقدر على إغواء المخلصين فصدقه الله تعالى في الاستثناء قائلاً ) إن عبادي ليس عليهم سلطان إلا من اتبعك ( أي ولكن من اتبعك من الغواة فلك تسلط عليهم وهذا يناسب أصول الأشاعرة. وقال آخرون : هذا تكذيب لإبليس وذلك أنه أوهم بما ذكر أن له سلطاناً على عباد الله الذين لا يكونون من المخلصين فبين تعالى أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلاً إلا الغواة ، لا بسبب الجبر والقسر بل من جهة الوسوسة والتزيين نظيره قوله : ( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم ) [ إبراهيم : 22 ] وهذا يناسب أصول الاعتزال ) وإن جهنم لموعدهم أجميعن ((4/221)
" صفحة رقم 222 "
قال ابن عباس : يريد إبليس ومن تبعه من الغوين. ) لها سبعة أبواب ( أي سبع طبقات بعضها فوق بعض أعلاها للموحدين ، والثاني لليهود ، والثالث للنصارى ، والرابع للصابئين ، والخامس للمجوس ، والسادس للمشركين ، والسابع للمنافقين. وعن ابن عباس في رواية ابن جريج : إن جهنم لمن ادعى الربوبية ، ولظى لعبدة النار ، والحطمة لعبدة الأصنام ، وسقر لليهود ، والسعير للنصارى ، والجحيم للصابئين ، والهاوية للموحدين. وقيل : إن قرار جهنم مقسوم بسبعة أقسام لكل قسم باب معين لكل باب جء من أتباع إبليس مقسوم في قسمة الله سبحانه. والسبب في أن مراتب الكفر مختلفة بالغلظ والخفة. فلا جرم صارت مراتب العقاب أيضاً متفاوته بحسبها. ثم عقب الوعيد بالوعد فقال : ( إن المتقين في جنات وعيون ( فزعم جمهور المعتزلة أنهم ا لذين اتقوا جميع المعاصي وإلا لم يفد المدح. وقال جمهور : الصحابة والتابعين هم الذين اتقوا الشرك بالله واحتجزا عليه بأنه إذا اتقى مرة واحدة صدق عليه أنه اتقى ، وكذا الكلام في الضارب والكاتب فليس من شرط صدق الوصف كونه آتياً بجميع أصنافه وأفراده إلا أن الأمة أجمعوا على أن التقوى عن الشرك شرط في حصول هذا الحكم. والآية أيضاً وردت عقيب قوله : ( إلا عبادك منهم المخلصين ( ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ( فلزمه اعتبار الإيمان في هذا الحكم. والظاهر أن لا يراد شرط آخر لأن التخصيص خلاف الظاهر فكلما كان أقل كان أقل كان أوفق لمقتضى الأصل ، فثبت أن المتقين يتناول جميع القائلين بكلمة الإسلام وهي ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) قولاً واعتقاداً سواء كان من أهل الطاعة أو من أهل المعصية. ثم إن الجنات أقلها أربع لقوله تعالى : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) [ الرحمن : 46 ] ثم قال ) ومن دونهما جنتان ) [ الرحمن : 62 ] وأما العيون فإما أن يراد بها الأنهار المذكورة في قوله : ( فيها أنهار من ماء غير آسن ) [ محمد : 15 ] الآية وإما أن يراد بها منابع غير ذلك. ثم إن كل واحد من المتقين يحتمل أن يختص بعين وينتفع بها كل من في خدمته من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهوتهم. ويحتمل أن يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون من كل حقد وحسد. فإن قيل : إذا كانوا في جنات فكيف يعقل أن يقول لهم الله تعالى وبعض الملائكة ) ادخلوها ( فالجواب لعل المرد أنهم لما ملكوا الجنات فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ذلك. ومعنى ) بسلام ( أي مع السلامة من آفات النقص والانقطاع. قوله : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل ( قد مر تفسيره في ( الأعراف ) ) إخواناً ( نصب على الحال. وكذلك ) على سرر متقابلين ( والمراد بالإخوة(4/222)
" صفحة رقم 223 "
إخوة الدين التعاطف. والسرر جمع سرير. قيل : هو المجلس الرفيع المهيأ للسرور وقال الليث : سرير العيش مستقرة الذي يطمئن عليه حال سروره وفرحه. والتركيب يدور على العزة والنفاسة ومنه قوله : ( سر الوادي لأفضل موضع منه ) ومنه السر الذي يكتم. عن ابن عباس : يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت ، وعن مجاهد : تدور بهم الأٍرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين. والتقابل التواجه نقيض التدابر ، وتقابل الإخوان يوجب اللذة والسرور ليكون كل منهم مقبلاً على الآخر بالكلية ، وتقابل الأعداء يكون تقابل التضاد التمانع فيكون موجباً للتباغض والتخالف ، واعلم أن الثواب منفعة مقرونة بالتعظيم خالصة في الآفات آمنة من الزوال. فقوله : ( إن المتقين ( إشارة إلى المنفعة وقوله : ( ادخلوها ( رمز إلى أنها مقرونة بالتعظيم ، وقوله : ( ونزعنا ( إلى قوله : ( لا يمسهم فيها نصب ( أي تعب تلويح إلى كونها سالمة من المنغصات إلى أن الثواب منفعة مقرونة بالتعظيم خاصة من الآفات آمنة من الزوال. فقوله : ( إن للمتقين ( إشارة إلى المنفعة وقوله : ( ادخلوها ( رمز إلى أنها مقرونة بالتعظيم ، وقوله ( ونزعنا ( إلى قوله : ( لا يمسهم فيها نصب ( أي تعب تلويح إلى كونها سالمة من المنغصات إلا أن قوله : ( ونزعنا ما في صدورهم ( إشارة إلى نفي المضار الروحانية ، وقوله : ( لا يمسهم ( إشارة إلى نفي المضار الجسدانية ، وقوله : ( وما هم بمخرجين ( مفيد لمعنى الخلود. ثم لما ذكر الوعيد والوعد زاده تقريراً وتمكيناً في النفوس فقال : ( نبىء عبادي ( وفيه من التوكيدات ما لا يخفى : منها إشهاد رسوله وإعلامه ، ومنها تشريفهم بإطلاق لفظ العباد عليهم ثم بإضافتهم إلى نفس ، ومنها التوكيد ب ( أن ) وبالفضل وبصيغتي الغفور والرحيم مع نوع تكرر كل ذلك يدل على أن جانب الرحمة أغلب كما قال : ( سبقت رحمتي غضبي ). التأويل : ( ربما يود الذين كفروا ( أي النفوس الكافرة ) لو كانوا ( مستسلمين لأوامر الله ونواهيه ، وذلك إنما يكون عند استيلاء سلطان الذكر على القلب والروح ، وتنور صفاتها بنور الذكر فيغلب النور على ظلمة النفس وصفاتها وتبدلت أحوالها من الأمّارية إلى الطمئنان فتمنت حين ذاقت حلاوة الإسلام وطعم الإيمان لو كانت من بدء الخلق مسلمة مؤمنة كالقلب والروح. ثم هدد النفس التي ذاقت حلاوة الإسلام ثم عادت الميشوم إلى طبعها واستحلت المشارب الدنيوية بقوله : ( ذرهم يأكلوا ( ) وما أهلكنا من قرية ( من القرى البدنية بإفساد استعدادها ) إلا ولها كتاب ( مكتوب في علم الله من سوء أعماله وأحواله ) ما تسبق من أمة أجلها ( متى يظهر منها ما هو سبب هلاكها ) وما يستأخرون ((4/223)
" صفحة رقم 224 "
لحظة بعد استيفاء أسباب هلاكها ) وقالوا ( يعني النفوس المتمردة مخاطباً للقلب الذاكر ) لو ما تأتينا ( بصفات الملائكة المنقادين ، وفيه إشارة إلى أن النفس الأمارة لا تؤمن بما أنزل الله إلى القلوب من أنوار الإلهية حتى تصير مطمئنة مستعدة لهذه الصفات ، ولو أنزلت قبل أوانها وكمال استعداد القلوب ما كانوا إذاً منظرين مؤخرين من الهلاك لضيق نطاق طاقتهم ) إنا نحن نزلنا ( كلمة لا إله إلا الله في قلوب المؤمنين ) كتب في قلوبهم الإيمان ) [ المجادلة : 22 ] والمنافق يقول ذلك ولكن لم ينزل في قلبه ولم يحفظ. ) ولو فتحنا ( على من أسلكنا الكفر في قلوبهم ) باباً من ( سماء القلب لأنكروا فتح الباب. ولقد جعلنا في سماء القلب بروج الأطوار ، فكما أن البروج منازل السيارات فكذلك الأطوار منازل شموس المشاهدات وأقمار المكاشفات وسيارات اللوامع والطوالع ) وزيناها ( لأهل النظر السائرين إلى الله ) وحفظناها من ( وساوس الشيطان وهواجس النفس الأمارة ، ولكن من استرق السمع من النفس والشيطان فأدركه شعلة من أنوار تلك الشواهد فيضمحل الباطل ويتبين الحق ) والأرض مددناها ( فيه أن أرض البشرية تميل كنفس الحيوانات إلى أن أرساها الله بجبال العقل وصفات القلب ) وجعلنا لكم فيها معايش ( هي أسباب الوصول والوصال ) ومن لستم له برازقين ( وهو جوهر المحبة وإن غذاءه من مواهب الحق وتجلي جماله فقط ، ولكل شيء خزانة فلصورة الأجسام خزانة ، ولا سمها خزانة ، ولمعناها خزانة ، وكذا للونها ولطعمها ولخواصها من المنافع والمضار ، وكذا لظلمتها ونورها ولملكها وملكوتها ، وما من شيء إلا وفيه لطف الله وقهره مخزون ، وقلبو العباد خزائن صفات الله تعالى بأجمعها ) وأرسلنا ( رياح العناية ) لواقح ( لأشجار القلوب بأنهار الكشوف وبأثمار الشواهد كما قال بعضهم : إذا هبت رياح الكرم على أسرار العارفين أعتقهم من هواجس أنفسهم ورعونات طبائعهم ، وظهر في القلوب نتائج ذلك وهي الاعتصام بالله والاعتماد عليه. ) فأنزلنا من ( سماء الهداية ) ماء ( الحكمة ) وما أنتم له بخازنين ( في أصل الخلقة فإن المخلوق لا يوصف بالحكمة إلا مجازاً. وإنا لنحن نحيي قلوب أوليائينا بأنوار جمالنا ، ونميت نفوسهم بسطوة جلالنا ) ونحن الوارثون ( بعد إفناء وجودهم ليبقوا ببقائنا ) وإن ربك هو ( يحشر المستقدمين إلى حظائر قدسه والمستأخرين إلى أسفل سافلين الطبيعة ، خاطب إبليس النفس بقوله : ( وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ( أي إلى أن تطلع شمس شواهدنا من مشرق الروح وتصير أرض النفس مشرقة وتتبدل صفاتها الذميمة المظلمة بالأخلاق الروحانية الحميدة ) إلى يوم يبعثون ( أي يبعث الأرواح في قيامة العشق وهو الوقت المعلوم الذي يتجلى الرب فيه لأرواح العشاق ،(4/224)
" صفحة رقم 225 "
فينعكس نور التجلي من الأرواح إلى النفوس فتجعلها مطمئنة. ) بما أغويتني ( أضللتني من طريق الأمارية ) لأزينن ( للأرواح في أرض البشرية من الأعمال الصالحات التي تورث الأخلاق الحميدة وبها تربية الأرواح وترقيها ) ولأغوينهم أجمعين ( عما كانا عليه من الأعمال الروحانية الملكية التي لا تتأتى إلا لعبادك الذين خلصوا من حبس الوجود بجذبات الألطاف. ) هذا صراط ( أي هو طريق أهل الاستقامة في السير في الله المنقطعين عن غيره ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ( حجة تتعلق بتلك الحجة لهدايتهم وغوائهم فإنهم بلاهم ، وإن من خصوصية العبودية المضافة إلى الحضرة الحرية عما سواه ) لها سبعة أبواب ( من الحرص والشره والحقد والحسد والغضب والشهوة والكبر ، أو الأبواب السبعة إشارة إلى الحواس الخمس الظاهرة وإلى الوهم والخيال فإنهما أصلا الحواس الباطينة ، لأن الأول يدرك المعاني والثاني يدرك الصور ، والباقية - أعني المفركة والحافظة والذاكرة - من أعوانهما ، وأكثر ما يستعمل الإنسان هذه المشاعر إنما يستعملها في الأحوال الدنيوية المفضية إلى الهلاك ، فلاجرم صارت أبواباً لجهنم. فإذا استعملها في تحصيل السعادات الباقية بحسب تصرف العقل الغريزي صرن مع العقل أبواباً بل أسباباً لحصول الجنة. ) ادخلوها بسلام ( والسلام من الله الجذبات ) آمنين ( من موانع الخروج والدخول بعد الوصول فإن السير في الله لا يمكن إلا بالله وجذباته ولهذا قال جبرائيل ليلة المعراج : لو دنوت أنملة لاحترقت. ) ونزعنا ( فيه أن نزع الغل من الصدور لا يكون إلا بنزع الله ، وأن الأرواح القدسية مطهرات عن علائق القوى الشهوانية والغضبية مبراءت من حوادث الوهم والخيال ، ومعنى تقابلهم أن النفوس المصفاة عن كدورات عالم الأجسام ونوازع الخيال والأوهام إذا وقع عليها أنواع جمال الله أو جلاله انعكست منها إلى من في مثل درجاتها كما تتعاكس الصافية ، التحاذية ، فيزداد كل منها في نفسها بخفاء صفاتها. وفي قوله : ( نبىء عبادي ( إشارة إلى أن سلوك السالكين وطير الطائرين يجب أن يكون على قدمي الرجاء والخوف وجناحي الإنس والجن والله الموفق للصواب. ( الحجر : ( 51 - 99 ) ونبئهم عن ضيف . . . .
" ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون(4/225)
" صفحة رقم 226 "
فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أو لم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين "
( القراآت )
إذا دخلوا ( وبابه مدغماً : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف غير هشام ) إنا نبشرك ( بسكون الباء وضم الشين : حمزة. الآخرون بالتشديد ) تبشرون ( بالتشديد وكسر النون المخففة : نافع مثله. ولكن مشدده النون : ابن كثير. الباقون بفتح النون على أنها علامة رفع ) يقنط ( بكسر النون : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي وخلف وكذلك بابه. الآخرون بالفتح ) آل لوط ( مدغماً حيث كان شجاع ) لمنجوهم ( بالتخفيف : يعقوب وحمزة علي وخلف. الباقون بالتشديد ) قدرنا ( بالتخفيف حيث كان : أبو بكر وحماد ) بناتي إن ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع ) أني أنا ( بفتح ياء المتكلم : جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. الوقوف : ( إبراهيم ( ه ج لئلا يصير ) إذا دخلوا ( ظرفاً ) لنبئهم ( فإنه محال ) سلاماً ( ط ) وجلون ( ه ) عليم ( ه ) تبشرون ( ه ) القانطين ( ه ) الضالون ( ه(4/226)
" صفحة رقم 227 "
) المرسلون ( ه ) مجرمين ( ه لا للاستثناء. ) آل لوط ( ط ) أجمعين ( ه لا ) قدرنا ( لا لأن الجملة بعده مفعول والكسر لدخول اللام في الخبر ) الغابرين ( ه ) المرسلون ( ه لا لأن ما بعده جواب ( لما ) ) منكرون ( ه ) يمترون ( ه ) لصادقون ( ه ) تؤمرون ( ه ) مصبحين ( ه ) يستبشرون ( ه ) فلا تفضحون ( ه لا للعطف ) ولا تخزون ( ه ) العالمين ( ه ) فاعلين ( ه ط لابتداء القسم ) يعمهون ( ه ) مشرقين ( ه لا لاتصال القصة ) لظالمين ( ه لا لاتصال الانتقام بظلمهم ) منهم ( ه ط لأن الواو للابتداء فلو وصل لشابه الحال وهو محال ) مبين ( ه ط لتمام قصتهم ) المرسلين ( ه لا لأن الواو بعده للحال وقد آتيناهم ) معرضين ( ه لا للعطف ) آمنين ( ه ط ) مصبحين ( ه ط للاتصال معنى ) يكسبون ( ه لتمام القصص ) إلا بالحق ( ط ) الجميل ( ه ) العليم ( ه ) العظيم ( ه ) للمؤمنين ( ه ) المبين ( ه ج لجواز تعلق الكاف بقوله : ( فأخذتهم ( أو بقوله : ( فانتقمنا ( ولجواز تعلقها بمحذوف أي أنزلنا عليهم العذاب كما أنزلنا ، وتمام البحث سيجيء في التفسير. ) المقتسمين ( ه لا ) عضين ( ه ) أجمعين ( ه لا ) يعملون ( ه ) المشركين ( ه ) المستهزئين ( ه لا ) آخر ( ج لابتداء التهديد مع الفاء ) يعلمون ( ه ) يقولون ( ه لا لاتصال الأمر بالتسبيح تسلية ) الساجدين ( ه لا للعطف ) اليقين ( ه. التفسير : إنه سبحانه عطف ) ونبئهم ( على ) نبىء عبادي ( ليكون سماع هذه القصص مرغباً في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأولياء ، ومحذراً من المعصية المستتبعة لدركات الأشقياء ، ولما في قصة لوط من ذكر إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين ، وكل ذلك يقوّي ما ذكر من أنه غفور رحيم للمؤمنين ، وأن عذابه عذاب أليم للكافرين. وعند المعتزلة غفور للتائبين معذب لغيرهم. وقد مر تفسير أكثبر هذه القصة في سورة هود فنذكر الآين ما هو مختص بالمقام. فقوله : ( وجلون ( معناه خائفون خافهم لامتناعهم من الأكل أو لدخولهم بغير إذن وفي غير وقت. ) إنا نبشرك ( استئناف في معنى تعليل النهي عن الوجل. بشروه بالولد الذكر بكونه عليماً فقيل : أرادوا بعلمه نبوته. وقيل : العلم مطلقاً. وقوله : ( على أن مسني ( في موضع الحال أي مع هذه الحالة أي مع هذه الحالة استفهم منكراً للولادة في حالة الهرم أنها أمر عجيب عادة لا لأنه شك في قدرة الله تعال ولذلك قال : ( فبم تبشرون ( ( ما ) استفهامية دخلها معنى التعجب كأنه قال : فبأي أعجوبة تبشروني أي أو أنكم لا تبشروين بشيء في الحقيقة لأن ذلك أمر غير متصور في العادة ؟ وأحسن ما قيل فيه أن لا يكون قوله : ( بما ) صلة للتبشير بل يكون سؤالاً عن الوجه والطريقة يعني إذا كان الطريق .(4/227)
" صفحة رقم 228 "
المعتاد ممتنعاً فبأي طريق تبشرونني بالولد ، فلذلك قالوا في جوابه ) بشرناك بالحق ( أي باليقين الذي لا لبس فيه ، أو بشرناك بالولد بطريق هو حق وذلك قول الله تعالى ووعده وأنه قادر على خلق الولد من غير أبوين فضلاً من شيخ فانٍ وعجوز عاقر. قال أبو حاتم : حذف نافع ياء المتكلم مع النون وإسقاط الحرفين لا يجوز. وأجيب بأنه لم يحذف إلا الياء اكتفاء بالكسرة ونون الوقاية لم يوردها كما أوردت في قراءة التشديد ، وإنما كسر نون الجمع لأجل الياء وكلتا اللغتين فصيحة. قيل : عظم فرحه بتلك البشارة فدهش عن الجواب المنتظم فتكلم بالكلام المضطرب. وقيل : طلب مزيد الطمأنينة كقوله : ( ولكن ليطمئن قلبي ) [ البقرة : 260 ] عن ابن عباس : يريد بالحق ما قضى الله أن يخرج من صلب إبراهيم إسحق ومن صلب إسحق أكثر الأنبياء. وقوله : ( فلا تكن من القانطين ( لا يدل على أنه كان قانطاً فق ينهى عن الشيء ابتداء كقوله : ( ولا تطع الكافرين ) [ الأحزاب : 48 ]. ولذلك أنكر إبراهيم نهيهم بقول : ( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ( أي المخطئون طريق الصواب أو الكافرون نظيره ) إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) [ يوسف : 87 ] وفيه أنه لم يستنكر ذلك قنوطاً من رحمته ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها الله هما لغتان : قنط يقنط مثل ضرب يضرب ، وقنط يقنط مثل علم يعلم. وزعم الفارسي أن الأولى أعلى اللغتين. ثم سألعما لأجله أرسلهم الله حيث قال : ( فما خطبكم ( والخطب الشأن العظيم. فسئل أنهم لما بشروه بالولد الذكر العليم فما وجه السؤال عن مجيئهم ؟ وأجاب الاصم بأن المراد ما الأمر الذي وجهتم فيه سوى البشرى ؟. وقال القاضي : إنه علم أن المقصود لو كان التبشير فقط لكان الملك الواحد كافياً. وقيل : علم أنه لو كان تمام الغرض البشارة لذكروها أول ما دخلوا قبل أن يوجس إبراهيم منهم خيفة. قلت : لعله استصغر أمر التبشير إما لأجل التواضع وإما لأنه واقعة خاصة فسألهم عن الأمر الذي هو أعظم من ذلك وأعم تعظيماً لشأنهم ) قالوا إنا أرسلنا ( زعم صاحب الكشاف أن الإرسال ههنا في معنى التعذيب والإهلاك كإرسال الحجر أو السهم إلى المرمى. وأقول : كأنه لا حاجة إلى هذا التجوز لقوله في سورة الذاريات ) إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين ) [ الآيتان : 32 ، 33 ] فالتقدير إنا أرسلنا إليهم لنهلكهم ) إلا آل لوط ( وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً لاختلاف الجنسين ، فإن القوم موصوفون بالإجرام دون آل لوط. يكون قوله : ( إنا لمنوجوهم ( جارياً مجرى خبر ( لكن ) كأنه قيل : لكن قوم لوط منجون ، ويكون قوله : ( إلا امرأته ( استثناء من الاستثناء أي أرسلينا إليهم لنهلكهم إلا آل لوط ) إلا امرأته ( كقول المقر : لفلان علي عشرة إلا ثلاثة واحداً. وجوز في الكشاف(4/228)
" صفحة رقم 229 "
أن يكون قوله : ( إلا آل لوط ( مستثنى من الضمير في ) مجرمين ( حتى يكون الاستثناء متصلاً أي إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم. ولم لا يجوزالاستثناء من الاستثناء بناء على أن ) آل لوط ( مستثنى من معمول ) أرسلنا ( أو ) مجرمين ( و ) إلا امرأته ( من معمول ) منجوهم ( وقد عرفت ما فيه على أنه إذا جعل الإرسال بمعنى الإهلاك كما قرره هو آل الأمر إلى ما ذكرنا فلا أدري لم استبعده مع وفور فضله. قال أهل اللغة : قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل جعلت الشيء على مقدار غيره ، ومنه قدر الله الأقوات أي جعلها على مقدار الكفاية ، وقدر الأمور أي جعلها على مقدار ما يكفي في أبواب الخير والشر. وقيل : في معنى قدرنا : كتبنا. وقال الزجاج : دبرنا. وقيل : قضينا. والكل متقارب ، والمشدد في هذا المعنى أكثر استعمالاً وأنه جواب سؤال كأنه قيل : ما بالها استثنيت من الناجين ؟ فقيل : ( قدرنا إنها لمن الغابرين ( أي الباقين في الهوالك. ويقال للماضي أيضاً غابر وهو من الأضداد. قال في الكشاف : علق فعل التقدير مع أن التعليق من خصائص أفعال القلوب لأنه في معنى العلم. وإنما أسندوا الفعل إلى أنفسهم مع التقدير لله عز وجل بياناً لاختصاصهم به تعالى كما يقول خاصة الملك دبرنا كذا أو أمرنا بكذا ولعل المدبر والآمر هو الملك وحده. ثم إن الملائكة لما بشروا إبراهيم عليه السلام بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون إلى قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط وذلك قوله : ( فلما جاء آل لوط المرسلون قال ( أي لوط ) إنكم قوم منكرون ( تنكركم نفسي وتنفر منكم. وذلك أنهم هجموا عليه فلم يعرفهم وخاف أن يطرقوه بشر فلذلك ) قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ( أي ما جئناك بما توهمت بل جئناك بما فيه فرجك وتشفيك من عدوك وهو العذاب الذي كنت تخوفهم به وهم يشكون في وقوعه. ) وأتيناك بالحق ( باليقين الثابت. وقال الكلبي : بالعذاب الذي لا شك فيه ) وإنا لصادقون ( فيما أخبرناك به ) فأسر بأهلك بقطع من الليل ( أي في آخره وقدم في سورة هود وزاد ههنا قوله : ( واتبع أدبارهم ( لأنه إذا ساقهم وكان من ورائهم علم بنجاتهم ، ولا يخفى حالهم. ففي الآية زيادة بيان لكيفية الإسراء ثم زاد في البيان فقال : ( ولا يلتفت منكم أحد ( ولم يستثن امرأته اكتفاء بما مر في السورة من قوله : ( إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته ( قال جار الله : إنما أمر باتباع أدبارهم ونهى عن الألتفات ليكون فارغ البال من حالهم فيخلص قلبه لشكر الله ، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب ، ولئلا يشاهدوا عذاب قومهم فيرقوا لهم مع أنهم ليسوا من أهل الرقة عليهم ، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ولا يتحسروا على ما خلفوا. وجوز أن(4/229)
" صفحة رقم 230 "
يكون النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني ، لأن من يلتفت لا بد أن يقع له أدنى وقفة ) وامضوا حيث تؤمرون ( قال الجوهري : مضى الشيء مضياً ذهب ، ومضى في الأمر مضيباً أنفذه. وقال في الكشاف : عدى ) وامضوا ( إلى ) حيث ( تعديته إلى الظرف المبهم لأن ) حيث ( مبهم في الأمكنة ، وكذلك الضمير في ) تؤمرون ( قلت : حاصل الكلام يرجع إلى قوله : ( اذهبوا إلى المكان الذي تؤمرون بالذهاب إليه ، أو أنفذوا أمر الذهاب إلى هنالك. عن ابن عباس : إنه الشام. وقيل : مصر. وقال المفضل : حيث يقول لكم جبرائيل وكانت قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط. ثم أخبر عن حالهم مجملاً فقال : ( وقضينا ( ضمن معنى أوحينا ولذلك عدي بإلى كأنه قيل : وأوحينا. ) إليه ذلك الأمر ( مقتضياً مبتوتاً. ثم فسر ذلك الأمر بقوله : ( أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ( أي يستأصلون عن آخرهم حال ظهور الصبح ودخولهم فيه. وفي هذا الإجمال والتفسير تفخيم لشأن الأمر وتعظيم له. ثم حكى ما أبدى قوم لوط من الفعال بعد نزول الملائكة فقال : ( وجاء أهل المدينة ( أي أهل سذوم التي ضرب بقاضيها المثل فقيل أجور من قاضي سذوم. ) يستبشرون ( بظهور السرور بمجيء الملائكة لأنهم رأوهم مرداً حسان الوجوه ) قال ( لوط لما قصدوا أضيافه ) إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون ( بفضيحة بفضيحة ضيفي لأن الضيف يجب إكرامه فإذا أسيء إليه في دار المضيف كان ذلك إهانة وفضيحة للمضيف. يقال : فضحه يفضحه فضحاً وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار ) واتقوا الله ولا تخزون ( مر في ( هود ) ) قالوا ( في جواب لوط ) أو لم ننهك عن العالمين ( أي ألسنا نهيناك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة ؟ وكانوا يتعرضون لكل أحد ، وكان لوط عليه السلام ينهاهم عن ذلك فأوعدوه نظيره ) لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين ( ) الشعراء : 116 ] وقيل : نهوه عن ضيافة الناس وإنزالهم ) قال هؤلاء بناتي ( من الصلب أو أراد نساء أمته كما مر في ( هود ). قال جار الله ) إن كنتم فاعلين ( شك في قبولهم لقوله كأنه قال وما أظنكم تفعلون. وقيل : إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فبما أحل الله دون ما حرم. ثم قالت الملائكة للوط عليه السلام ) لعمرك ( مبتدأ محذوف الخبر لكثرة الاستعمال أي قسمي أو هو ما أقسم به. والعمر والعمر بالفتح والضم واحد إلاّ أنهم خصوا القسم بالمفتوح اتباعاً للأخف ، فإن الحلف كثير الدور على ألسنتهم ) إنهم لقي سكرتهم ( غوايتهم التي أذهبت عقولهم حتى لم يميزوا بين خطئهم وصوابك ) يعمهون ( يتحيرون فكيف يقبلون قولك الذي تأمرهم به من ترك البنين إلى البنات ؟ وقيل : إنه(4/230)
" صفحة رقم 231 "
سبحانه خاطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأقسم بحياته ( صلى الله عليه وسلم ) وما أقسم بحياة أحد قط وذلك يدل على أنه أكرم الخلق على الهل ) فأخذتهم الصيحة مشرقين ( داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس كان اتبداء العذاب من أو الصبح لقوله : ( مصبحين ( أليس الصبح بقريب ؟ وغلبته كانت عن طلوع الشمس قال المفسرون : هي صيحة جبرائيل. قلت : ويحتمل أن تكون صيحة قلب المدائن وإرسال الحجارة عليهم. قال بعض المفسرين : إنما قال : ( وأمطرنا عليهم ( وفي سورة هود ) وأمطرنا عليها ) [ الآية : 82 ] لأنه أراد ههنا من شذ من القرية منهم. وقيل : سبب تخصيص هذه السورة بجمع المذكر هو بناء القصة على قوله : ( إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ( ) إن في ذلك لآيات للمتوسمين ( للمتفرسين. وحقيقة التوسم التثبت في النظر حتى يعرف حقيقة سمة الشيء فعبر به عن التأمل والتفكر ) وإنها ( يعني تلك القرى وآارها ) لبسبيل مقيم ( ثابت يسلكه الناس المارة من الحجاز إلى الشام يشاهدون آثار قهر الله وغضبه هنالك. قال بعضهم : إنما جميع الآيات في قوله : ( إن في ذلك لآيات للمتوسيمن ( لأنه أِار إلى ما تقدم عن ضيف براهيم وقصة لوط وقلب المدينة وإمطار الحجارة عليها وعلى من غاب منهم. وقال في الثانية ) وإنها ( أي القرية ) لبسبيل ( وهذه واحدة من تلك الآيات فلذلك قال : ( إن في ذك لآية للمؤمنين ( وقيل : ما جاء من القرآن من الآيات فلجمع الدلائل ، وما جاء من الآية فلوحدانية المدلول عليه ، فلما ذكر عقيبه المؤمنين وهم مقرون بوحدانيته وحد الآية نظيره في ( العنكبوت ) ) خلق الله السموات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين ) [ الآية : 44 ]. ثم أجمل قصة قوم شعيب فقال : ( وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين ( ( إن ) مخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام الفارقة في خبرها. كانوا أصحاب غياض ومواضع ذات شجر فنسبوا إليها. والآيكة الشجر الملتف. والضمير في قوله : ( وإنهما ( يعود إلى قرى قوم لوط وإلى الأيكة. وقيل : بل إلى الآيكة ومدين لأن شعيباً كان مبعوثاً إليهما فدل بذكر أحد الموضعين ههنا - وهو الأيكة - على الآخر ) لبإمام مبين ( لبطريق واضح. قال الفراء والزجاج : سمي الطريق إماماً لأنه يؤم ويتبع. وقال ابن قتيبة : لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده. ثم ختم القصص بقصة ثمود فقال : ( ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين ( وهو واد بين الشأم والمدينة. وجمع المرسلين لأن تكذيب نبي واحد - وهو صالح - كتكذيب جميع الأنبياء ، أو لأن القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل ، أو أراد صالحاً ومن معه من المؤمنين ، ) وآتيناهم ( أي أعطينا رسولهم ) آياتنا ( أراد الناقة وكانت فيها آيات خروجها من الصخر وعظم خلقها وكثرة لبنها إلى غير ذلك كما حكينا(4/231)
" صفحة رقم 232 "
في ( الأعراف ) فكانوا عنها ( أي عن النظر فيها والاعتبار بها ) معرضين ( وفيه أن التقليد مذموم والاستدلال واجب ) وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين ( من أن تنهدم ويتداعى بنيانها أو يقع سقفهم عليهم ، أو آمنين من عذاب الله أو من حوادث الدهر. ) فما أغنى عنهم ( لم يدفع عنهم شيئاً من عذاب الله ) ا كانوا يكسبون ( من بناء البيوت الوثيقة ومن جمع الأموال والعدد. ولم فرغ من القصص قال : ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ( أي متلبسة بالفوائد والغايات والحكم الصحيحة منها : اشتغال المكلفين بالعبادة والطاعة حتى لو تركوها وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض منهم ، وهذا النظم يناسب أصول الاعتزال ، قال الجبائي : فيه بطلان مذهب الجبرية الذين يزعمون أن أكثر ما خلق الله بين السموات والأرض من الكفر والمعاصي باطل. وأجيب بأن أفعال العباد من جملة بين السموات والأرض فوجب أن يكون الله خالقها. ويمكن أن يقال في وجه النظم : إن هذا ابتداء شروع في تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتصبيره على أذيات قومه بعد اقتصاص أحوال الأمم السالفة ومعاملاتهم مع أنبيائهم ، ويؤيد هذا النظم قوله : ( وإن الساعة لآتية ( معناه أن الله سينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق والعدل فكيف يليق بحكمته وفضله إهمال أمرك ؟ ولما صبره على أذى قومه رغبه في الصفح فقال : ( فاصفح الصفح الجميل ( أي فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً بحلم وإغضاء إن كان اللام الجنس فالمراد هذا النوع من الصفح لا الذين يشتمل على حقد واجتهال ومكر ، وإن كان للعهد فلعل المراد ما أمر به في نحو قوله : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) [ الأعراف : 199 ] وقيل : هذا منسوخ بآية السيف والأظهر أن حسن المعاشرة والمخالقة مأمور به ما أمكن فلا حاجة إلى ارتكاب النسخ ) إن ربك هو الخلاق ( كثير الخلق ) العليم ( الكامل العلم يعلم ما جير بين الخلائق من الأحوال والأخلاق وإن كثروا وكثرت فيجازيهم يوم القيامة على حسب ذلك. وقيل كأراد أنه الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم ، فاليوم الصفح أصلح فاصفحوا إلى أن يكون السيف أصلح. ثم حثه على الصفح والتجاوز بذكر النعم العظام التي خصه بها فقال : ( ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ( أكثر المفسرين على أن المراد بها فاتحة الكتاب وهو قول عمر وعلي رضي الله عنهما وابن معسود وأبي هريرة والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة. وذلك أنها سبع آيات. والمثاني جمع مثناة من التثنية أو جم مثنية لأنها تثنى في كل صلاة. وقال الزجاج : تثنى بما يقرأ بعدها معها. وأيضاً قسمت(4/232)
" صفحة رقم 233 "
بنصفين قسم ثناء وقسم دعاء ، وقد ورد الحديث في هذا المعنى ( قست الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) وقد مر في أول الكتاب. وأيضاً كلماتها مثناة مثل : ( الرحمن الرحيم ( ) إياك ( و ) إياك ( ) الصراط ( ) صراط ( ) عليهم ( ) عليهم ( واشتمالها على ثناء الله تعالى وتحميده مقرر ومما يتفرع على هذا القول ما نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنه قال : كان ابن مسعود لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب. فقيل : كأنه رأى أنه تعالى عطف عليه قوله : ( والقرآن العظيم ( والعطف يوجب المغايرة فوجب أن تكون السبع المثاني غير القرآن. والجواب أنه قد يكون بعطف الجزء على الكل كقوله : ( وملائكته وجبريل ) [ البقرة : 98 ] أو بالعكس كما في الآية. والمقصود في الوصفين تميز البعض عن الكل تنبيهاً على مزية ذلك البعض وشرفه. فإن قلت : ليس لعطف لكل على البعض نظير ، والاستدلال بالآية استدلال بصورة النزاع من غير دليل. قلنا : يكفي بقوله : ( ولقد آتيناك ( دليلاً على أنه من القرآن. وعن ابن عمر وسعيد بن جبير في رواية : أن السبع المثاني هي السبع الطوال سميت بذلك لما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك ، أو لأنها تثني على الله بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى. وأنكر الربيع هذا القول لأن هذه السورة مكية وأكثر تلك السورة مدنية. وأجيب بأن المراد من الإيتاء إنزالها إلى السماء الدنيا ، والمكية والمدنية في ذلك سيان ، وضعف بأن إطلاق لفظ الإيتاء على ما لم يصل بعد إليه خلاف الظاهر. وقال قوم : السبع المثاني هي التي دون الطول والمئين وفوق المفصل ، واحتجوزا عليه بما روى ثوبان أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطاني المئين مكان الإنجيل ، وأعطاني المثاني مكان الزبور وفضلني ربي بالمفصل ). قال الواحدي : والقول في تسمية هذه السور مثاني كالقول في تسمية الطول مثاني. وروي عن ابن عباس وإليه ذهب طاوس أنها هي القرآن لقوله سبحانه : ( كتاباً متشابهاً مثاني ) [ الزمر : 23 ] وأنها سبعة أسباع كرر فيها دلائل التوحيد والنبوة والتكاليف. ومعنى العطف على هذا القول الجمعية كقوله : ( إلى الملك القرم وابن الهمام. وكأنه قيل : آتيناك ما هو الجامع لكونه سبعاً مثاني ولكونه قرآناً عظيماً. قال الزجاج ووافقه صاحب الكشاف : و ( من ) في ) من المثاني ( للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطول ، وللبيان إذا أردت الأسباع .(4/233)
" صفحة رقم 234 "
ولما عرف رسوله نعمه الدينية ورغبه فيها نفره من اللذات العاجلة الزائلة لأن كل نعمة وإن عظمت فإنها بالنسبة إلى نعمة القرآن ضيئلة حقيرة ، ومنه الحديث ( من لم يتغن بالقرآن أي لم يستغن به - فليس منا ) وقول أبي بكر : من أوتي القرآن فرآى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً. فمن حق قارىء القرآن الواقف على معانيه أن لا يشغل سره بالالتفات إلى الدنيا وزهرتها. قال الواحدي : إنما يكون مادّاً عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه ، وإدامة النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه. وقال في الكشاف : معنى ) لا تمدن ( لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمن له ) إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ( أي أصنافاً من الكفار قاله ابن قتيبة. وقال الجوهري : الأزوج القرناء. وقال بعضهم : لا تمدن عينيك أي لا تحسدنّ أحداً على ما أوتي من الدنيا. وضعف بأن الحسد منهي عنه مطلقاً فكيف يحسن تخصيص الرسول به ؟ ويمكن أن يجاب بأن المراد منه نهي التكوين كقوله : ( ولا تكونن من المشركين ) [ الأنعام : 14 ] أو المراد بالغبطة فهي محظورة عليه ( صلى الله عليه وسلم ) لجلالة منصبه وإن كانت جائزة لأمته. ويروى أنه وافت من بلاد الشام سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجوهر ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها ولأنفقناها في سبيل الله ، فقال لهم الله عز وجل : لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع. وإنما قال في هذه السورة ) لا تمدن ( بغير واو العطف لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه. ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم أنفسهم وإن لم يحصل لهم في قلبه قدر ووزن فقال : ( ولا تحزن عليهم ( أي على أنهم لم يؤمنوا فيتقوى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون ، وكما أمره بالتكبر على الأغنياء والترفع عنهم إذا كانوا كفاراً أمره بالتواضع للفقراء ، إذا كانوا مؤمنين فقال : ( واخفض جناحك للؤمنين ( الخفض نقيض الرفع ، وجناحا الإنسان يداه ، وخفضهما كناية عن اللبن والرفق. وإنما قال في سورة الشعراء بزيادة ) لمن اتبعك ) [ الآية : 215 ] لأنه قال قبله ) وأنذر عشيرتك الأقربين ) [ الآية : 214 ] فلو لم يذكر هذه الزيادة لكان الظاهر أن اللام للعهد فصار الأمر بخفض الجناح مختصاً بالأقربين من عشيرته فزيد ) لمن اتبعك ) [ الشعراء : 215 ] ليعلم أن هذا التشريف شامل لجميع متبعيه من الأمة. ولما بعثه على الرفق بأهل الإيمان أمره بالإنذار لكل المكلفين فقال : ( وقل إني أنا النذير المبين ((4/234)
" صفحة رقم 235 "
ويدخل تحت كونه نذيراً كونه مبلغاً لجميع التكاليف ، لأن كل ما كان واجباً ترتب على تركه عذاب ، وكل ما كان حراماً ترتب على فعله عقاب. ويدخل في كونه مبيناً كونه شارحاً لجميع مراتب أهل التكاليف من الجنة والنار. فالإنذار بالنار والإحذار بالجنة هو الإخبار عن موجب الحرمان عنها. وفي متعلق قوله : ( كما أنزلنا ( وجهان بعد ما مر به في الوقوف : أحدهما أن يتعلق بقوله : ( ولقد آتيناك ( أي أنزلنا ( أي أنزلنا عليك ما أنزلنا ) على المقتسمين ( ومن هم ؟ قيل : أهل الكتاب ) الذين جعلوا القرآن عضين ( أي أجزاء جمع عضة وأصلها عضوة ( فعلة ) من عضى الشاة إذا جعلها أجزاء وأعضاء ، أو ( فعلة ) من عضهته إذا بهته فالمحذوف منها الهاء لا الواو. وعن عكرمة : العضه السحر بلسان قريش يقولون للساحرة عاضهة. ولعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) العاضهة المستعضهة فينقصانها الهاء أيضاً. وجمعت العضة بالمعاني جمع العقلاء لما لحقها من الحذف ، فجعلوا الجمع بالواو والنون عوضاً عما لحقها من الحذف كسنين. فمعنى الآية أن اليهود اقتسموا القرآن إلى حق وباطل وجزؤه فقالوا بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما. ويجوز أن يراد بالقرآن ما يقرأونه من كتبهم وقد اقتسموه بتحريفهم وتكذيبهم ، والإقرار بالبعض والتكذيب بالبعض كقوله : ( أفتؤمنون بببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) [ البقرة : 85 ] وفي هذا تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن تكذيب قومه وعداوتهم ، ولهذا وسط بين المتعلق بقوله : ( لا تمدن ( الآية لأنه مدد للتسلية لما فيه من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ومن الإقبال بالكلية على المؤمنين. الوجه الثاني أن يتعلق بقوله : ( النذير المبين ( وعلى هذا لا يكون بد من التزام إضمار أو زيادة ، أما الإضمار فأن يكون التقدير : أنا النذير عذاباً كما أنزلنا كقولك رأيت كالقمر في الحسن أي وهاً كالقمر ، وأما الزيادة فأن تكون الكاف زائدة كقوله : ( ليس كمثله شيء ) [ الشورى : 11 ] ويمكن أن يقال : الكاف بمعنى مثل ولا حاجة إلى الالتزام والتقدير : أنذر قريشاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم إما اليهود ويراد بالعذاب ما جرى على قريظة والنضير فيكون قد جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون وقد كان ، وإما غيرهم من أهل مكة أو من قوم صالح. قال ابن عباس : هم الذين اقتسموا طرق مكة ومداخلها أيام الموسم فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان بالله ورسوله. يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر ، ويقول الآخر كذاب ، والآخر شاعر ، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات وكانوا قريباً من أربعين ، منهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب. وقال(4/235)
" صفحة رقم 236 "
عكرمة : اقتسموا القرىن استهزاء وكان يقول بعضهم سورة البقرة لي ويقول الآخر سورة آل عمران لي وقال مقاتل : اقتسموه. قال بعضهم سحر ، وبعضهم شعر ، وبعضهم كذب ، وبعضهم ساطير الأولين. وقال ابن زيد : المقتسمون هم الذين تقاسموا بالله ليبيتن صالحاً كما سيجيء في سورة النمل ، فرمتهم الملائكة بالحجارة وقتلوهم ، وعلى هذا يكون قوله : ( الذين جعلوا ( منصوباً بالنذير أي أنذر المعضين الذين يجزؤون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين. ثم أقسم على سبيل الوعيد فقال : ( فوربك لنسألنهم ( الآية وقد مر تفسير مثله في أول ( الأعراف ) وذلك قوله ) فلنسألن الذين أرسل إليهم ) [ الأعراف : 6 ]. والأظهر أن الضمير عائد إلى جميع المكلفين المنذرين ، وأن السؤال يكون عن جميع الأعمال ، وقد يخص الضمير بالمقتسمين والسؤال بالاقتسام. ثم شجع نبيه قائلاً ) فاصدع ( أي اجهر ) بما تؤمر ( وأظهره وفرق بين الحق والباطل. وأصل الصدع الشق والفصل ومنه سمي الصبح صديعاً كما سمي فلقاً. وصدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً. قال النحويون : الجار محذوف والمعنى بالذي تؤمر به من الشرتائع مثل ( أمرتك الخير ). وجوز أن تكون ( ما ) مصدرية أي بأمرك وشأنك مصدر من المبني للمفعول. وقالوا : وما زال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مستخفياً حتى نزلت هذه الآية. ثم قال : ( وأعرض عن المشركين ( أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهمإياك على إظهار الدعوة وهذا لا ينافي آية القتال حتى يلزم النسخ على ما ظن بل يؤكدها. ثم أكد النهي عن الاكتراث بهم وقوّى قلبه فقال : ( إنا كفيناك المستهزئين ( ولا ريب أنهم طبقة ذو شوكة قدروا على الاستهزاء بالرسول مع جلالة قدره. والآية لا تفيد إلا هذا القدر لكن المفسرين ذكروا عددهم وأسماءهم مع اختلاف بينهم. والأشهر على ما رواه عروة بن الزبير أنهم خمسة نفر من الأشراف : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحرث بن الطلاطلة. وعن ابن عباس : ماتوا كلهم قبل يوم بدر. وقال جبرائيل عليه السلام لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوابه سهم فلم ينعطف تعظماً لأخذه فأصابه عرقاً في عقبة فقطعه فمات. وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها سوكة فقال : لدغت لدغت فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات ، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي ، وأشار إلى أنف الحرث فامتخط قيحاً فمات ، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجر ويضرب وجهه بالشوك حتى مات ، ثم زاد في تسلية نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ( من المطاعن فيك وفي(4/236)
" صفحة رقم 237 "
القرآن لأن الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك. ثم أمره لكشف ما نابه بأربعة أشياء : بالتسبيح والتحميد والسجود والعبادة إلى إتيان اليقين. عن ابن عباس : هو الموت سمي بذلك لأنه أمر متيقن ولا يجب الإخلال بالعبادة ما دام المكلف حياً وهذا كما قيل في تحديد مدة طلب العلم : إنه من المهد إلى اللحد. وكيف يصير الإقبال على الطاعات سبباً لزوال ضيق القلب ؟ قال المحققون : لأنه ينكشف له أضواء عالم الربوبية فيهون في نظره المصالح الدنيوية فلا يستوحش من فقدانها ولا يستأنس بوجدانها. وقال أهل السنة : إذا نزل بالعبد بعض المكاره فعليه أن يفزع إلى الله بالذكر الدائم والسجود وسائر أنواع العبادة فكأنه يقول : وجب عليّ عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكاره ، وقالت المعتزلة : من اعتقد تنزيه الله عن القبائح سهل عليه تحمل المشاق لأنه يعلم أنه تعالى عدل منزه عما لا فائدة فيه ولا غرض فيطيب قلبه. التأويل : في بشارة إبراهيم إلى أن الطالب الصادق وإن كان مسناً ضعيف القوى كما قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد. فأنه ينبغي أن لا يقنط من حرمة الله ، ويتقرب إليه بالأعمال القلبية ليتقرب إليه ربه بأصناف الألطاف وجذبات الأعطاف ، فيخرج من صلب روحه ورحم قلبه غلاماً عليماً بالعلوم اللدنية وهو واعظ الله الذي في قلب المؤمن ) إن في ذلك لآيات ( لأصحاب القلوب المتوسمين بشواهد أحكام الغيب. وما خلقنا سموات الأرواح وأرض الأسبح ، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار والخفيات ) إلا بالحق ( أي إلا لمظهر الحق ، ومظهر هو الإنسان المخصوص بذلك من بين سائر المخلوقات ) وإن الساعة ( يعني قيامة العشق ) لآتية ( لنفوس الطالبين الصادقين من أصحاب الرياضات لأن أنفسهم تموت بالرياضة ومن مات فقد قامت قيامته ) فاصفح ( أيها الطالب الصادق عن النفس المرتاضة بأن تداويها وتواسيها ، فإن في قيامة العشق يحصل من تزكية النفس في لحظة واحدة ما لا يحصل بالمجاهدة في سنين كثيرة ومن هنا قيل : جذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين. ) إن ربك هو الخلاق ( لصور المخلوقات ولمعانيها ولحقائقها ) العليم ( بم نخلقه مستعداً لمظهرية ذاته وصفاته ومظهريتهما وليس ذلك في السموات والأرض وما بينهما إلا الإنسان الكامل وغيره مختص بمظهرية الصفات دون اذات وان كان ملكاً فلهذا قال : ( ولقد آتيناك سبعاً ( أي سبع صفات ذاتية لله تبارك وتعالى : السمع والبصر والكلام والحياة والعلم والأرادة والقدرة ) من المثاني ( أي من خصوصية المظهرية ، والمظهرية الذات والصفات. ) والقرآن العظيم ( ولهذا صار خلقه عظيماً لأنه كان خلقه القرآن ) لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به(4/237)
" صفحة رقم 238 "
أزواجاً ( من أهل الدنيا ولآخرة ) واخفض جناحك للمؤمنين ( بهذا المقام ليصلوا بجناح همتك إليه ) على المتقسمين ( الذين قسموا قهر الله على أنفسهم فصاروا مظاهر القهر ) الذين جعلوا القرآن عضين ( أي جزؤوه في الاستعمال فقوم قرأوه ليقال لهم القراء وبه يأكلون ، وقوم حفظوهليقال لهم الحفاظ وبه يجرّون الرزق ، وقوم حصلوا تفسيره وتأويله إظهاراً للفضل وطلباً للشهرة ، وقوم استنبطوا معانية وفقههعلى وفق آرائهم ومذاهبهم فكفروا إذ فسروا القرآن برأيهم. ) إنا كفيناك المستهزئين ( الذين يستعلمون الشريعة بالطبيعة استهزاء بدين الله ) الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر ( من الهوى والدنيا ) فسبح بحمد ربك ( لأنك لست منهم ) وكن من الساجدين ( سجدة الشكر ) واعبد ربك ( بالإخلاص ) حتى يأتيك اليقين ( أي إلى الأبد لأن كل مقام يحصل فيه اليقين بالعيان بعد العرفان فإنه يحصل فوقه مقام آخر مشكوك فيه إلى أن يحصل برد اليقين فيه أيضاً ، فهناك مراتب لا تتناهى فاليقين يكون إشارة إلى الأبد والله أعلم .(4/238)
" صفحة رقم 239 "
سورة النحل
سورة النحل مكية غير ثلاث آيات ) وان عاقبكم ( الخ
حروفها سبعة آلاف وسبعمائة كلمها ألف وثمانمائة وأحد وأربعون آياتها مائة وثمان وعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
( النحل : ( 1 - 23 ) أتى أمر الله . . . .
" أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون(4/239)
" صفحة رقم 240 "
بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين "
( القراآت )
تشكرون ( وما بعده بتاء الخطاب : حمزة وعلي وخلف. والآخرون على الغيبة ) تنزل ( بالفتحات الثلاث ) الملائكة ( بالرفع : سهل وروح وزيد وأبو زيد مثله لكن بضم التاء الفوقانية : جبلة ) ينزل ( من الإنزال ) الملائكة ( بالنصب : ابن كثير وأبو عمرو ورويس : والباقون بالتشديد من التنزيل. ) بشق الأنفس ( بفتح الشين : يزيد. الباقون بكسرها ) ننبت ( بالنون : يحيى وحماد. الآخرون بياء الغيبة ) والشمس والقمر والنجوم مسخرات ( كلها مرفوعات : ابن عامر وافق حفص والمفضل ) في النجوم مسخرات ( الباقون : بنصب الجميع على أن ) مسخرات ( حال. ) يسرون ويعلنون ( بالياء التحتانية فيهما : الخزاز عن هبيرة. الآخرون بتاء الخطاب ) يدعون ( على الغيبة : سهل ويعقوب وعاصم غيرالأعشى. الباقون على الخطاب. الوقوف : ( فلا تستعجلوه ( ط ) يشركون ( ه ) فاتقون ( ه ) بالحق ( ط ) يشركون ( ه ) مبين ( ه ج ) خلقها ( ج لا حتمال تمام الكلام واحتمال أن يكون ) لكم ( متعلقاً به والوقف حينئذٍ على ) لكم ( ) تأكلون ( ه ص للعطف ) تسرحون ( ه ص لذلك ) الأنفس ( ط ) رحيم ( ه لا لأن ) الخيل ( مفعول ) خلق ( ) وزينة ( ط ) ما لا تعلمون ( ه ) جائر ( ط ) أجمعين ( ه ) تسيمون ( ه ) الثمرات ( ط ) يتفكرون ( ه ) والنهار ( ط لمن قرأ ) والشمس ( وما بعده بالرفع ومن نصب ) الشمس والقمر ( ورفع ) النجوم ( وقف على ) القمر ( ومن نصب الكل وقف على ) بأمره ) بأمهر ( ط ) يعقلون ( ه لا لأن ما بعده مفعول ) سخر ( ) ألوانه ( ط ) يذكرون ( ه ) تلبسونها ( ج لأن قوله ) وترى ( فعل مستأنف مع اتصال المعنى. ) تشكرون ( ه لا ) تهتدون ( ه لا لأن قوله ) وعلامات ( عطف على ) سبلاً ( ) وعلامات ( ط ) يهتدون ( ه ) لا يخلق ( ط ) تذكرون ( ه ) لا تحصوها ( ط ) رحيم ( ه ) وما تعلنون ( ه ) وهم يخلقون ( ه ط لأن التقدير : هم أموات ) غير أحياء ( ج لاختلاف الجملتين ) وما يشعرون ( ه لا لأن ما بعده مفعول ) يبعثون ( ه ) واحد ( ط لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء ) مستكبرون ( ه ) وما يعلنون ( ه المستكبرين ( ه. التفسير : هذه السورة النعم أيضاً ، وحكى الأصم عن بعضهم أن كلها مدينة. وقال الآخرون : من أولها إلى قوله : ( كن فيكون ( مدنية وما سواه مكي. وعن(4/240)
" صفحة رقم 241 "
قتادة بالعكس منه. قال أهل النظم : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخوفهم بعذاب الدنيا تارة وهو القتل والاستيلاء عليهم كما حصل في يوم بدر ، وتارة بعذاب القيامة. ثم إن القوم لما لم يشاهدوا شيئاً من ذلك أقبلوا على تكذيبه وكانوا يستعجلون ما وعوا به استهزاء. وروي أنه لما نزلت ) اقتربت الساعة ) [ القمر : 1 ] قال الكفار فيما بينهم : إن هذا يزعم أن القيامة قد اقتربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن. فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئاً فنزلت ) اقترب للناس حسابهم ) [ الأنبياء : 1 ] فأشفقوا وانتظروا قربها ، فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزلت ) أتى أمر الله ( فوثب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورفع الناس رؤوسهم فنزلت ) فلا تستعجلوه ( فاطمأنوا. والحاصل أن قوله : ( أتى أمر الله ( جواب عن شبهتهم إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع كما يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها : جاءك الغوث فلا تجزع. أو المراد أن ) أمر الله ( بذلك وحكمه قد وقع وأى. فأما المحكوم به فإنما لم يقع لأنه تعالى حكم بوقوعه في وقت معين فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود فلا تسعجلوه ولا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت. ثم إن المشركين كأنهم قالوا : هب يا مزحمد أنا سلمنا صحة ما تقول من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا إما في الدنيا وإما في الآخرة إلا أنا نعبد هذه الأصنام لأنها شفعاؤنا عند الله فكيف نستحق العذاب بسبب هذه العبادة ؟ فأجاب الله عن هذه الشبه بقوله : ( سبحانه وتعالى عما يشركون ( كما مر في أول سورة يونس. والمراد تنزيه نفسه عن الأضداد والأنداد وأن يكون لأحد من الأرواح والأجساد أن يشفع عنده إلا بإذنه ، أو يستعجل في حكم من أحكامه ، أو قضية قبل أوانه. ثم إنهم كأنهم قالوا سلمنا أنه تعالى أن يقضي على طائفة باللطف وعلى الآخرين. بالقهر ولكن كيف صرت واقفا على أسرار الله تعالى في ملكه وملكوته دوننا ، من أين حصل لك هذا الفضل علينا ؟ فأزال الله سبحانه شبهتهم بقوله : ( ينزل الملائكة ( الآية. والمراد أن له بحكم المالكية أن يختص بعض عبيده بإنزال الوحي عليه ويأمره بأن يكلف سائر العباد بمعرفة توحيد الله وبعبادته ، فظهر بهذا البيان أن هذه الآيات منتظمة على أحسن الوجوه. قال الواحدي : روى عطاء عن ابن عباس أنه أرد بالملائكة ههنا جبرائيل وحده ، وتسمية الواحد بالجمع إذا كان رئيساً مطاعاً جائزة. وعلى هذا التفسير فالمراد بالروح كلام الله تعالى كقوله : ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ) [ الشورى : 52 ] قال المحققون : الروح الأصلي هو القرآن الذي فيه بيان المبدأ والوسط والمعاد ، فبه يحصل إشراق العقل ، وبالعقل يكمل ضياء جوهر الروح ، وبالروح يكمل حال الجسد فهو الأصل والباقي فرع عليه وبهذه(4/241)
" صفحة رقم 242 "
المناسبة يسمى جبرائيل روحاً وعيسى روحاً. وعن أبي عبيدة أن الروح ههنا جبرائيل ، والباء بمعنى ( مع ) أي تنزل الملائكة مع جبرائيل. وذلك أنه في أكثر الأحوال كان ينزل ومعه أقوام من الملائكة كما في يوم بدر وحنين ، وكان ينزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ملك الجبال وملك البحار وخزان الجنة وغيرهم. قال في الكشاف : ( بالروح من أمره ( أي بما يحيي القلوب الميتة بالجهل من وحيه ، أو بما يقوم الدين مقام الروح في السجد وقال غيره : من أمره معناه أن ذلك التنزيل والنزول لا يكون إلا بأمر الروح في الجسد وقال ) بأمر ربك ) [ مريم : 64 ] قال الزجاج : ( أن أنذروا ( بدل من ( الروح ) أي ينزلهم بأن أنذروا. و ( أن ) إما مفسرة لأن تنزيل الوحي فيه معنى القول ، وإما مخففة من الثقيلة وضمير الشأن مقدر أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا أي أعلموا الناس قولي : لا إله إلا أنا ( وهو إشارة إلى استكمال القوة النظرية. وقوله : ( فاتقون ( رمز إلى استكمال القوة العملية ومنه يعلم أن النفس متى كملت من هاتين الجهتين حصل لها روح حقيقي وحياة أبدية وسعادة سرمدية. قال الإمام فخر الدين الرازي : إنا لا نعلم كون جبريل صادقاً ولا معصوماً من الكذب والتلبيس إلا بالدلائل السمعية ، وصحة الدلائل السمعية موقوفة على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وصدقه يتوقف على أن هذا القرآن معجز من قبل الله لا من قبل شيطان خبيث ، والعلم بذلك يتوقف على العلم بأن جبرئيل صادق مبرأ عن التلبيس وأفعال الشياطين ، وحينئذٍ يلزم الدور وهذا مقام صعب. أقول : قد ذكرنا مراراً أن الفرق بين المعجز والسحر هو أن صاحب المعجز يدعو إلى الخير ، وصاحب السحر يدعو إلى الشر ، والفرق بين الملك والشيطان هو أن الملك يلهم بالخير ، والشيطان يوسوس بضده وإذا كان الأمر كذلك فكيف تشتبه المعجزة بالسحرة وجبرائيل بإبليس ومن أين يلزم الدور ؟ ولما بين الله سبحانه أن روح الأرواح وروح الأجسام هو أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل أن يعمل به ، أتبعه دلائل التوحيد مبتدئاً من الأشرف وهو السماوايات إلى الأدون - وهو الأرضيات - فقال : ( خلق السموات والأرض بالحق ( وقد مر تفسير مثله مراراً. وقوله : ( تعالى عما يشركون ( تنزيه لذاته عمن يشاركه في الأزلية والقدم والتدبير والتأثير والصنع والإبداع. فالفائدة المطلوبة من هذا الكلام غير الفائدة المطلوبة من مثله في أول السورة كما ذكرنا فلا تكرار. ثم إن أشرف الأجسام بعد الفلكيات بدن الإنسان فلهذا عقب المذكور بقوله : ( خلق الإنسان من نطفة ( قالت الأطباء : إن الغذاء إذا وصل إلى المعدة حصل له هناك هضم ، وإذا وصل إلى الكبد حصل له فيها ضهم ثانٍ ، وفي العروق له هضم ثالث ، وفي جواهر الأعضاء هضم رابع ، وحينئذٍ يصير جزءاً من العضو(4/242)
" صفحة رقم 243 "
المغتذى شبيهاً به ، ثم عند استيلاء الحرارة على البدن وقت هيجان الشهوة يحصل ذوبان لجملة الأعضاء وتجتمع منه النطفة في أوعيتها ، وعلى هذا تكون النطفة جسماً مختلفة الأجزاء والطبائع ، وإن كانت تخيل في الحس أنها متشابهة الأجزاء. وكيفما كان فالمقتضي لتولد البدن منها ليس هي الطبيعة الحاصلة لجوهر النطفة ودم الطمث ، لأن الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والختيار ، والقوةّ الطبيعة إذا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكرة. وعلى هذا الحرف عول الحكماء في قولهم : البسائط يجب أن تكون أشكالها الطبيعة في الكرة ، وإذا عملت في مادة مختلفة الأجزاء وكل مركب فإنه ينحل إلى بسائط فإنه يلزم أن يكون الحيوان على شكل كرات مضموم بعضها إلى بعض ، وكلا الأمرين غير مطابق للواقع ، فعلمنا أن حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاص ليس بالطبيعة وإنما هو بتدبير الفاعل المختار وهو الله سبحانه ، وكيف لا والنطفة رطوبة سريعة الاستحالة ؟ فالأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة ، فالجزاء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في الأسفل ، والجزء الذين هو مادة القلب قد يحصل في الفوق ، فلا يكون حدوث أعضاء الحيوان على هذا الترتيب الخاص دائماً ولا أكثرياً ، وحيث كان كذلك علمنا أن حدوثها بإحداث مدبر مختار. ثم إن نزلنا عن جميع هذه المراتب فلا خلاف بين الحكم وبين المتكلم أن الطبيعة خرقاء وأنها ليست واجبة الوجود لذاتها فلا بد من الانتهاء إلى الصانع الحكيم الخبير. أما قوله : ( فإذا هو خصم مبين ( فقد ذكروا فيه وجهين : الأول فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مبين للحجة بعد أن كان نطفة لا حسن به ولا حراك. وتقرير ذلك أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهماً وذكاء من نفوس سائر الحيوانات ، ألا ترى أن ولد الدجاجة كما يخرج من البيضة يعرف الصديق من العدو فيهرب من الهرة ويلتجىء إلى الأم ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي لا يوافقه. وحال الطفل بخلاف ذلك فانتقاله من تلك الحالة الخسيسة إلى أن يقوى على معرفة الإلهيات والفلكيات والعنصريات وعلى إيراد الشكوك والشبهات على النتائج والمقدمات إنما يكون بتدبير إله مختار قدير ينقل الأرواح من النقصان إلى الكمال ومن الجهالة إلى المعرفة. الوجه الثاني أن المراد فإذا هو خصيم لربه منكر على خالقه قائل من يحيي العظام وهي رميم. فعلى الوجه الأول جوز أن يكون الخصيم ( فعيلاً ) بمعنى ( بفاعل ) كالأكيل والشريب ، وأن يكون بمعنى مختصم ، وعلى الوجه الثاني تعين كونه بمعنى ( مفاعل ) والترجيح من الوجهين للأول بناء على أن هذه الآيات مسوقة لتقرير الدلائل على وجود الصانع الحكيم وقدرته لا لأجل وصف الإنسان بالتمادي في القحة والكفران. وقد يرجح الثاني بما روي أن أبيّ بن خلف الجمحي جاء بعظم رميم إلى(4/243)
" صفحة رقم 244 "
رسول الله صلى الله عليه فقال : ( يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رم ؟ فنزلت. ثم أردف تكوين الإنسان بتكوين الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في ضروراته من الأكل والركوب وجر الأثقال وفي غير الضروريات من الأغراض الصحيحة كالتزيين والجمال فقال : ( والأنعام خلقها ( هي الأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام وهي : الضأن والمعز والإبل والبقر. وإن شئت قلت : الإبل والبقر والغنم. قال في الكشاف : وأكثر ما يقع هذا اللفظ على الإبل : قلت : ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله بعد ذلك : ( وتحمل أثقالكم ( لأن هذا الوصف لا يليق إلا بالإبل. وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر ، ويجوز أن يكون معطوفاً على ) الإنسان ( أي خلق الإنسان والأنعام. ثم قال : ( خلقها لكم ( أي ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان. قال صاحب النظم : وأحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله : ( خلقها ( بدليل أنه عطف عليه قوله : ( ولكم فيها جمال ( والدفء اسم ما يدفأ به كالملء اسم ما يملأ به وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر. قال الجوهري : الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها ، والدفء أيضاً السخونة. وقوله : ( ومنافع ( قالوا : المراد نسلها ودرّها ، والمنافع بالحقيقة أعم من ذلك فقد ينتفع بها في البيع والشراء بالنقود والأثواب وبسائر الحاجات. أما قوله : ( ومنها تأكلون ( بتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص فلأن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في مآكلهم عادة ، وأما الأكل من غيرها كالدجاج وصيد البر والبرح فكغير المعتد به الجاري مجارى التفكه ، ويحتمل أن يراد أن غالب أطعمتكم إنما يحصل منها تشتهون من الأطعمة. قوله : ( حين تريحون ( الإراحة رد الإبل إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً ويقال : سرح القوم إبلهم سرحاً إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى. وقدم الإراحة لأن الجمال فيها أظهر حين تقبل ملأى البطون حافلة الضروع ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها. قوله : ( بشق الأنفس ( من قرأ بفتح الشين فمعناه المشقة فيكون مصدر شق الأمر عليه شقاً وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع. ومن قرأ بالكسر فمعناه النصف كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد. قال جار الله. معنى المضي في قوله : ( لم تكونوا ( راجع إلى الفرض والتقدير : أي لو لم يخلق الإبل لم تكونوا إلا كذلك. وإنما لم يقل ( لم تكونوا حامليها إلى ذلك البلد ) ليطابق قوله : ( وتحمل أثقالكم ( لأجل المبالغة كأنه قيل : قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة وذهاب قوة فضلاً أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم ويجوز أن يكون العائد إلى الأثقال محذوفاً أي لم تكونوا(4/244)
" صفحة رقم 245 "
بالغيها إلا بالشق ، أو المراد بالأثقال الأجساد ، عن ابن عباس أنه فسر البلد بمكة إلى اليمن وإلى الشام وإلى مصر ، قال الواحدي ، : هذا قوله والمراد كل بلد لو تكلفتم بلوغة على غير إبل شق عليكم. وخص ابن عباس هذه البلاد لأنها أكثر متاجر أهل مكة ) إن ربكم لرءُوف رحيم ( وإلا لم يخلق هذه الحوامل لأجل تيسير هذه المصالح. احتج منكرو الكرامات بالآية على امتناع طي الأرض كما ينقل عن بعض الأولياء. والجواب أن الامتناع العادي لا ينافي الإمكان الذاتي. ) والخيل والبغال والحمير ( معطوفات على الأنعام أي وخلق هؤلاء للركوب والزينة فانتصب على أنه مفعول له معطوف على محل ) لتركبوها ( وإنما لم يقل و ( لتتزينوا بها ) ليكون المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد لأن الركوب فعل المخاطبين ، وأما الزينة ففعل الزائن وهو الخالق. والتحقيق فيه أن الركوب أحد الأمور المعتبرة في المقصود بخلاف التزين بالشيء فإنه قلما يلتفت إليه أرباب الهمم العالية لأنه يورث العجب والتيه غالباً وكأنه قال : خلقتها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة ، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ولكنه غير مقصود بالذات. احتجت المعتزلة القائلون بأن أفعال الله معللة بالمصالح بأن قوله : ( لتركبوها ( يقتضي أن هذه الحيوانات مخلوقة لهذه المصلحة. والجواب أن استتباع الغاية والفائدة مسلم ولكن التعليل ممنوع ، واحتج الحنفية بالآية على تحريم لحوم الخيل من وجوه : أحدها إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر فيجب اشتراك الكل في الحكم ، لكن البغال والحمير محرمان فكذا الخيل. ثانيها أن منفعة الأكل أعظم منة من الركوب التزين فلو كان أكل لحم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر. وثالثها أن قوله فيام قبل : ( ومنها تأكلون ( يقتضي الحصر فيجب أن لا يجوز أكل ما عدا الأنعمام إلا بدليل منفصل والأصل عدمه ورابعها أن قوه : ( لتركبوها ( يقتضي أن تمام المقصود من خلقه هذه الأشياء الثلاثة هو الركوب والزينة ، فلو كان حل أكلها مقصوداً لزم أن يكون ما فرض تمام المقصود بعض المقصود هذا محال. والجواب أن تحريم الخيل محل النزاع وتحريم الحمير بنص الكتاب ممنوع لما روي عن جماعة من الصحابة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عام خيبر عن لحوم الحمر الأهلية. فلو كان للآية دلالة على تحريم لحم الخيل لفهموه منها قبل ذلك العام لأن الآية مكية عند الأكثرين ، ولو فهموا التحريم قبل ذلك لم يبقَ لتخصيص التحريم بهذه السنة فائدة. وإذا لم يكن الحمير والخيل محرمين لم يكن لتحريم البغال المتولدة منهما وجه. وأيضاً كون معظم المنة في الأكل بالنسبة إلى هذه الأنواع ممنوع بل الركوب والزينة هما أعظم(4/245)
" صفحة رقم 246 "
المنافع فيها ولهذا جعلا تمام المقصود منها ، فكأنما أعطى الأكثر والمعظم حكم الكل. واقتضاء الحصر في قوله : ( ومنها تأكلون ( ممنوع بل لعل الظرف قدم لرعاية الفاصلة. ثم إن أنواع الغرائ والعجائب المخلوقة في هذا العالم لا حد لها ولا حصر فلهذا أشار إلى ما بقي منها على سبيل الإجمال فقال : ( ويخلق ما لا تعلمون ( أي كنهه وتفاصيله بل نوعه وجنسه فإن مركبات العالم السفلي وغرائب العالم العلوي لا يعلمها إلا موجدها. روى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال : إن عن يمين العرش نهراً من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة ، يدخل فيه جبرائيل عليه السلام كل سحر ويغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالاً إلى جماله ، ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل نقطة تقع من رأسه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور ، وفي الكعبة أيضاً سبعون ألفاً ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. وقيل : المراد ما خلق في الجنة والنار مما لم يبلغه فيهم أحد ولا وهمه. ولما ذكر بعض دلائل التوحيد بين أنه إنما ذكرها إزاحة للعذر وإزالة للشبهة ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة فقال : ( وعلى الله قصد السبيل ( ذكر صاحب الكشاف أن السبيل للجنس والقصد مصدر بمعنى الفاعل يقال : قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه ، والجور الميل عن الاستقامة. احتجت المعتزلة بالآية على مسألتين من أصولهم : إحداهما أنه يجب على الله تعالى الإرشاد والهداية لأن كلمة ، ( على ) للوجوب والمضاف محذوف أي وعلى الله بيان قصد السبيل ؛ فالمعنى أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه. والثانية أنه لا يضل أحداً ولا يغويه وإلا لقيل وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها أو وعليه الجائر فلما غير أسلوب الكلام قائلاً : ( ومنها جائر ( دل على أنه أراد أنيبين ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز. والجواب عن الأول بعد تسليم إفادة كلمة ( على ) الوجوب أنه وجوب بحسب الفضل والكرم لا بمعنى استحقاق الذم على الترك. وعن الثاني أن دلالة قوله : ( ومنها جائر ( على ما ذكرتم ليست دلالة المطابقة ولا التضمن ولا الالتزام ، لأن قول القائل ( من السبيل سبل منحرفة ) لا يفيد إلا الإخبار بوجود الانحراف في بعض السبيل ، فأما أن فاعلتلك السبيل من هو فلا دلالة للكلام عليه أصلاً على أن قوله : ( ولو شاء لهداكم أجمعين ( يناقض ما ادعيتم. وتفسير المشيئة بمشيئة الإلجاء والقسر أو بالهداية إلى الجنة خلاف الظاهر كما مر مراراً. ولما استدل على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال الحيوانات أراد أن يذكر الاستدلال على المطلوب بغرائب أحوال النبات فقال : ( هو(4/246)
" صفحة رقم 247 "
الذين أنزل من السماء ماء ( وقوله : ( لكم ( متعلق بأنزل أو بشراب خبراً له. والشراب ما يشرب كالطعام لما يطعم والمراد أن الماء النازل من السماء قسمان : بعضه يبقى لأجل الشرب كما هو ويحتمل أن يكون الماء المتحتبس في الآبار والعيون منه كقوله : ( فأسكناه في الأرض ) [ المؤمنون : 18 ] وبعضه يحصل منه شجر يرعاه المواشي. قال الزجاج : كل ما ينبت من الأرض فهو شجر لأن التركيب يدل على الاختلاط ومنه تشاجر القوم إذا اختلفط أصوات بعضهم بالبعض ، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ وفيما له ساق. وقال ابن قتيبة : المراد بالشجر في الآية الكلأ. وفي حديث عكرمة ( لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت ) أراد الكلأ. وقيل الشجر كل ما له ساق كقوله : ( والنجم والشجر يسجدان ) [ الرحمن : 6 ] والعطف يقتضي التغاير ، فلما كان النجم ما لا ساق له وجب أن يكون الشجر ما له ساق ، وأجيب بأن عطف الجنس على النوع جائز ، وبأن قوله : ( فيه تسيمون ( من سامت الماشية إذارعت وأسامها صاحبها وهو من السومة العلامة لأنه تؤثر بالرعي علامات في الأرض يقتضي أن يكون الشجر هو العشب ليمكن الرعي. ورد بأن الإبل قد تقدر على رعي الأشجار الكبار. وحين ذكر مرعى الحيوان أتبعه ذكر غذاء الإنسان فقال : ( ينبت لكم به الزرع ( الذي هو الغذاء الأصلي ) والزيتون ( الذي هو فاكهة من وجه وغذاء من وجه لكثرة ما فيه من الدهن ) والنخيل والأعناب ( اللتين هما أشرف الفواكه. ثم أشار إلى الثمرات بقوله : ( ومن كل الثمرات ( كما أجمل الحيوانات التي لم يذكرها بقوله : ( ويخلق ما لا تعلمون ( قال في الكشاف : إنما لم يقل و ( كل الثمرات ) بل زاد ( من ) التبعيضية لأن كلها لا يكون إلا في الجنة. واعلم أنه قدم الغذاء الحيواني على الغذاء النباتي لأن النعمة فيه أعظم لأنه أسرع تشبيهاً ببدن الإنسان ، وفي ذكر الغذار النباتي قدم غذاء الحيوان - وهو الشجر - على غذاء الإنسان - وهو الزرع وغيره - بناء على مكارم الأخلاق وهو أن يكون اهتمام الإنسان بحال من تحت يده أكمل من اهتمامه بحال نفسه ، وإنما عكس الترتيب في قوله : ( كلوا وارعوا أنعامكم ( بناء على ما هو الواجب في نفس الأمر كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) قوله : ( وسخر لكم الليل والنهار ( معنى تسخيرهما للناس تصييرهما نافعين لهم بحسب مصالحهم على سنن واحد يتعاقبان دائماً كالعبد المطواع ، وكذا الكلام في تسخير الشمس والقمر والنجوم كما في ( الأعراف ) وفي سورة إبراهيم. وهذا حسم لمادة شبهة من يزعم أن حركات الأفلاك هي المقتضية لتعاقب الليل والنهار ومسيرات الكواكب هي المستدعية للحوادث السفليات ، فإنه إن سلم لهم ذلك فلا بد لتلك الحركات والمسيرات(4/247)
" صفحة رقم 248 "
من الانتهاء إلى صانع قديم منزه عن التغير والإمكان مبرإ عن الحدوث والنقصان وهو الله سبحانه. ) إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ( قال جار الله : جمع الآية وذكر العقل لأن آثار العلو أظهر دلالة على القدرة الباهرة وأبين شهادة للكبرياء والعظمة. وقال غيره : إنما جمع الآيات لتطابق قوله : ( مسخرات ( ومثله في هذه السورة في موضع آخر ) مسخرات في جوّ السماء ما يمكسهن إلا الله إن في ذلك لآيات ) [ النحل : 79 ] وأقول : إنما جمع لأن كلاً من تسخيراً الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم آيةفي نفسها لتباين الليل والنهار وتخالف مسيرات الكواكب كما هو مقرر في علم الهيئة بخلاف قوله ) ينبت لكم ( فإن مطلق الإنبات آية واحدة. وكذا قوله : ( وما ذرأ لكم في الأرض ( أي خلق لكم فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك : ( مختلفاً ألوانه ( فإن ذرء هذه الأشياء على حالة اختلاف الألوان والأشكال مع تساوي الكل في الطبيعة الجمسية وفي تأثير الفلكيات فيها ، آية واحد على وجود الصانع تعالى شأنه ، ولست أدعي إلا إمكانهذه الاعتبارات وإلا : ففي كل شيء آية تدل على أن هو واحد. وإنما خص المقام الأول بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة المذكورة ، وخص المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة وإزاحة العلة ، فمن لم يعترف بعدها بالوحدانية فلا عقل له. وخص المقام الثالث بالتذكير لمزيد الدلالة فمن شك بعد ذلك فلا حس له. ومن جملة الآيات التي هي في الحقيقة إنعامات على الإنسان تسخير اتلبحر بالركوب عليه والانتفاع به أكلاً ولبساً. والمراد باللحمز الطريّ السمك. قال ابن الأعرابي : لحم طريّ غير مهموز ومصدره طراوة. يقال : شيء طريّ أي غض بين الطرواة. وقال قطرب : طرو اللحم وطري طراوة والمراد في الآية السمك في معناه. قال في الكشاف : وصفه بالطرواة لأن الفساد يسرع إليه فيسارع إلى أكله خيفة الفساد عليه. وقال المتكلمون : إنه لما خرج من البحر المالح بقدرة الله تعالى وحكمته بحيث أظهر الضد من الضد. قال أكثر الفقثهاء ومنهم أبو حنيفة والشافعي : من حلق أن لا يأكل لحماً فأكل سمكاً لم يحنث لأن اللحم لا يتناوله عرفاً. ومبنى الأيمان على العرف والعادة. ولهذا لو قال لغلامه : اشتر لحماً فجاء بالسمك كان حقيقاً بالإنكار عيله. ورد عليهم الإمام فخر الدين الرازي بأنه إذا قال لغلامه : اشتر لحماً فجاء بلحم بالعصفور كان حقيقاً بالإنكار مع أنكم تقولون إنه يحنث بأكل لحم العصفور. فثبت أن العرف مضطرب والرجوع إلى نص القرآن متعين فليس فوق بيان الله بيان. ولقائل أن يقول : لعل الإنكار في هذه الصورة بعد تسليمه إنما جاء من قبل ندرة شراء العصفور أو شراء لحمه فإنه إنما يشترى كله ولم يجىء من إطلاق اللحم على لحمه. ومن منافع البحر استخراج الحلية منه(4/248)
" صفحة رقم 249 "
قالوا : أراد الحلية اللؤلؤ والمرجان ، ولامرا بلبسهم لبس نسائهم لأنهن من جملتهم ولأن تزيينهن لأجلهم. ولقائل أن يقول : لا مانع من تزيين الرجال باللآلىء ونحوها شرعاً فلا حاجة إلى هذه التكلف. استدل الإمام فخر الدين بالآية في إبطال قول الشافعية إنه لا زكاة في الحلى قال : لأن اللام فيما يروى عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( لا زكاة في الحلى ) تنصرف إلى المعهود السابق ولا معهود إلا ما في الآية من الحلية فصار معنى الحديث : لا زكاة في اللآلىء. وهذا باطل بالاتفاق. ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن تكون اللام للجنس فتشمل المصوغ من الذهب والفضة أيضاً فيكون الحديث مخصصاً بالآية إن ثبت صحته ؟ ومن عجائب البحر ومنافعه قوله سبحانه : ( وترى الفلك مواخر فيه ( قال أهل اللغة : مخر السفينة شقها الماء بصدرها. وعن الفراء صوت دويّ الفلك بالرياح. وقال ابن عباس : مواخر أي جواري. وإنموا حسن هذا التفسير لأنها لا تشق الماء إلا إذا كانت جارية : وقوله : ( لتبتغوا من فضله ( أي تتجروا فيه فتطلبوا الربح من فضل الله وإذا وجدتم فضله وإحسانه فلعلكم تقدمون على شكره. واعلم أن قوله : ( مواخر فيه ( جاء على القياس لأن موضع الظرف المتعلق بمواخر بعد مضي مفعولي ( ترى ) ، وأما في سورة الملائكة فقدم الظرف ليكون موافقاً لقوله : ( ومن كل تأكلون ( ولتقدم الجار في قوله : ( ومن كل تأكلون ( حذف لفظة ( منه ) هناك. الواو في ) ولتبتغوا ( في هذه السورة للعطف على لام العلة في ) لتأكلوا ( وقوله : ( وترى الفلك مواخر فيه ( اعتراض في السورتين يجري مجرى المثل ولهذا وحد الخطاب في قوله : ( وترى ( وقبله وبعده جمع ( أي لو حضرت أيها المخطاب لرأيته بهذه الصفة. ويمكن أن يقال : إنما قال في الملائكة ) فيه مواخر ( بتقديم الظرف لئلا يفصل بين لام العلة وبين متعلقها وهو مواخر ، وليكتنف المتعلق المتعلقان. وإنما بنينا الكلام على أن قوله : ( فيه ( متعلق ب ) مواخر ( لا ب ) ترى ( لقرب هذا وبعد ذاك والله أعلم. قوله : ( أن تميد بكم ( أي كراهة أن تميد الأرض بكم والباء للتعدية أو للمصاحبة. والميد الحركة والاضطراب يميناً وشمالاً. يروى أنه تعالى خلق الأرض فجعلت تمور فقالت الملائكة : ما هي بمقرّ على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت. قال جمهور المفسرين : إن السفينة إذا ألقيت على وجه الماء لإنها تميل من جانب إلى جانب وتضطرب ، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة في تلك السفينة استقرت على وجه الماء فهكذا الأرض تستقر على الماء بسبب ثقل الجبال. واعترض عليه بأن السفينة إنما تضطرب على الماء لتخلخلها وخفتها بسبب الهواء الداخل في تجاويف الخشب ومسامها ، أما الأرض فجسم كثيف ثقيل من شأنها الرسوب(4/249)
" صفحة رقم 250 "
في الماء على ما هو مشاهد من حال أجزائها المنفصلة عنها. فإن كان طبيعة الكل كذلك فكيف يعقل طفوّها حتى توجب الجبال إرساءها وثباتها ، وإن لم تكن طبيعة الكل كذلك حتى تكون طافية مائدة وقد أرساها الله تعالى بالجبال ، فالرسو والرسوخ إنما تصور على جسم واقف وليس إلا الماء فينقل الكلام إلى وقوف الماء في حيزه المعين. فإن كان بحسب الطبيعة فهذا خلاف التقدير لأنانفينا القول بالطبائع الموجبة لهذه الأحوال ، وإن لم يكن بالطبع بل كان واقفاً بتخليق الفاعل المختار وتسكينه في حيزه المخصوص فلم لا نقول مثله في تسكين الأرض ؟ هذا تلخيص ما قاله الإمام فخر الدين الرازي ، ونسب المقام إلى الصعوبة والإشكال واستخرج لحله وجهاً مبنياً على قوانين الحكمة ، وهو أن الأرض جسم كروي ، والكرة إذا كانت صحيحة الاستدارة فإنها تتحرك بادنى سبب ، فلما أحدث الله سبحانه على وجه الكرة هذه الخشونات الجارية مجرى الأوتاد منعتها عن السلاسة والحركة. قلت : في هذا الحال خلل. أما أولاً فلكونه مبنياً على غير قواعد أهل التفسير ، وأما ثانياً فلماثبت في الحكمة أن نسبة أعظم جبل في الأرض وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلث فرسخ إلى جميع الأرض كنسبة خمس سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع ، ولا ريب أن ذلك القدر من الشعيرة لا يخرج الكرة المذكورة عن صحة الاستدارة بحيث يمنعها عن سلاسة الحركة ، فكذا ينبغي أن يكون حال الجبال بالنسبة إلى كرة الأرض. والجواب الصحيح على قاعدة أهل الشرع أن يقال : لا نسلم أن الأرض بكليتها لها طبيعة الطفوّ فلهذا احتاجت إلى الرواسي. وأما قوله : ( لم أوقف الله الماء في حيزه ولم يوقف الأرض من غير إرساء ( فلا يخفى سقوطه مع القول بالفاعل المختار ، فللوسائط والأسباب مدخل في الأمور العادية ، وإن لم نقل بتأثيرها ، هذا وإن حركة الأرض عند الزلازل لا تنافي حكم الله بعدم اضطرابها لأن إثبات الحركة لجزء الشيء لا ينافي نفيها عن كله. وشبهوا الزلزلة وهي حركة قطعة من الأرض لاحتقان الخبارات في داخلها وطلبها المنفذ باختلاج يحصل في جزء معين من بدن الحيوان. قوله سبحانه : ( وأنهاراً ( معطوف على ) رواسي ( أي وجعل فيها رواسي وأنهاراً لأن الإلقاء ههنا بمعنى الجعل والخلق كقوله : ( وألقيت عليك محبة مني ) [ طه : 39 ] وكذا قوله ) وسبلاً ( أي أظهرها وبينها لأجل أن تهتدوا بها في أسفاركم. ولملا ذكر أنه أظهر في الأرض سبلاً معينة ذكر أنه أظهر في تلك السبل علامات مخصوصة وهي كل ما يستدل به السابلة من جبل وسهل وغير ذلك. يحكى أن جماعة يشمون التراب فيعرفون به(4/250)
" صفحة رقم 251 "
