" صفحة رقم 47 "
فالمراد أنه أوجد السموات والأرض على حسب علمه الأزلي .
قال بعض العلماء : السماء كالدائرة والأرض كالمركز ، وحصول الدائر يوب تعين المركز ولا ينعكس لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا ناية لها فلهذا ذكر السماء قبل الأرض مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق لأرض مقدم على خلق السماء .
وجمع السموات حقيقة وكذا إفراد الأرض ، وقد تجمع الأرض باعتبار الطبقات وسوف يجيء تقرير ذلك في قوله ) ومن الأرض مثلهن ) [ الطلاق : 12 ] والمقصود من هذا الوصف إلزام المشركين ، وأن تخصيص حجم الفلك بمقدار معين وتخصيص كل من أجزائه بحيرز معين وتخصيص الفلك بالحركة والأرض بالسكون مع اشتراكهما في الطبيعة الجسمية ، وتخصيص كل حركة بحد معين من السرعة والبطء وبجهة معينة دلائل ظاهرة على وجود فاعل مختار واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله .
وأيضاً إن لحركة كل فلك أوّلاً لأن حقيقة الرحة انتقال من حالة إلى حالة فتقتضي المسبوقية بالغير ، وعدم الأولية ينافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال .
وإذا ثبت أن لكل حركة أوّلاً فاختصاص ابتداء حدوثة بوقت معين يدل على الفاعل المختار وكذا اتصاف بعض الأجسام بالفلكية وبعضها بالعنصرية مع تساوي الكل في تمام الماهية .
وأيضاً إن خارج العالم الجساني خلاء لا نهاية له كما ثبت في الكلام ، فحصول هذا العالم في حيزه الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر ممكن يحتاج إلى مرج قادر مختار حكيم يفعل ما يشاء كما يشاء .
هذا إذا نظرنا في ذوات هذه الأجرام ، أما إن اعتبرنا منافعها وكيفية تأثير الأثيريات وهي - الآباء - في العنصريات - وهي الأمهات - لتحصيل المواليد الثلاثة : المعادن والنباتات والحيوانات ، ارتقينا من ذلك أيضاً إلى وجود صانع قدير وحكيم خبير رتبته أعلى وأجل من رتب الممكنات .
أما قوله ) وجعل الظلمات والنور ( فمعناه أحدث وأنشأ ، ولهذا اقتصر على مفعول واحد ، ولو كان بمعنى ( صير ) اقتضى مفعولين .
وإنما لم يقل ( وخلق ) لأنه أراد التضمين أعني إنشاء شيء من شيء كقوله ) وجعل منها زوجها ) [ النساء : 1 ] فالنور والظلمة لما تعاقبا صار كأن كل واحد منهما تولد من الآخر .
وقيل : لأن الظلمات من الأجرام المتكلفة ، والنور من النار ، ولهذا جمع الظلمات إذ لكل حرم ظل والظل ظلمة .
وواحد النور لأن النار واحد وهو منها ، والظلمة والنور ههنا هما الأمران المحسوسان بالبصر ، لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة والقرينة ذكر السموات والأرض .
وعن ابن عباس أن الظلمة ظلمة الشرك والنفاق ، والنور نور الإسلام واليقين ، وعلى الأوّل فإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية ، ثم إنها تقبل التناقص قليلاً وتلك المراتب كثيرة ، أو لأنه قصد بالنور الجنس .
وعلى الثاني فذلك لأن الحق واحد والباطل أكثر أن يحصى .
وإنما قدمت الظلمة على النور لأن عدم المحدثات سابق(3/47)
" صفحة رقم 48 "
على وجودها ، والظلمة عدمية عند يجعلها عدم النور أو شبيهة بالعدم عند من يجعلها هيئة مضادة للنور. وقد ورد في الأخبار أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره. وقوله : ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ( معطوف على قوله : ( الحمد لله ( والمعنى أنه حقيق بالحمد على ما خلق فيم الذين كفروا يعدلون عن طريق الإنصاف فيكفرون بربهم ، أو على ) خلق السموات ( معناه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون أي يسوّون به ما لا يقدر على شيء من ذلك .
فعلى المعنى الأول يعدلون من العدول ، وعلى الثاني هو نالعدل .
ومعنى ( ثم ) ههنا وفي قوله ) ثم أنتم تمترون ( تراخي الرتبة واستبعاد مضموني الجملتين أحدهما عن الآخر .
ثم ذكر دليلاً آخر على إثبات الصانع وعلى صحة المعاد الجسماني فقال ) هو الذي خلقكم من طين ( أي من آدم لأنه مخلوق من الطين ، أو خلقكم من النطفة المتولدة من الأغذية المنتهية إلى العناصر ، ولا ريب أن خلق الأغذية المتنوعة من العناصر المتشابهة الأجزاء ، ثم تولي النطفة المتشابهة الأجزاء من تلك الأغذية المختلفة ، ثم تخليق الأعضاء المختلفة في الصفة والصور واللون والشكل كالقلب والدماغ والكبد والعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها من المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ومدبر رحيم .
ثم إن تلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادراً على إعادتها وإعادة الحياة فيها وذلك يدل على صحة القول بالمعاد .
أما قوله ) ثم قضى أجلاً ( فاعلم أن لفظ القضاء قد يرد بمعنى الحكم والمر ) وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [ الإسراء : 23 ] وبمعنى الخبر والإعلام ) وقضينا إلى بني إسرائيل ) [ الإسراء : 4 ] وبمعنى صفة الفعل إذا تم ) فقضاهن سبع سموات ) [ فصلت : 12 ] ومنه قولك : قضى فلان حاجة فلان .
والأنسب ههنا هو الأول .
والأجل في اللغة بمعنى الوقت المضروب لانقضاء الأمد .
وأصله من التأخير ومنه الآجل نقيض العاجل .
ثم إن صريح الآية يدل على حصول أجلين لكل إنسان .
فقال أبو مسلم : الأول آجال الماضين لأنهم لما ماتوا صارت آجالهم معلومة ، والثاني آجال الباقين لأنها غير معلومة بعد وإنما هي مسماة عند الله تعالى .
وقيل : الأول أجل الموت ، والثاني أجل القيامة لأنه لا آخر له ولا يعلم أحد كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله تعالى .
وقيل : الاول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ .
وقيل : الأول النوم ، والثاني الموت .
وقيل : الأول مقدار ما انقضى من عمل كل أحد ، والثاني ما بقي من عمره .
وقال حكماء الإسلام : الأوّل الأجل الطبيعي الذي يمكن بالنسبة إلى المزاج الأول لكل شخص لو بقي مصوناً عن الآفات الخارجية ، والثاني الأجل الاخترامي الذي يحصل بسبب من الأسباب الخارجية كالغرق والحرق والقتل واللدغ وغيرها من الأمور المنفصلة .
ومعنى ) مسمى ( أي مذكور اسمه في اللوح المحفوظ .(3/48)
" صفحة رقم 49 "
ومعنى ) عنده ( أي في حكمه وعلمه كما تقول : هذه المسألة عند الشافعي كذا وعند أبي حنيفة كذا .
وارتفع ) أجل ( بالاتبداء وجاز ذلك مع تنكيره لمكان وصفه فقارب المعرفة .
وإنما لم يقل ( وعنده أجل مسمى ) تعظيماً لشأن هذا الأجل فكأنه قيل : وأي أجل مسمى عنده ؟ والمرية والامتراء الشك .
ومعنى ( ثم ) تبعيد الامتراء عن مثل هذه الحجة الباهرة الموجبة للتيقن في أمر المبدأ والمعاد ، ثم قرر أنه سبحانه عالم بجميع المعلومات ردّاً على من زعم أنه غير عالم بالجزيئات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو فقال ) وهو الله في السموات وفي الأرض ( وزعمت المجسمة بهذا يوبنحو قوله ) أم أمنتم من السماء ) [ الملك : 17 ] أنه سبحانه مستقر في السماء قالوا : ويؤكده وقف بعض القراء على السموات والابتداء بقوله وفي الأرض يعلم سركم ( أي يعلم سرائركم الموجودة في الأرض .
ولو سلم أن لا وقف فالإجماع حاصل على أنه ليس موجوداً في الأرض ، ولا يلزم من ترك العلم بأحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر من دليل .
ونوقض بأنه تعالى قال في مواضع ) لله ما في السموات ) [ البقرة : 284 ] فلو كان هو في السماء لزم أن يكون مالكاً لنفسه ، ولا يخفى ضعف هذا النقض لأنه مخصوص بالقرينة كقوله ) إن الله على كل شيء قدير ) [ البقرة : 20 ] وبأنه إما أن يراد كونه في سماء واحدة وهو ترك الظاهر ، أو في جميع السموات وهو يقتضي كونه ذا أجزاء أو حصول امتحيز الواحد في مكانين وكلاهما محال .
والحق أنه لا يلزم من استصحاب المكان الافتقار إليه ولا التجسيم والتجزئة وهو دقيق يفهمه من وفق له ، وبأنه لو كان موجوداً فيالسموات لكان محدوداً متناهياً فيكون قابلاً للزيادة والنقصان ، فيكون اختصاصه بمقدار معين لمخصص فيكون محدثاً .
ويرد عليه أنه لم لا يجوز أن يكون في السموات وفوقها إلى ما لا يتناهى لا سيما عند من يقول إن وراء هذا العالم خلاء غير متناه ، وبأنه لو كان في السموات فإن لم يقدر عل عالم آخر فوقها لزم تعجيزه ، وإن قدر فلو فعل لحصل تحت ذلك العالم والقوم ينكرون كونه تحت العالم ، والاعتراض أنه لا يلزم من القدرة الإيجاد ، وقال غير المجسمة : المراد وهو الله في تدبير السموات والأرض كما يقال : فلان في أمر كذا أي في تدبيره وإصلاحه .
وعلى هذا يكون ) في السموات ( خبراً بعد خبر ، ويوقف على اسم الله ثم يبتدأ بما بعد ذلك ويكون المعنى أنه يعلم في السموات والأرض سرائر الملائكة والإنس والجن ، أو المراد وهو المعبود فيهما ، أو المعروف بالإلهية أو المتوحد بها ، أو هو الذي يقال له الله فهيما لا شريك له في هذا الإسم .
والسر من صفات القلوب وهي الدواعي والصوارف ، والجهر من أعمال الجوارح ، ولأن الأول مقدم على الثاني طبعاً فلا جرم قدم عليه وضعاً .
والجملة أعني قوله ) يعلم سركم وجهركم ( مقررة لما قبلها أو خبر ثالث أو كلام مبتدأ .
) ويعلم ما تكسبون ((3/49)
" صفحة رقم 50 "
الكسب أخص من الأعمال السرية والجهرية لأنه الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو اندفاع ضر ولها لا يوصف فعل الله تعالى بأنه كسب .
وإفراد الأخص بالذكر بعد الأعم للتقرير والتأكيد ، أو لكونه أهم حسن لا يلزم منه عطف الشيء على نفسه .
والمراد أنه عالم بما يستحقه الإنسان على أفعاله من ثواب أو عقاب .
ثم لما فرغ من دلائل التوحيد والمعاد شرع في النبوات فرتب أحوال الكفار مع الأنبياء في ثلاث مراتب : الأولى كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل وذلك قوله ) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم ( ( من ) الأولى للاستغراق والثانية للتبعيض .
والمراد وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار إلا وهم على حالة الإعراض لقلة تدبرهم وفرط غفلتهم .
الثانية : كونهم مكذبين وهذه شر مما قبلها لأن الإعراض قد يكون للغفلة لا للتكذيب وإذا كذب فق أعرض وزاد .
قال علماء المعاني : ههنا حذف كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية وهو الحق .
قال أنس : هو انشقاق القمر بمكة انفلق فلقتين فذهب فلقة وبقيت فلقة .
وقيل : هو الق ) آن الذي تحدّوا به فعجزوا عنه .
وقيل : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل : وعده ووعيده وتبشيره وإنذاره .
والأولى الحمل على الكل .
المرتبة الثالثة : كونهم مستهزئين لأن التكذيب إذا انضم معه الاستهزاء كان غاية في الغواية وذلك قوله ) فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا ( أي أخبار الشيء الذي كانوا ) به يستهزؤن ( وهو القرآن وغيره من المعجزات .
وليس المراد نفس الأنباء بل العذاب الذي أنبأ الله تعالى به كقوله ) ولتعلمن نبأه بعد حين ) [ ص : 88 ] والحكيم إذا توعد فربما قال : ستعرف نبأ هذا إذا نزل بك ما تحذره .
وذلك أن الغرض من الخبر حصول العلم بالمخبر عنه وذلك إنما يتحقق بعد المعاينة .
ومعنى الآية سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وأنه لم يكن موضع استهزاء وذلك عند نزول العقاب بهم في الدنسا كيوم بدر وغيره أو في الآخرة .
ثم لما زجرهم عن الإعراض والتكذيب والاستهزاء وأوعدهم على ذلك عاد على الموعظة والنصيحة بتذكير أحوال الأمم الماضية والقرون الخالية .
والقرن القوم المقترنون في زمان من الدهر المفترقون بعد ذلك بالموت الزمان في الأغلب ستون سنة .
وقيل : سبعون .
وقل : ثمانون .
والأقرب أنه غير مقدر بزمان لا يقع فيه زيادة ولا نقصان ، ولكنه إذا انقضى الأكثر من أهل كل عصر فقد انقضى القرن .
وليس المراد أن يصدّق الكفار محمداً في هذه الأخبار لانهم بصدد التكذيب فسيكذبونه فيها أيضاً ، وإنما المراد أن ما يختص بالمتقدمين منهم مشهور بين الناس فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا تلك الحكايات ومجرّد سماعها يكفي في الاعتبار .
ثم وصف تلك القرون بثلاثة أوصاف : الأول : تمكينهم في الأرض .
مكن له في الأرض جعل له مكاناً ، ومكنه فيها أثبته ، وهما متقاربان ولهذا جمع بينهما في(3/50)
" صفحة رقم 51 "
الآية .
والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما آتينا عاداً وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال وأسباب الدنيا .
الثاني : إرسال السماء عليهم مدراراً يعني الغيث أو السحاب أو الخضراء ، لأن المطر ينزل من ذلك الصوب والمدرار كثير الدرّدرّ اللين إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير .
ومدراراً نعت المطر ويقال أيضاً سحاب مدراراً إذا تتابع أمطاره .
ومفعال من أبنية المبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث .
الثالث ) وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ( أي تحت أمكنتهم والمراد أنهم أصحاب البساتين والقصور والمنتزهات .
فإن قيل : الهلاك غير مختص بهم وإنما يجري ذلك على الأنبياء والمؤمنين أيضاً ، قلنا : لدفع هذا الإشكال كرر فقال ) فأهلكناهم بذنوبهم ( فإن الإهلاك بسبب المعاصي والآثام لا يكون إلا بالعذاب والإيلام .
ثم نبه بقوله ) وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ( على كمال عزته واستغنائه ونهاية قدرته واستعلائه كقوله ) إن يشأ يذبكم ويأت بخلق جديد ) [ فاطر : 16 ] فالبلاد بلاده والعباد عباده بيده التخريب والتعمير وإليه الإعدام والإيجاد .
ثم ان الذين يتمردون عن قبول دعوة الأنبياء طوائف متعددة .
منهم من بالغ في حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها على وفق هواه ومناه لا على قانون الخير والعدل فمنعه ذلك عن التزام التكاليف وهو المذكور في الآية ، وفيه أن لذات الدنيا ذاهبة وعذاب الكفر باقٍ ، وليس من العقل تحمل العقاب الدائم لأجل اللذات الفانية .
ومنهم من حملته العصبية والعناد على تكذيب معجزات الأنبياء وجعلها من قبيل السخر الذي لا أصل له وهم الذين عنوا بقوله ) ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس ( والمعنى أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه وشاهدوه عياناً لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر .
وههنا سؤال وهو أن نزول الكتاب من السماء جملة إن لم يكن باب المعجزات لم يكن إنكاره منكراً ، وإن كان من قبيل الإعجاز فالملك يقدر على إنزاله من السماء وقبل الإيمان بصدق الرسال لم تكن عصمة الملائكة معلومة ، وحينئذ يجوز أن يكون نزول ذلك من قبل بعض الجن والشياطين ، أو من بعض الملائكة الذين لم تثبت عصمتهم فا يكون دليلاً على الصدق .
وأجيب بأن المقصود من الآية ليس بيان الإعجاز ، ولكن المراد أنهم إذا لمسوه بأيديهم يقوى الإدراك البصري بالإدراك اللمسي وبلغ الغاية في القوة والظهور .
ثم إن هؤلاء يبقون شاكين في أن ذلك الذي رأوه ولمسوه هل هو موجود أم لا ، وذلك يدل على أنهم بلغوا في الجهالة إلى حد السفسطة .
قال القاضي : في الآية دليل على وجوب اللطف لأنه بيَّن أنه إنما لم ينزل هذا الكتاب من حيث إنه لو أنزله لقالوا هذا القول فيفهم منه أنهم لو قبلوه وآمنوا به لأنزله لا محالة ، وزيف بأن المفعوم ليسب بحجة ، ولو سلم فوقوع اللطف لا يدل على وجوبه .
ومن الكفرة من قابل النبوات بإيراد الشبهات والاقتراحات .
قال الكلبي : إن مشركي مكة قالوا :(3/51)
" صفحة رقم 52 "
يا محمد والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله وذلك قوله ) وقالوا لولا أنزل عليه ملك ( فأجاب الله تعالى عن مقترحهم بقوله ) ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون ( ومعنى القضاء الإتمام والإلزام كما مر .
وتقرير الجواب أن إنزال الملك على البشرية آية باهر وحينئذ ربما لم يؤمنوا فيجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال ، أو لعلهم إذا شاهدوا الملك زهقت أرواحهم .
ألا ترى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأى جبرائيل على صورته الأصلية غشي عليه ؟ وأن جيمع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشرة كأضياف إبراهيم ولوط ، وكالذين تسوّروا المحراب ، وأن جبرائيل تمثل لمريم بشراً سوياً ؟ وفائدة ثمَّ أن عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأأن مفاجاة الشدة أفظع من نفس الدشة. ثم إنهم كانوا يطعنون في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من جهة أخرى وهي أنه بشر مثلهم ويقولون : ( لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً ) [ الفرقان : 7 ] وتقرير الشبهة أن الرسل إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر وقدرتهم أشد ومهابتهم أعظم وامتيازهم عن الخلق أكمل والاشتباه في نبوتهم ورسالتهم أقل ، والحكيم إذا أراد تحصيل مهم اختار ما هو أسرع إفضاء إلى المطلوب ، فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله ) ولو جعلناه ( أي الرسول ) ملكاً لجعلناه رجلاً ( لأن إنزال الملك آية ظاهرة جارية مجرى الإلجاء وإزالة الاختيار وذلك منافٍ لغرض التكليف ، ولأن الجنس إلى الجنس أميل ، ولأن البشر لا يطيق رؤية تالملك ، ولأن طاعات الملك كثيرة فيحقرون طاعات البشر ويستعظمون إقدامهم على المعاصي فلا يصبرون معهم ، ولأن إنزال الملك يقوي الشبهة من وه آخر وذلك أن أيذ معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك ، ولو حصل لنا مثل ما حل لك من القدرة والقوة لفعلنا مثل ما فعلت .
ثم قال ) وللبسنا عليهم ما يلبسون ( لبست الأمر على القوم ألبسه لبساً إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلاً ومنه لبس الثوب لأنه يفيد الستر .
والمعنى إذا جعلنا الملك في صورة البشر كان فعلنا نظيراً لفعلهم في التلبيس ، وإنما كان ذلك لبساً لأن الناس يظنونه ملكاً مع أنه ليس بملك ، أو يظنونه بشراً مع أنه ليس ببشر وإنما كان فعلهم لبساً لأنهم يخلطون على أنفسهم ويقولون إن البشر لا يصلح للرسالة فلا ينقطع السؤال أبداً ويبقى الأمر في حيز الاشتباه .
وعلى هذا التفسير يكون قوله ) ما يلبسون ( مفعولاً مطلقاً .
ويجوز أن يراد ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ فيكون مفعولاً به يعني أن القوم إذا رأوا الملك في صورة الإنسان اشتبه الأمر عليهم ، وإذ كنا قد فعلنا ذلك كان اللبس منسوباً إلينا .
ثم إنه سبحانه وتعالى سلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عما يلقى من قومه بقوله ) ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق ( أي نزل .
وقال الفراء : عاد عليهم والتركيب يدور على الإحاطة ومنه(3/52)
" صفحة رقم 53 "
الحوق بالضم ما استدار بالكمرة ) ما كانوا ( أي الشيء الذي كانوا يستهزؤون به وهو الحق الذي داء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، أسند الحق إليه حيث أهلكوا لأجل الاستهزاء به .
ويحتمل أن يراد بلفظة ( ما ) العذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله وهم يستهزؤن بذلك ، ثم أمر رسوله بأن يقول لهم : لا تغتروا بما وجدتم من زخارف الدنيا وسيروا في الأرض لتشاهدوا آثار الأمم السالفة الذين كذبوا رسلهم ونزل بهم ما نزل فإن الأسفار تورث الاعتبار وتفيد الاستبصار .
واعلم أنه سبحانه قال ههنا ) ثم انظروا ( وفي موضع آخر ) فانظروا ) [ آل عمران : 137 ] فالفاء لمجرد اعتبار ترتيب النظر على السير .
وثم لتباعد ما بين المباح والواجب فإن السير مباح والنظر واجب .
وأيضاً شتان بين السير الصوري بقدم الأشباح وبين السير المعنوي بقدم الأرواح والله أعلم .
التأويل : حمد نفسه القديم الأزلي بكلامه القديم الزلي على أن خلق سموات القلوب وأرض النفوس وجعل الظلمات .
أي الصفات البهيمية والسبعية في النفوس والنور في القلوب وهو صفاتها الملكية والروحانية .
فخص الجعل بالمعاني التي هي من عالم الأمر والخلق بالأعيان لأنها من عالم الصورة ، ولهذا لما ذكر صورة آدم قال ) إني خالق بشراً من طين ) [ ص : 71 ] وحيث أراد معناه قال ) إني جاعل في الأرض خليفة ) [ البقرة : 30 ] ثم بعد هذا الجعل والخلق مال نفوس الكفار بغلبات الظلمات إلى طاغوت الهوى فجعلوه عديلاً لربهم ) ثم قضى أجلاً ( للروح المفارق عن حضرته لأيام فراقه ) وأجل مسمى عنده ( وهو أجل الوصال بعد الفراق بجذبه ) ارجعي إلى ربك ) [ الفجر : 28 ] ( ثم أنتم تمترون ( يا أهل الوصال كما يمتري أهل الفراق وهذا محال ) وهو الله ( في سموات القلوب وفي أرض النفوس يعلم سر الخلافة الذي أودع فيكم ) وجهركم ( الذي يظهر عنكم ) ويعلم ما تكسبون ( باستعمال الاستعداد السري والجهري في المأمورات والمنهايت في الخير أو الشر ) من آية من آيات ربهم ( في الآفاق وفي أنفسهم مكناهم في طلب الحق من قهر النفس وأسباب الخيرات والطاعات .
وأرسلنا مطر الواردات من سماء القلوب عليهم مدراراً متوالياً ، وجعلنا أنهار الحكمة تجري من تحت نظرهم فأهلكنا مع هذه المقدمات أرواحهم بسموم ذنوب طلب الدنيا مالها وجاهها ) وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين ( من الطلاب الصادقين التائبين المستقيمين ) لجعلناه رجلاً ( ليفهموا خطابه ويكون واقفاً على الأحوال البشرية فيعالجهم بما يرى فيه صلاح حالهم كما قال ) وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) [ إبراهيم : 4 ] قل سيروا في أرض النفوس بقدم التقوى ومخالفة الهوى إلى أن تبلغوا سواح لبحار القلوب فتشاهدوا بأنوار الله المودعة فيها عاقبة من هلكوا في بوادي القطيعة إذ ساروا بقدم الطبيعة .(3/53)
" صفحة رقم 54 "
( الأنعام : ( 12 - 24 ) قل لمن ما . . . .
" قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون " ( القراآت ) إني أمرت ( بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع ) إني أخاف ( بفتح الياء : هما وابن كثير وأبو عمرو .
الباقون : بالسكون .
) من يصرف ( مبنياً للفاعل : ( سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل .
الباقون : مبنياً للمفعول ) أئنكم ( بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابنعامر وهشام يدخل بينهما ) أينكم ( بالياء بعد الهمزة : ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد ) آينكم ( بالمد والياء : أبو عمرو ويزيد .
وقالون ) بريء ( بغير همز حيث كان : يزيد وحمزة في الوقف ) يحشرهم ثم يقول ( بياء الغيبة فيهما : يعقوب .
الباقون : بالنون ) ثم لم تكن ( بتاء التأنيث : حمزة وعلي وحماد والمفضل وسهل ويعقوب الباقون : بالياء ) فتنتهم ( بالرفع : ابن كثير وابن عامر وحفص والمفضل .
والباقون : بالنصب ) والله ربنا ) بالنصب على النداء : حمزة وعلي وخلف ولمفضل .
الباقون : بالجر على البدل أو البيان .
الوقوف : ( والأرض ( ط ) قل الله ( ط ) الرحمة ( ط ) لأن قوله ) ليجمعنكم ( جواب قسم محذوف .
وقيل : لا وقف و ) ليجمعنكم ( جواب معنى القسم في ) كتب ( وفيه نظر لأن ) كتب ( وعد ناجز و ) ليجمعنكم ( وعد منتظر .
) لا ريب فيه ( ط بناء على أن الذين مبتدأ فيه معنى الشرط ) لا يؤمنون ( ه ) والنهار ( ط ) العليم ( ه ) ولا يطعم ( ط ) من(3/54)
" صفحة رقم 55 "
المشركين ( ه ) عظيم ( ه ) رحمه ( ط ) المبين ( ه ) إلا هو ( ط ) قدير ( ه ) عباده ( ط ) الخبير ( ه ) شهادة ( ط ) ومن بلغ ( ط ) أخرى ( ط لانتهاء الاستخبار إلى الإخبار .
) قل لا أشهد ( ج لاتساق الكلام بلا عطف ) يشركون ( ه ) أبناءهم ( لئلا يوهم أن ما بعده وصف ) لا يؤمنون ( ه ) بآياته ( ط ) الظالمون ( ه ) يزعمون ( ه ) مشركين ( ه ) يفترون ( ه .
التفسير : إنه سبحانه لما برهن على إثبات الصانع وتحقيق النبوّات وتقرير المعاد ، وانجر الكلام إلى الأمر باعتبار أحوال الغابرين ، عاد إلى إثبات هذه المطالب بطريق الإلزام وأخذ الاعتراف ، وذلك ؟ أن آثار الحدوث وسمات الإمكان لائحة على صفحات السموايات والأرضيات حتى بلغ في ظهوره إلى حيث لا يقدر منكر على إنكاره ، فكان في السؤال تبكيت وإفحام ، وفي الجواب تقرير وإلزام ، أي هو لله بلا مراء وشقاق ولن يتم الملك إلا إذا كان قادراً على الإادة كما هو قادر على الإبداء ، ولن تحصل حكمة الإعادة إلا بثواب المطيعين وعقاب العاصين ، ولن يحسن إيصال الثواب والعقاب إلا بعد نصب الدلائل وإرسال الرسل فلأجل ذلك قال ) كتب على نفسه الرحمة ( أي بنصب الأدلة وإزاحة العلة إيجاب الفضل والكرم .
وقيل : هذه الرحمة هي أنه يمهلهم مدّة عمرهم ولا يعاجلهم بالاستئصال ، أو فرض على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدّقهم وقبل شريعتهم ، أو تلك الرحمة هي أنه يجمعهم إلى يوم القيامة فإنه لولا هذا التهديد لحصل الهرج والمرج وارتفع الضبط وكثر الخبط كأنه قيل : لما علمتم أن كل ما في السموات والأرض لله تعالى ، وأنه مالك الكل فاعلموا أن الله الملك الحكيم لايهمل أمور عبيده ، ولا يجوز في حكمته التسوية بين المطيع والعاصي والعامل والساهي .
ومعنى ) ليجمعنكم ( ليضمنكم .
وقيل : فيه حذف أي ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة فإن إلى يوم القيامة .
قال الأخفش : ( الذين خسروا ( بدل من ضمير المخاطبين في فكأنه قيل : ما للمشركين مع وضح الدلائل الباهرة لا يؤمنون ؟ فأجيب ) الذين خسروا أنفسهم ( أي في علم الله وسابق قضائه فهم لا يؤمنون في طرف الأبد ، فكان امتناعهم الآن عن الإيمانمسبباً عن سبق القضاء عليهم بالخسران والخذلان .
وقال في الشكاف ) الذين خسروا ( نصب أو رفع على الذم بمعنى أريد الذين ، أو أنتم الذين .
ثم لما بيّن أن له المكان والمكانيات ارتقى في البيان كما هو شأن الترتيب التعليمي إلى ما هو أخفى من ذلك عند الحس وهو الزمان والزمانيات فقال ) وله ما سكن في الليل والنهار ( عن ابن عباس أن كفار(3/55)
" صفحة رقم 56 "
مكة أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : يا محمد إنا قد علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة فنحن نجعل لك نصيباً من أموالنا حتى تكون من إنانا رجلاًوترجع عما أنت عليه فنزل ) وله ما سكن ( الآية .
قيل : اشتقاقه من السكون والتقدير كل ما سكن وتحرك كقوله ) سرابيل تقيكم الحر ) [ النحل : 81 ] أي تقيكم الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر للقرينة .
والأصوب أن يقال : اشتقاقه من السكنى كما يقال : فلان سكن ببلد كذا أي حل فيه .
والمراد كل ما حل في الوقت والزمان سواء كان متحركاً أو ساكناً ، وذلك أن الدخول تحت الزمان يستلزم التغير والحدوث فلا بد له نمحدث يتقدم عليه وعلى نفس الزمان ) وهو السميع العيم ( الذي يسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين فيوصل كل ممكن إلى كمال يليق به ويتسعدّ له .
ثم لما كان لزاعم أن يزعم أن الذي يتعالى عن المكان وعن الزمان قد يكون ممكناً في نفسه كالمفارقات التي يثبتها الفلاسفة فلا جرم قال ) قل أغير الله أتخذ ( منكر الاتخاذ غير الله ) ولياً ( ولذلك قدم المفعول لكونه أهم ، ولو كان حرف الاستفهام داخلاً على الفعل توجه الإنكار أوّلاً إلى نفس اتخاذ الولي وأنه غير مهم ) فاطر السموات ( عطف بيان من ) الله ( أو بدل .
وقرىء بالرفع على إضمار هو ، وبالنصب على المدح .
وعن ابن عباس : ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها .
وقال ابن الأنباري : أصل الفطر الشق وقد يكون شق إصلاح كقوله ) فاطر السموات والأرض ) [ فاطر : 1 ] أي خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق والتأليف عند ضمه بعض الأشياء إلى بعض .
وقد يكون شق إفساد ومنه قوله تعالى ) هل ترى من فطور ) [ الملك : 3 ] ( إذا السماء انفطرت ) [ الانفطار : 1 ] ( وهو يطعم ولا يطعم ( أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد .
والرزق والإطعام وإن كانا متغايرين وإلا لم يحسن العطف في قوله ) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ) [ الذاريات : 57 ] إلا أنهما متقاربان فحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر .
وقرىء ) وهو يطعم ( مبنياً للمفعول على أن الضمير لغير الله وقرىء ) وهو يطعم ولا يطعم ( كلاهما للفاعل .
والمعنى هو يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله ) وإنه يقبض ويبسط ) [ البقرة : 245 ] أو الثاني بمعنى لا يستطعم .
وحاصل الآية أنه يجب شغل القلب كله بالله وقطع العلائق بالكلية عما سواه لأنه الجواد المطلق الذي يهب لا لعوضٍ ولا انتفاع .
ثم بيّن أن النبي أيضاً داخل في تكليف المعرفة بل هو أسبق قدماً في ذلك فقال ) قل إني أمرت أمن أكون أوّل من أسلم ( وقيل لي ) لا تكونن من المشركين ( وفيه أن الواعظ يجب أن يتعظ أوّلاً بما يقوله : فالمريض لا(3/56)
" صفحة رقم 57 "
يتصور منه العلاج .
ثم ذكر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع جلالة قدره بصدد المؤاخذه على تقدير المخالفة فقال ) قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( ولا يلزم من هذا جواز المعصية عنه لأن الفرض قد يتعلق بالمستحيل كقولك : إن كانت الخمسة زوجاً فهي منقسمة بمتساويين .
من قرأ ) من يصرف ( مبنياً للفاعل فالضمير فيه عائد إلى الله والمفعول وهو العذاب محذوف لكونه معلوماً أو مذكوراً قبله .
قال في الكشاف : ويجوز أن تنصب يومئذ على أنه مفعول به ل ) يصرف ( أي من يصرف الله عنه ذلك اليوم أي هو له ، ومن قرأ على بناء المعفول فهو مسند إلى ضمير العذاب ، ولم يسم الفاعل وهو الله تعالى للعلم به ) فقد رحمه ( أي الله الرحمة العظمى كقولك : إن أطعمت زيداً من جوعه فقد أحسنت إليه يعني كمال الإحسان .
أو المراد فقد أدخله الجنة فإن من لم يعذب لم يكن له بد من الثواب تفضلاً أو استيجاباً .
قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أن إيصال الثواب على الطاعة غير واجب وإنما هو ابتداء فضل وإحسان وإلا لم يحسن ذكر الرحمة ههنا ، ألا ترى أن الذي يقبح منه أن يضرب زيداً فإذا لم يضربه لا يقال أنه رحمه ؟ ) وذلك ( أي صرف العذاب وإيصال الثواب على سبيل التفضل أو الاستيجاب ) الفوز المبين ( لأنه المطلب الأعلى والمقصد الأسنى لكل مكلف .
ثم أكد المعنى المذكور وهو أنه لا يجوز للعاقل أن يرغب في اتخاذ ولي غير الله بقوله ) وإن يمسسك الله بضر ( من مرض أو فقر أو غير ذلك من البليات ) فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير ( من غنى أو صحة ) فهو على كل شيء قدير ( عمم الحكم لندرج تحته كل خير والحاصل أن اندفاع جميع المضار بقدرته ، وكذا حصول جميع الخيرات لأن كل ما عداه فإنما هو تحت قهره وتسخيره وقد حصل بإيجاد وتكوينه ، فإن الممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ، ورأس المضارّ هو الكفر ، وسنام الخيرات هو الإيمان ، ولن يحصل نفرة الكفر وداعية الإيمان إلا بتوفيقه تعالى .
وكل ما يتصور أنه قد نفع أو ضر من الجمادات أو المختارات فإن ذلك ينتهي إلى تخليق الله وجعله ذلك الشيء واسطة لذلك النفع أو الضر ، فلا ضارّ ولا نافع بالحقيقة إلا هو سبحانه .
ثم زاد لهذا المعنى بياناً فقال ) وهو القاهر فوق عباده ( وهو إشارة إلى كمال القدرة ) وهو الحكيم الخبير ( وإنه إشارة إلى كمال العلم .
فالحكمة أعم من العلم لأنها عمل وعلم ، وكونه خبيراً أخص من العلم لأنه العلم ببواطن الأمور وخباياها ، فإذا اجتمعت هذه المعاني حصل العلم بكماله وغايته ، وقد استدل بظاهر الآية من أثبت الفوقية لله تعالى وعورض بوجوده منها : أنه لو كان فوق العالم فإن كان في الصغر بحيث لا يتميز منه جانب من جانب كالجوهر الفرد مثلاً فذلك لا يقوله عاقل ، وإن كان ذاهباً في الأقطار كلها كان متجزئاً .
والجواب أنه لم لا يجوز أن يكون نوراً قائماً بذاته غير متناه لا متجزئاً ولا متبعضاً قاهراً لجميع الأنوار غالباً على جميع الأشياء .
فلا غاية لجوده ولا نهاية(3/57)
" صفحة رقم 58 "
لوجوده .
وأما إنه كيف يتصور نور بلا نهاية مع أنه لا ينقسم يتبعض فمجرد استبعاد فلا يصلح حجة وإدراك شيء من هذا النور محتاج إلى النور ) ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ) [ النور : 40 ] ومنها أنه لو كان غير متناه من كل الجهات لزم اختلاطه بالذورات .
والجواب أن هذا كلام مخيل فلا يستعمل في البرهان .
ومنها أنه لو لم يكن خارج العالم خلاء ولا ملاء لم يمكن حصول ذات الله تعالى فيه ، وإن كان خلاء فحصوله في جزء من أجزاء ذلك الخلاء دون سائر أجزائه محتاج إلى مخصص ، فيكون الواجب مفتقراً فيكون محدثاً هذا خلف .
والجواب أنا ذكرنا أن نور الأنوار لا يتناهى وأنه وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى فيسقط هذا الاعتراض .
ومنها أنه سبحانه موجود قبل الخلاء والحيز والجهة ، فلا يكون بعد حصول هذه الأشياء موجوداً فيها وإلا لزم التغير في ذاته .
والجواب بالفرق بين المعية وبين الافتقار .
ومنها أن اعالم كرة فإما أن يكون الله تعالى فوق أقوام بأعيانهم وحينئذ يلزم أن يكون تحت أقدام من يقابلهم وإما أن يكون فوق الكل فيكون فلكاً محيطاً بسائر الأفلاك وهذا لا يقوله مسلم .
والجواب الإلزامي بعد تسليم كون العالم كرة أنا نختار القسم الأول ، ولا يلزم التحتية لأن التحت من جميع الجوانب هو ما يلي المركز ، والفوق ما يلي السماء .
وأما القسم الثاني ولا يلزم من إحاطته بجميع الأشياء كونه فلكاً كسائر الأفلاك ، وأما التحقيق فقد مر .
ومنها أن لفظ الفوق في الآية مسبوق بالقهر ويراد به القدرة والمكنة وملحوق بلفظ عباده ، وأنه مشعر بالمملوكية والمقدورية .
فالمناسب أن يراد بالفوق أيضاً فوقية القدرة ولا يلزم التكرار لأن المراد أن القهر والقدرة عام في حق الكل .
والجواب أن حمل الوسط على الطرفين أولى من العكس ، بل لا نزاع في مفهوم العباد وإنما النزاع في مفهومي القاهرية والفوقية ، وليس حمل أحدهما على الآخر أولى من غيره ، ومنها أن الآية سيقت رداً على من اتخذ غير الله ولياً وهذا إنما يحسن لو كا نالمراد بالفوقية القدرة لا الجهة .
والجواب أن الفوقية بالوجه الذي قررناه في جواب الاعتراض الأول يفيد الاستعلاء المطلق وذلك يوجب أن يكون التعويل عليه في كل الأمور إذ لا وجود ولا ظهور لشيء من الأشياء إلا بفيضه ونوره .
وقد يلوح للمتأمل في هذه الأجوبة بعد التنزية عن التشبيه والتجسيم والحلول والاتحاد أسرار غامضة شريفة إن كان أهلاً لها ( وكل ميسر لما خلق له ) قال الكلبي : إن رؤساء مكة قالوا : يا محمد ما نرى أحداً يصدقك بما تقول من أمر الرسالة .
ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا(3/58)
" صفحة رقم 59 "
من يشهد لك أنك رسول كما تزعم فنزلت ) قل أي شيء أكبر شهادة ( الآية .
قال العلماء : إنها دلت على أن أكبر الشهادات وأعظمها شهادة الله .
ثم بيَّن أن شهادة الله حاصلة إلا أنها لم تدل على أن تلك الشهادة لإثبات أيّ المطالب فقيل : إنها لإثبات نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لما ذكرنا من سبب النزول .
والمعنى قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة حتى يعترفوا بأن أكبر الأشياء شهادة هو الله تعالى ، فإذا اعترفوا بذلك فقل إن الله شهد لي بالنبوة بأن أظهر على وفق دعواي معجزاً هو القرآن الذي عجزتم معاشر الفصحاء والبلغاء عن معارضته .
وقيل : إن حصول هذه الشهادة في وحدانية الله تعالى وذلك أن الوحدانية ليست مما يتوقف صحته على صحة السمع فلا يمتنع إثباتها بالسمع والمعنى ) قل الله شهيد بيني وبينكم ( في إثبات الوحدانية والبراءة عن الأضداد والأنداد والأمثال والأشباه ) وأوحى إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ( وأبلغكم أن الدين هو التوحيد والشرك مردود .
واستدل الجمهور بالآية على أنه يصح إطلاق الشيء على الله تعالى وخالف جهم محتجاً بقوله تعالى ) الله خالق كل شيء ) [ الأنعام : 102 ] إذ لا يمكن دعوى التخصيص فيه ، فإن التخصيص إنما يجوز في صورة شاذة لا يلتفت إليها لقلة اعتبارها فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيهاً على أن البقية جارية مجرى العدم .
فلو كان الباري تعالى شيئاً لكان أعظم الأشياء وأشرفها فيكون إخراجه من هذا العموم محض الكذب .
وأيضاً احتج بأن الشيء يطلق على المعدوم لقوله تعالى ) ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله ) [ الكهف : 23 ] والشيء الذي سيفعله غداً معدوم في الحال ، فالشيء لا يفيد صفة مدح فلا يطلق عليه .
والجواب عن الأول سيفعله غداً الأكثر من العموم جائز عندنا .
ولو سلم فإنه تعالى واحد من الأشياء ، والمخرج بهذا الاعتبار أقل عدداً من الباقي .
وعن الثاني أن لفظ الشيء أعم الألفاظ ، ومتى صدق الخاص لا تعلق لها بما قبلها فلا يصح استدلالكم .
قلنا ) قل أي شيء ( سؤال ولا بد له من جواب .
وهو إما مذكور رأي قل الله أكبر الأشياء شهادة ثم ابتدىء فقيل شهيد أي وهو شهيد بيني وبينكم ، أو محذوف والمعنى قل هو الله والله شهيد بيني وبينكم .
وحسن الحذف لأنه إذا سأل عن أكبر الأشياء شهادة وذكر بعد ذلك أن شهيد بيني وبينكم .
وحسن الحذف لأنه إذا شهادة هو الله أما قوله ) ومن بلغ ( فمعطوف على ضمير المخاطبين والعائد إلى من محذوف أي لأنذركم يا أهل مكة وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم .
وقيل : من الثقلين .
وقيل : من بلغه إلى يوم القيامة .
وعن سعيد بن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقيل : ومن بلغ أي من احتلم وبلغ أوان التكليف ، وعلى هذا فلا حاجة إلى(3/59)
" صفحة رقم 60 "
إضمار العائد .
ثم استفهم مبكتاً فقال ) أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ( وصف الجميع بصفة الواحدة كما يقال : الرجال فعلت .
ثم دل على إيجاب التوحيد بثلاث جمل : أولاها ) قل لا أشهد ( أي بما تذكرونه من إثبات الشركاء ، وثانيتها ) قل إنما هو إله واحدا ( وكلمة ( إنما ) تفيد الحصر .
وثالثها ) وإنني برىء مما تشركون ( ومن هنا قالت العلماء : المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويضم إليهما التبري عن كل دين سوى دين الإسلام .
ولما زعم مشركوا مكةأنهم سألوا اليهود والنصارى عن نعت محمد صلى الله عليه وآله فقالوا : ليس عندنا ذكره كذّبهم الله تعالى بقوله ) الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ( أي يعرفون رسولا لله بنعوته وحلاه الثابتة في الكتابين ) كما يعرفون أبناءهم ( بالنعوت والحلي لا يخفون عليهم ولا يشتبهون بغير أبنائهم .
) الذين خسروا أنفسهم ( إما بدل أو بيان من ( الذين ) الأولى ، ويكون المقصود وعيد المعاندين منهم والجاحدين .
وإما مبتدأ والكلام جملة مستأنفة شاملة لجميع الجاحدين من أهل الكتاب ومن المشركين .
والمراد بخسران النفس الهلاك الذي يحصل لهم بسبب الكفر .
وقيل : ما من أحد إلا وله منزلة في الجنة إلا أن من كفر صارت منزلته إلى من أسلم فيكون قد خسر نفسه وأهله بأن ورّث منزلته غيره .
ثم بيَّن سبب خسرانهم مستفهماً على سبيل الإنكار فقال ) ومن أظلم ( وذلك أنهم جمعوا بين أمرين متنافيين : إثبات الباطل وهو الافتراء على الله ، وجحد الحق وهو التكذيب بآيات الله ، فمن الأول أن المشركين كانوا يقولون للأصنام إنهم شركاء الله والله أمرهم بذلك ، وكانوا يقولون : الملائكة بنات الله وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، واليهود والنصارى كانوا يزعمون أن التوراة والإنجيل ناطقان بعدم النسخ .
وأنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة إلى غير ذلك من مفترياتهم .
ومن الثاني قدحهم في القرآن وفي صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) غنه لا يفلح الظالمون ( الذين وضعوا الشيء في غير موضعه الباطل مكان الحق والحق بإزاء الباطل .
ثم كشف عن حالهم يوم القيامة فقال ) ويوم نحشرهم ( وناصبه محذوف أي ويوم كذا كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في الوعيد .
ويحتمل أن يكون مفعول ( واذكر ) أو معطوفاً على محذوف أي لا يفلح الظالمون في الدنيا ويوم الحشر .
) أين شركاؤكم ( آلهتكم التي جعلتموهم شركاء ) الذي كنتم تزعمون ( هم شركاء فحذف المفعولان .
والمقصود من هذا الاستفهام التقريع والتبكيت ، ويجوز أن يشاهدوهم إلا أنهم حيث لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم ، ويجوز أن يحال بينهم وبين آلهتهم وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها فتزداد حسرتهم ، ويحتمل أن يقال : أين شفاعتهم لكم وانتفاعكم بهم ؟ والغرض من جميع الوجوه أن يتقرر(3/60)
" صفحة رقم 61 "
في نفوسهم أن الذي يظنونه مأيوس منه فيصير ذلك تنبيهاً لهم في الدنيا على فساد هذه الطريقة ) ثم لم تكن فتنتهم ( من قرأ بالرفع على أنه اسم كان فالخبر ) إلا أن قالوا ( والتدير شيئاً إلا أن قالوا ومن قرأ بالنصب مع تذكير يكن فبعكس ما قلنا .
والتقدير شيء إلا أن قالوا .
وأما مع تأنيث يكن فلوقوع الخبر مؤنثاً كقولهم : من كانت أمك .
أو بتأويل مقالتهم .
قال الواحدي : الاختيار قراءة من قرأ بالنصب لن ( ان ) إذا وصلت بالفعل لم توصف بأشبهت بامتناع وصفها المضمر .
وكما أن المضمر والمظهر إذا اجتمعا كقولك : إن كنت القائم .
كان جعل المضمر اسماً أولى من جعله خبراً فكذلك ههنا .
قال الزجاج : تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من وقف على معاني كلام العرب ، وذلك أنه تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين في حبه ، فذكر أن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به وقالوا إنهدين آبائنا لم تكن إلا الجحود والتبرؤ منه والحلف على عدم التدين به .
ومثاله أن ترى إنساناً يحب شخصاً مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه فيقال له : ما كانت محبتك أي عاقبة محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وتركته .
فعلى هذا فتنتهم في شركهم في الدنيا كما فسرها ابن عباس .
ولكن لا بد من تقدير مضاف وهو العاقبة ، ويجوز أن يراد : ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا : فسمي فتنة لأنه كذب ، قال القاضيان : الجبائي وأبو بكر : إن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب لأنهم يعرفون الله تعالى بالاضطرار فيكونون ملجئين إلى ترك القبيح وكيف لا وإنهم يعلمون أن ذلك لا يروج منهم حينئذ ولا يستفيدون بذلك إلا زيادة المقت والغضب من الله تعالى عليهم ؟ ولا يجوز أن يقال : إنهم لما عاينوا القيامة اختلت عقولهم واضطربت فلهذا قالوا الكذب ، أو أنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا لأنه لا يليق بحكمته تعالى أن يوبخهم ثم يحكى عنهم ما يجري مجرى الاعتذار عند اختلال عقولهم .
ولأن تجويز نساين أمر كان عليه الشخص مدة عمره نوع من السفسطة .
وأيضاً إنهم لو كذبوا في موقف القيامة ثم حلفوا الآخرة دار التكليف وإن لم يعاقبا كان إذناً من الله تعالى في ارتكاب الذنوب وكلاهما محال .
فإذا الوجه في الآية أن يقال : إن القوم كانوا يعتقدون في أنفسهم وظنونهم أنهم موحدون فأجابوا بقولهم ) والله ربنا ما كنا مشركين ( أي في اعتقادنا وظنوننا ، وعلى هذا فيكونون صادقين فيما أخبروا عنه لأنهم كانوا غير مشركين عن أنفسهم فيجيب تأويل قوله تعالى ) انظر كيف كذبوا على أنفسهم ( بأن المراد كذبهم في دار الدنيا كقولهم إنهم على صواب وإن ما هم عليه ليس بشرك وإن آلهتهم شفعاؤهم عند الله فلهذا قال ) وضل عنهم ( أي وانظر كيف غاب عنهم في الآخرة ) ما كانوا يفترون ( أي يفتعلون إلهيته وشفاعته .(3/61)
" صفحة رقم 62 "
والحاصل أن الآية سيقت لبيان تضاد حاليهم في الدنيا وفي الآخرة بالكذب وبالصدق ولكن حيث لا ينفعهم الصدق لأن الصدق في الآخرة إنما يعتبر إذا كان مقروناً بالصدق في الدنيا ، هذا جملة كلام القاضيين .
قال جمهور المفسرين : إن قول القائل المراد ما كنا مشركين في اعتقادنا ، وكيف كذبوا على أنفسهم في الدنيا مخالفة الظاهر وإن الكفار قد يكبون في القيامة لقوله تعالى ) يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون ( إلى قوله ) ألا إنهم هم الكاذبون ) [ المجادلة : 18 ] ولو سلم أنهم لا يكذبون تعمداً إلا أن الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه حيرة ودهشاً ، ألا تراهم يقولون ) ربنا أخرجنا منها ) [ المؤمنون : 107 ] وقد أيقنوا بالخلود ؟ ) وقالوا يا مالك ليقض علينا ربك ) [ الزخرف : 77 ] وقد علموا أنه لا يقضي عليهم .
واختلال عقولهم حال ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع كمال عقلهم في سائر الأوقات .