الطرقات. قال الأخفش : تم الكلام عند قوله : ( وعلامات ( وقوله ( وبالنجم هم يهتدون ( كلام منفصل عن الأول. والمراد بالنجم الجنس كما يقالك كثر الدرهم في أيدي الناس. وعن السدي هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي. قال بعض المفسرين : أراد بقوله ) هم يهتدون ( أهل البحر لتقدم ذكر البحر ومنافعه ، وقيل : أراد أعم من ذلك فأهل البر أيضاً قد يحصل لهم الاهتداء بالنجوم في الطرق والمسالك ، وفي معرفة القبلة ، وإنما جيء بالضمير الغائب لعوده إلى السائرين الدال عليهم ذكر السبل. وقال في الكشاف : كأنه أراد قريشاً فقد كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم وكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم فكان الشكر أوجب عليه والاعتبار ألزم لهم فخصصوا بتقديم النجم. وإقحام لفظ ) هم ( كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هؤلاء يهتدون. ثم لما عددت الآيات الدالة على الصانع وواحدانيته واتصافه بجميع صفات الكمال أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ( أي كالأصنام التي لا تخلق شيئاً إلا أنه أجراها مجرى أولي العلم فأطلق عليها لفظ ) من ( التي هي لأولي العقل بناء على زعمهم أنه ألهةً ، أو لأجل المشاكلة بينه وبين من يخلق ، أو أراد أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده ، أو أراد كل ما عبد من دون الله مغلباً فيه أولو العلم منهم. واعلم أنه أهل البيان يقولون : إن المشبه به يجب أن يكون أقوى وأتم في وجه الشبه من المشبه ليلتحق الأضعف بالأقوى في وجه الشبه كقولك ) وجهه كالقمر (. ولا ريب أن الخالق أقوى من غير الخالق فكان حق النظم في الظاهر أن يقال : أفمن لا يخلق كمن يخلق. والقرآن ورد على العكس. ووجهه عند العلماء زيادة التوبيخ ليكون كأنهم جعلوا غير الخالق أقوى حالاً وأعرف من الخالق. قال في الكشاف : إنهم جعلوا الله جنس المخلوقات وشبهوه بها حين جعلوا غيره مثله في التسمية والعبادة فأنكر عليهم ذلك ، لوضوح كون هذا الأمر منكراً عند من له أدنى عقل بل حس قال ) أفلا تذكرون ( وفيه مزيد توبيخ وتجهيل لأنه لجلائه كالحاصل الذي يحصل عند العقل بأدنى تذكر ومع ذلك هم عنه غافلون. قال بعض الأشاعرة. في الآية دلالة على أن العبد غير خالق لأفعال نفسه لأن الآية سيقت لبيان امتيازه بصفة الخالقية. أجابت المعتزلة بأن المراد أفمن يخلق ما تقدم ذكره من السموات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والجبال والنجوم. أو نقول : معنى الآية أن كل ما كان خالقاً يكون أفضل ممن لا يكون خالقاً ، وهذا القدر لا يدل على أن كل من كان خالقاً فإنه يجب أن يكون إلهاً نظيره قوله : ( ألهم أرجل يمشون بها ) [ الأعراف : 195 ] أراد به أن الإنسان أفضل من الصنم والأفضل لا(4/251)
" صفحة رقم 252 "
يليق به عبادة الأخس فكذا ههنا. وقال الكعبي في تفسيره : نحن لا نطلق لفظ الخالق على العبد ومن أطلق ذلك فقد أخطأ إلا في مواضع ذكرها الله تعالى كقوله : ( وإذ تخلق من الطين ) [ المائدة : 110 ] فعلى هذا لا يتوجه عليهم السؤال إلا أن أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حتى إن أبا عبد الله البصري قال : إطلاق لفظ الخالق على العبد حقيقة وعلى الله مجاز لأن الخلق عبارة عن التقدير وهو الظن والحسبان. ثم لما فرغ من تعديد الآيات التي هي بالنسبة إلى الملكلفين نعم قال : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ( وقد مر تفسيره في سورة إبراهيم. قال العقلاء : إن كل جزء من أجزاء البدن الغنساني لو ظهر فيه أدنى خلل لنغص العمر على الإنسان وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل. ثم إنه سبحانه يدبر أحوال بدن الإنسان على الوجه الملائم له غالباً مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء ولا بمصالحه ومفاسده ، فليكن هذا المثال حاضراً في ذهنك وقس عليه سائر نعم الله تعالى حتى تعرف تقصيرك وقصورك عن شكر أدنى نعمة فضلاً عن جميعها ، ولهذا ختم الآية بقوله : ( إن الله لغفور رحيم ( يغفر التقصير الصادر عنكم في أداء شكر النعمة ويرحمكم حيث لا يقطعها عنكم بالتفريط ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها. كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله يسرون ضروباً من الكفر والمكايد في حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فأوعدهم بقوله : ( والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ( وفيه أيضاً تعريض وتوبيخ بسبب أن الإله يجب أن يكون عالماً بالسر والعلانية ، والأصنام التي عبدوها جمادات لا شعور لها أصلاً فكيف يحسن عبادتها. ثم زاد في التوبيخ فقال : ( والذين يدعون ( أي الآلهة الذين يدعونهم الكفار ) من دون الله لا يخلقون شيئاً ( وقد ذكر هذا المعنى في قوله : ( كمن لا يخلق ( وزاد ههنا قوله : ( وهم يخلقون ( أي بخلق الله أو بالنحت والتصير وهم لا يقدرون على نحو ذلك ثم أعجز من عبدتهم ، ففي هذه الآية زيادة بيان لأنه نفى عنهم صفة الكمال وأثبت صفة النقصان. وكذلك قوله : ( أموات غير أحياء ( يستلزم ذمهم مرتين لأن من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطفة والجسد الإنساني الذي فارقه الروح ، وأما الحجار فأموات لا تقبل الحياة أصلاً. وفيه أن الإله الحق يجب أن يكون حياً لا يعقبه موت وحال هذه الأصنام بالعكس. وفيه أن هؤلاء الكفار في غاية الغباوة وقد يقرر المعنى الواحد مع الغبي الجاهل بعبارتين مختلفين تنبيهاً على بلادته ) وما يشعرون ( الضمير في للآلهة. أما الضمير في ) أيان يبعثون ( فإما للآلهة أيضاً ويؤديه ما روي عن ابن عباس أن الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار ، وإما للداعين أي لا يشعر(4/252)
" صفحة رقم 253 "
الآلهة متى يبعث عبدتهم فيكون فيه تهكم بالمشركين من حيث إن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم ؟ وفيه أنه لا بد من البعث وأنه من لوازم التكليف ، وإما للأحياء أي يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكماً بحلها لأن شعور الجماد محال فكيف بشعور ما لا يعلمه حي إلا الحي القيوم سبحانه ؟ وجوز في الكشاف أن يراد بالذين يدعوهم الكفار الملائكة ، لأن ناساً منهم كانوا يعبدونهم. ومعنى أنهم ) أموات ( أي لا بد لهم من الموت ) غير أحياء ( أي غير باقية حياتهم ولا علم لهم بوقت بعثهم. ولما زيف طريقة عبدة الأصنام صرح بما هو الحق في نفس الأمر فقال : ( إلهكم إله واحد ( ثم ذكر ما لأجله أصر الكفار على شركهم فقال : ( فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة ( للوحدانية أو لكل كلام يخالف هواهم ) وهم مستكبرون ( عن قبول الحق وذلك أن المؤمن بالعبث والجزاء يؤثر فيه الترغيب والترهيب فينقاد للحق أسرع ، وأما الجاحد للمعاد فلا يقبل إلا ما يوافق رأيه ولائم طبعه فيبقى في ظلمة الإنكار ) لا جرم ( أي حقاً ) أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ( فيجازيهم على ما أسروا من الاستكبار وأعلنوا من العناد ) إنه لا يحب المستكبرين ( فيجازيهم على ما أسروا من أو كل مستكبر فيدخل هؤلاء دخولاً أوّلياً لأن الكلام فيهم. التأويل : الناس طبقات ثلاث : الغافلون والخطاب معهم بالعتاب إذا كانوا مشتاقين إلى الدنيا. وزخارفها وهم أصحاب النفوس ، والعاقلون والخطاب معهم بوعد الثواب لرغبتهم في الطاعات والأعمال الصالحات وهم أرباب العقول ، والعاشقون والخطاب معهم بوصل رب الأرباب لاشتياقهم إلى جمال ذي الجلال. فحين قال في الأزل ) أتى أمر الله ( استعجل أرواح كل طبقة منهم للخروج من العدم إلى الوجود لنيل المقصود وطلب المفقود فخاطبهم بقوله : ( فلا تستعجلوه ( فإنه سيصيب في كل طبقة منكم ما كتب له في القسمة الأزلية : والله سبحانه منزه عن أن يشاركه في الحكم أحد فلا مبدل لكلماته. ) بالروح من أمره ( أي بما يحيي القلوب من المواهب الربانية من أمره الوارد على الجورح بالتكاليف الشرعية وعلى النفوس بآداب الطريقة ، وعلى القلوب بالإشارات ، وعلى الأرواح بملازمة الحضرة للمكاشفات ، وعلى الأسرار بالمراقبات للمشاهدات وعلى الخفيات بتجلي الصفات لإفناء الذوات. ) على من يشاء من عباده ( من الأنبياء والأولياء ) أن أنذروا ( أعلموا أوصاف وجودكم ببذلها في أنانيتي ) أنه لا إله إلا أنا فاتقون ( عن أنانيتكم بأنانيتي. ) خلق ( سموات الأرواح وأرض الأشباح وجعلها مظهراً لأفاعليه. فهو الفاعل لما يظهر على الأرواح والأشباح ) تعالى عما يشركون ( الأرواح والأشباح في إحالة(4/253)
" صفحة رقم 254 "
أفاعيله إلى غيره ) خلق الإنسان من نطفة ( لا علم لها ولا فعل ) فإذا هو خصيم مبين ( يدعي الشركة معه في الوجود. والأفاعيل والأنعام أي الصفات الحيوانية ) خلقها لكم فيها دفء ( لأنها المودعة في جبلتكم ) ومنافع ومنها تأكلون ( باستفادة بدل ما يتحلل ) ولكن فيها جمال ( في أوقات الفترات وأزمنة الاستراحات ) وتحمل ( أثقال أرواحكم وهي أعباء الأمانة إلى بلد عالم الجبروت ) إن ربكم لرءُوف رحيم (. إذا أفنيتم أنفسكم في جبروته يبقيكم ببقاء عظموته ) والخيل والبغال والحمير ( أي صفاتها خلقت فيكم لأنها مراكب الروح عند السير إلى عالم الجبروت ) وزينة ( عند رجوعه بالجذبة إلأى مستقره الذي أهبط منه ) ويخلق ( فيكم حينئذٍ ) ما لا تعملون ( وهو قبول فيض الله بلا واسطة. وعلى الله قصد السبيل ( بجذبه ) ارجعي ( ) ومنها جائر ( يعني نفوسكم تحيد عن النفاء وبذل الوجود ) هو الذي أنزل ( من سماء الكرم ماء الفيض ) منه شراب ( المحنة لقلوبكم ) ومنه شجر ( القوى البشرية ودواعيها ) فيه ( ترعون مواشي نفوسكم ) ينبت لكم ( زرع الطاعات وزيتون الصدق ونخيل الأخلاق الحميدة وأعناب الواردات الربانية ، ومن كل ثمرات المعقولات والمشاهدات والمكاشفات. ) وسخر لكم ( ليل البشرية ونهار الروحانية وشمس الروح وقمر القلب ونجوم الحواس والقوى ، وتسخيرها واستعمالها على وفق الشريعة وقانون الطريقة ) وما ذرأ لكم ( في أرض جبلتكم من الاستعدادات يتلون في كل عالم بلونه من عوالم الملكية والشيطانية والحيوانية ) وسخر لكم ( بحر المعلوم ) لتأكلوا منه ( الفوائد الغيبية السنية الطرية ) وتستخرجوا منه ( جواهر المعاني فيلبس بها أرواحكم النور والبهاء. وترى فلك الشرائع والمذاهب جواري في بحر العلوم لتبتغوا الأسرار الخفية عن الملائكة. وألقى في أرض البشرية جبال الوقار والسكينة لئلا تميد بكم صفات البشرية عن جادّة الشريعة والطريقة ، وأنهاراً من ماء الحكمة وسبلاً إلى الهداية والعناية ، وعلامات من الشواهد والكشوف ، وبنجم الجذبة الإلهية هم يهتدون فيخرجون من ظلمات الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي. أفمن يخلق الله فيه هذه الكمالات كمن لا يخلقها فيه من الملائكة وغيرهم ) وإن تعدوا نعمة لا تحصوها ) [ إبراهيم : 34 ] وهي قسمان : نعمة الأعطاف وهي ما يتعلق بوجود النعمة ظاهرة وباطنة ، ونعمة الألطاف وهي ما يتعلق بوجود المنعم من الذوات والصفات ) والله يعلم ما تسرون ( من أداء شكر نعمة بالقلوب ) وما تعلنون ( من أداء الشكر بالأجساد ) والذين يدعون من دون الله ( من الهوى والدنيا ) لا يخلقون شيئاً ( من المنافع ) وهم يخلقون ( بتعب الطالب في تحصيلها ولهذا قال : ( أموات غير أحياء وما يشعرون أيان ( يبعثها دواعي البشرية ) فالذين لا يؤمنون بالآخرة ( بما في عالم(4/254)
" صفحة رقم 255 "
الغيب ) قلوبهم منكرة ( لأهل الحق لأنهم لا يتجاوزون عالم الحس ) يعلم ما يسرون ( من الإنكار ) وما يعلنون ( من الاستكبار. . الله حسبي. ( النحل : ( 24 - 42 ) وإذا قيل لهم . . . .
" وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون "
( القراآت )
شركاي ( مثل ) هداي ( زمعة عن ابن كثير والخزاعي عن البزي. وقرأ الخزاز عن هبيرة ) شركائي الذين ( مرسلة الياء ، الباقون بفتح الياء وكذلك في ( الكهف )(4/255)
" صفحة رقم 256 "
و ( القصص ). ) تشاقون ( بكسر النون : نافع ، الآخرون بفتحها ) تتوفاهم ( وما بعده بالإمالة. حمزة وخلف ) لا يهدي ( بفتح الياء وكسرالدال : عصام وحمزة وعلي وخلف ، الباقون بضم الياء وفتح الدال. ) كن فيكون ( بالنصب : ابن عامر وعلي ، الباقون بالرفع. الوقوف : ( ربكم ( لا لأن ما بعده جواب ( إذا ) ) الأولين ( ه لا لتعلق اللام ) يوم القيامة ( لا لأن قوله ) ومن أوزار ( مفعول ) ليحملوا ( ط ) بغير علم ( ط ) ما يزرون ( ه لطول الكلام ) من سوء ( ط ) حسنة ( ط ) خير ( ط المتقين ( ه لا لأن ما بعده بدل ) يشاءُون ( ط ) المتقين ( ه ) طيبين ( ه لا لأن ما بعده حال آخر. ) سلام عليكم ( لا لأن قوله : ( ادخلوا ( مفعول ) يقولون ( ) تعملون ( ه ) أمر ربك ( ط ) من قبلهم ( ط ) يظلمون ( ه ) يستهزءُون ( ه ) من شيء ( الثاني ط ) من قبلهم ( ج للاستفهام مع الفاء ) المبين ( ه ) الطاغوت ( ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى ) الضلالة ( ط ) المكذبين ( ه ) ناصرين ( ه ) أيمانهم ( لا لأن ما بعده جواب القسم ) يموت ( ط ) لا يعلمون ( ه لا لتعلق لام كي ) كاذبين ( ه ) فيكون ( ه ) حسنة ( ط ) أكبر ( لأن جواب ( لو ) محذوف أي لو كانوا يعلمون لما اختارو الدنيا على الآخرة ، ولو وصل لصار قوله : ( ولأجر الآخرة ( متعلقاً بشرط ( أن ) ) لو كانوا يعلمون ( وهو محال ) يعلمون ( ه لا بناء على أن ) الذين صبروا ( بدل ) الذين هاجروا ( ) يتوكلون ( ه. التفسير : لما بالغ في تقرير دلائل التوحيد أراد أن يذكر شبهات منكري النبوة مع أجوبتها. فالشبهة الأولى أنهم طعنوا في القرآن وعدّوه من قبيل الأساطير. قال النحويون. ( ماذا ) منصوب بأنزل بمعنى أي شيء أنزله ربكم ، أو ( ما ) مبتدأ و ( ذا ) موصولة ، والجملة صلتها ، والمجموع خبر المبتدأ ، وعلى التقديرين : فقوله : ( أساطير الأوّلين ( بالرفع ليس بجواب للكفار وإلا لكان المعنى الذي أنزله ربنا أساطير الأوّلين والكفار لا يقرون بالإنزال فهو إذن كلام مستأنف أي ليس ما تدّعون إنزاله منزلاً بل هو أساطير الأولين. وقال في الكشاف : معناه المنزل أساطير الأوّلين وذكر في دفع التناقض أنه على السخرية كقوله : ( إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ) [ الشعراء : 27 ] وجوز كونه منصوباً ولم يقرأ به. واختلفوا في السائل فقيل : هو كلام بعضهم لبعض. وقيل : هو قول المسلمين لهم وقيل : هو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا سألهم(4/256)
" صفحة رقم 257 "
وفود الحاج عما أنزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا : أحاديث الأوّلين وأباطيلهم ، ليس فيه شيء من العلوم والفصاحة والحقائق والدقائق. ثم إنه تعال اقتصر في جواب شبههم على محض الوعي لأنه قد ثبت بالتحدي كما مر ذكره مراراً أن القرآن معجز تحدوا بالقرآن جملة ثم بعشر سور ثم بسورة فعجزوا عن المعارضة فكان طعنهم فيه بعد ذلك مجرد المكابرة والعناد فلم يستحقوا في الجواب إلا التهديد والوعيد. واللام في قوله : ( ليحملوا ( ليس لام الغرض لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لغرض حمل الأوزار ، ولكن لما كانت عاقبتهم ذلك حسن التعليل به فكان لام العاقبة ، وقوله : ( كاملة ( معناه أنه تعالى لا يخفف من عقابهم شيئاً ، وفيه دليل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين لأن هذا المعنى لو كان حاصلاً في حق الكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة. قال الواحدي : لفظة ( من ) في قوله : ( ومن أوزار الذين ( ليست للتبعيض فإنه لا يخفف عن الأتباع بعض أوزارهم لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أيما داعا إلى الضلال فاتبع كان عليه وزر من اتبعه لا ينقص من آثامهم شيء ) ولكنها للابتداء أي لحملوا ما قد نشأ من أوزار الاتباع ، أو للبيان أي ليحملوا ما هو من جنس أوزار تبعهم. ومعنى ) بغير علم ( أن هؤلاء الرؤساء إنما يقدمون على هذا الإضلال جهلاً منهم بما يتسحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال. وقال في الكشاف : ( بغير علم ( حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال. وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل. ثم أوعدهم بما هو النهاية في التهديد فقال : ( ألا ساء ما يزرون ( وزرهم. ثم حكى حال أضرابهم من المتقدين فقال : ( قد مكر الذين من قبلهم ( ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمروذ بن كنعان بنى صرحاً عظيماً ببابل طوله خمسة آلاف ذراع - وقيل فرسخان - ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها فأهب الله الريح فخر عليه وعلى من الفزع فتكلموا بثلاثة وتسعين لساناً ولذلك سميت ببابل ، وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية ، وابتلاه الله ببعوضة دخلت دماغه والحكاية مشهورة. والأصح أن الآية عامة في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحق الضرر بالمحقين. وعلى القول الأوّل معنى قوله : ( فأتى الله ( أي أمره وحكمه ) بنيانهم من القواعد ( وهي أساطين البناء التي تعمده أو الأساس أنه أسقط(4/257)
" صفحة رقم 258 "
السقف عليهم بعد هدم القواعد. وفائدة زيادة قوله : ( من فوقهم ( التنصيص على أن الأبينة تهدمت وهم ماتوا تحتها ، وعلى الثاني يكون الكلام محض التمثيل والمراد أنهم سؤّوا منصوبات وحيلاً ليمكروا بها رسل الله ، فجعل الله هلاكهم في تلك الحيل كحيل قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين ، فأتي البنيان من الأساطين بأن ضعفت فسقط عليهم السفق فهلكوا ونحوه ( من حفر بئراً لأخيه فقد وقع فيه ) وبعبارة أخرى ( من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً ). ثم بين أن عذابهم ير مقصور على عذاب الدنيا بل الله تعالى يخزيهم يوم القيامة بإدخالهم النار ) إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) [ آل عمران : 192 ] ( ويقول ( مع ذلك لأجل الإهانة والتوبيخ ) أين شركائي ( الإضافة لأدنى الملابسة أو هي حكاية لإضافتهم استهزاء وتوبيخاً ) الذين كنتم تشاقون ( تخاصمون المؤمنين في شأنهم. ومن قرأ بكسر النون فعلى حذف يا المتكلم لأن لأن مشاقة المؤمنين مشاقة الله. ثم ذكر على سبيل الاستئناف ) قال الذين أوتوا العلم ( عن ابن عباس هم الملائكة. وقال الآخرون : هم الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يعظونهم ولا يلتفتون إليهم فيقولون ذلك يوم القيامة شماته بهم. قالت المرجئة قولهم : ( إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ( يدل على أن ماهية الخزي والسوء مختص بالكافرين فينتفي عن غيرهم. أما قوله : ( فألقوا السلم ( فعن ابن عباس : المراد أنهم أسلموا وأقروا بالعبودية عند الموت. وقيل : إنه في يوم القيامة وقولهم : ( ما ككنا نعمل من سوء ( أرادوا الشرك قالوه على وجه الكذب والجحود ، ومن لم يجوز الكذب على أهل القيامة قال : أرادوا في اعتقادهم وظنونهم فرد عليهم أولو العلم أو الملائكة بقوله : ( بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ( في الدنيا فلا ينفعكم هذا الكذب وإنه يجازيكم على الكفر الذي علمه منكم. قال في الكشاف : وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك ) فادخلوا أبواب جهنم ( وفي ذكر الأبواب إشارة إلى تفاوت منازلهم في دركات جهنم. ثم قال : ( فلبئس مثوى المتكبرين ( عن قبول التوحيد وسائر ما أتت به الأنبياء. والفاء للعطف على فاء التعقيب في ) فادخلوا ( واللام للتأكيد يجري مجرى القسم موافقة لقوله بعد ذلك ) ولنعم دار المتقين ( ولا نظير لهما في كل القرآن. ثم أتبع أوصاف الأشقياء أحوال السعداء فقال : ( وقيل للذين اتقوا ( الآية. وإنما ذكر الجواب ههنا بالنصب ليكون الجواب مطابقاً مكشوفاً بيناً من غير تلعثم أي أنزل خيراً أو ) قالوا خيراً ( لا شراً كما قاله الكفار ، أو قالوا قولاً خيراً ولو رفعوا لأوهم أنه كلام مستأنف كما في جواب الكفار وليس بمنزل. روي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام(4/258)
" صفحة رقم 259 "
الموسم من يأتيهم بخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا جاء الوافد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف كما مر ، فكان الوافد يقول : كيف أرجع إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه. فيلقى أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويخبرونه بصدقه وأنه نبي مبعوث فهم الذين قالوا خيراً. وجوّز في الكشاف أن يكون ) للذين أحسنوا ( وما بعده بدلاً من ) خيراً ( كأنه فسر الخبر بهذا القول ، وجوّز أن يكون كلاماً مبتدأ على سبيل الوعد فيكون قولهم الخير من جملة إحسانهم. أما قوله ) في هذه الدنيا ( فإما أن يتعلق بما قبله فالمعنى : الذين جاءُوا بالإحسان في هذه الدنيا لهم في الآخرة ) حسنة ( هي الثواب العظيم أو المضاعف إلى سبعمائة أو أكثر ، وإما أن يتعلق بما بعده والتقدير : الذين أحسنوا لهم الحسنة في الدنيا باستحقاق المدح والثناء ، أبو بالظفر على أعداء الدين باللسان والسنان وفتح البلاد ، أو بفتح أبواب المكاشفات والمشاهدات. والحاصل أن لهم في الدنيا مكافأة بإحسانهم. ) ولدار الآخرة خير ( منها. ثم بين الخيرية بقوله : ( ولنعم دار المتقين ( دار الآخرة فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكره. ثم قال : ( جنات عدنٍ ( أي هي هذه فيكون المبتدأ محذوفاً أو الجنات مبتدأ وما بعدها خبر أو ) جنات عدن ( هي المخصوص بالمدح. فالجنات يدل على القصور والبساتين ، والعدن على الدوام والإقامة. وقوله : ( تجري من تحتها الأنهار ( على أنه حصل هناك أبنية مرتفعة هم عليها والأنهار تجري من تحتهم. قوله : ( لهم فيها ما يشاءُون ( أبلغ من قوله في موضع آخر ) فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) [ الزخرف : 71 ] وفي تقديم الظرف دلالة على أن الإنسان لا يجد كل ما يريده إلا في الجنة ، وقوله : ( الذين تتوفاهم الملائكة ( أكثر المفسرين على أن هذا التوفي هو قبض الأرواح. وقوله : ( طيبين ( أي طاهرين عن دنس الكفر والمعاصي أو دنس الكفر وحده ، وهذه كلمة جامعة تشمل أنواع البراءة عن العلائق الجسماني فلا يكون لصاحب هذه الحالة تألم بالموت دليله قوله : ( يقول سلام عليكم ( يروى أنه إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فيقول : السلام عليك يا ولي الله ، الله يقرأ عليك السلم وبشره بالجنة فذلك قوله : ( ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ( وعن الحسن أن المراد بهذا التوفي هو وفاة الحشر لأنه لا يقال عند قبض الروح في الدنيا ادخلوا الجنة. والأولون قالوا : البشارة بالجنة بمنزلة الدخول فيها. قوله سبحانه : ( هل ينظرون ( قيل : إنه جواب شبهة أخرى لمنكري النبوة فإنه طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينزل عليهم ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوة فقال(4/259)
" صفحة رقم 260 "
تعالى : هل ينظرون في تصديق نبوتك ) إلا أن تأتيهم الملائكة ( شاهدين بذلك. ويحتمل أن يقال : إنهم لما طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأولين أوعدهم الله تعالى بما أوعد ، ثم وصف القرآن بكونه حقاً وصدقاً وذكر جزاء المتقين ثم ذكر أن أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم بسبب البيانات التي ذكرناها إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد أو لقبض الأرواح أو أتاهم أمر ربك وهو العذاب المستأصل أو القيامة ) كذلك فعل الذين من قبلهم ( فأصابهم الهلاك المعجل ) وما ظلمهم الله ( بتدميرهم فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم ) فأصابهم سيئات ما عملوا ( أ ] جزاء سيئات أعمالهم أو هو من باب الطباق والمشاكلة كقوله ) وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] ( وحاق بهم (. أي نزل بهم على وجه الإحاطة عقاب استهزائهم. الشبهة الثالثة لمنكري النبوة أنهم تشبثوا بمسألة الجبر فقالوا : ( لو شاء الله ما عبدنا ( الآية. وقد مر في تفسير مثلها في آخر سورة الأنعام ، وذكرنا أسرار المتشابه هناك وكذا استدلال المعتزلة بها وجواب الأشاعرة عنها. وزاد بعض الأشاعرة فقالوا : إن المشركين ذكروا هذا الكلام على وجه الاستهزاء كما قال قوم شعيب ) إنك لأنت الحليم الرشيد ) [ هود : 87 ] ولو قالوا ذلك معتقدين كانوا مؤمنين. وقال آخرون : إنه سبحانه أجاب عن شبهتهم وهي أنه لما كان الكل من الله كان بعثه الأنبياء عبثاً بقوله : ( كذلك فعل الذين من قبلهم ( يعني أنهم اعترضوا على أحكام الله وطلبوا لها العلة فعل من تقدمهم من الكفرة ) فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ( أي ما عليهم إلا التبليغ فإما تحصيل الإيمان فليس إليهم. ثم إنه أكد هذا المعنى بقوله : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً ( إلى قوله : ( ومنهم من حقت عليه الضلالة ( وفيه دلالة على أن أمر الله قد لا يوافق إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان ولا يريد الهداية إلا للبعض إذّ لو أرادها للكل لم يكفر أحد ولم ينزل العذاب على قوم لكنه كفر ونزل لقوله : ( فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) [ النحل : 36 ]. ثم خصص الخطاب قائلاً لرسوله ) إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ( لا يرشد أحداً أضله ، قال ابن عباس : وقال الفراء : لا يهدي معناه لا يهتدي : ومن قرأ على البناء للمفعول فمعناه لا تقدر أنت ولا أحد على هداية من أضله الله فلن يكون مهدياً منصوراً ، ولا يخفى أن أول الآية ظاهره يوافق مذهب المعتزلة. أما قوله : ( كذلك فعل الذين من قبلهم ( إلى آخر الآيات فإنهم قد صاروا فيه إلى التأويل فقالوا : معناه أن متقدميهم أشركوا وحرموا حلال الله فلما نبهوا على قبح فعلهم أسندوه إلى الله ) فهل على الرسل إلا ( أن يبلغوا الحق وأن الله بريء من الظلم وخلق القبائح والمنكرات ، وما من أمة(4/260)
" صفحة رقم 261 "
إلا وقد بعث الله فيهم رسولاً يأمرهم بالخير الذي هو عبادة الله وينهاهم عن الشر الذي هو طاعة الطاغوت. ) فمنهم من هدى الله ( لأنه من أهل اللطف ، ومنهم من ثبت عليه الخذلان لأنه عرفه مصمماً على الكفر ، أو المراد منهم من حكم الله عليه بالاهتداء ومنهم من صار محكوماً عليه بالضلال لظهور ضلاله ، أو منهم من هداه الله إلى الجنة ومنهم من أضله عنها. ) فسيروا في الأرض فانظروا ( ما فعلت بالمكذبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أني لا أقدر الشر ولا أشاؤه. ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على إيمانهم وعرفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة ، وأنه لا يلطف بمن يخذل لأنه عبث والله تعالى متعال عن العبث. فهذا تفسير الفريقين لاشتمال آيات مسألة الجبر والقدر على الجهتين وعليك الاختيار بعقلك دون هواك. الشبهة الرابعة قدحهم في الحشر والنشر ليلزم إبطال النبوة وذلك أنهم ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم ( أي أغلاظ الأيمان كما في ( المائدة ) كأنهم ادّعوا علماً ضرورياً بأن الشيء إذا فني وصار عدماً محضاً فإنه لا يعود بعينه بل العائد يكون شيئاً آخر فأكدوا ادعاءهم بالقسم الغليظ فأجاب الله عن شبهتهم بقوله : ( بلى ( وهو إثبات لما بعد النفي أي بلى يبعثهم وقوله : ( وعداً ( مصدر مؤكد لما دل عليه ( بلى ) لأن يبعث موعد من الله أي وعد البعث ) وعدا عليه حقاً ( لا خلاف فيه ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( أنهم يبعثون أو أن وعد الله حق. ثم ذكر لمية حقية البعث فقال ) ليبين ( أي يبعث كل من يموت من المؤمنين والكافرين ليبين ) لهم ( الحق الذي اختلفوا فيه بياناً عيانياً لا يشتبه فيه المطيع بالمعاصي والمحق بالمبطل والمظلوم بالظالم والصادق بالكاذب. وجوز بعضهم أن يكون قوله : ( ليبين ( متعلقاً بقوله : ( ولقد بعثنا ( أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا به وأنهك كانوا على الضلالة قبله مفترين على الله الكذب في ادعاء الشريك له وفي قولهم بمجرد هواهم هذا حلال الله وهذا حرام. ثم برهن على إمكان البعث بقوله : ( إنما قولنا ( وهو مبتدأ خبره ) أن نقول ( وقد فسرنا مثل هذه الآية في سورة البقرة ، وذكرنا فيه مباحث عميقة لفظية ومعنوية فلا حاجة إلى الإعادة. والغرض أنه سبحانه لا مانع له من الإيجاد والإعدام ولا تتوقف آثار قدرته إلا على مجرد الإرادة والمشيئة ، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو أهو من الإبداء ؟ قال في الكشاف : قرىء ) فيكون ( بالنصب عطفاً على ) نقول ( قلت : ( ولا مانع من كونه منصوباً بإضمار ( أن ) لوقوعه في جواب الأمر بعد الفاء وقد مر في ( البقرة ). احتج بعض الأشاعرة بالآية على قدم القرآن قال : إنه لو كان حادثاً لافتقر إلى أن يقال له ( كن ). ثم الكلام في هذا اللفظ كالكلام في الأوّل وتسلسل ، والجواب بعد تسليم أن هذا ليس مثلاً وأن ثم قولاً(4/261)
" صفحة رقم 262 "
أن ( إذا ) لا تفيد التكرار فلا يلزم في كل ما يحدثه الله تعالى إلى أن يقول له ( كن ). وكيف يتصور أن تكون لفظة ( كن ) قديمة والكاف مقدم على النون بزمان محصور ، ولو سلم فلا يجوز من قدم لفظة ( كن ) قدم القرآن. على أن قوله : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه ( يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة وما كان كذلك فهو محدث وأنه علق القول بكلمة ( إذا ) ولا شك أنها للاستقبال وكذا قوله : ( أن نقول ( ثم إن كلمة ) كن ( متقدمة على المكون بزمان واحد ، والمتقدم على المحدث بزمان يكون محدثاً ، فتلخص من هذه الدلائل أن الكلام المسموع لا بد أن يكون محدثاً. هذا تلخيص ما قاله الإمام فخر الدين الرازي ، ولعل لنا فيه نظراً. ولما حكى الله سبحانه عن الكفار ما حكى من إنكار البعث والجزاء لم يبعد منهم - والحالة هذه - إيذاء المسلمين وإنزال الضرر والهوان بهم وحينئذٍ يلزمهم أن يهاجروا تلك الديار فذكر ثواب المهاجرين قائلاً ) والذين هاجروا في الله ( أي في حقه وسبيله ) من بعد ما ظلموا فنبوّئنهم في الدنيا ( مثوبة ) حسنة ( أو مباءة حسنة هي المدينة أوهم أهلها ونصروهم قاله الحسن والشعبي وقتادة. وقيل : لننزلنهم منزلة حسنة هي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم ، بل على العرب قاطبة بل على أهل المشرق والمغرب. قال ابن عباس : نزلت الآية في جماعة - منهم صهيب وبلال وعمار وخباب - جعل المشركون يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام فقال صهيب : أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله وهاجر ، فلما رآه أبو بكر قال له : ربح البيع يا صهيب ، وقال له عمر : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه. أما الضمير في قوله : ( لو كانوا يعلمون ( فإما أن يرجع إلى الكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين خير الدارين لرغبوا في دينهم ، وإما أن يعود إلى المهاجرين أي لو علموا أن أجر الآخرة أكبر لزادوا في اجتهادهم وصبرهم. ثم مدحهم بقوله : ( الذين صبروا ( على هم الذين أو أعني الذين. والمراد صبرهم على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله ، وعلى المجاهدة في سبيل الله بالنفوس والأموال. قال المحققون : الصبر حبس النفس على خلاف ما تشتهيه من اللذات العاجلة وهو مبدأ السلوك ، والتوكل هو الانقطاع بالكلية عما سوى الحق وهو آخر الطريق والله ولي التوفيق. فإن العارفين بالصبر ساروا وبالتوكل طاروا فم في الله حاروا حسبي الله ونعم الوكيل. ( النحل : ( 43 - 60 ) وما أرسلنا من . . . .
" وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في(4/262)
" صفحة رقم 263 "
تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم "
( القراآت )
نوحي ( بالنون : حفص غير الخزاز. الباقون بالياء مجهولاً ) أو لم تروا ( بتاء الخطاب : حمزة وعلي وخلف ) تتفيؤ ( بتاء التأنيث : أبو عمرو وسهل ويعقوب ، الآخرون على الغيبة. الوقوف : ( لا تعلمون ( ه لا لتعلق الباء ) والزبر ( ط ) يتفكرون ( ه ) لا يشعرون ( ه لا للعطف ) بمعجزين ( ه لا كذلك ) على تخوّف ( ط للفصل بين الاستخبار والإخبار ) رحيم ( ه ) داخرون ( ه ) لا يستكبرون ( ه ) ما يؤمون ( ه ) اثنين ( ج للابتداء بانما مع اتحاد القائل ) واحد ( ج للعدول مع الفاء ) فارهبون ( ه ) واصباً ( ط ) تتقون ( ه ) تجأرون ( ه ج لأن ( ثم ) لترتيب الأخبار مع شدة اتصال المعنى ) يشركون ( له لا لتعلق لام كي ) آتيناهم ( ط للعدول والفاء للاستئناف ) تعلمون ( ه ) زقناهم ( ط ) تفترون ( ه ) سبحانه ( لا لأن ما بعده من جملة مفعول ) يجعلون ( و ) سبحانه ( معترض للتنزيه ) يشتهون ( ه ) كظيم ( ه ج لاحتمال أن ما بعد وصف ) لكظيم ( أو استنئاف. ) ما بشر به ( ط لأن التقدير يتفكر في نفسه المسألة ) في التراب ( ط ) ما يحكمون ( ه ) السوء ( ج لتضاد الجملتين معنى مع العطف لفظاً ) الأعلى ( ط ) الحكيم ( ه. التفسير : الشبهة الخامسة أن قريشاً كانوا يقولون الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله بشراً فأجباب سبحانه بقوله : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً ( والمراد أن هذه عادة مستمرة من أوّلأ زمان الخلق والتكليف. وزعم أبو علي الجبائي أنه لم يبعث إلى الأنبياء(4/263)
" صفحة رقم 264 "
إلا من هو بصورة الرجال من الملائكة. قال القاضي : ولعله أراد الملك الذي يرسل إلى الأنبياء بحضرة أممهم كما روي أن جبرائيل عليه السلام كان يأتي في صورة دحية وفي صورة سراقة ، وإنما قيدنا بحضرة الأمم لأن الملائكة قد يبعثون على صورتهم الأصلية عند إبلاغ الرسالة من الله إلى نبيه كما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) رآى جبرائيل على صورته التي هو عليها مرتين. وعليه تأوّلوا قوله : ( ولقد رآه نزلة أخرى ) [ النجم : 13 ] ثم إنهم كانوا مقرين بأن اليهود والنصارى أصحاب العلوم والكتب فأمرهم الله - أعني قريشاً - بأن يرجعوا إليهم في هذه المسألة ليبينوا لهم ضعف هذه الشبهة وسقوطها وذلك قوله : ( فاسئلوا أهل الذكر ( قال بعض الأصولين : فيه دليل على أنه يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر فيما يشتبه عليه. واحتج نفاة القياس بالآية قالوا : لو كان حجة لما وجب على المكلف السؤال بل كان عليه أن يستنبط ذلك الحكم بواسطة القياس. وأجيب بأنه قد ثبت العمل بالقياس لإجماع. الصحابة ، والإجماع أقوى من ظاهر النص. أما قوله : ( بالبينات ( ففي متعلقة وجوه منها : أن يتعلق ب ) أرسلنا ( داخلاً تحت حكم الاستثناء مع ) رجالاً ( وأنكر الفراء ذلك قال : إن صلة ما قبل ( إلا ) لا تتأخر على ما بعد ( إلا ) لأن المستثنى منه هو مجموع ما قبل إلا مع صلته كما لو قيل : ما أرسلنا بالبينات إلا رجالاً. ولما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه امتنع إدخال الاستثناء عليه. ومنها أن يتعلق ب ) رجالاً ( صفة له أي رجالاً متلبسين بالبينات. ومنها أن يتعلق ب ) أرسلنا ( مضمراً نظيره ( ما مر إلا أخوك ) ، ثم تقول ( مرَّ بزيد ) قاله الفراء. ومنها أن يتعلق ب ) يوحى ( أي يوحى إليهم بالبينات. ومنها أن يتعلق بالذكر بناء على أنه بمعنى العلم. ومنها أن يتعلق ب ) لا تعلمون ( أي إن كنتم لا تعلمون بالبينات وبالزبر فاسألوا. وقال في الكشاف : الشرط ههنا في معنى التبكيت والإلزام كقول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقي. قلت : أراد أن عدم علمهم مقرر كما أن عمل الأجير ثابت. وسلم جار الله أن مثل قوله : ( فاسألوا ( جواب الشرط على هذا الوجه. وأما على الوجوه المتقدمة فجزم أنه اعتراض بناء على أن جواب الشرط هو ما دل عليه قوله ) وما أرسلنا ( الخ. وعندي أن هذا الجزم ليس بحتم ويجوز على كل الوجوه أن يكون مثل ) فاسألوا ( جواباً والله أعلم. وأهل الذكر أهل التوراة. كقوله : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ) [ الأنبياء : 105 ] يعني التوراة. وقال الزجاج : سلوا كل من يذكر بعلم وتحقيق. وقوله : ( بالبينات والزبر ( لفظ جامع لكل ما تتكامل به الرسالة لأن مدارها على المعجزات الدالة على صدق من يدعي الرسالة وهي البينات ، وعلى التكاليف التي تعتبر في باب العبادة وهي للزبر. ثم قال : ( وأنزلنا إليك الذكر ( أي القرآن الذي هو موعظة وتنبيه وتذكير لأهل الغفلة والنسيان ، وبيّن الغاية المترتبة على إنزال وهي تبيين الأحكام والشرائع(4/264)
" صفحة رقم 265 "
بالنسبة إلى الرسول وإرادة التأمل والتفكر في المبدإ والمعاد بالإضافة إلى المكلفين. وفي ظاهر هذا النص دلالة على أن القرآن كله مجمل ، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أنه متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر لأن القرآن مجمل والخبر مبين له. وأجيب بمنع الكلية فمن القرآن ما هو محكم ، وقوله : ( لتبين ( محمول على المتشابهات المجملات. قال بعض من نفى القياس : لو كان القياس حجة لما وجب على الرسول أن يبين للمكلفين ما أنزل الله عليه من الأحكام بل كان له أن يفوض بعضها إلى رأي القائس ، وأجيب بأنه لما بيّن أن القياس من جملة الحجج فالقياس أيضاً راجع إلى بيان الرسول. ثم لما ذكر شبهات المنكرين مع أجوبتها شرع في التهديد والوعيد والإنذار والتنبيه فقال ) أفأمن الذين مكروا السيئات ( أي المكرات السيئات أراد أهل مكة ومن حول المدينة. قال الكلبي : عنى بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله ، والأقرب أن المراد سعيهم في إيذاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإيذاء أصحابه على سبيل الخفية ) أن يخسف الله بهم الأرض ( كما خسف بقارون ) أو يأتيهم العذاب ( أو ملائكة العذاب من السماء ) من حيث لا يشعرون ( كما فعل بقوم لوط ) أو يأخذهم في تقلبهم فيما هم بمعجزين ( فائتين الله ، وذكر المفسرون في هذا التقلب وجوهاً منها : أنه تعالى يأخذهم في أسفارهم ومتاجرهم فإنه قادر على أن يهلكهم في السفر كما أنه قادر على أن يهلكهم في الحضر وهم لا يفوتون الله بسبب ضربهم في البلاد البعيدة. ومنها أنه يأخذهم بالليل والنهار في أحوال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم ، وحقيقته في حال تصرفهم في الأمور التي يتصرف فيها أمثالهم. ومنها أنه أراد في حال ما يتقلبون في قضاء أوطارهم بوجوه الحيل فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم. والتقلب بالمعنى الأوّل مأخوذ من قوله : ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ) [ آل عمران : 196 ] وبالمعنى الثالث من قرأ ) وقلبوا لك الأمور ( ) التوبة : 48 ]. ) أو يأخذهم على تخوف ( على حالة تخوفهم وتوقعهم للبلاء بأن يكون قد أهلك قوماً قبلهم فكان أثر الخوف باقياً فيهم ظاهراً عليهم فهو خلاف قوله : ( من حيث لا يشعرون ( وقيل : التخوف التنقص والمعنى أنه يأخذهم بطريق النقص شيئاً بعد شيء في ديارهم وأموالهم وأنفسهم حتى يأتي الفناء على الكل. عن عمر أنه قال على المنبر : ما تقولون فيها ؟ فسكتوا : فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا التخوف التنقص فقال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ قال : نعم قال شاعرنا زهير : تخوّف الرحل منها تامكاً قرداً
كما تخوف عود النبعة السفن(4/265)
" صفحة رقم 266 "
قوله تامكا قرداً أي سناماً مرتفعاً متراكماً ، والسفن ما ينحت به الشيء ومنه السفينة لأنها تسفن وجه الماء بالمر في الحبر. فقال عمر : أيها الناس عليكم بديوانكم. قالوا : وما ديواننا ؟ قال : شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم. ثم ختم الآية بقوله : ( فإن ربكم لرءُوف رحيم ( فذهب المفسرون إلى أن معناه أنه يمهل في أكثر الأمر لأنه رءُف رحيم فلا يعجل بالعذاب. وأقول : يحتمل أن يكون قوله ( فإن ) تعليلاً لقوله ) أفأمن ( كقوله : ( ما غرك بربك الكريم ) [ الانفطار : 6 ] ولما خوف الماكرين بما خوف أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وسكانهما فقال ) أو لم يروا إلى ما خلق الله ( قال جار الله : ( ما ) مبهمة بيانه ) من شيء ( وقال أهل المعاني : قوله : ( يتفيؤ ظلاله ( إخبار عن شيء وليس بوصف له. ويتفيأ ( يتفعل ) من الفيء وأصله الرجوع ومنه فيئة المولى. وقال الأزهري : تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار. فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشيّ ، وما انصرف عنه الشمس والقمر والذي يكون بالغداة ظل. وقال ثعلب : أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل ، وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل. وقوله : ( ظلاله ( أضاف الظلال إلى مفرد ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال ووجه حسنه كون المرجوع إليه واحداً في اللفظ وإن كان كثيراً في المعنى وهو قوله : ( إلى ما خلق ( نظيره ) لتستووا على ظهوره ) [ الزخرف : 13 ] أضاف الظهور - وهو جمع - إلى ضمير مفرد لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة وهو ما تركبون. قال الجوهري : تفيأت الظلال أي تقلبت. وقوله ( عن اليمين والشمائل ( قال أهل التفسير ومنهم الفراء : إنه وحد اليمين لأنه أراد واحداً من ذوات الأظلال ، وجمع الشمائيل لأنه أراد كلها لأن قوله ) ما خلق الله ( لفظ مفرد ومعناه جمع ، وقيل : إن العرق إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد كقوله ) وجعل الظلمات والنور ) [ الأنعام : 1 ] ( وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ) [ الأنعام : 46 ] وقيل : المراد باليمين النقطة التي هي مشرق الشمس وإنها واحدة ، والشمائل عبارة عن الانحراف الواقع في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة. وإنما عبر عن المشرق باليمين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه ومنه تظهر الحركة القوية ، وكذا جانب الشرق أقوى جوانب الفلك ومنه تظهر الحركة اليومية التي هي أسرع الحركات وأقواها. ويمكن أن يقال : إن الإنسان إذا توجه إلى الشرق الذي هو أولى الجوانب بالاعتبار لشرفه كان الجنوب يمينه والشمال شماله ، ولا ريب أن وصول الشمس إلى فلك نصف النهار يختلف بحسب البلاد. وقد يتفق انتقالها من(4/266)
" صفحة رقم 267 "
الجنوب إلى الشمال وبالعكس في بلد واحد إذا كان عرضه ناقصاً عن الميل الكلي. ومن المعلوم أن الشمس حين وصولها إلى نصف النهار إن كانت يف جنوب سمت الرأس وقع ظلها إلى جانب الشمال ، وإن كانت في شماله وقع ظلها إلى الجنوب ، فيحتمل أن يراد بتفيؤ الأظلال تقلبها في هاتين الجهتين والله أعلم. أما قوله ) سجداً لله ( فإنه حال من الظلال ، ومعنى سجودها انقيادها لأمر الله منتقلة من جانب إلى جانب حسب تحرك النير على نسب مخصوصة ومقادير معلومة ذكرنا بعضها في كتبنا النجومية. وقد نبى المتأخرون على الأظلال مسائل كثيرة منها : الشكل الموسوم بالظلي مع فروعه ، وذكر بعضهم في تفسير هذا السجود أن هذه الأظلال واقعة على الأرض ملصقة بها على هيئة الساجد. وقوله ( وهم داخرون ( حال أخرى من الظلال. وإنما جمع بالواو والنون لأنهم أشبهوا العقلاء من حيث طاعتها لله سبحانه. وقال جار الله : اليمين والشمائل استعارة عن يمين الإنسان وشماله بجانبي الشيء أي ترجع لاظلال من جانب إلى جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ. والأجرام في أنفسها داخرة أيضاً صاغرة منقادة لأفعال الله فيها لا تمتنع ) ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة ( قال الأخفش : أي من الدواب : وأخبر بالواحد كما تقول : ما أتاني من رجل مثله وما أتاني من الرجال مثله. وقال ابن عباسك يريد كل ما دب على الأرض ، والوجه في تخصيص الدابة والملائكة بالذكر أنه علم من آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة له ، فبين في هذه الآية أن الحيوانات بأسرها أيضاً كذلك. ثم عطف عليها الملائكة إما لشرفها وإما لأنها ليست مما يدب ولكنها تطير بالجناحين ، وبين النوعين مغايرة لقوله : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ) [ الأنعام : 38 ] وعلى قاعدة الحكماء : وجه المغايرة أنها أرواح مجرد ليست من شأنها الحركة والدب. قال جار الله : ومن دابة يجوزأن يكون بياناً لما في السموات وما في الأرض جميعاً ، على أن في السموات خلقاً لله يدبون فيها كما يدب الأناسيّ في الأرض ، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده ويراد بما في السموات الخلق الذي يقال له الروح ، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده ويراد بما في السموات الملائكة. وكرر ذكرهم على معنى والملائكة خصوصاً من بين الساجدين لأنهم أطوع الخلق وأعدلهم ، ويجوز أن يراد بما في السموات ملائكتهن ، وبقوله : ( والملائكة ( عصمتهم قال : ( وهم لا يستكبرون يخافون ( على أنه حال منهم أو بيان لنفي استكبارهم لأن الخوف أثره عدم الاستكبار. وقوله ( من فوقهم ( إما أن يتعلق ب [ يخافون ( والمعنى(4/267)
" صفحة رقم 268 "
يخافون ربهم أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم ، وإما أن يكون حالاً من الرب أي يخافونه غالباً قاهراً. وبحث الفوقية قد تقدم في الأنعام في قوله : ( وهو القاهر فوق عباده ( ) الأنعام : 18 ] زعم بعض الطاعنين في عصمة الملائكة أنه تعالى وصفهم بالخوف وحصول الخوف نتيجة تجويز الإقدام على الذنوب ، وهب أنه فعلوا كل ما أمروا به فمن أين علم أنهم تركوا كل ما نهوا عنه ؟ والجواب عن الأوّل أنهم إنما يخافون من العذاب لقوله تعالى : ( ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ) [ الأنبياء : 29 ] فمن هذا الخوف يتركون الذنب. وعن ابن عباس أن هذا الخوف خوف الإجلال كقوله : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ فاطر : 28 ] ولا ريب أنه كلما كانت معرفة جلال الله أتم كانت الهيبة والحيرة أعظم. وعن الثاني أن النهي عن الشيء أمر بتركه ، وفي الآية دلالة على أن إبليس لم يكن من الملائكة لأنه أبى واستكبر وإنهم لا يستكبرون. وقد يستدل بها على أن الملك أفضل من البشر بل من كل المخلوقات وإلا لما خصهم بالذكر من بينها ، ولخلو بواطنهم وظواهرهم عن الأخلاق الذميمة وانغماس البشر في الدواعي الشهوية والغضبية ، ولهذا ورد في حقه ) قتل الإنسان ما أكفره ) [ عبس : 17 ] وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما منا إلا من قد عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا ) وقال أيضاً ( صلى الله عليه وسلم ) ( الشيخ في قومه كالنبي في أمته ) فضل الشيخ على الشاب لتقادم عهده وطول مدته ، ولا شك أن الملائكة خلقوا قبل البشر بسنين متطاولة وقرون متمادية ، وأنهم سنوا الطاعة والعبودية ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر عمل بها. وتمام البحث في هذه المسألة مذكور في أول سورة البقرة. وفي قوله : ( ما يؤمرون ( دلالة على أن الملائكة مكلفون بالأمر والنهي والوعد والوعيد راجين خائفين. ولما بين أن كل ما سواه في عالمي الأرواح والأجسام فإنه منقاد خاضع لجلاله وكبريائه أتبعه النهي عن الشرك قائلاً ) وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد ( فسئل أن التثنية والواحد حيث كانا يدلان على العدد الخاص ، فما الفائدة في وصف إلهين باثنين ووصف إله بواحد ؟ وأجيب بوجوه منها : قول صاحب النظم أن فيه تقديماً وتأخيراً أي لا تتخذوا اثنين إلهين. ومنها أنه كررت العبارة لأتجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك. ومنها قول لأهل المعاني إهن فائدة الوصف والبيان هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدد لا إلى الجنسية ، ولهذا لو قلت : إنما هو إله ولم تؤكده بواحد سبق إلى الوهم إنك تثبت الإلهية لا الوحدانية. وكيف لا يحتاج لامقام إلى التوكيد والاثنينية منافية للإلهية لاستلزام تعدد الواجب كون كل منهما مركباً من جزأين ما به الاشتراك في(4/268)
" صفحة رقم 269 "
الوجوب الذاتي ، وما به الامتياز ولكن التركيب يوجب الافتقار إلى البسائط والافتقار ينافي الوجوب. ودليل التمانع أيضاً يعين على المطلوب كما لو أراد أحدهما تحريك جسم معين وأراد الآخرة تسكينه ، أو قوي أحدهما على مخالفة الآخر أو لا يقوى ، أو قدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر أو لا يقدر. ثم نقل الكلام عن الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات قائلاً : ( فإياي فارهبون ( وقد مر مثله في أوّل ( البقرة ) ثم لما قرر وحدته وأنه يجب أن يخص بالربة منه والرغبة إليه ذكر أن الكل ملكه فقال : ( وله ما في السموات والأرض ( فقالت الأشاعرة : ليس المراد من كونها لله أنها مفعولة لأجله ولغرض طاعته لأن فيها المباحات والمحظورات التي يؤتى بها لغرض الشهوة واللذة لا لغرض الطاعة ، فالمراد أن كلها بتخليقه وتكوينه ومن جملة ذلك أفعال العباد ، ثم قال ) وله الدين واصباً ( فالدين الطاعة ، والواصب الدائم ، ومفازة واصبة بعيدة لا غاية لها. ويقال للمريض وصب لكون ذلك المرض لازماً له. وانتصابه على الحال والعالم فيه ما في الظرف من معنى الفعل. قال ابن قتيبة : ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أي وله الدين ذا كلفة ومشقة ولذلك سمي تكليفاً ، أو وله الجزاء سرمداً لا يزول يعني الثواب والعقاب. وقال بعض المتكلمين المحققين : قوله ) وله ما في السموات والأرض ( إشارة إلى احتياج الكل إليه في حال حدوثه. وقوله : ( وله الدين ( أي الانقياد ) واصباً ( إشارة إلى أن جميع الممكنات مفتقرة إلى فيض وجوده في حال وجوده لأن الصحيح أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المرحج. ثم أنكر أن يكون الممكن مع شدة افتقاره إليه يخشى غيره فقال ) أفغير الله تتقون ( ثم منّ عليهم بقوله : روما بكم من نعمة فمن الله ( ( ما ) بمعنى ( الذي ) وبكم صلته و ) من نعمة ( حال من الضمير في محذوف أي ما يكن. وقال جار الله : معناه أي شيء ل بكم أو اتصل بكم من نعمة فهو من الله ، قال الأشاعرة : أفضل النعم نعمة الإيمان والآية تفيد العموم فهو من نعم الله. والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به ، وإما دنيوية نفسانية أو بدنية أو خارجة كالسعادات المالية وغيرها ، وكل واحدة من هذه جنس تحتها أنواع لا حصر لها والكل من الله ، فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه. ثم بين تلون حال الإنسان بعد استغراقه في بحار نعم الله قائلاً ) ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ( ما تتضرعون إلا إليه. والجؤار رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة. ) ثم إذا كشف(4/269)
" صفحة رقم 270 "
الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ( قال جار الله : يجوز أن يكون الخطاب في قوله : ( وما بكم ( عاماً ، ويريد بالفريق فريق الكفرة وأن الخطاب للمشركين و ) منكم ( للبيان لا للتبعيض كأنه قال : فإذا فريق كافر وهم أنتم ، ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر كقوله : ( فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ) [ لقمان : 32 ] أقول : وأظهر الوجهين الأول والمعنى أن فريقاً منكم يبقى على ما كان عليه عند الضر في أن لا يفزع إلا إلا لله ، وفريقاً يتغير عن حاله فيشرك بالله ، ولعل هذه صفة لازمة لجوهر الإنسان ولهذا قال : ( ليكفروا ( كأنه جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة ، ويجوز أن تكون لام العاقبة يعني عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا هذا الكفران. والمراد بقوله : ( بما آتيناهم ( كشف الضر وإزالة المكروه ، أو القرآن والشرئع ، أو جميع النعم الظاهرة والباطنة التي أنعم الله بها على الإنسان. ثم قال على سبيل التهديد وبطريقة الالتفات نظراً إلى أوّل الكلام ) فتمتعوا فسوف تعلمون ( عاقبة كفركم ومثله في ( الروم ) كما سيجيء ، وأما في ( العنكبوت ) فإنه قال : ( ليكفروا بما أتيناهم وليتمتعوا ) [ الآية : 66 ] بالعطف على القياس. ثم حكى نوعاً آخر من قبائح أعمال بني آم فقال ) ويجعلون لما لا يعلمون ( الضمير الأوّل للمشركين والثاني قيل لهم وقيل للأصنام التي لا توصف بالعلم والشعور ، ورجح الأوّل بأن نفي العلم عن الحي حقيقة وعن الجماد مجاز ، وبأن جمع السلام بالعقلاء أليق ، وقد يرجح الثاني بأن الأوّل يفتقر إلى الإضمار كما لو قيل : ويجعلون لما لا يعلمون في طاعته نفعاً ولا في الإعراض عنه ضراً. وقال مجاهد : يعملون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرهم ) نصيباً ( أو يجعلون لما لا يعلمون إلاهيتها ، أو السبب في صيرورتها معبودة. والمراد بجعل النصيب ما مر في ( الأنعام ) في قوله : ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ) [ الأنعام : 136 ] وقيل : البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. عن الحسن : وقيل هم المنجمون الذين يوزعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة فيقولون لزحل كذا وكذا من المعادن والنبات والحيوان ، وللمشتري كذا إلى آخر الكواكب. ثم أوعدهم الله بقوله : ( تالله لتسئلن عما كنتم تفترون ( على الله من أن له شريكاً وأن الأصنام أهل للتقرب إليها مع أنه لا شعور لها بشىء أصلاً ، أو المراد بالافتراء قولهم هذا حلال وهذا حرام من غير إذن شرعي ، أو قولهم أن لغير الله تأثيراً في هذا العالم. ومتى يكون هذا السؤال ؟ قيل : عند القرب من الموت ومعاينة ملائكة العذاب ، وقيل : في القبر. والأقرب أنه في الآخرة وهذا في هؤلاء الأقوام خاصة كقوله : ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) [ الحجر : 29 ] في الأمم عامة .(4/270)
" صفحة رقم 271 "
قوله : ( ويجعلون لله البنات ( نوع آخر من القبائح وكانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله. قال الإمام فخر الدين الرازي : أظن أن ذلك لأن الملائكة يستترون عن العيون كالنساء ، ومنه إطلاق التأنيث على الشمس لاستتارها عن أن تدرك بالأبصار لضوئها الباهر ونورها القاهر. ) سبحانه ( تنزيه لذاته عن نسبة الولد إليه أو تعجب من قولهم. ومحل ( ما ) في قوله ) ولهم ما يشتهون ( إما الرفع على الابتداء ، أو النصب أي وجعلوا لهم ما يشتهون يعني البنين. وأبى الزجاج جواز النصب وقال : لأن العرب لا تقول جعل له كذا وهو يعني نفسه وإنما تقول جعل لنفسه كذا. فلو كان منصوباً لقيل : و ( لأنفسهم ما يشتهون ). ثم ذكر غاية كراهتهم للإناث التي جعلوها لله تعالى فقال : ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه ( أي صار ) مسودّاً ( ويحتمل أن يكون استعمل ( ظل ) لان وضع الحمل يتفق بالليل غالباً فيظل نهاره مسود الوجه ) وهو كظيم ( مملوء غماً وحزناً وغيظاً على المرأة. قال أهل المعاني : جعل اسوداد الوجه كناية عن الغم والكآبة لأن الإنسان إذا قوى فرحة انبسط الروح من قلبه ووصل إلى الأطراف ولا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فاستنار الوجه وأشرق ، وإذا قوي غمه انحصر الروح في داخل القلب ولم يبق منه أثر قويّ على الوجه فيتربد الوجه لذلك ويصفر أو يسود ) يتوارى ( يستخفي ) من القوم من سوء ما بشر به ( من أجل سوء المبشر به ولم يظهر أياماً يحدث نفسه ويدبر فيها ماذا يصنع بها وذلك قوله : ( أيمسكه ( أي يحبسه ) على هون ( ذل وهوان. والظاهر أن هذا صفة المولود أي يمسكها على هوان منه لها. وقال عطاء عن ابن عباس : إنه صفة الأب أي يمسكها مع الرضا بهوان نفسه ) أم يدسه في التراب ( أي بيده. والدس إخفاء الشيء في الشيء. وإنما ذكر الضمير في ) يمسكه ( و ) يدسه ( باعتبار ما بشر به. كانوا مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها إلى أن تموت ، ومنهم من يرميها من شاهق جبل ، ومنهم من يغرقها ، ومنها من يذبحها. وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية ، وأخرى خوفاً من الفقر والفاقة ولزوم النفقة. روي أن رجلاً قال : يا رسول الله والذين بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام وقد كانت لي في الجاهلية ابنة وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتها ، فلما انتهيت إلى وادٍ بعيد القعر ألقيتها فقال : يا أبتي قتلتني. فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار ولا ريب أن الأنثى التي هذا محلها عندهم كانت في غاية الكراهية والتنفير ومع ذكل أثبتوها لله المتعالي عن الصاحبة والولد فلذلك قال : ( ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة ( ولهذا يقدمون على القتل والإيذاء ) مثل السوء ( وصفة السوء وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهية الإناث ووأدهن خشية(4/271)
" صفحة رقم 272 "
الإملاق والتزام الشح البالغ ) ولله المثل الأعلى ( وهو أضداد صفات المخلوقين من الغنى الكامل والجود الشامل ) وهو العزيز ( الذي لا يغالب فلا يستضر بأن ينسب إليه ما لا يليق به ) الحكيم ( في خلق الذكور والإناث أو في الوعيد على قتل البنات. قال القاضي : إن هؤلاء المشركين استحقوا الذم بإضافة النبات إلى الله وإنه أسهل من إضافة الفواحش والقبائح كلها إليه وهذا شأن المجبرة. وأجابت الأشاعرة بأنه ليس كل ما قبح منافي العرف فإنه يقبح من الله. ألا ترى أن رجلاً لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهن وتقوية الشهوة فيهم وفيهن ، ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع فإن هذا بالاتفاق حسن من الله تعالى وقبيح من كل الخلق ، فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبنية على العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية اليقينية ، وقد ثبت بالبراهين القطعية امتناع الولد على الله تعالى فعلى جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية. أما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل اليقينية أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق إحدى الصورتين. بالأخرى والله أعلم. التأويل : أن يخسف الله بهم أر البشرية ودركات السفل أو يأتيهم العذاب بالمكر والاستدراج من حيث لا يشعرون ، أنه من أين أتاهم من قبل الاعمال الدنيوية أو من قبل أعمال الآخرة إلى أعمال الدنيا بالهوى. ) أو يأخذهم على تخوّف ( تنقص من مقاماتهم ودرجاتهم بلا شعورهم ) فإن ربكم لرءُوف ( بالعباد إذا أعطاهم حسن الاستعداد ) رحيم ( حين لا يأخذهم بعد إفساد الاستعداد في الحال لعلهم يتوبون في المآل فيقبل توبتهم بالفضل والنوال. ما خلق الله من شيء وهو عالم الأجسام فإن عالم الأرواح خلق من لا شيء يتفيأ ظلاله ، فإن الأجسام ظلال الأرواح فتارة تميل بعمل أهل السعادة إلى أصحاب اليمين ، وأخرى تميل بعمل أهل الشقاء إلى أصحاب الشمال ) سجداً لله ( منقادين لأمره مسخرين لما خلقوا لأجله. وإنما وحد اليمين وجمع الشمال لكثرة أصحاب الشمال ، وسجود كل موجود يناسب حاله كما أن تسبيح كل منهم يلائم لسانه ) وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين ( أراد بالإله الآخر الهوى لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما عبد إله أبغض على الله من الهوى ) ) ويجعلون ( يعني أصحاب النفوس والأهواء ) لما لا يعلمون ( لمن لا علم لهم بأحوالهم ) نصيباً ( بالرياء ) مما رزقناهم ( من الطاعات ) تالله ليسئلن عما كنتم تفترون ( والسؤال وبالعكس ) ويجعلون لله البنات ( أظن أن البنات إشارة إلى صفات فيها نوع نقص(4/272)
" صفحة رقم 273 "
كالتجسيم والتشبيه والحلول والاتحاد ، ونسبته إلى الظم والجور والتعطيل وعدم الاستقلال بالتثأير وغير ذلك مما لا يليق بغاية جلاله ونهاية كماله فلهذا قال سبحانه : ( ولهم ما يشتهون ( يعني أن كل أحد يجب أن يوصف بغاية الكمال ويتغير وجهه إذا نبه على عيب فيه ولا يعلم أن مطلق الكمال لا يليق إلا بالواجب بالذات ، ونفس الإمكان نقصان يستلزم جميع النقصانات والله يقوله الحق وهو يهدي السبيل. ( النحل : ( 61 - 70 ) ولو يؤاخذ الله . . . .
" ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير "
( القراآت )
لا جرم ( في المد مثل ) لا ريب فيه ) [ البقرة : 2 ] ( مفرطون ( بكسر الراء المشددة : يزيد ) مفرطون ( بكسر الراء المخففة : نافع وقتيبة. الباقون بفتحها مخففة. ) نسقيكم ( بفتح النون : نافع وابن عامر وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد. الآخرون بضمها. الوقوف : ( مسمى ( ج للظرف مع الفاء ) ولا يستقدمون ( ه ) الحسنى ( ط ) وقيل علي ( لا ثم يبدأ بجرم وهو تكلف. ) مفرطون ( ه ) أليم ( ه ) فيه ( لا للعطف على موضع ) لتبين ( تقديره إلا تبياناً وهدى ) يؤمنون ( ه ) موتها ( ط ) يسمعون ( ه ) لعبرة ( ط لأنه لو وصل اشتبه ما بعده بالوصف ) للشاربين ( ه ) حسناً ( ط ) يعقلون ( ه ) يعرشون ( ه ج للعطف ) ذللاً ( ط للعدول ) للناس ( ط ) يتفكرون ( ه ) شيئاً ( ط ) قدير ( ه .(4/273)
" صفحة رقم 274 "
التفسير : لما حكى عن القوم عظيم كفرهم وفظيع قولهم بين غاية كرمه وسعة رحمته حيث إنه لا يعاجلهم بالعقوبة فقال : ( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ( الآية. فزعم بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء أنه أضاف الظلم إلى ضمير الناس والأنبياء من جملة الناس فوجب أن يكونوا ظالمين عاصين ويؤكد هذا قوله : ( ما ترك عليها من دابة ( فإنه لو لم يصدر من الأنبياء ذنب لم يكن لإفنائهم وجه وحينئذ لم يصدق أنه لم يبق على الأرض واحد. والجواب لا نسلم عموم الناس في الآية لقوله سبحانه في موضع آخر ) فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ) [ لقمان : 32 ] ولا ريب أن المقتصدين والسابقين ليسوا ظالمين ، فإذن المراد بالناس إما كل العصاة الذين استحقوا العقاب ، أو الذين تقدم ذكرهم من المشركين. وأما قوله : ( من دابة ( فعن ابن عباس أنه أراد من مشرك يدب عليها نظيره قوله : ( إن شر الدواب عند الله الذين كفروا ) [ الأنفال : 55 ] ولو سلم أن المراد بها كل من يدب عليها فلعل الهلاك في حق الظلمة يكون عذاباً وفي غيرهم امتحاناً فقد وقعت هذه الواقعة في زمان وح عليه السلام. وأيضاً من المعلوم أنه لا أحد إلا وفي آبائه من يستحق العذاب ، فلو أهلكوا لبطل نسلهم ولأدى إلى إفناء الناس ، بل الدواب كلها لأن الدواب مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم. عن أبي هريرة أنه سمع رجلاً يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال : بلى والله حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم. وعن ابن مسعود : كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم. وقيل : لو يؤاخذهم لانقطع القطر وفي انقطاعه انقطاع النبت وفي انقطاع النبت فناء الدواب. قالت المعتزلة : في الآية دلالةعلى أن الظلم والمعاصي ليست من أفعال الله تعالى وإلا لم يؤاخذهم بها فرضاً ، ولم يضف الظلم إليهم ولم يذمهم على ذلك. وفي قوله : ( بظلمهم ( دليل على أن الظلم هو المؤثر في العقاب ، فإن الباء للعلية. وجواب الأشاعرة معلوم وهو أنه لا يسأل عما يفعل ، وأيضاً المعارضة بالعلم والدواعي ووجوب انتهاء الكل إليه. قال بعض الأصوليين : الأصل في المضار الحرمة لأن الضرر لا يجوز أن يكون مشروعاً ابتداء بالإجماع ولقوله تعالى : ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) [ الحج : 78 ] ( يريد الله بكم اليسر ) [ البقرة : 185 ] ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا ضرر ولا ضرار ) في الإسلام ( ملعون من ضر مسلماً ) ولا أن يكون مشروعاً على وجه يكون جزاء عن جرم سابق بهذه الآية لأن كلمة ( لو ) وضعت لانتفاء الشيء لانتفاء غيره. فالآية تقتضي أنه تعالى ما آخذ الناس بظلمهم وأنه ترك على ظهرها دابةن كما هو المشاهد إذا ثبت هذا الأصل فنقول : إذا وقعت حادثة مشتملة على المضار فإن وجدنا نصاً على كونها مشروعة قضينا به تقديماً للخاص على العام وإلا قضينا عليها بالحرمة بناء على هذا الأصل. ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن(4/274)
" صفحة رقم 275 "
يكون الضرر مشروعاً على وجه يقع جزاء عن جرم سابق والآية لا تنافي ذلك لأنها لا تدل إلا على أنه سبحانه لا يؤاخذ بكل ظلم. أما على أنه لا يؤاخذ ببعض أنواع الظلم فلا ، دليلة قوله : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ) [ الشورى : 30 ] ومنهم من قال : بناء على القاعد المذكورة إن كل ما يريده الإنسان وجب أن يكون مشروعاً في حقه لأن المنع منه ضرر والضرر غير مشروع ، وكل ما يكرهه الإنسان لزم أن يكون محرماً لأن وجوده ضرر وأنه غير مشروع. فالذي يتمسك به في إثبات الأحكام من القياس إما أن يكون على وفق هذه القاعدة أو على خلافها والأول باطل ، لأن هذا الأصل يغني عنه ، وكذا الثاني لأن النص راجح على القياس. ولقائل أن يقول : توارد الأدلة على المدلول الواحد غير ممتنع. أما قوله : ( ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ( فعن ابن عباس في رواية عطاء أنه يريد أجل القيامة لأن معظم العذاب يوافيهم يومئذ. وقيل : أراد منتهى العمر لأن المشركين يؤاخذون بالذنوب إذا خرجوا من الدنيا ، وباقي الآية قد مر تفسيرها في أوائل سورة الأعراف. واعلم أنه سبحانه قال في هذه السورة ) ما ترك عليها من دابة ( وفي سورة الملائكة ) ما ترك على ظهرها ) [ فاطر : 45 ] فالهاء كناية عن الأرض ولم يتقدم ذكرها ههنا والعرب تجوّز ذلك في كلمات لحصولها بين يدي كل متكلم وسامع منها الأرض والسماء : ( فلان أفضل من عيلها وأكرم من تحتها ) ، ومنها الغداة ( إنها اليوم لباردة ). ومنها الأصابع يقول : ( والذي شقهن خمساً من واحدة ) يعني الأصابع من اليد. وإنما لم يذكر الظهر في هذه السورة لئلا يلتبس بظهر الداب فكثيراً ما يستعمل الظهر بمعنى الدابة بخلاف سورة ( الملائكة ) فإنه قد تقدم ذكر الأرض في قوله : ( أو لم يسيروا في الأرض ) [ الآية : 44 ] وفي قوله : ( ولا في الأرض ) [ الآية : 44 ] فلم يكن ملتبساً. ويمكن أن يقال : لما قال ههنا ) بظلمهم ( لم يقل : ( على ظهرها ( وحين قال هنالك ) بما كسبوا ( قال : ( على ظهرها ( احترازاً عن الجميع بين الظاءين لأنها تقل في الكلام وليست لأمة من الأمم سوى العرب ، فلم يجمع بينهما في شرطية واحدة. ثم عاد إلى حكاية كلمتهم الحمقاء فقال : ( ويجعلون لله ما يكرهون ( لأنفسهم من البنات ولا يبعد أن يندرج فيه سائر ما يكرهون من الشركاء في الرياسة ومن الاستخفاف والتهاون برسلهم ورسالتهم ، وأنهم يجعلون أراذل أموالهم لله وأكرمها للأصنام. وعن بعضهم أنه قال لرجل من ذوي اليسار كيف تكون يوم القيامة إذا قال الله تعالى هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم فيؤتى بالدواب والثياب وأنواع الأموال الفاخرة ، وإذا قال هاتوا ما دفع إليّ فيؤتى بالكسر والخرق(4/275)
" صفحة رقم 276 "
وما لا يؤبه له ، أما تستحيي من ذلك الموقف ؟ ثم قال : ( وتصف ألسنتهم الكذب ( قال الفراء والزجاج : أبدل منه قوله : ( أن لهم الحسنى ( عن مجاهد أن الحسنى البنون كانت قريش يقولون لله البنات ولنا البنون. وقال غيره : هي الجنة أي إنهم مع جعلهم لله ما يكرهون حكموا لأنفسهم بالجنة والثواب من الله ، وأنهم يفوزون برضوان الله بسبب هذا القول زعماً منهم أنهم على الدين الحق والمذهب الحسن. وكيف يحكمون بذلك وكانوا منكرين للقيامة ؟ الجواب أنه كان فيهم من يقر بالبعث ولذلك كانوا يربطون البعير على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ظناً منهم أن الميت إذا حشر فإنه يحشر معه مركوبه ، وبتقدير أنهم كانوا منكرين فلعلهم قالوا إن كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً في دعوى الحشر والقيامة فإنه يحصل لنا الجنة والثواب بسبب هذا الدين الحق الذي نحن عليه نظيره ) ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ) [ فصلت : 50 ] ومن الناس من رجح هذا القول لأنه تعالى ردّ عليهم بعد ذلك بقوله : ( لا جرم أن لهم النار ( قال الزجاج : لا ردّ لقولهم أي ليس الأمر كما وصفوا. جرم أي كسب ذلك القول أن لهم النار ف ) أنَّ ( مع ما بعده في محل النصب لوقوع الكسب عليه. وقال قطرب : ( أن ) في موضع رفع والمعنى حق أن لهم الافتراء على الله. وجوّز أبو علي الفارسي أن يكون من أفراط أي صار ذا فرط مثل أجرب أي صار ذا جرب ، ومن قرأ بفتحها مخففة فهو من أفرطت فلاناً خلفى إذا خلفته ونسيته ، فالمعنى أنهم متروكون في النار منسيون. ومن قرأ بكسر الراء المشددة فهو من التفريط في الطاعات. وقرىء بفتح الراء المشددة من فرّطته في طلب الماء إذا قدمته وجاء أفرطته بمعناه أيضاً ، فالمراد أنهم مقدمون إلى النار معجلون إليها. ثم بين سبحانه أن مثل صنيع قريش قد صدر عن سائر الأمم فقال : ( تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ( أي رسلاً ) فزين لهم الشيطان أعمالهم ( قالت المعتزلة : لو كان خالق الأعمال هو الله تعالى فما معنى تزيين الشيطان ، ومن أي وجه توجه عليه الذم ، وأن خالق ذلك العمل أجدر بأن يكون ولياً لهم من الداعي إليه ؟ وأجيب بأن الوسائط معتبرة وانتهاء الكل إليه ضروري. قال جار الله : ( فهو وليهم اليوم ( حكاية الحال الماضية التي كان يزين لهم الشيطان أعمالهم فيها ، والمراد فهو وليهم أي قرينهم في الدنيا فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا أو اليوم عبارة عن يوم الآخرة الذي يعذبون فيه في النار ، فهو حكاية للحال الآتية ، ولولي الناصر أي هو ناصرهم يوم القيامة فقط ، والمراد نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه لأن الشيطان لا يتصوّر منه النصرة أصلاً ، وإذا كان الناصر منحصراً فيه(4/276)
" صفحة رقم 277 "
لزم أن لا نصرة بالضرورة. قال : ويجوز أن يرجع الضمير في ) وليهم ( إلى مشركي قريش وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم ، ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي فهو ولي أمثالهم اليوم. ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلا بعد إقامة الحجة وإزاحة العلة فقال : ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ( كالشرك والتوحيد والجبر والقدر والإقرار بالبعث والإنكار له ، وكتحريم الأشياء المحللة كالبحيرة والسائبة وتحليل الأشياء المحرمة كالميتة والدم. ) وهدى ورحمة ( انتصبا على أنهما مفعول لهما ولا حاجة إلى اللام لأنهما فعلا فاعل ، والفعل المعلل بخلاف التبيين فإنه فعل المخاطب لا فعل المنزل ولهذا دخل عليه اللام ، قال الكعبي : وصف القرآن بكونه هدى ورحمة ) لقوم يؤمنون ( لا ينافي كون كذلك في حق الكل. وخص المؤمنون بالذكر من حيث إنهم قبلوه وانتفعوا به. ولما امتد الكلام في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الإلهيات فقالك ) والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ( وفي العنكبوت : ( من بعد موتها ) [ الآية : 63 ] لأن هنالك سؤال تقرير يحتاج إلى التحقيق فقيد الظرف ب ( من ) للاستعياب. وأيضاً حذف ( من ) في هذه السورة موافقة لقوله عما قريب : ( لكيلا يعلم بعد علم شيئاً ( وإنما حذف ( من ) هنا بخلاف ما في الحج لأنه أجمل الكلام في هذه السورة فقال : ( والله خلقكم ثم يتوفاكم ( وأطنب في الحج فقال : ( خلقناكم من تراب ثم من نطفة ) [ الحج : 5 ] الآية. فاتقضى الإيجاز الحذف والإطناب الإثبات ) إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ( سماع تأمل وتدبر فمن لم يسمع متدبراً فكأنه أصم ، ثم استدل بعجائب أحوال الحيوانات قائلاً : ( وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ( وفي سورة المؤمنين : ( مما في بطونها ) [ الآية : 21 ] فذكر النحويون أن الأنعام من جملة الكلمات التي لفظها مفرد ومعناها جمع كالرهط والقوم والنعم. فجاز تذكيره حملاً على اللفظ وتأنيثه حملاً على المعنى. قال المبرد : هذا شائع في القرآن قال تعالى : ( فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ) [ الأنعام : 78 ] بمعنى هذا الشيء الطالع. وقال : ( كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره ) [ عبس : 11 ] أي ذكر هذا الشيء. وعند سيبويه الأنعام من الأسماء المفردة الواردة على أفعال. وجوّز في الكشاف أن يكون تأنيثه على أنه تكسير نعم. وقيل : إن الأنعام بمعنى النعم لأن الألف واللام تلحق الآحاد بالجمع والجمع بالآحاد. قلت : ما ذكره الأئمة حسن إلا أنه لا يقع جواباً عن التخصيص. ولعل السر فيه أن الضمير في هذه السورة يعود إلى البعض وهو الإناث ، لأن اللبن لا يكون للكل فالتقدير. وإن لكم في بعض الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ، وأما في ( المؤمنين ) فإنه لما عطف(4/277)
" صفحة رقم 278 "
عليه ما يعود على الكل ولا يقتصر على البعض وهو قوله : ( ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها ) [ المؤمنون : 22 ] لم يتحمل أن يكون المراد به البعض فأنث ليكون نصاً على أن المراد بها الكل. ورى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : إذا استقر العلف فى الكرش صار أصفله فرثاً وأعلاه دماً وأوسطه لبناً خالصاً فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث كما هو فذاك هو قوله تعالى : ( من بين فرث ودم لبناً خالصاً ( لا يشوبه الدم ولا الفرث. وأنكر الأطباء هذا القول لأنه على خلاف الحس والتجربة. أما الحس فلأن الأنعام تذبح ذبحاً متوالياً ولا يرى في كرشها دم ولا لبن ، وأما التجربة فلأن الدم لو كان يف أعلى المعدة والكرش كان يجب إذا قاء أن يقيء الدم وليس كذلك ، بل الحق أن الحيوان إذا تناول العلف حصل له في معدته أو كرشه هضم أوّل ، فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد ، وما كان كثيفاً نزل إلى الأمعاء. ثم الذي يحصل في الكبد ينطبخ فيها ويصير دماً وذلك هو الهضم الثاني. ويكون مخلوطاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية. أما الصفراء فتذهب إلى المرارة ، والسوداء إلى الطحال ، والماء إلى الكلية ، ومنها إلى المثانة. وأما الدم فإنه يدخل في الأوردة وهي العروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث. وبين الكبد والضرع عروق كثيرة فينصب الدم في تلك العروق إلى الضرع وهو لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله الدم هناك إلى صورة اللبن ، وإنما اختص هذ المعنى بالحيوان الأنثى لأن الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به ، والذكر من كل حواين أسخن واجف ، والأنثى أبرد وأرطب لأن بدن الأنثى يحتاج إلى مزيد رطوبة لتصير مادة لتولد الولد ويتسع بدنها له. ثم إن تلك الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في الرحم تنصب بعد انفصال الجنين إلى الثدي لتصير مادة لغذاء الطفل. واعلم أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثفل الغذاء ، فإذا تناول الإنسان غذاء أو شربة رقيقة انطبق ذلك المنفذ انطباقاً كلياً إلى أن يكمل انهضامه في المعدة وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ، ويبقى الثفل هناك فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ وينزل منه ذلك الثفل فهذا الانطباق والانتفاح بحسب الحاجة وبقدر المنفعة مما لا يتأتى إلى بتقدير الفاعل الحكيم. وأيضاً إنه أودع في الكبد قوّة جاذبة للأجزاء اللطيفة التي في ذلك المأكول والمشروب طابخة لها حتى تنقلب دماً دون الأجزاء الكثيفة وفي المعدة بالعكس ، وأودع في المرارة قوة جاذبة للصفراء ، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائية ، وتخصيص كل واحد من هذه الأعضاء بفعله الخاص به لا يمكن إلا بتدبير العليم الخبير. وكذا الكلام في انصباب مادة اللبن إلى الثدي في وقت يحتاج الطفل إلى الغذاء وتوزعها على جميع البدن في غير ذلك الوقت. ثم إنه تعالى(4/278)