التأويل : ما في الكون سوى الله ، لا داع ولا مجيب فلهذا يسأل ويجيب ) قل لمن ما في السموات والأرض قل لله ( وله ما سكن في ليل البشرية إلى التمتعات الحيوانية ، وفي نهار الروحانية إلى المواهب الربانية ، ) وهو السميع ( أنين من سكن إليه ) العليم ( بحنين من اشتاق إليه ) قل أغير الله أتخذ ( اليوم ) ولياً ( وقد اتخذني الله في الأزل حبيباً ) فاطر ( سموات القلوب على محبته وفاطر أرض النفوس على عبوديته ) وهو يطعم ( أرواح العارفين طعام المشاهدات ويسقيهم كؤوس المكاشفات ) ولا يطعم ( لأنه لا يحتاج إلى قبول الفيض من غيره فالأنوار عنده كالذرّات ) أول من أسلم ( لأني خلصت من حبس الوجود بالكلية وحدي ولهذا يقول الأنبياء نفسي نفسي وأقول : أمتي أمتي ) إن عصيت ربي ( برؤية الغير يوم قدّر الشرك لاقوام والتوحيد لاقوام ) وإن يمسسك الله بضر ( إن دائرة أزليته متصلة بدائرة أبديته ، وكل نقطة من الدائرة تصلح للبداية والنهاية ، فكل ما صدر منه فلن ينتهي إلا به ) وهو القاهر فوق عباده ( قهر الكفار بموت القلوب فضلوا في ظلمات الطبيعة ، وقهر نفوس المؤمنين بأنوار الشريعة فخرجوا من ظلمات الطبيعة ، وقهر قلوب المحبين بلذعات الأشواق إلى يوم التلاق ، وقهر أرواح الصديقين بسطوات الجلال في أوقات الوصال .
) وهو الحكيم ( فيما يقهره فلا يخلو من حكمة ) الخبير ( بمن يتسأهل كل صنف من قهره فيقهره به ) الله أكبر شهادة ( لأنه محيط بحقائق الأشياء ولا يحيط به شيء من الأشياء ) ومن بلغ ( القرآن ووقف على حقائقه .
ويقول للمشركين ) أئنكم لتشهدون ( ) الذين آتيناهم الكتاب ( يعني العلماء بالقرآن يعرفون الله أو النبي .
وفيه إشارة إلى أن الآباء قد تحقق عندهم أنهم مصادر الأبناء ، فكذلك أهل المعرفة قد تحقق عندهم أن الله مصدر جميع الأشياء ) الذين خسروا أنفسهم ( بإفساد الاستعداد الفطري ) ويوم يحشرهم جيمعا ( يعني أهل المعرفة والنكرة ) أين شركاؤكم ( من الهوى والدنيا ) كذبوا على أنفسهم ( في القيامة لأنهم كذبوا(3/62)
" صفحة رقم 63 "
في الدنيا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى .
( الأنعام : ( 25 - 37 ) ومنهم من يستمع . . . .
" ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون "
( القراآت )
ولا نكذب ونكون ( بالنصب فيهما : حمزة وحفص ويعقوب وافق ابن عامر في ) ونكون ( الباقون : بالرفع ) ولدار الآخرة ( بالإضافة : ابن عامر بتأويل الساعة الآخرة ، الباقون : بتعريف الدار ورفع الآخرة على الوصفية .
) تعقلون ( بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب وحفص وكذلك في الأعراف ) يكذبونك ( بالتخفيف من أكذبه إذا وجده كاذباً : علي ونافع والأعشى في اختياره .
الباقون : بالتشديد من كذبه إذا نسبه إلى الكذب .
) أن ينزل ( بالتخفيف : ابن كثير .
الوقوف : ( وقرأ ( ط ) بها ( ط ) الأولين ( ه ) وينأون عنه ( ج لابتداء النفي مع واو العطف ) وما يشعرون ( ه ) من المؤمنين ( ه ) من قبل ( ط ) لكاذبون ( ه ) بمبعوثين ( ه ) ربهم ( ط ) بالحق ( ط ) وربنا ( ط ) تكفرون ( ه ) بلقاء الله ( ط لأن ( حتى ) للابتداء فيها لا لأن الواو للحال ) على ظهورهم ( ط ) يزرون ( ه ) ولهو ( ط ) يتقون ( ه ) تعقلون ( ه ) يجحدون ( ه ) نصرنا ( ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقصود لكلمات الله كذلك .(3/63)
" صفحة رقم 64 "
) المرسلين ( ه ) بآية ( ط ) من الجاهلين ( ه ) يسمعون ( ه ) يرجعون ( ه ) من ربه ( ط ) لا يعلمون ( ه .
التفسير : لما بيّن أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بعض أسباب ذلك فقال ) ومنهم من يستمع إليك ( قال ابن عباس : حضر عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف واستمعوا إلى حديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا للنضر : ما تقول في محمد ؟ فقال : ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحريك .
شفتيه يتكلم بشء وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية .
وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى ، وكان يحدث قريشاً فيستملحون حديثه فنزلت الآية .
والأكنة جمع كنان وهو كل ما وقى شيئاً وستره من الأغطية والقفل ، ومنه أكننت وكننت .
وأن يفقهوه مفعول لأجله أي كراهة فقههم .
والوقر الثقل في الآذان .
والتركيب يدور على الثقل ومنه الوِقر بالكسر الحمل ، والوقار الحلم .
وفي الآية دلالة على أن الله تعالى هو الذي يصرف عن الإيمان ويحول بين المرء وبين قلبه .
وقالت المعتزلة : لا يمكن أجراؤها على ظاهرها وإلا كأن فيها حجة الكفار ، ولأنه يكون تكليفاً للعاجز .
ولم يتوجه ذمهم في قولهم ) وقالوا قلوبنا غلف ) [ البقرة : 88 ] فلا بد من التأويل وذلك من وجوه الأول : قال الجبائي : إن القوم كانوا يسمعون لقراءة الرسول ليتوسلوا بسماع قراؤته إلى مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه ، فكان الله تعالى يلقي على قلوبهم النوم والغفلة ، وعلى آذانهم الثقل .
وزيف بأن المراد لوكان ذلك لقيل ( أن يسمعوه ) بدل ( أن يفقوه ) .
وبأن قوله ) وأن يروا كل آية ( أي كل دليل وحجة ) لا يؤمنوا بها ( لا يناسبه .
الثاني : أن المكلف الذي علم الله تعالى أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم قلبه بعلامة مخصوصة لتستدل الملائكة برؤيتها فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان مع انها في نفسها ليست بمانعة عن الإيمان .
الثالث : يقال : إنه جبل على كذا إذا كان مصّراً عليه وذلك على جهة التمثيل .
الرابع : لما منعهم الألطاف التي تصلح أن تفعل بالمهتدين وفوّض أمورهم إلى أنفسهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه .
الخامس : أن هذا حكاية قولهم ) في اذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ) [ فصلت : 5 ] وعورضت هذه الأدلة بالعلم والداعي ، وذلك أن الله تعالى علم من الكافر أنه لا يؤمن وخلاف علمه محال ، وأنه سبحانه هو الذي خلق فيهم داعية الكفر ومع وجود تلك الداعية يستحيل الإيمان فهو المعنى بالكنان .
وتحقيق المسألة تقدم في أول سورة البقرة في قوله ) ختم الله على قلوبهم ) [ البقرة : 7 ] والإفراد في ) يستمع ( والجمع في ) قلوبهم ( اعتبار اللفظ من تارة ولمعناه أخرى ) حتى إذا جاؤك ( هي حتى المبتدأة التي(3/64)
" صفحة رقم 65 "
يقع بعدها الجمل كقوله : حتى ماء دجلة أشكل .
والجملة ههنا مجموع الشرط والجزاء أعني قوله ) إذا جاؤك ( يقول : ( ويجادلونك ( في موضع الحال .
ويجوز أن تكون حتى جارّة أي حتى وقت مجيئهم ) ويجادلونك ( حال بحاله ) ويقول ( تفسير له .
والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى حالة المجادلة .
ثم فسر الجدل بأنهم يقولون ) إن هذا إلا أساطير الأولين ( وأصل السطر هو أن يجعل شيئاً ممتداً مؤلفاً في صف ومنه سطر الكتاب وسطر من نخيل وجمعه أساطار وجمع الجمع أساطير .
وقال الزجاج : واحد الأساطير أسطورة كأحاديث وأحدوثة .
وقال أبو زيد : لا واحد له كعباديد .
قال ابن عباس : معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها أي يكتبونها .
ومن فسر الأساطير بالخرافات والترهات نظر .
إلى أن الإغلب هو أن لا يكون فيها فائدة معتبرة كحديث رستم وغيره فذلك معنى وليس بتفسير .
ثم إن غرض القوم من هذا القول هو القدح في كون القرآن معجزاً كما الكتب المشتملة على الأخبار والقصص ليست بمعجزة ، والجواب أن هذا مقرون بالتحدي وقد عجزواعن آخرهم دون تلك فظهر الفرق .
ثم أكد طعنهم في القرآن بقوله ) وهم ينهون عنه ( قال محمد بن الحنفية وابن عباس في رواية والسدي والضحاك : عن القرآن وتدبره والاستماع له ) وينأون عنه ( والنأي البعد .
نأيته ونأيت عنه وناء الرجل إذا بعد لغة في ( نأى ) وحملوه على القلب لأن المصدر لم يجيء إلا على النأي .
وقيل : الضمير للرسول ولامراد النهي عن اتباعه والتصديق بنبوّته ، جمعوا بين قبيحين : النأي والنهي فضلوا وأضلوا .
وعن عطاء ومقاتل عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركينأن يؤذوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويتباعد عما جاء به .
روي أن قريشاً اجتمعوا إلى أبي طالب يريدون سوءاً بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أبو طالب :
والله لن يصلوا إيك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وأبشر وقر بذلك منك عيونا
وعرضت ديناً لا محالة أنه
من خير أديان البرية دينا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي
ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
لولا الملامة أو حذاري سبة
لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
وضعفت هذه الرواية بقوله ) إن يهلكون إلا أنفسهم ( يعني بما تقدم ذكره ، ولكن النهي عن أذيته حسن لا يوجب الهلاك. ويمكن أن يجاب بأن الذم توجه على الهيئة الاجتماعية الحاصلة من النهي مع النأي كقوله ) أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) [ البقرة : 44 ] ولو سلم فلم لا يجوز أن يرجع الذم إلى القسم الأخير فقط .(3/65)
" صفحة رقم 66 "
ثم بيَّن أنه كيف يعود الضرر إليهم فقال ) ولو ترى إذ وقفوا على النار ( وجواب ( لو ) محذوف أي لرأيت سوء منقلبهم ونحو ذلك .
وجاز حذفه للعلم به ولما في الحذف من تفخيم الشأن وهو ذهاب الوهم كل مذهب كما لو قلت لغلامك : والله لئن قمت إليك وسكت عن الجواب .
ذهب فكره إلى أنواع المكاره من الضرب والقتل وغيرهما بخلاف ما لو قلت : لأضربنك .
ولمثل هذا من إرادة المبالغة قال ) وقفوا ( بلفظ الماضي مع ( إذا ) الدال على المضي كأن هذا الأمر وقع وتحقق فكان من حقه أن يخبر عنه بلفظ الماضي أي وقفوا على أن يدخلوا النار وهم يعاينونها ، أو وقفوا عليها وهي تحتهم ، أو هو من قولهم : وقفت على المسألة الفلانية وقوفاً أي عرفوا حقيقتها تعريفاً أو المراد أنهم في جوف النار غائصين فيها فتكون ( على ) بمعنى ( في ) وجاز لأن النار دركات بعضها فوق بعض فلا يخلو من معنى الاستعلاء ) يا ليتنا نردّ ( هو داخل في حكم التمني .
أما قوله ) ولا نكذب ونكون ( فمن قرأ بالنصب فيهما فبإضمار ( إن ) على جواب التمني والمعنى إن رددنا إلى دار التكليف لم نكذب ونكن من المؤمنين .
ومن قرأ بالرفع فيهما فوجهان : أحدهما أن التمني يتم عند قوله ) نرد ( ثم ابتدؤا ) ولا نكذب ونكون ( أي ونحن لا نكذب ونكون كأنهم ضمنوا أن لا يكذبوا ويكونوا من المؤمنين سواء حصل الرد أو لم يحصل .
وشبهه سيبويه بقوله : ( دعني ولا أعود بمعنى دعني وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني .
وثانيهما أن يكونا معطوفين على تحت حكم التمني .
وأورد على هذا الوجه أن المتمني لا يكون كاذباً وقد قال تعالى ) وإنهم لكاذبون ( وأجيب بأن هذا التمني قد تضمن معنى الوعد فجاز أن يتعلق به التكذيب كقول القائل : ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك فهذا متمن في حكم الواعد فلو رزق مالاً ولم يحسن إلى صاحبه كذب لأنه كأنه قال : إن رزقني الله مالاً أحسنت إليك .
وأما قراءة ابن عامر فمعناه إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين ثم رد الله تعالى عليهم بأنهم ما تمنوا العود إلى الدنيا وترك التكذيب وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأجل خوفهم من العذاب الذي شاهدوه وعاينوه فقال ) بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ( وما الذي كانوا يخفونه في الدنيا .
قال أكثر المفسرين : إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون ) والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] فينطق الله تعالى جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك معنى ) بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ( وقال المبرد : بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها ، وذلك أن كفرهم ما كان ظاهراً لهم وإنما ظهر لهم يوم القيامة .
وقال الزجاج : بدا للأتباع ما أخافه الرؤساء منهم من أمر البعث والنشور بدليل قوله بعد ذلك ) وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ( وهذا قول(3/66)
" صفحة رقم 67 "
الحسن .
وقيل : إنها في المنافقين كانا يسون الكفر فيظهر نفاقهم على رؤوس الأشهاد يوم القايمة .
وقي : هو في أهل الكتاب يظهر لهم ما كانوا يكتمونه من صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والأولى حمل الآية على الكل لأنه يوم تبلى السرائر فلا جرم تظهر الفضائح والقبائح وتنكشف الأسرار وتنتهك الأستار اللهم كفر عنا سيآتنا في ذلك اليوم .
ثم قال ) ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه ( قيل كيف يتصوّر هذا وإنهم قد عرفوا الله تعالى حينئذ بالضرورة وشاهدوا الأحوال والأهوال ؟ وأجباب القاضي بأن المراد ولو ردّوا إلى حالة التكليف .
وعلى هذا التقير لا تبقى المعرفة ضرورية فلا يمتنع صدور الكفر عنهم .
وضعف بأن المقصود من إيراد هذا الكلام المبالغة في غيرهم وتماديهم وإصرارهم على الكفر .
وإذا فرض عودهم إلى حالة التكليف زال التعجب كما هو الأن فإذا لا تنحل العقدة إلا بأن يقال : المراد توكيد جريان القضاء السابق فيهم بحيث لو شاهدوا العذاب والعقاب ثم سألوا الرجعة فردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك ولم ينجع ذلك فيهم ) وإنهم لكاذبون ( فيما وعدوا في ضمن التمني أو في كل شيء ولهذا قالوا ) إن هي إلا حياتنا الدنيا ( ( إن ) نافية والضمير عائد إلى حقيقة الحياة التي هي أقرب إلينا ) وما نحن بمبعوثين ( بعدها. وقيل : إن تقدير الآية ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولأنكروا البعث ولقالوا : إن هي إلا حياتنا الدنيا .
ثم لما قرر إنكارهم كشف عن حالهم يوم القيامة فقال ) ولو ترى إذا وقفوا على ربهم ( تمسك بعض المشبهة بهذا على أنه تعالى يحضر تارة ويغيب أخرى ، ورد بأن استعلاء شيء على ذات الله تعالى محال بالاتفاق فوجب تأويل الآية بأنه مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي مولاه للعتاب ، أو لمضاف محذوف أي على جزاء ربهم أو وعده أو إخباره بثواب المؤمنين وعقاب الكافرين ، أوهو من قولك : وقفته على كذا أي أطلعته عليه .
ثم كان لسائل أن يقول : ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه ؟ فأجيب ) قال أليس هذا ( الذي عاينتموه من حديث البعث والجزاء ) بالحق ( الذي حدثتموه ؟ ) قالوا على وربنا ( وفيه دليل على أن حالهم في الإنكار سيؤل إلى الإقرار ، ثم كأنه سئل ماذا قيل لهم بعد الإقرار ؟ فأجيب ) قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ( أي بسبب كفركم وذلك ليعلم أن الإقرار في غير دار التكليف لا ينفع ، وذلك أن جوهر النس اللطيفة القدسية بعث إلى هذا العالم الجسماني الكثيف وأعطى الآلات الجسمانية لتحصيل المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة التي تعظم منافعها بعد الموت .
فإذا استعملها الإنسان بناء على اعتقاد عدم المعاد في تحصيل اللذات الفانية والسعادات المنقطعة إلى أن ينقضي أجله فقد ضاع رأس المال .(3/67)
" صفحة رقم 68 "
ولا ربح وذلك قوله ) قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ( أي ببلوغ الآخرة وثوابها وعقابها .
عبر عن ذلك بلقاء الله لأنه لا حكم هناك إلا لله بخلاف الدنيا فإنه قد يظن أن للإنسان تصرفاً واختياراً وملكاً وملكاً .
وحمل اللقاء على الرؤية أيضاً غير بعيد عند أهل السنة .
و ( حتى ) غاية ل ) كذبوا ( لا ل ) خسر ( لأن خسرانهم لا غاية له أي لم يزل بهم التكذيب إلى تحسرهم وقت مجيء الساعة بل وقت موتهم ، فإن أمارات السعادة والشقاوة تلةح على صفحات أحوال المكلف من وقتئذ وهذا معنى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من مات فقد قامت قيامته ) وسمى يوم القيامة الساعة لسرعة الحساب فيه كأنه قيل : ما هو إلا ساعة الحساب ، أو لأنها تفجأ الناس في ساعة لا يعلمها إلا الله تعالى ولهذا قال ) بغتة ( أي فجأة .
وانتصابها على الحال أي باغتة نبغته إذا فاجأه ، أو على المصدر العام أي بغتتهم الساعة بغتة أو الخاص لأن البغت نوع من المجيء ) قالوا ( عامل ( إذ ) ) يا حسرتنا ( مثل ) يا ويلتي ) [ الفرقان : 28 ] وقد مر مثله في سورة المائدة أي احضري فهذا وقتك ) على ما فرّطنا ( أصله يدل على الترك والهمزة في الإفراط لإزالة ذلك .
وقولهم فرطت القوم أي سبقتهم إلى الماء ، معناه تركتهم من ورائي حتى حصل لي التقدم .
أما الضمير في ) فيها ( فقال ابن عباس : أي في الدنيا وإن لم يجر لها ذكر في الآية بدلالة العقل لأن موضع التقصير هو الدنيا .
وقال الحسن : أي في وقت الساعة على معنى قصرنا في شأنها والإيمان بها وإعداد الزاد وتحصيل الأهبة لها .
وقال محمد بن جرير الطبري : يعود إلى الصفقة والمبايعة بدلالة ذكر الخسران .
وقيل : إلى ما فيما فرطنا أي يا حسرتنا على الأعمال والطاعات التي تركناها وقصرنا فيها .
ثم بين تضاعف خسرانهم بأنهم لم يحصلوا لأنفسهم مواجب الثواب ولكن حصلوا مواجب العقاب فقال ) وهم يحملون أوزارهم على ظهروهم ( هي الآثام والخطايا .
وأصل الوزر الثقل ومنه الوزير لأنه يحمل ثقل صاحبه .
والوزر الملجأ لأنه يدفع عنه ما أسباه فكأنه حمله .
أما كيفية حملهم الأوزار فقال في الكشاف : إنه مجاز عن حصولها لهم كقوله ) فبما كسبت أيديكم ) [ الشورى : 30 ] لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور كما ألف الكسب بالأيدي .
وقال الزجاج : الثقل قد يذكر في الحال والصفة .
ثقل عليّ خطاب فلان أي كرهته ، فالمعنى أنهم يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل ذلك عليهم .
وقيل : هو كقولك : شخصك نصب عيني أي ذكرك ملازم لي .
وقال جمع من المفسرين : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة وأطيبها ريحاً فقول : ( أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم فذلك قوله ) يوم نحش المتقين إلى الرحمن وفداً ) [ مريم : 85 ] قالوا ركباناً وإن الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة وأخبثها ريحاً فيقول : أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم قاله قتادة والسدي .(3/68)
" صفحة رقم 69 "
) ألا ساء ما يزرون ( بئس شيئاً يزرون وزرهم .
ثم رغب في الحياة الباقية وزهد في الحياة العاجلة فقال ) وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ( قال ابن عباس : يريد حياة أهل الشرك والنفاق لأن حياة المؤمن تحصل فيها أعمال صالحة فلا تكون لعباً ولهواً .
وقال آخرون : هو عام في حياة المؤمن والكافر وذلك أن مدة اللهو واللعب وكل شيء يلهيك ويشغلك مما لا أصل له قليلة سريعة الانقضاء والزوال ، ومدة هذه الحياة كذلك .
وأيضاً اللعب وللهو لا بد أن يتناهيا في أكثر الأمر إلى شيء من المكاره ولذات الدنيا كذلك ، ولهذا رفضها العلماء المحققون والحكماء المتألهون .
) وللدار الآخرة ( قال ابن عباس : هي الجنة وإنها خير لمن اتقى الكفر والمعاصي .
وقال الأصم : التمسك بعمل الآخرة خير .
وقال الآخرون : نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا من حيث إنها دائمة باقية مصونة عن شوائب الآفات والمخافات ، آمنة من نقص الانقضاء والانقراض ) للذينيتقون ( فيه أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن اتقى الكفر والمعاصي ، وأما الكافر والفاسق فالدنيا بالنسبة إليهما خير كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) .
) أفلا تعقلون ( قال الواحدي : من قرأ بتاء الخطاب فالمعنى قل لهم أفلا تعقلون أيها المخاطبون ، ومن قرأ بالياء فمعناه أفلا يعقل الذين يتقون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار ؟ وذلك أن خيرات الدنيا ليست إلا قضاء الشهوات التي يشارك فيها سائر الحيوانات ، بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل ، فالجمل أكثر أكلاً ، والديك والعصفور أكثر وقاعاً ، والذئب والنمر والحيات أقوى غضباً وقهراً ، وكل من وقف عمره على هذه المطالب لم يكن له عند العقلاء وزن ولا عند الحكماء والعلماء قدر ، وكل من صرف عمره في تحصيل الكمالات الدائمات والسعادات الباقيات كان له في العيون مهابة وفي القلوب قبول ، وذلك دليل على شهادة الفطر الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية وعلو مرتبة الكمالات الروحانية. وهب أن النوعين تشاركا في الفل والمنقبة أليس المعلوم أفضل من المظنون وأن خيرات الآخرة معلومة قطعاً والوصول إلى خيرات الدنيا في الغد غير معلوم ولا مظنون ؟ فكم من سلطان قاهر بكرة صار تحت التراب عشية ، وكم من متمول متغلب أصبح أميراً كبيراً أمسى فقيراً حقيراً. وهب أنه وجد بعد هذا اليوم يوماً آخر فلن يمكنه الانتفاع بكل ما جمع من الأسباب ، ولو انتفع فقلما ميخلص من شوائب المكاره(3/69)
" صفحة رقم 70 "
والآفات كما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق .
قيل : وما هو يا رسول الله ؟ قال : سرور يوم بتمامه ) وهب أن الدست له قد تم ، أليس مآل كل ذلك إلى الزوال والانقراض ؟ وكفى بذلك نقصاً وكدراً كما قال :
كما الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
ثم سلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد نعلم ( والمراد كثرة العلم والمبالغة كما مر في قوله ) قد نرى تقلب وجهك ) [ البقرة : 144 ] والهاء في ) أنه ( ضمير الشأن وكسرت بعد العلم لمكان لام الابتداء في ) ليحزنك ( وما ذلك المحزن ؟ قال الحسن : هو قولهم ساحر شاعر كاهن مجنون : وقيل : تصريحهم بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه .
وقيل : نسبتهم إياه إلى الكذب ) فإنهم لا يكذبونك ( قال أبو علي وثعب : أكذبه وكذبه بمعنى .
وقيل : أكذبت الرجل ألفيته كاذباً ، وكذبته غذا قلت له كذبت .
وقال الكسائي : أكذبته إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه وكذبته إذا أخبرت أنه كاذب .
وقال الزجاج : معنى كذبته قلت له كذبت ، ومعنى أكذبته أن الذين أتى به كذب في نفسه من غير ادعاء أن ذلك القائل تكلف ذلك الكذب وأتى به على سبيل الافتعال والقصد .
فمن قرأ بالتخفيف نظر إلى أن القوم كانوا يعتقدون أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما ذكر ذلك على سبيل الافتعال والترويج بل تخيل صحة ذلك وأنه نبي إلا أن تخيله باطل .
ثم إن ظاهر الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ولكنهم يجحدون بآيات الله ، وفي الجمع بين الأمرين وجوه : الأول أن القوم ما كانوا يكذبونه في السر ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن ونبوته ويؤكده رواية السدي أن الأخنس بن شريق وأبا جهل بن هشام التقيا فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس ههنا أحد يسمع كلامك غيري .
فقال أبو جهل : والله إن محمداً لصادق وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت .
وقال أبو ميسرة : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مر بأبي جهل وأصحابه فقالوا يا محمد إنا والله ما نكذبك إنك عندنا لصادق ولكن نكذب ما جئت به فنزلت .
وقال مقاتل : نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل كان يكذب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في العلانية ، فإذا خلا مع أهل بيته قال : ما محمد من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقاً فإذن هذه الآية نظير قوله تعالى في صة موسى ) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ) [ النمل : 14 ] فانظر .
الثاني في تأويل الآية أنهم لا يقولون إنك كذاب لأنهم جربوك الدهر الطويل وما وجدوا منك كذباً وسموك الصادق الأمين فلا يقولون بعد إنك كاذب ، ولكن حجدوا(3/70)
" صفحة رقم 71 "
صحة نبوتك ورسالتك إما لأنهم اعتقدوا أن محمداً عرض له نوع خبر ونقصان فلأجل ذلك تخيل أنه رسول لا أنه كذب في نفسه ، أو لأنهم زعموا أنه أمين في كل الأمور إلا في هذا الواحد .
الثالث أنه لما ظهرت المعجزات على يده ثم إن القوم أصروا على التكذيب قال له إن القوم ما كذبوك وإنما كذبوني ، ونحوه قول السيد لغلامه إذا أهانه بعض الناس : إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني ومثله قوله سبحانه ) إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) [ الفتح : 10 ] فكأنه قيل له : إله عن حزنك لنفسك وليشغلك عن ذلك منا هو أهم وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابه .
الرابع : قيل في التفسير الكبير : أي لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقاً ويكذبون جميع الأنبياء والرسل .
وقوله ( ولكنّ الظالمين ( من إقامة المظهر مقام المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم في جحودهم ، لأن من وضع التكذيب مقام التصديق فقد ظلم .
ثم صبر رسوله على أذية القوم فقال ) ولقد كذبت رسل ( وأيّ رسل ) من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ( فأنت أولى بهذه السيرة لأنك مبعوث إلى كافة الخلائق فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا .
) ولا مبدّل لكلمات الله ( أي لمواعيده في نحو قوله ) كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) [ المجادلة : 21 ] وقوله ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون ) [ الصافات : 171 ] ( ولقد جاءك من نبأ المرسلين ( قال الأخفش ( من ) زائدة والأصح أنها للتبعيض لقلة مجيء زيادة ( من ) في الإثبات ، ولأن الواصل إليه بعض قصص الأنبياء لقوله ) منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ) [ غافر : 78 ] فالتقدير : ولقد جاءك بعض أنبائهم .
وكان يكبر على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزلت ) وإن كان كبر ( أي شق ) عليك إعراضهم ( عن الإيمان وصحة القرآن ) وإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ( فافعل .
يعني أنك لا تستطيع ذلك والجواب محذوف وحسن للعلم به .
والنفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان ومنه اشتقاق المنافق .
والسلم واحد السلاليم التي يرتقي عليها وأصله من السلامة كأنه يسلمك إلى مصعدك .
والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو ساتطاع أن يأتي بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها وبكل ما اقترحوه رجاء إيمانهم ، ويجوز أن يكون ابتغاء النفق أو السلم هو الآية كأنه قيل : لو استطعت ذلك لفعلت كل ذلك ليكون لك آية يؤمنون عندها ، ثم قال ) ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ( قال أهل السنة : فهو دليل على أنه تعالى لا يريد الإيمان من الكافر .
وقالت المعتزلة : المراد مشيئة الإلجاء المنافي للتكليف .
والإلجاء هو أن يعلمهم أنهم لو حاولوا غير الإيمن لمنعهم منه فيضطرون إلى الإيمان .
مثاله : أن يحصل شخص بحضرة السلطان وهناك خدمه وحشمه فيعلم أنه لو هم بقتل ذلك(3/71)
" صفحة رقم 72 "
السلطان لقتلوه في الحال فيصير هذا العلم مانعاً له من القتل .
وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً .
أما قوله ) فلا تكونن من الجاهلين ( أي من الذين يرومون خلاف مأمور الله .
فهذا النهي لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة ولكنه يفيد التغليظ وتأكيد الامتناع عن الجزع والإضراب عن الحزن والأسف على إيمان من لم يشأ الله إيمانه .
ثم بيَّن السبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان فقال ) إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ( مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة .
والمراد أنه تعالى هو الذي يقدر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر على ذلك ، يعني أن الذين تحرص على حصول إيمانهم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون كقوله ) إنك لا تسمع الموتى ) [ النمل : 80 ] أو المعنى أن هؤلاء الكفرة يبعثهم الله ثم إليه يرجعون فحينئذ يسمعون ، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى إسماعهم .
أما وجه تشبيه الكفرة بالموتى فلأن حياة الروح بالعلم ومعرفة الصانع كما أن حياة الجسد بالروح .
ثم ذكر شبهة أخرى للطاعنين في نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو أنه ما جاء بآية قاهرة ومعجزة باهرة فكأنهم طعنوا في كون هذا القرآن معجزاً على سبيل العناد أو قياساً على سائر الكتب السماوية ، أو طلبوا معجزات تقرب من حد الإلجاء كشق الجبل وفلق البحر ، فإن معجزات نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) من تسبيح الحصا وانشقاق القمر وغير ذلك ليست بأقل منها .
أو اقترحوا مزيد الآيات بطريقة التعنت واللجاج كقولهم ) إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ) [ الأنفال : 32 ] فأجابهم الله تعالى بقوله ) قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ( أن فاعليته ليست إلا بحسب محض المشيئة عند أهل السنة ، أو على وفق المصلحة عند المعتزلة ، لا على موجب اقتراحات الناس ومطالباتهم .
أو أنه لما ظهرت المعجزة الباهرة والدلالة الكافية من القرآن وغيره لم يبق لهم عذر ولا علة ، فلو أجابهم إلى مقترحهم فلعلهم يقترحون اقتراحاً ثانياً وثالثاً وهلم جر أو ذلك يفضي إلى أن لا يستقر الدليل ولا تتم الحجة وهذا خلاف المقصود ، أو لا يعلمون أنه لو أعطاهم سؤلهم ثم لم يؤمنوا لاستوجبوا الاستئصال ، أو لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل العناد لا لأجل الفائدة - وقد علم الله ذلك - لم يعطهم مطلوبهم ولو كان غرضهم طلب الحق ونيله لأعطاهم مطلوبهم على أكمل الموجوه .
التأويل : ( ومنهم من يستمع إليك ( إنكاراً واختباراً ) وجعلنا على قلوبهم ( من شؤم إنكارهم حجباً من غير الإنكار ) وفي آذانهم وقراً ( من فساد الاستعداد الفطري .
) وإن يروا كل آية ( بعين الظاهر ) لا يؤمنوا بها ( من عمى القلوب وإعواز نور الإيمان فيها ) وهم ينهون ( الطلاب عن الحق .
) وإن يهلكون ( يتنفير الخلق عن الحق ) إلا أنفسهم ( لأن التباعد من أهل الحق هو البعد عن الحق وهذا هو الهلاك الحقيقي .
) ولو ترى إذ وقفوا على(3/72)
" صفحة رقم 73 "
النار ( أي أرواح الأشقياء بعد الخلاص عن حبس الطبيعة عرفوا ألم عذاب القطيعة ) فقالوا يا ليتنا نرد ( إلى عالم الصورة وإلا الاستعداد الفطري ) بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ( أين يظهر عليهم آثار الشقاوة التي كتبت لهم وكانوا يتكلفون سترها في عالم الصورة بلباس البشرية ) ولو ردوا ( إلى عالم الصورة ) لعادوا لما نهوا عنه ( من اتباع الهوى فيفسدون استعدادهم مرة أخرى ) وإنهم لكاذبون ( فيما يدعون لأنهم خلقوا لأجل التكذيب لا لأجل التصديق ، ولهذا نسوا ما شاهدوا يوم الميثاق من الألطاف والإعطاف ، وقولهم ( بلى ) في جواب خطاب ) ألست بربكم ) [ الأعراف : 172 ] ( اذ وقفوا على ربهم ( عرفوا ربوبية ربهم ولو عرفوها في الدنيا لم يذوقوا عذاب البعد في العقبى ) حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة ( هي الساعة التي يجتذب العبد فيها عن أوصاف البشرية بجذبات المحبة فجأة وهي قيامة أخرى لأن فيها تبدل أرض البشرية غير الأرض ) وأشرقت الأرض بنور ربها ) [ الزمر : 69 ] فينظر المحب الصادق بالنور الساطع إلى أيام ضاعت منه في طلب غير الحق فيتأسف عليها ويقول : أيها القانص ما أحسنت صيد الظبيات ، فاتك السرب وما ازددت غير الحسرات ) وهم يحملون ( أثقال التعلقات الزائدة على ظهور وجودهم ، فإن الوجود على السالك ثقيل مانع عن السلوك فكيف ما زيد عليه ؟ ) إلا لعب ولهو ( كلعب الصبيان ولهو أهل العصيان ) وللدار الآخرة ( هي السير من البشرية إلى الروحانية والإقبال على الله والإعراض عما سواه ) خير للذين يتقون ( غير الله ) أفلا تعقلون ( أن الإنسان خلق لهذا الشأن لا لغيره كقوله ) واصطنعتك لنفسي ) [ طه : 41 ] ( قد نعلم إنه ليحزنك ( من ضيق نطاق البشرية أثر في حبيب الله مقالة الجهلة ولا مبدل لكلمات الله لمقدّراته التي قدّرها ودبرها من الأزل إلى الأبد بكلمة ( كن ) ولو شاء الله لجمعهم ( في عالم الأرواح عند رشاش النور على الهدى ) فلا تكونن من الجاهلين ( الذين لا يعلمون الحكمة في جعل البعض في مظاهر اللطف والبعض بمظاهر القهر. والنهي في حقه ( صلى الله عليه وسلم ) هو نهي الامتناع عن الكينونة أي خلق في الأزل ممتنعاً عن الجهل بواسطعة كلمة لا تكن كما أنه خلق مستعداً للكمال بكلمة ( كن ) ) قل إن الله قادر على أن ينزل آية ( في كل لحظة ولمحة ) ولكن أكثرهم لا يعلمون ( دلالة الكائنات على المكوّن والممكنات على الواجب والمصنوعات على الصانع ) وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) [ يوسف : 105 ]
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
( الأنعام : ( 38 - 50 ) وما من دابة . . . .
" وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ(3/73)
" صفحة رقم 74 "
يجعله على صراط مستقيم قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون "
( القراآت )
أرأيتكم ( وبابه بتليين الهمزة : أبو جعفر ونافع وحمزة في الوقف ) أريتكم ( وبابه بغير همز : عليّ : الباقون : ( أرأيتكم ( بالتحقيق ) فتحنا ( بالتشديد : يزيد وابن عامر ) به انظر ( بضم الهاء روى الأصفهاني عن ورش .
الوقوف : ( أمثالكم ( ط ) يحشرون ( ه ) في الظلمات ( ط ) يضلله ( ط لابتداء شرط آخر ) مستقيم ( ه ) تدعون ( ج لأن جواب ( إن ) منتظر محذوف تقديره إن كنتم صادقين فأجيبوا مع اتحاد الكلام ) صادقين ( ه ) تشركون ( ه ) يتضرعون ( ه ) يعملون ( ه ) كل شيء ( ط ) مبلسون ( ه ) ظلموا ( ط ) العالمين ( ه ) يأتيكم به ( ط ) يصدفون ( ه ) الظالمون ( ه ) ومنذرين ( ج ) يحزنون ( ه ) يفسقون ( ه ) إني ملك ( ج للابتداء بالنفي مع اتحاد القائل والمقول ) إلى ( ط ) يتفكرون ( ه .
التفسير : لما بين أن إنزال سائر المعجزات لو كان مصلحة لهم لفعل ذلك ، أكده بما يؤذن أن آثار فضله وإحسانه ولطفه وامتنانه واصلة إلى جميع الحيانات ، فلو كانت مصلحة المكلفين في إظهار تلك المعجزات القاهرة الملجئة لم يخل بذلك ألبتة ، وفيه أيضاً مزيد تقرير لأمر البث وأنه حاصل لجميع الحيوان فضلاً عن الإنسان .
فإن الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير .
وإنما خص من الدواب ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء أو في الماء .
لأن رعاية مصالح الأدون تستلزم رعاية مصالح الأشرف ، ويمكن أن(3/74)
" صفحة رقم 75 "
يقال : إن الماء أيضاً من جملة الأرض لأنهما جميعاً ككرة واحدة .
قال علماء المعاني : إنما وصف الدابة بكونها في الأرض والطائر بجناحيه ليعلم أنهما باقيان على عمومها إذ بينهما بخواص الجنسين ، ولوا ذلك لاحتمل أن يقدّر فيهما صفة نو ترتع أو تصيد فتخصصا ، أو لأوهم أن المراد بهما غير الجنسين المتعارفين لقوله بعده ) لا أمم أمثالكم ( وقد يقول الرجل لعبده طِرْ في حاجتي والمراد الإسراع .
قال الحماسي :
طاروا إليه زرافات ووحدانا
وقيل : ذكر ) يطير بجناحيه ( ليخرج عنه الملائكة ذوو الأجنحة ، فإن المراد ذكر من هو أدون حالاً .
وقيل : إن الوصف للتأكيد كقولهم : نعجة أنثى .
وكما يقال : مشيت إليه برجلي .
وإنما جمع الأمم مع أنه أفرد الدابة والطائر ، لأن النكرة المستغرقة في معنى الجمع .
قال الفراء : كل صنف من البهائم أمة .
وفي الحديث ( لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ) ثم ما وجه المماثلة بين البشر والدابة والطائر ؟ نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال : يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني كقوله ) وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] ( كل قد علم صلاته وتسبيحه ) [ النور : 41 ] وعن أبي الدرداء : أبهمت عقول البهائم إلا عن معرفة الإله وطلب الرزق .
ومعرفة الذكر والأنثى .
وهذا قول طائفة عظيمة من المفسرين .
وقيل : وجه المماثلة كونها جماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضاً ويأنس بعضها ببعض ويتولد بعضها من بعض .
وضعف بأن هذا أمر معلوم مشاهد لا فائدة في الإخبار عنه .
وقيل : هو أنه دبرها وخلقها وتكفل برزقها وأحصى أحوالها وما يجري عليها من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة .
دليله قوله عقيبه ) ما فرطنا في الكتاب من شيء ( .
وقيل : هو أنها تحشر يوم القيامة ويوصل إليها حقوقها وقد جاء في الحديث ( يقتص للجماء من القراء ) ولكن قوله بعد ذلك ) ثم إلى ربهم يحشرون ( يصير كالمكر .
وعن سفيان بن عيينة .
ما في الأرض من آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم .
فمنهم من يقدم إقدام الأسد ، ومنهم من يعدو عدو الذئب ، ومنهم من ينبح نباح الكلب ، ومنهم من يتطوّس كفعال الطاووس ، ومنهم من يشبه الخنزيل لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام عن رجيعه لعب فيه ، وكذلك نجد من الأدميين من يسمع(3/75)
" صفحة رقم 76 "
خمسين كلمة من الحكمة لا يحفظ واحدة وإن أخطأت مرة واحدة حفظها ، ولم يجلس مجلساً إلا زاد فيه .
واعلم يا أخي أنك تعاشر البهائم والسباع فبالغ في الحذر والاحتراز .
وذهب أهل التناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة بالمعارف الحقة موسومة بالأخلاق الفاضلة فإنها بعد موتها تنتقل إلى أبدان الملوك ، وربما قالوا إنها تصل إلى مخالطة عالم الملائكة .
وإن كانت شقية جاهلة فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات ، وكلما كانت أكثر شقاء فإنها تنتقل إلى بدن حيوان أخس وأكثر تعباً وعناء .
قالوا : وذلك لأن لفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية .
ثم زعموا أن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولاً من جنسها لقوله ) وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) [ فاطر : 24 ] واستشهدوا بقصة النمل وحديث الهدهد ونحو ذلك .
وفي تعداد مذاهب أرباب التناسخ طول والله تعالى أعلم بحقيقة الحال .
) ما فرطنا في الكتاب من شيء ( ( من ) مزيدة للاستغراق أي ما تركنا وما أغفلنا شيئاً قط .
وقيل : للتبعيض أي ما أهملنا فيه بعض شيء يحتاج المكلف إلى معرفته .
والكتاب اللوح المحفوظ المشتمل على جميع أحوال العالم على التفصيل .
وقيل : القرآن لأنه هو الذي تسبق إليه الأذهان فيما بين أهل الإيمان ، وأورد عليه أنه ليس فيهتفاصيل علم الطب والحساب ولا تفاصيل كثير من العلوم ولا حاصل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع .
وأجيب بأن لفظ التفريط لا يتسعمل إلا فيما يجب أن يفعل ، والمحتاج إليه إنما هو الأصول والقوانين لا الفروع التي لا تضبط ولا تتناهى .
وما منعلم إلا وفي القرآن أصله ومنه شرفه وفله كقوله ) كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) [ الأعراف : 31 ] للطلب .
وقوله ( وهو أسرع الحاسبين ) [ الأنعام : 62 ] للحساب .
وكقوله ) خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) [ الأعرف : 199 ] للأخلاق .
وأما تفاصيل علم الفروع فذكر العلماء أن السنة والإجماع والقياس كلها مستندة إلى الكتاب كقوله ) وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [ الحشر : 7 ] وكقوله ) ويتبع غير سبيل المؤمنين ) [ النساء : 115 ] وكقوله : ( فاعتبروا ) [ الحشر : 2 ] وقيل : إن القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام ، لأن الأصل براءة الذمة عن التكاليف كلها وشغل الذمة لا بد فيه من دليل منفصل ، وكل حكم لم يكن مذكوراً في القرآن بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام لم يكن ذلك تكليفاً أو يكون باقياً على أصل الإباحة والله تعالى أعلم .
أما قوله ) ثم إلى ربهم يحشرون ( فللعقلاء فيه قولان : الأوّل قول الأشعارة إنه تعالى يحشر الدواب والطيور لا لأن إيصال العوض إليهن واجب بل مجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية .
الثاني قول المعتزلة لن يحشر الطيور والبهائم إلا لإيصال(3/76)
" صفحة رقم 77 "
الأعواض إليها ، لأن إيصال الآلام إليها من غير سبق جناية لا يحسن إلا للعوض .
وفرع القاضي على ذلك فقال : كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآللام وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا فإنه يجب على الله تعالى حشره في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض ، والذي لا يكون كذلك لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلاً إلا أن السمع ورد بحشر الكل فيقطع بذلك .
فرع آخر : كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض له على الله تعالى ، وكذا الذي أذن في قتله في كونه مؤذياً أو ألمه بمرض أو سخره للإنسان لأجل حمل الاثقال ، وأما إذا ظلمها الناس فالعوض على الظالم ، وكذا إذا ظلم بعضها بعضاً ، ولو ذبح المأكلو لغير مأكله .
فالعوض على الذابح ولهذا ورد النهى عن ذبح الحيوان لغير مأكله والمراد من العوض منافع عظيمة بلغت في الجلالة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة وعلمت أنه لا سبيل إلى تحصيل تلك المنافع إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح لرضيت به .
فرع آخر : مذهب القاضي وأكثر المعتزلة أن العوض منقطع وبعد ذلك تصير تراباً وحينئذ ) يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً ) [ النبأ : 40 ] وقال أبو القاسم البلخي : يجب دوام العوض لأنه لا يمكن قطع ذلك العوض إلا بإماتة تلك البهيمة ، وإماتتها توجب الألم ، وذلك الألم يوجب عوضاً آخر وهلم جراً إلى ما لا نهاية له .
وأجيب بالمنع من أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا بالإيلام .
فرع آخر : البهيمة إذا استحقت عوضاً على بهيمة أخرى : فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضاً على الله تعالى فإنه تعالى يوصل ذلك العوض إلى المظلوم وإلا فإنه تعالى يتكفل بذلك العوض ، وهذا القدر يكفي في أحكام الأعواض بحسب المقام وهو على رحمته الكاملة وعنايته الشاملة قال ) والذين كذبوا بآياتنا صم ( لا يسمعون كلام الله البتة ) وبكم ( لا ينطقون بالحق خابطون ) في الظلمات ( ظلمة الكفر وظلمة الشكوك وظلمة الحيرة والضلالة .
ثم بين أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان كلها بمشيئته وإرادته وتسخيره وتدبيره فقال ) من يشأ الله يضلله ومن يِشأ يجعله على صراط مستقيم ( والجبائي أوّل الآية بأن المراد أنهم كذلك في الآخرة كقوله ) ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً ) [ الإسراء : 97 ] وأنهم شبهوا بمن حاله كذا ، أو هو محمول على الشتم والإهانة ، وأما قوله ) من يشأ الله يضلله ( أي عن طريق الجنة ولا يشاء الإضلال إلا لمن يستحق عقوبته كما أنه لا يشاء الهدي إلا للمؤمنين .
أو المراد بالإضلال منع الألطاف لأنهم ليسوا من أهلها وبالهداية منحها لأنهم من أهلها .
ثم بين غاية جهالة الكفار وأنهم مع جحوهم يفزعون إلى الله في البليات فقال ) قل أرأيتكم ( هو منقول من رأيت بمعنى(3/77)
" صفحة رقم 78 "
أبصرت أو عرفت كأنه قيل : أبصرته وشاهدت حاله العجيبة أو أعرفتها أخبرني عنها فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة بشيء .
فهذا من باب إيقاع السبب على المسبب لأن الإخبار إنما يكون بعد المشاهدة أو العرفان .
أما إعرابه فالتاء ضمير الفاعل ، والكاف للخطاب .
فالتاء يكون بلفظ واحد في التثنية والجمع والتأنيث .
وتختلف هذه المعاني على الكاف نحو : أرأيتك أرأيتكما أرأيتكم أرأيتكن .
والتاء في جميع ذلك مفتوحة والكاف حرف خطاب وليست اسماً وإلا لكانت إما مجرورة ولا جار ، وإما مرفوعة وليست الكاف من ضمائر المرفوع ولا رافع أيضاً لأن التاء فاعل ولا يكون لفعل فاعلان ، وإما منصوبة وهو باطل من وجوه : أحدها أن هذا الفعل قد يتعدى إلى مفعولين نحو أرأيتك زيداً ما شأنه .
فلو جعلت الكاف مفعولاً لكان ثالثاً .
وثانيها لو كان مفعولاً لكان هو الثاني في المعنى وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك ولذلك قلت : أرأيتك زيداً ، وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه .
وثالثها لو كان منصوباً على أنه مفعول لظهرت علامة التثنية والجمع والتأنيث في التاء نحو : أرأيتماكما وأرأيتموكم وأرأيتموكن .
وقد ذهب الفراء إلى أنه اسم مضمر منصوب في معنى المرفوع ويجوز تصريف التاء .
فأما مفعولا أرأيت في الآية فقيل : هما محذوفان تقديره أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم عند مجيء الساعة ؟ ودل عليه قوله ) أغير الله تدعو ( وقيل : لا يحتاج ههنا إلى المفعول لأن الشرط وجوابه قد حصلا معنى المفعول وأما جواب الشرط فما دل عليه الاستفهام في قوله ) أغير الله ( تقديره أرأيتكم الساعة دعوتم الله وحاصل الآية قل يا محمد لهؤلاء الكفار أرأيتكم إن أتاكم العذاب في الدنيا أو عند قيام الساعة ، أتخصون آلهتكم بالدعوة أم تدعون الله دونها ) بل إياه تدعون ( بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة فيكشف ما تدعونه إلى كشفه إن شاء لأن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين .
وعلى هذا يكون قوله ) ادعوني أستجب لكم ) [ غافر : 60 ] باقياً على إطلاقه لكن في الدنيا ، ولو علقت المشيئة بكشف العذاب في الدنيا كان قوله ) ادعوني أستجب ) [ غافر : 60 ] أيضاً مقيداً بالمشيئة ) وتنسون ما تشركون ( قال ابن عباس : تتركون الأصنام ولا تدعونها لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع ، ويجوز أن يراد لا تذكرون الأصنام في ذلك الوقت لأن أذهانكم مغمورة بذكر الله وحده ، والمقصود من الآية تبكيت الكفار كأنه قيل : إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله تعالى لا إلى الأصنام فلم تقدمون عبادتها ؟ وفيه أن مبنى الدين على الحجة والدليل لا على محض التقليد .
ثم سلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأن أعلمه أنه قد أرسل قبله إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا وأصروا على كفرهم خلاف الأقوام المذكورين الذين يفزعون إلى الله في الشدائد .
ويحتمل أن يقال : إن حكم الطائفتين واحد لأن التضرع(3/78)
" صفحة رقم 79 "
واللجأ إلى الله إزالة البلية لا على سبيل الإخلاص غير معتبر .
وفي الآية محذوف تقديره : ( ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً ( فخالفوهم ) فأخذناهم بالبأساء والضراء ( وحسن الحذف لكونه مفهوماً .
والبأساء والضراء البؤس والضر .
أو البأساء القحط والجوع ، والضراء الأمراض والأوجاع والرزايا ) لعلهم يتضرعون ( يتللون ويتخشعون وأصله الانقياد وترك التمرد .
ضرع الرجل ضراعة فهو ضارع أي ذليل ضعيف .
احتج الجبائي بالآية على أنه تعالى إنما أرسل الرسل إليهم وسلط هذه البأساء والضراء عليهم إرادة أن يتضرعوا ويؤمنوا ، فهو يريد الإيمان الطاعة من الكل .
وأجيب بأن الترجي في قحه تعالى محال فإنهم يحملونه على الإرادة ، ونحن نحمله على أنه تعالى يعاملهم معاملة المترجي .
فالترجيح على أن الفسق وتزيين الشيطان وكل ما يفرضونه لا بد أ ينتهي إلى خلق الله وتكوينه .
أما قوله ) فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ( فمعناه نفي التضرع كأنه قيل : فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا .
ولكنه جاءبلولا التحضيضية ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا العناد والقسوة والإعجاب ، ثم بين أنه لما لم ينجع فيهم المواعظ والزواجر نقلهم من البأساء والضراء إلى الراحة والرخاء ففتح أبواب الخيرات عليهم وسهل موجبات المسرات لديهم كما يفعله الأب المشفق لولده ، يخاشنه تارة ويلاينه أخرى .
ومعنى ) كل شيء ( أي كل شيء كان مغلقاً عنهم من الخير ) حتى إذا فرحوا بما أوتوا ( أي ظنوا أن ذلك باستحقاقهم ولم يزيدوا إلا بطراً وترفهاً ) أخذناهم بغتة ( قا لالحسن : مكر بالقوم ورب الكعبة .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا رأيت الله يعطي العاصي فإن ذلك استدراج من الله تعالى ) قال العلماء : وإنما أخذوا في حال الراحة والرخاء ليكون أشد لتحسرهم على ما فات من السلامة والعطاء ) فإذا هم مبلسون ( آيسون من كل خير .
وقال الفراء : المبلس الذي انقطع رجاؤه .
ويقال للذي سكت عند انقطاع حجته قد أبليس .
وقال الزجاج : المبلس الشديد الحسرة الحزين .
( وإذا ) ههنا للمفاجأة وهي ظرف مكان ( وهم ) مبتدأ و ) مبلسون ( خبره وهو العامل في ( إذا ) ) فقد دابر القوم ( الدابر للشيء من خلفه كالولد للوالد .
دبر فلان القوم يدبرهم دبوراً ودبراً إذا كان أخرهم .
أبو عبيدة : دابر القوم آخرهم الذي يدبرهم .
الاصمعي : منهم أحداً واستأصلهم لأن ذلك جارٍ مجرى النعمة على أولئك الرسل ، أو على أولئك الهالكين كيلا يزيدوا كفراً وعناداً فيزدادوا عذاباً وعقاباً ، أو حمد على ما أنعم عليهم قبل(3/79)
" صفحة رقم 80 "
ذلك وهو أن كلفهم وأزال عنهم الأعذار والعلل وبعث الأنبياء والرسل وأخذهم بالبأساء .
والضراء ثم نقلهم إلى الآلاء والنعماء إلا أنهم لم يزدادوا إلا انهماكاً في الغي والضلال فطهر وجه الأرض من شركهم .
وفيه إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك كل ظالم فإن ذلك من جملة آلاء الله سبحانه ، ثم عاد إلى الدلالة على وجود الصانع الحكيم المختار وبيان وحدته جل جلاله فقال ) قل أرأيتم إن أخذ الله ( وتقرير ذكل أن أشرف أعضاء الإنسان هو السمع والبصر والقلب كما عدّدنا منافعها في أوائل الكتاب ، ولا ريب أن القدر على تحصيل قواها فيه وصرفها عن الآفات والمخافات ليس إلا الله وحده ، ومعنى أخذ لسمع والبصر تعطيل منافعهما ، ومعنى الخم على القلب إزالة العقل حتى يصير كالمجانين .
قال ابن عباس : إنه الطبع أو الإماتة حتى لا يعقل الهدى والصلاح ) يأتيكم به ( أي بذلك الذي أخذ من السمع والبصر والقلب ، فوضع الضمير موضع اسم الإشارة بناء على أن الضمير المذكور بحكم الاستعمال يلزم أن يكون لذي عقل ولو فرضاً .
والأحسن أن يقال : إنه ذكر أشياء متعددة فوجب أن يعود الضمير إلى جميعها مؤنثاً إليه بذلك .
ثم إنه أقام الضمير المذكور مقامه أو يعود إلى ما أخذ وختم عليه وصح من غير التكلف المذكور بحكم التغليب ) انظر ( يا محمداً وكل من له أهلية النظر ) كيف نصرف الآيات ( نوردها على الوجوه المختلفة المتكاثرة بحيث يكون كل واحد منها يقوّي ما قبله في الإيصال إلى المطلوب .
ومعنى ( ثم ) التفاوت بين الحالين و ) يصدفون ( أي يعرضون .
ويقال : امرأة صدوف للتي تعرض وجهها عليك ثم تصدف أي تعرض .
والصدف ميل في الحافر إلى الشق الوحشي .
وصدف الدرة غشاؤها لميل فيه ، قال الكعبي : لو خلق الله فيهم الإعراض والصد لم ينكر ذلك عليهم .
وقالت الأشاعرة : لولا منع الله تعالى لنجع فيهم الدلائل القاطعة للأعذار .
ثمعمم الدليل بقوله ) قل أرأيتكم إن أتاكم ( والمعنى أنه لا دافع لنوع من أنواع العذاب إلا الله سبحان فوجب أن لا يكون معبوداً إلا هو .
ثم العذاب المفروض إما أن يجيء من غير سبق أمارة تدل على ذلك وهو البغتة وأكثر ما يكون ذلك بالليل ، أو مع سبق أمارة وهو الجهرة وأكثره بالنهار ولهذا قال الحسن : معناه ليلاً أو نهاراً .
أما قوله ) هل يهلك إلا القوم الظالمون ( أي لا يهلك مع قوله ) واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ( فمعناه أن الهلاك بالحقيقة وهو هلاك التعذيب والسخط مختص بالظالمين الأشرار لأن الأخيار وإن عمهم العذاب إلا أنهم يستفيدون بذلك ثواباً جزيلاً ، فهو لهم بلاء في الظاهر وآلاء في الحقيقة خلاف الظلمة فإنهم يخسرون الدنيا والآخرة ومثله قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أمر المؤمن خير كله إن أصابته ضراء(3/80)
" صفحة رقم 81 "
فصبر كان خيراً له وإن أصابته سراء فشكر كان خيراً له ) واعلم أنه ذكر ههنا ) أرأيتكم ( مرتين فزاد خطاباً واحداً ، لأن عذاب الاستئصال ما عليه من مزيد فناسب زيادة الخطاب لأجل التأكيد ، وفيما بينهما قال ) أرأيتم ( حيث لم يكن كذلك ، وكذلك في يونس ، ثم ذكر أن الأنبياء والرسل بعثوا للتبشير والإنذار فقط ولا قدرة لهم على إظهار الآيات .
وإنزال المعجزات التي اقترحوها في قوله ) وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه ( وأن ذلك معوّض إلى مشيئة الله وحكمته فقال ) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ( بالثواب على الطاعات ) ومنذرين ( بالعقاب على المعاصي .
فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو من أفعال القلب والعمل الصالح الذي هو من أفعال البدن ) فلا خوف عليهم والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب ( ومعى المس التقاء الشيئين من غير فصل .
قال في الكشاف : جعل العذبا ماساً كأنه حي يفعل بهم ما يرد من الآلام وفيه نظر ، لأن المس ليس من خواص الأحياء ، نعم إنه من خواص الأجسام ، فلو ادعيت المبالغة من هذا الوجه لم يكن بعيداً .
قال القاضي : إنه علل عذاب الكافرين بكونهم فاسقين فيكون كل فاسق كافراً .
وأقول : هذا من باب إيهام العكس ولا يلزم العكس ، فإن كل كافر فاسق ولا يلزم العكس .
ثم أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينفي عن نفسه أموراً ثلاثة فقال ) قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ( وهي جمع خزانة للمكان الذي يخزن فيه الشيء ، وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي ) ولا أعلم الغيب ( قال في الكشاف : محله النصل عطفاً على محل قوله ) عندي خزائن الله ( لأنه من جملة المقول أي لا أقول لكم ذاك ولا هذا .
قلت : ويحتمل أن يكون عطفاً على ) لا أقول ( أي قل لا أعلم الغيب فيكون فيه دلالة على أن الغيب بالاستقلال لا يعلمه إلا لاله بخلاف كون خزائن الله عنده وكونه ملكاً فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يحتمل أن يكون له هذه المقامات ولكن لا يظهرها .
واختلف المفسرون في فائدة نفي هذ الأمور فقيل : المراد إظهار التواضع والخضوع لله تعالى والاعتراف بعبوديته حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح عليه السلام .
وقيل : المقصود إبداء العجز والضعف وأنه لا يستقل بإيجاد المعجزات التي كانوا يقترحونها كقولهم ) لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ( إلى قوله ) هل كنت إلا بشراً رسولاً ) [ الإسراء : 93 ] وقيل : أي لا أدّعي سوى النبوّة والرسالة ولا أدّعي الإلهية ولا الملكية وإنما زيد ههنا ) لكم ( بخلاف سورة هود حيث قال ) ولا أقول إني ملك ) [ الآية : 31 ] لأنه تقدم ذكر لكم في قوله ) إني لكم نذير ) [ هود : 25 ] فاكتفى بذلك .
قال الجبائي : في الآية دلالة على أن الملك أفضل إذ(3/81)
" صفحة رقم 82 "
المراد لا أدّعي فوق منزلتي .
قال القاضي : إن كان الغرض التواضع فالأقرب أن ذلك يدل على أن الملك أفضل ، وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على أفضلية الملائكة .
) إن أتبع إلا ما يوحى إلي ( قيل : هذا النص يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يحكم من تلقاء نفسه بالاجتهاد في شيء من الأحكام ، ولا يجوز لأحد من أمته أن يعمل إلا بالوحي النازل عليه لقوله تعالى ) فاتبعوه ) [ الأنعام : 153 ] فلا يجوز العمل بالقياس ، وأكد هذا الحكم بقوله ) قل هل يتسوي الأعمى والبصير ( وذلك أن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى ، والعمل بمقتضى الوحي يقوم عمل البصير .
ثم قال ) أفلا تتفكرون ( تنبيهاً على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين .
وأجيب بأن أصل الاجتهاد والقياس إذا كان بالوحي لم يلزم الضلالة ، والآية مثل للضال والمهتدي أو لمن ادعى المستقيم وهو النبوة والمحال وهو الإلهية والملكية ) أفلا تتفكرون ( فلا تكونوا ضالين كالعميان ، أو فتعلموا أني ما ادعيت سوى ما يليق بالبشر والله تعالى أعلم وأحكم .
التأويل : ( وما من دابة ( تدب في أرض البشرية وتتحرك من الحواس والجوارح والنفس وصفاتها ) إلا أمم أمثالكم ( في السؤال عن أقوالهم وأحوالهم كقوله ) إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا ) [ الإسراء : 36 ] ( ما فرطنا ( ما تركنا في القرآن من شيء يحتاج إليه الإنسان ظاهره وباطنه ، ذاته وصفاته في السير إلى الله من الأوامر والنواهي والندب والآداب .
) ثم إلى ربهم يحشرون ( ههنا بالسير وجذبات العناية ، أو هناك بالسلاسل والأغلال يسحبون في النار في نار القطيعة على وجوههم لأن من شأنهم التكذيب كما قال ) والذين كذبوا بآياتنا ( بدلائلنا الموصلة إلينا ) صم ( آذان قلوبهم عن استماع الحق ) بكم ( ألسنة أحوالهم عن إجابة دعوة الحق في ظلمات صفات البشرية والأخلاق الذميمة ) بل إياه تدعون ( لأن رجوعه إلى ربه مركوز في روحانيته .
) ولقد أرسلنا إلى أمم ( أي أرسلنا إليهم نعمة الصحة والكفاف والأمن فشغلوا بها عنا ، فأرسلنا إليهم بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة ندعوهم بها إلينا فلم يهتدوا ) فأخذناهم بالبأساء والضراء ( التي هي موجبة للإلجاء .
) فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ( وعلموا أن حقائق ألطافنا مدرجة في دقائق صورة قهرنا ، وتحققوا أن درر محبتنا مستودعة في أصداف شدائد بأسنا ، فاستقبلوها بصدق الإلتجاء وحسن التضرع في الدعاء .
) فلما نسوا ( بسبب القساوة ) ما ذكروا به ( من معارضة البأساء والضراء فإنها تذكر أيام الرخاء وتعرّف قدر الصحة والنعماء وتؤدي إلى رؤية المنعم ) فتحنا عليهم أبواب كل شيء ( من البلاء في صورة النعماء لأرباب الظاهر بالنعم الظاهرة من الماء والجاه والقبول وأمثالها ، ولأرباب الباطن بالنعم الباطنة من فتوحات(3/82)
" صفحة رقم 83 "
الغيب وأشبهاها ) حتى إذا فرحوا بما أوتوا ( وظنوا أنهم قد استغنوا عن صحبة الشيخ وتعليم تصرفاته فشرعوا في الطلب على وفق هواهم ) أخذناهم بغتة ( بفقد الأحوال والاشتغال بالقال ) فإذا هم مبلسون ( متحيرون في تيه الغرور .
والحمد لله على إظهار اللطف لأربابه والقهر لأصحابه ليعلم أن الكل بقدر كما قال ) قل أرأيتم ( الآية إلا القوم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم بصرف استعداد عبوديته المولى في عبادة الهوى .
فأما من ابتلي بعذاب الله من لآفات والمخافات والأمراض ونحوها ابتلاء فتاب ورجع فهو غيرها لك على الحقيقة ) قل لا أقول لكم ( لم يقل ليس ) عندي خزائن الله ( ليعلم أن خزائن الله وهي العلم بقائق الأشياء وماهياتها عنده بإراءة ) سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) [ فصلت : 53 ] وابستجابة دعائه في قوله ( أرنا الأشياء كما هي ) ولكنه يكلم الناس على قدر قولهم .
) ولا أعلم الغيب ( أي لا أقول لكم هذا مع أنه كان يخبرهم عما مضى وعما سيكون بإعلام الحق ، وقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) في قصة ليلة المعراج ( نظرت خلفي نظرة علمت ما كان وما سيكون ) ) ولا أقول لكم إني ملك ( وإن كنت قد عبرت عن مقام الملك حين قلت لجبريل : تقدم فقال : لو دنوت أنملة لاحترقت ) إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ ( أن أخبرهم وقل معهم ) قل هل يستوي الأعمى والبصير ( فلا يستوي مع الأعمى كلام البصير فكيف أخبركم عما أعمى الله بصائركم عنه وأنا به بصير .
( الأنعام : ( 51 - 60 ) وأنذر به الذين . . . .
" وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب(3/83)
" صفحة رقم 84 "
ولا يابس إلا في كتاب مبين وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون " ( القراآت ) بالغدوة ( مضموم الغين ساكن الدال مفتوح الواو وكذا في الكهف : ابن عامر الباقون : بفتح الغين والدال وبالألف ) أنه ( بالفتح ) فإنه ( بالكسر : أبو جعفر ونافع .
وقرأ ابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب جميعاً بالفتح .
الباقون : بالكسر فيهما ) وليستبين ( بياء الغيبة : زيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل .
الباقون : بالتاء الفوقانية ) سبيل ( بالنصب : أبو جعفر ونافع وزيد .
الباقون : بالرفع ) يقص ( ابن كثير وأبو جعفر ونافع وعاصم .
الباقون ) يقضي الحق ( .
الوقوف : ( يتقون ( ه ) وجهه ( ط ) الظالمين ( ه ) من بيننا ( ط ) الشاكرين ( ه ) الرحمة ( ط لمن قرأ ) أنه ( بكس الألف ) رحيم ( ه ) المجرمين ( ه ) من دون الله ( ط ) أهواءكم ( لا لتعيين ( إذا ) بما قبله أي قد ضللت ( إذا ) اتبعت ) المهتدين ( ه ) وكذبتم به ( ط ) تستعجلون به ( ط ) لله ( ط ) الفاصلين ( ه ) وبينكم ( ط ) بالظالمين ( ه ) إلا هو ( ط ) والبحر ( ط ) مبين ( ه ) مسمى ( ط لأن ( ثم ) لترتيب الأخبار مع اتحاد .
المقصود .
) تعملون ( ه .
التفسير : لما وصف الرسل بكونهم مبشرين ومنذرين أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالإنذار وهو الإعلام بموضع المخافة فقال له ) وأنذر به ( قال ابن عباس والزجاج : أي بالقرآن وهو المذكور هنا في قوله ) إن أتبع إلا ما يوحى اليّ ) [ الأنعام : 50 ] وقال الضحاك : أي بالله .
قيل : والأول أولى لأن الإنذار والتخويف إنما يقع بالقول وفيه نظر ، لأن الإنذار لا نزاع فيه أنه قول ولكن المنذر به قلما يكون قولاً لقوله ) وأنذرهم يوم الآزفة ) [ غافر : 18 ] ( فأنذرتكم ناراً تلظى ) [ الليل : 14 ] ولو زعم أن المراد وأنذرهم النار والعذاب بواسطة وعقوبته .
أما ) الذين يخافون أن يحشروا ( فقيل : إنهم الكافرون الذين سبق ذكرهمن فلعل ناساً من المشركين من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار فأمر أن ينذر هؤلاء دون المتمردين منهم .
ثم قال هذا القائل ولا يجوز حمله على المؤمني لأنهم يعلمون أنهم يحشرون ، والعلم خلاف الخوف والظن .
وضعف بن الخوف شامل للناس كافة لعدم الجزم بالثواب وقبول الطاعة وإن كانوا مقرين بصحة الحشر والنشر فالظاهر أن الضمير يتناول الكل لأن العاقل لا بد أن يخاف(3/84)
" صفحة رقم 85 "
الحشر سواء كان جازماً به أو شاكاً فيه .
وأيضاً إنه مأمور بتبليغ الكل فلا وجه للتخصيص .
وقيل : إنهم قوم مسلمونمفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه لعلهم يدخلون في زمرة أهل التقوى من المسلمين .
وقيل : هم أهل الكتاب لأنهم مقرون بالعبث .
ومعنى ) إلى ربهم ( إلى حكمه وقضائه فلا يلزم منه مكان ولا جهة .
أما قوله ) ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ( فقال الزجاج : إن الجملة في موضع الحال من ضمير ) يحشروا ( أي يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعاً لهم .
فإن كان الضمير للكفار فظاهر ، وإن كان للمؤمنين فشفاعة الملائكة والرسل إذا كانت بإذن الله تعالى فإنها تكون بالحقيقة من الله تعالى فصح أنه ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ، ولا بد من هذه الحال لأن الحشر مطلقاً ليس مخوفا وإنما المخوف هو الحشر على هذه الحالة لأنهم اعتقدوا أن لا ناصر ولا شفيع إلا الله وإذا لم يكن الله ناصراً وشفيعاً لزم أن لا يكون ناصراً أصلاً .
لعلهم يتقون ( قال ابن عباس : لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي .
قالت المعتزلة : فيه دلالة على أنه أراد من الكفار التقوى والطاعة .
وأجيب بأن الترجي راجع إلى العباد .
ولما أمر بإنذار عموم المكلفين ليتقوا أردفهم بذكر المتقين وأمر بتقريبهم وإكرامهم .
روي عن ابن مسعود أن الملأ من قريش مروا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - وعنده صهيب وبلال وخباب وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين - فقالوا : يا محمد ، أرضيت بهؤلاء أتريد أن نكون تبعاً لهؤلاء ؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أنا بطارد المؤمنين ) .
فقالوا : فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت .
فقال ( نعم طمعاً في إيمانهم ) .
وروي أن عمر قال له : لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون .
ثم بإنهم قالوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : اكتب بذلك كتاباً ، فدعا الصحيفة وبعلي ليكتب فنزلت ) ولا تطرد ( الآية .
فرمى بالصحيفة واعتذر عمر عن مقالته .
قال سلمان وخباب : فينا نزلت .
فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقعد معنا وندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته ، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت ) واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم ) [ الكهف : 28 ] فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه .
وقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني ان أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات ، أثنى الله عليهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي .
قال ابن عباس والحسن ومجاهد : أي يصلون صلاة الصبح والعصر .
وقيل : أي يذكرون ربهم طرفي النهار ، والمراد بالغداة والعشي الدوام .
والغداة لغة ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس ، والعشي ما بين الزوال إلى الغروب .
قال الجوهري : غدوة بالتنوين نكرة وبدونه معرفة غير مصروفة كسحر .
ومحل ) يريدون وجهه ( نصب على الحال أو على الاستئناف كأنه قيل : ما أرادوا بالمواظبة على الدعاء ؟ فأجيب(3/85)
" صفحة رقم 86 "
بقوله ) يريدون وجهه ( ولا يثبت به لله تعالى عضو كما زعمت المجسمة ولكن المراد به التعظيم ، فقد يعبر به عن ذات الشيء أو حقيقته كما يقال : هذا وجه الرأي وذاك وجه الدليل .
وأيضاً المحبة تستلزم طلب رؤية الوجه فلهذا السبب جعل الوجه كناية عن المحبة وطلب الرضا .
ثم علل النهي بقوله ) ما عليك من حسابهم من شيء ( قيل : الضمير عائد إلى المشركين أي لا يؤاخذوا بحسابك ولا أنت بسحابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك ذلك إلى أن تطرد المؤمنين ، ولأولى أن يعود إلى الفقراء ليناسب قوله ) فتطردهم ( كما في قصة نوح ) إن حسابهم إلا على ربي ) [ الشعر : 113 ] وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم كان الأمر على ما زعموا فيما يلزمك إلا اعتبار الظاهر إن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم لا يتعدى إليك كما أن حسابك لا يتعدى إليهم ، فالجلمتان لهما مؤدى واحد وهو المفهوم من قوله ) ولا تزر وازرة وزر أخرى ) [ الأنعام : 164 ] كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه .
وقيل : ما عليك من حساب رزقهم من شيء ولا من حساب رزقك عليهم من شيء .
وإنما الرازق لك ولهم هو الله سبحانه فدعهم يكونوا عندك ، أما قوله ) فتطردهم ( فهو جواب النفي في ) ما عليك ( وفي انتصاب ) فتكون ( وجهان : أحدهما أنه جواب النهي ، والثاني أنه عطف على ) فتطردهم ( على وجه التسبب ، لأن كونه ظالماً معلوم من طردهم ومسبب عنه ، فإن طرد من يستوجب التقريب والترحيب وضع للشيء في غير موضعه ومن هنا طعن بعض الناس في عصمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا : كان يقول كلما دخل أولئك المشركين وتكثيراً لسواد الإسلام مع علمه بأنه لا يفوت الفقراء بهذه المصالحة أمر مهم في الدنيا ولا في الدين ، فغاية ذلك أنه يكون من باب تبرك الأولى والأفضل ، ) وكذلك ( أي مثل ذلك الفتن العظيم ) فتنا ( ابتلينا بعض الناس ببعض ، فأحد الفريقين وهم الكفار يرى الآخر مقدماً عليه في المناصب الدينية فيقول ) أهؤلاء ( المسترذلون ) منّ الله عليهم من بيننا ( كقوله : ( أألقي الذكر عليه من بيننا ) [ القمر : 25 ] والفريق الآخر يرى الأول مقدماً عليه في الخيرات العاجلة والخصب والسعة الراحة والدعة فيقول : أهذا هو الذي فضله الله علينا .
وأما المحققون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله فهو صواب ، ولا اعتراض عليه بحكم المالكية وبحسب رعاية الأصلح .
وبالجملة فصفات الكمال غير محصورة ولا تجتمع في إنسان واحد ألبتة بل هي موزعة على الخلائق وكلها محبوبة لذاتها .
فكل إنسان يحسد(3/86)
" صفحة رقم 87 "
صاحبه على ما آتاه الله تعالى من صفة الكمال ، فمن عرف سر القدر رضي بنصيب نفسه وسكت عن التعرض لغيره وعشا عيشاً طيباً في الدنيا والآخرة .
قال هشام بن الحكم الافتتان الاختبار والامتحان ، وفيه دليل على أنه تعالى لا يعلم الجزيئات إلا عن حدوثها .
والجواب أنه يعامل المكلف معاملة المختبر وقد مر مراراً .
وقالت الأشاعرة : في الآية دلالة على مسألة خلق الأعمال لأن تلك الفتنة التي ألقاها الله تعالى ليست إلا اعتراضهم على الله والاعتراض عليه كفر .
فهو تعالى خالق للكفر. وأيضاً منه الله عليهم ليست إلا بالإيمان ومتابعة الرسول ، فلو كان الموجد للإيمان هو العبد كان العبد هو المان على نفسه .
أجاب المعتزلة بأن معنى فتناهم ليقولوا خذلناهم حتى آل أمرهم إلى أن قالوا : فتكون اللام لام العاقبة ، وزيف عدول عن الظاهر مع أنا ننقل الكلام إلى الخذلان فلا بد من الانتهاء إليه تعالى ) اليس الله بأعلم بالشاكرين ( بمن يصرف كل ما أنعم به عليه فيما أعطاه لأجله فيظهر أفعاله على حسب معلوم الله تعالى .
وقال في الكشاف : أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان ، وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق .
) وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا ( قال عكرمة : نزلت في الذين نهى الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن طردهم وكان إذا رآهم بدأهم بالسلام ، وقال ( الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام ) .
وقال ماهان الحنفي : أتى قوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : إنا أصبنا ذنوباً عظاماً ، وأظهروا الندامة والأسف فما أخاله رد عليهم بشيء .
فلما ذهبوا وتولوا نزلت الآية .
قال في التفسير الكبير : الأقرب أن تحمل الآيةعلى عمومها ، فكل من آمن بآيات الله تعالى يدخل تحت هذا التشريف والإكرام ثم أبدى إشكالاً وهو أن المفسرين اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال في كل واحدة من جميع آي هذه السورة إنها نزلت بسبب الأمر الفلاني ؟ قلت : لا استبعاد في أن تنزل السورة دفعة وينزل الصحابة كل آيةمنها على وقاعة تناسبها ، كيف وهم أعرف بحقائق التنزيل وأعلم بدقائق التأويل لأنهم أهل مشاهدة الوحي وأرباب مزاولة الأمر والنهي ؟ .
واعلم أن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله ، وأنها لا تكاد تنحصر فيجب على المكلف أن يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار والسائح في هذه القفار ليكون دائماً مترقياً في معارجها مترقباً أن تفيض عليه الأنوار من مدارجها فيستعد لبشارة ) سلام عليكم ( ويستأهل لكرامة ) كتب ربكم على نفسه الرحمة ) [ فقل سلام عليكم ( إما أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله إليهم ، وإما أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم .
قال الزجاج : ( سلام ( إما مصدر ( سلمت سلاماً وتسليماً ) مثل : كلمت كلاماً وتكليماً .
ومعناه الدعاء بأن يسلم من الآفات في نفسه(3/87)
" صفحة رقم 88 "
ودينه ، وإما أن يكون جمع سلامة .
وقيل : السلام هو الله أي الله عليكم أي على حفظكم ولعل هذا الوجه إنما يتأتى في المعرف لا في المنكر .
) كتب ربكم ( من جملة المقول لهم تبشيراً بسعة رحمة الله وقبوله التوبة .
ومعنى كتب على نفسه أوجب على ذاته إيجاب الكرم لا إيجاباً يستحق بتركه الذم .
وقالت المعتزلة : كونه عالماً بقبح القبائح وباستغنائه عنها يمنعه عن الإقدام عليها ولو فعل كان ظلماً ، وإيجاب الرحمة ينافي القول بأنه منع الكافر من الإيمان ثم أمره حال ذلك المنع بالإيمان ثم يعذبه على ترك ذلك الإيمان ، وأجيب بأنه فاعل لما يشاء ولا اعتراض عليه .
) أنه من عمل ( من قرأ بالفتح فعلى الإبدال من الرحمة ، ومن قرأ بالكسر فعلى الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل : إنه من عمل ) منكم سوءاً بجهالة ( وهو في موضع الحال أي عمله وهو جاهل .
والمراد أنه فاعل فعل الجهال لأن من عمل ما يضره في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه لا من أهل الحكمة والتدبير ، أو أنه جاهل بعاقبته ومن حق الحكيم أن لا يقدم على ما لا يعرف مآل حاله .
) ثم تاب من بعده ( بأن يندم على ما فعله ) وأصلح ( العمل في المستقبل ) فأنه غفور ( يزيل العقاب عنه ) رحيم ( يوصل الثواب إليه من قرأ بالكسر فعلى : أن الجملة جزاء للشرط ، ومن قرأ بالفتح في عمر حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما طلبوا ولم يعلم أنها مفسدة .
) وكذلك ( أ ] كما فصلنا في هذه السورة دلائلنا على التوحيد والنبوة والقضاء والقدر ) نفصل الآيات ( ونميزها لك في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل ) وليستبين ( معطوف على محذوف كأنه قيل : لظهر الحق وليستبين ، أو معلق بمحذوف أي وليستبين سبيل المجرمين فصلنا ذلك التفصيل البين .
من رفع ( السبيل ) قرأ ) ليستبين ( بالياء أو بالتاء لأن السبيل يذكر ويؤنث ، ومن نصب السبيل قرأ ) لتستبين ( بتاء الخطاب مع الرسول يقال : استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته واستبانة سبيل المجرمين تستلزم استبانة طريق المحقين ، فلذلك اقتصر على أحدهما كقوله ) سرابيل تقيكم الحر ) [ النحل : 81 ] ولم يذكر البرد .
وإنما ذكر المجرمين دون المحقين لأن طريق الحق واحد والمجرمون أصناف يشتبه أمرهم ، فمنهم من هو مطبوع على قلبه ، ومنهم من يرجى فيهم قبول الإسلام ، ومنهم من دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده فينبغي أن يستوضح سبيلهم ليعامل كلاً منهم بما يجب ، ومن جملة ذلك أنه نهى عن عبادة معبوداتهم وذلك قوله ) قل إني نهيت ( أي صرفت بدلائل العقلية والسمعية ) أن أعبد الذين تدعون ( تعبدون ) من دون الله قل لا أتبع أهواءكم ( لأن عبادة المصنوع والمخلوف محض التقليد وعين الهواى ) قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ( أثبت الضلال(3/88)
" صفحة رقم 89 "
إذ ذاك ونفى الهدى مع أنهما متلازمان للتقرير والتأكيد ، وفيه تعريض بهم أنهم كذلك .
ثم نبه على ما يجب اتباعه بقوله ) قل إني على بينة من ربي ( على حجة واضحة من مغفرة ربي وأنه لا معبود سواه ) وكذبتم ( أنتم به حيث أشركتم به غيره .
يقال : أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه إذا كان ثابتاً عنده بدليل .
وقيل : أي على حجة من جهة ربي وهي القرآن ) وكذبتم به ( أي بالبينة وذكر الضمير على تأويل القرآن أو البيان .
) ما عندي ما تستعجلون به ( يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم ) إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ) [ الأنفال : 32 ] قال الكلبي : نزلت في النضر بن الحرث ورؤساء قريش كانوا يقولون : يا محمد آتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم .
) إن الحكم إلا لله ( مطلق يتناول الكل .
فقال الأشاعرة : لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله تعالى فيمتنع منه فعل الكفر إلا بإرادة الله ، واحتجت المعتزلة بقوله ) يقضي الحق ( أي كل ما قضى به فهو الحق ، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر ولا المعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق .
ويمكن أن يقال : إن جميع أحكامه حق وصدق ولا اعتراض لأحد عليه بحكم المالكية .
وانتصاب ) الحق ( على أنه صفة مصدر أي يقضي القضاء الحق ، أو مفعول به من قولهم : قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره .
ومثله من قرأ ) يقصر الحق ( كقوله ) نحن نقص عليك أحسن القصص ) [ يوسف : 2 ] أي يقول الحق أو يتبعه من قص أثره ) وهو خير الفاصلين ( أي القاضي ، وإنما كتب ) يقض ( في المصاحف بغير ياء لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين ، وليوافق قراءة ) يقص ( ) قل لو أن عندي ( أي في قدرتي وإمكاني ) ما تستعجلون ( من العذاب ) لقضي الأمر ( أمر الإهلاك ) بيني وبينكم ( عاجلاً غضباً لربي ) والله أعلم بالظالمين ( فيؤخر عقابهم إلى وقته وأنا لا أعلم ما يجب في الحكمة من وقت عقابهم ومقدره .
فإن قلت : أما يناقض هذا قوله ) فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا ) [ الكهف : 6 ] فإن استعجال الهلاك ينافي الحرص على الإيمان ، لأن من حرص على إيمان أحد حرص على طول حياته طمعاً في إيمانه .
قلت : لا ، بل يؤكده لاشتراك كل من الحكمين في الاستعجال اللازم للبشرية في قوله ) وكان الإنسان عجولا ) [ الإسراء : 11 ] ثم بين سبحانه أعلميته بقوله على سبيل الاستعارة ) وعنده مفاتح الغيب ( أراد أن المتوصل إلى المغيبات وحده كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها ولم يمنعه من ذلك مانع ، والمفاتح جمع مفتح وهو المفتاح ، أو جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن ، قال الحكيم في بيانه : إن العلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول وكل ما سوى الواجب فإنه موجود بإيجاده وتكوينه بواسطة أو بوسائط ، فعلمه(3/89)
" صفحة رقم 90 "
بذاته يوجب العلم بجميع آثاره على ترتيبها المعتبر - كليات كانت أو جزيئات - وعلمه بذاته لم يحصل إلا لذاته فصح ان يقال : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو .
وفيه أنه لا ضد له ولا ند إذ لو كان في الوجود واجب آخر لكانت مفاتح الغيب حاصلة أيضاً عنده فيبطل هذا الحصر ، ولا يمكن أن تكون هذه المفاتح عند شيء من الممكنات لأن المحاط لا يحيط بمحيطه فلا يحيط ما دون الواجب بالواجب ، فلا يكون المفتاح الأوّلا للعلم بجميع المعلومات إلا عنده .
ثم إن قوله ) وعنده مفاتح الغيب ( قضية معقولة مجردة ، والإنسان الذي يقوي على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جداً والقرآن إنما نزل لينتفع به جميع الناس فذكر من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية الكلية أمثالاً لها ليعين الحس العقل فقال ) ويعلم ما في البر والبحر ( لأن ذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظيمة لذلك المعقول ، وقدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر وكثرة ما فيه من المدن والقرى والجبال والتلال والمعادن والنبات والحيوان ، وأما البحر فإحاطة الحس بأحواله أقل مع كثرة ما فيها من العجائب والغرائب أيضاً .
ثم أفرد من هذه المحسوسات قسماً فقال ) وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ( أي لا يتغير حال ورقة إلا والحق يعلمها .
ثم عدل عن التعجيب من كثرة المدركات إلى التعجيب من صغر المدرك وخفائه فقال ) ولا حبة في ظلمات الأرض ( وفي تخصيص الحبة والورقة تنبيه للمكلفين على أمر الحساب لأنه إذا كان بحيث لا يهمل أمر الأشياء التي ليس لها ثواب ولا عقاب فلأن لا يهمل أمر المكلفين أولى .
ثم عاد إلى ذكر القضية الكلية المجردة بعبارة أخرى فقال ) ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ( قال في الكشاف : ولا حبة ولا رطب ولا يابس عطف على ورقة وداخل في حكمها كأنه قيل : وما يسقط شيء من هذه الأشياء إلا وهو يعلمه .
وقوله ( إلا في كتاب مبين ( كالتكرير لقوله ) إلا يعلمها ( ومعنى ) إلا في كتاب مبين ( واحد .
والكتاب المبين علم الله أو اللوح .
قال علماء التفسر : يجوزأن يكون الله جل شأنه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق لتقف الملائكة على نفاذ علمه في المعلومات وأنه لا يغيب عنه شيء ، فيكون في ذلك عبرة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في العالم فيجدونه موافقاً له .
أو لأنه إذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع تغيرها وإلا لزم الكذب أو الجهل فتصير كتبه جملة الأحوال في ذلك الكتاب سبباً تاماً في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم .
ثم لما بين كما علمه أردفه ببيان كمال قدرته بقوله ) وهو الذين يتوفاكم ( أي يتوفى أنفسكم التي بها تقدرون على الإدراك والتمييز .
وذلك أن الأرواح الجسمانية تغور حالة النوم من الظاهر إلى الباطن(3/90)
" صفحة رقم 91 "
فتتعطل الحواس عن بعض الاعمال ، وأما عند الموت فتصير جملة البدن معطلة عن كل الأعمال فلهذا كان النوم أخا الموت فصح إطلاق لفظ الوفاة على النوم من هذا الوج ) ويعلم ما جرحتم ( أي ما كسبتم من العمل بالنهار ومنه الجوارح للأعضاء وللسباع ) ثم يبعثكم فيه ( أي يردّ إليكم أرواحكم بالنهار ) ليقضي أجل مسمى ( أي أعماركم المكتوبة .
وقضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت .
ثم لما ذكر أنه يميتهم أولاً ثم يوقظهم ثانياً كان ذلك جارياً مجرى الإحياء بعد الإماتة فلا جرم استدل بذلك على صحة البعث في القيامة فقال ) ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون ( في ليلكم ونهاركم وجميع أحوالكم وأوقاتكم .
واعلم أن في هذه الآية إشكالاً لأن قولهخ ) ويعلم ما جرحتم بالنهار ( كان ينبغي أن يكون بعد قوله ) ثم يبعثكم فيه ( فإن البعث في النهار مقدم على الكسب فيه بل على تعلق العلم بالكسب .
ويمكن أن يجاب بأن المراد ويعلم ما جرحتم في النهار الماضي بدليل قوله ) جرحتم ( دون ( تجرحون ) ثم يبعثكم في النهار الآتي .
والغرض بيان إحاطة علمه وقدرته بالزمانين المحيطين بالليل .
ولعل صاحب الكشاف لمكان هذا الإشكال عدل عن هذا التفسير إلى أن قال : ( وهو الذي توفاكم بالليل ( والخطاب للكفرة أي أنتم منسدحون الليل كالحيف .
والانسداح الانبطاح أو الاستلقاء ) ويعلم ما جرحتم بالنهار ( ما كسبتم من الآثام فيه ) ثم يبعثكم ( من القبور ) فيه ( أي في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام في النهار ومن أجله كقولك : فيم دغوتني ؟ فيقول : في أمر كذا ) ليقضي أجل مسمى ( وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم ) ثم إليه مرجعكم ( وهو المرجع إلى موقف الحساب .
والأصوب عندي أن يقال : الخطاب عام ، وكذا الكسب في النهار فينبغي أن لا يقيد بالآثام .
أما الضمير في ) فيه ( فيكون جارياً مجرى اسم الإشارة إلى الكسب .
والبعث هو البعث من القبور إلى آخر ما قال والله علم .
التأويل : ( وأنذر به ( أي بهذه الحقائق والمعاني ) الذي يخافون ( أي يرجون ) أن يحشروا إلى ربهم ( بجذبات العناية ويتحقق لهم أن ) ليس لهم ( في الوصول إلى الله ) من دونه ولي ( من الأولياء ) ولا شفيع ( يعني من الأنبياء ، لأن الوصول لا يمكن إلا بجذبات الحق .
) ولا تطرد الذين يدعون ( أخبر عن الفقراء أنهم جلساؤه بالغداة والعشي كما قال ( أنا جليس من ذكرني ) فلا تطردهم عن مجالستك فإنهم يطلبوني في متابعتك لا يريدون الدنيا ولا الآخرة ولكن يريدون وجهه .
وكل له سؤال ودين ومذهب
وصلكم سؤلي وديني رضاكم(3/91)
" صفحة رقم 92 "
قال المحققون : الإرادة اهتياج يحصل في القلب يسلب القرار من العبد حتى يصل إلى الله .
فصاحب الإرادة لا يهدأ ليلاً ولا نهاراً ، ولا يجد من دون الوصول إلى الله سبحانه سكوناً ولا قراراً ) ما عليك من حسابهم من شيء ( يعني الذي لنا معك في الحساب من المواصلة والتوحيد في الخلوة فإنهم ليسوا في شيء من ذلك ليكون عليك ثقلاً ) وما من حسابك عليهم من شيء ( أي الذي لنا معهم في الحساب من التفرد للوصول والوصال ليس لك إلى ذلك حاجة ليثقل عليهم ) فتطردهم ( فتكسر قلوبهم بالطرد ) فتكون من الظالمين ( بوضع الكسر مقام الجبر فإنك بعثت لجبر قلوبهم لا لكسر قلوبهم كقوله : ( واخفض جناحك للمؤمنين ) [ الحجر : 88 ] ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ( ليشكر الفاضل وليصبر المفضول فيستويان في الفضل فلهذا قيل : لسليمان ولأيوب كليهما : نعم العبد .
مع قدرة سليمان على أسباب الطاعة وعجز أيوب عنها .
ومن فتنة الفاضل في المفضول رؤية فضله على المفضول أو تحقيره ، ومنع حقه عنه في فضله ، ومن فتنة المفضول في الفاضل حسده على فضله الفاضل مستحقاً للفضل ليقولوا ) أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا ( ) فقل سلام عليكم ( إنه سبحانه من كمال فله على الفقراء حملهم محمل الأكابر والملوك في الدنيا فقال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ( كن مبتدئاً بالسلام عليهم وفي الآخرة فألهم الملائكة أن يسلموا عليهم في الجنة ) ) سلام عليكم طبتم ) [ الزمر : 73 ] بل سلم بذاته عليهم ) سلام قولاً من رب رحيم ) [ يس : 58 ] وكل ذلك نتيجة سلامتهم من ظلمة الخلقة بإصابة رشاش النور في الزل فلهذا قال ) كتب ربكم على نفسه الرحمة ( أي الرحمة العامة كما في الحديث الرباني للجنة ( إنما أنت : رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ) ) أنه من عمل منكم ( أي من المؤمنين ) سوءاً بجهالة ( أي بجهالة الجهولية التي جبل الإنسان عليها لا بجهالة الضلالة التي هي نتيجة إخطاء النور فإن هذه لا توبة لها ) ثم تاب من بعده ( أي رجع إلى الله بقدم السير من بعد إفساد الاستعداد الفطري وأصلح الاستعداد بالأعمال الصالحة لقبول الفيض .
) قل إني نهيت ( في الأزل بإصابة النور المرشش .
) وما عندي ما تستعجلون به ( من عبادة الهوى ) لقضي الأمر ( يعني أمر القتال والخصومات ولاسترحت من أذيتكم لأن الشيء إنما ينفعل عن ضده لا عن شبيهه ) وعنده مفاتح الغيب ( يعني العلوم العقلية التي هي سبب فتح باب صور عالم الشهادة كالنقاش بنشيء الصور في ذهنه ثم يصوّرها في الخارج .
وإنما وحد الغيب وجمع المفاتح لأن عالم الغيب عالم التكوين وهو واحد في جميع الأشياء وفي المكوت كثرة يعلم التكوين ) ويعلم ما في البر ( وهو عالم الشهادة ) والبحر ( وهو عالم(3/92)
" صفحة رقم 93 "
الغيب ) و ( بهذا العلم ) ما تسقط من ورقة ( عن شجرة الوجود ) إلا يعلمها ( لأنه مكونها ومسقطها ) ولا حبة ( هي حبة الروح ) في ظلمات ( صفات أرض النفس ، أو حبة المحبة في ظلمات أرض القلب ) ولا ربطب ولا يابس ( الرطب المؤمن ، واليابس ما سيصير موجوداً وما قد صار .
أو الرطب الورحانيات .
واليابس الجمادات .
أو الرطب المؤمن ، واليابس الكافر .
أو الرطب العالم ، واليابس الجاهل .
أو الرطب .
العارف ، واليابس الزاهد .
أو الرطب أهل المحبة ، واليابس أهل السلوة .
أو الرطب صاحب الشهود ، اليابس صاحب القضاء ) ويعلم ما جرحتم بالنهار ( نهار القدر أو الليل ، ليل صفات البشرية والنهار نهار الشهود في عالم الوحدة .
( الأنعام : ( 61 ) وهو القاهر فوق . . . .
) وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبإٍ مستقرٌّ وسوف تعلمون وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيءٍ ولكن ذكرى لعلهم يتقون وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شرابٌ من حميمٍ وعذابٌ أليم بما كانوا يكفرون قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هُدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ( ((3/93)
" صفحة رقم 94 "
القراآت : ( توفته ( و ) استهوته ( ممالة : حمزة الباقون : بتاء التأنيث ) قل من ينجيكم ( من الإنجاء : سهل ويعقوب وعباس .
الباقون : بالتشديد ) وخفية ( بالكسر حيث كان : أبو بكر وحماد .
الباقون : بالضم ) أنجانا ( ممالة : حمزة وعلي وخلف ) أنجانا ( بدون الإمالة : عاصم .
الباقون ) أنجيتنا ( ) قل الله ينجيكم ( بالتشديد : يزيد وحمزة وخلف وعاصم وهشام .
الباقون : بالتخفيف ) بعضٍ انظر ( وأشباه ذلك بكسر التنوين : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وابن شنبوذ عن أهل مكة ، وابن ذكوان ) ينسينك ( بالتشديد : ابن عامر .
الوقوف : ( حفظة ( ط ) لا يفرطون ( ه ) الحق ( ط ) الحاسبين ( ه ) وخفية ( ط لاحتمال الإضمار أي يقولون لئن أنجيتنا ، وتعلق ( لئن ) بمعنى القول في ) تدعونه ( أصح ) الشاكرين ( ه ) تشركون ( ه ربأس بعض ( ط ) يفقهون ( ه ) وهو الحق ( ط ) بوكيل ( ه ) مستقر ( ط للإبتداء ب ( سوف ) على التهديد مع شدة اتصال المعنى ) يعلمون ( ه ) غيره ( ج ) الظالمين ( ه ) يتقون ( ه ) ولا شفيع ( ط للشرط مع العطف ) بما كسبوا ( لا لانقطاع النظم مع اتصال المعنى ، أو لاحتمال أن يكون ) الذين ( صفة ) أولئك ( وقوله ( لهم شراب ( خبر ) الهدى ائتنا ( ج ) هو الهدى ( ط ) العالمين ( لا لأن التقدير وأمرنا بأن أقيموا الصلاة ) واتقوه ( ط ) تحشرون ( ه ) بالحق ( ط ) فيكون ( ط ) في الصور ( ط ) والشهادة ( ط ) الخبير ( ه .
التفسير : ( من الدلائل الدالة على كمال قدرته وحكمته قوله ) وهو القاهر فوق عباده ( والمراد منه الفوقية بالقدرة والتسخير كما يقال : أمر فلان فوق أمر فلان أي أنه أعلى وأنفذ منه ، ولا ريب أن الممكنات بأسرها تحت تصرف الواجب ينقلها من حيز العدم إلى حالة الوجود وبالعكس ، ويتصرف فيها كيف يشاء ، علويات كن أو سفليات ، ذوات أو صفات ، نفوساً أو أبداناً ، أخلاطاً وأركاناً .
ومن جملة قهره إرسال الحفظة - وهي جمع حافظ - على عبيده بضبط أعمالهم من الطاعات والمعاصي والمباحات لأنهم مطلعون على أقوال بني آدم لقوله ) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) [ ق : 18 ] وعلى أفعالهم بقوله ) يعلمون ما تفعلون ) [ الانفطار : 12 ] وأما صفات القلوب كالجهل والعلم فليس في الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها .
وعن ابن عباس أن مع كل إنسان ملكين : أحدهما عن يمينه والآخرة عن يساره ، فإذا تكلم الإنسان بسحنة كتبها من على اليمين ، وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار : انتظر لعله يتوب عنها فإن لم يتوب عنها فإن لم يتب كتب عليه .
قالت العلماء : من فوائد هذه الكتبة أن المكلف إذا علم أن الملائكة الموكلين عليه يكتبون أعماله(3/94)
" صفحة رقم 95 "
في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك زجراً له عن القبائح .
ومنها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة فإن وزن الأعمال غير ممكن .
ومنها التعبد فعلى الملكلف أن يؤمن بكل ما ورد به الشرع وإن لم يعرف وجه الحكمة في بعض ذلك .
وقال بعض الحكماء : الحفظة النفوس والقوى الجسمانية التي تحفظ الأركان مع طبائعها بجواهرها متباينة بماهياتها ، فبعضها خيرة وبعضها شريرة ، وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والخساسة ، ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب المشفق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يفظتها ومنامها على سبيل الرؤيا تارة ، وعلى سبيل الألهامات الأخرى .
فالأرواح الخيرة لها مبادٍ من عالم الأفلاك وكذا الأرواح الشريرة وتلك المبادىء في مصطلحهم تسمى بالطباع التام لأن تلك الأرواح في تلك الطبائع والأخلاق تامة كلها وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها لأن المعلول في كل باب أضعف من علته ، لأصحاب الطلسمات والعزائم في هذا الباب كلام كثير .
وقيل : إن النفوس المفارقة تميل إلى ما يناسبها ويساويها في الطبيعة والماهية من النفوس المتعلقة بالأبدان فتحفظها وتعينها ) حتى إذا جاء أحدكم الموت ( أي وقته أو أماراته ) توفته رسلنا ( أي بإذننا وتفويضنا فالمتوفى بالحقيقة هو الله تعالى كما قال الله ) يتوفى الأنفس حين موتها ) [ الزمر : 42 ] .
وهؤلاء الرسل أتباع ملك الموت في قوله ) يتوفاكم ملك الموت ) [ السجدة : 11 ] وهل هم الحفظة بأعيانهم أم غيرهم فيه قولان : أشهرهما الثاني لكون ملائكة الروح والريحان وهم الريحانيون غير ملائكة الكرب والأحزان وهم الكروبيون .
وعن مجاهد : جعلت الأرض مثل الطست لملك الموت يتناول من يتناوله ، وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين .
) وهم لا يفرطون ( لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به وفيه مدح لهم بالعصمة ) ثم ردوا إلى الله ( أي إلى حكمه وجزائه ) مولاهم الحق ( صفتان والضمير في ) ردوا ( إما للملائكة يعني كما يموت بنو آدم يموت أولئك الملائكة ، أو إلى البشر أي أنهم بعد موتهم يردون إلى الله تعالى والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب ، فإذا ماتوا انتقلوا إلى تصرف المولى الحق .
وفيه إشعار بأن الإنسان شيء آخر وراء هذا الهيكل المحسوس فإن هذا الهيكل يبقى ميتاً والإنسان مردود إليه تعالى .
وفي لفظ الرد إشارة إلى أن الروح كان موجوداً قبل البدن وقد تعلق به زماناً ثم ردّ إلى موضعه الأصلي وهو عالم الأرواح بجذبة ) ارجعي إلى ربك ) [ الفجر : 28 ] ( ألا له الحكم ( كقوله : ( إن الحكم إلا الله ) [ الأنعام : 57 ] ( وهو أسرع الحاسبين ( حساباً قيل : إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة فلا يشغله عن كلام .