" صفحة رقم 279 "
أحدث في حلمة الثدي ثقوباً صغيرة يخرج اللبن الخالص منها وقت المص أو الحلب فهي بمنزلة المصفاة للبن يخرج اللطيف منها ويبقى الكثيف ، فبهذا الطريق يصير خالصاً سائغاً للشابين أي سهل المرور في الحلق حتى قيل إنه لم يغص أحد باللبن قط. ومن عجائب حال اللبن اجتماعه من أجسام مختلفة الطبائع مع أنها واحدة في الحس. فمنها الدهن وهو حار رطب ، ومنها الأجزاء المائية وهي باردة رطبة ، ومنها الجبن وهو بارد يابس وكلها حاصلة من عشب واحد. ثم إنه تعالى ألهم الطفل الصغير مص الثدي عند انفصاله من الأم وكل ذلك دليل على عناية كاملة ورحمة شاملة وعلم تام وقدرة باهرة. قال المحققون : في تقليب العشب في هذه الأطوار إلى أن يصير لبناً خالصاً سائغاً دليل على أنه تعال قادر على تقليب الإنسان في أطواره إلى أن يصير مستعداً للبقاء الأبدي واللقاء السرمدي. قال جار الله : و ( من ) في ) مما في بطونه ( للتبعيض و ( من ) في قوله : ( من بين فرث ( لابتداء الغاية فهو صلة ) لنسقيكم ( كقولك : ( سقيته من الحوض ). وجوز أن يكون حالاً من قوله : ( لبناً ( مقدماً عليه فيتعلق بمحذوف أي كائناً من بين كذا وكذا. وإنما قدم لأنه موضع العبرة فهو جدير بالتقديم. قالت الشافعية : ليس بمستنكر أن يسلك المني مسلك البول وهو طاهر كما أنه يخرج اللبن من بين الفرث والدم طاهراً. وأما قوله : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب ( فإما أن يتعلق بمحذوف أي ونسقيكم من ثمرات النخيل ومن الأعناب غذا عصرت وحذف لدلالة ما تقدم عليه فيكون قوله : ( تتخذون منه ( بياناً وكشفاً عن كنه حقيقة الاستقاء ، وإما أن يتعلق ب ) تتخذون ( فيكون قوله : ( منه ( تكريراً للظرف لأجل التأكيد نظيره قولك : ( زيد في الدار فيها ) وإنما ذكر الضمير في ) منه ( لأنه يعود إلى المذكور أو إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير كأنه قيل : ومن عصير ثمرات النخيل ومن عصير الأعناب تتخذون منه ، واحتمل أن يكون ) تتخذون ( صفة موصوف محذوف كقوله : ( وما منا إلا له مقام معلوم ) [ الصافات : 164 ] أي وما منا إلا ملك فالتقدير : ومن ثمرات النخيل ومن الأعناب ثمر. ) تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً ( لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر وهو الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو رشد ورشداً. وعلى هذا التفسير ففي الآية قولان : أحدهما - ويروى عن الشعبي والنخعي - أنها منسوخة فإن السورة مكية وتحريم الخمر نزل في المائدة وهي مدنية ، وثانيهما أنها جامعة بين العتاب والمنة. وذكر المنفعة لا ينافي الحرمة على أن في الآية تنبيهاً على الحرمة أيضاً لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر ، فوجب في السكر أن لا يكون رزقاً حسناً لا بحسب الشهوة بل بحسب(4/279)
" صفحة رقم 280 "
الشريعة. هذا ما عليه الأكثرون. وقيل : السكر النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ، ثم يترك حتى يشتد وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر. واحتج بأن الآية دلت على أن السكر حلال لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام والمنة ، ودل الحديث على أن الخمر حرام لعينها وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئاً غير الخمر ، وكل من أثبت هذه المغايرة قال إنه النبيذ المطبوخ. ويحكى عن أبي علي الجبائي أنه صنف كتاباً في تحليل النبيذ ، فلما آخذت منه السن العالية قيل له : لو شربت منه ما تتقوّى به فأبى فقيل له : فقد صنفت في تحليله. فقال : تناولته أيدي الشيطان فقبح عند ذوي المروءات والأقدار. وقيل : السكر الطعم قاله أبو عبيدة. وقيل : السكر والرزق الحسن واحد كأنه قيل : تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن. ومن أعجب أحوال الحيوان حال النحل المناسب عسلها اللبن في موافقة اللذة وفي الخروج من البطن فلذلك أفردها بالذكر عقيب ذلك قائلاً : ( وأوحى ربك ( يا محمد أو يا إنسان إلى النحل أي ألهمها وعلمها على وجه هو أعلم به ، ولقد حق لغريب أمرها وعجيب صنعتها أن يطلق عليه لفظ الإيحاء وذلك أنها تبني البيوت المسدسة من الأضلاع المتساويات التي لا يمكن للعقلاء تركيب أمثالها إلا بالمساطر والفرجات ، وقد علم من الهندسة أن تلك البيوت لو كانت مشكلة بما سوى المسدسات فإنه يبقى بالضرورة فيما بينها فرج خالية ضائعة. فاهتداء ذلك الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الدقيقة من الأعاجيب. ومن غرائب أمرها أن لها رئيساً هو أعظم جثة من الباقين وهم يخدمونه يوتبعون نهيه وأمره ، ومنها أنها إذا نفرت عن وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطبول والملاهي وآلات الموسيقى وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى أوكارها. وبالجملة فإن غرائب هذا الحيوان أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تخفى ، والغرض أن امتياز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على الذكاء والكياسة حالة شبيهة بالوحي بمعنى الإلهام. قال الزجاج : يجوز أن يقال سميت نحلاً لأنه تعالى نحل الناس العسل بواستطها وهي مؤنثة في لغة أهل الحجاز ولذلك قال تعالى : ( أن اتخذي ( وهي ( أن ) المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول. ومعنى ( من ) في قوله : ( من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ( أي يبنون ويرفعون البعضية لأنها لا تبني بيوتاً في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ، ولكنها تبني في مساكن توافقها وتليق بها وكثيراً ما يتعهدها الناس وتصلح أحوالها ) ثم كلي من كل الثمرات ( أي بعضاً من كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها ) فاسلكي سبل ربك ( أي الطريق التي ألهمك(4/280)
" صفحة رقم 281 "
وفهمك في عمل العسل ) ذللاً ( جمع ذلول وهي حال من السبل لأن الله ذللها لها وسهلها عليها ، أو من الضمير في ) فاسلكي ( أي وأت ذلك منقادة لما أمرت به غير ممتنعة ، أو المراد فاسلكي ما أكلت في سبل ربك المذللة أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المن عسلاً وهي أجوافك ومنافذ مأكلك ، أو أراد أنك إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها. فقد يحكى أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة. ويجوز أن يريد بقوله : ( ثم كلي ( اقصدي أكل الثمرات ) فاسلكي ( في طلبها من مظانها ) سبل ربك (. واعلم أن ظاهر قوله : ( أن اتخذي ( ) فاسلكي ( أمر. فمن الناس من قال لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول يتوجه بها عليها من الله أمر ونهي ، ومنهم من أنكر ذلك وقال : المراد أنه سبحانه خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال. وتمام الكلام فيه سيجيء في سورة النمل. أما حدوث العسل من النحل فالأصح عند الأطباء أن الله تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع على أوراق الأشجار فقد يكون كثيراً يجتمع منه أجزاء محسوسة وهي الترنجبين ونحوه ، وقد يكون قليلاً متفرقاً على الأوراق والأزهار وهو الذي ألهم الله تعالى هذا النحل فتلتقط تلك الذرّات بأفواهها وتأكلها وتغتذي بها فإذا شبعت التقطت مرة أخرى وذهبت بها ووضعتها في بيوتها ادخاراً لنفسها ، فإذا اجتمع في بيوتها شيء محسوس من تلك الأجزاء الطلية فذاك هو العسل. ولا يبعد أن يحصل لتلك الأجزاء في أفواهها نوع هضم وتغير ونضج لخاصية فيها فلذلك قال : ( يخرج من بطونها ( أي من أفواهها. ومن الناس من زعم أن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرية ما شاءت ، ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنه عسلاً ، ثم إنه يقيء مرة أخرى فذلك هو العسل. قال العقلاء : والقول الأول أقرب إلى التجربة والقياس : فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ، ولا شك أنه طل محدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا العسل. وأيضاً النحل إنما تغتذي بالعسل ولهذا يترك منه بقية في بيوتها بعد الأشتيار. ولكن قوله تعالى : ( يخرج من بطونها شراب ( أي ما يشرب يعضد القول الثاني. وقوله : ( مختلف ألوانه ( أي منه أبيض وأصفر وأحمر وأسود بحسب اختلاف الأماكن وأمزجة النحل واختلاف الأزهار والأعشاب التي ترعى فيها. ثم وصفه بقوله : ( فيه شفاء الناس ( لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة ولذا يقع في أكثر(4/281)
" صفحة رقم 282 "
المعاجين. وتنكير ) شفاء ( لتعظيم الشفاء الذي فيه ، أو لأن فيه بعض الشفاء فإن كل دواء كذلك. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن رجلاً جاء إليه فقال : إن أخي يشتكي بطنه. فقال : اسقه العسل. فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع. فقال : اذهب فاسقه عسلاً فقد صدق الله وكذب بطن أخيك. فسقان فشفاه الله فبرأ كأنما نشط من عقال. قال أهل المعاني : إنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان عالماً بأنه سيظهر نفعه فلهذا قال : كذب بطن أخيك حين لم يظهر النفع في الحال. وعن عبد الله بن مسعود : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور ، فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل. واعلم أنه سبحانه ختم الآية الأولى بقوله : ( لقوم يسمعون ( لأن إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بسببه أمر مشاهد محسوس فمنكر ذلك فاقد الحس ، وإنما خص بالذكر حس السمع لأن لفظ لاقرآن المنبه على هذه الآية مسموع. وختم الآية الثانية بالعقل لأنه يحتاج إلى نوع تدبر فالمعرض عنه فاقد العقل دون الحس. وختم الثالثة بالتفكر لأن أمر النحل وقصتها العجيبة من انقيادها لأميرها واتخاذها البيوت على أشكال يعجز عنها الحاذق منا ، ثم تتبعها الزهر والطل ثم خروج ذلك من بطونها لعاباً أو قيئاً يقتضي فكرة بليغة. ولما ذكر بعض عجائب أحوال الحيوان أتبعه عجيب خلق الإنسان فقال : ( والله خلقكم ( ولم تكونوا شيئاً ) ثم يتوفاكم ( عند انقضاء آجالكم ) ومنكم من ير إلى أرذل العمر ( إلى أخسه وأحقره. عن علي رضي الله عنه هو خمس وسبعون سنة. وعن قتادة تسعون سنة. وقال السدي : هو حالة الخرف دليله قوله : ( لكيلا يعلم بعد علم شيئاً ( أي ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفل في النسيان وعدم التذكر وقيل : لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئاً أي لا يعلم زيادة علم على علمه. وقيل : إن الرد إلى أرذل العمر ليس في المسلمين والمسلم لا يزداد بسبب العمر إلا كرامة على الله تعالى ونظير الآية قوله : ( ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) [ التين : 5 ، 6 ] واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع : أوّلها سن النشوء ، وثانيها سن الوقوف وهو سن الشباب ، وثالثها الانحطاط الخفي اليسير وهو سن الكهولة ، ورابعها سن الانحطاط الظاهر وهو سن الشيخوخة. وذكر الأطباء وأصحاب الطبيعي أن بدن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث وهما جوهران حارّان رطبان ، والحرارة إذا عملت في الجسم الرطب قلت رطوبته فلا يزال في هذين الجوهرين من قوة الحرارة يقلل ما في العضو من الرطوبة حتى يتصلب ويظهر العظم والغضروف العص والوتر والرباط وسائر الأعضاء ، فإذا تم تكوين البدن وكمل فعند ذلك ينفصل الجنين من رحم(4/282)
" صفحة رقم 283 "
الأم وتكون رطوبة البدن بعد زائدة على حرارته ، فتكون الأعضاء قابلة للتمدد والازدياد والنماء وهو سن النشو وغايته إلى ثلاثين سنة ، ثم تصير رطوبات البدن أقل وتكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية الأصلية إلا أنها لا تكون زائدة على هذا القدر وهو سن الوقوف والشباب وغايته وحينئذ يظهر النقصان قليلاً إلى ستين سنة وهي سن الكهولة ، ثم يظهر جداً إلى تمام مائة وعشرين سنة. قال المتكلمون : هذا التعليل ضعيف لأن رطوبات البدن في في حال كونه منياً ودماً كانت كثيرة ولذلك كانت الحرارة الغريزية مغمورة ، ثم إنها مع ذلك كانت قوية على تحليل أكثر الرطوبات حتى نقتلها من حد الدموية والمنوية إلى أن صارت عظماً وغضروفاً وعصباً ورباطاً ، فعندما تولدت الأعضاء وكمل البدن وقلت الرطوبات وجب أن تقوى الحرارة الغريزية قوّة أزيد مما كانت قبل ذلك فوجب أن يكون تحليل الرطوبات بعد تولد البدن وكماله أكثر من تحليلها قبل تولد البدن وليس الأمر كذلك ، لأنه قبل تول البدن انتقل جسم الدم والمني إلى أن صار عظماً وعصباً ، أما بعد تولد بتدبير قادر حكيم لا لأجل ما قالوه. وبوجه آخر عشيره ، فعلمنا أن البدن إنما يتولد بتدبير قادر حكيم لا لأجل ما قالوه. وبوجه آخر الحرارة الحاصلة في بدن الإنسان الكامل الغريزة إما أن تكون هي عين ما كان حاصلاً في جوهر النطفة ، أو صارت أزيد مما كانت. والأول باطل لأن الحار الغريزي الحاصل في جوهر النطقة كان بمقدار جرم النطفة ، فإذا كبر البدن وجب أن لا يظهر منه في هذا البدن تأثير أصلاً. وأما الثاني فيه تسليم أن الحرارة تتزايد بحسب تزايد الجثة ، ولا ريب أن تزايدها يوجب تزايد القوة والصحة ساعة فساعة فيلزم أن لا ينهدم البدن الحيواني أبداً وليس كذلك. وبوجه ثالث هب أن الرطوبة الغريز صارت معادلة للحرارة الغريزية فلم قلتم إن الحرارة الغريزية يجب أن تصير أقل مما كانت حتى ينتقل الإنسان من سن الشباب إلى سن النقصان ؟ قالوا : السبب فيه أنه إذا حصل هذا الاستواء فالحرارة الغريزية أيضاً لأن تؤثر في تجفيف الرطوبة الغريزية فتقل الرطوبات الغريزية حتى صارت بحث لا تفي بحفظ الحرارة الغريزية ، وإذا حصلت هذه الحال ضعفت الحرارة الغريزية توجب قلة الرطوبة الغريزية وقلتها إلى أن لا يبقى من الرطوبة شيء ، لأن الحرارة الغريزية توجب قلة الرطوبة الغريزية وقلتها توجب ضعف الحرارة الغريزية فيلزم من ضعف إحداهما ضعف الأخرى فتنطفىء الحرارة أيضاً ويحصل الموت وأورد عليهم أن الحرارة إذا أُرت في تجفيف الرطوبة وقلتها فلم ل(4/283)
" صفحة رقم 284 "
ا يجوز أن تورد القوة الغاذية بدلها ؟ فأجابوا بأ نالقوة الغاذية لا تفي بإيراد البدل. قال الإمام فخر الدين الرازي راداً عليهم. إن القوة الغاذية إنما تعجز عن هذا الإيراد إذا كانت الحرارة الغريزية ضعيفة وذلك ممنوع ، وإنما تكون الحرارة عن هذا ضعيفة أن لو قلت الرطوبة الغريزية ، وإنما تحصل هذه القلة إذا عجزت الغاذية عن إيراد البدل وهذا دور محال ، فيثبت أن إسناد هذه الأحوال إلى الطبائع والقوى غير ممكن فيعين إسنادها إلى القادير المختار الحكيم ، ولهذا ختم الآية بقوله : ( إن الله عليم قدير ( يعلم مقادير المصالح والمفاسد ويقدر على تحصيلها كما يريد. وأما الطبيعة فجاهلة عاجزة. قلت : لا شك أن نسبة هذه الأمور إلى مجرد الطبيعة كفر وجهل ، لأنها ليست واجبة الوجود بالاتفاق ولكن إنكار القوى والطبائع أيضاً بعيد عن الإنصاف. والحق أنها وسائط وآلات لما فوقها من المبادىء والعلل إلى أن ينتهي الأمر إلى مسبب الأسباب ومبدأ الكل ، وقد ثبت عند الحكيم أن كل قوة جسمانية فإنها متناهية الأثر فلا محالة تعجز القوة الغاذية آخر الأمر عن إيراد بدل ما يتحلل فيحل الأجل بتقدير العليم القدير. التأويل : ( ولو يؤاخذ الله ( النفوس الناسية ) بما ظلمت ( على القلوب والأرواح ) ما ترك على ( أرض البشرية صفة من صفات الحيوانية. ولكن يؤخر أهل السعادة إلى أجلهم وهو إفناء صفات النفس بصفات القلب والروح في حينه وأوانه ، ويؤخر أهل الشقاء إلى أوان العكس من ذلك. ويعلون لله ما يكرهون ( أي يعاملون الله بأعمال يكرهون أن يعاملهم بها غيرهم وتسوّل لهم أنفسهم أن تلك المعاملة حسنة. والله أنزل من سماء العزة ماء بيان القرآن فأحيا به أرض قلوب الأمم بعد موتها باختلافهم على أنبيائهم ) إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ( كلام الله من الله ) وإن لكم في الأنعام ( النفوس ) لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بيت فرث ( الخاطر الشيطاني ) ودم ( الخاطر النفساني ) لبناً خالصاً ( من الإلهام الرباني سائغاً للشاربين ( جائزاً لأهل هذا الشرب ) ومن ثمرات ( نخيل الطاعات وأعناب المجاهدات ) تتخذون منه سكراً ( هو ما يجعل منها شرب النفس فتسكر النفس فتارة تميل عن الحق والصراط المستقيم ميلان السكران ، وتارة تظهر رعوناتها بالأفعال والأحوال رياء وسمعة وشهوة. والرزق الحسن ما يكون منه شرب القلب والروح فيزداد منه الشوق والمحبة والصدق والطلب : شربت الحب كأساً بعد كأس
فما نفد الشراب وما رويت
) وأوحى ربك إلى النحل ( إشارة إلى حال السالك السائر ) أن اتخذي من الجبال بيوتاً ( أراد الاعتزال عن الخلق والتبتل إلى الله. كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتحنث في غار حراء أ(4/284)
" صفحة رقم 285 "
سبوعاً وأسبوعين وشهراً ، ولا بد أن يتنظف كما أن النحل يحترز عن التلوث. وفيه أن نحل الأرواح اتخذت من جبال النفوس بيوتاً ومن شجر القلوب ومما يعرشون من الأسرار ) ثم كلي من الثمرات فسلكي سبل رب ( نظير قوله : ( كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ) [ المؤمنون : 51 ] فثمرات البدن الأعمال الصالحات ، وثمرات النفوس الرياضيات ومخالفات الهوى ، وثمرات القلوب ترك الدنيا والتوجه إلى المولى ، وثمرات الأسرار شواهد الحق والتطلع على الغيوب والتقرب إلى الله ، وهذه كلها أغذية نحل الأرواح فإنها بقوّة هذه الأغذية تسلك السبل إلى أن تصل إلى المقعد الصدق عند مليكها ، فيكون غذاؤها مكاشفات الحق ومشاهداته فتبيت عند ربها يطعمها ويسقيها ، فحينئذ يخرج من بطونها شراب الحكم والمواعظ مختلف الألوان من المعاني والأسرار والدقائق والحقائق ) فيه شفاء ( للقلوب الناسية القاسية عن ذكر الله ) والله خلقكم ( أخرجكم من العدم إلى الوجود ) ثم يتوفاكم ( عن الوجود المجازي ) ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ( وهو مقام الفناء في الله ) لكيلا يعلم ( بعد فناء علمه شيئاً يعلمه بل يعلم بربه الأشياء كما هي والله أعلم بالصواب. ( النحل : ( 71 - 83 ) والله فضل بعضكم . . . .
" والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل(4/285)
" صفحة رقم 286 "
لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون "
( القراآت )
تجحدون ( بتاء الخطاب : أبو بكر وحماد. الآخرون على الغيبة. ) من بطون إمهاتكم ( ونحوها بكسر الهمزة وفتح الميم : عليّ. ) إمهاتكم ( بكسرهما : حمزة. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم. ) ألم تروا ( على الخطاب : ابن عامر وحمزة وخلف وسهل ويعقوب ) ظعنكم ( بسكون العين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر الباقون بفتحتها. الوقوف : ( في الرزق ( ج لاختلاف الجملتين مع الفاء ) سواء ( ط ) يجحدون ( ه ) من الطيبات ( ط ) يكفرون ( ه لا للعطف ) ولا يستطيعون ( ه ج لابتداء النهي مع فاء التعقيب ) الأمثال ( ط ) لا تعلمون ( ه ) وجهراً ( ط ) هل يستوون ( ط ) الحمد لله ( ط لأن ( بل ) للإعراض عن الأول. ) لا يعلمون ( ه ) مولاه ( لا لأن الجملة بعده صفة أحدهما ) بخير ( ط ثم لا وقف إلى مستقيم لاتحاد الكلام ) والأرض ( ط ) أقرب ( ط ) قدير ( ه ) شيئاً ( لا للعطف ) والأفئدة ( لا لتعلق ) لعلكم تشكرون ( ه ) السماء ( ط للفصل بين الاستخبار والإخبار ) إلا الله ( ط ) يؤمنون ( ه ) إقامتكم ( لا لوقوع ) جعل ( على ) أثاثاً ( ) إلى حين ( ه ) باسكم ( ط ) تسلمون ( ه ) المبين ( ه ) الكافرون ( ه. التفسير : لما بين خلق الإنسان وتقلبه في أطوار مراتب العمر أراد أن يذكره طرفاً من سائر أحواله لعله يتذكر فقال : ( والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق ( ولا ريب أن ذلك أمر مقسوم من قبل القسام وإلا لم يكن الغافر رخي البال والعاقل ردي الحال ، وليس هذا التفاوت مختصاً بالمال وإنما هو حاصل في الحسن والقبح والصحة والسقم وغير ذلك ، فلرب ملك تقاد الجنائب بين يديه ولا يمكنه ركوب واحدة منها ، وربما أحضرت الأطعمة الشهية والفواكه العطرة عنده ولا يقدر على تناول شيء منها ، وربما نرى أنساناً كامل القوة صحيح المزاج شديد البطش ولا يجد ملء بطنه طعاماً. وللمفسرين في الآية قولان : أحدهما أن المراد تقرير كون السعادة والنحوسة والغنى والفقر بقسمة الله تعالى ، وأنه جعل بعض الناس موالي وبعضهم مماليك وليس المالك رازقاً للعبد وإنما الرازق للعبد والمولى هو الله ، فلا تحسبن الموالي المفضلين أنهم يرزقون مماليكهم من(4/286)
" صفحة رقم 287 "
عندهم شيئاً منالرزق وإنما ذلك رزقي لهم أجريته لهم على أيديهم. وثانيهما أن المراد الرد على من أثبت لله شريكاً كالصنم أو كعيسى ، فضرب له مثلاً فقال : أنتم لا تسوّون المطعم والملبس. فالفاء في قوله : ( فهم فيه سواء ( للتعليل. ولك أن تقول بمعنى ( حتى ) أي حتى يكون عبيدهم معهم سواء في الرزق ، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء ؟ عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول في العبيد : ( إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون ) فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت ) أفبنعمة الله ( وهي أنه جعلهم موالي مفضلين لا عبيداً مفضولين ) يجحدون ( أو جعل عدم التسوية بينهم وبين عبيدهم من جملة جحود النعمة ، أو جعل اعتقاد أهلية العبادة لغير الله كفراً بنعمة الله والجحود في معنى الكفران فلذلك عداه بالباء. قال أبو عبيدة وأبو حاتم. قراءة الغيبة - وهي الكثرى - أولى لقرب المخبر عنه ، ولأنه لو كان خطاباً كان ظاهره للمسلمين وإنهم لا يخاطبون بجحد نعمة البتة. الحالة الأخرى من أحوال الإنسان قوله عم طوله : ( والله جعل لكم من أنفسكم ( أي من جنسكم ) أزواجاً ( ليكون الأنس به أتم. ولا ريب أن تخليق الذكور والإناث مستند إلى قدرة الله وتكوينه. والطبيعيون قد يذكرون له وجهاً قالوا : إن لمني إذا انصب من الخصية اليمنى إلى الذكر ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكراً تاماً في الذكورة بناء على أن الذكر أسخن مراجاً وكذا الجانب الأيمن ، وإن انصب من الخصية اليسرى إلى الجانب الأيسر من الرحم كان الولد تاماً في الأنوثية ، وإذا انصب من اليمنى إلى الأيسر كان ذكراً في طبيعة الإناث ، وإن كان بالعكس كان بالعكس. قال الإمام فخر الدين الرازي : هذه العلة ضعيفة فقد رأينا في النساء من كان مزاجه في غاية السخونة وفي الرجال من كان في غاية البرودة. ولقائل أن يقول : الكلام في المزاج الصنفي لا في المزاج الشخصي ، وهذا الإمام لم يفرق بينهما فاعترض بأحدهما على الأخر. ) وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ( أصل الحفد الإسراع في الخدمة. والفاعل حافد والجمع حفدة. فقيل : أراد بها في الآية الأختان على البنات. وقيل : أولاد الأولاد. وقيل : أولاد المرأة من الزوج الأوّل وقيل : الخدم والأعوان. وقيل : البنون أنفسهم الجامعون بين(4/287)
" صفحة رقم 288 "
الأمرين البنوّة والخدمة. وقيل : الأولى دخول الكل فيه. ثم ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة لأن لذة المنكوح لا تهنأ إلا بعد الفراغ من لذة المطعوم أو بعد الفراغ من تحصيل أسبابهها. وأورد ( من ) التبعيضية لأن لذة كل الطيبات لا تكون إلا في الجنة. ثم ختم الآية بقوله : ( أفبالباطل يؤمنون ( فقيل : الباطل هو ما اعتقدوه من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها ونعمة الله ما عدده في الآيات السابقة. وقيل : الباطل ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ، ونعمة الله ما أحل لهم. وإنما قال ههنا : ( وبنعمة الله هم يكفرون ( وفي آخر ( العنكبوت ) ) وبنعمة الله يكفرون ) [ الآية : 67 ] لأن تلك الآيات استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب. وأما في الآية فقد سبق مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب. ولما عدّد بعض الآيات الدالة على الإقرار بالتوحيد أنكر صنيع أهل الشرك عليهم قائلاً ) ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً ( قال جار الله : إن كان بمعنى المصدر تنصبت به شيئاً أي لا يملك أن يرزق شيئاً ، وإن أردت المرزوق كان شيئاً بدلاً منه بمعنى قليلاً أو يكون تأكيداً للا يملك أي لا يملك شيئاً من الملك. و ) من السموات والأرض ( صلة للرزق إن كان مصدراً بمعنى لا يرزق من السموات مطراً ولا من الأرض نباتاً وصفة إن كان اسماً لما يرزق. أما الضمير في ) ولا يستطيعون ( فعائد إلى ما بعد أن قيل لا يملك على اللفظ المفرد وجمع بالواو والنون بناء على زعمهم أن الأصنام آلهة. والفائدة في نفي الاستطاعة عنهم أن من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعة أن يتملك بطريق من الطرق ، فبيّن تعالى أنها لا تملك ولا تستطيع تحصيل الملك. وجوّز في الكشاف أن يكون الضمير للكفار أي لا يستطيع هؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون فكيف بالجماد الذي لا حس له ؟ ) فلا تضربوا لله الأمثال ( أي لا تشبهوه بخلقه فإن ضارب المثل مشبه حالاً بحال وقصة بقصة. وقال الزجاج : لا تجعلوا لله مثلاً لأنه واحد لا مثل له. وكانوا يقولون إن إله العالم أجل من أن يعبده الواحد منا فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب ، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك ، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن غير الحنيفية والإخلاص. وعلل النهي بقوله : ( إن الله يعلم ( ما عليكم من العقاب ) وأنتم لا تعلمون ( ما في عبادتها من العذاب. وفيه أن القياس الذي توهموه ليس بصحيح والنص يجب تقديمه على ذلك. وقيل : إن الله يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون. ثم علمهم كيف تضرب فقال : ( ضرب الله مثلاً ( ثم أبدل من المثل قوله : ( عبداً مملوكاً ( لا حراً فإن جميع الناس عبيد لله فلا يلزم من كونه عبداً مملوكاً. وقوله : ( لا يقدر على(4/288)
" صفحة رقم 289 "
شيء ( ليخرج العبد المأذون والمكاتب فإنهما يقدران على التصرف. احتج الفقهاء بالآية على أن العبد لا يملك شيئاً وإن ملكه السيد لأن قوله : ( لا يقدر ( حكم مذكور عقيب الوصف المناسب ، فدل على أن العبدية إينما وجدت فهي علة للذلك والمقهورية وعدم القدرة ، فثبت العموم وهو أن كل عبد فهو لا يقدر على التصرف. وأيضاً قوله : ( ومن رزقناه منا رزقاً حسناً ( يقتضي أن لا يحصل للقسم الأوّل هذا الوصف. فلو ملك العبد شيئاً ما صدق عليه أن الله قد آتاه الرزق الحسن فلم يثبت الامتياز ، والأكثرون على أن عدم اقتدار العبد مخصوص بمالهتعلق بالمال. وعن ابن عباس أنه لا يملك الطلاق أيضاً. قال جار الله : الظاهر أن ( من ) في قوله : ( ومن رزقناه ( موصوفة كأنه قيل : وحراً رزقناه ليطابق عبداً. ولا يمتنع أن تكون موصولة. وجمع قوله : ( هل يستوون ( لأنه أراد الأحرار والعبيد. وللمفسرين في مضرب المثل أقوال : فالأكثرون على أنه أراد أنا لو فرضنا عبداً مملوكاً لا يقدر لى شيء ، وفرضنا حراً كريماً غنياً كثير الإنفاق سراً وجهراً ، فصريح العقل يشهد بأنه لا يجوز التسوية بينهما مع استوائهما في الخلقة والصورة ، فكيف يجوز للعاقل أن يسوّى بين الله القادر على الرزق والإفضال وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر ألبتة ؟ وقيل : العبد المملوك هو الكافر المحروم عن طاعة الله وعبوديته ، والآخر هو المؤمن المشتغل بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله. والغرض أنهما لا يستويان في الرتبة والشرف والقرب من رضوان الله. وقيل : العبد هو الصنم لقوله : ( إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً ) [ مريم : 93 ]. والثاني عابد الصنم. والمراد أنهما لا يستويان في القدرة والتصرف. لأن الأوّل جماد وهذا إنسان فكيف يجوز الحكم بأن الأول مساوٍ لرب العالمين ؟. ) الحمد لله ( قال ابن عباس : أراد الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد. وقيلك معناه كل الحمد لله وليس شيء من الحمد للأصنام لأنه لا نعمة لها على أحد ) بل أكثرهم لايعلمون ( أن كل الحمد لي. وقيل : أراد قل الحمد لله. والخطاب إما للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإما لمن رزقه الله رزقاً حسناً وميزه بالقدرة والأختيار والتصرف من العبد الذليل الضعيف. وقيل : لما ذكر مثلاً مطابقاً للغرض كاشفاً عن المقصود قال : ( الحمد لله ( أي على قوة هذه الحجة وظهور هذه البينة ) بل أكثرهم لا يعلمون ( قوّتها وظهورها. ثم ضرب مثلاً ثانياً لنفسه ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع بل يصل منها إلى من يعبدها أعظم المضار. أما تفسير الألفاظ فالأبكم العي المفحم وقد بكم بكماً وبكامة. وقيل : هو الأقطع اللسان(4/289)
" صفحة رقم 290 "
الذي لا يحسن الكلام. وروى ثعب عن ابن الأعرابي أنه الذي لا يسمع ولا يبصر. وقوله : ( وهو كلٌّ على مولاه ( أصله من الغلظ الذي هو نقيض الحدة. يقال : كَلَّ السكين إذا غلظت شفرته ، وكَلَّ اللسان إذا غلظ فلم يقدر على الكلام ، وكَلَّ فلان عن الكلام إذا ثقل عليه ولم ينبعث فيه ، وفلان كَلٌّ على مولاه أي ثقيل وعيال على من يلي أمره. وقوله : ( أينما يوجهه ( حيثما يرسله ) لا يأت بخير ( لم ينجح في مطلبه. والتوجيه أن ترسل صاحبك في وجه معين من الطريق ) هل يستوي هو ( أي الموصوف بهذه الصفات المذكورة. ) ومن يأمر ( الناس ) بالعدل وهو ( في نفسه ) على صراط مستقيم ( على سيرة صالحة ودين قويم غير منحرف إلى طرفي الإفراط والتفريط. ولا شك أن الآمر بالعدل يجب ان يكون عالماً حتى يمكنه التمييز بين العدل والجور. قادراً حتى يتأتى منه الإتيان بالخير والأمر به ، وكلا الوصفين يناقض كونه أبكم لا يقدر. قال مجاهد : هذا مثل لإله الخلق وما يدعى من دونه. أما الأبكم فمثل الصنم لأنه لا ينطق ألبتة ولا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على عابديه لأنه لا ينفق عليهم وهم ينفقون عليه وإلى أيّ مهم يوجه الصنم لا يأتي بخير ، وأما الذي يأمر بالعدل فهو الله سبحانه. وروى الواحدي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال : نزلت الآية المتقدمة في هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله سراً وجهراً ، ومولاه أبو الحوار الذي كان ينهاه عنه. وهذه الآية نزلت في سعيد بن أبي العيص وفي عثمان بن عفان مولاه. والأصح أن المقصود من الآية الأوى الثانية كل رجل جاهل عاجز وكل من هو بضد ذلك من كونه شامل العلم كامل القدرة وليس إلا الله سبحانه فلذلك مدح نفسه بقوله : ( ولله غيب السموات والأرض ( أي يختص به علم ما غاب عنه العباد فيهما ، أو أراد بغيبهما يوم القيامة لأن علمه غائب عن غير الله ويؤيد هذا التفسير قوله : ( وما أمر الساعة إلا كلمح البصر ( اللمح النظر بسرعة ولا بد فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي وكل زمان قابل للتجزئة فلذلك قال : ( أو هو أقرب ( وليس هذا من قبيل المبالغة وإنما هو كلام في غاية الصدق لأن مدّة مابين الخطاب وقيام الساعة متناهية ، ومنها إلى الأبد غير متناه ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي. وقيل : معنى أمر الساعة أن إماتة الأحياء وإحياء الأموات كلهم يكون في أقرب وقت وأقله. ثم أكده بقوله : ( إن الله على كل شيء قدير (. ثم زاد في التأكيد بذكر حالة أخرى للإنسان دالة على غاية قدرته ونهاية رأفته فقال : ( والله أخرجكممن بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً ( قال جار الله : هو في موضع الحال أي(4/290)
" صفحة رقم 291 "
غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون وسوّاكم وصوّركم ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة. وقوله : ( وجعل لكم ( معناه وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه والترقي إلى ما يسعدكم. ) والأفئدة ( في فؤاد كالأغربة في غراب ، وهو من جموع القلة التي تستعمل في مقام الكثرة أيضاً لعدم ورود غيرها. واعلم أن جمهور الحكماء زعموا أن الإنسان في مبدأ فطرته خال عن المعارف والعلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر والفؤاد وسائر القوى المدركة حتى ارتسم في خياله بسبب كثرة ورود المحسوسات عليه حقائق تلك الماهيات وحضرت صورها في ذهنه ، ثم إن مجرد حضور تلك الحقائق إن كان كافياً في جزم الذهب بثبوت بعضها لبعض أو انتفاء بعضها عن بعض فتلك الأحكام علوم بديهية ، وإن لم تكن كذلك بل كانت متوقفة على علوم سابقة عليها ولا محالة تنتهي إلى البديهيات قطعاً للدور أو التسلسل فهي علوم كسبية. وظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس الإنسانية هو أن الله تعالى أعطى الحواس والقوى الدرّاكة للصور الجزئية. وعندي أن النفس قبل البدن موجودة عالمة بعلوم جمة وهي التي ينبغي أن تسمى بالبديهيات ، وإنما لا يظهر آثارهاعليها عند انفصال الجنين من الأم لضعف البدن واشتغالها بتدبيره ، حتى إذا قوي وترقى ظهرت آثارها شيئاً فشيئاً وقد برهنا على هذه المعاني في كتبنا الحكمية. فالمراد بقوله : ( لا تعلمون شيئاً ( أنه لا يظهر أثر العلم عليكم. ثم إنه بتوسط الحواس الظاهرة والباطنة يكتسب العلوم المتوقفة على التعلق. ومعى ) لعلكم تشكرون ( إرادة أن تصرفوا كل آلة فيما خلقت لأجله. وليس الواو للترتيب حتى يلزم من عطف ) جعل ( على ) أخرج ( أن يكون جعل السمع والبصر متأخراً عن الإخراج من البطن ، وقد مر في أول البقرة في تفسيره قوله : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ) [ البقرة : 7 ] أنه لم وحد السمع وجمع غيره ؟ ثم ذكر دليلاً آخر على كمال قدرته فقال : ( ألم يروا إلى الطير مسخرات ( مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة وسائر الأسباب المواتية لذلك كرقة قوام الهواء وإلهامهن بسط الجناح وقبضه فيه عمل السابح في الماء. وفي ) جوّ السماء ( أي في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو وهو مضاعف عينه ولامه واو ) ما يمسكهن إلا الله ( بقدرته أو بإعطاء الآلات التي لأجلها يتسهل عليها الطيران. ومن جملة أحوال الإنسان قوله : ( والله جعل لكم من بيوتكم سكناً ( هو ما يسكن إليه من بيت أو إلف ) جعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً ( هي القباب والأبينة من الأدم والأنطاع ) تستخفونها ( أي تعدونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل ) يوم ظعنكم ( أي في وقت ارتحالكم. والظعن بفتح العين وسكونها سير أهل(4/291)
" صفحة رقم 292 "
البادية لنجعة ، ثم استعمل في كل شخوص لسفر. ) ويوم إقامتكم ( لا يثقل عليكم حفظها ونقلها من مكان إلى مكان ، ويمكن أن يكون اليوم على حقيقته أي يوم ترجعون خف عليكم حملها ونقلها ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها ) ومن أصوافها ( وهي للضأن ) وأوبارها ( وهي للإبل ) وأشعارها ( وهي للمعز ) أثاثاً ( وهو متاع البيت. قال الفراء لا واحد له. وقال أبو زيد : الأثاث المال أجمع الإبل والغنم والعبيد والمتاع الواحدة أثاثة. قال ابن عباس : أراد طنافس وبسطاً وثياباً وكسوة. وقال الخليل : أصله من أن النبات والشعر يئث إاذ كثر. قيل : إنه تعالى عطف قوله : ( ومتاعاً ( على ) أثاثاً ( فوجب أن يتغايرا فما الفرف ؟ وأجيب بأن الأثاث ما يكتسي به المرء ويستمله من الغطاء والوطاء. والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به. قلت : لا يبعد أن يراد بالأثاث والمتاع ما هو الجامع بين الوصفين كونه أثاثاً وكونه مما يتمتع به ) إلى حين ( أي إلى أن تقضوا أوطاركم منه أو إلى أن تبلى وتفنى أو إلى الموت أو إلى القيامة. ثمإن المسافر قد لايكون له خيام وأبينة يستظل بها لفقر أو لعارض آخر فيحتاج إلى أن يستظل بشجر أو جدار أو غمام ونحوها فذلك قال : ( والله جعل لكم مما خلق ظلالاً ( وقد يحتاج المسافر إلى حصن يأوي إليه في نزوله وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحر والبرد وسائر المكاره وكذا المقيم فلذلك منّ بقوله : ( وجعل لكم من الجبال أكناناً ( هي جمع ( كن ) وهو ما يستكن به ويتوقى بسببه الأمطار كالبيوت المنحوته في الجبال وكالغيران والكهوف ) وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر ( وهي القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها. وإنما لم يذكر البرد لأن الوقاية من الحر أهم عندهم لغلبة الحرارة في بلادهم على أن ذكر أحد الضدين يغني في الإغلب عن ذكر الآخرة لتلازمهما في الخطور بالبال غالباً بشهادة الوجدان. قال الزجاج : كل ما لبسته فهو سربال فعلى هذا يشمل الرقيق والكثيف والساذج والمحشوّ من الثياب ) وسرابيل تقيكم بأسكم ( كالدروع والجواشن ) كذلك يتم نعمته ( أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإنه يتم نعمالدين والدنيا ) لعلكم تسلمون ( قال ابن عباس : لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الإنعامات سواه. وعنه أنه قرأ بفتح التاء واللام من السلامة أي تسلم قلوبكم من الشرك ، أو تشكرون فتسلمون من العذاب. وقيل : تسلمون من الجرح بلبس الدروع ) فان تولوا ( فقد تمهد عذرك ) فإنما عليك البلاغ المبين ( وليس إليك الهداية. ثم ذمهم بأنهم ) يعرفون نعمة الله ( التي عددناها حيث يعترفون بها وبأنها من عند الله ) ثم ينكرونها ( بعبادة غير من أنعم بها وبقولهم هي من الله ولكنها بشفاعة(4/292)
" صفحة رقم 293 "
آلهتنا. ومعنى ( ثم ) تبعيد رتبة الإنكار عن العرفان : وقيل : إنكارها قولهم ورثناها من آبائنا أو صل إلينا بتربية فلان ، أو أنهم لا يستعملونها في طلب رضوان الله. وقيل : نعمة الله نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يعرفونه ثم ينكرون نبوّته عناداً. وإنما قال : ( وأكثرهم الكافرون ( لأنه استعمل الأكثر مقام الكل أو أراد البالغين العقلاء منهم دون الأطفار والمجانين ، أو أراد كفر الجحود ولم يكن كفر كلهم كذلك بل كان فيهم من كفر للجهل بصدق الرسول ، أو لأنه لم تقم الحجة عليه بعد هذا ما قاله المفسرون. قلت : ويحتمل أن يراد بالكافرين المصرين الثابتين على كفرهم وقد علم الله أن في مطلق الكفرة من يؤمن فلهذا استثناهم والله تعالى أعلم. التأويل : فضل الأرواح على القلوب في رزق المكاشفات والمشاهدات بعد الفناء والرد إلى البقاء ، وفضل القلوب على النفوس في رزق الزهد والورع والتقوى والصدق واليقين والإيمان والتوكل والتسليم والرضا ، وفضل النفوس على الأبدن في رزق التزكية والتخلية والتحلية ، وفضل أبدان المؤمنين على أبدان الكافرين بحمل أعباء الشريعة. فما الأرواح برادّي رزقهم على القلوب ، ولا القلوب على النفوس ، ولا النفوس على الأبدان. أفبنعمة الله التي أنعم بها على أوليائه تجحدون يا منكري هذا الحديث ) والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ( يعني ازدواج الأرواح والأشباح ) وجعل من أزواجكم بنين ( وهم القلوب ) وحفدة ( وهن النفوس ) أفبالباطل ( وهو الزخارف والوساوس ) يؤمنون وبنعمة الله ( التي أنعم بها على أرباب القلوب ) يكفرون ( ويعبدون من دون الله كالدنيا والهوى ) ما لا يملك لهم زرقاً ( من سموات القلوب وأرض النفوس شيئاً من الكمالات التي أودع الله فيهن ، ولا يستخرج منها إلا بعبادة الله ولا يستطعيون استخراجها بعبادة غير الله ) فلا تضربوا لله الأمثال ( بأن تريدوا أن تصلوا إلى المقاصد بغير طريق الله ) ضرب الله مثلاً عبداً ممولكاً ( للهوى وللدنيا ) ومن رزقناه ( ولاية كاملة يتصرف بها في بواطن المستعدين وظواهرهم. ) بل أكثرهم لا يعلمون ( أولياء الله لأنهم تحت قباب الله لا يعرفهم غيره. ) أحدهما أبكم ( هو النفس الحيوانات التي لا تقدير على شيء من العلم والعقل والإيمان وهو ثقل على مولى الروح المسمى بالنفس الناطقة. ) لا يأت بخير ( لأنها أمارة بالسوء ) ولله غيب ( سموات الأرواح النفوس لا يقف على خاصيتهما غيره ، ولو وكل كلاً منهما إلى طبعها لم ترجع إلى ربها ، ورجوعها يكون بالإماتة والإحياء ويميتها عن أوصافها ويحييها بصفاته وهو المراد بأمر الساعة لأن الإماتة بتجلي صفات الجلال والإحياء بتجلي صفات الجمال ، وإذا تجلى الله لعبد لم يبق له زمان ولا مكان فلذلك قال : ( أو هو(4/293)
" صفحة رقم 294 "
أقرب ( وحنيئذ يكون فانياً عن وجوده باقياً ببقائه ) والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً ( من أمور الدنيا والآخرة ولا مما كانت أرواحكم تعلمفي عالم الأرواح ولا مما كانت تعلم ذراتكم من فهم خطاب ) ألست بربكم ) [ الأعراف : 172 ] وجواب ) بلى ( ) الأعراف : 172 ] وجعل لأجسادكم السمع والأبصار والأفئدة كما للحيوانات ولأرواحكم كما للملائكة. ولأسراركم سمعاً يسمع به من الله وبصراً يبصر به الله وفؤاداً يعرف به الله. وبوجه آخر : ( والله أخرجكم من العدم وهو الأم الحقيقي ، لا تعلمون شيئاً قبل أن يعلمكم الله سبحانه أسماء كل شيء ، فتجلى لكم بربوبيته فبنور سمعه أعطاكم سمعاً تسمعون به خطاب ألست بربكم ، وبنور كلامه أعطاكم لساناً. تجيبونه بقولكم ( بلى ) ) لعلكم تشكرون ( فلا تسمعون بهذا السمع إلا كلامه ، ولا تبصرون بهذا البصر إلا جماله ، ولاتحبون بهذا الفؤاد إلا ذاته ، ولا تكلمون بهذا الكلام إلى معه ) ألم يروا إلى ( طير الأرواح ) مسخرات في جوّ ( سماء القلوب ) ما يمسكهن ( في سفل الأجساد ) إلا الله ( بحكمته فلذلك قال : ( والله جعل لكم ( أيها الأرواح ) من بيوتكم ( وهي الأجساد ) سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام ( التي هي أجساد اشتركت فيها سائر الحيوانات ) بيوتاً ( تستخف أرواحكم إياها وهي النفوس الحيوانية ، وقواها وقت السير إلى الله والوقفة للاستراحة والتربية ) ومن أصوافها ( هي الصفات الحيوانية والحواس والقوى ) أثاثاً ( آلات للسير ) ومتعاً ( ينتفع بها ) إلى حين ( الوصول والوصال. ) والله جعل لكم مما خلق ظلالاً ( أي جعل عالم الخلق ظل عالم الأمر تستظل أيها الأرواح به عند طلوع شمس التجلي وإلا لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره. و ) وجعل لكم من ( جبال القلوب ما يكن به الأرواح ، وجعل لأرواحكم سرابيل من الصفات البشرية تقيكم حر نار المحبة ، وسرابيل من الصفات الروحانية تقيكم من سهام الوساوس والهواجس كذلك يحفظكم من الآفات من الصفات بالكرامات حتى يتم نعمة الوصول عليكم وتسلموا من قطع الطريق ) يعرفون نعمة الله ( بتعريفك ) وأكثرهم الكافرون ( بك وبنعمة الله إظهاراً للقهر والله أعلم. ( النحل : ( 84 - 100 ) ويوم نبعث من . . . .
" ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون الذين كفروا وصدوا عن سبيل(4/294)
" صفحة رقم 295 "
الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون "
( القراآت )
ولنجزين ( بالنون : ابن كثير وعاصم ويزيد وعباس والنقاش عن ابن ذكوان. الآخرون بالياء. ) قرأت القرآن ( مثل ) أنشأنا (. الوقوف : ( يستعتبون ( ه ) ولا هم ينظرون ( ه ) من دونك ( ج لاختلاف الجملتين مع الفاء ) لكاذبون ( ه ج للعطف مع أنه رأس آية ) يفترون ( ه ) يفسدون ( ه ) على هؤلاء ( ط ) لواو الاستئناف ) للمسلمين ( ه ) والبغي ( ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف ) تذكرون ( ه ط ) كفيلاً ( ه ط ) تفعلون ( ه ) أنكاثاً ( ط بناء على أن التقدير أتتخذون ) من أمة ( ط ) به ( ط ) تختلفون ( ه ) ويهدي من يشاء ( ط ) تعملون ( ه ) عن سبيل الله ( ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى ) عظيم ( ه ) قليلاً ( ط ) تعلمون ( ه ) باق ( ط ) يعلمون ( ه ) طيبة ( ج للعدول عن الواحدان إلى الجمع مع أنهما ضميراً من ) يعملون ( ه ) الرحيم ( ه ) يتوكلون ( ه ) مشركون ( ه .(4/295)
" صفحة رقم 296 "
التفسير : لما بين من حال القوم أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وأن أكثرهم كافرون أتبعه أصناف وعيد يوم القيامة والتقدير ) و ( اذكر ) يوم نبعث من كل أمة شهيداً ( أو يوم وقعوا فيما وقعوا فيه. وشعيد كل أمة نبيها يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق والكفر والتكذيب ) ثم لا يؤذن للذين كفروا ( أي في الاعتذار إذ لا حجة لهم ولا عذر ، أو في كثرة الكلام ، أو في الرجوع إلى دار الدنيا ، أو إلى التكليف ليظهر لهم كونهم آيسين من رحمة الله تعالى ، أو المراد أن يسكت أهل الجمع كلهم حتى يشهد الشهود. ) ولا هم يستعتبون ( لأن العاب إنما بطلب لأدل العود إلى الرضا ، فإذا كان على عزم السخط فلا فائدة في العتاب فلهذا قيل : إذا ذهب العتاب فليس ود
ويبقى الود ما بقي العتاب
وقال في الكشاف : أي لا يقال لهم أرضوا ربكم لأن الآخرة ليست بدار عمل. ومعنى ( ثم ) أن المنع من الكلام أصعب من شهادة الأنبياء عليهم. ) وإذا رأى الذين ظلموا ( وهم المشركون ) العذاب ( بعينهم وثقل عليهم ) فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون ( ليتوبوا فإن التوبة هناك غير موجودة أو غير مقبولة وفيه أن عذابهم خالص عن النفع دائم كما يقوله المتكلمون. ) وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم ( وهي الأصنام أو الشياطين الذي دعوا الكفار إلى الكفر وكانوا قرناءهم في الغي. قاله الحسن. ) قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا ( أي نعبدهم من دونك. قال أبو مسلم الأصبهاني : مقصود المشركين إحالة هذا الذنب على تلك الأصنام ظناً منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله أو ينقص منه ، وزيفه القاضي بأن الكفار يعلمون في الآخرة علماً ضرورياً أن العذاب ينزل بهم ولا نصرة ولا شفاعة فما الفائدة في هذا القول ؟ والإنصاف أن الغريق يتعلق بكل شيء والمبهوت قد يوقل ما لا فائدة فيه ، على أن العلم الضروري الذي ادعاه القاضي ممنوع. وقيل : إن المشركين يقولون هذا الكلام تعجباً من حضور تلك الأصنام مع أنه لا ذنب لها واعترافاً بأنهم كانوا خاطئين في عبادتها. فألقوا إليهم القول ( أي قال الأصنام أو الشياطين للكفار ) إنكم لكاذبون ( فإن قيل : إن المشركينأشاروا إلى الأصنام أن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوهم من دونك وقد كانوا صادقين في ذلك فكيف كذبتهم الأصنام ؟ فالجواب أن المراد من قولهم : ( هؤلاء شركاؤنا ( هؤلاء شركاء الله في المعبودية فكذبتهم الأصنام في إثبات هذه الشركة وفي قولهم إنها تستحق العبادة. قال جار الله : إن أراد بالشركاء الشياطين جاز أن يكونوا كاذبين في قوله : ( إنكم لكاذبون ( كما يقول الشيطان ) إني كفرت بما أشركتموني من قبل ) [ إبراهيم : 22 ]. ) وألقوا إلى الله يومئذ السلم ( عن(4/296)
" صفحة رقم 297 "
الكلبي : استسلم العابد والمعبود وأقروا لله الربوبية والبراءة من الشركاء والأنداد. وقال آخرون : الضمير اللذين ظلموا. وإلقاء السلم والاستسلام لأمر الله بعد الإباء في الدنيا ) وضل ( أي غاب ) عنهم ما كانوا يفترون ( من أن لله شريكاً أو أن آلهتهم تشفع لهم حين كذبوهم وتبرأوا منهم. ) الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ( قيل : معناه الصد عن المسجد الحرام والأصح العموم ) زدناهم عذاباً ( لأجل الإضلال. ) فوق العذاب ( الذي استحقوه للضلال. وأيضاً عذاب الاستنان ( من سن سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها ). ومن المفسرينمن فصل تلك الزيادة ؛ فعن ابن عباس : هي خمسة أنهار من نار تسيل من تحت العرش يعذبون بها ، ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار. وقيل : حسات أمثال البخت وعقارب أشباه البغال أنيابها كالنخل الطوال تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفاً. وقيل : يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار. ثم علل زيادة عذابهم بكونهم مفسدين أمور الناس بالصد والإضلال فيعلم منه أن من دعا إلى الدين القيم باليد واللسان فإنه يزيده الله تعالى أجراً على أجر. ثم أعاد حكاية بعث الشهداء لما نيط بها من زيادة فائدتين : إحداهما كون الشهداء من أنفسهم لأن كل نبي فهو من جنس أمته ، والأخرى أن الشيهد يكون وقتئذ فيا لأمة لا مفارقاً إياهم. وفسر الأصم الشهيد في هذه الآية بأنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى تشهد عليه وهن : الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان. ولهذا ذكر لفظة ( في ) ووصف الشيهد بكونه من أنفسهم. ثم شرف نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله : ( وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ( أي على أمتك. . ولا ريب أن في تخصيصه بعد التعميم دلالة على فضله نظيره قوله في سورة النساء : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) [ النساء : 41 ] قال الإمام فخر الدين الرازي. الأمة عبارة عن القرن والجماعة فيعلم من الآية أنه لا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم ويكونون شهداء على غيرهم وهم أهل الحل والعقد فيكون إجماعهم حجة. ولقائل أن يقول : الأمة في الآية هي الجماعة الذين بعث النبي إليهم وإلى من سيوجد منهم إلى آخر زمان دينه ، فيكون نبي تلك الأمة وحده شهيداً عليهم. ولا دلالة للآية إلا على هذا القدر فمن أين حل لك أن إجماع أهل الحل والعقد في كل عصر حجة ؟ ثم بين أنه أزاح علتهم فيما كلفوا فيه فلا حجة لهم ولا معذرة فقال : ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ( أي بياناً له والتاء للمباغلة ونظيره من المصادر ( التلقاء ) ولم يأت غيرهما وقد مر في ( الأعراف ). قال الفقهاء. إنما كان القرآن بيان جميع(4/297)
" صفحة رقم 298 "
الأحكام لأن الأحكام المستنبطة من السنة والإجماع والقياس والاجتهاد كلها تستند إلى الكتاب حيث أمر فيه باتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وطاعته ، وورد فيه : ( ويتبع غير سبيل المؤمنين ) [ النساء : 115 ] وجاء ) فاعتبروا ) [ الحشر : 2 ]. وقال آخرون : إن علم أصول الدين كلها في القرآن. وأما علم الفروع فالأصل براءة الذمة إلا منا ورد به نص القرآن فإذن القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام ، والقياس ضائع ولعل التبيان إنما هو للعلماء خاصة ، والهدى لجميع الخلق في أوّل أحوالهم ، والرحمة في وسطها وهو مدة العمر بعد الإسلام ، والبشرى في أوان الأجل كما قال سبحانه : ( إن الذين قالوا ربنا الله ) [ فصلت : 30 ] إلى قوله : ( وأبشروا ) [ فصلت : 30 ] والله أعلم بمراده. وِلما ذكر أن في القرآن تبيان كل شيء ذكر عقيبه آية جامعة لأصول التكاليف كلها تصديقاً لذكل فقال : ( أن الله يأمر ( الآية ، عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون الجمحي قال : ما أسلمت أوّلاً إلا حياء من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يتقرر الإسلام في قلبي. فحضرته ذات يوم فبينا هو يحدثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء ثم خفضه عن يمينه ثم عاد لمثل ذلك فسألته فقال : بينا أنا أحدثك إذا جبرائيل عليه السلام نزل عن يميني فقال : يا محمد ) إن الله يأمر بالعدل ( الآية. قال عثمان : فمن وقته استقر الإيمان ي قلبي وأحببت محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن ابن مسعود : هي أجمع آية في القرآن. وعن قتادة : ليس من خلق حسن كان في الجاهلية يعمل ويستحسن إلا أمر الله تعالى به في هذه الآية ، وليس من خلق سيء إلا وقد نهى الله تعالى عنه فيها. قال المفسيرون : العدل هو أداء الفرائض. وعن ابن عباس : هو قول لا إله إلا الله ) والإحسان ( هو الإتيان بالمندبات والمستحسنات شرعاً وعرفاً وأقربها صلة الرحم بالمال فلذلك أفردها بالذكر بقوله : ( وإيتاء ذي القربى ( والفحشاء هي الأمور المتزايدة في القبح فلذلك أفردها بالذكر وهي الكبائر. وقد يخص بالزنا أو بالبخل والمنكر ما تنكره العقول ولا يعرف في شريعة ولا سنة والبغي هو الاستطالة. قال جار الله : حين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعلى نبينا الصلاة والسلام أقيمت هذه الآية مقامها. واعلم أن العدل عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وأنه واجب الرعاية في جميع الأشياء ولنذكر له أمثلة : أما في الاعتقادات فالقول بنفي الإله تعطيل محض ، وإثبات أكثر من إله واحد تشريك وتعجيز ، والعدل هو قول : ( لا إله إلا الله ). كما نقل عن ابن عباس ، هذا ما اتفق عليه أرباب المذاهب. ثم إن الأشعري يقول : القول بنفي الصفات عنه سبحانه(4/298)
" صفحة رقم 299 "
تعطيل ، والقول بإثبات المكان والأعضاء تشبيه ، والعدل إثبات صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والارادة والسمع والبصر والكلام ونفي غيرها. وبوجه آخر. نفي الصفات تعكطيل ، وإثبات الصفات الحادثة تشبيه ، العدل إثبات صفات أزلية قديمة غير متغيرة. وأيضاً القول بأن العبد لا قدرة له أصلاً جبر محض ، والقول بأنه مستقل في التصرف قدر محض وتفويض ، والعدل أمر بين الأمرين وهو أن العبد يفعل الأفعال ولكن بواسطة قدرة وداعية يخلقها الله تعالى فيه. وأيضاً القول بأن الله لا يؤاخذ عبده بشيء من الذنوب مساهلة عظيمة ، والقول بأنه يخلد في النار عبده العارف به بالمعصية الواحدة تشديد عظيم ، والعدل أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان. والمعتزلي يقول : العدل في هذه الأصول بنوع آخر وقد مر مراراً. وأما رعاية العدل فيما يتعلق بأفعال الجوارح فإن قوماً من نفاة التكليف يقولون : لا يجب على العبد الاشتغال بشيء من الطاعات ولا الاحتراز عن شيء من المعاصي. وقال : قوم من الهند وطائفة من المانوية : يجب على الإنسان أن يجتنب عن أكل الطيبات ويبالغ في تعذيب نفسه ، وأن يحترز عن كل ما يميل الطبع إليه حتى التزوّج ، والأولى بالمرء أن يختصي فهذان الطريقان مذمومان والوسط هو ما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن التشديد غالب في دين موسى فليس في شرعه على القاتل إلا القصاص ويحرم مخالطة الحائض ، والتساهل في دين عيسى غالب فلا قصاص على القاتل ولا يحرم وطء الحائض ، والعدل ما حكم به شرعنا من جواز العفو وأخذ الدية وحرمة وطاء الحائض دون مخالطتها ، ولذلك قال : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) [ البقرة : 143 ] ، وقال : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ) [ البقرة : 67 ] ولما بالغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في العبادات قيل له : ( طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) [ طه : 1 ] ولما أخذ قوم في المساهلة نزل : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً ) [ المؤمنون : 115 ] والمراد رعاية الوسط في كل الأمور وقد ورد في شرعنا الختان فقال بعض العقلاء : الحكمة فيه أن رأس ذلك العضو جسم شديد الحس فإذا قطعت تلك الجلدة بقي رأسه عارياً فيصلب بكثرة ملاقاة الثياب وغيرها فيضعف حسه ويقل شعوره فتقل لذة الوقاع فتقل الرغبة فيه. فالاختصاء وقطع الآلات كما ذهب إليه المانوية مذموم ، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة مذموم ، والوسط العدل هو الختان. هذا ما قيل. وعندي أن الحكمة في الختان بعد التعبد هو التنظيف وسهولة غسل الحشفة وإلا فلعل اللذة بعد الختان أكثر لملاقاة الحاس والمحسوس بلا حائل. ومن الكلمات المشهورة قولهم : ( بالعدل قامت السموات والأرضون ). ومعناه أن مقادير العناصر لو لم(4/299)
" صفحة رقم 300 "
تكن معادلة مكافية بحسب الكمية والكيفية لا ستولى الغالب على المغلوب وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب ، ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن لاحتراق كل ما في هذا العالم ، وإن كان أكثر استولى البرد والجمود ، وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وإبطائها فإن كلاً منها مقدر على ما يليق بنظام العالم وقوامه وقيامه. فهذه إشارة مختصرة إلى تحقيق العدل. وأما الإحسان فهو المبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية ومن هنا قال : ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ) فكأن المبالغ المخلص في أداء الطاعات يوصل الفعل الحسن إلى نفسه وبالحقيقة يدخل في الإحسان أنواع التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ، وأشرف أنواع الإشفاق صلة الرحم بالمال فلا جرم أفرد بالذكر كما مر. ثم إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعاً : الشهوية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية. وهذه الأخيرة لا تحتاج إلى التهذيب لأنها من نتائج الأرواح القدسية ، وأما الثلاث الأول فتحتاج إلى التأديب والتهذيب بمقتضى الشريعة وقانون العقل والطريقة. والنهي عن الفحشاء عبارة عن المنع من تحصيل اللذات الشهوية الخارجة عن إذن الشريعة ، والنهي عن المنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضيبة من إيذاء الناس وإيصال الشر إليهم من غير ما استحقاق ، والنهي عن البغي إشارة إلى المنع من إفراط القوة الوهمية كالاستعلاء على الناس والترفع وحب الرياسة والتقدم ممن ليس أهلاً لذلك ، واخس هذه المراتب عند العقلاء القوة الشهوانية ، وأوسطها الغضبية ، وأعلاها الوهمية فلهذا بدأ سبحانه بالفحشاء ثم بالمنكر ثم بالبغي ، ولأن أصول الأخلاق والتكاليف كلها مذكورة في الآية لا جرم ختمها بقوله : ( يعظكم لعلكم تذكرون ( لأنها كافية في باب العظة والتذكر والارتقاء من حضيض عالم البشرية إلى ذروة عالم الأرواح المقدسة. قال الكعبي : في الآية دلالة على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء وإلا فكيف ينهاهم عما يخلقها فيهم ؟ وعورض بالعلم والاعي كما مر مراراً. واعلم أنه لا يلزم من إرادة الله تذكر العبد - والتذكر من فعل الله بالاتفاق لا من فعل العبد - أن يطلب الله منه التذكر فإن طلب ما ليس في وسعه محال. فمعنى ) لعلكم تذكرون ( إرادة أن تكونوا على حالة التذكر لا إرادة أن تحصلوا التذكر. ثم خص من جملة المأمورات الوفاء بالعهد فقال : ( وأوفوا بعهد الله ( خصصه جار الله بالبيعة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لقوله : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) [ الفتح : 10 ]. وقال الأصم : المراد منه الجهاد وما فرض الله في الأموال من حق الشرائع. وقيل : هو(4/300)
" صفحة رقم 301 "
اليمين والأصح العموم وهو كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره بدليل قوله : ( إذا عاهدتم ( وقوله من قال : العهد هو اليمين يلزم منه أن يكون قوله سبحانه : ( ولا تنقضوا الأَيمان بعد توكيدها ( أي بعد توثيقها باسم الله تكراراً. وأكد ووكد لغتان فصيحتان. قال الزجاج : الأصل الواو والهمزة بدل. وفي الآية دلالة على الفرق بين الأيمان المؤكدة وبين لغو اليمين كقولهم ( لا والله ) و ( بلى والله ). وأيضاً الآية من العمومات التي دخلها التخصيص لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فيأت بالذي هو خير ثم ليكفر ). وقد مر بحث الأيمان في ( البقرة ) وفي ( المائدة ) في قوله : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ) [ الآية : 225 ] الآية. ) وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً ( أي شاهداً ورقيباً لأن الكفيل مراع لحال المكفول به. ) إن الله يعلم ما تفعلون ( فيجازيكم بحسب ذلك خيراً وشراً. وفيهترغيب وترهيب. ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض بقوله : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعض قوّة ( أي من بعد قوّة الغزل بإمرارها وفتلها. قال الزجاج : انتصب ) أنكاثاً ( على المصدر لأن معنى نقضت نكثت. وزيف بأن ) أنكاثاً ( ليس مصدراً وإنما هو جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله. وقال الواحدي : هو مفعول ثان كما تقول كسره أقطاعاً وفرقه أجزاء أي جعله أقطاعاً وأجزاء فكذا ههنا أي جعلت غزلها أنكاثاً. قلت : ويحتمل أن يكون حالاً مؤكدة. قال ابن قتيبة : هذه الآية متصلة بما قبلها والتقدير : وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأيمان فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته ثم جعلته أنكاثاً. فعلى هذا المشبه به امرأة غير معينة ، ولا قريش ريطة بنت سعد بن تيم وكانت خرقاء ، اتخذت مغزلاً قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وهي الحديدة في رأس المغزل وفلكة عظيمة على قدرها ، وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن. قال جار الله : ( تتخذون ( حال و ) دخلاً ( مفعول ثان لتتخذ أي لا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلاً بينكم أي مفسدة ودغلاً. وقال الواحدي : أي غشاً وخيانة. وقال الجوهري : أي مكراً وخديعة. وقال غيره : الدخل ما أدخل في الشيء على فساد. وقوله : ( أن تكون ( أي لأن تكون ) أمة ( يعني جماعة قريش هي أربى أزيد وأوفر عدداً ومالاً ) من أمة ( هي جماعة المؤمنين. قال مجاهد : كانوا(4/301)
" صفحة رقم 302 "
يحالفون الحلفاء ثم يجدون من كان إعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأولين ويحالفون الذين هم أعز وأمنع. إنما يبلوكم الله به ( أي بما يأمركم وينهاكم. وقد تقدم ذكر الأمر والنهي. وقال جار الله : الضمير لقوله : ( أن تكون ( لأنه في معنى المصدر أي يختبركم بكونهم أربى لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء مع قلة المؤمنين وفقرهم أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم. ثم حذرهم من مخالفة ملة الإسلام وأنذرهم بقوله : ( وليبينن لكم يوم القيامة ( بإظهار الدرجات والكرامات للأولياء وتعيين الدركات والبليات للأشقياء. ) ما كنتم فيه تختلفون ( حيث تدعون أنكم على أن يجمع المؤمنين والكافرين على الوفاء وسائر أبواب الإيمان ولكنه يحكم الإلهية ) يضل من يشاء ويهدي من يشاء ( والمعتزلة حملو المشيئة على مشيئة الإلجاء بدليل قوله : ( ولتسئلن عما كنتم تعملون ( ولو كانت أعمال العباد بخلق الله تعالى لكان سؤالهم عبثاً. أجابت الأشتاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل. روى الواحدي أن عزيزاً قال : يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء. فقال : يا عزير أعرض عن هذا فأعاده ثانياً فقال : أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوّة. قال المفسرون : لما نهاهم عن نقض مطلق الأيمان أراد أن ينهاهم عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها. وهو نقض بيعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، والدليل على هذا التخصيص قوله : ( فتزلَّ قدم بعد ثبوتها ( لأن هذا الوعيد لا يليق بنقض عهد قبيله وإنما يليق بنقض عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . قال جار الله. وحدت القدم ونكرت لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه عهد الإسلام وزلت قدمه عن محجة الدين القويم فقد سقط من الدرجات العالية إلى الدركات الهاوية بيانه قوله : ( وتذوقوا السوء ( في الدنيا ) بما صددتم ( بصدودكم أو بصدكم غيركم ) عن سبيل الله ( لأن المرتد قد يقتدي به غيره. ) ولكم عذاب عظيم ( في الآخرة. ويحتمل أن يراد أن ذلك السوء الذي تذوقونه هو عذاب عظيم. قال جار الله. كان قوم أسلموا بمكة ثم زين لهم الشيطان نقض البيعة لكونهم مستضعفين هناك فأوعدهم الله على ذلك ، ثم نهاهم عن الميل إلى ما كان يعدهم قريش من عرض الدنيا إن رجعوا عن الإسلام فقال : ( ولا تشتروا ( الآية. ثم ذكر دليلاً قاطعاً على أن ما عند الله خير فقال : ( ما عندكم ينفد وما عند الله ( من خزائن رحمته ) باق ( وفيه دليل على أن نعيم الجنة باقٍ لأهل لا ينقطع. وقال جهم بن صفوان : إنه منقطع والآية حجة عليه ) ولنجزين(4/302)
" صفحة رقم 303 "
الذين صبروا ( على ما التزموه من شرائع الإسلام ) أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ( أي بالواجبات والمندوبات لا بالمباحات فإنه لا ثواب على فعلها ولا عقاب ، أو نجزيهم بجزاء أشرف وأوفر من عملهم كقوله : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) [ الأنعام : 160 ]. ثم عمم الوعد على أي عمل صالح كان فقال : ( من عمل صالحاً ( ولا كلام في عمومه إلا أنه زاد قوله : ( من ذكر أو أنثى ( تأكيداً وإزالة لوهم التخصيص ، والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم. ثم جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصالح منتجاً للثواب حيث قال : ( وهو مؤمن ( فاستدل به على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح فإن شرط الشيء مغاير لذلك الشيء. واختلف في الحياة الطيبة فقيل : هي في الجنة. عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة ، لأن الإنسان في الدنيا لا يخلو من مشقة وأذية ومكروه لقوله تعالى : ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ) [ الانشقاق : 6 ] بيّن أن هذا الكدح - وهو التعب في العمل - باقٍ إلى أن يصل إلى ربه ، وأما بعد ذلك فحياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا مرض وملك بلا زوال وسعادة بلا انتقال. وقال السدي : إن هذه الحياة في القبر. والأكثرون على أنها في الدنيا لقوله بعد ذلك ) ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كان يعملون ( وعلى هذا فما سبب طيب الحياة قيل : هو الرزق الحلال. وقيل : عبادة الله مع أكل الحلال. وقيل : القناعة أو رزق يوم كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يدعوا : ( اللَّهم اجعل رزق آل محمد كفافاً ). قال المحققون : وهذا هو المختار لأن المؤمن الذي صلح عمله إن كان موسراً فذاك ، وإن كان معسراً فمعه من القنوع والعفة والرضا بالقضاء ما يطيب عيشه. لأنه الكافر والفاجر فإن الحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه أبداً ويعظم أسفه على ما يفوته لأنه عانق الدنيا معانقة العاشق لمعشوقه ، بخلاف المؤمن المنشرح قلبه بنور المعرفة والجمال فإنه قلما ينزع لحب الديا مالها وجاهها ويستوي عنده وجودها وفقدها وخيرها وشرها ونفعها وضرها. وبركة الصلاح والقنوع مما لا ينكرها عاقل اللَّهم اجعلنا من أهلها. ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن العلم الصالح إنما يفيد الأثر المخصوص بشرط الإيمان وظاهر قوله : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ) [ الزلزلة : 7 ] يدل على أن العلم الخير مطلقاً يفيد أثراً مطلقاً فلا منافاة بينهما. ثم ذكر الاستعاذة التي هي من جملة الأعمال الصالحة وبها تخلص الأعمال عن الوساوس فقال : ( وإذا قرأت القرآن ( أي أردت قراءته إطلاقاً لاسم المسبب على السبب. وقد مر بحث الاستعاذة مستوفى في أول هذا الكتاب. ) إنه ليس له(4/303)
" صفحة رقم 304 "
سلطان ( تسلط وولاية ) على الذين آمنوا على ربهم يتوكلون ( وهذا معنى الاستعاذة. فأن معناها بالحقيقة راجع إلى التبري عما سوى الله والتوجه بالكلية إليه والاعتماد في جميع الأمور عليه. ) إنما سلطانه على الذين يتولونه ( عن ابن عباس : أي يطيعونه. يقال : توليته أي أطعته. وتوليت عنه أي أعرضت عنه. أما الضمير الواحد في قوله : ( والذين هم به مشركون ( فقيل : راجع إلى الرب. وقيل : إلى الشيطان أي بسببه. التأويل : ( ويوم نبعث ( فيه إشارة إلى أن لأرواح الأنبياء إشرافاً على أممهم في حال حياتهم وبعد وفاتهم ، وفيه أن الدينا مزرعة الآخرة فلا يقبل في القيامة اعتذار ) وإذا رأى الذين ظلموا ( أي وضعوا الكفر وأعمال الطبيعة موضع الإيمان وأعمال الشريعة ) فلا يخفف ( عن أرواحهم أثقال الأخلاق المذمية ) ولا هم ينظرون ( لتبديل مذمومها بمحمودها ) وإذا رأى الذين أشركوا ( وهم عبدة الدنيا والهوى ) إنكم لكاذبون ( في أنا دعوناكم إلى عبادتنا فإنا كنا مشغولين بتسبيح الله سبحانه وطاعته ) وصدوا عن سبيل الله ( منعوا الأرواح والقلوب عن طلب الله ) زدناهم ( عذاب الحرمان عن الكمال فوق خسران النسيان بإفساد الاستعداد الفطري. ) وجئنا بك شهيداً ( لأن روحه شاهد على جميع الأرواح والقلوب والنفوس لقوله : ( أول ما خلق الله روحي ) ) تبياناً لكل شيء ( يحتاج إليه السالك في أثناء سلوكه ) إن الله يأمر بالعدل ( وهو وضع الآلات وأسباب تحصيل الكمال في مواضعها بحيث يؤدي إلى مقام الوصال والكمال ) والإحسان ( وهو أن تحسن إلى الخلق بما أعطاك الله كقوله : ( وأحسن كما أحسن الله إليك ) [ القصص : 77 ]. وفي قوله : ( وإيتاء ذي القربى ( إشارة إلى أن من جملة العدالة رعاية حال الأقرب فالأقرب. فيبدأ بتكميل نفسه ثم بما هو أقرب إليه قرباً معنوياً لا صورياً ) ونهى عن الفحشاء ( وهو صرف ما آتاه الله في غير مصرفها ) والمنكر ( وهو ذد المعروف وهو أن لا يحسن إلى غيره ) والبغي ( وهو أن لا يراعي الترتيب المذكور في باب الإرشاد والتكميل. ) وأوفوا بعهد الله ( يوم الميثاق. ) وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً ( بجزاء وفائكم ) ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها ( فيه إشارة إلى حال المريد المرتد ) أن تكون أمة ( هي أهل الدنيا في الدنيا أعلى حالاً من أمتهم أهل الآخرة. ) ولا تتخذا أيمانكم ( عهودكم مع المشايخ شبكة تصطادون بها الدنيا. وقبول الخلق فتنزل أقدامكم عن صراط الطلب ) من ذكر أو أنثى ( هما القلب والنفس. والعمل الصالح من النفس استعمال الشريعة والطريقة ، ومن القلب التوجه إلى الله بالكلية ، والحياة الطيبة للنفس أن تصير مطمئنة مستعدة لقبول فيض ) ارجعي إلى ربك ) [ الفجر : 28 ] وللقلب أن يصير فانياً عن أنانيته باقياً بشهود الحق وجماله ، وحينئذ يطيب عن دنس(4/304)
" صفحة رقم 305 "
الاثنية ولوث الحدوث. ) فاستعذ بالله ( الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآله ظاهراً وبالحقيقة هو لأمته ، لأن شيطانه أسلم على يده فلم يحتج إلا الاستعاذة من شياطنه بل هو وخواصأمته كقوله : ( إنه ليس له سلطان على أولياء الله إلا باوسوسة ، وفيها صلاح المؤمن فإن إبريز إخلاص قلبه لا يتخلص عن غش صفات نفسه إلا بنار الوسوسة ، لأن المؤمن يطلع على بقايا صفات نفسه. بما تكون الوسوسة من جنسه فيزيد في الرياضة وملازمة الذكر حتى تنمحي تلك البقايا والله تعالى أعلم بالصواب. ( النحل : ( 101 - 128 ) وإذا بدلنا آية . . . .
" وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم(4/305)
" صفحة رقم 306 "
ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون "
( القراآت )
بما ينزل ( من الإنزال. ابن كثير وأبو عمرو ) يلحدون ( بفتح الياء والحاء : حمزة وعلي وخلف. ) فتنوا ( مبنياً للفاعل : أبن عامر. ) والخوف ( بالنصب : عباس ) إبراهام ( هشام وما بعده والأخفش عن ابن ذكوان. ) في ضيق ( بالكسر : ابن كثير وكذلك في ( النمل ). الآخرون بالتفح. الوقوف : ( مكان آية ( لا لأن جواب ( إذا ) هو ( قالوا ) وقوله : ( والله أعلم بما ينزل ( جملة معترضة ) مفتر ( ط ) لا يعلمون ( ه ) للمسلمين ( ه ) بشر ( ط ) مبين ( ه ) بآيات الله ( لا لأن ما بعده خبر ( إن ) ) أليم ( ه ) بآيات الله ( ج لاختلاف الجملتين مع العطف ) الكاذبون ( ه ) غضب من الله ( ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى. ) عظيم ( ه ) على الآخرة ( لا للعطف ) الكافرين ( ه ) وأبصارهم ( ط لاختلاف الجملتين ) الغافلون ( ه ) الخاسرون ( ه ) وصبروا ( لا لأن ( إن ) الثانية تكرار الأولى لطول الكلام بصلته وخبرهما واحد ) رحيم ( ه ) لا يظلمون ( ه ) يصنعون ( ه ) ظالمون ( ه ) طيباً ( ص لعطف المتفقتين ) تعبدون ( ه ) لغير الله به ( ج ) رحيم ( ه ) على الله الكذب ( ط ) لا يفلحون ( ط ، ه ) قليل ( ص لعطف المتفقتين ولا سيما إذا قدر لهم متاع ) أليم ( ه ) من قبل ( ج لابتداء النفي مع العطف ) يظلمون ( ه ) وأصلحوا ( لا لما مر ) رحيم ( ه ) حنيفاً ( ط ) من المشركين ( ه لا لأن ) شاكر ( وصف آخر أو بدل من ) حنيفاً ( ) لا نعمة ( ط ) مستقيم ( ه ) حسنة ( ط ) الصالحين ( ط ه لأن ( ثم ) لترتيب الأخبار ) حنيفاً ( ط ه ) المشركين ( ط ه ) اختلفوا فيه ( ط ) يختلفون ( ه ) أحسن ( ط ) بالمهتدين ( ه(4/306)
" صفحة رقم 307 "
) عوقبتم به ( ط ) للصابرين ( ه ) يمكرون ( ه ) محسنون ( ه. التفسير : هذا شروع في حكاية شبهات منكري نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . قال ابن عباس : كان إذا أنزلت آية فيها شدة ثم نزلت آية ألين منها قالت كفار قريش : إن محمداً يسخر من أصحابه يأمره اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه فنزل : ( وإذا بدلنا ( ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ، وتبديل الآية رفعها بآية أخرى غيرها وهو نسخها بآية سواها. ) والله أعلم بما ينزل ( شيئاً فشيئاً على حسب المصالح مغلظاً ثم مخففاً أو بالعكس ) بل أكثرهم لا يعلمون ( فوائد النسخ والتبديل. قال أبو مسلم : أراد تبديل آية مكان آية في الكتب المتقدمة مثل آية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وسائر العلماء أطبقوا على أن المراد بهذا التبديل النسخ. ونقل عن الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة لأنه تعالى أخبر بتبديل مكان الآية. وضعف بأنه لا يلزم من وجود التبديل بالآية نفي التبديل بغيرها كالسنة المتواترة إذ لا دلالة في الآية على الحصر ، وقد مر مباحث النسخ مفصلة مستوفاة في سورة البقرة. ) قل نزله ( أي القرآن ) روح القدس ( هو جبرائيل والإضافة للمبالغة مثل ( حاتم الجود ). والمراد الروح المقدس المطهر عن دنس المأثم ) من ربك ( صلة نزله أي ابتداء تنزيله من عنده. وقوله : ( بالحق ( حال أي متلبساً بالحكمة والصواب. ) ليثبت الذين آمنوا ( كقوله : ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ) [ الأنفال : 2 ] فيقول كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا وكل منهما في وقته خير وصلاح لأن الذي نزله حكيم لا يفعل إلا ما هو خير في أوانه وصواب بالنسبة إلى المكلف حين ما يكلف به. ) وهدى وبشرى ( معطوفان على محل ) ليثبت ( أي تثبيتاً لهم وإرشاداً وبشارة ، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم. ثم حكى شبهة أخرى عنهم. كانوا يقولون : إن محمداً يستفيد القصص والأخبار من إنسان آخر ويتعلمها منه. واختلف في ذلك البشر فقيل كان غلاماً لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه اسمه عائش ويعيش وكان صاحب كتب. وقيل : هو جبر غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي. وقيل : عبدان جبر ويسار كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا مر وقف عليهما يسمع ما يقرآن فقالوا يعلمانه. وقيل : هو سلمان الفارسي. ثم أجاب عن شبهتهم فقال مستأنفاً ) لسان الذي ( واللسان اللغة والمعنى لسان الرجل الذي ) يلحدون ( يميلون قولهم عن الاستقامة ) إليه ( لسان ) أعجمي ( غير بيّن ) وهذا ( القرآن ) لسان عربي مبين ( ذو بيان وفصاحة وقد مر في آخر ( الأعراف ) أن تركيب الإلحاد يدل على الإمالة ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان(4/307)
" صفحة رقم 308 "
كلها. قال أبو الفتح الموصلي : تركيب ع ج يدل على الإبهام والخفاء ضد البيان والإفصاح ، ومنه ( عجم الزبيب ) لاستتاره وخفاته ، والعجماء البهيمة ، وصلاة الظهر والعصر عجماوان لأن القراءة فيهما سرية ، وأعجمت الكتاب أي أزلت عجمته. ثم إن العرب تسمي كل من لا يعرف لسانهم ولا يتكلم بلغتهم أعجمياً وقالوا : زياد الأعجم لأنه كان في لسانه عجمة مع أنه كان عربياًز وحاصل الجواب هبوا أن محمداً يتعلم المعاني من ذلك الرجل إلا أنه لا يقدح في المقصود لأن القرآن بفصاحته اللفظية أيضاً معجز. ولما ذكر جوابهم وبخهم وهددهم بقوله : ( إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ( يعني أن سبب عدم إيمانهم هو أن الله لا يهديهم كقوله : ( ختم الله على قلوبهم ) [ البقرة : 7 ]. وفسره الإمام فخر الدين بأن الله لا يهديهم إلى طريق الجنة بل يسوقهم إلى النار. وهذا التفسير يناسب أصول المعتزلة فلا أدري كيف مال إليه. ثم لما بين أنهم ليسوا مظاهر اللطف وكان قد بنى الأمر في جوابهم على تسليم ما ادعى الخصم من أنه يتعلم من ذلك البشر ، أراد أن يبين أن الذي قالوا غير صحيح ولا صادق في نفس الأمر فقال : ( إنما يفتري الكذب ( وفيه أيضاً رد لقولهم ) إنما أنت مفتر ( الافتراء ) وأولئك ( إشارة إلى قريش أو إلى الذين لا يؤمنون لأنه لا يترقب عقاباً على الكاذبون أي هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب ، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب ، أو هم الذين من شأنهم الكذب وذلك هجيراهم لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين ، أو أولئك هم الكاذبون في قولهم : ( إنما أنت مفتر ) [ النحل : 101 ] ومما يدل على كذبهم عقلاً أنهم أعداء له وكلام العدا ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتهم. وأيضاً إن أمر التعليم والتعلم لا يتم في مجلس واحد ولكنه يحتاج إلى أزمنة متمادية ، ولو كان كذلك لاشتهر وانتشر. وأيضاً إن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة ، والمعلم يجب أن يكون أعلى حالاً من المتعلم. فلو كان مثل هذا العالم الذي يتعلم منه مثل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) موجوداً في ذلك العصر لم يخف حاله ومال الناس إليه دون النبي. قال بعض علماء المعاني : عطف الجملة الاسمية التي هي قوله : ( وأولئك هم الكاذبون ( على ما قبلها وهي فعلية ، دالة راسخة كما تقول : كذبت وأنت كاذب. زيادة في الوصف بالكذب على سبيل الاستمرار والاعتياد. ولا افتراء أعظم من إنكار الإلهية والنبوة. روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قيل له : هل يكذب المؤمن ؟ قال : لا. وقرأ هذه الآية. ثم إنه سبحانه من كمال عنايته أراد أن يفرق(4/308)
" صفحة رقم 309 "
بين الكفر اللساني وحده وبين اللساني المنضم إليه القلبي فقال : ( من كفر بالله ( اختلف العلماء في إعرابه ؛ فالأكثرون على أنه بدل إما من ) الذين لا يؤمنون بآيات الله ( وما بينهما اعتراض والمعنى إنما يفتري الذكب من كفر. واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء ، ثم قال : ( ولكن من شرح بالكفر صدراً ( أي طاب منه نفساً واعتقده ) فعليهم غضب ( وإما من المبتدأ الذي هو ) أولئك ( أو من الخبر الذي هو ) الكاذبون (. وقيل : منصوب على الذم أي أخص وأعني من كفر. وجوّز بعضهم أن تكون ( من ) شرطية والجواب محذوف لأن جواب من شرح دال عليه كأنه قيل : من كفر فعليه غضب إلا من أكره ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب. وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعاً فلهذه المشاكلة صح الاستثناء. قال ابن عباس : نزلت في عمار بن ياسر ، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسراً وأمه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذوبهم. فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قبلها بحربة وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال وقتلت وقتل زوجها ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام. وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً فأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن عماراً كفر فقال : كلا إن عماراً ملىء إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه. فأتى عمار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يبكي فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يمسح عينه وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن عادوا لك فعد لهم بما قلت. ) فمن هنا حكم العلماء بأن الإكراه يجوّز التلفظ بكلمة الكفر. وحدّ الإكراه أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به كالتخويف بالقتل والضرب الشديد وسائر الإيلامات القوية. وأجمعوا على أن قلبه عند ذلك يجب أن يكون متبرئاً عن الرضا بالكفر وأن يقتصر على التعريض ما أمكن مثل أن يقول : إن محمداً كذاب عني عند من أكرهه عن إحضار هذه النية أو لأنه لما عظم خوفة زال عن قلبه ذكر هذه النية كان ملوماً وفو الله متوقع. ولو ضيق المكره عليه حتى صرح بالكفر من غير تورية وطلب منه أن يقول لا أريد بقلبي سوى ما أذكره بلساني فههنا يتعين إما الكذب وإما توريط النفس للعذاب. فمن الناس من قال : يباح له الكذب حينئذ. ومنهم من قال : ليس له ذلك. واختاره القاضي لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذباً فوجب أن يقبح على كل حال. ولو خرج الكذب عن القبح لرعاية بعض المصالح لم يمتنع أن يفعل الله الكذب لمصلحة ما فلا يبقى وثوق بوعده وبوعيده. وللإكره مراتب منها : أن يجب الفعل المكره عليه كما لو(4/309)
" صفحة رقم 310 "
أكرهه على شرب الخمر وأكل الميتة لما فيه من صون النفس مع عدم إضرار بالغير ولا إهانة لحق الله. ومنها أن يصير الفعل مباحاً لا واجباً كما لو أكره على التلفظ بكلمة الكفر لما روي أن بلالاً صبر على العذاب وكان يقول : أحد أحد حتى ملوه وتركوه ولم يقل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بئسما فعلت بل عظمه ، ولأن في ترك التقية والصبر على القتل أو التعذيب إعزازاً للإسلام. ومنها أنه لا يجب ولا يباح بل يحرم كما إذا أكره على قتل إنسان أو على قطع عضو من أعضائه فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية. وحينئذ لو قتل فللعلماء قولان : أحدهما لا يلزم القصاص وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه لأنه قتل دفعاً عن نفسه فأشبه قتل الصائل ، ولأنه كالآلة للمكره ولذلك وجب القصاص على المكره وثانيهما - وبه قال أحمد والشافعي في أصح قوليه - أن عليه القصاص لأنه قتله عدواناً لاستبقاء نفسه فصار كما لو قتل المضطرب إنساناً فأكله. ومن الأفعال ما لا يمكن الإكراه عليه وهو الزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة ، فلو دخل الزنا في الوجود علم أنه وقع بالاختيار لا بالإكراه. والأصح أن الإكراه فيه متصوّر ، وأن الحد يسقط حينئذ ، وعن أبي حنيفة أنه إن أكرهه السلطان لم يجب الحد ، وإن أكرهه بعض الرعية وجب. قال بعض الأصوليين : في قول : ( وقلبه مطمئن بالإيمان ( دلالة على أن محل الإيمان هو القلب فهو إما الإعتقاد إن كان الإيمان معرفة ، وإما كلام النفس إن كان تصديقاً. وانتصاب ) صدراً ( على التمييز وأصله. ولكن من شرح بالكفر صدره. فعدل إلى النصب للمبالغة ولبناء الكلام على الإبهام ثم التفسير. قوله : ( ذلك بأنهم ( أي ذلك الارتداد بسبب أنهم رجحوا ) الدنيا على الآخرة ( ولأجل أنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان ولم يعصمهم عن الكفر. وقال جار الله : ذلك الوعيد والغضب والعذاب بسبب استحقاقهم خذلان الله بكفرهم. وهذا البحث وكذا بحث الطبع والختم والخلاف في تفسيره بين الأشاعرة والمعتزلة قد مر في أول سورة البقرة وفي غيرها فلا حاجة إلى الإعادة. ) وأولئك هم الغافلون ( أي الكاملون في الغفلة إذ غفلوا عن دبر العواقب ) لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ( وقال في أوائلك سورة هو ) هم الأخسرون ) [ الآية : 22 ] لأن أولئك صدوا عن سبيل الله وصدوا غيرهم فضلوا وأضلوا لذلك ضوعف لهم العذاب فهم الأخسرون ، وهؤلاء صدوا بأنفسهم فهم الخاسرون. ويمكن أن يقال : إن ما قبل الفواصل في تلك السورة لم يعتمد على ألف قبلها مثل ( يبصرون ) ( يفترون ). وفي هذه السورة اعتمدت على الألف مثل ( الكافرين ) الكاذبون ( فجاء في كل سورة على ما يناسبها. ولما(4/310)
" صفحة رقم 311 "
ذكر حال من أكره أتبعه حال من هاجر من بعد ما فتن. قال جار الله : معنى ) ثم إن ربك ( تباعد حال هؤلاء من حال عمار وأصحابه. ومعنى ) إن ربك لهم ( أنه لهم لا عليهم فينصرهم ولا يخذلهم. ويحتمل أن يكون الجابر متعلقاً بالخبر على نية التأخير. وتكرير ) إن ( لطول الكلام. من قرأ ) من بعد ما فتنوا ( بفتح الفاء مبنياً للفال فوجهه أن فتن وافتتن بمعنى واحد والمراد أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية فكأنهم فتنوا أنفسهم لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت بعد ، أو أراد أن أكابر المشركين الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم ، ومعنى ) ثم ( على هذا التفسير ظاهر. ومن قرأ بضم الفاء مبنياً للمفعول فالمراد أن المستضعفين المعذبين الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان إن هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر. وقال الحسن : هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة فعرضت لهم فتنة فارتدوا وشكوا في الرسول ثم أسلموا وهاجروا فنزلت الآية فيهم. فمعنى ) ثم ( تبعيد حالة الغفران والرحمة عن حالة الارتداد والشك في أمر الرسول إلا أنه سبحانه بكرمه يغفر لهم إذا تابوا. وقيل : نزلت في عبد الله بن أبي سرح ارتد ، فلما كان يوم الفتح أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقتله فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه. وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا الآية مدنية. ومثله ما روي عن قتادة أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة ، فلما جاءهم ذلك خرجوا فلحقهم المشركون فردوهم فنزلت : ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) [ العنكبوت : 2 ] فكتبوا بها إليهم فتبايعوا بينهم على أن يخرجوا فإن لحق بهم المشركون من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزلت هذه الآية. والضمير في قوله : ( من بعدها ( يرجع إلى الأفعال المذكورة من الهجرة والجهاد والصبر. فالحاصل أن الآية إما نازلة فيمن عذب فلم يرتد ومع ذلك هاجر وجاهد ، وإما نازلة فيمن أظهر الكفر تقية فبين تعالى أن حاله إذا هارج وجاهد وصبر كحال من لم يكن كذلك ، وإما نازلة فيمن ارتد ثم تاب وقام بما يجب القيام به فوعده الله المغفرة والرحمة. قال الزجاج ) يوم تأتي ( منصوب بقوله : ( رحيم ( أو بإضمار ) اذكر ( أو ) ذكرهم وأنذرهم ( ومعنى الآية ظاهر إلا أن في قوله : ( عن نفسها ( إشكالاً من حيث إضافته النفس إلى ضمير النفس. وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى جملة بدن الحي ، وبالنفس الثانية الذات(4/311)
" صفحة رقم 312 "
فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره. ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم ) هؤلاء أضلونا ) [ الأعراف : 38 ] ( ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] ونحو ذلك. عن بعضهم : تزفر جهنم زفرة لايبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه يقول : يا رب نفس حتى إن إبراهيم الخليل ( صلى الله عليه وسلم ) يفعل ذلك. ثم أوعد الكفار بآفات الدنيا أيضاً فقال : ( وضرب الله مثلاً قرية ( يحتمل أن تكون مقدرة وأن تكون معينة موجودة إما مكة أو غيرها. وذهب كثير من المفسرين إلى أنها مكة والأقرب أنها غيرها لأن مثل مكة يكونغير مكة فضربها الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها. قال العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن والصحة والكفاية. فوصف الله تعالى تلك القربة بالأمن ثم بالاطمئنان إشارة إلى أن هواء ذلك البلد لاعتداله ملائم لأمزجة أهله حتى اطمأنوا واستقروا ولم يحوجوا إلى الانتقال طلباً للصحة. ثم قال : ( يأتيها رزقها رغداً من كل مكان ( دلالة على حصول الكفاف لهم بأيسر وجه. قال الكشاف : الأنعم جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع ، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس. قلت : لعله حمله على ذلك طلب الضبط وإلا فلا حاجة إلى هذا التكلف. وكذا أطلق الأكثرون أن جمع ) فعلة ( يجيء على ) أفعل (. قيل : إنما ذكر جمع القلة تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ، يعني أن كفران النعمة القليلة يوجب العذاب فكيف بكفران النعم الكثيرة العظيمة. وهذا مثل لأهل مكة كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة - وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) - فكفروا بها وبالغوا في إيذاه فسلط الله عليهم البلاء. عذبهم بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والفرو ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم. نقل أن ابن الرواندي قال لابن الأعرابي الأديب : هل ذاق اللباس ؟ قال ابن الأعرابي : لا بأس أيها النسناس هب أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان نبياً أما كان عربياً ؟ كأنه طعن في الآية أن المناسب هو أن لو قيل : ( فكساها الله لباس الجوع ( أو ) فأذاقها الله طعم الجوع ( فردّ عليه ابن الأعرابي. والذي أجاب به علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة ، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس ، ثم ذكر الوصف ملائماً للمستعار له وهو الجوع والخوف ، لأن إطلاف الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره. فكانت الاستعارة مجردة. ولو قال : ( فكساها ( كانت مرشحة ، وقد سلف منا تقرير هذا الاصطلاح في المقدمة التاسعة من مقدمات الكتاب. وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسناً من جهة المبالغة إلا أن للتجريد(4/312)
" صفحة رقم 313 "
ترجيحاً من حيث إنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحاً. وقيل : إن أصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرّف والاختبار فتقول : أناظر فلاناً فأذوق ما عنده. ومن يذق الدنيا فإني طعمتها
وسيق إلينا عذبها وعذابها
فمعنى ذقت لباس الجوع والخوف على فلان تعرفت ما ظهر عليه من الضمور وشحوبة اللون وتغير الحال وكسوف البال. ففحوى الآية عرفها الله أثر لباس الجوع. وقيل : حمل اللباس على المماسة والتقدير فأذاقها الله مساس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. قال ابن عباس : يريد بفعلهم بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) من التكذيب والهم بقتله والإخراج من مكة. قال الفراء : كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله : ( يصنعون ( تنبيهاً على أن المراد في الحقيقة أهلها. ولما ذكر المثل ذكر الممثل فقال : ( ولقد جاءهم ( يعني أهل مكة ) رسول منهم ( من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه ) فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ( متلبسون بالظلم. قال ابن عباس : يعني بالعذاب الجوع الذي كان بمكة. وقيل : القتل يوم بدر. وقيل : إن قول ابن عباس أولى. والمراد أن ذلك الجوع بسبب كفركم فاتركوا الكفر. ) فكلوا مما رزقكم الله ( من الغنائم. فأكل الغنائم مسبب عن ترك الكفر فلذلك وصله بالفاء. وقال الكلبي : إن رؤساء مكة كلموا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين جهدوا وقالوا : عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان ؟ وكانت الميرة قد قطعت عنهم بإذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأذن في الحمل فحمل الطعام إليهم فذلك قوله : ( فكلوا (. ورجح قول ابن عباس بأنه تعالى قال بعد ذلك : ( إنما حرم عليكم الميتة ( فالمراد أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب - وهو الغنيمة - واتركوا الخبائث - وهو الميتة والدم - أو أنه سبحانه أعاد تحريم هذه الأشياء في ) البقرة ( وفي ) المائدة ( و ) الأنعام ( وفي هذه السورة قطعاً للأعذار وإزالة للشبهة ، ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة ، وفي النقصان عنها كتحليل الميتة والدم فقال : ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب ( قال الكسائي والزجاج ) ما ( مصدرية وانتصاب ) الكذب ( ب ) لا تقولوا ( أي ولا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم. وقوله : ( هذا حلال وهذا حرام ( بدل من الكذب ولك أن تنصب ) الكذب ( ب ) تصف ( وتجعل ) ما ( مصدرية أيضاً أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب. ومعناه لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة ودليل. ويجوز أن تكون ) ما ( موصولة أي ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا(4/313)
" صفحة رقم 314 "
حلال وهذا حرام ، فحذف لفظ فيه لكونه معلوماً. وقوله : ( تصف ألسنتكم الكذب ( من فصيح الكلام وبلغيه كأن ماهية الكذب مجهولة وكلامهم يكشف عن حقيقته نظيره قوله : ( وجهه يصف الجمال وعينه تصف السحر (. واللام في قوله : ( لتفتروا ( لام العاقبة لا الغرض. والمقصود من ذكره بيان أنه كذب على الله فإن قوله : ( لما تصف ألسنتكم الكذب ( لم يكن فيه هذا البيان. ثم أوعد المفترين بقوله : ( إن الذين يفترون ( الآية. وقوله : ( متاع ( قال الزجاج : أي متاعهم. وعن ابن عباس : أراد أن متاع كل الدنيا قليل. والمعنى أن منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية ، أو أن نعيم الدنيا كلها يزول عنهم عما قريب ويبقى العقاب الدائم الأليم. ثم خص محرمات اليهود بالذكر فقال : ( وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصنا عليك من قبل ( يعني في سورة الأنعام عند قوله : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ( ) الأنعام : 146 ] ثم قال : ( وما ظلمناهم ( كقوله هناك : ( ذلك جزيناهم ببغيهم ) [ الأنعام : 146 ]. ثم بين أن الافتراء على الله ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرمة. وقوله : ( بجالهة ( في موضع الحال أي عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه أو غير متأملين في وخامة عاقبته لغلبة الشهوة عليهم. ) إن ربك من بعدها ( من بعد تلك السية أو التوبة أو الجهالة. ولما بالغ في إبطال مذاهب المشركين وفي الجواب عن شبههم ومطاعنهم وكان إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) رئيس الموحدين وقدوة أكابر النبيين ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة قائلاً : ( إن إبراهيم كان أمة ( أي هو وحده أمة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير : ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
وعن مجاهد : كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار فلهذا قيل : إنه أمة. وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول في زيد بن عمرو بن نفيل : يبعثه الله أمة وحده. وعن شهر بن حوشب : لم يكن زمن إلا وفيه أربعة عشر يدفع بهم الله عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم فإنه وحده. وقيل : أمة بمعنى مأموم أي يؤمه الناس ليأخذوا منه أفعال الخير أو بمعنى مؤتم به كقوله : ( إني جاعلك للناس إماماً ) [ البقرة : 124 ] وقيل : إنه من باب إطلاق المسبب على السبب لأنه حصل لأمته الامتياز عمن سواهم ) قانتاً لله ( قائماً بما يأمره الله. وعن ابن عباس : مطيعاً لله ) حنيفاً ( مائلاً إلى ملة الإسلام ميلاً لا يزول عنه. وقال ابن عباس : المراد أنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضحى. ) ولم يك من المشركين ( قط لا في الصغر ولا في الكبر ) شاكراً لأنعمه ( وإن كانت قليلة فضلاً عن النعم الكثيرة .(4/314)
" صفحة رقم 315 "
يروى أنه كان لا يتغدّى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخلا غداءه فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر فدعاه إلى الطعام فخيلوا له أن بهم جذاماً فقال : الآن وجبت مؤاكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم ) احتباه ( اختصه واصطفاه للنبوّة ) وهداه إلى صراط مستقيم ( إلى ملة الإسلام ) وآتيناه في الدنيا حسنة ( عن قتادة : هي أن الله تعالى حببه إلى أهل الأديان كلها. وقيل : الأموال والأولاد. وقيل قول المصلي منا ) كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم (. ) وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( في أعلى مقاماتهم من الجنة تحقيقاً لدعائه ) وألحقني بالصالحين ) [ يوسف : 101 ]. قال في الكشاف : معنى ) ثم ( في قوله : ( ثم أوحينا إليك ( تبعيد هذا النعت من بين سائر النعوت التي أثنى الله بها على إبراهيم ، ليعلم أن أجل ما أوتي خليل الله اتباع نبينا ملته في الأصول من التوحيد والمعاد وغيرهما كاختيار يوم الجمعة للفراغ وترك العمل. قال أهل النظم : كان لسائل أن يسأل : لم اختار اليهود السبت مع أن إبراهيم كان اختار الجمعة ؟ فأجاب الله سبحانه بقوله : ( إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ( فاختاره بعضهم للفراغ الجمعة. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : أمرهم موسى بالجمعة وقال تفرغوا الله فيه من الخلق وهو يوم السبت. فجعل عليهم السبت وشدد عليهم. ثم جاءهم عيسى بالجمعة أيضاً فقالت النصارى : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد. وروى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله كتب يوم الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا تبع اليهود غداً والنصارى بعد غدٍ ( وقال صاحب الكشاف : السبت مصدر سبت اليهود إذا عظمت سبتها. والمعنى ) إنما جعل ( وبال ) السبت ( وهو المسخ ) على الذين اختلفوا فيه ( واختلافهم فيه أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة ، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة. وضعف القول الأول بأن اليهود متفقون على تعيين يوم السبت للفراغة. ويمكن أن يقال : لعل فيهم من اختار الجمعة في قديم الدهر ثم وقع الاختلاف. سؤال : النصارى يقولون : إن يوم الأحد مبتدأ الخلق ، والتكوين على ما انفق عليه أهل الملل أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام أوّلها الأحد فجعله عيداً معقول. واليهود قالت :(4/315)
" صفحة رقم 316 "
إن يوم السبت هو اليوم الذي قد فرغ الله فيه من الأعمال فنحن نوافق ربنا. فما وجه جعل الجمعة عيداً ؟ والجواب بعد التعبد هو أن يوم الجمعة يوم التمام والكمال وذلك يوجب الفرح والسرور فجعله عيداً أولى. ثم أوعد اليهود بقوله : ( وإن ربك ليحكم ( الخ. ولما أمر محمداً باتباع إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) بين وجه المتابعة فقال : ( ادع إلى سبيل ربك ( الآية. وفيه أنطريقة إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) في الدعوة كانت هكذا. وتقرير ذلك أن الداعي إلى مذهب ونحلة لا بد أن يكون قوله مبنياً على حجة وهي إما أن تكون يقينية قطعية مبرأة من شائبة احتمال النقيض ، وإما أن تكون مفيدة للظن القوي والإقناع التام وإلا لم يكن ملتفتاً إليها في العلوم ، وقد يكون الجدال والخصام غالباً على المدعو فيحتاج حينئذ إلى إلزامه وإفحامه بدليل مركب من مقدمات مشهورة مسلمة عند الجمهور ، أو مقدمات مسلمة عند الخصم. فقوله : ( بالحكمة ( إشارة إلى استعمال الحجج القطعية المفيدة لليقين ، والمكالمة بهذا الطريق إنما تكون مع الطالبين البالغين في الاستعداد إلى درجة الكمال. وقوله : ( والموعظة الحسنة ( إشارة إلى استعمال الدلائل الإقناعية الموقعة للتصديق بمقدمات مقبولة ، وأهل هذه المكالمة أقوام انحطت درجتهم عن درجة الطائفة الأولى إلا أنهم باقون على الفطرة الأصلية طاهرون عن دنس الشغب وكدورات الجدال وهم عامة الخلق. وليس للدعوة إلا هذان الطريقان ، ولكن الداعي قد يضطر مع الخصم الألد إلى استعمال الحجج الملزمة المفحمة كما قلنا فلهذا السبب عطف على الدعوة قوله : ( وجالهم بالتي ( أي بالطريقة ) التي هي أحسن ( فكان طريق الجدال لم يكن سلوكه مقصوداً بالذات وإنما اضطر الداعي إليه لأل كون الخصم مشاغباً. وإنما استحسن هذا الطريق لكون الداعي محقاً وغرضه صحيحاً. فإن كان مبطلاً وأراد تغليط السامع لم يكن جداله حسناً ويسمى دليله مغالظة. هكذا ينبغي أن يتصوّر تفسير هذه الآية فإن كلام المفسرين الظاهريين فيه غير مضبوط. وجوّز في الكشاف أن يريد القرآن أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة وجادهلم بأحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف. ولما حث على الدعوة بالطرق المذكورة بين أن الهداية والرشد ليس إلى النبي وإنما ذلك إلى الله تعالى فقال : ( إن ربك هو أعلم ( الآية. أي هو العالم بضلال النفوس واهتدائها وكدورتها وبمن جعل الدعوة سبباً لسعادتها أو واسطة لشقائها. ثم إن الدعوة تتضمن تكليف المدعوذين بالرجوع عن الدين المألوف ، والفطام منه شديد وربما تنجير المقاولة إلى المقاتلة ، فحينئذ أمر الداعي وأتباعه برعاية العدل والإنصاف في حال القتال قائلاً ) وإن عاقبتم ( أي إن رغبتم في استيفاء القصاص إن وقع قتل فاقنعوا بالمثل ولا(4/316)
" صفحة رقم 317 "
تزيدوا عليه. والآية عامة وقد يخصصها رواة أسباب النزول بقصة حمزة قالوا : إن المشركون مثلوا بالمسلمين يوم أحد بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم ، ما تركوا أحداً غير ممثول به إلا حنظلة بن الراهب. فوقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على حمزة وقد مثل به. وروي فرآه مبقور البطن فقال : أما والذي أحلف به إن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك فنزلت فكفر عن يمينه وكف عما أراده. قاله ابن عباس في رواية عطاء وأبيّ بن كعب. ومن هذا ذهبوا إلى أن خواتيم سورة النحل مدنية. ولا خلاف في تحريم المثلة ، وقد وردت الأخبار بالنهي عنها حتى بالكلب العقور ، وقيل : نزلت حين كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدأوا بالقتال فهو كقوله : ( وقاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم ) [ البقرة : 190 ] أمر الله تعالىأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا. وقال مجاهد والنخعي وابن سيرين : إنه نهى المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم. وفي قوله : ( إن عاقبتم ( رمز إلى أن الأولى له أن لا يفعل كقول الطبيب للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح. ثم انتقل من التعريض إلى بعض التصريح قائلاً. ) ولئن صبرتم لهو خير ( أي صبركم خير لكم. فوضع المظهر موضع المضمر ثناء من الله عليهم أو وصفاً لهم بالصفة التي تحصل لهم أو جنس الصبر خير ) للصابرين ( من جنسهم. ثم صرح كل التصريح فقال : ( واصبر ( ثم ذكر ما يفيد سهولة الصبر على النفس فقال : ( وما صبرك إلا بالله ( أي بتوفيقه وتثبيته وربطه على قلبه وهذا سبب كلي مفيد للصبر. وأما السبب الجزئي القريب فذلك قوله : ( ولا تحزن عليهم ولا تك ( وذلك أن إقدام الإنسان على الانتقام لا يكون إلا عند هيجان الغضب وإنه لا يهيج إلا عند فوات نفع. وأشار إليه بقوله : ( ولا تحزن عليهم ( قيل : أي على قتلى أحد. وقيل : على الكافرين كقوله : ( فلا تأس على القوم الكافرين ) [ المائدة : 68 ] وإلا حين توقع مكروه في المستقبل وأشار إلى ذلك بقوله : ( ولا تك في ضيق ( من قرأ بكسر الضاد فظاهر وهو من الكلام المقلوب الذي يشجع عليه أمن الإلباس ، لأن الضيق وصف فهو يكون في الإنسان ولا يكون الإنسان فيه. وفيه لطيفة أخرى وهي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط به من جميع الجوانب ، ومن قرأ بفتحها فإما على أنه مصدر أيضاً أو على أنه مخفف ضيق فمعناه في أمر ضيق ، وإنما لم يقل ) ولا تكن ( بالنون كما في آخر النمل موافقة لما قبله ) ولم يك من المشركين ( ولأن الحزن ههنا أكثر بناء على أنها وردت في قتل حمزة فبولغ بالحذف في النهي عن الحزن. ثم ختم السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال : ( إن الله مع الذين اتقوا ( المعاصي كلها ) والذين هم محسنون ( في الطاعات بأن يعبدوا الله مخلصين(4/317)
" صفحة رقم 318 "
عن شوائب الرياء : وقيل : ( إن الله مع الذين اتقوا ( استيفاء الزيادة ) والذين هن محسنون ( في ترك أصل الانتقام. فإن أردت أن أكون معك في بالنصر والتأييد فكن من المتقين ومن المحسنين ، وفيه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون بالرفق واللين مرتبة مرتبة. وقيل : الذين اقتوا إشارة إلى التعظيم لأمر الله ، ولذين هم محسنون إشارة إلى الشفقة على خلق الله ومنه قال بعض المشايخ : كمال الطريق صدق مع الحق وخلق مع الخلق. واحتضر هرم بن حبان فقيل له : أوص. فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي أوصيكم بخواتيم سورة النحل. التأويل : ( وإذا بدلنا آية ( إنه تعالى يعالج بدواء القرآن أمراض القلوب في كل وقت بنوع آخر على حسب ما يعلمه من المصالح فلذلك قال : ( والله أعلم بما ينزل ( ) وبشرى للمسلمين ( الذين استسلموا للطبيب ومعالجته حتى صارت قلوبهم سليمة. ) إنما يعلمه بشر ( ففيه إنكا رأن طب القلوب وعلاجها من شأن البشر بنظر العقل لأنه مبني على معفرة الأمراض وكميتها وكيفيتها ، ومعرفة الأدوية وخواصها وكيفية استعمالها ، ومعرفة الأمزجة واختلاف أحوالهان وأن القلوب بيد الله يقلبها هو كيف يشاء فيضيق عن معالجتها نطاق عقول البشر ولهذا قال إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وإذا مرضت فهو يشفين ) [ الشعراء : 80 ] اللَّهم إلا إذا علم بتعليم الله كقوله : ( وعلمك ما لم تكن تعلم ) [ النساء : 113 ] ومع هذا كان يقول نحن نحكم بالظاهر ) يلحدون إليه أعجمي ( هو الذي لا يفهم من كلام الله أسراره وحقائقه والعربي ضده كما قال : ( فإنما يسرناه بلسانك ) [ مريم : 97 ] ( إنما يفتري الكذب ( لأن الافتراء من شأن النفس الأمارة الكافرة التي لا تؤمن بآيات الله. ) وأولئك هم الكاذبون ( أي هم الذين استمروا على الكذب لأن المؤمن قد يكذب في بعض الأحوال إلا أنه لا يصر على ذلك ، وهكذا في جميع المعاصي ولهذا لا يخرج من الإيمان بالكلية ولكن ينقص الكذب إيمانه ويرجع بالتوبة إلى أصله. قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً (. ) من كفر بالله من بعد إيمانه ( إشارة إلى المريد المرتد بنسيم روائح نفحات الحق بمشام قلبه عند هبوبه ، واصطكاك أهوية عوالم الباطن ، وانخراق سحب حجب البشرية فلمع له برق أضاءت به آفاق سماء القلب وأشرقت أرض(4/318)
" صفحة رقم 319 "
النفس ، فآمن بحقيه الطلب واحتمال التعب فاستوقد نار الشوق والمحبة ، فما أضاءت ما حوله وبذل في الاجتهاد جده وحوله هبت نكباء النكبات فصدئت مرآة قلبه ، وذهب الله بنوره وانخمدت نار الطلب وآل المشؤوم إلى طبعه ) إلا من أكره ( على مباشرة فعل أو قول يخالف الطريقة من معاملات أهل الطبيعة فيوافقهم فيها في الظاهر ويخالفهم بالباطن حتى يخلص من سؤم صحبتهم ) استحبوا ( اختاروا محبة الدنيا وشهواتها على محبة الله ) وإن الله لا يهدي ( إلى حضرته ) القوم الكافرين ( بنعمته ) وأولئك هم الغافلون ( عما أعدّ الله لعباده الصالحين. ) هم الخاسرون ( لأن الإغضاء عن العبودية يورث خسران القلوب عن مواهب الربوبية ) ثم إن ربك للذين هاجروا ( نفوسهم وهواهم ) من بعدما فتنوا ( بمخالفة أوامر الحق ونواهيه ) ثم جاهدوا ( النفوس بسيوف الرياضيات ) وصبروا ( على تزكيتها وتحليتها متمسكين بذيل إرادة الشيخ ) يوم تأتي ( أرباب النفوس ) تجادل على نفسها ( على قدر بقاء وجودها دفعاً لمضارّها باقٍ ببقاء ربه فيقول : أمتي لأنه مغفور نفسي إلا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه فانٍ بالكلية عن نفسه باقٍ ببقاء ربه فيقول : أمتي أمتي لأنه مغفور ذنب وجوده المتقدم في الدنيا والمتأخر في الآخرة بما فتح الله له ليلة المعراج إذا واجهه بخطاب ) سلام عليك أيها النبي ( ففني عن وجوده بالسلام وبقي بوجوده بالرحمة ، فكان فلهذا قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. يعني الذين صلحوا لبذل الوجود في طلب المقصود ) قرية ( هي قرية شخص الإنسان ) كانت آمنة ( أي آهلة وهو الروح الإنساني ) مطمئنة ( بذكر الله ) يأتيها رزقها ( من المواهب ) من كل مكان ( روحاني وجسماني ) فكفرت ( النفس الأمارة ) فأذاقها الله لباس الجوع ( وهو انقطاع مواد التوفيق فأكلوا من جيفة الدنيا وميتة المستلذات ) والخوف ( وهو خوف الانقطاع عن الله ) ولقد جاءهم رسول ( الوارد بالرباني فما تخلقوا بأخلاقه ) وكلوا مما رزقكم الله ( من أنوار الشريعة وأسرار الطريقة ) هذا حلال وهذا حرام ( على عادة أهل الإباحة ) وعلى الذين هادوا ( أي تابوا ) حرمنا ( من موانع الوصول ) ما قصصنا عليك ( في بدوّ نبوتك حتى كنت محترزاً عن صحبة خديجة وتنحيت إلى حراء أسبوعاً أو أسبوعين. ) وما ظلمناهم ( بتحريم ذلك عليهم بل أنعمنا به عليهم ) ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( بالإعراض عنا بعد الإقبال علينا ) ولم يك من المشركين ( ممن له شركة مع الله في الوجود ) اتبع ملة إبراهيم ( في الظاهر حتى يتبعك هو في الباطن ولهذا ذهب إلى ربه ماشياً ) إني ذاهب إلى ربي ) [ الصافات : 99 ] وأسري بمحمد راكباً ) سبحان الذي أسرى بعبده ) [ الإسراء : 1 ](4/319)
" صفحة رقم 320 "
فهو خليل وأنت حبيب ، اتبعت الخليل في الدنيا فيتبعك الخليل في الآخرة ) الناس محتاجون إلى شفاعتي يوم القيامة حتى إبراهيم عليه السلام (. ) وإن عاقبتهم ( النفس الأمارة ) فعاقبوا ( أي بالغوا في عقابها بالفطام عن مألوفاتها ) بمثل ما عوقبتم به ( من الانقطاع عن مواد التوفيق والمواهب. ) ولئن صبرتم ( على معاقبتهم ) لهو خير ( لأن عقاب الحبيب على قدر عقاب العدو وأعدى عدوذك نفسك التي بين جنبيك. ) واصبر ( على معاقبة النفس ومخالفة الهوى. ) وما صبرك إلا بالله ( لأن الصبر من صفات الله ولا يقدر أحد أن يتصف بصفاته إلا به بأن يتجلى بتلك الصفة له. ) ولا تحزن ( على النفس وجنودها عند المعاقبة فإن فيها صلاح حالهم ومآلهم. ) ولا تك في ضيق مما يمكرون (. فإن مكرهم يندفع بمعونة الله عند الفرار إليه والله أعلم .
تم الجزء الرابع عشر ، ويليه الجزء الخامس عشر أوله تفسير سورة الإسراء(4/320)
" صفحة رقم 321 "
سورة الإسراء
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الخامس عشر من أجزاء القرآن
( سورة بني إسرائيل مكية إلا قوله ) وإن كادوا ليفتنونك ( إلى قوله ) وقل جاء الحق (
حروفها 6460 كلمها 1563 آياتها 111 ) بسم الله الرحمن الرحيم
( الإسراء : ( 1 - 21 ) سبحان الذي أسرى . . . .
" سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم(4/321)
" صفحة رقم 322 "
مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا "
( القراآت )
يخذوا ( بياء الغيبة. أبو عمرو وعباس مخيراً. الباقون بتاء الخطاب ) أساتم ( بالمد : أبو عمرو ويزيد الأصبهاني عن ورش والأعشى وحمزة في الوقف. ) ليسوء ( بياء الغيبة على التوحيد : ابن عامر وحمزة وأبو بكر وحماد و ) لنسوء ( بالنون : علي. الباقون ) ليسؤوا ( على الجمع ) ويبشر ( مخففاً : حمزة وعلي. ) ويخرج ( بالياء مجهولاً : يزيد ) ويخرج ( لازماً : يعقوب الآخرون بالنون متعدياً ) تلقاه ( مشدداً : ابن عامر ويزيد ، وروى النقاش عن ابن ذكوان بالإمالة. الباقون مخففة ، وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة ) قرأ كتابك ( بغيرهم : الأعشى وأوقية وحمزة في الوقف : ( أمرنا ( من باب المفاعلة : يعقوب. الوقوف : ( آياتنا ( ط ) البصير ( ه ) وكيلاً ( ط لمن قرأ ) تتخذوا ( بتاء الخطاب لإمكان أن يجعل ) ذرية ( منادى ) نوح ( ط ) شكوراً ( ه ) كبيراً ( ه ) الديار ( ط ) مفعولاً ( ه ) نفيراً ( ه ) فلها ( ط لأن ما بعد عائد على إلى قوله ) فإذا جاء وعد أولادهما ( مع اعتراض العوارض ) تتبيراً ( ه ) يرحمكم ( ه للابتداء بالشرط مع العطف ) عدنا ( ه حذراً من توهم العطف ) حصيراً ( ه ) كبيراً ( ه لا للعطف ) أليما ( ه ) بالخير ( ط ) عجولاً ( ه ) والحساب ( ، ط ) تفصيلاً ( ه ) عنقه ( ط ) منشوراً ( ه ) كتابك ( ط ) حسيباً ( ه ط للابتداء بعد بالشرط ) لنفسه ( ج للشرط مع العطف ) عليها ( ط ) أخرى ( ط ) رسولاً ( ه ) تدميراً ( ه ) نوح ( ط ) بصيراً ( ه ) جهنم ( ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف ) مدحوراً ( ه ) مشكوراً ( ه ) عطاء ربك ( ط ) محظوراً ( ه ) بعض ( ط ) تفصيلاً (. الوقوف : لما عزم على نبيه في خواتيم النحل جوامع مكارم الأخلاق حكى طرفاً مما خصة به من المعجزات فقال : ( سبحان الذي ( وهو اسم علم للتسبيح وقد مر إعرابه في قوله : ( سبحانك لاعلم لنا إلاَّ ما علمتنا ) [ البقرة : 32 ] والمراد تنزيه الله من كل مالا يليق بجلاله ) وأسرى ( وسرى لغتان. يروى أنه لما وصل النبي صلى الله علهي وسلم إلى المراتب العلية في معراجه في معراجه أوحى الله إليه يا محمد : بم أشرَّفك ؟ فقال : يا رب تنسيني إلى نفسك بالعبودية. فأنزل فيه : ( سبحان الذي أسرى بعبده ( وقوله : ( ليلاً ( نصب على الظرف وفيه تأكيد الإسراء ، وفي تنكيره تقليل مدة الإسراء لأن التنكير فيه معنى البعضية ،(4/322)
" صفحة رقم 323 "
أخبر أنه أسرى به في بعض الليل ) من المسجد الحرام ( عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق. وقيل : المراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به. وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد وإلى هذا القول ذهب الأكثرون. قالوا : إنه أسرى به من دار أم هانيء بنت أبي طالب قبل الهجرة بسنة. وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعثة. ) إلى المسجد الأقصى ( هو بيت المقدس بالإتفاق سمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ولم يكن حينئذ وراءه مسجد. ) الذي باركنا حوله ( يري بركات الدين والدنيا لأنه متعبد الأنبياء من قوت موسى عليه السلام ، ومهبط الوحي وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة. وقوله : ( أسرى ( مع قوله : ( باركنا ( سلوك لطريقة الالتفات ) لنريه من آياتنا ( بيان لحكمة الإسراء. سؤال : أرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السموات والأرض ، وأرى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بعض آياته فيلزم أن يكون معراج إبراهيم أفضل ؟ الجواب : لعل بعض الآيات المضافة إلى الله تعالى أشرف وأجل من ملكوت السموات والأرض كلها ولهذا ختم الآية بقوله : ( إنه هو السميع ( لأقوال محمد ) البصير ( بأفعاله المهذبة الخالصة فيكرمه على حسب ذلك. واعلم أن الأكثرين من علماء الإسلام اتفقوا على أنه أسري بجسد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، والأقلون على أنه ما أسرى إلا بروحه. حكى محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن حذيفة أنه قال : كان ذلك رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولكنه عرج بروحه. وحكى هذا القول عن عائشة أيضاً. وقد احتج بعض العقلاء على هذا القول بوجوه منها : أن الحركة الجسمانية البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة : ومنها أن صعوده إلى السموات يوجب انخراق الفلك. ومنها أنه لو صح ذلك لكان من أعظم معجزاته فوجب أن يكون بمحضر من الجم الغفير حتى يستدلوا بذلك على صدقه ، وما الفائدة في إسراته ليلاً على حين غفلة من الناس. ومنها أن الإنسان عبارة عن الروح وحده لأنه باقٍ من أول عمره إلى آخره ، والأجزاء البدنية في التغير والانتقال والباقي مغاير للمتغير ، ولأن الإنسان يدرك ذاته حين ما يكون غافلاً عن جميع جوارحه وأعضائه. ومنها قوله سبحانه. ) وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاَّ فتنة للناس ) [ الإسراء : 60 ] وما تلك الرؤيا إلاَّ حديث المعرج. وإنام كانت فتنة للناس لأن كثيراً ممن آمن به حين سمعها(4/323)
" صفحة رقم 324 "
ارتد وكفر به. ومنها أن حديث المعراج الجسماني اشتمل على أشياء بعيدة عن العقل كشق بطنه وتطهيره بماء زمزم وركوب البراق وإيجاب خمسين صلاة ، فإن ذلك يقتضي نسخ الحكم قبل حضور وقته ، وأنه يوجب البداء. أجاب الأكثرون عن الأول بأنه حركة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة إلى فوق الفلك الأعظلم لم يكن إلاّ نصف قطر الفلك ، ونسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة أمثال وسبع هي نصف حركة الفلك في يوم بليلته ، وإذا كان الأكثر واقعاً فالأقل بالإمكان أولى ، ولو كان القول بمعراج محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في ليلة واحدة ممتنعاً لكان القول بنزول جبريل من العرش إلى مكة في لحظة واحدة ممتنعاً ، لأن الملائكة أيضاً أجسام عند جمهور المسلمين ، وكذا القول في حركات الجن والشياطين وقد سخر الله تعالى لسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر ، وقد ) قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) [ النمل : 40 ]. وكان عرش بلقيس في أقصى اليمن وسليمان في الشام. وعلى قول من يقول إن الإبصار بخروج الشعاع فإنما ينتقل شعاع العين من البصر إلى الكواكب الثابتة في آن واحد ، فيثبت أن المعراج بهذه ممكن في نفسه. أقصى ما في الباب الاستبعاد وخرق العادة ولكنه ليس مخصوصاً بهذه الصورة وإنما ذلك أمر حال في جميع المعجزات. وعن الثاني أن انخراق الأفلاك عند حكماء الإسلام جائز. وعن الثالث أن فائدة الإسراء قد عادت إليه حيث شاهد العالم العلوي والعرش والكرسي وما فيها وعليها فحصل في قلبه زيادة قوة وطمأنينة ، بها انقطعت تعلقاته عن الكونين ولم يبق مشغول القلب بشيء من أمور الدنيا والآخرة. وعن الرابع أن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد. وعن الخامس أن تلك الرؤيا هي غير حكاية المعراج كما سيجيء في تفسيره ، ولو سلم أنها هي المعراج فالرؤيا بمعنى الرؤية : وعن السادس أنه لا اعتراض على الله تعالى في شيء من أفعاله وأنه على كل شيء قدير : واعلم أنه ليس في الآية دلالة على العروج بيت المقدس إلى السموات وإلى ما فوق العرش إلاَّ أنه ورد الحديث به ، ومنهم من استدل على ذلك بأول سورة النجم أو بقوله ) لتركبن طبقاً عن طبق ) [ الأنشقاق : 19 ] وتفسيرهما مذكور في موضعه. يروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) نائماً في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليته وقص القصة على أم هانىء وقال : مثل لي النبيون وصليت بهم. وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال : مالك ؟ قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم قال : وإن كذبوني. فخرج فجلس إليه أبو جهل فأجهل فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (4/324)
" صفحة رقم 325 "
بحديث الإسراء به وأنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس ومنه عرج إلى السماء ورأى ما فيها من العجائب ولقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى ، فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي هلم فحدثهم ، فمن بين مصفقٍ وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً ، وارتد ناس ممن كان آمن به. وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال : إن كان قال ذلك لفد صدق. قالوا : أتصدقه على ذلك ؟ قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق. وكان فيهم من سافر إلى الشام فاستنعتوه المسجد فجلى له ( صلى الله عليه وسلم ) بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا : أما النعت فقد أصاب. فقالوا : أخبرنا عن عيرنا فأخبرهم بعدد جمالهم وأحوالها وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم. هذه والله الشمس قد شرقت ، وقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم لم يؤمنوا وقالوا : ما هذا إلاَّ سحر مبين. ولما حكى طرفاً من إكرام محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر شيئاً من إكرام موسى فقال : ( وآتينا موسى الكتاب ( أي التوراة ) وجعلناه هدى لبني إسرائيل ( أخرجناهم بواسطته من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين ) ألا تتخذوا ( من قرأ على الغيبة ف ( أَنْ ) ناصبة ولام العاقبة محذوفة أي لئلا يتخذوا ، ومن قرأ على الخطاب فَ ( أَنْ ) مفسرة معناها أي لا تتخذوا كقولك : كتبت إليه أن افعل كذا ، وزائدة والقول مضمرة يعني قلنا لهم لا تتخذوا ) من دوني وكيلاً ( رباً تكلون إليه أمركم يا ) ذرية من حملنا مع نوح ( قال قتادة : الناس كلهم ذرية نوح عليه السلام لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين : سام وحام ويافث ، والناس كلهم من ذرية أولئك. فقوله ( يا ذرية ) قائم مقام قوله : ( يا أيها الناس ( وعلى القراءة الأولى انتصب ) ذرية ( على الاختصاص ، وعلى القراءتين احتمل أن ينتصب على أنه مفعول آخر ليتخذوا أي لا تجعلوهم أرباباً كقوله : ( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ) [ آل عمران : 80 ] من ذرية المحمولين مع نوح وعيسى وعزير. ثم علل النهي عن الإشراك بقوله : ( إنه كان عبداً شكوراً ( أي أنتم ذرية من آمن به وحمل معه فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم في الشكر لله وعدم اتخاذ الشريك له. ويجوز أن يكون تعليلاً لاختصاص بني إسرائيل والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح فهم متصلون به ، فلهذا استأهلوا الاختصاص. وجوز في الكشاف أن يكون ثناء على نوح بطريقة الاستطراد. يروى شكره أنه كان إذا أكل قال : الحمد لله الذي أطمعني ولو شاء أجاعني ، وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني ، وإذا اكتسى قال :(4/325)
" صفحة رقم 326 "
الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني ، وإذا احتذى قال : الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني ، وإذا قضى حاجتهقال : الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه ، وكان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجاً آثر به. ثم ذكر أن كثيراً من بني إسرائيل ما اهتدوا بهدى التوراة فقال : ( وقضينا إلى بني إسرائيل ( أوحينا إليهم وحياً مقضياً مقطوعاً به في الكتاب الذي هو التوراة. وقول : لتفسدن ( جواب قسم محذوف ، أو أجرى القضاء المبتوت مجرى القسم كأنه قيل : وأقسمنا لتفسدن ) في الأرض ( أرض مصر ) مرتين ولتعلن ( لتعظمن وتستولن على الناس ) علواً كبيراً ( تسلطاً عظيماً وبغياً شديداً ) فإذا جاء وعد ( عقاب ) أولاهما ( أولى المرتين ) بعثنا ( أرسلنا وسلطنا ) عليكم عباد لنا أولي بأس شديد ( أصحاب نجدة وشدة قتال ) فجاسوا ( ترددوا للمارة ) خلال الديار ( أوساطها وفرجها يعني ديار بيت المقدس ) وكان ( وعد العقاب ) وعداً مفعولاً ( لا بد من وقوعه ) ثم رددنا لكم الكرة ( الدولة والغلبة ) عليهم ( على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو : ( وجعلناكم أكثر نفيراً ( مما كنتم. والنفير من ينفر مع الرجل من قومه. احتجت الأشاعرة بقوله سبحانه : ( قضينا ( بعثنا ) وكان وعداً مفعولاً ( على صحة القضاء والقدر وأن الفساد والنهب والقتل والأسر كلها بفعله. وأجابت المعتزلة بأن المراد أنه خلى بينهم وبين ما فعلوا ولم يمنعهم عن تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظها. وضعف بأن تفسير البعث بالتخلية وعدم المنع خلاف الظاهر ، على أن الدليل الكلي العقلي قد دل على وجوب انتهار الكل إليه. ولما حكى عنهم أنهم حين عصوا سلط عليهم أعداءهم مهد قاعدة كلية في الإحسان والإساءة قائلاً ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ( لم يقل فعليها أو فإليها للتقابل ، مع أن حروف الإضافة بعضها يقوم مقام البعض. قال أهل الإشارة : إنه أعاد الإحسان ولم يذكر الإساءة إلا مرة ففيه دليل على أن جانب الرحمة أغلب ) فإذا جاء وعد ( عقاب المرة ) الآخرة ( بعثناهم حذف جواب ( إذاً ) لدلالة ذكره أولاً عليه. ومعنى ) ليسوؤا وجوهكم ( ليجعلها الله ، أو الوعد ، أو البعث ، أو ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه ) وليتبروا ما علوا ( ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه ، ويجوز أن يكون ( ما ) بمعنى المدة أي ما دام سلطانهم جارياً على بني إسرائيل. وقوله : ( تتبيراً ( ذكر المصدر إزالة للشك وتحقيقاً للخبر. وروى أن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واتحلوا المحارم وقتلوا(4/326)
" صفحة رقم 327 "
الأنبياء وسفكوا الدماء وذلك أول الفسادين ، فسلط الله عليهم بختنصر أو سنجاريب وجنوده أو جالوت. عن ابن عباس : قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وسبوا منهم سبعين ألفاً وبقوا في الذل إلى أن قيض الله ملكاً آخر من أهل بابل وتزوج بامرأة من بني إسرائيل وطلبت من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل ، وبعد مدة قامت فيهم. الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه ، ثم أقدموا على قتل زكريا ويحيى عليهما السلام وقصدوا قتل عيسى ابن مريم عليه السلام ، وهذا ثاني الإفساد فانتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له قسطنطين الملك. وقال صاحب الكشاف : المرة الأولى قتل زكريا وحبس أرميا ، والآخرة قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى. واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام ، والمقصود الأصلي الذي دل عليه القرآن هو أنهم كلما عصوا وأفسدوا سلط الله عليهم أعداءهم. وفيه تحذير للعقلاء من مخالفة أوامر الله ونواهيه ، ثم قال : ( عسى ربكم ( يا بني إسرائيل ) أن يرحمكم ( بعد إنتقامه منكم في المرة الثانية ) وإن عدتم ( للثالثة ) عدنا ( لها. قال أهل السير : ثم إنهمقد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي. وهو تكذيب محمد وكتمان ما ورد من نعته في التوراة والإنجيل. فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب ، فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والإجلاء ، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا حشمة لهم ولا عزة فيهم إلى يوم القيامة ، وأما بعد ذلك فهو قوله ) وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً ( أي محبساً حاصراً ومحصوراً لا يتخلصون منه أبداً. وعن الحسن : بساطاً كما يبسط الحصير المنسوج. ثم لما شرح فعله في حق عباده المخلصين كمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وموسى عليه السلام وفي حق عبيدة العاصين كأكثر بني إسرايل ، وكان في ذلك تنبيه على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ومعصيته تقتضي كل شر وغرامة ، عظم شأن القرآن المبين للأحكام الهادي للأنام فقال : ( إن هذا القرآن يهدي للتي ( أي للحالة أو الشريعة أو الطريقة التي ) هي أقوام ( وفي حذف الموصوف فخلفه بعرفها أهل البلاغة لعموم الاعتبار وذهاب الوهم كل مذهب. قيل : هذا الشيء أقوم من ذلك. إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة ، ثم يكون للأول على الآخر. وكيف يتصور في غير هذا الدين شيء من الاستقامة حتى يستقيم هذا التفضيل ؟ وأجيب بأن ( أفعل ) ههنا بمعنى الفاعل كقولنا ( الله أكبر ) هو الكبير. وكقولهم ( الناقص والأشج أعدلا بني مروان ) أي عادلا بني مروان. ويمكن أن يقال : لا شيء من الأديان إلا وفيه نوع من الاستقامة كالاعتراف بالله الواجب(4/327)
" صفحة رقم 328 "
بالذات ، والالتزام لأصول الأخلاق ومكارم العادات وقوانين السياسات إلا أن بعض الخلل أبطل الكل فالكل ينهدم بانهدام الجزء. ثم إن كون القرآن هادياً إلى الإعتقاد الأصوب والعمل الأصلح له نتيجة وأثر وذلك هو البشارة بالأجر الكبير لأهل الإيمان والعمل الصالح وبالعذاب الأليم لغيرهم ، وأنت خبير بأن لفظ البشارة بمعنى الإنذار يستعمل للتهكم إذ البشارة مطلق الخبر المغير للبشرة فكأنه قيل : ويخبر الذي لا يؤمنون بالآخرة أن لهم عذاباً. ويجوزأن يبشر المؤمنين ببشارتين : إحداهما بثوابهم والأخر بعذاب أعدائهم. قال في الكشاف : كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة ؟ وأجاب على أصول الاعتزال بأن الناس كانوا حينئذ إما من أهل التقوى وإما من أهل الشرك ، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك. قلت : هذا الجواب منه عجيب ، فإنه هذا الصنف لو سلم أنه لم يكن موجوداً في ذلك العصر إلا أن حكمه يجب أن يذكر في القرآن الذي فيه أصول الأحكام ، على أن ذكر الفساق من الامة في القرآن المكي والمدني موجودة قال تعالى : ( فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ) [ لقمان : 32 ] ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) [ الزمر : 52 ] ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ) [ آل عمران : 135 ]. وإذا كان ذكرهم في القرآن وارداً وأنه تعلى يعدد ههنا أوصاف القرآن على جهة المدح فأي مقام أدعى إلى ذكر هذا الوصف من ههنا. والجواب الحق أن الفسقة جعلوا بالعين أهل الإيمان والله أعلم. قيل : هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة. والجواب المنع من الخصوص ولو سلم فإيمانهم بالآخرة كلا إيمان ، فبعضهم أنكروا المعاد الجسماني وبعضهم قالوا : لن تمسنا النار إلاَّ أياماً. واعلم أنه سبحانه قال ههنا : ( أجراً كبيراً ( وفي أول الكهف ) أجراً حسناً ) [ الآية : 2 ] ، رعاية للفاصلة وإلا فالأجر الكبير والأجر الحسن كلاهما الجنة. ولما بين أن القرآن كافٍ في الهداية ذكر أن الإنسان قد يعدل عن التمسك بأحكامه فقال : ( ويدع الإنسان ( أي جنس الكافر. وقد ذكر جمع المفسرين أن النضر بن الحرث دعا ) اللَّهم إن كان هذا هو الحق من عندك ) [ الأنفال : 32 ] ، الآية فأجاب الله دعاءه وضربت رقبته صبراً. وكان بعضهم يقول : ائتنا بعذاب الله ، وآخرون متى هذا الوعد جهلاً منهم واعتقاداً أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كاذب. وقيل : المراد أنه يدعوا الله عند غضبه وضجره فيعلن نفسه وولده وماله ، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. ويروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً فأقبل يئن بالليل فقالت له : مالك تئن ؟ فشكا ألم القد فأرخت من كتافه ، فلما نامت أخرج يده(4/328)
" صفحة رقم 329 "
وهرب. فلما أصبح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا به فأعلم بشأنه فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : اللَّهم اقطع يديها فرفعت سودة يديه تتوقع الإجابة وأن يقطع الله يديها قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إني سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلي رحة لأني بشر أغضب كما يغضب البشر فلترد سودة يديها. ) وكان الإنسان عجولاً ( يستعجل بالعذاب مع أنه آتيه أو يتسرع إلى طلبه كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله معتقداً أن خيره فيه وإن كان ذلك عند التأمل مضراً له. وقيل : أراد بهذا الإنسان آدم ، وذلك أنه لما انتهى الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى فذهب لينهض فلم يقدر. وليس هذا القول بالحقيقة مغايراً للأول لأن أصل الآدمي إذا كان كذلك كان كل فرد منه متصفاً به لا محالة. قال أهل النظم : لما ذكر نعمة الدين وهو القرآن أردفها بنعمة الدنيا فقال : ( وجعلنا الليل والنهار آيتين ( وفيه أن القرآن لا يتم المقصود منه إلا بنوعية كالنهار في وضوحه ، والمتشابه بمنزلة الليل في خفائه. وبوجه آخر لما ذكر دلائل النبوة والتوحيد أكدها بدليل آخر من عجائب الزمان. وبوجه آخر لما وصف الإنسان بكونه عجولاً أي منتقلاً من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة بين أن كل أحوال هذا العالم كذلك فينتقل الهواء من الإنارة إلى الظلام وبالعكس ، وينتقل القمر من النقصان إلى الامتلاء وبالضد. ) فمحونا آية الليل ( هي من إضافة الشيء إلى نفسه للبيان كقولك ( نفس الشيء أو ذاته ) أي فمحونا الآية التي هي الليل أي جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموساً مظلماً لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو ) وجعلنا ( الآية. التي هي ) النهار مبصرة ( ذات إيصار وذلك باعتبار من فيها أي تبصر فيها الأشياء وتستبان ، أو أريد بالإبصار الإضاءة لأنها سببه. وقيل : المضاف محذوف والتقدير وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس فترى به الأشياء رؤية غير بينة ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء ) لتبتغوا فضلاً من ربكم ( لتتواصلوا ببياض النهار أو بشعاع الشمس المستلزم للنهار إلى التصرف في وجوه معايشكم. ) وتعلموا ( باختلاف الجديدين أو بزيادة ضوء القمر ونقصانه ) عدد السنن ( الشمسية أو القمرية المركبة من الشهور ) و ( لتعلموا جنس ) الحساب ( المبني على الساعات والأيام والشهور والسنين والأدوار. وقيل : أراد بمحو القمر الكلف الذي هو وجهه. وسببه في الشرع ما روي أن الشمس والقمر كانا سواء سواء في النور والضوء فأرسل الله تعالى جبريل فأمر جناحه على وجه(4/329)
" صفحة رقم 330 "
القمر فأذهب عنه أثر الضياء. وسببه عند الفلاسفة أنه ارتكز في وجه الإنسان. ونحن قد جرم القمر لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصاحله لا سيما في أحوال البحار والبحارين على ما يذكره الأطباء ، إلا أن الكلف ليس له مدخل في ابتغاء فضل الله وفي معرفة الحسابات تفصيلاً. نعم لوقيل : إن الكلف نقص من نور القمر حتى لم يقو على إزالة ظلام الليل بالكلية فبقي في وقت السكون والراحة بحالة ووقت التردد في طلب المعاش بحالة ، وصار تعاقب الليل والنهار سبباً لمعرفة الأيام وما يتركب منها كان متجهاً. ثم قال : ( وكل شيء ( مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم ) فصلناه تفصيلاً ( بيناه بياناً غير ملتبس حتى انزاحت العلل وزالت الأعذار فلا يهلك من يهلك إلا عن بينة فلذلك قال : ( وكل إنسان ألزمناه طائره ( أي عمله ) في عنقه ( وبوجه آخر لما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل لابتغاء المعاش وللدعة والراحة ولمعرفة المواقيت ، وكان الغرض الأصلي من الكل هو الاشتغال بخدمة المعبود وتهذيب الأفعال وإصلاح الأقوال ، ذكر أن الإنسان مؤاخذ في عرصة القيامة بأقواله وأفعاله وسائر أحواله ليظهر أنه هل أتى بما هو المقصود من خلقه أم لا. قال أكثر أهل اللغة : إن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال اعتبروا أحوال الطائر أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه ، وإذا طار فهل يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً في الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على ما يسوقهم عملهم إليه من خير أو شر ، فإطلاق الطائر على العمل تسمية للنبي باسم لازمه. وقال أبو عبيدة : الطائر عند العرب الحظ ويقال له البخت. فالطائر ما وقع للشخص فيالأزل مما هو نصيبه من العقل والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة كأنه طائر يطير إليه من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب طيراناً لا نهاية له ولا غياة إلا إن انتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدر من غير خلاص ولا مناص وفي هذا دليل على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم الله به في الأزل ، والكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية. وإنه سبحانه أكد هذا المعنى بإضافة الإلزام على نفسه ثم بقوله : ( في عنقه (. يقال : جعلت هذا الأمر في عنقك أي قلدتكه والزمتك الاحتفاظ به. فإن كانخيراً يزينه كان كالطوق ، وإن كان شراً يشينه كان كالغل. ومن أمثال العرب ( تقلدها طوق الحمامة ) ) ونخرج له ( من قرأ بالنون فظاهر. وقوله : ( يلقاه منشوراً ( صفتان للكتاب أو ) يلقاه ( صفة ) منشوراً ( حال من مفعول يلقاه. ومن قرأ بالياء مجهولاً(4/330)
" صفحة رقم 331 "
أو لازماً فالضمير للطائر ) وكتابا ( حال منه ، يقالك لقيتالشيء ولقانية غيري. عن الحسن : يا ابن آدم بسطت الصحيفة وطويت في قبرك معك ، ثم إذا بعثت قلدتها في عنقك اقرأ كتابك ( على إضمار القول. قال قتادة : يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن قارئاً و ) وبنفسك ( فاعل كفى و ) حسيباً ( تمييز بمعنى حاسب وإنه كثير من فعل بالضم كقريب وبعيد ، ولكنه من فعل بالتفح غريب ، منه ما قال سيبويه : ضريب القداح بمعنى ضاربها ، وصريم بمعنى صارم. ( وعلى ) متعلق بحسيب من قولك حسب عليه كذا ، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى الكافي ثم وضع. موضع الشهيد فعدي بعلى لأن الشاهد يكفي المدعي ما أهمه. وذكر حسيباً بمعنى رجلاً حسيباً لأنه بمنزلة الشهيد ، والغالب أن الشهادة يتولاها الرجال كالقضاء والإمارة والنفس مؤوّل بالشخص ، أو حمل ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) على ( فعيل ) بمعنى ( مفعول ) كقتيل ، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب. قال الحسن : عدل الله في حقك من جعلك حسيب نفسك. وقال السدي : يقول الكافر يومئذٍ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له : ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً ( وروي أن يؤتى المؤمن يوم القيامة صحيفته وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها ، حتى إذا ظن أنها قد أوبقته قال الله تعالى له : فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك فيعظم سروره ويصير من الذين قال الله في حقهم ) وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ) [ عبس : 38 ، 39 ] قال الحكيم : التكرار يوجب تقرير الآثار ، فكل عمل يصدر من الإنسان خيراً أو شراً فإنه يحصل منه في جوهر روحه أثر مخصوص إلا أن ذلك الأثر يخفى ما دام الروح متعلقاً بالبدن مشتغلاً بواردات الحواس والقوى ، فإذا انقطعتعلاقته عن البدن قامت قيامته لأن النفس كأنها كانت ساكنة مستقرة في الجسد وعند ذلك قامت ووجهت نحو الصعود إلا العالم العلوي ، فيزول الغطاء وتنكشف الأحوال ويظهر على لوح النفس نقش كل شيء عمله في مدة عمره ، وهذا معنى الكتابة والقرآءة بحسب العقل ، وإنه لا ينافي ما ورد في النقل. ثم بين أن ثواب العمل الصالح وعقاب ضده مختص بفاعله لا يتعدى منه إلى غيره فقال : ( من اهتدى ( إلى قوله : ( وزر أخرى (. قال الجبائي : فيها دلالة على أن الأطفال لا يعذبون بكفر آبائهم ، وأن الوزر والإثم ليس من فعل الله وإلا لم يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره بل كان يجب أن لا وزر أصلاً لأن الصبي لا يوصف بالوزر لأنه غير مختار. وجواب الأشاعرة أن الوزر مختص بأفعال المكلفين من الثقلين ، وقدَحَت عائشة(4/331)
" صفحة رقم 332 "
بذلك في صحة ما رواه ابن عمر ( إنَّ الميت ليعذب ببكاء أهله ) واستدل به جماعة من الفقهاء في الامتناع من ضرب الدية على العاقلة. ويمكن أن يجاب بأنه ما من عام إلا وقد خصص. أما قوله : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ( فقد استدل به الأشاعرة في أن وجوب شكر المنعم لا يثبت بالعقل بل بالسمع لأن الوجوب لا تتقرر ما هيته إلا بترتيب العقاب على الترك ولا عقاب قبل الشرع بحكم هذه الآية. أجاب الخسم بأنه لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي لأن النبي إذا جاء وادعى المعجزة فهل يجب على المستمع قبول قوله والتأمل في معجزته أو لا يجب ، والثاني باطل بالاتفاق ، وعلى الأوّل إن وجب بالعقل فهو المدعي ، وإن وجب بالشرع فذلك الشارع إن كان ذلك النبي لزم إثبات الشيء ، وإن كان غيره دار أو تسلسل. وبوجه آخر إذا أوجب النبي بعض الأفعلا وحرم بعضها فلا معنى لذلك إلا ترتب العقاب على الترك أو الفعل. وعلى الأول على المكلف أن يحترز عن العقاب أو لا يجب لا سبيل إلى الثاني بالاتفاق ، وعلى الأول يلزم الموجوب العقلي وإلا لزم الدور أو التسلسل. ثم إن مذهب أهل السنة جواز العفو عن عقاب الكبيرة فتكون ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب ، ولا ذم مع جواز العفو فلم يبق إلا أن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب ، ولا يكون هذا الخوف إلا بمحض العقل فثبت أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه. فأما أن تجري الآية على ظاهرها يقال : العقل هو رسول الله إلى الخلق ، بل هو الرسول الذي لولاه لما تقررت رسالة أحد من الرسل ومجيء الأنبياء كالتنبيه على النظر وكالإيقاظ من رقدة الغفلة والحجة وإن كانت لازمة لهم قبل بعثه الرسل إلا أنها بعد البعثة ألزم. وإما أن يخصص عموم الآية فيقال : المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع. ومما ارتضاه الإمام فخر الدين الرازي أن مجرد العقل سبب في أنه يجب عليها فعل ما ينتفع به وترك ما يستضر به ، أما مجرد العقل فلا يدل على أنه يجب على الله شيء وذلك أنا مجبولين على طلب النفع والاحتراز عن الضرر ، والله تعالى منزه عن ذلك. ولقائل أن يقول : إنه سبحانه منزه عن الانتفاع والاستضرار إلا أنه حكيم جواد فلم يقبح من الحكيم الجواد ترك ما ينتفع به غيره وفعل ما يستضر به ، وإذا قبح منه ذلك حسن منه ضده ، والحكيم لا يترك الأحسن. فصدور ذلك الأحسن منه ألبتة هو(4/332)
" صفحة رقم 333 "
الذي لك أن تسميه وجوباً كما وصف به نفسه في قوله : ( كان على ربك حتماً مقضياً ) [ مريم : 71 ] ولكم من آية في القرآن دالة على أن الفعل قد يصدر منه صدوراً لا يحتمل النقيض من ذلك قوله : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها (. وللمفسرين في معنى ) أمرنا ( قولان : الأول أن المراد به الأمر الذي هو نقيض النهي وعلى هذا اختلفوا في المأمور به ، فالأكثرون على أن الطاعة والخير. وقال في الكشاف : معناه وإذا دنا وقت إهلاك قوم قوم ولم يبق من زمان إلا قليل أمرناهم بالفسق ففسقوا. ولما كان من أصول الاعتزال أنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ذكر أن الأمر واتباع الشهوات ، فكان إيتاء النعمة سبباً لإثارهم الفسوق على الائتمار فكأنهم مأمورون بذلك. ثم إنه جعل تقدير أمرناهم بالطاعة ففسقوا عن قبيل التكاليف بعلم الغيب ، ولم يجوّز أن تكون من قبيل ( أمرته فعصاني ) فإنه يفهم منه أن المأمور به قيام أو قراءة. ولقائل بأنه مثل أمرته فقام أو أمرته فقرأ فإنه لا يفهم منه إلا أن المأمور به شيء غير المعصية من حيث إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له فكذلك قوله : ( أمرته ففسق ) يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به ، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به كما أن كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها ، وهذا ظاهر فلا أدري لم أصرّ جار الله على قوله مع ضعفه ومخالفته أصله. القول الثاني إن معنى : ( أمرنا مترفيها ( أكثرنا فساقها. قال الواحدي : تقول العرب : أمر القوم. إذا كثروا ، وأمرهم الله إذا كثرهم ، وآمرهم أيضاً بالمد واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة ) فالسكة النخيل المصطفة ، والمهرة المأمورة كثيرة النتاج. وقد حمل بعضهم الحديث على الأمر ضد النهي أي قال الله لها : كوني كثيرة النسل فكانت ، وروي أن رجلاً من المشركين قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إني أرى أمرك هذا حقيراً. فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنه سيأمر ) أي سيكثر وسيكبر. والمترف في اللغة المنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش : ( ففسقوا فيها ( خرجوا عما أمرهم الله ) فحق عليها القول ( استوجبت العذاب ) فدمرناها تدميراً ( أهلكناها على سبيل الاستئصال. قال الأشاعرة : ظاهرة الآية يدل على أنه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء ، ثم توسل(4/333)
" صفحة رقم 334 "
إلى أهلاكهم بهذا الطريق ويؤيده قوله : ( فحق عليها القول ( أي بالكفر ثم التعذيب. وقال الكعبي : إن سائر الآيات دلت على أنه تعالى لا يبتدىء بالتعذيب كقوله : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) [ الرعد : 11 ] وقوله : ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ( فتلك الآيات محكمة وهذه المتشابهات فيجب حمل هذه على تلك. قال في التفسير الكبير : أحسن الناس كلاماً في تأويل هذه الآية القفال فإنه ذكر وجهين : الأول أخبر الله أنه لا يعذب أحداً بما علمه منه ما لم يعمل به أي لا يجعل علمه حجة على من علم أنه إن أمره عصاه بل يأمره حتى يظهر عصيانه للناس فحينئذ يعاقبه ومعنى الآية وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم. الثاني أن نقول : وإذا أردنا إهلاك قوم بسبب ظهور العصيان منهم لم نعالجهم بالعذاب في أوّل ظهور المعصية منهم ، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي. وخص المترفين بذلك لأن نعمة الله عليهم أكثر فكان الشكر عليهم أوجب ، فإذا لم يرجعوا وأصروا صب عليهم البلاء صباً. وزعم الجبائي أن المراد بالإرادة الدنو والمشارفة كقولك إذا أراد المريض أن يموت ازداد مرضه شدة ، وإذا أراد التاجر يريد ان يفتقر أتاه الخسران من كل جهة. ليس المعنى أن المريض يريد أن يموت والتاجر يريد أن يفتقر ، وإنما عنيت أنه سيصير إلى ذلك ، فمعنى الآية وإذا قرب وقت إهلاك قرية. وقد نقلنا مثله عن صاحب الكشاف ، ولا يخفى أنه عدول عن الظاهر. ثم ذكر عادته الجارية مع القرون الخالية فقال : ( وكم أهلكنا ( ف ) كم ( مفعول ) أهلكنا ( و ) من القرون ( بيان لكم وتمييز له أراد بهم عاداً وثمود ونحوهما. ثم خاطب ورسوله بما هو ردع للناس كافة قائلاً ) وكفى بربك ( الآية. قال الفراء : إنما يجوز إدخال الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم كقولك ( كفاك به ) ( وأكرم به رجلاً ) ( وطاب بطعامك طعاماً ) ولا يقال : قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك. وفي الآية بشارة عظيمة لأهل إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه. ثم أكد المعاني المذكورة من قوله : ( وكل إنسان ألزمناه طائره ( ومن قوله : ( من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ( بقوله : ( من كان يريد العاجلة ( أي المنفعة أو الدار العاجلة ) عجلنا له فيها ( ثم قيد المعجل بقيدين : أحدهما قوله : ( ما نشاء ( ولهذا ترى كثيراً من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه. وثانيهما قوله : ( لمن نريد ( وهو بدل من ) له ( بدل البعض من الكل لأن الضمير يرجع إلى ( من ) وهو للمعلوم ، ولهذا ترى كثيراً منهم يتمنون البعض اليسير من الدنيا ولا يؤتون فيجتمع عليهم فقر الدنيا وحرمان الآخرة بل عذابها لقوله : ( ثم جعلنا له جهنم يصلاها(4/334)
" صفحة رقم 335 "
مذموماً مدحوراً ( مطروداً من رحمة الله. ) ومن أراد الآخرة ( بأن يعقد بها همته ويتجافى عن دار الغرور ) وسعى لها سعيها ( أي حق السعي لأجلها وذلك أن يكون العمل الذي يتوسل به إل الفوز بثواب الآخرة من جملة القب والطاعات وعلى قوانين الشرع والعقل لا البدعة والهوى ) وهو مؤمن ( لأن شيئاً من صور الأعمال الصالحة لا يوجب الثواب إلا بعد تقديم الإيمان ) فأولئك كان سعيهم مشكوراً ( قال العلماء : الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة : اعتقاد كونه محسناً في تلك الأعمال ، والثناء عليه بالقول ، والإتيان بأفعال تدل على كونه معظماً عند ذلك الشاكر. والله سبحانه تعالى ، يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة لأنه يعلم كونهم محسنين في تلك الأعمال وأنه يثنى عليهم بكلامه ويعاملهم المعاملات الدالة على كونهم معظمين عند الله. وفي قوله : ( من كان يريد العاجلة ( دون أن يقول : ( من أراد العاجلة ) كما قال : ( ومن أراد الآخرة ( إشارة إلى أن مريد نفع الدنيا لا يكون مذموماً إلا إذا كان غالباً في ذلك ثابت القدم فسيح الأمل ، ومريد الآخرة يكون محموداً بأدنى التفاتة بعد وجود الشرط. قالت الأشاعرة : إن مجموع القدرة مع الداعي هو الموجب للفعل ونحن نشكر الله على الإيمان لأنه أعطى القدرة والداعية ، ولكنه حين حصل الإيمان للعبد واسستتبع السعادات الباقية صار العبد أيضاً مشكوراً ، ولا منافاة بين الأمرين. وقالت المعتزلة : نحن لا نشكر الله على الإيمان لأن المدح على عمل لم يعمله الممدوح قبيح. قال تعالى : ( ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ( ولكنا نشكره على ما أعطانا من القدرة والعقل وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل. واعلم أنه تعالى ذكر صنفين من الناس : قاصد خيرات الدنيا وقاصد خيرات الآخرة. وههنا ثلاثة أقسام أخر : الأوّل أن يكون طلب الآخرة في عمله راجحاً فقيل إنه غير مقبول أيضاً لما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال حكاية عن رب العزة : ( أنا إنى الأغنياء عن الشكر من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه ) وقيل : يعارض المثل بالمثل ويبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فيقع في حيز القبول. الثاني أن يكون طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين. الثالث أن يكون طلب الدنيا راجحاً. واتفقوا على أن هذين القسمين أيضاً لا يقبلان إلا أنهما على كل حال خير من الرياء المحض. ثم بين كمال رأفته وشمول رحمته فقال : ( كلا ( أي كل واحد من الفريقين ) نمد ( أي نزيدهم من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع بالمعصية. وقوله : ( هؤلاء وهؤلاء ( بدل من كل و ) من عطاء ربك ( متعلق ب ) نمد ( ) وما كان عطاء ربك محظوراً ( ممنوعاً من المكلف بسبب عصيانه ) أنظر ( يا محمد أو يا من له أهلية النظر والاعتبار إلى عطائنا المباح(4/335)
" صفحة رقم 336 "
للفريقين في الدنيا ) كيف فضلنا بعضهم على بعض ( فأوصلناه إلى مؤمن وقبضناه عن مؤمن آخر ، وأوصلناه إلى كافر وقبضناه عن كافر آخر ليكون بعضهم تحت تسخير بعض. ) وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ( لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا. وقيل : المراد أن المؤمين يدخلون الجنة والكافرين يدخلون النار فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين. وعن بعضهمك أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا ، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل ؟. التأويل : نزه نفسه بقوله : ( سبحان ( عن الاتحاد الكلي ، ولكن أخبر عن مقام وصول حبيبه. فقوله : ( أسرى ( إشارة إلى الجذبة الخفية عن الأغيار ، وقوله ( بعبده ( إشارة إلى مقام تصحيح نسبة العبدية التي هي آخر مقامات السالكين ، وقوله : ( ليلاً ( رمز إلى أن ذلك الجذب كاد يكون خفياً عن المجذوب إذا كان ذاهلاً عن أنانيته. وقوله : ( من المسجد الحرام ( هو مقام يحرم فيه الالتفات إلى ما سوى الله. ) إلى المسجد الأقصى ( هو مقام الفناء في الله ) الذي باركنا حوله ( بالبقاء بالله ) لنريه من آياتنا ( التي لم تسمع إذن ولا أبصرت عين ) إنه هو السميع البصير ( فلا يصل أحد إليه إلا إذا مع به وأبصر به. هذا ما خطر ببال هذاالضعيف في تأويل هذه الآية فإن كان صواباً فمن فضل الله وعطائه ، وإلا فمني ومن الشيطان ) فجاسوا خلال الديار ( الجسدانية بالتقل وفك التركيب وخلال الديار المعنوية حين استولت الصفات الذميمة على الخصال الحميدة لتخريب بيت مقدس القلب ) ثم رددنا لكم الكرة عليهم ( باستيلاء داود القلب وقتل جالوت النفس ) وأمددناكم بأموال ( الطاعات ) وبنين ( الإيمان والإيقان ) وإذا جاء وعد الآخرة ( حين ارتد عن الطريقة ) ليسؤوا ( وجوه قلوبكم بحجب سوء أعمالكم ) وإن عدتم ( إلى الجهل ) عدنا ( إلى الفضل ، أو وإن عدتم إلى الندم عدنا إلى الكرم ، أو إن عدتم إلى العبودية عدنا إلى الربوبية ، أو إن عدتم إلى التقربات عدنا إلى الجذبات ) وجعلنا ليل ( البشرية ونهار الروحانية ) فمحونا آية الليل ( وهي قمر القب فني في نور العقل حين تطلع شمس شهود الحق وهي آية النهار ، فإذا طلع الصباح استغنى عن المصباح ) لتبتغوا فضلاً من ربكم ( وهو تجلي ذاته وصفاته ، وقد اختص الإنسان به من بين المخلوقات. ) ولتعلموا ( أيام الطلب وحساب الترقي من مقام إلى مقام وكل شيء يحتاج إليه السالك بيناه بالإشارات ) من كان يريد العاجلة ( فيه أن قلب الإنسان بين أصبعي قهر الرحمن ولطفه وبحسب ذلك(4/336)
" صفحة رقم 337 "
يحوّل وجه إلى الدنيا حتى يؤل أمره إلى درجات البعد أو يحوّله إلى الآخرة حتى يصل إلى درجات الوصال والله المستعان على ما تصفون. ( الإسراء : ( 22 - 40 ) لا تجعل مع . . . .
" لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما "
( القراآت )
يبلغان ( مثنى : حمزة وعلي وخلف ) أف ( بالجر والتنوين : أبو جعفر ونافع وحفص ) أف ( بالفتح : ابن كثير وابن ذكوان وابن عمر وسهل ويعقوب غير مجاهد والمفضل. والباقون بالكسر. ) تبصطها كل البصط ( مثل : ( بصطة ( ) خطأ ( بفتحتين من غير مد : يزيد وابن ذكوان غير ابن مجاهد ) خطأ ( بالفتح ثم السكون : ابن مجاهد عن ابن ذكوان ) خطأ ( بالكسر والمد : ابن كثير. الباقون بالكسر ثم السكون ) فلا تسرف ( على الخطاب : حمزة وعلي وخلف وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. ) بالقسطاس ( مكسور القاف حيث كان : حمزة وعلي خلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل. وقرأ أبو نشيط والشموني غير النقاد بالصاد ) سيئه ( على إضافة سيء إلى ضمير ) كل ( :(4/337)
" صفحة رقم 338 "
حمزة وعلي وخلف وعاصم وابن عامر وسهل. الآخرون ) سيئة ( علم التأنيث. الوقوف : ( مخذولاً ( ه ) إحساناً ( ، ط ) كريماً ( ه ) صغيراً ( ، ط ) في نفوسكم ( ط ) غفوراً ( ه ) تبذيراً ( ه ) الشياطين ( ط ) كفوراً ( ، ) ميسوراً ( ه ) محسوراً ( ه ) ويقدر ( ، ط ) بصيراً ( ه ) إملاق ( ط ) وإياكم ( ط ) كبيراً ( ه ) فاحشة ( ط ) سبيلاً ( ه ) إلا بالحق ( ط لأن الشرط في أمر قد يقع نادراً خارجاً عن النهي. ) في القتل ( ط ) منصوراً ( ه ) أشده ( ز ) بالعهد ( ج على تقدير فإن. ) مسئولاً ( ه ) المستقيم ( ط ) تأويلا ( ه ) به علم ( ط ) مسئولاً ( ه ) مرحاً ( ج لاحتمال إضمار الفاء أو اللام ) طولا ( ه ) مكروهاً ( ه ) الحكمة ( ط ) مدحوراً ( ه ) إناثاً ( ط ) عظيماً (. التفسير : لما أجمل أعمال البر في قوله : ( وسعى لها سعيها وهو مؤمن ( أخذ في تفصيل ذلك مبتدئاً بأشرفها الذي هو التوحيد فقال : ( لا تجعل مع الله إلهاً آخر ( والخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الظاهر ولكنه في الحقيقة عام للمكلفين ، ويحسن أن يقال : إن الخطاب للإنسان كأنه قيل : يا أيها الإنسان لا تجعل أو القول مضمر أي قل لكل مكلف لا تجعل ومما يؤيد ذلك قوله : ( وقضى ربك ( فإن ذلك الخطاب لا يليق بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده. وانتصب قوله : ( فتقعد ( على أنه جواب للنهي والفاء في التحقيق عاطفة والتقدير : لا يكن منك جعل فقعود. وفيه وجوه منها. أن المراد به المكث يقال : ما يصنع فلان فيقال هو قاعد بأسوأ حال أي ماكث سواء كان قائماً أو جالساً. ومنها أن من شأن المذموم المخذوف أن يقعد نادماً متفكراً على ما فرط منه ، فالقعود على هذا حقيقة. ومنها أنه كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات فإن السعي فيه إنما يتأتى بالقيام والعجز عنه يلزمه أن يبقى قاعداً عن الطلب. ومنه أنه بمعنى الصيرورة من قولهم : ( شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة ) بمعنى صارت. ولا ريب أن المشرك جامع على نفسه الذم والخذلان لأنه بشركه يضيف بعض النعم الحاصلة في حقه من الله إلى غيره فيستوجب الذم بالكفران ويستحق الخذلان من حيث إنه لما فوض أمره إلى الشريك المعدوم أو العاجز الناقص بقى بلا ناصر ومعين. وأيضاً الكمال في الواحدة والنقصان في الكثرة ، فمثبت الشريك واقع في جانب النقصان فيورثه الذم والخذلان. ولما ذكر ما هو الركن الأعظم في الإيمان أتبعه سائر الشعائر فقال : ( وقضى ربك ( أي أمر أمراً جزماً وحكم حكماً قطعاً ) ألا تعبدوا ( أي بأن لا تعبدوا(4/338)
" صفحة رقم 339 "
ف ( أن ) ناصبة ويجوز أن تكون مفسرة ، والفعل النهي معناه أي لا يعبدوا. وقد روى ( ووصى ربك ) وبه قرأ علي وعبد الله فالتصقت الواو بالصاد فقرىء : ( وقضى ربك ( ثم قال : ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط لأن خلاف قضاء الله ممتنع. وضعف هذا القول بأنه يوجب تجويز وقوع التحريف والتصحيف في القرآن. أمر بعبادة نفسه ثم أردفه بالأمر ببر الوالدين وتقدير الكلام بأن تحسنوا بالوالدين أو وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، ولا يجوز أن يتعلق الباء في ) بالوالدين ( بالإحسان على ما ذهب إليه الواحدي ، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته وقد مر في أوائل البقرة تفسير قوله : ( وبالوالدين إحساناً ( وأنه لم يجعل الإحسان إليهما تالياً لعبادة الله. يحكى أن واحداً المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للفقر والعمى والزمانة. وقيل لأبي العلاء المعري : ماذا نكتب على قبرك ؟ قال : اكتبوا عليه : هذا ما جناه أبي علي
وما جنيت على أحد
وقال في ترك التزوج والولد : وتركت فيهم نعمة العدم التي
سبقت وصدّت عن نعيم العاجل
ولو أنهم ولدوا لعانوا شدة
ترمى بهم في موبقات الآجل
وقيل للإسكندر : أستاذك أعظم منَّة عليك أم والدك ؟ فقال : الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعلمي حتى أرتعني في نور العلم ، فأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد. ومن هنا قيل : ( خير الآباء من علمك ). وقال العقلاء : وهب أن الوالد في أول الأمر طلب لذة الوقاع إلا أن اهتمامه بإيصال الخيرات إلى الولد ودفع الآفات عنه من أول دخول الولد في الوجود إلى أوان كبره بل إلى آخر عمره لا ينكر ولا يكفر ، ولهذا نكر ) إحساناً ( أي أحسنوا إليهما إحساناً عظيماً كاملاً جزاء على وفور إحسانهما إليك ، على أن البادىء بالبر لا يكافأ لأنه أسبق منه. ثم فصل طرفاً من الإحسا المأمور به فقال : ( أما يبلغن ( هي ( إن ) الشرطية زيدت عليها ( ما ) الإبهامية لتأكيد معنى الشرط ، ثم أدخلت النون المشددة لزيادة التقرير والتأكيد كأنه قيل : إن هذا الشرط مما سيقع ألبتة عادة فليكن هذا الجزاء مرتباً عليه وإلا فالتقرير والتأكيد ليس يليق بالشرط الذي مبناه على تردد الحكم. وقال النحويون : إن الشرط أشبه(4/339)
" صفحة رقم 340 "
النهي من حيث الجزم وعدم الثبوت فلهذا صح دخول النون المؤكدة فيه. من قرأ الفعل على التوحيد فقوله : ( أحدهما أو كلاهما ( فاعل له لكن الأول بالاستقلال والثاني بتبعية العطف ، ومن قرأ على التنبيه فأحدهما يدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين ، وكلاهما عطف علىالبدل فهو بدل مثله. ولا يصح أن يكون توكيد للضمير معطوفاً على البدل لاستلزام العطف المشاركة دون المباينة. ) وكلاهما ( مفرد لفظاً مثنى معنى ، وألفه عن واو عند الكوفيين وأصله كل المفيد للإحاطة فخفف بحذف إحدى اللامين وزيد ألف التثنية ليعرف أن المراد الإحاطة في المثنى لا في الجمع. وضعف بأنه لو كان كذلك لوجب أن يقال في الخفض والنصب ( مررت بكلي الرجلين ) بكسر الياء كقوله ) طرفي النهار ) [ هود : 114 ] ( يا صاحبي السجن ) [ يوسف : 41 ] قال في الكشاف : معنى ) عندك ( هو أن يكبرا وعيجزا وكانا كلاً على ولدهما لا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وأف بكسرتين بلا تنوين. وأفى ممالاً كبشرى ، وأف كخذ ، وأفة منونة وغير ممنونة وقد تتبع المنونة تفة فيقال : أفة وتفة وهي من أسماء الأفعال. وفي تفسيرها وجوه : قال الفراء : تقول العرب فلان يتأفف من ريح وجدها أي يقول : أف أف. وقال الأصمعي : الأف وسخ الأذن ، والتف وسخ الأظفار. يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به. وقيل : معنى ( أف ) القلة من الأفيف وهو الشيء القليل ، وتف اتباع له ونحو شيطان ليطان وحيث بيث وخبيث نبيث. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أن الأف الضجر. وقال القتيبي : أصله أنه إذا سقط عليه تراب ونحوهنفخ فيه ليزيله ، فالصوت الحاص عند تلك النفخة هو القائل أف ، ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم ، قال الزجاج : معناه النتن وبه فسر مجاهد الآية أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك حين كنت تخر أو تبول. وفي رواية أخرى عن مجاهد : إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف أي لا تقل تضجرت أو أتضجر. قال بعض الأصوليين : من التأفيف يدل على المنع من سائر أنواع الأذية دلالة لفظية. ومعنى الآية لا تتعرض لهما بنوع من أنواع الإيذاء والإيحاش كما أن قولك لا يملك فلا نقيراً ولا قطميراً يدل في العرف على أنه لا يملك شيئاً أصلاً ، وقال الأكثرون منهم : إن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن صورة أخرى ، فإذا أردنا إلحاق المسكوت عنها بالمنصوص عليها فإما أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل اذكر وهو أكثر القياسات ، وإما أن يتساويا كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) :(4/340)