وقيل : يحاسب كل إنسان واحد من الملائكة بإذن الله(3/95)
" صفحة رقم 96 "
تعالى لأنه لو حاسب الكفار بذاته لتكلم معهم وهو محال لقوله ) ولا يكلمهم الله ) [ البقرة : 174 ] وقال الحكيم : معنى سرعة المحاسبة ظهور الملكات في الهيآت على النفس في آن قطع التعلق ، قليلة كانت أو كثيرة ، حميدة أو ذميمة ، وبعد تعارض البعض بالبعض يبقى ما هو أغلب وبحسب ذلك يكون الثواب أو ضده .
وذلك أنه لا يحصل للإنسان لحظة ولا لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويظهر منها في جوهر فسه أثر من آثار السعادة أو ضدها قل أو كثر وهو المراد بكتبه الأعمال .
قال الجبائي - ههنا : لو كان كلامه قديماً لوجوب أن يكون متكلماً بالمحاسبة الآن وقبل خلقه وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم .
وعورض بالعلم فإنه كان قبل العالم عالماً بأنه سيوجد وبعد وجوده صار عالماً بأنه وجد ولا يلزم منه تغير العلم .
ثم عدّد لطفه وإحسانه بقوله ) قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ( مجازاً عن مخاوفهما وأهوالهما يقال ليوم الكربة : يوم مظلم وذو كواكب كأنه أظلم عليه وجه الخلاص ، ويحتمل أن تكون الظلمات بالحقيقة .
وظلمات البر ظلمة الليل وظلمة السحاب ، وظلمات البحر هما مع ظلمة الماء .
) تدعونه ( في موضع الحال ) تضرعاً وخفية ( مفعول لأجلهما أو تمييز أو مصدر خاص .
والمراد أن الإنسان عند حصول هذه الشدائد يأتي بأمور : أحدها الدعاء .
الثاني التضرع .
والثالث : الإخلاص بالقلب وهو المعني بقوله ) وخفية ( ورابعها : التزام الشكر هو المراد من قوله ) لئن أنجيتنا من هذه ( الظلم والشدة ) لنكونن من الشاكرين ( فبين الله سبحانه أنه إذا شهدت الفطرة السليمة في هذه الحالة بأنه لا ملجأ إلا إلى الله ولا معول إلا عليه وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات .
ثم بين أنه ينجيهم من تلك المخاوف ومن سائر موجبات الحزن والكرب ، ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك الجلي وهو عبادة الأوثان أو الخفي وهو اتباع الهوى .
وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك إذا شاهدوا الخوف أخلصوا ، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا .
ثم ذكر نوعاً آخر من دلائل التوحيد مقروناً بنوع من التخويف فقال ) قل هو القادر ( واللام للعهد أو للجنس فيفيد أنه هو الذي عرفتموه قادر ، وهو الكامل القدرة ) على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم ( كالمطر أو الحجارة مثل ما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل ) أو من تحت أرجلكم ( كما أغرق فرعون وخسف بقارون .
وقيل : من قبل أكابركم وسلاطينكم أو من جهة سفلتكم وعبيدكم .
وقيل : هو حبس المطر والنبات ) أو يلبسكم شيعاً ( هي جمع شيعة أي يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى ، كل فرقة منكم مشايعة لإمام .
ومعنى خلطهم أن يوقع القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذاباً من فوقهم أو من تحت(3/96)
" صفحة رقم 97 "
أرجلهم فأعطاني ذلك وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني ) ( وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف ) قالت الأشاعرة : في قوله ) أو يلبسكم شيعاً ( دلالة على أن الأهواء المختلفة والآراء الفاسدة والبدع كلها من الله تعالى وفي قوله ) ويذيق بعضكم بأس بعض ( إشارة إلى أن أن المعاصي وأنواع الظلم مستندة إلى الله تعالى وقالت المعتزلة : الآية لا تدل إلا على أنه تعالى قادر على القبيح والنزاع في أنه هل يفعل ذلك أم لا ؟ وأجيب بأن الآية دلت على أن القدرة على هذه الأمور تختص به ، وهذه الأمور واقعة فيكون هو فاعلها بالضرورة ) انظر كيف نصرف الآيات ( نقرر الدلائل الواضحات .
وقد قال مثل ذلك فيما قبل فالتقدير : انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون فلا نعرض عنهم بل نكررها ) لعلهم يفقهون ( ) وكذب به ( أي بالعذاب المذكور في الآية السابقة ) قومك ( يعني قريشاً ومن دان بدينهم ) وهو الحق ( أي لا بد أن ينزل بهم .
وقيل : أي بالقرآن وهو الحق لأنه كتاب منزل من عند الله .
وقيل : أي بتصريف الآيات لأنهم كذبوا كون هذه الأشياء دلالات .
) قل لست عليكم بوكيل ( أي بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل إنما أنا منذر .
) لكل نبأ لكل ( خبره يخبره الله تعالى ) مستقر ( أي استقرار أو موضع استقرار .
والمراد بالنبأ المنبأ به لأن النبأ قد حصل ، والمقصود أن لعذاب الله تعالى أو لاستيلاء المسلمين على الكفار بالقتل والأسر والقهر وقتاً ومكاناً يحصل فيه من غير خلف ولا تأخير ) وسوف تعلمون ( فيه من التهديد ما فيه .
ثم بين أن أولئك المكذبين إن ضموا إلى كفرهم وتكذبيهم الاستهزاء بالدين والطعن في الرسول فإنه يجب الاحتراز عن مجالستهم فقال ) وإذا رأيت ( أيها السامع ) الذين يخوضون في آياتنا ( والخوض في اللغة عبارة عن المفاوضة على وجه اللغو والعبث ، ويقرب مه قول المفسرين إنه في الآية الشروع في آيات الله على سبيل الطعن والاستهزاء وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك ) فأعرض عنهم ( بالقيام عنهم لقوله بعد ذلك ) فلا تقعد بعد الذكرى ( وقيل : المطلوب إظهار الإنكار وكل طريق أفاد هذا الغرض وإن كان غير القيام عن مجلسهم فإنه يجوز المصير إليه ، هذا عند عدم الخوف ، أما مع الخوف فهذا الفرضساقط والتقية واجبة .
نعم كل ما أوجب على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فعله وجب عليه ، سواء ظهر أثر الخوف أو لم يظهر وإلا لم يبق الاعتماد على التكاليف التي يبلغها ) وإما ينسيك الشيطان ( أي يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم ) فلا تقعد بعد الذكرى ( بعد أن تذكر النهي ) مع القوم الظالمين ( أي معهم فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً(3/97)
" صفحة رقم 98 "
عليهم بالظلم .
قال الليث : الذكرى اسم للتذكرة. وقال الفراء : هي الذكر .
قال في الكشاف بناء على مذهبه : يجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهيقبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى ، بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم .
قال الجبائي : إذا كان عدم العلم بالشيء يوجب سقوط التكليف ، فعدم القدرة على الشيء ألوى بأن يوجب سقوط التكليف ، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف ، وهذا يدل على أن تكلي ما لا يطاق لا يقع ، ويدل على أن الاستطاعة حاصلة قبل الفعل لأنها لو لم تحصلإلا مع الفعل لم يكن الكافر قادراً على الإيمان فوجب أن لا يتوجه عليه الأمر بالإيمان .
قال ابن عباس : قال المسلمون : لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزلت الرخصة أن يقعدا معهم ويذكروهم ويفهموهم بقوله ) وما على الذين يتقون ( أي الشرك والكبائر والفواحش ) من حسابهم ( من ذنوبهم التي يحاسبون عليها ) من شيء ولكن ذكرى ( أي ولكن يذكرونهم تذكيراً ، أو ولكن عليهم أن يذكروهم ، أو ولكن الذي تأمرونهم به ذكرى .
ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل ) من شيء ( كقول القائل : ما في الدار من أحد ولكن زيد لأن قوله ) من حسابهم ( يأبى ذلك فإن الذكرى ليس من حساب المشركين .
ثم أكد الإعراض عنهم بقوله ) وذر الذين ( والمراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم والمبالاة بهم لا ترك إنذارهم وتخويفهم كقوله ) فأعرض عنهم وعظهم ) [ النساء : 63 ] وصفهم بوصفين الأوّل أنهم ) اتخذوا دينهم لعباً ولهواً ( وفيه وجوه .
اتخذا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعباً ولهواً حيث سخروا به واستهزؤا ، أو أتخذوا ما هو لعب ولهو يعني عبادة الأوثان وغيرها ديناً لهم ، أو المراد ما كانوا يحكمون به بمجرد التقليد والهوى كتحريم البحائر والسوائب ، أو المراد أن المشركين وأهل الكتاب اتخذوا أعيادهم لعباً ولهواً لا كالمسلمين حيث اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى .
قال ابن عباس : أو هو إشارة إلى من جعل دين الإسلام وسيلة إلى المناصب والرياسات والغلبة والجلال لا لأنه حق وصدق في نفسه .
ويؤكد هذا الوجه الوصف الثاني وهو قوله ) وغرتهم الحياة الدنيا ( كأنهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوسلوا بها إلى حطام الدنيا ) وذكر به ( أي بالقرآن أو بالدين القويم مخافة ) أن تبسل نفس ( قال الحسن ومجاهد : أن تسلم إلى الهلاك والعذاب وترتهن بسوء فعلها وأصله المنع فالمسلم إليه وهو العذاب يمنع المسلم ومنه الباسل الشجاع لامتناعه من قرنه .
وقال قتادة : تحبس في جهنم .
وعن ابن عباس : تفتضح ) ليس لها ( أي النفس ) من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل ( إن تفد كل فداء لأن الفادي يعدل المفدى بمثله ) لا يؤخذ منها ( قال في الكشاف : فاعل ) يؤخذ ( قوله ) منها ((3/98)
" صفحة رقم 99 "
لا ضمير العدل لأن العدل ههنا مصدر فلا يسند إله الأخذ .
وأما في قوله ) ولا يؤخذ منها عدل ( فبمعنى المفتدى به فصح إسناده .
قلت : إن في فسر الأخذ بالقبول كما في قوله ) ويأخذ الصدقات ) [ التوبة : 104 ] ارتفع الفرق .
) أولئك ( المتخذون ) هم الذين أبسلوا بما كسبوا ( ثم بين ما بيه صاروا مرتهنين وعليه محبوسين بقوله ) لهم شراب من حميم ( ثم رد على عبدة الأصنام بقوله ) قل أندعو من دون الله ( النافع الضار ) ما لا ينفعنا ولا يضرنا ( أي لا قدر على النفع والضر ) ونرد ( داخل في الاستفهام أي أنرجع إلى الشرك بعد إذ انقذنا الله تعالى منه وهدانا للإسلام ، فإن الردة عود إلى الحالة الأولى التي كان الإنسان عليها من الجهل كقوله ) والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً ) [ النحل : 78 ] ( كالذي استهوته ( محله النصب على الحال من الضمير في ) نرد ( أي أننكص على العقبين مشبهين من استهوته وهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها كأن معناه طلبت هويه أي سقوطه من الموضع العالى إلى الوهدة العميقة كقوله : ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء ) [ الحج : 31 ] وقيل : اشتقاقه من اتباع الهوى و ) حيران ( حال أخرى لكن من الضمير في ) استهوته ( وكذا الجملة بعده .
ومعنى الحيرة التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه منه .
ومنه تحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء .
) له ( أي لهذا المستهوي ) أصحاب ( رفقة ) يدعونه إلى الهدى ( أي إن يهدوه الطريقة المستوي فيكون مصدراً .
وسمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له ) ائتنا ( أو الدعاء في معنى القول وهذا بناء على ما تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن والغيلان تستهوي الإنسان وتستولي عليه ، فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان ، والمسلمون يدعونه إلى الحق وقد اعتسف المهمة تابعاً للجن غير ملتفت اليهم .
وقيل : إن لذلك الكافر أصحاباً يدعونه إلى ذلك الضلال يسمونه بأنه هو الهدى .
وروي أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فإنه كان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان ) قل إن هذى الله ( وهو الإسلام ) هو ( الذي يحق أن يسمى هدى وما وراءه غي وضلال ) وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا ( قال الزجاج : لا بد من تأويل ليستقيم العطف فالتقدير : وأمرنا لنسلم ولنقيم ، أو أمرنا أن أسلموا وأن أقيموا : قيل : والسر في العدول عن الظاهر أن المكلف كالغائب ما لم يسلم فإذا أسلم صار كالحاضر .
وتقرير الآية أن متعلق الأمر إما أن يكون من باب الأفعال أو من باب التروك .
والأول إما أن يكون من أفعال القلوب أو من أفعال الجوارح ، ورئيس أفعال القلوب الإيمان بالله والإسلام وهو قوله ) لنسلم ( ورئيس أعمال الجوارح الصلاة وهو قوله ) وأن أقيموا ( ثم أشار إلى جوامع التروك بقوله ) واتقوه ( ثم قال ) وهو الذي إليه تحشرون ( ليعلم أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر .(3/99)
" صفحة رقم 100 "
ثم دل على وجود الحاشر بقوله ) وهو الذي خلق السموات والأرض ( قائما أو ملتبساً ) بالحق ( بالحكم اللطيفة والغايات الصحيحة والأغراض المطابقة ، وذلك أنه أودع في هذه الأجرام قوى وخواص وآثاراً تتضمن مصالح الأبدان ومباهج نوع الإنسان وهكذا خلق ) يوم يقول كن فيكون قوله الحق ( فقوله فاعل ) يكون ( و ) يوم ( مفعول ) خلق ( والمعنى أنه تعالى خلق العالم من الأفلاك والطبائع والعناصر والمواليد ، وخلق يوم القيامة لرد الأرواح إلى الأجساد بطريق ( كن فيكون ) وعلى هذا يجوز أن يكون قوله ) الحق ( مبتدأ وخبراً مستأنفاً ، أو قوله ) الحق ( مبتدا و ) يوم يقول ( ظرف دال على الخبر مثل ( يوم الجمعة القتال ) أي القتال واقع يوم الجمعة .
والمراد أن قضاءه في ذلك اليوم حق وصدق خالٍ عن الجور والعبث ) ويوم ينفخ ( ظرف لقوله ) وله الملك ( كقوله ) لمن الملك اليوم ) [ غافر : 16 ] والمقصود أنه لا ملك في ذلك اليوم إلا له من غير دافع ولا منازع .
والصور باتفاق أكثر أهل الإسلام قرن ينفخ فيه ملك من الملائكة كما جاء في مواضع من القرآن ) ونفخ في الصور فصعق ) [ الزمر : 68 ] ففزع ) فإذا نقر في الناقور ) [ المدثر : 8 ] وقال أبو عبيدة : الصور جمع صورة مثل صوف وصوفة .
وخطأه الأئمة فقالوا : كل جمع على لفظ الواحد سبق جمعه واحده فواحده بزيادة هاء فيه كالصوف ، أما إذا سبق الواحد الجمع فليس كذلك كغرفة وغرف ولهذا يجمع صورة الإسان على صور بالفتح كقوله ) فأحسن صوركم ) [ غافر : 64 ] ومن أسكن فقد أخطأ ، ومما يدل على أن الصور هو القرن لا جمع صورة الإنسان أنه تعالى لم يضف النفخ إلى نفسه كما قال ) ونفخت فيه من روحي ) [ ص : 72 ] ( فنفخنا فيها من روحنا ) [ الأنبياء : 91 ] ( ثم أنشأناه خلقاً آخر ) [ المؤمنون : 14 ] ثم لما بين كمال قدرته بقوله وله الملك ذكر كمال علمه بقوله ) عالم الغيب والشهادة ( أي هو العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات ) وهو الحكيم ( المصيب في أقواله وأفعاله ) الخبير ( النافذ علمه في بواطن الحقائق من غير اشتباه والتباس ، فإن أمر البعث لا يتم إلا بقدرة كاملة وعلم تام كيلا يشتبه المطيع والعاصي والصديق والزنديق .
التأويل : ( وهو القاهر ( بوصف الجلال للأولياء ، قهار بوصف الجبروت للأعداء .
) ويرسل عليكم حفظة ( من صفات قهره حتى لو أرادت نفسه الخروج عن قيد مجاهدتها قهرتها سطوات العتاب فردتها إلى بذلك الجهد ، وإن أراد قلبه فرجة عن مطالبات العزة قهرته صدمات الهيبة فردته إلى توديع البهجة ، ولو أراد روحه استرواحاً من الحرقات قهرته بوارق التجلي فردته إلى بذلك المهجة ) حتى إذا جاء أحدكم الموت ( يعني الفناء عن أوصاف(3/100)
" صفحة رقم 101 "
الوجود ) توفته ( رسل صفات قهرنا وهم لا يقصرون في إفناء الأوصاف ) ثم ردوا ( إلى البقاء بالله ) قل الله ينجيكم من ظلمات ( بر الأجسام وبحر الأرواح فإن عالم الأرواح بالنسبة إلى عالم الألوهية ظلمانية .
) تدعونه تضرعا ( بالجسم ) وخفية ( بالروح ) ومن كل كرب ( آفة وفتنة ) ثم أنتم تشركون ( حين يتجلى لكم نور من أنوار صفاته ، فبعضكم يقول : أنا الحق وبعضكم يقول : سبحاني ما أعظم شأني ) عذاباً من فوقكم ( بسدل حجاب العزة والغيرة بينه وبينكم ) أو من تحت أرجلكم ( حجاباً من أوصاف بشريتكم باستيلاء الهوى عليكم ) أو يلبسكم شيعاً ( بجعل الخلق فيكم فرقاً .
فمن قائل هلم الصديقون ، ومن قائل هم الزنديقون ) ويذيق بعضكم بأس بعض ( بالقتل والصلب وقطع الأطراف ) انظر كيف نصرف ( آيات المصارف للسائرين إلى الله ) لعلهم يفقهون ( لشرائط السير ولا يفقهون في مقام دون الفناء عن الكلية الوجود بالبقاء بشهود المعبرد ) وكذب ( بهذا المقام ) قومك ( المنكرون ) وهو الحق قل لست عليكم بوكيل ( لا أسلك طريق هذا المقام بوكالتكم لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى كما قال ) لكل نبأ مستقر ( أي لكل سائر وواقف مستقر من درجات القرب أو دركات البعد ) وإذا رأيت الذين يخوضون ( في أحوال الرجال ولا حظ لهم منها ) فأعرض عنهم ( ولا تجالسهم ) حتى يخوضوا في حديث ( غير تلك الطامات التي هي ريح في شبح .
) وذر الدنيا وقبول الحق ) أن تبسل نفس ( أي كراهة أن يبطل استعدادها بالكلية ) بما كانوا يكفرون ( بمقامات الرجال من الوصول والوصال ) قل أندعو من دون الله ( أنطلب غير الله الذي هو النافع الضار .
والنفع الحقيقي هو الفوز بالوصول إليه ، والضر الحقيقي هو الانقطاع عنه .
) ونرد على أعقابنا ( إلى مقام الإثنينية التي كنا فيها بعد أن هدانا الله إلى الوحدة كالذي أضلته شياطين الجن والإنس في أرض البشرية باتباع الهوى ) حيران ( من إغوائهم .
) وأمرنا لنسلم ( بترك الوجود كالكرة في ميدان القدرة مستسلماً لصولجان القضاء ) وأن أقيموا الصلاة ( بمحافظة الأسرار عن الأغيار والاتقاء به عن غيره ليحشر إليه إلى الجنة أو النار كما قال : ألا من طلبني وجدني .
) وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ( أي لإظهار صفاته ، فجعل المخلوقات مرآة لجماله وجلاله وإذا أراد أن يرى عبداً من عباده تلك الصفات يقول له : كن رائياً فيكون ، ولن يصير رائياً بمجرد سعيه لأن قوله في حق الإنسان كن رائياً هو الحق وله ملك الإراءة وملك الرؤية ، ينفخ الإراءة في صور القلب ) وهو الحكيم ( فيما اختص الإنسان بإراءة الآيات ) الخبير ( بمن يخصه من بين الناس بالإراءة .
.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ( الأنعام : ( 74 - 83 ) وإذ قال إبراهيم . . . .
" وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال(3/101)
" صفحة رقم 102 "
لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم "
( القراآت )
إني أراك ( بفتح الياء : أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر ونافع ) لأبيه آزر ( بالضم على النداء : يعقوب ) رأى كوكباً ( بإمالة الهمزة : أبو عمرو غير عباس والنجاري عن ورش .
وكذلك ) رآه ( و ) رآك ( وقرأ حمزة وعلي وخلف ويحيى وعباس وهبيرة من طريق الخراز بكسر الراء والهمزة .
وافق ابن ذكوان في ) رأى ( فقط وخالفهم فيما اتصلت بالكاف والهاء في سورة النجم .
وافق مجاهد والنقاش بالإمالة وكسر الراء في سورة ( اقرأ باسم ) ) رأى القمر ( و ) رأى الشمس ( ونحوهما بكسر الراء وفتح الهمزة : حمزة وخلف ونصر وعباس ويحي والخراز .
وروى خلف عن يحي بكسر الراء والهمزة ) أتحاجوني ( بتخفيف النون : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان .
الباقون : بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية ) وقد هدان ( بالإمالة : علي .
وقرأ سهل ويعقوب وابن شنوبذ عن قنبل بالياء في الحالين ، وافق أبو عمرو ويزيد واسماعيل في الوصل .
) درجات ( بالتنوين : عاصم وحمزة وعلي وخلف ويعقوب .
الوقوف : ( آلهة ( ج للابتداء بأن مع اتحاد القول ) مبين ( ه ) الموقنين ( ه ) رأى كوكباً ( ج لأن جواب ( لما ) قوله ( رأى ) مع اتحاد الكلام بلا عطف ) ربي ( ج لأن جواب ( لما ) منتظر مع فاء التعقيب فيها .
) الآفلين ( ه ) هذا ربي ( ج لذلك ) الضالين ( ه ) هذا أكبر ( ج لذلك ) يشركون ( ه ) المشركين ( ج لاحتمال الواو الحال أي وقد حاجه .
) قومه ( ط ) هدان ( ط لانتهاء الاستفهام ) شيئا ( ط ) علما ( ط ) تتذكرون ( ه ) سلطاناً ( ط للاستفهام بعد تمام الاستفهام ) بالأمن ( ج لأن اجواب ( إن ) منتظر محذوف التقدير : إن كنتم تعلمون فأجيبوا مع اتحاد الكلام ) تعلمون ( ه لتناهي الاستفهام وابتداء إخبار ، ولو وصل اتصل بما قبله ) يهتدون ( ه ) على قومه ( ط ) من نشاء ( ط ) عليم ( ه .(3/102)
" صفحة رقم 103 "
التفسير : إنه سبحانه كثيراً ما يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم صلوات الرحمن عليه لأنه يعرف بالفضل والتقدم عند جميع الطوائف ، وذلك أنه سلم قلبه للرحمن ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان .
ثم إن بظاهر الآية يدل على أن اسم والد إبراهيم هو آزر ، ومنهم من قال : اسمه تارح .
قال الزجاج : لا خلاف بين النسابين أن اسمه تارح ، فمن الملحدة من طعن في هذا النسب لهذا السبب .
والجواب أن إجماع النسابة لا عبرة به لأن ذلك ينتهي إلى قول الواحد أو الأثنين - مثل وهب وكعب - أو غيرهما .
سلمنا أن اسمه كان ( تارح ) لكنه من المحتمل أن يكون أحدهما لقباً والآخر اسماً أصلياً ، أو يكون آزر صفة مخصوصة في لغتهم كالمخطىء والمخذول .
وقيل : إن آزر هو الشيخ الهرم بالخوارزمية وهذا عند من يجوز اشتمال القرآ على ألفاظ قليلة من غير لغة العرب .
وقيل : إن آزر اسم صنم يجوز أن ينبز به للزومه عبادته ، لإإن من بالغ في محبة واحد فقد يجعل اسم المحبوب اسماً للمحب قال تعالى ) يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) [ الإسراء : 71 ] وقال الشاعر :
أدعى بأسماء في قبائلها
كأن أسماء أضحت بعض أسمائي .
أو أريد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .
وقيل : إن والد إبراهيم كان تارح وكان آزر عماً له والعم قد يطلق عليه اسم الأب بدليل قوله ) نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق ) [ البقرة : 133 ] ومعلوم أن إسماعيل كان عماً ليعقوب .
ومما يدل على صحة ظاهر الآية أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا حراصاً متهالكين على تكذيب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإظهار نقصه ، فلو كان النسب كذباً لامتنع في العادة سكوتهم عن تكذبيه ، وحيث لم يكذبوه علمناه أن النسب صحيح ، قالت المعتزلة ومن يجري مجراهم : إن أحداً آباء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان كافراً وفسروا قوله ) وتقلبك في الساجدين ) [ الشعراء : 219 ] بانتقاله من ساجد إلى ساجد وأكدوه بما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لم أزل أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ) وإن آزر كان عم إبراهيم وما كان والداً له لأن إبراهيم شافهة بالغلظة والجفاء في قوله : ( إني أراك وقومك في ضلال مبين ( وقد قال تعالى ) ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما ) [ الإسراء : 23 ] ولأنه ناداه بالاسم في قراءة من قرأ ( آزر ) بالضم .
والنداء بالسم دليل الاستخفاف ولهذا لم يقرأ بالضم في قوله ) وقال موسى لأخيه هارون اخلفني ) [ الأعراف : 142 ] وأجيب بأن قوله ) وتقلبك في الساجدين ) [ الشعراء : 219 ] يحتمل وجوهاً أخرى سوف يجيء ذكرها ، وبأن قوله ( لم أزل أنتقل ) محمول على أنه لم يقع في نسبه ما كان سفاحاً .
والتغليظ من إبراهيم إنما كان لأجل إصرار(3/103)
" صفحة رقم 104 "
أبيه على الكفر كما قال ) فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) [ التوبة : 114 ] لا لأجل السفه والجفاء لقوله ) إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب ) [ هود : 75 ] ثم إن إبراهيم احتج على فساد اعتقاد عبدة الأصنام بقوله منكراً على آزر وقومه ) أتتخذ أصناماً آلهة ( أي معبودين .
وذلك أن الأصنام لو كان لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافياً فلما لم يكن الواحد وعلى أن وجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع لأن إبراهيم حكم عليهم بالضلال من حيث النظر والاستدلال ، وأجيب بأنه لعله عرف ضلالهم بحكم شرع الأنبياء المتقدمين عليه ) وكذلك ( أي مثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام والاشتغال بغير الله ) نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض ( والنكتة فيه أن التخلي عن غير الله يوجب رفع الحجاب وبقدر ذلك يكون حصول التجلي والتحلي بالله وإنما لم يقل ( أريناه ) بلفظ الماضي لأنه أراد الحكاية كأنه قيل : كيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ في قوة الدين والذب عنه ؟ فأجيب أنا كنا نريه الملكوت وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه ، أو المقصود بيان ارتفاعه في معارج الكمال وازدياده في ذلك على سبيل الدوام والاستمرار فإن مخلوقاته تعالى وإن كانت متناهية في الذات وفي الصفات إلا أن جهات دلالاتها على ذاته وصفاته سبحانه غير متناهية كما قال إمام الحرمين : معلومات الله غير متناهية ، ومعلوماته في تلك المعلومات أيضاً غير متناهية .
فإن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل ، ويمكن اتصافه بصفات لا نهاية لها على البدل ، فكل تلك الأحوال التقديرية معلومة لله تعالى ، وكل تلك الأحوال دالة على حكمة الله تعالى وعظمة قدرته ، وإذا كان الجوهر الفرد كذلك فكيف كل الملكوت ولهذا قيل : السفر إلى الله تعالى له نهاية ، فأما السفر في الله سبحانه فإنه بلا نهاية .
والملكوت هو الملك والتاء للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت من الرهبة .
قال بعضهم : إنه سبحانه أراه الملكوت بالعين .
قالوا : شق له تحت الثرى فرأى ما فيها من البدائع والعجائب .
عن ابن عباس أنه قال : لما أري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وأري ما فيها وما في الأرض من العجائب رأى عبداً على فاحشة فدعا عليه وعلى آخر بالهلاك ، فقال الله تعالى له : كف عن عبادي فهم بين خلال ثلاث : إما أن أجعل منهم ذرية طيبة ، أو يتوبون فأغفر لهم ، أو النار من ورائهم .
وقال الأكثرون : إن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة ، لأن ملك السموات والأرض لا يرى وإنما يعرف بالعقل ولو أريد نفس السموات والأرض صار لفظ الملكوت ضائعاً .
وأيضاً قوله ) فلما جن عليه الليل ( جارٍ مجرى الشرع والتفسير لتلك الإراءة فثبت أنه استدل بتغير الأجرام وإمكانها(3/104)
" صفحة رقم 105 "
وحدوثها على وجود الإله الواجب الحكيم .
ثم قال بالآخرة ) وتلك حجتنا ( والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه .
وأيضاً الإراءة تفيد العلم الضروري بالإله القادر ومثل هذه المعرفة لا توجب المدح والثواب كما للكفار في الأخرة .
وأيضاً اليقين عبارة عن تحصيل علم بالتأمل إذا كان مسبوقاً بالشك ، فالمراد نري إبراهيم ليستدل بها وليكون من الموقنين ، أو ليكون من الموقنين نريه ، أو فعلنا ذلك وذلك أن الإراءة قد تصير سبباً للجحود لا الإيقان كما في حق فرعون ) ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى ) [ طه : 56 ] وأيضاً الإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال ، وبتقدير الإمكان لا يكون لها دوام وبقاء ، وبتقدير البقاء تكون شاغلة للرائي عن الله .
أما إذا نظر بعين البصيرة في المخلوقات وعرف حدوثها وإمكانها ، وعرف أن كل ممكن يحتاج إلى بأذن قلبه شهادتها بالاحتياج والانقياد لله ، وهذه الرؤية باقية غير زائلة ولا شاغلة عن الله بل هي شاغلة للقلب والروح بالله .
وهذه الرؤية وإن كانت حاصلة لجميع الموحدين لقوله ) سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) [ فصلت : 53 ] إلا أن الاطلاع على تفاصيل آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذه العوالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وعوارضها ولواحقها كما هي ، لا تحصل إلا لأكابر الأنبياء ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) في دعائه ( أرني الأشياء كما هي ) ثم إن الإنسان في أول استدلاله لا ينفك قلبه عن اختلاج شبهة فيه ، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت كان لكل واحد منهما نوع تأثير وقوة ، ويكون جارياً مجرى تكرار الدرس الواحد وتزداد النفس بكل منها نوراً وإشراقاً وانبساطاً إلى أن يحصل الجزم ويكمل الإيقان وتطلع شمس العلم والعرفان إلى حيث أتيح لها من الارتقاء والتصاعد وذلك قوله ) فلما جن عليه الليل ( قال في الكشاف : إنه معطوف على قوله ) وإذ قال إبراهيم ( وقوله ( وكذلك نرى ( جملة وقعت اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه .
يقال : جن عليه الليل وأجنه الليل .
والتركيب يدور على الستر ومنه الجنة والجن والمجنون والجنين .
وقيل : جن عليه الليل أي أظلم عليه ولأجل هذا التضمين عدي ب ( على ) .
وأما ( أجنة ) فمعناه ستره من غير تضمين معنى أظلم .
واعلم أن كثيراً من المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه .
فأمر بذبح كل غلام يولد فحملت أم إبراهيم عليه السلام به وما أظهرت حملها للناس ، فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في بجبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر فجاء جبريل عليه السلام فوضع أصبعه في فيه فمصه فخرج منه رزقه ، وكان يتعهده جبريل عليه السلام وكانت الأم تأتيه أحياناً وترضعه .
وبقي في الغار حتى كبر وعرف أن له رباً فسأل الأم فقال لها : من ربي ؟ فقالت :(3/105)
" صفحة رقم 106 "
أنا .
فقال : ( من ربك ؟ فقالت : أبوك .
فقال لأبيه : من ربك ؟ فقال : ملك البلد .
فعرف إبراهيم جهلهما بربهما .
فنظر من باب ذلك الغار ليرى ما يستدل به على وجود الرب سبحانه فرآى النجم الذي كان أصغر النجوم في السماء فقال : هذا ربي إلى آخر القصة .
ثم منهم من قال : كان فساد هذا القول لوجوه منها : أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر لا يجوز على الأنبياء بالاتفاق .
ومنها أن إبراهيم كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة لأن الله تعالى أخبر عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد بالرفق مراراً بقوله ) يا أبت لم تعبد ما لم يسمع ولا يبصر ) [ مريم : 42 ] الآيات .
وفي هذا الموضع دعا أباه إل التوحيد بالكلام الخشن ، والدعوة بالرفق مقدمة على الدعوة بالخشونة والغلظة .
ومنها أن هذه الواقعة كانت بعد أن أراه ملكوت السموات والأرض بدليل فاء التعقيب في قوله ) فلما جن ( ومنها أنه تعالى وصفه بقوله ) إذ جاء ربه بقلب سليم ) [ الصافات : 84 ] ومدحه بقوله ) ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل ) [ الأنبياء : 5 ] أي من أول زمان الفطرة .
ومنها قوله عقيب هذه القصة ) وتلك حجتنا بريء مما تشركون ( مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم .
ومنها قوله ) وحاجة قومه ( وفيه دليل على أنه إنما اشتغل بالنظر في الكواكب بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فقال ) لا أحب الآفلين ( رداً وتنبيهاً على فساد قولهم ، ويؤكده قوله ) كيف أخاف ما أشركتم ( لأنه يدل على أنهم كانوا قد خوفوه بالأصنام كما في قصة هود ) إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ) [ هود : 54 ] ومنها أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار ، وكان ينبغي أن يستدل أوّلاً بغروب الشمس على عدم إلهيتها ثم يبطل إلهية القمر وسائر الكواكب بالطريقة الأولى ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن المقصود إلزام القوم وإفحامهم .
والابتداء بأفول الكوكب لأنه اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم ، ثم امتدت المناظرة إلى أن طلعت الشمس .
ثم ههنا احتمالان : الأول أن يقال إن هذا كلام إبراهيم بعد البلوغ ولكنه ذكره بلفظهم حتى يرجع إليه فيبطله ، مثاله : أن يقول في مناظرة من يزعم قدم الجسم : الجسم قديم فإن كان كذلك فلم نشاهده ونراه متركباً متغيراً .
فقولك ( الجسم قديم ) إعادة لكلام الخصم لإلزام الحجة عليه ، أو المراد هذا ربي في زعمكم واعتقادكم كقول الموحد للجسم : الإله جسم محدود أي في زعمه واعتقاده .
قال تعالى ) ويوم يناديهم فيقول أين شركائي ) [ القصص : 62 ] وقال ) ذق إنك أنت العزيز الكريم ) [ الدخان : 49 ] أي عند نفسك .
وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( يا إله الآلهة في زعمهم ) .
أو المراد منه(3/106)
" صفحة رقم 107 "
لاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام لدلالة الكلام ، أو أضمر القول أي يقولون هذا ربي وإضمار القول كثر ) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا ) [ البقرة : 127 ] أي يقولان ربنا ) والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم ) [ الزمر : 3 ] أي يقولون : ما نعبدهم ) إلا ليقربونا ) [ الزمر : 3 ] أو ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء ، أو أنه عليه السلام قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة لم يقبلوا قوله فمال إلى الاستدراج وذكر كلاماً يوهم كونه مساعداً لهم مع أن إبراهيم كان مطمئناً بالإيمان فكان بمنزلة المكره على كلمة الكفر حيث لم يجد إلى الدعوة المأمور بها طريقاً سوى ذلك .
وإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة تعود إلى شخص واحد لقوله تعالى ) إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) [ النحل : 106 ] فلأن يجوز ذكرها لتخليص جم غفير من الكفر والعقاب الأبدي أولى .
قالت العلماء : إن المكره على ترك الصلاة لو صلى حتى قتل استحق الأجر .
ثم إذا جاء وقت القتال مع الكفار وعلم أنه لو اشتغل بالصلاة انهزم عسكر الإسلام فههنا يجب عليه ترك الصلاة والاشتغال بالقتال حتى لو صلى وترك القتال أثم .
وإن من كان في الصلاة فرأى طفلاً أو أعمى أشرف على غرق أو حرق وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذهما ومثل هذه الواقعة قوله ) فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) [ الصافات : 88 ] وذلك أنهم كانوا يستدلون بعلم النجوم على الحوادث المستقبلة فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظاهر مع إنه كان بريئاً عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام قال المتكلمون : إنه يصح من الله تعالى إظهار خوارق العادات على يد من يدعي الإلهية ، لأن صورة هذا المدعي وشكله يدل على كذبه فلا يروج التلبيس ولكنه لا يجوز إظهارها على يد من يدعي النبوّة كاذباً لأن التلبيس يروج حينئذ فكذا ههنا قوله ) هذا ربي ( لا يوجب الضلال لأن دلائل بطلانه جلية وفي ذلك استدراج لهم لقبول الدليل فكان جائزاً .
الاحتمال الثاني : أنه ذكر ذلك قبل البلوغ فلعله خطر بباله لشدة ذكائه قبل بلوغه إثبات الصانع سبحانه فتفكر فرأى النجم فقال ) هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ( ثم إنه تعالى أكمل بلوغه في أثناء هذا الفكر فقال عند أفول الشمس ) إني بريء مما تشركون ( واعلم أن القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل يربيه محتملة في الجملة ، لأن الإرهاص - وهو تقديم المعجز على وقت الدعوى - جائز عندنا .
ولم يجوّزه القاضي إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله تعالى فتكون تلك الخوارق معجزة لذلك الرسول .
قال في الكشاف : فإن قلت : لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال ؟ قلت الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب .
وأنا أقول : الاحتجاج بالبزوغ في(3/107)
" صفحة رقم 108 "
الآية لا يصح لأنه تعالى بين أنه نظر إلى الكوكب وقت كونه طالعاً لا حين بزوغه ليلزم مشاهدة التغير والانتقال ، وكذا إلى القمر وإلى الشمس ليله أنه لم يقل رأى القمر يبزغ بل بازغاً .
ولو سلم فإن أحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص والأوساط والعوام ، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان فكل ممكن محتاج والمحتاج لا يجوز أن يكون منقطع الحاجات فلا بد من الانتهاء إلى الواجب بالذات .
وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة ، فكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم .
وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب ، فكل كوكب يغرب فإنه يزول نوره ويذهب سلطانه ويصير تأثيرات في أحوال العالم السفلى ، ولكن تلك التأثيرات لما لم تكن لها بذاتها لزم استناد الكل إلى الواجب سبحانه وهو الإله الأعظم القادر على خلق السموات والنجوم النيرات ، فيجب أن يكون قادراً على خلق البشر وعلى تدبير السفليات بالطريق الأولى فلا يلزم من وضع الواسطة رفع المبدإ بحال ، ويعلم من قوله ) لا أحب الآفلين ( أنه تعالى ليس بجسم وإلا كان غائباً عنا فكان آفلاً ، وإنه لا يصح عليه المجيء والذهاب والنزول والصعود ولا الصفات المحدثة .
وفيه أن معارف الأنبياء استدلالية لا ضرورية وأنه لا سبيل إلى معرفته تعالى إلى النظر والاستدلال .
أما قوله ) فلما رأى القمر بازغاً ( يقال بزغ القمر أو الشمس إذا ابتدأ بالطلوع .
وأصل البزغ الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقاً قاله الأزهري .
وفي قوله ) إن لم يهدني ربي ( إشارة إلى أن الهداية ليست إلا من الله تعالى .
والمعتزلة حملوها على التمكين وإزاحة الأعذار ونصب الدلائل ، وزيف بأن كل ذلك كان حاصلاً فالهداية التي كان يطلبها بعد ذلك لا بد أن تكون زائدة عليها ) فلما ارأى الشمس بازغة قال هذا ربي ( أراد هذا الطالع أو هذا المرئي ، أو ذكر بتأويل الضياء والنور ، أو باعتبار الخبر وهو رب مع رعاية الأدب وهو ترك التأنيث عند اللفظ الدال على الربوبية كما لم يقولوا في صفة الله علامة وإن كانت بتاء مبالغة ) هذا أكبر ( أي أكبر الكواكب جرماً ونوراً ، وقد برهن في الهيئة على أنها مائة وستة وستون مثلاً لكرة الأرض كلها .
وإنما لم يقتصر على ذكر الشمس أوّلاً مع أنه يلزم منه عدم ربوبية ما دونها من القمر والكواكب ، لأنه أراد الأخذ من الأدون إلى الأعلى لمزيد التقرير والتصوير ) يا قوم إني بريء مما تشركون ( قيل : لا يلزم من نفي ربوبية النجوم نفي الشريك مطلقاً .
والجواب أن القوم لم ينازعوه إلا في الصور المذكورة ، فلما أثبت أنها ليست أرباباً ثبت بالاتفاق نفي الشركاء على الإطلاق .
ومعنى ) وجهت وجهي للذي فطر ( وجهت عبادتي لأجله فإن من كان مطيعاً لغيره منقاداً لأمره فإنه يوجه وجهه إليه ، فجعل توجيه الوجه إليه كناية عن الطاعة .
وأصل الفطر الشق يقال : تفطر الشجر بالورق والورد إذا(3/108)
" صفحة رقم 109 "
أظهرهما ، والحنيف المائل عن كل معبود سوى الله تعالى .
قال أبو العالية : الذي يستقبل البيت في صلاته .
ثم إن قومه حاجوه متمسكين بالتقليد تارة كقولهم ) إنا وجدنا آباءنا على أمة ) [ الزخرف : 22 ] وكقولهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) أجعل الآلهة لها واحداً ان هذا لشيء عجاب ( ومخوّفين إياه بالأصنام أخرى فأجابهم بقوله ) أتحاجوني في الله وقد هدان ( أي لما ثبت بالدليل الموجب للهداية صحة قولي فكيف ألتفت إلى حجتكم الواهية ؟ ) ولا أخاف ما تشركون به ( لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر ) إلا أن يشاء ( إلا وقت مشيئة ) ربي ( شيئاً يخاف .
فحذف المضاف أي إلا إن أذنب فيشاء إنزال العقوبة بي ، أو إلا أن يريد ابتلائي بمحنة ، أو إلا أن يمكن بعض تلك الأصنام من ضري مثل أن يرجمني بكوكب ، أو كان قد أودع فيها طلسم فيصيبني مكروه من جهته بإذن الله تعالى ، وفائدة الاستثناء أنه لو حدث به شيء من المكاره في الأيام المستقبلة لم يحمله الحمقى والجهلة على قدرة الأصنام ) وسع ربي كل شيء علماً ( فلا يفعل إلا الخير والصلاح ) أفلا تتذكرون ( أن نفي الأنداد عن رب الأرباب لا يوجد حلول العقاب ونزول العذاب ، وأن الصحيح لا يساوي الفاسد ، والعاجز لا يساوي القادر ؟ ثم أكد ذلك بقوله ) وكي فأخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً ( إذ لا سلطان فينزل .
وقيل : إنه لا يمتنع عقلاً أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للصلاة والدعاء ، ولكنه لم يؤمر به .
والمعنى ما لكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم إلا من في موضع الخوف ؟ ثم قال ) فأي الفريقين ( يعني فريقي المشركين والموحدين .
ولم يقل ( فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم ) اجتناباً عن تزكية نفسه .
والغرض إني أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله ) الذين آمنوا ( الآية ، والمعنى أن الذي حصل لهم الأمن الطلق هم المستجمعون لكمال القوة النظرية وسنامه الإيمان ، ولكمال القوة العمية وهو وضع الأشياء في موضعها وإليه الإشارة بقوله ) ولم يلبسوا ( أي لم يخلطوا إيمانهم ) بظلم ( .
قالت الأشاعرة : شرط في الإيمان الموجب للأيمان عدم الظلم ، فوجب أن لا ترك الظلم داخلاً في الإيمان لم يكن لهذا التقييد فائدة فثبت أن الفاسق مؤمن .
وقالت المعتزلة : شرط في حصول الأمن حصول الأمرين : الإيمان وعدم الظلم. فوجب أن لا يحصل إلا من للفاسق وذلك يوجب حصول الوعيد له أبداً .
وأجيب بأن الظلم ههنا الشرك لقوله ) إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13 ] واجتماعه مع الإقرار بالصانع ممكن وحينئذ يصح إطلاق اللبس بمعنى الخلط ويكون المراد : الذين آمنوا بالله ولم يثبتوا له شريكاً في(3/109)
" صفحة رقم 110 "
المعبودية ، ويؤيده أن القصة وردت في نفس الأضداد والأنداد .
وأيضاً لا يلزم من عدم الأمن المطلق حصول القطع بالعذاب الأبدي .
واعلم أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للذم والإنكار كمحاجة قوم إبراهيم ، وتارة تكون موجبة للمدح وذلك إذا كان الغرض تقريراً لدين الحق والمذهب الصدق كمحاجة إبراهيم من قوله ) فلما جن عليه الليل ( إلى ههنا وإليها الإشارة بقوله ) وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم ( أرشدناه إليها ووفقناه لها ) نرفع درجات من نشاء ( من قرأ بالإضافة فظاهر لأنه رفع يتعدى إلى واحد ، ومن قرأ بالتنوين فيكون كقوله ) ورفع بعضهم درجات ) [ البقرة : 253 ] وقد تقدم في البقرة ، واختلف في تلك الدرجات فقيل : أعماله في الآخرة ، وقيل : تلك الحجج درجات رفيعة لأنها تقتضي ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعلى العالم الروحاني ، وقيل : نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة ، وفي الآخرة بالجنة والثواب .
أو نرفع درجات من نشاء بالحكمة والعلم ) إن ربك حكيم عليم ( فيرفع الدرجات بمقتضى الحكمة والعلم لا لموجب التشهي والشهوة .
التأويل : رأى إبراهيم ملكوت الأشياء أي بواطنها ليكون من الموقنين عند كشفها كما كان موقناً كشف الضلال المودع في آزر وقومه ) فلما جن عليه ( ظلمة ليل البشرية أمطر سحاب العناية غيث الهداية على أرض قلبه فأنبت بذر الخلة المودعة في ملكوت قلبه ، فرأى نور الرشد في صورة الكوكب طالعاً من أفق سماء روحانيته فقال : ( هذا ربي ( أراد به سره المكوكب لا الكوكب وإن لم يشعر به نفسه كما قيل :
هوى فؤادي ولم يعلم به بدني
فالجسم في غربة والروح في وطن
فإن كذب النفس فيما قالت للكواكب ( هذا ربي ) ما كذب الفؤاد ما رأى من الكوكب .
فقال ) هذا ربي ( فلما احتجب كوكب نور الرشد بغلبات صفات الخلقية عند رجوعه إلى أوصافه ووافقه كوكب السماء بالغروب قال سره ) لا أحب الآفلين ( فلما تسع انفتاح روزنة القلب إلب الملكوت بقدر القمر تجلى له نور الربوبية في مرآة القمر ) قال هذا ربي فلما أفل ( عند رجوعه إلى أوصافه ازداد الشوق قال إن ) لم يهدني ربي ( برفع حجب الأوصاف ويبقني على وجود الخليقة ) لأكونن من القوم الضالين ( عن الحق كآزر وقومه .
فلما انخرقت حجب الأوصاف وخرجت شمس الهداية من غيم البشرية ، وأشرقت أرض القلب بنور ربها ) قال هذا ربي فلما أفلت ( شمس الهداية تعززاً وتعظماً ليغرب إبراهيم عليه السلام عن شرك الأنانية .
إن شمس النهار تغرب بالليل
وشمس القلوب ليست تغيب .(3/110)
" صفحة رقم 111 "
تبرأ عن الأضداد والأنداد ونزعته همة الخلة عن الجهات وخلصه تجلي صفة الجمال عن شبكة الوهم والخيال .
فقال ) يا قوم إني بريء مما تشركون ( وقد يدور في الخلد أن إبراهيم صلوات الله الرحمن عليه جن عليه ظلمة الشهبة فنظر أولاً في عالم الأجسام فوجدها آفلة في أفق التغير فلم يرها تصلح للإلهية ، فارتقى منها إلى عالم النفوس المدبر للأجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان حكمها حكم ما دونها فصعد منها إلى عالم العقول المجردة ، فصادفها آفلة في أفق الإمكان فلم يبقَ إلا الواجب الحق .
ومن الناس من يحمل الكوكب على الحس ، والقمر على الخيال ، والشمس على الوهم والعقل ، ومراده أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية القوة ، ومدبر العالم قاهر لها مستول عليها ) وحاجة قومه ) ليسبلوا ستور شبههم على شموس عرفانه ، وقد هداني إليه بالعيان بعد توالي البرهان ) إلا أن يشاء ربي شيئاً ( من الخذلان وهذا محال لأنه ) وسع ربي كل شيء علماً ( فهو أعلم بأهل العرفان وبأصحاب الخذلان ) ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ( بشرك الالتفات إلى غيره من الأكوان حتىقال لجبريل : أما إليك فلا ) وتلك ( يعني إراءة الملكوت وشواهد الربوبية في مرآة الكواكب وصدق التوجه إلى الحق والتبري عما سواه والخلاص عن شرك الأنانية والإيمان الحقيقي بالعيان حتى ارتقى من الأفعال إلى الصفات ثم إلى الذات ) آتيناها إبراهيم ( بذاتنا من غير واسطعة حتى جعلها حجة على قومه ) نرفع درجات من نشاء ( بجذبات الألوهية عن حضيض الأنانية الله حسبي .
( الأنعام : ( 84 - 90 ) ووهبنا له إسحاق . . . .
" ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين "
( القراآت )
واليسع ( بتشديد اللام : حمزة وعلي وخلف .
الباقون : بالتخفيف ، ) اقتده ( بإشباع الهاء : ابن عامر الحلواني عن هشام مختلسة ، وبحذف الهاء في الوصل : سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف .
الباقون : بسكون هاء السكت على الأصل .
الوقوف : ( ويعقوب ( ط ) كلاً هدينا ( ج لأن ) ونوحاً ( مفعول ما بعده ، ولو وصل(3/111)
" صفحة رقم 112 "
التبس بأنه مفعول ما قبله مع اتفاق الجملتين ) وهرون ( ط ) المحسنين ( ه لا للعطف ) وإلياس ( ط ) من الصالحين ( ه لا للعطف ) ولوطا ( ط ) العالمين ( ه لا للعطف ) وإخوانهم ( ج لبيان أن قوله ) واجتبيناهم ( يعود إلى قوله ) كلاً هدينا ( كقوله ) وممن هدينا واجتبينا ) [ مريم : 58 ] ولاحتمال الواو الحال أي وقد اجتبيُناهم وذكر هديناهم بعده ) مستقيم ( ه ) من عباده ( ط ) يعملون ( ه ) والنبوّة ( ج ) بكافرين ( ه ) اقتده ( ط ) أجراً ( ط ) للعالمين ( ه .
التفسير لما حكى حجج إبراهيم صلوات الرحمن عليه في التوحد والذب عن الدين الحنيفي عدّد وجوه عمه وإحساه عليه بعد نعمة إيتاء الحجة ورفع الدرجة فقال ) ووهبنا له ( باللفظ الدال على العظمة كما يقوله عظماء الملوك ليدل بلك على عظم العطية ، وذلك أنه جعل أشرف النس وهم الأنبياء والرسل من نسله وعقبه .
قيل : وإنما لم يذكر إسماعيل مع إسحق وإن كان هو أيضاً ابه لصلبه ، لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل وهم بأسرهم أولاد إسحق ويعقوب ، وأما إسماعيل فإنه ما خرج من صلبه أحد من الأنبياء إلا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولا يجوز ذكر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا المقام لأنه أمر محمداً أن يحتج على العرب بأن إبراهيم لما ترك الشرك وأصر على التوحيد شرفه الله بالنعم الجسام في الدين والدنيا ، ومن جملة ذلك أن آتاه أولاداً كانوا ملوكاً وأنبياء ، فإذا كان المحتج بهذه الحجة هو محمد امتنع أن يذكر نفسه في هذا المعرض ، فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحق .
أما قوله ) ونوحاً هدينا من قبل ( فالمقصود منه بيان كرامة إبراهيم بحسب الآباء أيضاً مثل نوح وإدريس وشيث ، وأما الضمير في قوله ) ومن ذريته ( فقد قيل : إنه يعود إلى ( نوح ) لأنه أقرب ولأنه تعالى ذكر في جملتهم لوطاً وهو كان ابن أخي إبراهيم وما كان من ذريته ، بل كان من ذرية نوح ، ولأن ولد الإنسان لا يقال إنه ذريته فعلى هذا إسماعيل ما كان من ذرية إبراهيم وكان من ذرية نوح ، ولأ يونس عليه السلام لم يكن من ذرية إبراهيم على قول بعضهم .
وقيل : الضمير عائد إلى إبراهيم لأنه هو المقصود بالذكر هو هذا المقام .
واعلم أن الله تعالى ذكر أربعة من الأنبياء وهم : نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب .
ثم ذكر من ذريتهم أرعبة عشر نبياً : داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى والياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً .
فالمجموع ثمانية عشر .
وأنه لم يراع الترتيب بينهم في الآية لا بحسب الفضل والشرف ولا بحسب الزمان والمدة ، فاستدل العلماء بذلك على أن الواو لا تفيد الترتيب .
وقال في التفسير الكبير : إن وجه الترتيب أنه تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الكرامة .
فمن المراتب المعتبرة عند الجمهور الملك(3/112)
" صفحة رقم 113 "
والسلطنة وقد أعطى داود وسليمان من ذلك نصيباً عظيماً ، والمرتبة الثانية البلاء والمحنة وقد خص أيوب بذلك ، والثالثة استجماع الحالتين وذلك في حق يوسف فإنه ابتلي أوّلاً ثم أوتي الملك ثانياً .
الرابعة قوّة المعجزات وكثرة البراهين والبينات وذلك حال موسى وهارون الخامسة الزهد الكامل كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ولهذا وصفهم بأنهم من الصالحين .
السادسة الأنبياء الذين ليس لهم في الخق أتباع ولا أشياع وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط .
وأما المراد بقوله ) كلاً هدينا ونوحاً هدينا ( قيل : المراد الهداية إلى طريق الجنة بدليل قوله ) وكذلك نجزي المحسنين ( فإن جزاء المحسن على إحسانه لا يكون إلا الثواب .
وقيل : لا يبعد أن يقال : المراد الهداية إلى الدين والمعرفة لأنهم اجتهدوا في طلب الحق فجازاهم الله بالوصال والوصول كما قال ) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ( ) العنكبوت : 69 ] وقيل : إنها الإرشاد إلى النبوّة والرسالة لأن الهداية المخصوصة بالأنبياء ليست إلا ذلك ، وهذا إنما يصح عند من جوز أن تكون الرسالة جزاء على عمل .
واستدل بعضهم بقوله ) وكلاً فضلنا على العالمين ( على أن الأنبياء أفضل من الملائكة ، وذلك أن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل فيه الملائكة وكذا الأولياء .
وقيل : فضلناهم على عالمي زمانهم فلا يتم الاستدلال .
قال القاضي : ويمكن أن يقال : المراد وكل من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين .
ثم الكلام في أن أي الأنبياء أفضل من بعض كلام آخر لا تعلق له بالأول .
ثم قال ) ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ( معطوف على الأوصل .
وفيه دليل على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء بنوع من الشرف والكرامة .
ثم إن قلنا المراد من الهداية الهداية إلى الثواب والجنة فقوله ) من آبائهم ( وكلمة ( من ) للتبعيض يدل على أنه قد كان في آباء هؤلاء الأنبياء من كان غير مؤمن ولا واصل إلى الجنة ، وإن فسرنا الداية بالنبوة لميفد ذلك إلا أنه يفيد أن لا تكون المرأة رسولاً ولا نبياً ) واجتبيناهم ( أي اصطفيناهم من جبيت الماء في الحوض وجبوته في جمعته ، ) ذلك هدى الله ( إشارة إلى معرفة التوحيد والتنزيه بدليل قوله ) ولو أشركوا لحبط ( وفيه دليل على أن الهداية من الله تعالى وليس للعبد فيها اختيار .
وفيه تهديد عظيم كقوله ) لئن أشركت ليحبطن عملك ) [ الزمر : 65 ] والغرض من ذلك زجر الأمة .
) أولئك ( يعني الأنبياء الثمانية عشر .
) الذين آتيناهم لكتاب والحكم والنبوة ( ولا بد بحكم العطف من تغاير الأمور الثلاثة .
ووجه بأن الحكام على الخلق ثلاث طوائف : الحكام على بواطن الناس وهم العلماء ، والحكام على ظواهر الخلق وهم السلاطين ، والجامعون بين الأمرين وهم الأنبياء .
فالأمور الثلاثة إشارة إلى هذه الأصناف الثلاثة .
ومعنى إيتاء الكتاب الفهم(3/113)
" صفحة رقم 114 "
التام بما في هذه الجنس والعلم المحيط بحقائقه وأسراره .
ولو قيل : المراد بالإيتاء الابتداء بالوحي والتنزيل كصحف إبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى لم يشمل كل المذكورين لأنه تعالى ما أنزل على كل واحد منهم كتاباً على التعيين .
) فإن يكفر بها ( أي بالأمور الثلاثة أو بالنبوة ) هؤلاء ( يعني أهل مكة ) فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ( أي ليسوا كافرين بها ومن توكيلهم بها أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه .
ومن القوم ؟ قيل : كل مؤمن وقيل : أهل المدينة وهم الأنصار .
وقيل : هم المهاجرون .
وقال الحسن : هم الأنبياء الذين تقدم ذكرهم واختاره الزجاج لقوله عقيب ذلك ) أولئك الذين هدى الله ( وقال أبو رجاء : يعني الملائكة وضعف بأن اسم القوم قلما يقع على غير بني آدم .
وفي الآية دلالة على أنه تعالى سينصر نبيه ويظاهر دين الإسلام على كل الإديان وقد وقع ما وعد وكان إخباراً بالغيب فصح إعجاز القرآن .
وفيها استدلال للأشاعرة على أنه تعالى خلق قوماً للإيمان ولو كان خلق الكل للإيمان والبيان والتمكين وفعل الألطاف مشتركاً بين الكل لم يصح هذا التخصيص .
أجاب الكعبي بأنه زاد المؤمنين من الألطاف ما لا يحصيه إلا الله ، وبتقدير أن يستوي فإذا لم ينتفع به الكافر صح بحسب الظاهر أن يقال إنه لم يحصل له تلك الألطاف .
ورد بأن الألطاف الداعية إلى الإيمان مشترك فيها بين الكافر والمؤمن ، وبأن الوالد لما سوّى بين الولدين في العطية ثم إن أحدهما ضيع نصيبه فأي عاقل يجوّز أن يقول أحد إن الأب ما أنعم عليه وما أعطاه شيئاً ) فبهداهم اقتده ( من حذف الهاء في الوصل فعلى الأصل ، ومنأثبتها في الوصل كما في الوقف أراد موافقة المصحف فإن الهاء في الوصل فعلى الأصل ، ومن أثبتها في الوصل كما في القف أراد عامر بكسر الهاء بغير إشباع فقال أبو بكر بن مجاهد : إنها غلط .
وقال أبو علي الفارسي : ليست بغلط ووجهها أن يجعل الهاء كناية عن المصدر الدال عليه الفعل .
والتقدير : فبهداهم اقتد الاقتداء .
وتقديم المفعول للاختصاص أي لا تقتد إلا بهم .
ولا خلاف في أنه أمر لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالاقتداء بالأنبياء المذكورين .
إنما الكلام في تفسير الدى .
فمن الناس من قال : المراد الذي أجمعوا عليه وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال .
وقال آخرون : المراد به الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل ، المفصل .
وقال القاضي : ذا بعيد لأن شرائعهم مختلفة متناقضة ولا يمكن الإتيان بالأمور المتناقضة معاً ، ولأن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل ، ودليل إثبات شرعهم كان مخصوصاً بتلك الأوقات ، ولأن منصبهم يلزم أن يكون أجل من منصبه وأنه باطل بالإجماع ، وأجيب بأن العام يجب تخصيصه فيالصورة المتناقضة فيبقى فيما عداها حجة ، وبأن(3/114)
" صفحة رقم 115 "
المستدل بالدليل فصل في ذلك الحكم فلا معنى للاقتداء بالدليل إلا إذا كان فعل الأول سبباً لوجوب الفعل على الثاني ، وبأنه يلزم أن يكون منصبه أجل من منصبهم لأنه أمر باستجماع خصال الكمال وصفات الشرف التي كانت متفرقة فيها كالشكر في داود وسليمان ، والصبر في أيوب ، والزهد في زكريا ويحيى وعيسى ، والصدق في إسماعيل ، والتضرع في يونس ، والمعجزات الباهرة في موسى وهارون ، ولهذا قال ( لو كا موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي ) .
ولما أمره بالاقتداء بالأنبياء وكان من جملة هداهم أن لا يطلبوا الأجر أي المال والجعل في ايصال الدين وإبلاغ الشريعة قيل له : ( قل لا أسألكم ( أيها الأمة ) عليه ( على البلاغ ) أجراً إن هو ( يعني القرآن ) إلا ذكرى للعالمين ( يريد كونه مشتملاً على كل ما يحتاجون إليه في المعاش والمعاد .
وفيه دليل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان مبعوثاً إلى الناس كافة لا إلى قوم دون قوم .
التأويل : ومما رفعنا به درجات إبراهيم أنا وهبنا له إسحق ويعقوب .
ولعله أفرد ذكر إسماعيل لمكان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وآله كيلا يقع ذكره تبعاً لموهبة إبراهيم ، فإن الكائنات تبيع لوجود محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وآله ، ومن آبائهم إلى آدم ومن ذرياتهم إلى محمد ) واجتبيناهم ( في الأزل لهذا الشأن ) وهديناهم ( إلى الأبد ) ولو أشركوا ( بأن لاحظوا غيرنا فأثبتوا شيئاً من دوننا ونسبوا شيئاً من الحوادث إلى غير قدرتنا ، أو لم يبدلوا أنانيتهم في هويتنا ) لحبط عنهم ما كانوا يعملون ( لتلاشي عرفانهم وتلف ما سلف من إحسانهم ) فبهداهم اقتده ( لأنهم سلكوا حتى انتهى مسير كل منهم إلى ما قدر له : آدم في السماء الدنيا ، ويحيى وعيسى في الثانية ، ويوسف في الثالثة ، وإدريس في الرابعة ، وهارون في الخامسة ، وموسى في السادسة ، وإبراهيم في السابعة ، وجميع الملائكة المقربين إلى سدرة المنتهى ، وأنت محمد إلى مقام قاب قوسين أو أدنى ) قل لا أسألكم ( أيها الأنبياء على الاقتداء ) أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين ( ليعلموا أن الطريق إلى الله لا يسلك إلا بالاقتداء ، أو ) لا أسألكم ( أيها الأمة على دعوتكم إلى الح ) أجراً أن هو إلا ذكرى للعالمين ( من الله وبه وإليه وهو المستعان .
( الأنعام : ( 91 - 100 ) وما قدروا الله . . . .
" وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى(3/115)
" صفحة رقم 116 "
ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون "
( القراآت )
يجعلونه ( ) يبدونها ( و ) يخفون ( بياآت الغيبة : أبو عمرو وابن كثير ، الباقون : على الخطاب ) ولينذر ( بياء الغيبة : أبو بكر وحماد .
الباقون : بتاء الخطاب ) بينكم ( بفتح النون : أبو جعفر ونافع وعلي وحفص والمفضل .
الباقون : بالرفع ) وجعل الليل ( على لفظ المضي ونصب الليل عاصم وحمزة وعلي وخلف الباقون ) وجاعل الليل ( على لفظ اسم الفاعل وبالغضافة ) وجنات ( بالرفع : الأعشى البرجمي الباقون : بالنصب ) فمسستقر ( بكسر القاف : أبو عمرو وابن كثير وسهل ويعقوب .
الباقون : بالفتح ) ثمره ( بضمتين : حمزة وعلي وخلف وكذلك في آخر السورة ويس .
الباقون : بفتحتين ) وخرقوا ( بالتشديد : أبو جعفر ونافع .
الباقون : بالتخفيف .
الوقوف : ( من شيء ( ط ) كثيراً ( ط لمن قرأ ) يجعلونه ( بياء الغيبة .
ومن قرأ بالتاء فوقفه حائز لانتهاء الاستفهام مع اتفاق الخطاب على تقدير وقد علمتم ) آباؤكم ( ط ) قل الله ( ط لأن قوله ذرهم ( معطوف على ) قل ( ) يلعبون ( ه ) ومن حولها ( ط ) يحافظون ( ه ) أنزل الله ( ط ) أيديهم ( ج لاتساق الكلام معنى مع تقدير(3/116)
" صفحة رقم 117 "
حذف أي يقولون أخرجوا ) أنفسكم ( ط لأن المراد من اليوم يوم القيمة ) تستكبرون ( ه ) ظهوركم ( ج لاتحاد القول .
والوقف أوضح لابتداء النفي وانقطاع النظم ) شركاء ( ط ) تزعمون ( ه ) ولوى ( ط ) من الحي ( ط ) تؤفكون ( ه ) فالق الإصباح ( ج لمن قرأ ) وجعل ( لانقطاع النظم واتصال المعنى على تقدير فلق وجعل ، أو وقد جعل وعامل الحال معنى الفعل في فالق ) حسباناً ( ط ) العيم ( ه ) والبحر ( ط ) يعلمون ( ه ) ومستودع ( ط ) يفقهون ( ه ) ماء ( ج للعدول مع اتحاد المقصود ) متراكباً ( ط ومن قرأ ) وجنات ( بالرفع فللعطف على ) قنوان ( لفظاً فيلزمه وقفه على ) دانية ( وإلا فليعطف ويفهم أن ) جنات ( من جملة النخل ، ومن خفض فوقفه على ) متراكباً ( جائز للعطف على قوله ) خضراً ( مع وقوع العارض ) وغير متشابه ( ط ) وينعه ( ط ) يؤمنون ( ه ) بغير علم ( ط ) يصفون ( ه .
التفسير : اعلم أن مدار القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد .
فبعد ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك شرع في تقرير أمر النبوة فقال ) وما قدروا الله حق قدره ( قال ابن عباس : أي ما عظموا الله حق تعظيمه حيث أنكروا النبوة والرسالة .
وقال أيضاً في رواية : ما آمنوا بأن الله على كل شيء قدير .
وقال أبو العالية : ما وصفوه حق صفته .
وقال الأخفش : ما عرفوه حق معرفته أي في اللطف بأوليائه أو في القهر لأعدائه .
وقال الجوهري : قدر الشيء مبلغه وقدرت الشيء أقدره وأقدره قدراً من التقدير أي حرره وعرف مقداره .
ثم بيّن سبب عدم عرفانه بقوله ) إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ( وإنما كان منكر البعث والرسالة غير عارف بالله تعالى ، لأنه إما أن يدعي أنه تعالى ما كلف أحداً من الخلائق تكليفاً أصلاً وهو باطل لأنه فتح باب المنكرات والقبائح بأسرها ، وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي ولكن لا على ألسنة الرسل وهذا أيضاً جهل .
فإن قيل : لملايجوز أن يكون العقل كافياً في إيجاب الواجبات وحظر المنكرات ؟ فالجواب هب أن الأمر كذلك إلا أنه لا يمتنع تأكيد التصريف العقلي بل يجب تفصيل ذلك المجمل بالتعريفات المشروحة على ألسنة الرسل ، لأن أكثر العقول قاصرة عن إدراك مدارك الأحكام الشرعية كما أن نور البصر قاصر عن إدراك المبصرات إلا إذا أعين بنور من خارج كنور الشمس أو السراج .
وأيضاً تفويض مصالح العباد إلى مقتضى عقولهم يؤدي إلى التنازع والتشاجر لتصادم الأهواء وتناقض الآراء فلا بد من أن يتتفقوا على واحد يصدرون عن رأيه ، وتعيين ذلك الواحد من الخلق ترجيح بلا مرجح وإشراف على الضلال لاحتمال الخطأ في اجتهادهم ، فلعل الخير في نظرهم يكون شراً في نفس الأمر فلزم أن يكون التعيين من الله سبحانه بكونه أعرف(3/117)
" صفحة رقم 118 "
بالبواطن كقوله ) الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] وإنما يعرف ذلك المعين بظهور المعجزة على وفق دعواه تصديقاً له ، ومن أنكر ذلك ولم يجوّز خرق العادة فقد وصف الله تعالى بالعجز ونقصان القدرة .
وقد طعن بعض الملحدة في الآية بأن هؤلاء القائلين إن كانوا كفار قريش أو البراهمة فهم ينكرون رسالة كل الأنبياء كما ينكرون رسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله ) قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ( لى أن قوله ) تجعلونه قراطيس ( بتاء الخطاب إنما يليق باليهود وإن كانوا أهل الكتاب فهم لا يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء ، بل يقرّون بنزول التوراة على موسى والإنجيل على عيسى .
وأيضاً الأكثرون اتفقوا على أن السورة مكية وأنها نزلت دفعة واحدة ومناظرات اليهود مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وآله كانت مدنية ، فكيف يمكن حمل الآية على تلك المناظرة ؟ والجواب أنهم إن كانوا كفار قريش فإنهم كانوا مختلطين بالهيود والنصارى وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التواتر ظهور المعجزات على يد موسى كالعصا وفلق البحر وإظلال الجبل وغيرها وكان جارياً مجرى ما يوجب عليهم الاعتراف بنبوة موسى .
وعلى هذا لا يبعد إيراد نبوة موسى إلزاماً لهم في قولهم ) ما أنزل الله على بشر من شيء ( ولما كان كفار قريش مع اليهود والنصارى متشاركين في إنكار نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وآله لم يبعد أن يكون الكلام الواحد خطأ بالكفار قريش أوّلاً ولأهل الكتاب آخراً وأما إن كانوا أهل الكتاب - وهو المشهور عند الجمهور - فالوجه ما روي عن ابن عباس أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رجلاً سميناً دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وآله فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وآله ( أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين ؟ فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود ) .
فضحك القوم فغضب ثم التفت إلى عمر فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء .
فقال له قومه : ما هذا الذي بلغنا عنك ؟ فقال : إنه أغضبني : ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف .
فلعل مالك بن الصيف لما تأذى من الكلام المذكور طعن في نبوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإنه ما أنزل عليه من شيء البته فأمر بأن يقول في جوابه ) من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ( أي لما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر وهو موسى فكيف يمكنك أن تقطع بأنه ما أنزل عليّ شيئاً غاية ما في الباب أن تطالبني بالمعجز .
والحاصل أنهم قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى ، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم بالتحريف وإبداء بعض وإخفاء بعض .
وقيل : اللفظ وإن كان مطلقاً بحسب اللغة إلا أنه مقيد بحسب العرف بتلك الواقعة ، فكأنه قال : ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين ، وهذا كما إذا أرادت المرأة أن تخرج من الدار فغضب الزوج(3/118)
" صفحة رقم 119 "
وقال : إن خرجت من الدار فأنت طالق ، فإن كثيراً من الفقهاء قالوا : التعليق مقيد بتلك المرة حتى لو خرجت مرة أخرى لم تطلق .
ويرد على هذا التوجيه أن قوله ) من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ( لا يكون مبطلاً لكلام الخصم .
أما قوله ( إن السورة مكية والمناظرات مدينة ) فأجيب عنه بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنه نزلت بالمدينة في هذه الواقعة والله أعلم .
ومن الأحكام المستنبطة من الآية أن قوله ) وما قدروا الله حق قدره ( يفيد أن عقول الخق قاصرة عن كنه معرفة الله تعالى وإن كانوا مقرين بالنبوة والرسالة لإطلاق قوله في موضع آخر ) وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته ) [ الزمر : 67 ] ومنها أن النكرة في سياق النفي تعم وإلا لم يكن قوله ) من أنزل ( مبطلاً لقوله ) ما أنزل الله على بشر من شيء ( ومنها أن النقض يقدح فيصحة الكلام وإلا لم يكن في قوله ) من أنزل ( حجة .
ويعلم منه أن قول من يقول إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقض مبطلاً ضعيف وإلا بطلت حجة الله تعالى في هذه الآية ، فإن لليهود حينئذ أن تقول : معجزات موسى كانت أظهر وأبهر من معجزاتك فلا يلزم نبوتك .
ومنها أن الغزالي رحمه الله تكلف وقال : حاصل الآية يرجع إلى أن موسى أنزل الله عليه شيئاً ، وأحد من البر ما أنزل الله عليه شيئاً فينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال ، وليس هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم ) ما أنزل الله على بشر من شيء ( فوجب القول بكونها كاذبة فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني ، وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف .
ثم اعلم أنه سبحانه وصف كتاب موسى بكونه نوراً وهدى للناس والعطف يقتضي المغايرة .
فالمراد بالنور ظهوره في نفسه .
وبالهدى كونه سبباً لظهور غيره كقوله في وصف القرآن ) ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا ) [ الشورى : 52 ] قال أبو علي الفارسي ) يجعلونه قراطيس ( أي ذات قراطيس أي يودعونه إياها .
فإن قيل : إذا كان جميع الكتب كذلك فلم ذكر في معرض الذم ؟ قلنا : لأنهم جعلوه قراطيس مفرقة مبعضة ليتوسلوا بذلك إلى إبداء بعض وإخفاء بعض مما فيه نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو شيء من الأحكام التي لا توافق هواهم كالرجم وغيره ) وعلمتم ( أيها اليهود على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ( الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أن هذا القرآن يقص على بنى إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ، وقيل : كانوا يقرؤون الآيات المشتملة على نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما كانا يفقهون معانيها إلى أن بعث الله محمداً ، فظهر أن المراد منها هو البشارة(3/119)
" صفحة رقم 120 "
بمقدمه ، وقيل : الخطاب لمن آمن من قريش كقوله ) لتنذر قوماً منا أنذر آباؤهم ) [ يس : 6 ] ( قل الله ( أي أنزله الله فإنهم لا يقدرون على أن ينكروا ذلك فإن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف المؤيد قول صاحبه بالمعجزات الباهرة لا يكون إلا من الله سبحانه .
ونظره ) قل أي شيء أكبر شهادة قل الله ) [ الأنعام : 19 ] والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها ، فسواء أقر الخسم به أو لم يقر فالغرض حاصل .
) ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ( يقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه إنما أنت لاعب و ) يلعبون ( حال من ) ذرهم ( أو من ) خوضهم ( ويحتمل أن يكون ) في خوضهم ( حالاً من ) يلعبون ( وأن يكون صلة له أو ل ) ذرهم ( .
والمعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والإنذار هذا المبلغ العظيم فقد قضيت ما عليك كقوله ) إن عليك إلا البلاغ ) [ الشورى : 48 ] قيل : إنها منسوخة بآية السيف وفيه نظر لأنه مذكور لأجل التهديد فلم يكن نزول آية القتال رافعاً لشيء من مدلولات هذه الآية .
ثم لما ذكر حال التوراة أعقبه بذكر القرآن فقال ) وهذا كتاب أنزلناه ( وفائدة هذا الوصف أنه كان من الممكن أن يظن أن محمداً مخصوص من الله بعلوم كثيرة يتمكن بسببا من تركيب القرآن على هذا النسق من الفصاحة ، فنفى ذلك الوهم وبين أن الله هو الذي تولى إنزاله بالوحي على لسان جبريل عليه السلام ) مبارك ( كثير خيره دائم نفعه باعث على الخيرات زاجر عن المنكراتلما فيه من أصول العلوم النظرية والعملية .
وقد جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه والمتمسك به يفوز بعز في الدنيا وسعادة في الآخرة وقد جرب فوجد كذلك .
) مصدق الذي بين يديه ( أي موافق لما قبله من الكتب الإلهية .
أما في الأصول فلأنه يمتنع وقوع التفاوت فيها بحسب الأزمنة والأمكنة .
وأما في الفروع فلأنها مشتملة على التبشير بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
ويحصل منه أن التكاليف الموجودة فيها إنما تبقى إلى قوت ظهوره ثم تصير منسوخة ) ولتنذر ( من قرأ بتاء الخطاب فظاهر ، ومن قرأ على الغيبة فلأنه أسند الإنذار إلى الكتاب مجازاً لأنه سبب الإنذار ) إنما أنذركم بالوحي ) [ الأنبياء : 45 ] وهو معطوف على ما دل عليه سائر الأوصاف كأنه قيل : أنزلناه للبركة ولتصديق ما تقدمه من الكتب وللإنذار ، قال ابن عباس : سميت مكة أم القرى لأن الأرضين دحيت من تحتها .
وقال أبو بكر الأصم : لأنها قبلة أهل الدنيا فصارت هي كالأصل وسائر البلاد تبعاً ، وأيضاً الناس يجتمعون إليها للحج وللتجارة كما يجتمع الأولاد إلى الأم .
وقيل : لأن الكعبة أول بيت وضع للناس .
وقيل : إن مكة أول بلدة في الأرض ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي أهل أم القرى ومن حولها .
قيل : المراد أهل جزيرة العرب فاستدل اليهود بذلك على أنه مبعوث إلى العرب فقط .
وأجيب بأن تخصيص هذه المواضع بالذكر لا يدل على نفي ما عداها لا سيما وقد(3/120)
" صفحة رقم 121 "
ثبت بالتواتر أنه كان يدعي أنه رسول إلى العالمين .
ويحتمل أن يقال : ما حوالي مكة يتناول جميع البلاد ) والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ( أي بهذا الكتاب لأن أصل الدين خوف العاقبة فمن خالفها لم يزل به الخوف حتى يؤمن .
وليس لأحد من الأنبياء مبالغة في تقرير قاعدة البعث والقيامة مثل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفيه أن كفار مكة يبعد منهم قبول هذا الدين لأنهم كانوا لا يعتقدون البعث والحشر ) وهم على صلاتهم يحافظون ( يعني أن الإيمان بالآخرة كما أنه يحمل المكلف على الإيمان بالنبي وبالكتاب كذلك يحمله على محافظة الصلوات .
وخص الصلاة بالذكر لأنها عماد الدين وسنام الطاعات كاد المحافظ عليها أن يأتي بأخواتها كلها ويجتنب المنكرات بأسرها .
ثم ذكر ما يدل على وعيد من ادّعى النبوّة وإنزال الكتاب عليه فرية وامتراء فقال ) ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ( قال المفسرون : نزلت في الكذابين مسيلمة الحنفي والأسود العنسي .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( رأيت فيما يرى النائم كأن في يدي سوارين من ذهب فكبرا علي وإهماني .
فأوحى الله إلي أن نفخهما فنفختهما فطارا عني فأوّلتهما الكذابين اللذين أنا بينهما كذاب اليمامة مسيلمة وكذاب صنعاء الأسود العنسي ( ) أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ( كان مسيلمة يقول : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وآله رسول الله في بني قريش ، وأنا رسول الله في بني حنيفة .
واعلم أن العبر بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل من نسب إلى الله تعالى ما هو بريء منه إما في الذات وإما في الصفات وإما في الأفعال كان داخلاً تحت هذا الوعيد ) ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ( قال المفسرون : هو النضر بن الحرث كان يدعي معارضة القرآن وهو قوله ) لو نشاء لقلنا مثل هذا ) [ الأنفال : 31 ] وروي أن عبد الله بن سعد أبي سرح القرشي كان يكتب الوحي لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان إذا تلا عليه ) سميعاً عليماً ( كتب هو ) عليماً حكيماً ( وإذا قال ) عليماً حكيماً ( كتب ) غفوراً رحيماً ( فلما نزل ) ولقد خلقناه الإنسان من سلالة من طين ) [ المؤمنون : 12 ] أملاه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
فلم اوصل إلى قوله ) انشأناه خلقاً آخر ( عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال : تبارك الله أحسن الخالقين فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اكتبها فكذلك نزلت ، فشك عبد الله وقال : لئن كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً لقد أوحي إلي كما أوحي فكذلك نزلت ، فشك عبد الله وقال : لئن كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ، وإن كان كاذباً لقد قلت كما قال فارتد عن الإسلام ولحق بمكة .
فلما دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكة فر إلى عثمان - وكان أخاه من الرضاعة - فغيبه عنده حتى اطمأن أهل(3/121)
" صفحة رقم 122 "
مكة ، ثم أتى به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاستأمن له .
ثم فصل ما أجمل من الوعيد فقال ) ولو ترى ( الآية .
وجوابه محذوف أي لرأي يا إنسان أمراً عظيماً ) إذ الظالمون ( يعني الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة .
فاللام للعهد ، ويحتمل أن تكون للجنس فيندرج هؤلاء فيه .
وغمرات الموت شدائده وسكراته .
وأصل الغمرة ما يغمر من الماء فاستعيرت للشدة الغالبة ) والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم ( قيل : إنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم فما الفائدة في هذا الخطاب ؟ وأجيب بوجوه منها : أن المراد ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى غمرات الموت في الآخرة إذا ما دخلوا جهنم ، وغمرات الموت عبارة عما يصيبهم هناك من أنواع الشدائد والتعذيبات ) والملائكة باسطوا أيديهم ( بالعذاب يكلمونهم يقولون لهم ) أخرجوا أنفسكم ( من هذا العذاب الشديد إن قدرتم .
ومنها ) ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ( عند نزول الموت بهم في الدنيا ) والملائكة باسطو أيديهم ( لقبض أرواحهم يقولون لهم ) أخرجوا أنفسكم ( من هذه الشدائد وخلصوها من هذه الآفات والآلام ، ومنها هاتوا أرواحكم وأخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال ، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملازم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويقول : أخرج إليّ مالي عليك ولا أريم مكاني حتى أنزعه من أحداقك .
ومنها أنه ليس بأمر وإنما هو وعيد وتقريع كقوله القائل : امض الآن لترى ما يحل بك ، والتحقيق أن نفس المؤمن حال النزع تنبسط في الخروج إلى لقاء ربه ، ونفس الكافر تكره ذلك ويشق عليها الخروج ، وقطع التعلق لأنها تصير إلى العذاب وإليه الإشارة في الحديث ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره الله كره الله لقاءه ) فهؤلاء الكفار يكرههم الملائكة على نزع الروح وعلى فراق المألوف .
وفي الآية دلالة على أن النفس الإنسانية شيء غير هذا الهيكل المحسوس ، لأن المخرج يجب أن يكون مغايراً للمخرج منه ) اليوم ( يريد وقت الإماتة أو الوقت الممتد الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة ) تجزون عذاب الهون ( كقولك ( رجل سوء ) بالإضافة لأن العقاب شرطه أن يكون مضرة مقرونة بالإهاة كما أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم ، والتركيب يدور على قلة المبالاة بالشيء ومنه بالفتح السكينة والوقار ، وهان عليه الشيء أي حقر ، وأهانه استخف به ، والاسم الهون بالضم والهوان والمهانة .(3/122)
" صفحة رقم 123 "
والحاصل أنه جمع لهم بين الأمرين الإيلام والإهانة ) بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ( يعني أن هذا العذاب الشديد إنما حل بمجموع الأمرين : الافتراء على الله والتكبر على آيات الله وهو عدم الإيمان بها .
قال الواحدي ) وكنتم عن آياته تستكبرون ( أي لا تصلون له لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سجد لله سجدة واحدة بنية صادقة فقد برىء من الكبر ) .
) ولقد جئتمونا ( يحتمل أن يكون معطوفاً على قول الملائكة ) أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون ( ثم الملائكة إما الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم ، وإما الملائكة الموكلون بعذابهم ، ويحتمل أن يكون القائل هو الله تعالى إن جوزنا أنه يتكلم مع الكفار ) فرادى ( جمع ينون ولا ينوّن واحده .
قيل : فرد على غير قياس : فردان كسكارى وسكران قاله ابن قتيبة .
وقيل : فريد كرديف وردا في وهم الحداة والأعوان لأنه إذا أعيا أحدهم خلفه الآخر ) كما خلقناكم ( أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد ، أو مجيئاً مثل خلقنا لكم .
) أوّل مرة ( والمراد التوبيخ والتقريع لأنهم بذلوا جهدهم وصرفوا كدهم في الدنيا إلى تحصيل أمرين : أحدهما المال والجاه ، والثاني أنهم عبدوا الأصنام وجعلوها شركاء لله فيهم فقلبوا القضية وتركوا الحقيقة ، وذلك أن النفس الإنسانية إنما تعلقت بالجسد ليكون البدن آلة لها في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة ، فإذا فارق البدن ولم يحصل لها هذان المطلبان عظم خسرانها وطال حرمانها فاستحق التوبيخ بقوله ) ولقد جئتمونا فرادى ( أي منفردين عما يجب من الأعمال والعقائد .
ثم إنها مع ذلك اكتسبت أشياء قد علق الراجاء بها لأنه أفنى العمر في تحصيلا وأنها ليست مما يبقى معها فلا جرم استحق التقريع بقوله ) وتركتم ما خوّلناكم ( أي أعطينا وتفضلنا به عليكم ) وراء ظهوركم ( يعني أنها كالشيء الذيي يبقى وراء ظهر الإنسان فلن يمكنه الانتفاع به وربما بقي معوج الرأس بسبب التفاته إليه ) وما نرى معكم شفعاءكم ( أي ليسوا معكم حتى يروا ، أو ليسوا معكم بالشفاعة والنصرة كما زعمتم بدليل قوله ) لقد تقطع بينكم ( الآية .
من قرأ بالنصب على الظرف فمعناه وقع التقطع بينكم كقوله ) وتقطعت بهم الأسباب ) [ البقرة : 166 ] يقال : جمع بين الشيئين أي وقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره .
وقيل : المراد لقد تقطع وصلكم بينكم كقولهم إذا كان غداً فأتني أي إذا كان الرجاء أو البلاء غداً فأتني فأضمر لدلالة الحال ، ومن قرأ بالرفع فلأنه أسند الفعل إلى الظرف اتساعاً كما تقول : قوتل خلفكم وأمامكم ، أو لأن المراد بالبين الوصل وإنما حسن استعماله في معنى الوصلة مع أن أصله الافتراق والتباين لأنه يستعمل في الشيئين اللذين بينهما مشاركة ومواصلة من بعض الوجوه(3/123)
" صفحة رقم 124 "
كقولهم : بيني وبينه مشاركة وبيني وبينه رحم .
والمعنى لقد تقطع وصلكم .
قلت : ويحتمل أن يكون البين بمعنى الافتراق ويفيد المبالغة كقولهم : ( جد جده .
فإذا العاقل من يكسب الزاد ليوم المعاد حتى لا يوبخ بقوله ) ولقد جئتمونا فرادى ( ويصرف المال في وجوه التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله حتى لا يخاطب بقوله ) وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ( بل يكون من زمرة ) وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ) [ المزمل : 20 ] كيلا تطول حسرته يوم ينقطع بين النفس والجسد وصله .
ثم إنه سبحانه لما فرغ من تقرير التوحيد والنبوّة والمعاد عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال قدرته لتعلم أن حال المباحث العقلية والنقلية إنما هو معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله فقال ) أن الله فالق الحب والنوى ( أي بالنبات والشجر. وعن مجاهد أراد الشقين اللذين في الحنطة والنواة ، ولفق هو الشق .
وعن ابن عباس والضحاك : الفلق هو الخلق .
ووجه بأن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انشقاق ، فإخراج الشيء من العدم إلى الوجود شق لذلك العدم وفلق بحسب التخيل والتعقل .
واعلم أنه إذا وقعت الحبة والنواة في الأرض الرطبة ثم مر بها قدر من المدة أظهر الله في أعلاها شقاً ومن أسفلها شقاً ، أما العالي فيخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء ، وأما الساقل فإنه يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض وهي المسماة بعروق الشجرة ، وههنا عجائب منها : أن طبيعة الشجرة إن كانت تقتضي الهويّ في الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة إلى الهواء وبالعكس .
فاتصال الشجرتين على التبادل ليس صلب كثيف لا تنفذ فيه المسلة ولا السكين ، ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق مع غاية نعومتها تقوى على النفوذ والغوص في جرم الأرض ، فحصول هذه القوّة الشديدة للجرم الضعيف ليس إلا بتقدير العزيز العليم .
ومنها أنه يتولد من النواة شجرة ويحصل من الشجرة أغصان وأوراق وأزهار وأثمار ، وللثمر قشر أعلى وقشر أسفل وفيه اللب ، وفي اللب الدهن الذي هو المقصود الأصلي فتولد هذه الأجرام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وطعومها وأشكالها مع تساوي تأثيرات النجوم والطبائع في المادة الواحدة يدل على وجود الفاعل المختار .
ومنها أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة ، فالأتراج قشره حار يابس ولحمه بارد رطب ، وحماضه بارد يابس وبزره حار يابس ، وكذلك العنب قشره وعجمه بارد يابس وماؤه ولحمه حار رطب .
ومنها أنك تجد أحوال الفواكه مختلفة ، فبعضها يكون لبه في الداخل وقشره في الخارج كالجوز واللوز ، وبعضها يكون فاكهته المطلوبة في الخارج والخشبة في الداخل كالخوخ والمشمش ، وبعضها يكون لنواها لب كالخوخ وقد لا يكون كالتمر ، وبعض الفواكه(3/124)
" صفحة رقم 125 "
يكون كله مطلوباً كالتين .
فهذه الأحوال المختلفة والأشكال المتخالفة .
تتضمن حكماً وفوائد لا يعلمها إلا مبدعا. ومنها أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة وجدت في وسطها خطاً واحدا ًمستقيماً يشبه النخاع في بدن الإنسان ولا يزال يستدق حتى يخرج عن إدراك الحس ، ثم ينفصل عن ذلك الخط خطوط دقائق أصغر من الأول ، فكأنه سبحانه أوجد ذلك لتقوى به الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة .
فإذا وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة علمت أن عنايته في إيجاد جملة تلك الشجرة أكثر ، وعلمت أن عنايته بتخليق الحيوان الذي خلق النبات لأجله يكون أكمل ، وكذا عنايته بحال الإنسان الذي خلق لأجله النبات والحيوان ويصير ذلك مرقاة لك إلى وجود الصانع الخبير الحكيم القدير .
ثم بين كونه فالق الحب والنوى بقوله ) يخرج الحي من الميت ( لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجرة الناميين من جنس إخراج الحي من الميت ، لأن النامي في حكم الحيوان ولهذا قال ) يحيي الأرض بعد موتها ) [ الحديد : 17 ] ثم عطف على قوله ) فالق الحب ( قوله ) ومخرج الميت من الحي ( قال ابن عباس : أخرج من النطفة بشراً حياً ثم يخرج من البشر الحي نطفة ، أو يخرج من البيض دجاجة ومن الدجاجة بيضاً ، أو يخرج المؤمن من الكافر كما في حق إبراهيم ، والكافر من المؤمن كنوح وابنه ، أو المطيع من العاصي والعاصي من المطيع ، أو العالم من الجاهل والجاهل من العالم ، أو الكامل من الناقص والناقص من الكامل ، وقد يجعل الضار نافعاً وبالعكس .
يحكى أن إنساناً سقى الأفيون في الشراب ليموت فلما تناوله ظن القوم أنه سموت فرفعوه وجعلوه في بيت مظلم فلدغته حية وصارت تلك اللدغة لقوّة حرارة سم الحية سبباً لدفع ضرر برد الأفيون .
ونقل عن عبد القاهر الجرجاني أن قوله ) ومخرج الميت ( معطوف على قوله ) يخرج ( وإنما حسن عطف الاسم على الفعل ههنا ، لأن لفظ الفعل يدل على اعتناء الفعل بذلك الفعل في كل وقت بخلاف لفظ الاسم ولهذا قال ) هل من خالق غير الله يرزقكم ) [ فاطر : 3 ] ليفيد أنه يرزقهم حالاً فحالاً وساعة فساعة إذا ثبت هذا فنقول الحي أشرف من الميت ، فذكره بلفظ الفعل فيدلدعلى أن الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من العكس ) ذلكم الله ( المدبر الخالق النافع الضار المحيي المييت ) فأنى تؤفكون ( فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره ، أم كيف تستبعدون البعث والنشور لأن الإعادة أهون من الإبداء ؟ ثم عدل عن الأحوال الأرضية إلى الصبح ، المراد فالق ظلمة الإصباح وهو الغبش في آخر الليل وكأن الأفق كان بحراً مملوءاً(3/125)
" صفحة رقم 126 "
من الظلمة .
ثم إنه سبحانه شق ذلك البحر المظلم بأن أجرى فيه جدولاً من النور .
فالمعنى فالق ظلمة الإصباح بنور الإصباح ، وحسن الحذف للعلم به .
أو المراد فالق الإصباح ببياض النهار وإسفاره ومنه قولهم ( انشق عمود الفجر وانصد الفجر ) أو المراد مظهر الإصباح بواسطة فلق الظلمة ، فذكر السبب وأراد المسبب ، أو الفالق بمعنى الخالق كما مر وقد سلف لنا تقرير الصبح في البقرة في تفسير قوله عز من قائل ) إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ) [ البقرة : 164 ] ثم إن كون الصبح بسبب وقوع ضوء الشمس على ضلع مخروط ظل الأرض في جانبه الشرقي لا ينافي كون الله سبحانه فالق الإصباح بالحقيقة ، كما أن وجود النهار بسبب طولع جرم الشمس عن الأفق لا ينافي ذلك ، والإمام فخر الدين الرازي أراد أن يبن أن ذلك بقدرة الفاعل المختار فنفى كونه بسبب ضوء الشمس بحجج اختراعها من عنده وكلها خلاف المعقول والمنقول من علم الرياضة فلذلك أسقطناها عن درجة الاعتبار .
النوع الثاني من الدلائل الفلكية الدالة على التوحيد قوله ) وجاعل الليل سكناً ( حجة من قرأ باسم الفاعل أن المعطوف عليه اسم فاعل ، وحجة من قرأ بصيغة الفعل أن قوله بعد ذلك ) والشمس والقمر ( منصوبان ولا بد من عامل وما ذلك إلا أن يقدر ( جاعل ) بمعنى ( جعل ) .
والسكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن إليه من زوج أو حبيب ومنه قيل للنار : سكن كما سموها المؤنسة لأنها يستأنس بها ، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه .
ويحتمل أن يراد : وجعل الليل مسكوناً فيه كما قال ) لتسكنوا فيه ) [ يونس : 67 ] فالليل والنهار من ضروريات مصالح هذا العالم ، فهما نعمتان من الله تعالى وآيتان على وحدته وقدرته .
النوع الثالث قوله ) والشمس والقمر حسباناً ( أي سببي حسبان لأن حساب الأوقات يعلم بسيرهما ودورهما .
والحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب باكلسر .
وقيل : إنه جمع حساب مثل ( شهاب ) وشهبان ( .
قال في الكشاف : الشمس والقمر قرئا بالحركات الثلاث .
فالنصب على إضمر فعل دل عليه ) جاعل الليل ( أو يعطفان على محل الليل لأن اسم الفاعل أريد به ههنا الاستمرار كما تقول : الله عالم قادر .
فلا تقصد زماناً دون زمان فتكون الإضافة غير حقيقة ويكون لليل محل. قلت : وهذا مناقض لما ذكره في ) مالك يوم الدين ) [ الفاتحة : 3 ] من أنه يجوز أن يراد به زمان مستمر حتى تكون الإضافة حقيقة ، ويصح وقوعه صفة للمعرفة .
وأما وجه الجر فظاهر .
ووجه الرفع كونهما مبتدأين محذوفي الخبر أي ولشمس والقمر مجعولان أو محسوبان حسباناً ) وذلك ( الجعل ) تقدير العزيز ( الذي قهرهما ) العليم ( الذي دبرهما .
وذلك أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيآتها المحددة وأوضاعها المعينة لا يتم إلا بقدرة شاملة لجميع الممكنات وعلم نافذ في الكليات والجزيئات .
النوع الرابع قوله(3/126)
" صفحة رقم 127 "
) وهو الذي جعل لكم النجوم ( عد ههنا من منافع النجوم كونها سبباً للاهتداء إلى الطرق والمسالك ) في ظلمات البر والبحر ( حيث لا يرون شمساً ولا قمراً .
والتقدير في ظلمات الليل بالبر والبحر فأضافها إليهما لملابستها لهما .
وقيل : المراد ظلمات بر التعطيل وبحر التشبيه فإن اختصاص كل من هذه الكواكب بحال وصفة أخرى مع تشاكرها في الجسمية دليل ظاهر على مختار قادر .
وأيضاً اتصافها بالأعضاء والأبعاض والحدود والأحياء مع أنها لا تصلح للإلهية بالاتفاق دليل على تنزيه الله سبحانه من هذه السمات ولهذا قال ) قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ( فيستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب .
ثم عدل عن الآيات الآفاقية إلى آيات الأنفس فقال ) وهو الذي أنشأكم ( أي خلقكم بطريق النشؤ والنماء ) من نفس واحدة ( هي آدم وحوّاء مخلقوة من ضلع من أضلاعه ، وكذا عيسى لأنه من مريم وإن كان يتوسط كلمة ( كن ) أبو بالنفخ وهي من آدم ) فمستقر ( من قرأ مفعول .
ومن قرأبفتح القاف فالتقدير : فلكم مستقر ولكم مستودع .
فيكون كلاهما اسمي مكان أو مصدراً .
وذلك أن استقر لازم فلا يجيء منه المفعول به بلا واسطة فينبغي تفسير مستودع أيضاً بما يشاكله استحساناً .
وعن ابن عباس : أن المستودع الصلب والمستقر الرحم لقوله ) نقر في الأرحام ما نشاء ) [ الحج : 5 ] ولأن اللبث في الرحم أكثر فيكون لفظ القرار بذلك أنسب بخلاف المستودع فإنه في معرض الاسترداد ساعة فساعة ، وهذا شأن المني في الأصلاب فإنه بصدد الإراقة في كل حين وأوان .
وقيل : المستقر صلب الأب والمستودع الرحمن ، لأن النطفة قد حصلت في صلب الأب أوّلاً واستقرت هناك ، ثم حصلت في الرحم على سبيل الوديعة ، ولأن هذا الترتيب يناسب تقديم المستقر على المستودع .
وعن الحسن : المستقر حاله بعد الموت لأن سعادته وشقاوته تبقى وتستقر على حالة واحدة والمستودع حاله قبل الموت ، لأن الكافر قد ينقلب مؤمناً والفاسق صالحاً والوديعة على شرف الزوال والذهاب .
وقال الأصم : المستقر الذي خلق من النفس الأولى وحصل في الوجود والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق .
وعنه أيضاً المستقر من في قرار الدنيا ، والمستودع من في القبور إلى يوم البعث .
وعن قتادة بالعكس .
وعن أبي مسلم الأصفهاني : المستقر الذكر لأن النطفة إنما تستقر في صلبه ، ولمستودع الأنثى لأنها تستودع النطفة .
وحاصل الكلام أن الإنسان خلق من نفس واحدة ثم إنه يتقلب في الأطوار ويتردد في الأحوال ، وليس هذا بمقتضى الطبع والخاصية وإلا لتساوى الكل في الأخلاق والأمزجة فذلك إذن بتدبير(3/127)
" صفحة رقم 128 "
فاعل قدير مختار خبير .
ولهذا قال ) قد فصلنا الآيات ( ميزنا بعضها عن بعض ) لقوم يفقهون ( لأن الفائدة تعود إليهم وإن كان الإرشاد عاماً ، ولأن آيات الأنفس أقرب إلى الاعتبار وأهون لدى الاستبصار ختم هذه الآية بالفقه ، وخصص خاتمة الآية الأولى بالعلم ليعلم أن الغافل عن هذه لا فطنة له ولا ذكاء أصلاً فضلاً عن العلم .
ثم عدد ما كونه نعمة أبين فيه من كونه آية فقال ) وهو الذي أنزل من السماء ماء ( قيل : أي من جانب السماء وقيل : أي من السحاب لأن العرب تسمي كل ما فوقك سماء كسماء البيت .
وقال أكثر أهل الظاهر : أي من السماء نفسها لأنه تعالى فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد .
ونحن قد حكينا في أول سورة البقرة مذهب الحكماء في هذا الباب والله تعالى أعلم .
قال ابن عباس : يريد بالماء ههنا المطر ، ولا تنزل قطرة من السماء إلا ومعها ملك .
والفلاسفة يحملون ذلك على الطبيعة الحالة فيها الموجبة للنزول إلى مركزها .
) فأخرجنا به ( أي بواسطة ذلك الماء وذلك يوجب الطبع والمتكلمون ينكرونه ) نبات كل شيء ( قال الفراء : أي نبات كل شيء له نبات فيخصص بنبت كل صنف من أصناف النامي ويخرج ما عدا ذلك .
وفي الآية التفاتان : الأول من الحكاية إلى الغيبة يث لم يقل ( نحن الذين أنزلنا ) والثاني من الغيبة إلى الحكاية وأنت خبير أن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب باب من أبواب البلاغة ، وصيغة الجمع لأجل التعظيم كما هو ديدن الملوك .
ثم لما بين أن السبب وهو الماء واحد والمسببات صنوف كثيرة فصل ذلك بعض التفصيل حسب ما ذكر في قوله ) إن الله فالق الحب والنوى ( فقال ) فأخرجنا منه ( أي من النبات ) خضراً ( شيئاً أخضر طرياً وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة .
) نخرج منه ( أي من ذلك الخضر ) حباً متراكباً ( بعضه على بعض .
قال ابن عباس : يريد القمح والشعير والسلت والذرة ، فأصل ذلك هو العود الأخضر وتكون السنبلة راكبة عليه من فوقه والحبات متراكبة وفوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كالإبر .
والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة .
ولما ذكر ما نبت من الحب أتبعه ذكر ما ينبت من النوى فقال ) ومن النخل ( وهو خبر وقوله ( من طلعها ( بدل منه كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل ) قنوان ( أو الخبر محذوف لدلالة أخرجنا عليه .
والتقدير : ومخرجة من طلع النخل قنوان وهو جمع قنو كصنوان وصنو .
والقنو العذق وهو من التمر بمنزلة العنقود من العنب ، والطلع أول ما يبدو من غذق النخلة .
قال ابن عباس : يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية من تحتها .
وعنه أيضاً أنه أراد عذوق النخلة اللاصقة بالأرض .
قال الزجاج : ولم يقل ومنها قنوان بعيدة لأن أحد القسمين يغني عن الآخر كما قال ) سرابيل تقيكم الحر ) [ النحل : 81 ] ويحتمل أن يقال : ترك البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأتم .
وقيل : أراد بكونها دانية أنا سهلة(3/128)
" صفحة رقم 129 "
المجتنى متعرضة للقاطف كالشيء الداني القريب المتناول ، وأن النخلة وإن انت صغيرة ينالها القاعدة فإنها بالثمر لا تنتظر الطول ) وجنات من أعناب ( بالنصب عطفاً على ) خضراً ( أي وأخرجنا به جنات من أعناب .
ومن قرأ بالرفع فعلى أنا مبتدأ محذوف الخبر أي وثم جنات من أعناب ، أو وجنات من أعناب مخرجة ، ولا يجوز أن يكون عطفاً على قنوان وإن جوّزه في الكشاف ، إذا يصير المعنى وحاصلة أو مخرجة من النخل من طلعها جنات حصلت من أعناب .
أما قوله ) والزيتون والرمان ( بالنصب فللعطف على منصوبات قبلها أو للاختصاص لفضل هذين الصنفين .
قال الفراء : أراد شجر الزيتون وشجر الرمان فحذف المضاف .
والعم أنه سبحانه قدم الزرع على الأشجار لأأنه غذاء وثمار الأشجار فواكه والغذاء مقدم على الفواكه ، ثم قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يقوم مقام الغذاء ولا سيما للعرب .
ومن فضائلها أن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوانات مشابهات كثرة ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من بقية طينة آدم ) ثم ذكر العنب عقيب النخل لأنه أشرف أنواع الفواكه وأنه ينتفع به من أوّل ظهوره إلى آخر حاله .
فأوّله خيوط دقيقة حامضة الطعم لذيذة وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه ، ثم يظهر الحصرم وهو طعام شريف للأصحاء وللمرضى من أصحاب الصفراء ، ثم يتم العنب فيؤكل كما هو ويدخر ويتخذ منه الزبيب والدبس والخمر والخل ومنافع كل منها لا تحصى ، إلا أن الخمر حرمها الشرع لإسكارها .
وأخس ما في العنب عجمه والأطباء يتخذون منه جوارشنات نافعة للمعدة الضعيفة الرطبة .
ويتلو العنب في المنفعة الزيتون لأنه يمكن تناوله كما هو ، وينفصل منه الزيت الذي يعظم غناؤه ، وأما الرمان فحاله عجيبة جداً لأنه قشر وشحم وعجم وماء .
والثلاثة الأول باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة ، وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات وأنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة ، وفيه تقوية للمزاج الضعيف وهو غذاء من وجه ودواء من وجه ، وكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين فيكون دلالة القدرة والرحمة والحكمة فيه أكمل وأنواع النبات أكثر من أن يفي بشرحها المجلدات فاكتفى بذكر هذه الأنواع الخمسة تنبيهاً على البواقي .
وأما قوله ) مشتبهاً وغير متشابه ( ففي تفسيره وجوه الأوّل أن هذه الفواكه تكون متشابهة في اللون والشكل مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذّة ، فإن الأعناب والرمان قد تكون متشابهة في الصورة واللون والشكل ثم إنها تكون مختلفة في الحلاوة والحموضة بالعكس .
الثاني أن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القشر والعجم متشابهاً في الطعم والخاصية ، وأما ما فيها من اللحم والرطوبة فإنها تكون مختلفة ، ومنهم من يقول : الأشجار متشابهة والثمار مختلفة .
ومنهم من قال : بعض حبات العنقود متشابهة وبعضها غير متشابه وذلك أنك قد تأخذ العنقود من(3/129)
" صفحة رقم 130 "
العنب فترى جميع حباته مدركة نضيجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة فإنها بقيت على أوّل حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة ، ومعنى اشتبه وتشابه واحد يقال : اشتبه الشيئان وتشابها كقولك : استويا وتساويا .
وإنما قال ) مشتبهاً ( ولم يقل ( مشتبهين ) إما اكتفاء بوصف أحدهما ، أو على تقدير والزيتون مشتبهاً وغير متشابه والرمان كذلك كقوله :
رماني بأمر كنت ووالدي
بريئا ومن أجل الطويّ رماني
) انظروا إلى ثمره ( من قرأ بفتحتين فلأنه جمع ثمرة مثل : بقر وبقرة ، وضجر وشجرة .
ومن قرأ بضمتين فعلى أنه جمع ثمرة أيضاً مثل : خشبة وخسب .
قال تعالى ) كأنهم خشب مسندة ) [ المنافقون : 4 ] أوعلى أن ثمرة جمعت على ثمار ثم جمع ثمار على ثمر ) إذا أثمر ( إذا أخرج ثمره ) وينعه ( يقال : ينعت الثمرة ينعاً وينعاً بالفتح والضم إذا أدركت ونضجت .
أمر بالنظر في حال ثمر كل شجرة أوّل حدوثها وفي آخر حالها فإنها قد تكون موصوفة بالخضرة والحموضة ثم تصير إلى السواد والحلاوة ، وربما كات أوّل الأمر باردة بحسب الطبيعة ثم تصير حارة الطبع وقد يخرج ضيئلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به ، ثم يؤل إلى كمال اللذة والمنفعة فحصول هذه الانتقالات والتغيرات لا بد له من سبب مستقل في التأثير سوى الطبائع والفصول والأفلاك والنجوم وما ذاك إلا السبب الأوّل ومبدع الكل ، ولهذا ختم الآية بقوله ) إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ( قال القاضي : المراد لمن يطلب بالإيمان بالله لأنه آيةى لمن آمن ولمن لم يؤمن ، ويحتمل أن يقال : خص المؤمنين لأنهم المنتفعون بذلك دون غيرهم ، أو المراد أن هذه الدلالة على قوذتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله تعالى في حقه بالإيمان وإلا فلا ينتفع به ألبتة ويكون من زمرة من قال في حقهم ) وجعلوا الله شركاء الجن ( قال الكلبي : عن ابن عباس نزلت في الزنادقة قالوا إن الله تعالى وإبليس إخوان ، فالله خالق الناس والدواب والأنعام ، وإبليس خالق الحيات والسباع والعقارب .
قال في التفسير الكبير : هذا مذهب المجوس فإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة لأن المجوس يلقبون بالزنادقة لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله يسمى بالزند والمنسوب إليه زندي ، ثم عرّب فقيل زنديق ، ثم جمع فقيل زنادقة ، ثم إنهم قالوا كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان ، وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن وهو المسمى بإبليس في شرعنا ، ثم اختلفوا فالأكثرون منهم على أن أهرمن محدث ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة كقولهم إنه تعالى فكر في مملكة نفسه واستعظمها ففعل نوعاً من العجب فتولد الشيطان من ذلك العجب ، وكقولهم شك في قدرة(3/130)
" صفحة رقم 131 "
نفسه فتولد من شكه الشيطان .
والأقلون منهم قالوا إنه قديم أزلي والحاصل أنهم يقولون : عسكر الله تعالى هم الملائكة ، وعسكر إبليس هم الشياطين والملائكة فيهم كثرة عظيمة وهم أرواح طاهرة مقدسة تلهم الأرواح البشرية الطاعات ، والشياطين فيهم أيضاً كثرة عظيمة يلقون الوساوس إلى الأرواح البشرية ، والله تعالى مع عسكره يحاربون إبليس مع عسكره فلهذا السبب حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء من الجن بلفظ الجمع وإن كان شريكه عندهم بالحقيقة واحداً وهو أهرمن .
وانتصاب ) الجن ( على أنه بدل أو بيان لشركاء أو على أنه مفعول أول ل ) جعلوا ( و ) شركاء ( ثانيه ويكون ) لله ( طرفاً لغواً .
وفائدة تقديم المفعول الثاني على هذا القول استعظام أن يتخذ لله شريك كائناً من كان ، ملكاً أو جنياً أو إنسياً ، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء .
وقرىء ) الجن ( بالرفع كأنه قيل : من هم ؟ فقيلك الجن .
وبالجر على الإضافة التي للتبيين .
وقيل : إن الآية نزلت في الكفار الذين جعلوا الملائكة بنات الله .
وحسن إطلاق الجن على الملائكة لاستتارهم عن العيون .
ومعنى كونهم شركاء أنها مدبرة لأحوال هذا العالم ومعينة لله إعانة الولد للوالد .
وعن الحسن وطائفة من المفسرين : أن المراد أن الجن دعوا الكفار إلى عبادة الأصنام وإلى القول بالشركة فأطاعوهم كما يطاع الله .
أما قوله ) وخلقهم ( فإشارة إلى الدليل القاطع على إبطال الشريك .
والضمير فيه إما أن يعود إلى الجن أو إلى الجاعلين لإإن عاد إلى الجن فإن قلنا إن الآية نزلت في المجوس فتقريره أن ما سوى الحق الواحد ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فهو محدث ، فنقول حينئذ ، كل محدث مخلوق وله خالق وما ذاك إلا الله سبحانه ، وحينئذ يلزمهم نقض قولهم لأنه ثبت أن إله الخير قد فعل أعظم الشرور وهو خلق إبليس الذي هو مادة كل شر. وإن قلنا .
إنها نزلت في كفار العرب القائلين الملائكة بنات الله ، فظاهر لأنهم يسلمون أن الملائكة مخلقون وأنهم تولدوا منه تولد الولد من الوالد .
وإن عاد الضمير إلى الجاعلين فالمعنى .
وعلموا أن الله خلقهم دون الجن كقوله ) ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ) [ لقمان : 25 ] ولم يمنعهم علمهم أن يتّخذوا من لا يخلق شريكاً للخالق .
والجملة في موضع الحال أي وقد خلقهم .
وقرىء ) وخلقهم ( بسكون اللام أي اختلاقهم للإفك يعن يجعلو لله خلقهم حيث نسبوا قبائهم إلى الله في قولهم ) والله أمرنا بها ) [ الأعراف : 28 ] ثم حكي عن قوم آخرين نوعاً آخر من الإشراك فقال ) وخرقوا له بنين وبنات ( وذلك قول أهل الكتابين في المسيح وعزير ، وقول قريش في الملائكة ، ومن هنا يعلم ضعف قول من قال ) وجعلوا لله شركاء الجن ( نزل في كفار قريش لأنه لزم التكرار من غير فائدة ظاهرة ، يقال : خرق الإفك وخلقه وخلقه واخترقه واختلقه(3/131)
" صفحة رقم 132 "
بمعنى .
قال الحسن : كلمة عربية كان الرجل ، إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهمك قد خرقها والله أعلم. ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا له بنين وبنات .
أما قوله ) بغير علم ( فكالتنبيه على إبطال قولهم ، فإن من عرف الإله حق معرفته استحال أن يثبت له ولداً لأن ذلك الولد إن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلاً بنفسه قائماً بذاته لا تعلق له في وجوده بالآخرة تعلق الفرعية ، وإن كان ممكن الوجود لذاته كان موجوداً بإيجاد الواجب وكان عبداً له ولا ولداً .
وأيضاً الولد إنما يحتاج إليه ليقوم مقام الوالد بعد فنائه ومن تقدس عن الفناء لم يحتج إلى الولد .
وأيضاً الولد جزء من أجزاء الوالد ومن لم يكن مركباً استحال أن ينفصل منه جزء يتولد منه الولد .
ثم نزه نفسه عما لا يليق به فقال ) سبحانه ( وهذا على لسان المسبحين ) وتعالى عما يصفون ( وهذا له في نفسه سواء سبحه مسبح أم لا .
والمراد بالتعالي العو بالشرف والرفعة بدليل قوله عما يصفون .
التأويل : ( وما قدروا الله حق قدره ( حين أنكروا إنزال الكتب والبعثة على أنهم لو اعترفوا بذلك أيضاً لم يعرفوه حق معرفته لأن المحاط لا يحيط بالمحيط .
نعم تزداد معرفته بازدياد معرفة أوصافه ) تجعلونه قراطيس ( أي في القراطيس ، وما يجعلونه في قلوبهم بالتخلق بأخلاقه ) وعلمتم ( بتعليم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ( كقوله ) ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) [ البقرة : 151 ] ومن الحكمة ما هو سره الذي يكون تعليمه بسر المتابعة سراً بسر وإضماراً بإضمار ، والذي علم النبي هو الله وعلى الخواص بأن يهديهم إلى ربهم ، وعلى خواص الخواص بأن يوصلهم إلى ربهم ويخلقهم بأخلاقه ، وفي كتاب المحبوب شفاء لما في القلوب ) مصدق الذي بين يديه ( لأنه يصدق حقائق جميع ما في الكتب ) ولتنذر أم القرى ( وهي الذرة المودعة في القلب التي هي المخاطب في الميثاق وقد دحيت جميع أرض القلب من تحتها ) ومن حولها ( من الجوارح والأعضاء والسمع والبصر والفؤاد والصفات والأخلاق بأن يتنوّروا بأنواره ونتفعوا بأسراره ويتخلقوا بأخلاقه .
) والذين يؤمنون بالآخرة ( فيستعملون الأدوات والآلات في أمور الدين والآخرة لا في الدنيا الفانية وشهوات النفس وهواها ) يؤمنون ( بالقرآن ) وهم على صلاتهم ( بالترقي في صفاتهم إلى التخلق بأخلاق القرآن يداومون ، فإن الصلاة معراج المؤمن ) ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ( بإظهار المواجد والحالات رياء ومراء من غير أن يكون له منها نصيب ، ) أو قال أوحي أليّ ( الإشارات ولم يلهم نفسه شيئاً منها ، ومن قال متشدّقاً متفيهقاً سأتكلم بمثل كلام الله من الحقائق والأسرار فتظهر مضرة ظلمة وافترائه عند(3/132)
" صفحة رقم 133 "
سكرات الموت ، وانقطاع تعلق الروح عن البدن ، وإخراج النفس عن القالب كرهاً لتعلقها بالشهوات واللذات وطلب الرياسات ، ويكون شدة النزع والهوان بحسب التعلقات ) ولقد جئتمونا فرادى ( عن الدنيا وما يتعلق بها ، أو فرادى عن تعلقات الكونين ) كما خلقناكم أوّل مرة ( في أوّل خلقة الروح قبل تعلقه بالقالب .
) وتركتم ( بالتجريد عن الدنيا وبالتفريد عن الدنيا والآخرة ) ما خولناكم ( من تعلق الكونين ( وراء ظهوركم وما نرى معكم ( الأعمال والأحوال التي ظننتم أنها توصلكم إلى الله ) لقد تقطع بينكم ( وبينها عند انتهاء سيركم كما انتهى سير جبريل عند سدرة المنتهى ، وحينئذ لا يل إلى الوحدة إلا بجذبة ) ارجعي إلى ربك ) [ الفجر : 28 ] ولو لم تدركه الجذبة المسندة إلى العناية لانقطع عن السير في الله بالله ونفى السدرة وهو يقول ) وما منا إلا له مقام معلوم ) [ الصافات : 164 ] ( ان الله فالق ( حبة الذرة التي أخذ منها الميثاق المودعة في حبة القلب عن نبات المحبة ، وفالق النوى ذكر لا إله إلا الله في أرض القلب عن شجرة الإيمان ، كلمة طيبة كشجرة طيبة يخرج نبات المحبة التي هي من صافت الحي القيوم من الذرة الميتة الإنسانية ، ومخرج الأفعال الطبيعية التي هي من صفات الكفار الموتى من المؤمن الحق في الدارين .
وأيضاً يخرج نخل الإيمان الحق من نوى الحروف الميتة في كلمة لا إله إلا الله ، ومخرج ميت النفاق من الكلمة الحية وهي لا غله إلا الله ) فالق الإصباح ( فالق ظلمة الجمادية بصباح العقل والحياة والرشاد ، وفالق ظلمة الجهالة بصباح الفهم والإدراك ، وفالق ظلمات العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى صحبة عالم الأفلاك ، وفالق ظلمات الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات .
وبالجملة فالق أنوار الروح عن ظلمة ليل البشرية ، وجاعل ليل البشرية ستراً عن ضياء شمس الروح ليسكن فيه النفس الحيوانية والأوصاف البشرية ) والشمس والقمر حسباناً ( يعني تجلي شمس الروحانية وطلوع قمر القلب بالحساب لئلا يفسد أمر القلب والقالب .
وأيضاً تجلى شمس الربوبية وطلوع قمر الروحانية لليل البشرية بالحساب لئلا يفسد أمر الدين والدنيا على العبد بالتفريط والإفراط ، فإن إفراط طلوع شموس المعارف والشهود آفة ( أنا الحق وسبحاني ) وفي تفريطه آفة أنا ربكم الأعلى وعبادة الهوى .
) ذلك تقدير العزيز ( الذي لا يهتدى إليه إلا به ) العليم ( بمن يتسحق الاهتداء إليه ) وهو الذي جعل لكم النجوم ( نجوم أنوار الغيوب في سموات القلوب ) لتهتدوا بها في ظلمات ( بر البشرية وبحر الروحانية إلى عالم الربوبية .
) وهو الذي أنشأ ( أرواحكم من روح واحد هو روح محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( أول ما خلق الله روحي كما خلق أجسادكم من جسد واحد هو جسد آدم أبي البشر ) فمن الأرواح ما تعلق بالأجساد واستقر وما هو بعد(3/133)
" صفحة رقم 134 "
مستودع في عالم الأرواح .
وأيضاً من الأرواح ما هو مستقر فيه نور صفة الإيمان وما هو مستودع فيه جذبات الحق ، ومنها ما هو مستقر في أنانيته مع علو رتبته بالبقاء وما هو مستودع أنانيته بالفناء ، وما هو مستقر ببقاء الحق باق وما هو مستودع في بقاء البقاء عن الفناء ) قد فصلنا ( دلالات الوصول في الوصال ) لقوم يفقهون ( إشارات القلوب ) وهو الذي أنزل ( من سماء العناية ) ماء ( الهداية ) فأخرجنا به نبات كل شيء ( من أنواع المعارف ) فأخرجنا منه خضراً ( طرياً من المعاني والأسرار ) يخرج به ( من الحقائق ما تركب بعضها بعضها فترتب بعضها على بعض ) ومن النخل ( يعني أصحاب الولايات من طلعها ( من ثمرات ولايتهم ما هو متدان للطالبين أي منهم من يكون مريئاً فينتفع بثمرات ولايته ، ومنهم من يختار العزلة والانقطاع عن المريدين .
) وجنات ( يريد أرباب الزهد والتقوى والفتوّة الذين لم يبلغوا رتبة الولاية من أعناب الاجتهاد وزيتون الأصول ورمان الفروع ) مشتبهاً ( أي متفقاً في الأصول والفروع ) وغير متشابه ( أي مختلفاً فيما بين العلماء ) انظروا ( إلى ثمر الولايات كيف ينتفع به الخواص والعوام ) وينعه ( أي الكامل منها .
) إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ( بأحوالهم وينتفعون بأموالهم وأحوالهم .
) وجعلوا لله ( إشارة إلى أنه كما يخرج بماء اللطف من أرض القلوب لأربابها أنواع الكمالات كذلك يخرج بماء القهر من أرض النفوس لأصحابها أنواع الضلالات .
( الأنعام : ( 101 - 110 ) بديع السماوات والأرض . . . .
" بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون "
( القراآت )
ولم يكن ( بياء الغيبة : قتيبة ) درست ( بتاء التأنيث : ابن عامر وسهل ويعقوب ) دارست ( بتاء الخطاب من المدارسة : ابن كثير وابو عمرو .
والباقون بتاء الخطاب ) درست ( من الدرس .
) عدوّاً ((3/134)
" صفحة رقم 135 "
على فعول بالضم : يعقوب .
الباقون ) عدوا ( على فعل .
) إنها إذا جاءت ( بالكسر : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وخلف وقتيبة ونصير وأبو بكر وحماد .
الباقون : بالفتح .
) لا تؤمنون ( بتاء الخطاب : ابن عامر وحمزة .
الباقون : على الغيبة .
الوقوف : ( والأرض ( ط ) صاحبة ( ط ) كل شيء ( ط لاحتمال الواو الحال والاستئناف ) عليهم ( ط ) ربكم ( ط لاحتمال الجملة الاستئناف والحال والعامل معنى الإشارة ) إلا هو ( ط لأن قوله ) خالق ( بدل من الضمير المستثنى أو خبر ضمير محذوف ) فاعبدوه ( ط لاحتمال الواو الحال والاستئناف ) وكيل ( ه ) لا تدركه الأبصار ( ج لاختلاف الجملتين مع أن الثانية من تمام المقصود ) يدرك الأبصار ( ط لاحتمال الواو الاستئناف والحال أي يدرك الأبصار لطيفاً خبيراً .
) الخبير ( ه ) من ربكم ( ط لابتداء الشرط مع فاء التعقيب ) فلنفسه ( ط كذلك مع الواو .
) فعليها ( ط ) بحفيظ ( ه ) يعلمون ( ه ) من ربك ( ط لاحتمال الجملة الحال والاستناف على أنها جملة معترضة ) إلا هو ( ط للعطف مع العارض ) المشركين ( ه ) ما أشركوا ( ط ) حفيظاً ( ط للابتداء بالنفي مع اتحاد المعنى ) بوكيل ( ه ) بغير علم ( ط ) يعلمون ( ه ) ليؤمنوا بها ( ط ) وما يشعركم ( ط لمن قرأ ) إنها ( بكسر الألف .
لا يؤمنون ( ه ) يعمهون ( ه .
التفسير : لما نبه إجمالاً بغير علم على الدليل على إبطال قول من خرق له بنين وبنات ، فصل ذلك بقوله ) بديع السموات والأرض ( الآية .
والمراد هو بديع السموات ، ويجوز أن يكون ) بديع ( مبتدأ والجملة بعده خبره .
وتقرير الدليل أنكم إما أن تريدوا بكون عيسى ولداً له أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غيره تقدم نطفة ولا أب وحينئذ يلزمكم القول بأنه والد السموات والأرض بكونه مبدعاً لهما وهذا باطل بالاتفاق ، وإما أن تريدوا به الولادة كما هو المألوف في الحيوانات وهذا أيضاً محال لأن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة من جنسه وينفصل منه جزء يحتبس في رحمها ، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والحد والنهاية والشهوة واللذة ، وكل ذلك على الله محال وأشار إلى هذا بقوله ) أنى يكو له ولد ولم تكن له صاحبة ( وأيضاً الولد بهذا الطريق إنما يتصور في حق من لا يقدر على خلق الأشياء دفعة واحدة ، أما الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون فذلك في حقه مستحيل ، وإلى هذا أشار بقوله ) خلق كل شيء ( وأيضاً هذا الولد لا يكون أزلياً وإلا كان واجباً لذاته غنياً عن غيره فبقي أن يكون حادثاً فنقول : إنه تعالى عالم بكل المعلومات أزلاً وأبداً كما قال ) وهو بكل شيء عليم ( فإن كان قد علم أن له في تحصيل ذلك الولد كمالاً أو نفعاً أو لذة لتعلقت(3/135)
" صفحة رقم 136 "
إرادته بإيجاده في الأزل دفعاً لذلك الاحتياج والنقصان ، فيكون الولد أزلياً على تقديره كونه حادثاً هذا خلف ، فتبين أن إله العالم فرد واحد صمد منزه عن الشريك والنظير والأضداد والأنداد والأولاد ، فلهذا صرح بالنتيجة فقال ) ذلكم الله ( فاسم الإشارة مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم الموصوف الجامع لتلك الصفات المقدسة هو الله إلى آخره .
وإنما قال ههنا ) لا إهل إلا هو خالق كل شيء ( وفي ( المؤمن ) بالعكس لأنه وقع ههنا بعد ذكر الشركاء والبنين والبنات فكان رفع الشرك أهم ، وهنالك وقع بعد ذكر خلق السموات والأرض فكان تقديم الخالقية أهم .
ثم قال ) فاعبدوه ( وهو مسبب عن مضمون الجملة المقتدمة يعني أن من استجمعت له هذه الكمالات كان حقيقاً بالعبادة ) وهو ( مع تلك الصفات ) على كل شيء وكيل ( يحفظه ويرزقه ويراقبه .
قال في ا لتفسير الكبير : إنه سبحانه أقام الدليل على وجود الخالق ، ثم زيف طريق من أثبت له شريكاً وهذا القدر لا يوجب التوحيد المحض لكن للعلماء في إثبات التويحد طرق منها : أن الدليل قد دل على وجود صانع ، والزائد على الواحد لم يدل دليل على ثبوته فليس عدد أولي من عدد آخر فيلزم آلهة لا نهاية لها ، أو القول بعدد معين بلا ترجيح وكلاهما محال فلم يبق إلا الاكتفاء بواحد وهو المطلوب .
و منها أنا لو قدّرنا إلهين قادرين على كل المقدورات عالمين بكل المعلومات ، فكل فعل يفعله أحدهما صار كونه فاعلاً لذلك الفعل مانعاً للآخر من تحصيل مقدوره وذلك يوجب أن يكون كل واحد يعجز الآخر وهو محال ، وإن كان في أحدهما عجز ونقص لم يصلح للإلهية .
ومنها أنا لو فرضنا إلهاً ثانياً فكان إما أن يكون الثاني مشاركاً للأوّل في جميع صفات الكمال أولا .
وعلى الأول لا بد أن يحصل الامتياز بأمر وإلا لم يحصل التعدد ، وإن كان من صفات الكمال لم يكن جيمع صفات الكمال مشتركة بينما ، وإن كان من صفات النقص فالموصوف به لا يصلح للإلهية وكذا إن لم يكن الثاني مشاركاً للأوّل في جميع صفات الكمال فثبت التوحيد بهذه الدلائل ، مع أن الدليل النقلي في التوحيد كاف والله أعلم .
قالت الأشاعرة : عموم قوله ) خالق كل شيء ( يدل على أنه خالق أفعال العباد. وقالت المعتزلة : إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح ولكنه لا يتمدح بخلق الزنا والكفر واللواط ، وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً .
وأيضاً احتج كثير من المعتزلة به على نفي الصفات وعلى أن القرآن مخلوق .
أما الثاني فلأن القرآن شيء فيدخل تحت العموم .
وأما الأوّل فلأن الصفات لو كانت موجودة له تعالى لزم أن تكون مخلوقة له .
وأجيب بأنكم تخصصون هذاالعام بحسب ذاته ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقاً لنفسه وبحسب أفعال العباد ، فنحن أيضاً نخصصه بحسب الصفات وبحسب القرآن .
وأما الفرق بين قوله ) وخلق(3/136)
" صفحة رقم 137 "
كل شيء ( وقوله ( خالق كل شيء ( فذلك لأن الأول يتعلق بالزمان الماضي ، والثاني يتناول الأوقات كلها على سبيل الاستمرار .
ثم بين أن شيئاً من القوى المدركة لا يحيط بحقيقته وأن عقلاً من العقول لا يقف على كنه صمديته فقال ) لا تدركه الأبصار ( هذه الآية من مشهورات استدلالات المعتزلة على نفي رؤيته تعالى .
قالوا : الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية بدليل أن قول القائل : أدركته ببصري وما رأيته متناقضان .
ثم إن قوله ) لا تدركه الأبصار ( يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال بدليل صحة الاستثناء .
وأيضاً أنه ذكر الآية في معرض المدح والثناء ، وكل ما كان عدمه مدحاً ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصاً كقوله ) لا تأخذه سنة ولا نوم ) [ البقرة : 255 ] ( لم يلد ولم يولد ) [ الصمد : 3 ] فوجب كون الرؤية نقصاً في حقه تعالى .
وإنما قيدوا بما لا يكون من باب الفعل لأنه تعالى يمتدح بنفي الظلم عن نفسه في قوله ) وما ربك بظلام للعبيد ) [ فصلت : 46 ] مع أنه تعالى قادر على الظلم عندهم .
وأجيب بالمنع من أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لأنه في أصل اللغة موضع للوصول واللحوق ومنه ) قال أصحاب موسى أنا لمدركون ) [ الشعراء : 61 ] أي لملحقون وقوله تعالى ) حتى إذا أدركه الغرق ) [ يونس : 90 ] أي لحقه .
وأدرك الغلام أي بلغ ، وأدركت الصمرة إذا نضجت .
وإذا قد ثبت ذلك فنقول : الرؤية جنس والإدراك أي إدراك البصر رؤية مع الإحاطة .
ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام ، فلا يلزم من نفي إدراك البصر نفي الرؤية .
سلمنا أن إدراك البصرة عبارة عن الرؤية لكن قوله ) لا تدركه الأبصار ( لا يفيد إلا نفي العموم وأنتم تدعون عموم النفي فأين ذاك من هذا .
وإنما قلنا إنه لا يفيد إلا نفي العموم لأن صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق فقد تحمل على المعهود السابق أيضاً .
فقوله ) لا تدركه الأبصار ( يفيد أنها لا تدركه في يدركه جميع الأبصار يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب ، فلم لا يجوز أن يفيد أنه يدركه بعض الأبصار كما لو قيل إن محمداً ما آمن به كل الناس فإنه يفيد أنه آمن به بعض الناس ، سلمنا أن أن الأبصار لا تدركه البتة فلم لا يجوز حصول غدراك الله تعالى بحاسة سادسة يخلقها الله تعلى يوم القيامة كما هو مذهب ضرار بن عمرو الكوفي .
أو نقول : سلمنا أن الأبصار لا تدركه فلم قلتم إن المبصرين لا يدركونه ، أما قولهم إن الآية مذكورة في معرض المدح فنقول : لو لم يكن الله تعالى جائز الرؤية لما حصل المدح بقوله ) لا تدركه الأبصار ( لغاية جلاله ونهاية جماله .
والتحقيق فيه أن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجباً(3/137)
" صفحة رقم 138 "
للمدح والعلم به ضروري ، بل إذا كان النفي دليلاً على حصول صفة ثابتة من صفات المدح قيل : طإن ذلك النفي يوجب التمدح كقوله ) لا تأخذه سة ولا نوم ) [ البقرة : 255 ] فإنه لا يفيد المدح نظراً إلى هذا النفي ، فإن الجماد أيضاً لا تأخذه سنة ولا نوم إلا أن هذا النفي في حق الباري تعالى يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات من غير تبدل والا زوال .
فقوله ) لا تدركه الأبصار ( يمتنع أن يفيد المدح إلا إذا دل على معنى موجود وذلك ما قلناه من كونه قادراً على حجب الأبصار ومنعها عن الإحاطة به ، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية عليكم لا لكم لأنها أفادت أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته .
ثم نقول : إذ ثبت ذلك يجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة لأن القائل قائلان : قائل بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه ، وقائل لا يرونه ولا تجوز رؤيته ، وإذا بطل هذا القول يبقى الأول حقاً لأن القول بجواز رؤيته مع أنه لا يراه أحد قول لم يقل به أحد وهذا استدلال لطيف .
ثم إن القاضي استدل ههنا على نفي الرؤية بوجوه أخر خارجة عن التفسير لائقة بالأصول .
فأولها أن الحاسة إذا كانت سليمة وكان المرئي حاضراً وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة - وهو أن لا يحصل القرب القريب والبعد البعيد وارتفع الحجاب وكان المرئي مقابلاً أو في حكم المقابل - فإنه يجب حصول الرؤية ولا لجاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبول ونحن لا نسمعها ولا نراها ، وهذا يوجب السفسطة إذا ثبت هذا فنقول : القرب القريب والبعد البيعد والحجاب والمقابلة في حقه تعالى ممتنع ، فلو صحت رؤيته كان المقتضي لحصول تلك الرؤية سلامة الحاسة وكون المرئي بحيث يصح رؤيته ، وهذان المعنيان حصلان في هذا الوقت فوجب أن تحصل رؤيته ، وحيث لم تحصل علمنا أن رؤيته ممتنعة في نفسها .
وأجيب بأن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوابت ولا يلزم من ثبوت حكم لشيء ثبوت مثله فيما يخالفه .
وثانيها لو صحت رؤيته لأهل الجنة لرآه أهل النار أيضاً لأن القرب والبعد والحجاب ممتنع في حقه تعالى .
وأجيب لأنه لم لا يجوز أن يخلق الله تعالى الرؤية في عيون أل الجنة ولا يخلقها في عيون أهل النار ؟ وثالثها أن ما كان مرئياً كان مقابلاً أو في حكم المقابل ، والله تعالى منزه عن ذلك .
وأجيب بمنع الكلية وبأنه إعادة لعين الدعوى لأن النزاع واقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصاً بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا .
ورابعها أن أهل الجنة لا يلزم أن يروه في كل حال حتى عند الجماع لأن القرب والبعد عليه تعالى محال ، ولأن رؤيته أعظم اللذات وفوات ذلك يوجب الغم والحزن وذلك لا يليق بحال أهل الجنة .
وأجيب بأنهم لعلهم يشتهون الرؤية في حال دون حال كسائر الملاذ والمنافع .
( في تعديد الوجوه الدالة على جواز الرؤية ) : منها هذه الآية كما بينا .
ومنها أن موسى(3/138)
" صفحة رقم 139 "
عليه السلام طلب الرؤية فدل ذلك على جوازها .
ومنها أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز .
ومنها قوله ) للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ الكهف : 110 ] قد اتفق الجمهور على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآله فسر الحسنى بالجنة والزيادة بالرؤية ، ومنها قوله ) فمن كان يرجوا لقاء ربه ) [ الكهف : 11 ] ونحو ذلك من الآيات الدالة على اللقاء ، ومنها قوله ) كانت لهم جنات الفروس نزلاً ) [ الكهف : 107 ] والاقتصار على النزل لا يجوز فالزائد على جنات الفردوس لا يكون إلا اللقاء .
ومنها قوله ) ولقد رآه نزلة أخرى ) [ النجم : 13 ] وسوف يأتي في سورة النجم إن شاء الله تعالى .
ومنها قوله ) وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) [ القيامة : 22 ، 23 ] ومنها قوله ) كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجبون ) [ المطففين : 15 ] فيكون المؤمنون غير محجوبين .
ومنها قوله ) فيها ما تشتيه الأنفس ) [ الزخرف : 71 ] ولا شك أن القلوب الصافية مجبولة على حب معرفة الله على أكل الوجوه وأكمل طرق المعرفة هو العيان .
ومنها قوله ) وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً ) [ الدهر : 20 ] فيمن قرأ بفتح الميم وكسرى اللام .
وأما الأخبار فكثيرة منها : ا لحديث المشهور ( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ) والمراد تشبيه الرؤية بالرؤية في الجلاء والوضوح لا تشبيه المرئي بالمرئي .
ومنها أن الصاحبة اختلفوا في أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآله هل رأى الله تعالى ليلة المعراج ولم يكفر بعضهم بعضاً بهذا السبب فدل ذلك على أنهم كانوا يجمعون على إمكان الرؤية .
أما قوله تعالى ) وهو يدرك الأبصار ( ففيه دليل على أنه سبحانه مبصر للمبصرات ، راء للمرئيات ، مطلع على ماهياتها ، عليم بعوارضها وذاتياتها .
ثم قال ) وهو اللطيف الخبير ( وليس المراد باللطافة ضد الكثافة وهو رقة القوام فإن ذلك من صفات الأجسام ، بل المراد لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها إلا مبدعها .
أو المراد أنه لطيف في ا لإنعام والرحمة لا يأمرهم فوق طاقتهم وينعم عليهم فوق استحقاقهم .
أو الغرض أنه يثني عليهم بالطاعة ، ولا يقطع موادّ إحسانه عنهم بالمعصية .
أو المراد أنه يلطف عن أن يدركه الأبصار الخبير بكل لطيف ولا يلطف شيء عن إدراكه ، ثم عاد إلى تقرير أمر الدعوة والرسالة فقال ) قد جاءكم بصائر ( أي موجباتها والبصيرة للقلب بمنزلة البصر للعين .
) فمن أبصر ( الحق وآمن ) فلنفسه ( أبصر(3/139)
" صفحة رقم 140 "
وإياها نفع .
) ومن عمي ( عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضر .
قالت المعتزلة : فيه تصريح بأن العبد يتمكن من الأمرين : الفعل والترك .
وعورض بالعلم والداعي ) وما أنا عليكم بحفيظ ( أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها ، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم .
ثم حكى شبه المنكرين بقوله ) وكذلك ( أي مثل ذلك التقرير البليغ ) نصرف الآيات ( نأتي بها متواترة حالاً بعد حال ) وليقولوا ( عطف على محذوف أي لتلزمهم الحجة وليقولوا أو متعلق بما بعده أي وليقولوا درست نصرفها .
ومعنى ) درست ( قرأت وتعلمت من الدرس ، ومن قرأ ) دارست ( أي قرأت على اليهود وقرؤا عليك وجرت بينك وبينهم مدارس ومذاكرة .
وأما قراءة ابن عامر ) درست ( فهي من الدروس بمعنى أن هذه الآيات قد درست وعفت أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا من جملة أساطير القرون الخالية ، قالت العلماء : التركيب يدل على التذليل والتليين لأن من درس الكتاب فقد ذلله بكثرة القراءة ، ومنه قيل للثواب الخلق ( دريس ) ، لأنه قد لان فكأنه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله صرف الآيات وهو أمران : أحدهما قوله ) وليقولوا دارست ( والثاني قوله ) ولنبينه ( أما الثاني فلا إشكال فيه لأنه بيّن أن الحكمة في هذا التصريف أن يظهر منه البيان والعلم والضمير في ) لنبينه ( للآيات لأنها في معنى القرآن ، أو يعود إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به ، أو إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل نحو : ضربته زيداً أي ضربت الضرب زيداً .
وأما الأول فقد أورد عليه أن قولهم للرسول ) دارست ( كفر منهم بالقرآن والرسول ، وعلى هذا فتعود مسألة الجبر والقدر ، أما الأشاعرة فأجروا الكلام على ظاهره وقالوا : معناه أنا ذكرنا هذه الدلائل حالاً بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزادوا كفراً على كفر ، ونبينه لبعض فيزدادوا إيماناً على إيمان كقوله ) يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً ) [ البقرة : 26 ] وأما المعتزلة فقال الجبائي منهم والقاضي : إن هذا الإثبات محمول على النفي والتقدير : نصرف الآيات لئلا يقولوا كقوله ) يبين الله لكم أن تضلوا ) [ النساء : 176 ] أي لئلا تضلوا .
أو المراد لام العاقبة ، وزيف بأن حمل الإثبات على النفي تحريف لكلام الله وفتح هذا الباب يخرج الكتاب عن أن يكون حجة .
وأيضاً إنه مناف للمقصود لأن إنزال الآيات نجماً فنجماً هو الذي أوقع الشبهة للقوم في أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) إنما أتى بالقرآن على سبيل المدارس والمذاكرة مع أقوام آخرين ، ولهذا كانوا يقولون لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة .
فالجواب ا لذي ذكره إنما يصح لو كان التصريف علة لأن يمتنعوا من هذا القول لكنه موجب له فسقط كلامهم ، وأيضاً حمل اللام على لام العاقبة مجاز ، وحمل الكلام على الحقيقة أولى .
ثم إنه لما حكى عن الكفار أنهم نسبوه في شأن القرآن إلى الافتراء وإلى أنه دارس(3/140)
" صفحة رقم 141 "
أقواماً واستفاد هذه العلوم منهم ثم نظمها قرآنهاً وادّعى أنه نزلت عليه من الله أتبعه قوله ) اتبع ما أوحي إليك من ربك ( لئلا يصير ذلك القول سبباً لفتوره في تبليغ الدعوة والرسالة والمقصود تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي يعتريه بسماع تلك الشبهة ، ونبه بالجملة المعترضة أو الحال المؤكدة وهي قوله ) لا إله إلا هو ( على أنه سبحانه لما كان واحداً في الإلهية فإنه يجب طاعته ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين .
ثم ختم الآية بقوله ) وأعرض عن المشركين ( وحمله بعضهم على أنها منسوخة بآية القتال .
وضعف بأن المراد واترك مقابلتهم فيما يأتونه من سفه ، وأن يعدل صلوات الله عليه إلى الطريق الذي يكون أقرب إلى القبول وأبعد عن التنفير والتغيظ .
) ولو شاء الله ما أشركوا ( مذهب الأشاعرة فيه ظاهر .
وحمله المعتزلة على مشيئة الإلجاء والقسر .
وأجيب بعد المعارضة بالعلم والداعي بأن الإيمان الاختياري هب أنه أنفع وأفضل من الإيمان القهري إلا أنه تعالى لما علم أن ذلك لا يقع ولا يحصل فقد كان يجب في حكمته أن يخلق الله فيه الإيمان القهري كي يخلص من العقاب ، وإن لم يجب له الثواب كما أن الأب المشفق إذا علم أن ابنه لا يحسن الغوص يقول له : اترك الغوص في البحر ولا تطلب اللآلىء فإنك لا تجدها واكتف بالرزق القليل مع السلامة ، فأما أن يأمره بالغوص في البحر مع اليقين التام بأنه لا يتسفيد منه إلا الهلاك فإن ذلك من الرحمة والشفقة بمعزل .
ثم ختم الكلام بما يكمل به بصيرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وآله ، وذلك أن بيّن له قدر جعله إليه فذكر أنه ما جعله حفيظاً ولا وكيلاً عليهم وإنما فوض إليه الإبلاغ والإنذار .
ثم إنهم لما نسبوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أنه جمع القرآن بطريق المداومة وكان لا يبعد أن يغذب له المسلمون لسبب ذلك فيسبوا آلهتهم نهى الله تعالى عن ذلك فقال ) ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ( وذلك أن المسلمين إذا شتموا آلهتهم فربما غضبوا وذكروا الله بما لا ينبغي من القول .
وفيه تنبيه على أن خصمك إذا شافهك بجهل وسفاهة لم يجز لك أن تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإن ذلك يوجب فتح باب المشاتمة والمسافهة وإنه لا يليق بالعقلاء .
قال ابن عباس : لما نزل ) إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) [ الأنبياء : 98 ] قال المشركون : لئن لم تنته عن سب آلهتنا وعيبها لنهجونّ إلهك فنزلت .
وقال السدي : لما حضر أبا طالب الوفاة قالت قريش : أنطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهي عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان يمنعه فلما مات قتلوه .
فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة ابن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن البختري إلى أبي طالب فقالوا : أنت كبيرنا(3/141)
" صفحة رقم 142 "
وسيدنا ، وأن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإله .
فدعاه فجاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآله فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ماذا تريدون ) قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك .
فقال أبو طالب : قد أنصفك قومك وبنو عمك .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم ) قال أبو جهل : نعم وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها فما هي ؟ قال ( قولوا لا إله إلا الله ) فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي فإن قومك قد فزعوا منها .
فقال ( يا عم ما أنا بالذي أقو لغيرها ، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها ) .
فقالوا : لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قالت العلماء : إن القوم كانوا مقرين بوجود الإله تعالى فكيف يتصور إقدامهم على شتم الله ؟ وأجيب بأنه ربما كان بعضهم قائلا بالدهر ونفي الصانع فما كان يبالي هذا النوع من السفاهة ، أو لعل مرادهم شتم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وآله فأجرى الله تعالى شتمه مجرى شتم الله كما في قوله ) إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) [ الفتح : 10 ] أو لعلهم من جهالتهم اعتقدوا أن الشطيان يحمله على ادعاء الرسالة ثم إنهم سموا ذلك الشيطان بأنه إله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وآله .
وههنا سؤال وهو أن شتم الأصنام من أصول الطاعات فكيف يحسن من الله تعالى أن ينهى عنه ؟ والجواب أن هذا الشتم وإن كان طاعة إلا أنه إذا وقع على وجه يستلزم منكراً وجب الاحتراز عنه ، لأن هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله سبحانه وشتم رسوله وفتح باب السفاهة ويقتضي تنفيرهم عن قبول الدين وإدخال الغيظ والغضب في قلوبهم .
وفيه أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى ارتكاب منكر ، والنهي عن المنكر يقبح ذا أدى إلى زيادة منكر وغلبة الظن قائمة مقام اليقين في هذا الباب .
وفيه تأديب لمن يدعو إلى الدين كيلا يتشاغل بما لا يفيد في المطلوب ، فإن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها ، يقال : عدا فلان عدواً وعدواناً وعداء إذا ظلم ظلماً يتجاوز القدر .
قال الزجاج ) عدواً ( منصوب على المصدر لأن المعنى فيعدوا عدواً وقرىء ) عدوّاً ( بفتح العين والتشديد أي في حال كونهم أعداء .
ومعنى ) بغير علم ( على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به ) وكذلك ( أي مثل ذلك التزيين ( زينا لكل أمة عملهم ( قالت الأشاعرة : فيه دلالة على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر وللمؤمن الإيمان وللعاصي المعصية ، وزيفه الكعبي بقوله تعالى ) وزين لهم الشيطان أعمالهم ) [ النمل : 24 ] [ العنكبوت : 38 ] وبقوله ) والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ) [ البقرة : 257 ] فإذا المراد أنه تعالى زين لهم ما(3/142)
" صفحة رقم 143 "
لهم أن يعملوا وهم لا يفقهون ، أو المراد زينا لكم أمة من أمم الكفار عملهم أي خليناهم وشأنهم وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم ، أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زينا ف زعمهم وقولهم أن الله أمرنا بهذا وزينه لنا ، وضعف بعد المعارض بالعلم وخلق الداعي بأن قوله تعالى ) كذلك زينا ( بعد قوله ) فيسبوا الله ( مشعر بأن إقدامهم على ذلك المنكر إنما كان بتزيين الله تعالى .
وأيضاً الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفراً وجهلاً والعلم بذلك ضروري ، بل إنما يختاره لأنه اعتقد كونه إيماناً وعلماً وحقاً وصدقاً ، ولولا سابقة الجهل الأول لما اختار الجهل الثاني ولا تذهب الجهالات إلى غير النهاية ، فلا بد أن ينتهي إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه وهو بسبب ذلك الجهل ظن الكفر إيماناً والجهل علماً .
قال : ( وأقسموا بالله جهد إيمانهم ( والغرض حكاية شبهة أخرى لهم وهي أنهذا القرآن كيفما كان أمره فليس من جنس المعجزات البتة ، ولو أنك يا محمد جئتنا بمعجزة باهرة وبينه قاهرة لآمنا بك وأكدوا هذا المعنى بالأيمان والأقسام .
قا الواحدي : إنما سمى اليمين بالقسم لأن اليمين موضعة لتوكيد الخبر وكانت الحاجة إلى ذكر الحلف عند انقسام الناس وقت سماع الخبر إلى مصدق ومكذب ، فمعنى الأقسام إزالة القسمة وجعل الناس كلهم مصدقين بواسطة الحف واليمين .
عن محمد بن كعب قال كلمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وآله قريش فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى كانت معه عصا فضرب بها الحجز فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، وأن عيسى كان يحيى الموتى ، وأن صالحاً كانت له ناقة ، فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أي شيء تحبون أن آتيكم به ) قالوا : تجعل لنا الفصا ذهباً .
قال ( فأن فعلت تصدقوني ) قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون .
فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال : إن شئت أصبح الصفا ذهباً ولكن لم أرسل بآية فلم يصدق بها إلا أنزلت العذاب ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتركهم حتى يتوب تائبهم ) وأنزل الله الآيات إلى قوله ) ولكن أكثرهم يجهلون ( قال الكلبي ومقاتل : إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه .
وقال الزجاج : معناه بالغوا في الإيمان .
والمراد بقوله ) لئن جاءتهم آية ( ما روينا من جعل الصفا ذهباً .
وقيل : هي الأشياء والمذكورة في قوله ) وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا ) [ الإسراء : 90 ] الآيات .
وقيل : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآله يخبرهم بأن عذاب الاستئصال كان ينزل بالأمم المتقدمين المكذبين فالمشركون طلبوا مثلها .
) قل إنما الآيات عند الله ( أي هو مختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات لأن المعجزات لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى ، أو المراد بالعندية هو العلم بأن إحداث هذه المعجزات هل يقتضي(3/143)
" صفحة رقم 144 "
إيمانهم أم لا كقوله ) وعنده مفاتح الغيب ) [ الأنعام : 59 ] أو المراد أنها وإن كانت معدومة في الحال إلا أنه تعالى متى شاء أحدثها وليس لكم أن تتحكموا في طلبها كقوله ) وإن من شيء إلا عند خزائنة ) [ الحجر : 21 ] ( وما يشعركم ( ما استفهام والجملة خبره ، ثم من قرأ ) انها ( بكسر الهمزة على الابتداء - وهي القراءة الجيدة - فالتقدير وما يشعركم ما يكون منهم ثم ابتدأ فقال ) إنها إذا جاءت لا يؤمنون ( وأما قراءة الفتح فقال سيبويه : سألت الخليل عن ذلك فقال : لا تحسن لأنها تصير عذراً للكفار ، لأن معنى قول القائل : ما يدريك أنه لا يفعل هو أنه يفعل .
فمعنى الآية أنها إذا جاءت منوا وذلك يوجب مجيء هذه الآيات ويصير هذا الكلم عذراً لهم في طلبها ، لكن القراءة لما كانت متواترة فلا جرم ذكر العلماء فيه وجوها : قال الخليل : ( أن ) بمعنى ( لعل ) تقول العرب : ائت السوق أنك تشتري لنا شياً أي لعلك .
ويقوي هذا الوه قراءة أبي ) لعلها إذا جاءت لا يؤمنون ( وثانيها ( أن ) تجعل ( لا ) صلة كما في قوله ) ما منعك أن لا تسجد ) [ الأعراف : 12 ] ( وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ) [ الأنبياء : 95 ] وثالثها أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها فقال الله : وما يدريكم أيها المؤمنون أنهم لا يؤمنون على معنى أنكم لا تدرون ما سبق به على من أنهم لا يؤمنون .
وأما من قرأ ) لا تؤمنون ( بتاء الخطاب فالمراد وما يشعركم أيها الكفار .
قال القاضي والجبائي : في الآية دلالة على أنه تعالى يجب أن يفعل كل ما في مقدوره من الألطاف إذ لو كان في المعلوم لطف يؤمنون عنده ، ثم إنه لا يفعل ذلك لم يكن لتعليل ترك الإجابة بأنهم لا يؤمنون وجه .
وأيضاً لو كان الإيمان بخلق الله تعالى ولم يكن لفعل الألطاف أثر في حمل المكلف على الطاعات علم يكن لإظهار تلك المعجزات أثر .
وأجيب بأن تأثير المعجزات عندهم مبني على وجوب اللطف ، فلو أثبت اللطف به لزم الدور ، وبأن الآية التي بعد هذه وهي قوله ) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ( تدل على أن الكفر والإيمان بقضاء الله وقدره .
ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار هو أنهم إذا جاءتهم الآيات القاهرة التي اقترحوها عرفوا كيفية دلالتها على صدق الرسول إلا إنه تعالى إذا قلب قلوبهم وأبصارهم عن ذلك الوجه الصحيح بقو على الكفر ولم ينتفعوا بتلك الآيات .
والتقليب تحريك الشيء عن وجهه .
وكان ( صلى الله عليه وسلم ) وآله يقول ( يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ) والمرا أنه تعالى يقلب القلوب تارة من داعي الخير إلى داعي الشر وبالعكس .
وإنما قدم ذكر تقليب الأفئدة على تقيب الأبصار ، لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر عنه ، والحاصل(3/144)
" صفحة رقم 145 "
أن السمع والبصر آلتنان للقلب فلهذا السبب وقع الابتداء بتقليب القلب .
قال الجبائي : المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وحرها لتعذيبهم .
وزيف بأن قوله ) ونذرهم ( إنما يحصل في الدنيا وهذا يستلزم سوء النظم .
وقال الكعبي : المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم بأنا لا نفعل بهم ما نفعل بالمؤمنين من الفوائد والألطاف حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم .
وضعف بأنه إنما استحق الحرمان من تلك الألطاف والفوائد بسبب إقدامه على الكفر وهو الذي أوق فسه في ذلك الحرمان فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى في قوله ) ونقلب ( وقال القاضي : القلب باقٍ على حالة واحدة إلا أنه تعالى أدخل التقليب والتبديل في الدلائل. واعترض بأن تقليب القلب نقله من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة .
وأما قوله ) كما لم يؤمنوا به أول مرة ( فقال الواحدي : فيه حذف والتقدير ولا يؤمنون بهذه الآيات كما لم يؤمنوا بظهور الآيات أول مرة يعني أول مرة أتتهم الآيات مثل انشقاق القمر وغيره .
والكناية في ) به ( إما عائدة إلى القرآن ، أو إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وآله ، أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم .
قال الجبائي : ( ونذرهم ( أي لا نحول بينهم وبين اختيارهم ولا نمنعهم بمعالجة الهلاك وغيره لكنا نمهلهم ، فإن أقاموا على طغيانهم فذلك من قبلهم وأنه يوجب تأكيد الحجة عليهم .
وقالت الأشاعرة : نقلب أفئدتهم من الحق إلى الباطل ونتركهم في ذلك الطغيان والضلال والعمى .
التأويل : ( قد جاءكم بصائر ( دلالات السعادات الباقية ، فمن أبصرها بنظر البصيرة فاشتغل بتحصيلها وأقبل على الله لسلوك سبيلها فذلك تحصيل لنفسه ) فإن الله غني عن العالمين ( ) ومن عمي ( فبالعكس .
) ولا تسبوا الذين يدعون ( لا تخاطبوا أهل الضلال على مواجب نوازع النفس والبيعة فيحملهم ذلك على ترك الإجلال وإظهار الضلال ، بل خاطبوهم بلسان الحجة والتزام الحجة ونفي الشبه .
) وأقسموا بالله ( حسبوا أن البرهان يوجب الإيمان ولم يعلموا أنهممقهورون تحت حكم السلطان ، وما يغني وضوح الأدلة لمن لم تدركه سوابق الرحمة ) ونقلب أفئدتهم ( عن الآخرة إلى الدنيا ) وأبصارهم ( عن شواهد المولى إلى مشاهدة النفس والهوى كأنهم لم يؤمنوا يوم الميثاق إذ قلت ألست بربكم ؟ قالوا بلى .
تم الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوله ) ولو أنزلنا نزلنا إليهم الملائكة ((3/145)
" صفحة رقم 146 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثامن من أجزاء القرآن الكريم
( الأنعام : ( 111 - 121 ) ولو أننا نزلنا . . . .
" ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون "
( القراآت )
قبلاً ( بكسر القاف وفتح الباء : أبو جعفر ونافع وابن عامر .
الباقون : بضمتين .
) منزل ( بالتشديد : ابن عامر وحفص والمفضل .
) كلمة ربك ( عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب .
الباقون ) كلمات ( ) من يضل ( من الإضلال : الأصبهاني عن نصير ، فصل على البناء للفاعل و ) حرم ( على البناء للمفعول : حمزة وخلف وعاصم غير حفص والمفضل ، وقرأ أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وحفص جميعاً بالتفح الباقون : على البناء للمفعول فيهما ) ليضلون ( بضم الياء : عاصم وحمزة وعلي وخلف الباقون : بالفتح .
الوقوف ) يجهلون ( ه ) غروراً ( ط ) يفترون ( ه ) مفصلاً ( ط ) الممترين ( ه(3/146)
" صفحة رقم 147 "
) وعدلاً ) لكلماته ( ج لابتداء الضمير المنفصل مع احتمال الواو الحال أي لا تبديل لكلماته وهو يسمع ويعلم ، ) العليم ( ه ) عن سبيل الله ( ط ) يخرصون ( ه ) عن سبيله ( ج ) بالمهتدين ( ه ) مؤمنين ( ه ) إليه ( ط ) بغير علم ( ط ) بالمعتدين ( ه ) وباطنه ( ط ) يقترفون ( ه ) لفسق ( ط ) ليجادلوكم ( ج ) لمشركون ( ه .
التفسير : هذا شروع في تفصيل ما أجمله قوله ( أنها إذا جاء لا يؤمنون ) [ الأنعام : 109 ] وكان المستهزؤون بالقرآن خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل السمهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحرث بن حنظلة ، أتوا الرسول صلى الله عليه وآله في رهط من أهل مكة فقالوا : أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، أبو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقول أم باطل ، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلاً أي كفيلاً على ما تدعيه ، فنفى الله تعالى عنهم الإيمان وإن أوتوا هذه المقترحات .
قال أبو زيد : يقال لقيت فلاناً قبلاً وقبلاً ومقابلة كلها بمعنى واحد وهو المواجهة رواه الواحدي ، وقال أبو عبيدة والفراء والزجاج : قبلاً بكسر القاف معناه معاينة .
روي عن أبي ذر قال : قلت للنبي صلى الله عليه وآله : أكان آدم نبياً ؟ قال : نعم ، كان نبياً كلمة الله تعالى قبلاً ، وأما قبلاً بضمتين فقيل : إنه جمع قبيل ومعناه الجماعة تكون من الثلاثة فصاعداً من قوم شتى مثل الروم والزنج والعرب ولهذا قال الأخفش في تفسيره أي قبيلاً قبيلاً .
أو معناه الكفيل والعريف من قبل به يقبل قبالة ، والمعنى لو حشرنا عليهم كل شيء فكفلوا بصحة ما يقول ما آمنوا ، وموضع الإعجاز فيه أن الأشياء المحشورة منها ما ينطق ومنها ما لا ينطق ، ومنها حي ومنها ميت ، فإذا حشرها الله تعالى على اختلاف طبائعها مجتمعة في موقف واحد ثم أنطقها وأطبقوا على قبول هذه الكفارة كان ذلك من أعظم المعجزات ، أما قوله تعالى : ( ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ( إيمانهم ، فقد قلت الأشاعرة : فلما لم يؤمنوا دل على أنه تعالى ما شاء إيمانهم ، وقالت المعتزلة : لو لم يرد منهم الإيمان لما وجب عليهم الإيمان كما لو لم يأمرهم به لم يجب ، ولو أراد الكفر من الكافر لكان الكافر في كفره مطيعاً لله لأنه لا معنى للطاعة إلا فعل المراد ، ولو جاز من الله تعالى أن يري الكفر لجاز أن يأمر به ، ولجاز أن يأمرنا بأن نريد الكفر .
فالمراد من الآية أنه اختيارياً إلا أن يشاء الله مشيئة إكراه واضطرار فحينئذ يؤمنون ، وزيف بأن الاختيار لا بد معه من حصول داعية يترجح بها أحد طرفي الممكن ، ولا تحصل تلك الداعية إلا بتخليق الله تعالى فكأنه لا اختيار .
قال الجبائي : قوله : ( إلا أن يشاء الله ( يدل على حدوث المشيئة إذ لو كانت قديمة وهي الشرط لزم من حصولها حصول المشروط .
وأجيب بأنها قديمة إلا أن(3/147)
" صفحة رقم 148 "
تعلقها بأحداث المحدث في الحال إضافة حادثة .
ثم ختم الآية بقوله : ( ولكن أكثرهم يجهلون ( قالت الأشاعرة : أي لا يعلمون أن الكل بقضاء الله وبقدره .
وقالت المعتزلة : إنهم لا يدرون أنهم يبقون كفاراً عند ظهور الآية التي طلبوها والمعجزات التي اقترحوها فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم ، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم فيطمعون في إيمانهم الاختياري بمجيء الآيات المقترحات .
ثم قال : ( وكذلك ( قيل : إنه منسوق على قوله : ( وكذلك زينا ) [ الأنعام : 108 ] أي وكما زينا لكل أمة عملهم ) جعلنا ( وقيل : إن المشار إليه محذوف أي وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم ، ولم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر .
قالت الأشاعرة : والطاعة والمعصية والإيمان والكفر هو الله .
قال الجبائي : المراد بهذا الجعل أنه حكم وبين فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل إنه كفره ، وإذا أخبر عن عدالته قيل عدله .
وقال الكعبي : إنه أمر الأنبياء .
لأن العداوة تكون من الجانبين .
أجاب أبو بكر الأصم بأنه لما أرسل محمداً أعداءً للأنبياء .
لأن العداوة تكون من الجانبين .
أجاب أبو بكر الأصم بأنه لما أرسل محمداً إلى العالمين وخصه بتلك المعجزات صار ذلك التخصيص سبباً للحسد والعداوة أو للبغضاء فهذا هو المراد بجعلهم أعداء له .
وزيف بأن الأفعال مستندة إلى الدواعي وهي من الله تعالى ، وبأن العداوة والمحبة متعلقة بالطبع لا بالإرادة والتكلف فلا يقدر عليها إلا الله تعالى ، وانتصاب ) الشياطين ( كما مر في قوله : ( وجعلوا لله شركاء الجن ) [ الأنعام : 108 ] أي وكما زينا لكل أمة عملهم ) جعلنا ( وقيل : إن المشار إليه محذوف أي وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم ، لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر .
قالت الأشاعر : لا شك أن تلك العداوة معصية وكفر ، وأن جعلها شرفاً لآية تدل على أن خالق الخير والشر والطاعة والمعصية والإيمان والكفر هو الله .
قال الجبائي : المراد بهذا الجعل أنه حكم وبين فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل إنه كفره ، وإذا أخبر عن عدالته قيل عدله .
وقال الكعبي : إنه أمر الأنبياء بعداوتهم وأعلمهم بكونهم أعداء لهم فاقتضى ذلك أنهم صاروا أعداءً للأنبياء .
لأن العداوة تكون من الجانبين .
أجاب أبو بكر الأصم بأنه لما أرسل محمداً إلى العالمين وخصه بتلك المعجزات صار ذلك التخصيص سبباً للحسد والعداوة أو للبغضاء فهذا هو المراد بجعلهم أعداء له .
وزيف بأن الأفعال مستندة إلى الدواعي وهي من الله تعالى ، وبأن العداوة والمحبة متعلقة بالطبع لا بالإرادة والتكلف فلا يقدر عليها إلا الله تعالى .
وانتصاب ) الشياطين ( كما مر في قوله : ( وجعلوا لله شركاء الجن ) [ الأنعام : 100 ] قال الزجاج وابن الأنباري : ( عدوّا ( في معنى الجمع ، ولقائل أن يقول : لا حاجة إلى هذا التكلف لصحة قولنا : وكذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدوّاً واحداً : إذ ليس يجب أن يحصل لكل واحدة من الأنبياء أكثر من عدو واحد .
عن ابن عباس : كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان .
وقال مجاهد وقتادة والحسن : إن من الجن شياطين ومن الإنس شياطين ، وإن شيطان الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليعينه عليه .
روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآله قال لأبي ذر : هل تعوّذت بالله من شر شياطين الإنس والجن ؟ قال : قلت : وهل للأنسان من شياطين ؟ قال : نعم ، هم شر من شياطين الجن .
وقيل : إن الجميع من ولد إبليس إلا أن الذي يوسوس للإنس يسمى شيطان الإنس ، والذي يوسوس للجن يسمى شيطان الجن .
وزيف بأن المقصةد من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء وهم الشياطين .
وعن(3/148)
" صفحة رقم 149 "
مالك بن دينار أن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجن عني وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً .
ومعنى الإيحاء الإيمان أو القول السريع أي يسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس ، وكذلك بعض الجن إلى بعض ، وبعض الإنس إلى بعض ، وكأنه لا يتصوّر وسوسة الإنس إلى الجن إلى على تقدير القول بالتسخير .
و ) زخرف القول ( ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ، والتحقيق فيه أن الإنسان ما لم يعتقد في أمر من الأمور خيرية ونفعاً لم يرغب فيه .
ثم إن كان هذا الإعتقاد مطابقاً للواقع فهو الحق والصدق والإلهام وكان صادراً من الملك وإلا كان مزخرفاً أي يكون باطنه فاسداً وظاهره مزيناً ، قال الواحدي : ( غروراً ( نصب على المصدر لأن إيحاء الزخرف من القول في معنى الغرور .
) ولو شاء ربك ما فعلوه ( استدلال الأشعارة به ظاهر والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء .
) فذرهم وما يفترون ( منصوب على أنه مفعول معه أو مفعول به أي وافتراءهم أو ما يفترونه .
قال ابن عباس : يريد ما زين لهم إبليس وغرهم به ، وفيه تحذير من الكفر وترغيب في الإيمان وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وتنبيه له على ما أعد للكفرة من العقاب وله من الثواب بسبب صبره على سفاهتهم وتلطفه بهم .
الصغو في اللغة الميل .
يقال في المستمع إنه مصغ إذا مال بحاسته إلى ناحية الصوت .
وأصغى الإناء إذا أماله حتى انصب بعضه في بعض .
ويقال للقمر إذا مال إلى الغروب صغا وأصغى .
قال الجوهري : صغا يصغوا ويصغي لا بد لها من متعلق فقالت الأشاعرة : التقدير وإنما جعلنا مثل ذلك الشخص عدوّاً للنبي لتميل ) إليه ( أو إلى قوله المزخرف ) أفئدة ( الكفار فيبعدوا بذلك السبب عن قبول دعوة النبي ) وليرضوه ( وليختاروه على أنفسهم ) وليقترفوا ( وليكسبوا من الآثام ) ما هم مقترفون ( وقال الجبائي : إن هذا الكلام خرج مخرج الأمر ومعناه الزجر كقوله : ( واستفززهم من استطعت منهم بصوتك ) [ الإسراء : 14 ] .
وزيف بأن حمل لام كي على لام الأمر تحريف .
وقال الكعبي : هي لام العاقبة تقديره : ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشيطان أفئدة الكفار جعلنا لكل نبي عدواً .
وعن أبي مسلم أنها معطوفة على موضع ) غرور ( والتقدير : يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغتروا بذلك ولتميل قلوب الكفار إلى المذاهب الباطلة .
وأورد عليه أن ميل القلوب إلى الآراء الفاسدة هو عين الاغترار فيلزم عطف الشيء على نفسه .
وههنا بحث وهو أن الأشاعرة قالوا : البنية ليست شرطاً للحياة ، فالحي هو الجزء الذي قامت الحياة به ، والعالم هو الجزء الذي قام العلم به .
وقالت المعتزلة : الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء .
حجة الأشاعرة أنه جعل الموصوف(3/149)
" صفحة رقم 150 "
بالميل والرغبة في الآية هو القلب لا جملة الحي ، وبمثله استدل من جعل المتعلق الأول للنفس هو القلب لا مجموع البدن .
ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه لا فائدة لهم في إظهار الآيات التي اقترحوها بين بقوله : ( أفغير الله أبتغي حكماً ( الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل وكمل والزائد على ذلك لا يجب الالتفات إليه ، وإنما قلنا إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين : الأول : أن الله تعالى قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل عليه الكتاب المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة لكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته وأشار إلى هذا الوجه بقوله : ( أفغير الله أبتغي حكماً ( يعني قل يا محمد إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات ، فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله حكماً فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز .
الوجه الثاني : اشتمال التوراة والإنجيل على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله حقاً ، وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله وأشار إليه بقوله : ( والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ( ثم قال : ( فلا تكونن من الممترين ( والخطاب لكل أحد أي إذا ظهرت الدلائل فلا ينبغي أن يمتري فيه أحد .
وقيل : الخطاب للرسول في الظاهر والمراد به الأمة .
وقيل : الخطاب للرسول في الحقيقة والمراد التهييج والإلهاب كقوله : ( ولا تكونن من المشركين ) [ الأنعام : 14 ] والمراد فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق ، ولا يريبك جحود أكثرهم .
قال الواحدي : الحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة .
وقال بعض أهل التأويل : الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم كل من يحكم والحكم هو الذي لا يحكم إلا بالحق .
ثم لما بين أن القرآن معجز قال : ( وتمت كلمة ربك ( أي القرآن .
وقوله : ( صدقاً وعدلاً ( مصدران منتصبان على الحال من الكلمة ، ومعنى تمامها أنها وافية كافية في كونها معجزة دالة على صدق محمد ، أو كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى القيامة علماً وعملاً ، أو المراد بالتمام أنها أزلية ولا يحدث بعد ذلك شيء .
واعلم أن كل ما حصل في القرآن نوعان : الخبر والتكليف ؛ فالخبر كل ما أخبر الله تعالى عن وجوده أو عن عدمه كالخبر عن وجود ذاته وحصول صفاته أعني كونه تعالى قادراً سميعاً بصيراً ويدخل فيه الخير عن صفات التقديس والتنزيه كقوله تعالى : ( لم يلد ولم يولد ) [ الإخلاص : 3 ] ( ولا تأخذه سنة ولا نوم ) [ البقرة : 255 ] ويدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال الله تعالى وكيفية تدبيره لملكوته في السموات والأرض وفي عالم الأرواح والأجسام ، ويدخل فيه الخبر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب والعقاب ، ويدخل فيه الخبر عن أقسام أسماء الله تعالى والخبر عن النبوات عن النبوات وأقسام والمعجزات ، والخبر عن أحوال النشر والقيامة وصفات أهل الجنة والنار .
والخبر عن أحوال المتقدمين والخبر عن المغيبات .
وأما التكليف فيدخل فيه(3/150)
" صفحة رقم 151 "
كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبيده سواء كان ملكاً أو بشراً أو شيطاناً ، وسواء كان ذلك في شرعنا أو في شرائع الأنبياء المتقدمين أو في مراسيم الملائكة المقربي الذين هم سكان السموات والجنة والنار والعرش وما وراءه مما لا يعلم أحوالهم إلا الله تعالى .
فإذن المراد وتمت كلمات ربك صدقاً إن كان من باب الخبر وعدلاً إن كان من باب التكاليف وهذا ضبط حسن .
وقيل : إن كل ما اخبر الله تعالى عنه من وعد ووعيد وثواب وعقاب فهو صدق لأنه لا بد أن يكون واقعاً ، وهو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون بصفة الظلم .
ثم قال : ( لا مبدل لكلماته ( والمعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبه في كون القرآن دالاً على صدق محمد إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدالة ألبته لجلاء الدلالة ووضوحها .
أو المراد أن كلماته تبقى موصوفة بصفتها مصونة عن التحريف والتغيير كما قال : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ الحجر : 9 ] أو الغرض أنها بريئة عن التناقض كما قال : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) [ النساء : 82 ] أو المعنى أن أحكام الله تعالى لا تتغير ولا تتبدل لأنها أزلية والأزلي لا يزول ، وهذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر إذ يلزم منه أن لا ينقلب السعيد شقياً وبالضد .
ثم لما أجاب عن شبه الكفار بيّن أن عند ظهور الحجة وتبين المحجة للعاقل أن يلتفت إلى كلمات الجهال فقال : ( وإن تطع أكثرهم من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ( والمضل لا بد أن يكونضالاً ويعني بهم الذين ينازعون النبي في الدين غير قاطعين بصحة مذاهبهم كالزنادقة وعبدة الكواكب والأصنام ، وكالذين يحرمون البحائر والسوائب والوصائل ويحللون الميتة فيحكمون على الحق بأنه باطل وعلى الباطل بأنه حق .
ثم قال : ( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ( يقدرون على أنهم على شيء أو يكذبون في أن الله أحل كذا وحرم كذا .
وأصل الخرص حزر ما على النخل من الرطب تمراً .
وليس لنفاة القياس تمسك بالآية من قبل توجه الذم على متبع الظن ، لأن المذموم من اتباع الظن هو الذي لا يستند إلى أمارة كظن الكفار المستند إلى تقليد أسلافهم فقط ، أما إذا كان الإعتقاد الراجح مستنداً إلى إمارة فلم يتم أنه كذلك .
ثم قال : ( إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ( والمراد أنك بعدما عرفت أن الحق ما هو والباطل ما هو فلا تكن في قيدهم بل فوض أمرهم إلى خالقهم لأن الله تعالى عالم بأن المهتدي من هو والضال من هو فيجازي كل أحد بما يليق بعمه ، أو المراد أن هؤلاء الكفار وإن أظهروا من أنفسهم اداء الجزم واليقين فهم كاذبون والله تعالى عالم بأحوال قلوبهم وبواطنهم ، ومطلع على تحيرهم في أودية الجهالة وتيه الضلال ، قال النحويون : إن أفعل التفضيل لا يعمل في مظهر ، ففي الكلام محذوف أي يعلم من يضل عن سبيله ، فإن لم يقدر محذوف قوي بالباء كما في القلم(3/151)
" صفحة رقم 152 "
) إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) [ القلم : 7 ] وهذا هو الأصل ، وإنما خص هذه السورة بالحذف موافقة لقوله : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] وعدل إلى لفظ المستقبل تنبيهاً على قطع الإضافة لأن أكثر ما يستعمل ( أفعل من ) يستعمل مع الماضي نحو ( أعلم من دب ودرج ) و ( أحسن من قام وقعد ) و ( أفضل من حج واعتمر ) .
فلو لم يعدل إلى لفظ المستقبل التبس بالإضافة تعالى عن ذلك .
وجوّز بعضهم أن يكون ( من ) للاستفهام كقوله : ( لنعلم أي الحزبين أحصى ) [ الكهف : 12 ] ثم قال : ( فكلوا ( والفاء مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرّمون الحلال ، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين : إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم .
فقال الله سبحانه للمسلمين : إن كنتم تعبدون الله فما قتله الله مما ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله .
فإن قيل : إن القوم كانوا يبيحون ما ذبح على اسم الله تعالى ولا ينازعون فيه ، فقال الله سبحانه للمسلمين : إن كنتم تعبدون الله فما قتله الله يحرمونها ، فما الحكمة في إثبات الحكم في المتفق عليه وترك الحكم في المختلف فيه ؟ فالجواب لعل القوم كانوا يحرمون أكل المذكاة ويبيحون أكل الميتة فرد الله تعالى عليهم في الأمرين بقوله : ( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ( وبقوله : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) [ الأنعام : 145 ] أو نقول : المراد اجعلوا أكلكم مقصوراً على ما ذكر اسم الله عليه ، وعلى هذا فيكون المراد تحريم الميتة فقط والله أعلم .
أما قوله : ( وقد فصل لكم ( فأكثر المفسرين قالوا : المراد به ما فصل في أول المائدة من قوله : ( حرمت عليكم الميتة ( ) المائدة : 3 ] غلى آخر الآية ، واعترض عليه بأن سورة الأنعام مكية والمائدة من آخر ما نزل بالمدينة ، والآية تقتضي أن يكون المفصل مقدماً على هذا المجمل بل الأولى أن يقال : المراد قوله تعالى بعد هذه الآية : ( قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرما ) [ الأنعام : 145 ] إلى آخرها .
فإن هذا القدر من التأخير غير ضائر .
وقوله : ( إلا ما اضطررتم ( أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدّة المجاعة ) وإن كثيراً ليضلون ( المبالغة في قراءة ضم الياء أكثر لأن كل مضل فإنه يكون ضالاً ، وقد يكون الضال غير مضل ، قيل : إنه عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أول من غير دين إسماعيل واتخذ البحائر والسوائب وأكل الميتة .
وقوله : ( بأهوائهم بغير علم ( يريد أن عمرو بن لحي أقدم على هذه المذاهب عن الجهالة الصرفة ، وقال الزجاج : المراد منه الذين يحللون الميتة ويناظرون في إحلالها ، أو يحتجون عليها بقولهم إذ حل ما تذبحونه أنتم فلأن يحل ما يذحبه الله تعالى أولى ، وكذلك كل ما يضلون فيه من عبادة الأوثان والطعن في النبوّة محمد صلى الله عليه وآله .
وفي الآية دلالة على أن النزاع في الدين بمجرد التقليد حرام ) إن ربك هو أعلم بالمعتدين ( فيجازيهم عليها(3/152)
" صفحة رقم 153 "
وفيه من التهديد ما فيه .
ثم ذكر آية جامعة فقال : ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ( فقيل : ظاهره الزنا في الحوانيت وباطنه الصديقة في السر .
قال الضحاك : كان أهل الجاهلية يرون الزنا حلالاً ما كان سراً .
والأصح أن النهي عام إذ لا دليل على تخصيصه .
ثم قيل : المراد ما أعلنتم وما أسررتم .
وقيل : ما عملتم وما نويتهم .
وقال ابن الأنباري : يريد وذروا الإثم من جميع جهاته كما تقول : ما أخذت من هذا المال قليلاً ولا كثيراً أي ما أخذته بوجه من الوجوه .
وقريب منه قول من قال : المراد النهي عن الإثم مع بيان أنه لا يخرج عن كونه إنما بسبب إخفائه وكتمانه .
وقيل : المراد النهي عن الإقدام على الإثم .
ثم قال : ( وباطنه ( ليظهر بذلك أن الداعي له إلى ترك ذلك الإثم خوف الله لا خوف الناس .
وقيل : ظاهر الإثم أفعال الجوارح ، وباطنه أفعال القلوب من الكبر والحسد والعجب وإرادة الشر للمسلمين ، ويدخل فيه الإعتقاد والعزم والنظر والظن والتمني والندم على أفعال الخيرات ، ومنه يعلم أن ما يوجد في القلب قد يؤاخذ به وإن لم يقترن به عمل ) إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ( أي يكتسبون من الآثام ومنه الاعتراف يمحو الاقتراف كما يقال : التوبة محو الحوبة .
وظاهر النص يدل على أنه يعاقب المذنب ألبتة إلا أن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب لم يعاقب .
وأهل السنة على أنه إذا لم يتب احتمل العفو ) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ( نقل عن عطاء أنه قال : كل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من طعام أو شراب فهو حرام تمسكاً بعموم الآية .
وأجمع سائر الفقهاء على تخصيص هذا العموم بالذبح ، ثم اختلفوا فمالك : كل ذبح لم يذكر اسم الله تعالى عليه فهو حرام ، ترك الذكر عمداً أو نسياناً وهو قول ابن سيرين وطائفة من المتكلمين .
أبو حنيفة : إن ترك عمداً حرام وإن ترك نسياناً حل .
الشافعي : متروك التسمية عمداً وسهواً حلال إذا كان الذابح مسلماً لقوله تعالى : ( وإنه لفسق ( والضمير عائد إلى الأكل الذي دل عليه الفعل أو إلى الموصول على أنه في نفسه فسق مثل ( رجل عدل ) أو على تقدير حذف المضاف أي وإن أكله لفسق .
وقد أجمع المسلمون على أنه لا يفسق بأكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية ولقوله تعالى : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ( وهذه المناظرة كانت في مسألة الميتة ؛ وذلك أن المشركين قالوا : يا محمد أخبرنا عن الشاة من قتلها إذا ماتت ؟ قال : الله قتلها ، قالوا : فتنزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال ، وما قتل الكلب والصقر حلال ، وما قتله الله حرام ؟ فأنزل الله الآية ، فالمراد من الشياطين ههنا إبليس وجنوده وسوسوا إلى أوليائهم من المشركين ليخاصموا محمداً وأصحابه في أكل الميتة .
وقال عكرمة : وإن الشياطين - يعني مردة المجوس - ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش .
وذلك أنه لما نزل تحريم الميتة(3/153)
" صفحة رقم 154 "
سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة أن محمداً وأصحابه يزعمون أن ما يذبحونه حلال وأن ما يذبحه الله حرام ، فوقع في أنفس ناس من المسلمين شيء فنزلت الآية .
ثم قال : ( وإن أطعتموم ( يعني في استحلال الميتة ) إنكم لمشركون ( قال الزجاج : وفيه دليل على أن كل من أحل شيئاً مما حرم الله تعالى أو حرم شيئاً مما أحل الله فهو مشرك لأنه أثبت حاكماً سوى الله تعالى .
ثم قال الشافعي : الفسق في آية أخرى وهي ، قوله : ( قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرم ) [ الأنعام : 145 ] إلى قوله : ( أو فسقاً أهل لغير الله ( مفسر بما أهل به لغير الله فعلمنا أن الفسق في هذه الآية أيضاً مفسر به نزلنا عن هذا المقام وهو التمسك بالمخصصات ، فلم قلتم إنه لم يوجد ذكر الله ههنا لما روي أنه صلى الله عليه وآله قال : ( ذكر الله مع المسلم سواء قال أو لم يقل ) فيحتمل هذا الذكر على ذكر القلب .
أو نقول : هب أن هذا الدليل يوجب الحرمة إلا أن معنا ما يدل على الحل ، وإذا تعارض الحل والحرمة فالحل راجح لأن الأصل في الأشياء الإباحة وللعمومات الدالة على الحل كقوله : ( خلق لكم ما في الأرض جميعا ) [ البقرة : 29 ] ( ولوا واشربو ( ) الطور : 19 ] ولأنه مستطاب وقد قال : ( أحل لكم الطيبات ) [ المائدة : 4 ] ، ولأن الطبع يميل إليه وقد نهى عن إضاعة المال ، هذا تقرير مذهب الشافي ومع ذلك فالأولى بالمسلم أن يحترز عنه لقوة ظاهر النص .
قال الكعبي : في الآية دلالة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات لأنه تعالى سمى مخالفته شركاً .
وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يراد بالشرك ههنا اعتقاد أن لله شريكاً في الحكم .
التأويل : ( وكلمهم الموتى ( أي : قلوبهم الميتة ) وحشرنا ( أي أريناهم جميع الآيات المودعة في المكونات ) إلا أن يشاء الله ( فإن المشيئة تغير السجية والعناية الأزلية كفاية الأبدية ) ولكن أكثرهم يجهلون ( أن الهدى ليس بالمنى وأنه بمشيئة المولى ، ثم أخبر أن البلايا للسائرين إلى الله هي المطايا فقال : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس ( هي النفس الأمارة التي هي أعدى الأعداء .
) والذين آتيناهم الكتاب ( هديناهم بنور الكتاب إلى حضرة الجلال ) فلا تكونن ( نهى التكوين في الأزل ) وتمت كلمة ربك ( كلامه وقضاؤه في الأزل ) صدقاً ( فيما قال ) وعدلاً ( فيما حكم بالوجود والعدم والسعادة والشقاوة والرد والقبول والخير والشر والحسن والقبح والإيمان والكفر ، وأحسن شيء خلقه هو الإنسان استعداده ) ثم رددناه أسفل سافلين ) [ التين : 4 ] وكذلك شر شيء هو الإنسان عند فساد الأبد ، ولأهل النقصان تسفل في القبح إلى الأبد أيضاً إظهاراً للقدرة الكاملة غير المتناهية ) وهو السميع ( لحاجة كل ذي حاجة ) العليم ( بما يستأهله كل موجود ) وإن تطع أكثر من(3/154)
" صفحة رقم 155 "
في الأرض ( وهم أهل الأهواء وأقلهم أهل الحق ) وإن هم إلا يخرصون ( في دعوى طلب الحق .
فإن سبيل الحق لا يسلك بالهوى وإنما يسلك بالصدق والهدى .
) فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ( فمن أمارات الإيمان أن يأكلوا الطعام بحكم الشرع لا على وفق الطبع ويذيبوه بذكر الله كما قال صلى الله عليه وآله ( أذيبوا طعامكم بذكر الله ) فالأكل على الغفلة والنسيان والاستعانة به على العصيان يورث موت الجنان والحرمان من الجنان .
) وقد فصل لكم ( يا أهل الله ) ما حرم عليكم ( وهو الدنيا وما فيها والآخرة ونعيمها ) إلا ما اضطررتم إليه ( من ضروريات البشر في الدارين بأمر المولى لا بالطبع والهوى ) إن ربك هو أعلم بالمعتدين ( الذين جاوزوا المولى وركنوا إلى الدنيا والعقبى ) وذروا ظاهر الإثم ( يعني الأعمال الطبيعة ) وباطنه ( يعني الأخلاق ، الذميمة الردية ) سيجزون بما كانوا يقترفون ( لأن الأخلاق الظلمانية توجب صدأ مرآة القلب وتزيدها ريناً إلى أن يصير حجاباً بين العبد وبين الله تعالى : ( ولا تأكلوا طعاماً إلا بأمر الله وعلى ذكر الله وفي طلب الله ليندفع بنور الذكر ظلمة الطعام وشهوته ، ) وإنه ( يعني ظلام الطعام يؤدي إلى الفسق الذي هو الخروج من النور الروحاني إلى الكلمة النّفسانية .
) وإن الشياطين ليوحون ( فإن للشيطان مجالاً في الوسوسة إذا كانت النفوس في المجادلة مع القلوب لتدعوها إلى متابعة الهوى الله حسبي .
( الأنعام : ( 122 - 130 ) أو من كان . . . .
" أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا(3/155)
" صفحة رقم 156 "
وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين "
( القراآت )
ميتاً ( بالتشديد : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب ) رسالته ( بالنصب والتوحيد : ابن كثير وحفص والمفضل .
الباقون : ( رسالاته ( على الجمع وبالكسر في موضع النصب ) ضيقا ( وبابه بالتخفيف : ابن كثير ) حرجاً ( بكسر الراء : أبو جعفر ونافع وسهل وأبو بكر وحماد .
الباقون : بالفتح ) يصعد ( من الصعود : ابن كثير ) يصاعد ( من التصاعد بإدغام التاء في الصاد : أبو بكر وحماد .
الباقون : ( يصعد ( بالإدغام من التصعيد .
) يحشرهم ( بياء الغيبة : حفص .
الآخرون بالنون .
الوقوف : ( بخارج منها ( ط ) يعلمون ( ه ) فيها ( ط ) وما يشعرون ( ه ) رسل الله ( ط ) رسالاته ( ط ) يمكرون ( ه ) للإسلام ( ج لابتداء شرط آخر مع العطف .
) في السماء ( ج ) لا يؤمنون ( ه ) مستقيماً ( ط ) يذكرون ( ه ) يعلمون ( ه ) جميعاً ( ج للحذف أي يحشرهم ويقول لهم مع اتحاد المقصود ) من الإنس ( الأول ج لتبدل القائل مع اتفاق الجملتين ) أجلت لنا ( ط قال النار يغلظ الصوت على النار إشارة إلى أن النار مبتدأ بعد الجملتين ) أجلت لنا ( ط قال النار يغلظ الصوت على النار إشارة إلى أن النار مبتدأ بعد القول وليست فاعله ) يشاء الله ( ط ) عليم ( ه ) يسكبون ( ه ) يومكم هذا ( ط ) كافرين ( ه .
التفسير : إنه سبحانه بعد أن ذكر أن المشركين يجادلون المؤمنين ضرب مثلاً للفريقين فبيّن أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتاً فجعله الله حياً وأعطاه نوراً يهتدي به في مصالحه ، وأن الكافر بمنزلة من هو في الظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها فيكون متحيراً على الدوام ، وهل هما خاصان أو عامان فيه قولان : الأول قال ابن عباس : يريد حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل ؛ وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وآله بفرث وحمزة ولم يؤمن بعد ، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس ، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ويقول : يا أبا يعلي أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا ؟ فقال حمزة : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله ، أشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فنزلت الآية .
وعن مقاتل : نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وأبي جهل ؛ وذلك أنه قال : زاحمت بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه .
والله لا نؤمن به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت ، وعن عكرمة أنها في عمار بن ياسر وأبي جهل ، وعن الضحاك هي في عمر بن الخطاب وأبي جهل .
والقول الثاني أنها عامة في كل مؤمن(3/156)
" صفحة رقم 157 "
وكافر لحصول المعنى في الكل .
وإنما جعل الكفر موتاً لأنه جهل والجهل يوجب الحيرة والوقفة فهو كالموت الذي يوجب السكون .
وأيضاً الميت لا يهتدي إلى شيء وكذلك الجاهل ، والهدى علم وبصرة وهما يوجبان الفوز بالمطالب كالحياة والنور ، قال بعض العلماء : قوله : ( أو من كان ميتاً ( إشارة إلى أول مراتب النفس الإنسانية وهي الاستعداد المحض المسماة بالعقل الهيولاني عند الحكيم .
وقوله : ( فأحييناه ( إشارة إلى ثانية مراتبها المسماة بالعقل بالملكة وهي أن يحصل لها العلوم الكلية الأولية .
وقوله ( وجعلنا له نوراً ( إشارة إلى ثالثة المراتب وهي التي قد حصلت لها المعقولات المكتسبة ولكنها لا تكون حاضرة بالفعل بل تكون بحيث متى شاء صاحبها استرجاعها واستحضارها قدر عليه ولهذا يسمى عقلاً بالفعل أي الفعل القريب ، وقوله : ( يمشي به في الناس ( إشارة إلى رابعة المراتب وهي النهاية المسماة بالعقل المستفاد ، وقد حصلت المعارف القدسية والجلايا ويمكن أن يقال : الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح ، والنور عبارة عن اتصال نور الوحي فلهذا قال جمع من المفسرين : المراد بهذا النور القرآن ، ومنهم من قال : نور الدين أو نور الحكمة .
والأقوال متقاربة ، وأما مثل الكافر فهو ) كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ( وفيه أن ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت كالصفة اللازمة له لا تكاد تزول عنه فيبقى متحيراً خائفاً فزعاً نعوذ بالله من هذه الحالة .
ومعنى المثل ههنا الصفة الغريبة أي كمن صفته هذه والمراد كمن هو في الظلمات .
ثم قال : ( كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ( والمزين هو الله بالتحقيق عند الأشاعرة .
والشيطان بالحقيقة أو الله مجازاً عند المعتزلة ، والإضافة إلى الله بالحقيقة أو المجاز أولى بدليل قوله : ( وكذلك جعلنا ( أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها كذلك جعلنا ، أو وكما زينا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا ) في كل قرية أكابر ( وهي جمع الأكبر و ) مجرميها ( مضاف إليه والظرف مفعول ثانٍ قدم ليعود الضمير إلى القرية .
وقيل : التقدير جعلنا مجرميها أكابر .
قال الزجاج : إنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل رياستهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم ، ولأن كثرة المال وقوّة الجاه تحمل الناس على المبالغة في حفظهما وذلك لا يتم إلا باستعمال بعض الأخلاق الذميمة من المكر والغدر والكذب والغيبة والنميمة والشح والإيمان الكاذبة وكفى بهذه الأمور دليلاً على خساسة المال والجاه .
واللام في ) ليمكروا ( على أصله عند الأشاعرة ، واستدلوا به على أن الشر بإرادة الله تعالى .
وحمله(3/157)
" صفحة رقم 158 "
المعتزلة على لام العاقبة مجازاً حملوا الجعل في قوله : ( وكذلك جعلنا ( على التخلية والخذلان .
ثم قال في معرض التهديد ) وما يمكرون إلا بأنفسهم ( لأن وباله يعود عليهم ) وما يشعرون ( وفيه تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليه وآله وتقديم موعد بالنصرة ، ثم إنه سبحانه حكى قول أبي جهل وأضرابه ( زاحمنا بني عبد مناف في الشرف إلى آخره ) وقول الوليد بن المغيرة ( لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً ) فقال : ( وإذا جاءتهم آية ( أي معجزة قاهرة أو وحي .
) قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ( قال الضحاك : أراد كل واحد منهم ذلك كما في الآية الأخرى .
) بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة ) [ المدثر : 52 ] ويشبه أن يكون هذا الكلام الخبيث هو المراد بالمكر المذكور في الآية المتقدمة ، وللمفسرين في مقترحهم قولان : أحدهما - وهو الأشهر - أنهم أرادوا أن تحصل لهم النبوُّة والرسالة كما حصلت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأن يكونوا متبوعين لا تابعين ومخدومين لا خادمين .
وثانيهما عن ابن عباس والحسن أن المعنى وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلى الله عليه وآله ) قالوا لن نؤمن حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ) [ الإسراء : 90 ( إلى قوله : ( حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه ) [ الإسراء : 93 ] من الله تعالى إلى أبي جهل وفلان وفلان فالقوم ما طلبوا النبوّة وإنما طلبوا آيات قاهرة ومعجزات ظاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين تدل على صحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
فقوله سبحانه في جوابهم على سبيل الاستئناف ) الله أعلم حيث يجعل رسالته ( على القول الأول ظاهر ، وأما على القول الثاني فوجهه أن القوم إذا اقترحوا تلك الآيات فلو أظهر الله تعالى تلك المعجزات على وفق التماسهم لكانوا قد قربوا من منصب الرسالة .
قال بعض العقلاء : الأرواح متساوية في تمام الماهية فحصول النبوّة والرسالة لبعضها دون بعض تشريف من الله تعالى وإحسان وتفضل .
وقال آخرون : بل النفوس مختلفة بجواهرها وماهياتها فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيات مشرقة بالأنوار الإلهية مستعلية منورة ، وبعضها خبيثة كدرة محبة للجسمانيات ، فالنفس ما لم تكن من القسم الأول لم تصلح لقبول الوحي والرسالة .
ومراتب الرسل مختلفة فمنهم ذو معجزة واحد وذو معجزتين أو أكثر ، ومنهم من له تبع قليل ومنهم من آمن به جم غفير ، ومنهم من كان الرفق غالباً عليه ومنهم من كان مدار أمره على التغليظ والتشديد .
وفي الآية تعريض بأن حصول النبوّة والرسالة لا بد فيه من قلب سليم ، والمقترحون فيهم من المكر والحسد ما فيهم فكيف يعقل حصول الرسالة لهم وإنما يحصل لهم ما يناسب أخلاقهم وأحوالهم ولهذا قال تعالى : ( سيصيب الذين أجرموا صغار ( ذل وهوان ) عند الله ( أي في الآخرة أو في الدنيا(3/158)
" صفحة رقم 159 "
بحكم الله وإيجابه من الأسر والقتل .
أو المراد من عند الله فحذف ( من ) .
أو قوله : ( عند الله ( مستأنف أي معدّ لهم ذلك ، واعلم أن كمال العقاب لا بد فيه من أمرين : الضرر ، والإهانة .
ثم إن القوم لما تردوا عن طاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وآله طلباً للعز والكرامة فالله تعالى بيّن أنه يقابلهم بضد مقصودهم ، فأول ما يوصل إليهم الذل والهوان وبعده عذاب شديد جميع ذلك بسبب مكرهم ونكرهم ) فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ( يقال : شرح فلان أمره ، إذا أظهره وأوضحه ومنه ضرح المسأله إذا بينها .
وقال الليث : شرح الله صدره فانشرح أي وسعه لقبول ذلك الأثر .
ولا شك أن توسيع الصدر غير ممكن على سبيل الحقيقة ولكن ههنا معنى وهو أنه إذا اعتقد الإنسان في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح مال طبعه إلي وقوي طلبه ورغبته في حصوله وظهر في القلب استعداد شديد لتحصيلة فسميت هذه الحالة سعة الصدر ، وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أو ظن يكون ذلك العمل مشتملاً على ضرر زائد ومفسدة راجحة دعاه ذلك إلى تركه وحصل في النفس نبوّة عن قبوله فيقال لهذه الحال ضيق الصدر ، لأن المكان إذا كان ضيقاً لم يتمكن الداخل من الدخول فيه ، وإذا كان واسعاً قدر على الدخول فيه .
وأكثر استعمال شرح الصدر في جانب الحق والإسلام وقد ورد في الكفر أيضاً قال تعالى : ( ولكن من شرح بالكفر صدراً ) [ النحل : 106 ] قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقيل له : كيف يشرح الله صدره ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) وآله : يقذف الله تعالى فيه نوراً حتى ينفسخ وينشرح ، فقيل له : وهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله ) وهذا البيان مناسب لما ذكرنا فإن الإنابة إلى دار الخلود لا بد أن تترتب على اعتقاد أن عمل الآخرة زائد النفع والخير ، والتجافي عن دار الغرور إنما ينبعث عن اعتقاد كون عمل الدنيا زائد الضر والضير ، والاستعداد للموت قبل نزوله نتيجة مجموع الأمرين الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة .
أما قوله : ( حرجاً ( فمن قرأ بكسر الراء فعلى النعت ، ومن قرأ بالفتح فعلى الوصف بالمصدر للمبالغة .
قال الزجاج : الحرج في اللغة أضيق الضيق .
وقيل : الحرج بالفتح جمع حرجة وهو الموضع الكثير الأشجار الذي لا تناله الراعية .
حكى الواحدي بإٍناده عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وقال : هل ههنا أحد من بني بكر ؟ قال رجل : نعم .
قال : ما الحرجة فيكم ؟ قال : الوادي الكثير الأشجار المشتبك الذي لا طريق فيه .
فقال : كذلك قلب الكافر .
ومعنى : ( يصعد في السماء ( كأنما يزاول أمراً غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد عن الاستطاعة فكأن الكافر في نفوره من الإسلام وثقله عليه بمنزلة من يتكلف(3/159)
" صفحة رقم 160 "
الصعود إلى السماء .
وقيل : المراد أن قلبه يتباعد عن الإسلام وقبوله تباعد ما بين الأرض والسماء .
) كذلك يجعل ( أي كما جعل ضيق الصدر في قلوبهم كذلك يجعل الرجس عليهم .
وقال الزجاج : أي مثل ما قصصنا عليك يجعل الله الرجس .
عن ابن عباس هو الشيطان يسلطه الله عليهم .
وقال مجاهد : الرجس ما لا خير فيه .
وعن عطاء : الرجس هو العذاب .
وقال الزجاج : هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة .
قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أن الهداية والضلال من الله تعالى ؛ بيانه أن العبد على الإيمان وعلى الكفر وقدرته بالنسبة إلى الأمرين سواء ولا يترجح إلا لداعية ، ولا معنى للداعية إلى علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملاً على ملحة زائدة ، ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل ، ولا بد أن تنتهي تلك الداعية إلى تخليق الله وتكوينه دفعاً للتسلسل فإذا خلق الله تعالى قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة - وهو المراد بشرح الصدر - مال القلب إليه ، وإذّا خلق في قلبه اعتقاد أن الإيمان بمحمد سبب للمفسدة الدينية والدنيوية نبا طبعه عنه وبقي على الكفر .
فحاصل الآية أن من أراد الله منه الإيمان قوى دواعيه إليه ، ومن أراد منه الكفر قوى صوارفه عن الإيمان .
وقالت المعتزلة : إنه لا دلالة في الآلة على قولكم لأنه ليس فيها أكثر من أنه إذا أراد أن يهدي إنساناً أو يضله فعل به كيت وكيت ، وليس فيها أنه أراد ذلك أو لم يرده نظيره قوله : ( لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا ) [ الأنبياء : 17 ] فبيّن أنه كيف يفعل اللهو لو أراده ثمّ إنه لميرد ذلك بالاتفاق وأيضاً لم قلتم إنه أراد ومن يرد أن يضله عن الإيمان بل المراد من يرد الله أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنة يشرح صدره للإسلام حتى يثبت عليه ، وتفسير الشرح هو أنه يفعل به ألطافاً تدعوه إلىالبقاء على الإيمان والثبات عليه .
ومن يرد أن يضله عن طريق الجنة فعند ذلك يلقي في صدره الضيق والحرج لا في كل الأوقات بل في بعضها كيلا يمكن دفعه وخصوصاً عند ظهور نصرة المؤمنين وبدوّ الذل والصغار في الكافرين .
وأيضاً لم لا يجوز أن يقال : المعنى فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنة يشرح صدره للإسلام في ذلك الوقت الذي يهديه فيه إلى الجنة لما رأى من فوائد الإيمان ونتائجة من الدرجات العالية والمراتب الشريفة فتزداد رغبته فيه ، ومن يرد أن يضله يوم القيامة عن طريق الجنة ففي ذلك الوقت يضيق صدره للحزن الشديد الذي ناله عند الحرمان من الجنّة والدخول في النار ؟ وقال في الكشاف : ( فمن يرد الله أن يهديه ( أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف ) يشرح صدره ( للإسلام يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحب الدخول فيه ) ومن يرد أن يضله ( أي يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له ) يجعل صدره ضيقاً حرجاً ( يمنعه ألطافه حتى(3/160)
" صفحة رقم 161 "
يقسو قلبه وينبو عن قبول الحق وينسد فلا يدخله الإيمان .
وأجيب عن قولهم ( ليس في الآية أنه أراد ذلك أو لم يرده ) بأن قوله في آخر الآية : ( كذلك يجعل الله الرجس ( تصريح بأنه فعل به ذلك الإضلال لأن الكاف للتشبيه والتقدير : كما جعلنا ذلك الضيق والحرج في صدره كذلك يجعل .
وفيه أيضاً دلالة على أن المراد من قوله : ( ومن يرد ان يضله ( هو أنه يضله عن الدين ، وتفسير الضيق والحرج باستيلاء الغم والحزن على قلب الكافر بعيد لأن أكثر من يعتريه الحزن في الدنيا هو المؤمن ولهذا قال صلى الله عليه وعلى آله : ( خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) ولو خص ذلك بالآخرة كان من إيضاح الواضحات .
فمن المعلوم لكل أحد أن من يضله الله عن طريق الجنة فإنه يضيق قلبه في ذلك الوقت .
والجواب على قول صاحب الكشاف مما مر من أن فعل الإيمان يتوقف على أن تحصل في القلب داعية جازمة إلى الإيمان ، وفاعل تلك الداعية هو الله تعالى وكذا القول في جانب الكفر ، فإن سمي الداعيتين أحد باللطف والخذلان فلا مشاحة في الأسامي .
قال القاضي في تفسيره : روي عن محمد بن عب القرظي أنه قالك تذاكرنا أمر القدرية عند ابن عمر فقال : لعنت القدرية على لسان سبعين نبياً فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل أين خصماء الله ؟ فتقوم القدرية .
قال : ولا يخفى أنهم الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله قضاءً وقدراً وخلقاً لأنهم يقولون الذنب لله فأي ذنب لنا حتى تعاقبنا أنت الذي خلقته فينا وأردته منا وقضيته علينا ولم تخلقنا إلا له ولا يسرت لنا غيره ، فهؤلاء لا بد أن يكونوا خصماء الله .
أما الذين قالوا إن الله تعالى مكن وأزاح العلة وإنما أتى العبد من قبل نفسه فكلامه موافق لما يعامل به من إنزال العقوبة ، فهؤلاء منقادون لله تعالى لا خصماؤه .
هذا كلام القاضي وتعجب منه الأشاعرة فقالوا : كيف يكون خصم الله من يقول ليس للعبد على الله حجة ولا استحقاق بوجه من الوجوه وإن كل ما يفعله الرب في العبد فهو حكمة وصاب وليس للعبد على ربه اعتراض ولا مناظرة وكل ما يصل منه إلى عباده حتى الملائكة والأنبياء فهو تفضل منه وإحسان ، لكن الخصم من يدعي عليه وجوب الثواب والعوض ويقول لو لم تعطني ذلك لخرجت عن الإلهية وصرت معزولاً عن الربوبية وكنت من السفهاء وأن من واظب على الكفر سبعين سنة ثم إنه في آخر زمن حياته قال لا إله إلا الله محمد رسول الله عن القلب ثم مات ، فإن رب العالمين أعطاه النعم الفائقة سنين غير محصورة ، ثم إنه لو ترك لحظة واحدة قال العبد له إنك معزول عن الإلهية ، يحكى أن(3/161)
" صفحة رقم 162 "
الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر واعتراضه على أقاويله ، عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن أبا علي عقد مجلس التذكير وحضر عنده جم غفير ، فذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس مختفياً عن الجبائي وقال لبعض من حضر هناك من العجائز : إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ .
قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد في غاية الزهد ، وآخر في غاية الفسق ، الثالث كان صبياً لم يبلغ فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها اليخ عن أحوالهم .
فقال الجبائي : أما الزاهد ففي درجات الجنة ، وأما الكافر ففي دركات النار ، وأما الصبي فما أهل السلامة .
فقال : قولي له إن الصبي لوأراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيا أخوه الزاهد فهل يمكن منه ؟ قال الجبائي : لا لأن الله تعالى يقول له إنما أخوك وصل إلى تلك الدرجات لأنه أتعب نفسه في العلم والعمل وأنت فليس معك ذلك .
فقال أبو الحسن : قولي له لو أن الصبي يقول : يا رب العالمين ليس الذنب لي لأنك أمتني قبل بلوغي ، ولو أبلغتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد ، فقال الجبائي : يقول الله تعالى له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوجب النار فراعيت مصلحتك .
فقال لها أبو الحسن .
قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار وقال : يا رب العالمين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم الاحمين ، لم راعيت حال الأخ الصغير وما راعيت حالي ومصلحتي ؟ قال الراوي : فانقطع الجبائي فنظر فرأى أبا الحسن فعلم أن المسألة منه لا من العجوز .
ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار وأكثر مجيباً عن الجبائي قائلاً : نحن لا نرضى بهذا الجواب وإنما نقول : الجواب مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها ، وهي أنه هل يجب على الله تعالى أن يكلف العبد أم لا ؟ فقال البصريون : إنه غير واجب ولكنه تفضل وإحسان .
وقال البغداديون : إنه واجب وعلى الأول لله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلاً على أحد بشيء أن أتفضل على غيره بمثله ، وعلى قول البغداديين فللَّه أن يقول : إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف في حقه لم يستلزم مفسدة الغير فلا جرم فعلته ، أما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك فكان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك فلهذا ما فعلته وظهر الفرق .
وأورد على القسم الأول أنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح منه عقلاً لأنه ليس فعلاً شاقاً عليه ولا ينقص بذلك شيء من ملكه ، والصبي محتاج إلى الإحسان إليه ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد كمن منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجواد لعامة الناس .
فإن كان حكم العقل في التحسين والتقبيح مقبولاً فليكن ههنا(3/162)
" صفحة رقم 163 "
أيضاً مقبولاً وإلا فلا يقبل في شيء من الصور وتبطل كلية مذهبكم .
وأورد على الشق الثاني أن قولنا : ( تكليفه يتضمن مفسدة ) ليس معناه أن ذات ا لتكليف تتضمن المفسدة وإلا لم ينفك تكليف عن المفسدة وأنه باطل بالاتفاق ، فمعناه إذاً أنه تعالى علم أنه إذا كلف هذا الشخص فإن إنساناً آخر يختار من قبل نفسه فعلاً قبيحاً ، فإن اقتضى هذا القدر أن يترك الله تعالى تكليفه وجب أن يقبح تكليف كل من علم الله من حاله أنه يكفر وإلا لزم محض ا لتحكم .
هذا تمام مناظرة الفريقين ، ولعلك قد عرفت التحقيق هنا فيما سلف فتذكر .
ثم قال : ( وهذا صراط ربك ( في المشار إليه وجوه منها : أنه المذكور في الآية المتقدمة .
أما على مذهب الأشاعرة وهو أن الفعل يتوقف على الداعي وحصول تلك الداعية من الله تعالى فيكون الفعل من الله ، ويلزم استناد الكل إلى قضائه وقدره .
وأما على مذهب المعتزلة فالمراد هذا الذي قررنا طريقته التي اقتضتها الحكمة وعادته الجارية في عباده من التوفيق والخذلان .
ومعنى ) مستقيماً ( عادلاً مطرداً .
وانتصابه على الحال المؤكدة والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل .
أو هو محذوف أي أحقه .
وعن ابن عباس : يريد هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك .
وقال ابن مسعود : يعني القرآن : ( قد فصلنا الآيات ( ذكرناها فصلاً فصلاً بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر .
قال في التفسير الكبير : قد بيّن الله تعالى صحة القول بالقاء والقدر في آيات من هذه السورة متوالية متعاقبة بطرق كثيرة ووجوه مختلفة .
وختم الآية بقوله : ( لقوم يذكرون ( لأنه تقرر في عقل كل واحد ان أحد طرفي الممكن لا يترجح عن الآخر إلا لمرجح فكأنه يقول للمعتزلي : تذكر ما تقرر في عقلك أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا لمرجح حتى تزول الشبهة عن قلبك فإن حصول الفعل عن القادر لو لم يتوقف على الداعي مع تساوي طرفيه وجب أن يحصل هذا الاستغناء في كل الممكنات والمحدثات وحينئذٍ يلزم نفس الصانع وإبطال القول والفعل والفاعل والتأثير والمؤثر .
ثم لما بيّن عظمة نعمته في الصراط المستقيم بيّن ما أعد وهيىء للمتذكرين فقال : ( لهم دار السلام أي دار الله يعني الجنة ، والإضافة للتشريف والتعظيم كما قيل : الكعبة بيت الله : أو دار السلامة من كل آفة وكرب والسلام والسلامة مثل : الضلال والضلالة والرضاع والرضاعة كلاهما مصدر .
وقيل : السلام جمع السلامة لأن أنواع السلامة حاصلة في الجنة .
ومعنى ) عند ربهم ( أنها معدة عنده وفي ضمانه كما يقال لفلان عندي حق لا ينسى وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها وكونهم على ثقة من حصولها ) وهو وليهم ( أي قريب منهم بالرحمة والرضوان أو مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم ، وذلك أن القوم قد عرفوا أن المدبر والمقدر ليس إلا هو جل جلاله ، وأن النافع والضار ليس إلا هو(3/163)
" صفحة رقم 164 "
سبحانه ، فانقطعوا عن كل ما سواه فما كان رجوعهم إلا إليه ، وما كان توكلهم إلا عليه ، ولم يكن أنسهم إلا به ، فلما صاروا بالكلية له لا جرم قال سبحانه : ( وهو وليهم ( على أنه متكفل لجميع مصالحهم ديناً ودنيا .
ثم قال : ( بما كانوا يعملون ( أي بسبب أعمالهم ، أو متواليهم بجزاء ما كانوا يعملون لئلا يقطعوا العمل ولا يتكلوا ، وذلك أن بين النفس والبدن تعلقاً شديداً وكما أن الهيآت النفسانية قد تؤثر في البدن كحمرة الخجل وصفرة الوجل فالهيآت البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس ، فإذا واظب الإنسان على أعمال الخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس فلا بد للسالك من العمل بعد كما العلم والمعرفة .
ثم لما بين حال من تمسك بالصراط المستقيم أردفها بذكر من تعلق بضده فقال : ( ويوم نحشرهم ( والمراد واذكر يوم كذا ، أو يوم نحشرهم قلنا ، أو متعلقة محذوف والتقدير : ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان ما لا يوصف لفظاعته ، والضمير إما أن يعود إلى الشياطين الذين تقدم ذكرهم في قوله : ( شياطين الإنس والجن ( أو يعدو إلى جميع المكلفين الذين علموا أن الله تعالى يبعثهم من الثقلين وغيرهم ، ويكون القائل على تقدير حذف القول هو الله تعالى كما أنه الحاشر لجميعهم .
وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا للتبكيت وإنها وإن تمردوا في الدنيا انتهى حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف .
وقال الزجاج : التقدير فيقال لهم : ( يا معشر الجن ( لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار لقوله : ( ولا يكلمهم الله ) [ البقرة : 174 ] ( قد استكثرتم من الإنس ( لا بد فيه من إضمار لأن الجن أي الشياطين لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس ، فالمراد قد استكثرتم من إضلال الإنس واستتباعهم فحشر معكم منهم الجم الغفير كما يقال : استكثر الأمير من الجنود .
أما قوله : ( وقال أولياؤهم من الإنس ( فالأقرب عند بعضهم أن فيه حذفاً فكما قال للجن تبكيتاً ناسب أن يقول للإنس أيضاً مثل ذلك توبيخاً لأنه حصل من الجن الدعاء ومن الإنس القبول .
ولما بكت الله كلا الفريقين حكى جوانب الإنس وهو قوله : ( ربنا استمتع بعضنا ببعض ( وفيه قولان : الأول أن المراد استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن وعلى هذا ففي الاستمتاع وجهان : أحدهما أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض منفرداً وخاف على نفسه قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه .
فيبيت آمناً في نفسه .
فهذا استمتاع الإنس بالجن ، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني كان ذلك تعظيماً منهم للجن ؛ وذلك الجني يقول : قد سدت الجن والإنس لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه .
وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج ويعضده قوله سبحانه : ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ) [ الجن : 6 ](3/164)
" صفحة رقم 165 "
وثاني الوجهين أن الإنس كانوا ينقادون للجن ويطيعون حكمهم فصار الجن كالرؤساء والإنس كالأتباع فانتفعوا بالإنس انتفاع الرئيس بالخادم ، وأما انتفاع الإنس بالجن فهو أن دلوهم على الشهوات واللذات إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي أيقنوا أنه يسوء عاقبتهم وهذا اختيار الزجاج .
والقول الثاني أن البعضين كليهما من الإنس لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر ) وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ( أي لك الاستمتاع كان حاصلاً إلى وقت محدود ثم حاءت الحسرة والندامة من حيث لا ينفع .
وما ذلك الإجل ؟ قيل : هو وقت الموت وعلى هذا فكل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله لأنهم أقروا بأنهم بلغوا أجلهم وفيهم المقتول وغير المقتول .
وقيل : هو وقت التخلية والتمكين وقيل : وقت المحاسبة في القيامة ) قال ( الله تعالى في جوابهم ) النار مثواكم ( مقامكم ومقرّكم من ثوى بالمكان يثوي ثوياً إذا أقام به .
قال أبو علي الفارسي : المثوى اسم للمصدر دون المكان لأن قوله تعالى : خالدين فيها ( حال واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل فالمعنى النار أهل أن يقيموا فيها خالدين .
) إلا ما شاء الله ( قيل : المراد منه أوقات المحاسبة ووقت كونهم في المحشر كأنه قيل : خالدين فيها منذ يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم .
وقال ابن عباس : استثنى الله قوماً سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وآله .
وعلى هذا يلزم أن يكون ( ما ) بمعنى ( من ) وفيه خلل آخر وهو أن الاستثناء إنما هو من يوم القيامة الذي يحشرون فيه ، وقيل : المراد الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير .
روي أنهم يدخلون وادياً فيه برد شديد فهم يطلبون الرد من ذلك البرد الشديد إلى حر الجحيم .
وقال في الكشاف : أو يكون هذا من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقهأهلكني الله ، إن نفست عنك إلا إذا شئت ، فيكون قوله : ( إلا إذا شئت ) من أشد الوعيد مع تهكم لأن إطماع محض ويأس كلي .
وقال أبو مسلم : هذا الاستثناء غير راجع إلى الخلود وإنما هو راجع إلى الأجل المؤجل لهم أنهم قالوا : وبلغنا أجلنا الذي سميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى يعني الآجال الخترامية ) إن ربك حكيم ( فيما يفعله من ثاب وعقاب وسائر وجوه المجازاة .
) عليم ( بما يستأهله كل طائفة فكأنه تعالى يقول : إنما حكمت لهؤلاء بعذاب الأبد لعلمي أنهم يستحقون ذلك .
ثم لما حكى عن الجن أن بعضهم يتولى بعضاً بين أن ذلك إنما حصل بتقديره وقضائه فقال : ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً ( وذلك أن القدرة صالحة للعداوة والصداقة فترجيح أحد الجانبين لا يكون إلا بداعية خلقها الله قطعاً للتسلسل ، وأيضاً لما بين أنه سبحانه ولي أهل الجنة بقوله : ( هو(3/165)
" صفحة رقم 166 "
وليهم ( ذكر أن أولياء أهل النار من يشبههم في الظلم والخزي والنكال وأشار إليه بقوله : ( بما كانوا يكسبون ( أي بسبب كون ذلك البعض مكتسباً للظلم وهذه في مناسبة في غاية اللطف لأن الجنسية علة الضم فالطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين .
وفي الآية دلالة على أن الرعية متى كانوا ظلمة فإن الله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم ، فإن أرادوا الخلاص منه فليتركوا الظلم وعن مالك بن دينار قال : جاء في بعض الكتب السموية ( أنا لله مالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليهم رحمة ، ومن عصاني جعلتهم عليهم نقمة ، لا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك لكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم ) .
ثم بيّن أن كفار الثقلين لا يكون لهم إلى الجحود يوم القيامة سبيل وأنهم لا يعذبون إلا بالحجة فقال : ( يا معشر الجن والإنس ( قال أهل اللغة : المعشر كل جماعة مختلطة يجمعهم أمير واحد ) ألم يأتكم رسل منكم ( استفهام على سبيل التقدير فلا جرم استدل الضحاك بالآية ) وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) [ فاطر : 24 ] على أن من الجن رسلاً كالإنس ، ولأن استئناس الجنس بالجنس أكمل ولهذا قال سبحانه : ( ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً ) [ الأنعام : 9 ] والأكثرون على أنه ما كان من الجن رسول ألبتة إنما كانت الرسل من بني آدم وزعموا أن ذلك مجمع عليه .
ورد بأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف ؟ واستدل بعضهم على المطلوب بقوله تعالى : ( إن الهل اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) [ آل عمران : 33 ] والمراد بالاصطفاء ههنا النبوّة بالإجماع .
وأجيب عن قول الضحاك بأن الآية تقتضي أن رسل الجن والإنس تكون بعضاً من أبعاض هذا المجموع فكان هذا القدر كافياً في حمل اللفظ على ظاهره فلا يلزم إثبات رسول من الجن .
وأيضاً لا يبعد أن يقال : إن الرسل كانوا من الإنس ، ثم كان من الجن نفر يستمعون من رسول الإنس وينذرون قومهم بذلك قال : ( وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن ) [ الأحقاف : 29 ] الآية .
وقد يسمى رسول الرسول رسولاً كما أنه تعالى سمى رسل عيسى رسل نفسه فقال : ( إذا أرسلنا إليهم اثنين ) [ يس : 14 ] ثم إنه سبحانه يكون قد بكت كفار الثقلين بهذه الآية لأنه أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إليه فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل المقصود .
وقال الواحدي : أراد رسل من أحدكم وهو الإنس كقوله : ( خيرج منهما اللؤلؤ ) [ الرحمن : 22 ] أي من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب .
وعن الكلبي كانت الرسل قبل أن يبعث محمد يبعثون إلى الإنس ورسول الله صلى الله عليه وآله بعث إلى الجن والإنس .
أما قوله : ( يقصون عليكم آياتي ( فالمراد منه التنبيه على الأدلة بالتأويل وبالتلاوة ) وينذروكم لقاء يومكم هذا ( يخوفونكم(3/166)
" صفحة رقم 167 "
عذاب هذا اليوم فلم يجدوا بداً من الاعتراف فلذلك ) قالوا شهدنا على أنفسنا ( والسبب في أنهم أقروا في هذه الآية وجحدوا في قوله : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] هو أنهم مختلفو الأحوال في يوم القيامة مضطربون ؛ فتارة يقرّون وأخرى يجحدون .
ومنهم من حمل هذه الشهادة على شهادة الجوارح عليهم .
ثم أخبر الله تعالى عن حالهم في الدنيا بقوله : ( وغرتهم الحياة الدنيا ( وعن حالهم في الآخرة بقوله : ( وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ( والمقصود من شرح أحوالهم في القيامة زجر أمثالهم في الدنيا عن الكفر والمعصية .
وقد يستدل بالآية على أن لا وجوب قبل ورود الشرع وإلا لم يكن لهذا التوبيخ والتبكيت فائدة .
التأويل : ( أو من كان ميتاً ( في حالة العدم ) فأحييناه ( بالحياة الحقيقة أي بالحي الذي لا يموت ) وجعلنا له ( نور الوجود الحقيقي الذي ) يمشي به في الناس ( وبه يسمع وبه يبصر ) كمن هو ( محبوس ) في ظلمات ( الطبيعة ) وكذلك جعلنا في كل قرية ( أي كل قالب ) أكابر مجرميها ( من النفس والهوى والشيطان ) ليمكروا فيها ( بمخالفات الشرع وموافقات الطبع .
) ما أوتي رسل الله ( من القلب والسر والروح .
) يشرح صدره ( أي ينظر إلى قلبه بنظر العناية فينوّره بنور جماله وهو نور الإيمان ، فيشرح الصدر بضوء النور الواقع في القلب وهذا الضوء هو المسمى بنور الإسلام .
وهذا النور يقبل الزيادة والاشتداد إلى أن يصير الإيمان إيقاناً والإيقان عياناً والعيان عيناً .
) ضيقاً ( لتزاحم ظلمات صفات البشرية ) حرجاً ( لتعلقاته بالدنيا وشهواتها ) كأنما يصعد في السماء ( لأنه سفلي بالطبع لا يصعد إلا بالتصعيد والقسر .
) وهذا ( الذي بينا من الهداية والضلالة ) صراط ربك ( باللطف والقهر فبجاذبات اللطف يهدي السعيد وبسطوات القهر يضل الشقي .
) لهم دار السلام ( أي السلامة عن القطيعة في مقام العندية بالوصول إلى الوحدة بعد الخروج عن ظلمات الاثنينية .
) ويوم يحشرهم ( في موقف القالب البشري بالحكمة البالغة والقدرة الكاملة ) يا معشر الجن ( أي الصفات الشيطانية ) قد استكثرتم من الإنس ( أي غلبتم على الصفات الإنسانية ) وقال أولياؤهم من الإنس ( يعني النفس الأمارة ) ربنا استمتع بعضنا ببعض ( واستمتاع النفس الأمارة بالشيطان هو أن يستعين بصفات مكره على تحصيل شهواتها ولذاتها العاجلة وحظوظها ، واستمتاع الشيطان بالإنس هو أن يستعين به على إضلال الحق وإغوائها كما استعان بحواء على إغواء آدم .
) وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ( يعني أن مدة الاستمتاع وما جرى بيننا إنما كان بمقتضى قضائك وقدرك فأجابهم بأن الثوى في النار أيضاً بقضاء الله ) إلا أن يشاء الله ( فيتوب عليهم ) إن ربك حكيم ( في تقدير الاستمتاع ) عليم ( بأهل الجنة(3/167)
" صفحة رقم 168 "
وبأهل النار ، ) وكذلك ( أي كما جعلنا مردة الجن والإنس بعضهم أولياء بعض فكذلك نجعل بعض الظالمين أولياء بعض بما كانوا يكسبون من إفساد الاستعداد الفطري ) ألم يأتكم رسل منكم ( يعني الإلهامات الربانية .
وشهدوا على أنفسهم أقروا عند الحرمان عند السعادة العظمى أنهم بذواتهم كانوا صدأ مرآة قلوبهم ) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ) [ النجم : 39 ، 40 ] وما التوفيق إلا منه .
( الأنعام : ( 131 - 140 ) ذلك أن لم . . . .
" ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين "
( القراآت )
عما تعملون ( بتاء الخطاب : ابن عامر ) مكاناتكم ( بالجمع حيث كان : أبو بكر وحماد .
الباقون ) مكانتكم ( على التوحيد .
) من يكون ( بالياء التحتانية : حمزة وعلي وخلف .
الباقون : بتاء التأنيث .
) بزعمهم ( بضم الزاي علي وكذلك ما بعده الباقون بالفتح ) زين ( على البناء للمفعول ) قتل ( بالرفع ) أولادهم ( بالنصب ) شركائهم ( بالجر ابن عامر .
الآخرون ) زين ( على البناء للفاعل ) قتل ( بالنصب ) أولادهم ( بالجر(3/168)
" صفحة رقم 169 "
) شركاؤهم ( بالرفع ) وإن تكن ( بتاء التأنيث : ابن عامر ويزيد وأبو بكر وحماد ) ميتة ( بالرفع : ابن كثير وابن عامر ويزيد ، وقرأ ) ميتة ( بالتشديد ابن كثير وابن عامر : الباقون : بالتخفيف .
الوقوف : ( غافلون ( ه ) مما علموا ( ط ) يعملون ( ه ) ذو الرحمة ( ط ) آخرين ( ه ) لآت ( لا لأن الواو بعده للحال ) بمعجزين ( ه ) عامل ( ج لابتداء التقرير مع فاء التعقيب ) تعملون ( ه لا لأن ما بعده مفعول سواء كان من استفهامية أو موصولة ) عاقبة الدار ( ط ) الظالمون ( ه ) لشركائنا ( ج للشرط مع الفاء ) إلى الله ( ج للفصل بين المتضادين معنى مع الاتفاق حكماً ) شركائهم ( ط ) يحكمون ( ه ) دينهم ( ط ) يفترون ( ه ) افتراء عليه ( ط ) يفرتون ( ه ) أزواجنا ( ج للشرط مع العطف .
) شركاء ( ط ) وصفهم ( ط ) عليم ( ه ) على الله ( ط ) مهتدين ( ه .
التفسير : ( ذلك ( إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك ويحتمل أن يكون مبتدأ خبره ) أن لم يكن ( وهو للتعليل والمعنى الأمر ما قصصنا عليك ، أو ذلك الذي ذكر لانتفاء كون ربك مهلك القرى و ( أن ) هي الناصبة للأفعال أو مخففة من الثقيلة ، وعلى هذا يكون ضمير الشأن محذوفاً أي أن الحديث كذا ، ويجوز أن يكون ، ) أن لم يكن ( بدلاً من ) ذلك ( كقوله : ( وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع ) [ الحجر : 66 ] ومعنى قوله : ( بظلم ( أي بسبب ظلم أقدموا عليه وهذا أليق بأصول الأشاعرة .
أو المراد ظالماً لكم فيكون من فعل الله وهذا أنسب بأصول المعتزلة .
ومعناه أنه تعالى لو أهلكهم قبل بعثة الرسل ولم ينبهوا برسول ولا كتاب كان ظالماً .
وعلى هذا التفسير يمكن للأشاعرة أن يقولوا إنه لو فعل ذلك لم يكن ظلماً ولكنه يكون في صورة الظلم فأطلق الظلم على نفسه مجازاً وإلا فهو تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض عليه لأحد في شيء من أفعاله .
وأما قوله : ( وأهلها غافلون ( فليس المراد من هذه الغفلة أن يتغافل المرء عما يوعظ به وإنما معناه أنه لا يبين لهم كيفية الحال وأن لا يزيل عذرهم وعلتهم .
قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أنه لا يحصل الوجوب قبل الشرع ، وأن العقل المحض لا يدل على الوجوب ألبتة لأنها تدل على أنه تعالى ما يعذب أحداً على أمر من الأمور قبل بعثة الرسل لكن بعدها .
والمعتزلة قالوا : إنها تدل من وجه آخر على تقرير الوجوب قبل الشرع لأن قوله : ( بظلم ( إن كان عائداً إلى العبد دل على أنه يمكن أن يصدر منه الظلم والقبيح قبل البعثة ، وإن كان عائداً إلى الله تعالى فقد تم الاعتراف بتحسين العقل وتقبيحه .
ثم لما شرح أحوال أهل الثواب والعقاب ذكر(3/169)
" صفحة رقم 170 "
كلاماً كلياً فقال : ( ولكل درجات ( أي ولكل عامل في عمله درجات ، وعلى حسب تلك الدرجات يكون الجزاء إن خيراً فخير وإن شراً فشر .
ومعنى ) مما عملوا ( أي من جزاء أعمالهم .
وقيل : إن أول الآية مختصة بأهل الطاعات لأن لفظ الدرجة يليق بهم ولأهل المعصية تكون الدركات وإليه الإشارة بقوله ) وما ربك بغافل عما يعملون ( قالت الأشاعرة : في الآية دليل على مسألة الجبر والقدر فإنه تعالى حكم لكل واحد بدرجة معينة في وقت معين وبحسب فعل معين ، وأثبت تلك الدرجة في اللوح المحفوظ وأشهد عليها الملائكة وخلاف علمه وإثباته وإِشهاده محال .
ثم بين أنه ليس يحتاج إلى طاعة المطيعين ولا يدخل عليه نقص بمعصية العاصين فقال : ( وربك الغني ذو الرحمة ( أما أنه غني في ذاته وصفاته وأفعاله وفي أحكامه عن كل ما سواه فلوجوب وجوده ، وأن ما سواه ممكن لذاته مفتقر في الوجود وفي الأمور التابعة للوجود إليه فلا غنيّ إلا هو ، وأما أنه ذو الرحمة فلأن كل ما دخل في الوجود من الخيرات والراحات والكرامات والسعادات من الروحانيات ومن الجسمانيات فهومن الحق وبإيجاده وتخليقه ، والاستقراء دل على أن الخير غالب كالصحة والشبع والسمع والبصر وما ذلك إلا لرحمته الكاملة ورأفته الشاملة .
والذي يتصوّر من رحمة الواليدن وغيرهما فإنما ذلك بإيجاد داعية ذلك فيهم ومع ذلك فتمكن الشخص من الانتفاع بها ليس إلا منه تعالى. ومن هذا يعلم تنزهه تعالى عن الظلم والسفه والكذب والعبث .
ومن رحمته تكليف الخلائق ليعرضهم للمنافع الباقيات الدائمات .
ثم لما وصف نفسه بأنه ذو الرحمة كان لظانّ أن يظن أن للرحمة معدناً مخصوصاً وموضعاً معيناً فبين تعالى بقوله تعالى : ( إن يشأ يذهبكم ( أنه قادر على هذا الوجه يكون الاستغناء عن العالمين أكمل وأتم .
ومعنى الإذهاب الإهلاك وأن لا يبلغهم مبلغ التكليف ) ويستخلف من بعدكم ( أي : من بعد ذهابكم لأن الاستخلاف لا يكون ، إلا على طريق البدل من فائت ، وقوله : ما يشاء ( أي خلق ثالث ورابع .
ثم اختلفوا فقال بعضهم : خلقاً آخرين من أمثال الجن والإنس لكن أطوع ، وقال أبو مسلم : يعني خلقاً ثالثاً مخالفاً للثقلين ليكون أقوى من دلالة القدرة .
ثم بيّن سبب قدرته على ذلك فقال ) كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ( لأن من قدر على تصوير النطفة المتشابهة الأجزاء بهذه الصور المخصومة قدر على تصويرها بصور أخرى مخالفة لها .
وقال في الكشاف : المعنى كما أنشأكم من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام ، ثم ذكر حال المعاد فقال : ( إنما توعدون لآت ( قال الحسن : أي من مجيء الساعة لأنهم كانوا ينكرون القيامة ، ويحتمل أن يقال : ( إنما توعدون لآت ( إشارة إلى لطفه أي ما يتعلق بالوعد والثواب فهو آت لا محالة .(3/170)
" صفحة رقم 171 "
وقوله : ( وما أنتم بمعجزين ( أي خارجين عن قدرتنا وحمنا إشارة إلى قهره ، يقال : أعجزه الشيء أي فاته .
فالجزم في جانب الوعد والتعريض في جانب الوعيد دليل على أن جانب الرحمة والإحسان أغلب .
ثم أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وآله بتهديد منكري البعث فقال : ( قل يا قوم اعملوا على مكانتكم ( قال الواحدي : قراءة الإفراد أوجه لأن المصدر لا يجمع في أغلب الأحوال ، وقال في الكشاف : المكانة تكون مصدراً .
يقال : مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكين .
وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة ، فمعنى الآية اعملوا على نمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها .
يقال للرجل : على مكانتك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه ) إني عامل ( على مكانتي التي أنا عليها .
والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم ، والغرض تفويض الأمر إليهم على سبيل التهديد كقوله ) اعملوا ما شئتم ) [ فصلت : 40 ] ( فسوف تعلمون ( أينا تكون له العاقبة المحمودة ، والفاء لتعقيب الجزاء ألا يعادي أي قل اعملوا فستجزون وهكذا في سورة الزمر بخلاف سورة هود حيث لم يقل هناك ( قل ) فصار استئنافاً ومحل ( من ) نصب إن كان بمعنى ( الذي ) أو رفع والجملة مفعول تعلمون إن كان بمعنى أيّ و ) عاقبة الدار ( العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها وهي مصدر كالعافية .
وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف وأدب ووثوق بأن المنذر محق ولهذا قيل له فإن الكافر تكون العاقبة عليه لا له .
ثم حكى أنواعاً من جهالاتهم وركاكات أقوالهم تنبيهاً على ضعف عقولهم وقلة محصولهم وتنفيراً للعقلاء عن الالتفات إلى أقوال أمثالكم فقال : ( وجعلوا لله ( قال الزجاج : وجعلوا لله نصيباً ولشركائهم نصيباً بدليل قوله : ( فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ( وجعل الأوثان شركاء لأنهم يجعلون لله تعالى من حروثهم وأنعامهم نصيباً وللأوثان نصيباً ، فما كان للصنم أنفقوه عليه وما كان لله أطعموه الضيفان والمساكين ولا يأكلون منه ألبتة .
ثم إن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا إن الله غنيّ عن هذا ، وإن سقط شيء مما جعلوا للأوثان في نصيب الله تعالى أخذوه وردّوه إلى نصيب الصنم وقالوا : إنه فقير .
وإنما ذلك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها .
وعن الحسن والسدي : كان إذا هلك لأوثانهم شيء أخذوا بدله مما لله ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله تعالى .
وقال مجاهد : إنه إذا انفجر من سقى ما جعلوه للشيطان في نصيب الله عز وجل(3/171)
" صفحة رقم 172 "
سدوه وإن كان على ضد ذلك تركوه ، وقال قتادة : إذا أصابهم شدة استعانوا بالله وإذا أصابتهم حسنة نسبوها إلى شركائهم .
وقال مقاتل : إن زكا ونما نصيب الآلهة ولم يزك نصيب الله تركوا نصيب الآلهة .
وقالوا : لو شاء زكى نصيب نفسه .
وأما إن زكا نصيب الله ولم يزك نصيب الآلهة قالوا لا بدّ لآلهتنا من نفقة وأخذو نصيب الإله تعالى فأعطوه السدنة .
فمعنى ) فلا يصل إلى الله ( أنه لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين ، ومعنى الوصول إلى شركائهم أنهم ينفقونه عليه بذبح نسائك عندها والأجراء على سدنتها ونحو ذلك .
وقوله : ( مما ذرأ ( فيه أن الله تعالى كان أولى بأن يجعل له الزاكي لأنه هو الذي ذرأه أي خلقه .
ثم إنه سبحانه ذم فعلهم فقال : ( ساء ما يحكمون ( وذكر العلماء فيه وجوهاً : الأول أنهم رجحوا جانب الأصنام في الرعاية والحفظ على جانبه وهو سفه .
الثاني جعلوا بعض الحرث لله وبعضه لغيره مع أنه تعالى هو الخالق للجميع .
الثالث أن ذلك حكم أحدثوه من قبل أنفسهم ولم يشهد بصحته عقل ولا شرع وأشار إليه بقوله ) بزعمهم ( الرابع لو حسن إفراز نصيب الأصنام لحسن إفراز نصيب لكل حجر ومدر .
الخامس لا تأثير للأصنام في حصول الحرث والأنعام ولا قدرة لها على الانتفاع بذلك النصيب ، فإفراز النصيب لها عبث .
النوع الثاني من أحكامهم الفاسدة قوله : وكذلك زين ( كان أهل الجاهلية يدفنون بناتهم أحياءً خوفاً من الفقر أو من التزويج ، وكان الرجل يحلف بالله إن ولد له كذا غلاماً لينحرن أحدهم كما فعل عبد المطلب على ابنه عبد الله ، والشركاء على الوجه الأول الشياطين الذين أطاعوهم في معصية الله تعالى ، وعلى الثاني هم السدنة والخدام ، والأول قول مجاهد ، والثاني للكلبي .
وتقدير الكلام ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربان بين الله والآلهة ، أو مثل ذلك التزيين البليغ الذي علم من الشياطين زين لهم شركاؤهم من الشياطين أو من سدنة الأصنام ) قتل أولادهم ( بالوأد أو بالنحر .
ثم إن وجه القراءة الأكثري ظاهر وليس فيها إلا تقديم المفعول وذلك لشدة الاعتناء به ، وأما قراءة أبن عامر فخطأها الزمخشري من جهة الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف فإن ذلك قد جوز بالظرف كقوله :
لله در اليوم من لامها
وضعف بغير الظرف كقوله :
فزججتها بمزجة
زج القلوص أبي مزادة
وحملوه على ضرورة الشعر مع الاستكراه ، والحق عندي في هذا المقام أن القرآن(3/172)
" صفحة رقم 173 "
حجة على غيره وليس غيره حجة عليه ، والقراآت السبع كلها متواترة فكيف يمكن تخطئة بعضها ؟ فإذا ورد في القرآن المعجز مثل هذا التركيب لزم القول بصحته وفصاحته وأن لا يلتفت إلى أنه هل ورد له نظير في أشعار العرب وتراكيبهم أم لا ، وإن ورد فكثير أم لا ؟ ومع ذلك فقد وجهه بعض الفضلاء بأن المضاف إليه من الأول محذوف على نحو قوله :
بين ذراعي وجبهة الأسد
والمضاف مضمر مع الثاني كقراءة من قرأ ) والله يريد الآخرة ) [ الأنفال : 67 ] بالجر على تقدير غرض الآخرة ، فتقدير الآية : قتل شركائهم أولادهم قتل شركائهم .
ومعنى ) ليردوهم ( ليهلكوهم بالإغواء .
قال ابن عباس : ليردوهم في النار .
واللام محمول على العاقبة إن كان التزيين من السدنة ، وعلى حقيقة التعليل إن كان من الشيطان ) وليلبسوا عليهم دينهم ( ليخلطوه عليهم ويشبوه ودينهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل فهذا الذي أتاهم بهه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق .
وقيل : دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه ، وقيل : وليوقعوهم في دين ملتبس ) ولو شاء الله ما فعلوه ( لما فعل المشركون ما زين لهم ، أو لما فعل الشياطين والسدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ما ذكر إن جعل الضمير جارياً مجرى اسم الإشارة .
والمعتزلة حملوا هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر .
ثم قال : ( فذرهم وما يفترون ( على قانون قوله : ( اعملوا ما شئتم ( ) فصلت : 40 ] وفيه مع التهديد التسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر والشرك .
وفيه مع التهديد التسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر والشرك .
قيل : إنما قال في هذه الآية ) ولو شاء الله ما فعلوه ( ليكون مناسباً لقوله : ( وجعلوا لله ( وقال فيما قبل : ( ولو شاء ربك ما فعلوه ) [ الأنعام : 112 ] لأنه وقع عقيب آيات فيها ذكر الرب كقوله : ( قد جاءكم بصائر من ربكم ) [ الأنعام : 104 ] الآيات .
النوع الثالث من أحكامهم الباطلة أنهم قسموا أنعامهم أقساماً فأوّلها أن قولوا ) هذه أنعام وحرث حجر ( وحجر ( فعل ) بمعنى ( مفعول ) كالذبح والطحين ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات ، وأصل الحجر المنع وسمي العقل الحجر لمنعه من القبائح ، وفلان في حجر القاضي أي في منعه .
كانوا إذا عينوا شيئاً من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا : ( لا يطعمها إلا من نشاء ( يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء ) و ( ثانيها أن قالوا : ( هذه أنعام حرمت ظهورها ( وهي البحائر والسوائب والحوامي وقد سبق في المائدة .
) و ( ثالثها : ( أنعام لا يذكرون اسم الله عليها ( في الذبح ظهورها وإنما فعلوا ذلك كله من غير حكم من الله وشرع منه بل ) افتراء عليه ( وانتصابه(3/173)
" صفحة رقم 174 "
على أنه مفعول له أو حال أو مصدر مؤكد لأن قولهم ذلك في معنى الافتراء .
ثم قال : ( سيجزيهم بما كانوا يفترون ( والمقصود منه الوعيد ، ) و ( النوع الرابع من قضاياهم الفاسدة أن ) قالوا ما في بطون هذه الأنعام ( يعنون أجنة البحائر والسوائب ) خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ( هذا إن ولد حياً ) وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ( أي اشترك فيه الذكور والإناث ، من قرأ بنصب ميتة فتقديره وإن يكن ما في بطونها ميتة ، ومن قرأ بالرفع فعلى أن ( كان تامة ) ، أو لأن التقدير : وإن يكن لهم أو هناك ميتة .
وإنما جاز تذكير الفعل وتأنيثه لأن تأنيث الميتة غير حقيقي ، أو لأن الميتة لكل ميت ذكر أو أنثى فكأنه قيل : ميت ولهذا جاز عود الضمير إليه مذكراً في قوله : ( فهم فيه شركاء ( وتذكير الضمير في قوله : ( فهم ( للتغليب ) سيجزيهم وصفهم ( أي جزاء وصفهم على الله الكذب في التحليل والتحريم ) إنه حكيم عليم ( ليكون الزجر واقعاً على حد الحكمة وبحسب الاستحقاق .
فإن قيل : كيف أنث ) خالصة ( وذكر ) محرماً ( ؟ قلنا : الأول حمل على المعنى لأن ما في بطون الأنعام في معنى الأجنة ، والثاني حمل على اللفظ ، وفي الأول وجهان آخران : أن تكون التاء للمبالغة مثل رواية الشعر وأن يكون مصدراً كالعاقبة أي ذو خالصة .
ثم إنه سبحانه جمع قبائح أحكامهم وأفعالهم وحكم عليهم بالخسران والسفاهة وعدم العلم والضلال وعدم الاهتداء فقال ) قد خسر الذين قتلوا(3/174)
" صفحة رقم 175 "
أولادهم سفهاً بغير علم ( الآية .
وذلك أن الولد نعمة عظيمة من الله تبقي ذكره ونسله فالسعي في إبطال مثل هذه النعمة لضرر مظنون هو الفقر أو نحوه ، أو لفائدة موهومة هي القربة إلى الأصنام دليل خفة العقل وعدم العلم وأنه موجب لخسران الدارين .
وكذا تحريم ما أحل الله من الطيبات بالهوى والتقليد بل لمحض الافتراء على الله وإن ذلك من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر ، ولهذا سجل عليهم آخراً بالضلال ثم بعدم الاهتداء ليحصل كلا الأمرين لهم بالمطابقة كما حصل بالتضمن والله أعلم .
التأويل : ( مهلك القرى ( أي قرى أشخاص الإنسان ) بظلم ( وهو صرف الاستعداد الفطري في استيفاء اللذات الفانية ) وأهلها غافلون ( لم يبلغوا مبلغ التكليف بعد .
) وربك الغني ( عن كل مخلوق عامة وعن الإنسان خاصة ) ذو الرحمة ( خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح عليهم .
) واعملوا على مكانتكم ( أي على ما جبلتم عليه ) إني عامل ( على ما جبلت عليه ) قتل أولادهم شركاؤهم ( من الشياطين والنفس والهوى والدنيا ) سيجزيهم بما كانوا يفترون ( لأنهم ذهبوا مذهب الطبع لا مذهب الشرع ، والعمل بالطبع وإن كان فيه نوع مجاهدة النفس لا يكونله نور إذا لم يكن لامتثال الشرع ) قد خسر الذين قتلوا أولادهم ( لأن ذلك نتيجة انتزاع الرحمة عن قلوبهم وحرموا ما رزقهم الله صورة وهو ظاهر ، ومعنى وهو استعداد حصول مراتب أهل القرب ) وما كانوامهتدين ( لأن خشية الفقر حملتهم على قتل الأولاد .
وقال أهل التحقيق : من أمارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل .
( الأنعام : ( 141 - 150 ) وهو الذي أنشأ . . . .
" وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون "
( القراآت )
حصاده ( بفتح الحاء : أبو عمرو وعاصم وابن عامر وسهل ويعقوب ، الباقون : بالكسر وكلاهما مصدر ) من الضان ( بعغير همزة : أبو عمرو غير شجا وأوقية(3/175)
" صفحة رقم 176 "
والأعشى والأصبهاني عن ورش ويزيد وحمزة في الوقف .
) ومن المعز ( ساكن العين .
عاصم وحمزة وعلي وخلف ونافع وأبو جعفر وابن فليح وزمعة والخزاعي عن البزي والقواس غير ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل عنه ، الباقون : بفتحها ) إلا أن تكون ( بتاء التأنيث : ابن كثير وابن عامر ويزيد وحمزة وعباس مَن طريق ابن رومي عنه .
) ميتة ( بالتخفيف والرفع : ابن عامر وزاد يزيد التشديد .
الباقون : بالياء وبالنصب .
) الحوايا ( ممالة : علي وحمزة وخلف .
) فقل ربكم ( وبابه مظهراً : الحلواني عن قالون والبرجمي .
الوقوف : ( متشابه ( ط .
) ولا تسرفوا ( ط ) المسرفين ( ه لا لأن قوله : ( حمولة ( منصوب ب ) أنشأ ( ) وفرشاً ( ط ) الشيطان ( ط ) مبين ( ه لا لأن ) ثمانية ( منصوب ب ) أنشأ ( ) جنات ( ) أزواج ( ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى ) المعز اثنين ( ط ) أرحام الأنثيين ( ط لانتهاء الاستفهام ) صادقين ( ه لا لأن ) اثنين ( منصوب ب ) أنشأ ( أيضاً ) ومن البقر اثنين ( ط ) أرحام الأنثيين ( ط لأن ( أم ) في قوله : ( أم كنتم ( بمعنى ألف استفهام توبيخ .
) بهذا ( ج للاستفهام مع الفاء ولانقطاع النظم مع اتحاد المعنى ) علم ( ط ) الظالمين ( ه .
) لغير الله ( ج ) رحيم ( ه ) ظفر ( ج لانقاع النظم مع اتحاد المعنى .
) بعظم ( ط ) ببغيهم ( ز للابتداء بأن وإثبات وصف الصدق مطلقاً .
وللوصول وجه لأن المعنى وإنا لصادقون فيما أخبرنا عن التحريم ببغيهم .
) واسعة ( ط لاختلاف الجملتين ) المجرمين ( ه ) من شيء ( ط ) بأسنا ( ط ) لنا ( ط ) تخرصون ( ه ) البالغة ( ج للشرط مع الفاء ) أمعين ( ه ) حرم هذا ( ج لذلك ) معهم ( ج لتناهي جزاء الشرط مع العطف ) يعدلون ( ه .
التفسير : إنه سبحانه جعل مدار هذا الكتاب الكريم على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر وإنه بالغ في تقرير هذه الأصول وانتهي الكلام إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء ، ثم انتقل منه إلى تهجين طريقة منكري البعث والقيامة ، ثم أتبعه حكاية أقوالهم الركيكة تنبيهاً على ضعف عقولهم ، فملا تمم هذه المقاصد عاد إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على إثبات ذاته ووجوب توحيده فقال : ( وهو الذي أنشأ ( الآية نشأ الشيء ينشأ نشأ إذا ظهر وارتفع ، وأنشأه الله ينشئه إنشاء أظهره ورفعه ) جنات معروشات وغير معروشات ( يقال : عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكاً تعطف عليه القبضان .
وقيل : كلاهما الكرم فإن بعض الأعناب تعرش وبعها يبقى على(3/176)
" صفحة رقم 177 "
وجه الأرض منبسطاً والبطيخ .
وقيل : المعروشات ما يحتاج إلى أن يتخذ له عروش يحمل عليها فتمسكه وهو الكرم وما يجري مجراه ، وغير معروشات هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وقوة ساقة عن التعريش .
وقيل : المعروشات ما في البساتين والعمارات مما غرسه الناس واهتموا به فعرشوه ، وغير معروشات ما أنبته الله وحشياً في البراري والجبال فيبقى غير معروش .
) والنخل والزرع ( فسر ابن عباس بجميع الحوب التي الذكر على أحدهما كقوله : ( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها ) [ الجمعة : 11 ] أي إليهما .
والمراد أن لكل شيء منهما طعماً غير طعم الآخر و ) مختلفاً ( حال مقدّرة أي أنشأه مقدرّاً اختلاف أكله لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك ) متشابهاً وغير متشابه ( في القدر واللون والعطم .
ثم قال ) كلوا من ثمره ( وقد قال في الآية المتقدمة أعني نظير هذه الآية وذلك قوله : ( وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء ( الآية إلى قوله ) انظروا إلى ثمره ) [ الأنعام : 99 ] تنبيهاً على أن الأمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم متقدم على الإذن في الانتفاع بها لأن الحاصل من الأول سعادة روحانية أبدية ، والحاصل من الانتفاع سعادة جسمانية زائلة .
وفائدة هذا الأمر الإباحة ، وقدم إباحة الأكل على إخراج الحق كيلا يظن أنه يحرم على المالك تناوله لمكان شركة المتشاركين فيه .
وفي الآية إشارة إلى أن خلق هذه النعم إما للأكل وإما للتصدق ، والأول لكونه حق النفس مقدم على الثاني لأنه حق الغير .
وفيه أن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق لأن قوله : ( كلوا ( خطاب عام يتناو الكل ، ويمكن أن يستدل به على أن الأصل عدم وجوب الصوم وأن من ادعى إيجابه فهو المحتاج إلى الدليل ، وأن المجنون إذا أفاق في أثناء النهار لا يلزمه قضاء ما مضى ، وأن الشارع في صوم النفل لا يجب عليه الإتمام .
قال علماء الأصول : من المعلوم من لغة العرب أن صيغة الأمر تفيد ترجيح جانب الفعل ؛ فحملها على الإباحة أو الوجوب لا يصار إليه إلا بدليل منفصل ، وفائدة قوله : ( إذا أثمر ( وق علم أنه إذا لميثمر لم يؤكل منه هي أن يعمل أن أول وقت الإباحة وقت اطلاع الشجرة الثمر ولا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع ، أما قوله : ( وآتوا حقه يوم حصاده ( فعن ابن عباس في رواية عطاء وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس والضحاك. ، أن الآية مدنية والحق هو الزكاة المفروضة وعلى هذا فكيف يؤدى الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل .
والجواب أن المراد فاعزموا على إيتاء الحق يوم الحصاد واهتموا به حتى لا تؤخروه عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء ، وقال مجاهد : الآية مكية وإن هذا حق في المال سوى الزكاة وكان يقول : إذا حصدت فحضرك(3/177)
" صفحة رقم 178 "
المساكين فاطرح هلم منه ، وذا إذا دسته وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته وزيف بقوله صلى الله عليه وآله : ( ليس في المال حق سوى الزكاة ) وبأن قوله : ( وآتوا حقه ( إنما يحسن ذكره لو كان ذلك الحق معلوماً قبل ورود هذه الآية والإلزام الإجمال .
وعن سعيد بن جبير أن هذا كان قبل وجوب الزكاة فلما فرض العشر أو نصف العشر فيما سقي بالسواقي نسخ ، والقول الأول أصح .
ثم إن أبا حنيفة احتج بالآية على وجوب الزكاة في الثمار لأنه قال : ( وآتوا حقه ( بعد ذكر الأنواع الخمسة وهي العنب والنخل والزرع والزيتون والرمان .
واعترض عليه بأن لفظ الحصاد مخصوص بالزرع .
وأجيب بأن الحصد في اللغة عبارة عن القطع وذلك يتناول الكل .
واحتج هو أيضاً بها على أن العشر واجب في القليل والكثير للإطلاق .
والجواب أن بيانه في الحديث ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) .
ثم قال تعالى : ( ولا تسرفوا ( ولأهل اللغة فيه تفسيران : فعن ابن الأعرابي : السرف تجاوز ما حد لك فعلى هذا إذا أعطى الكل ولم يوصل إلى عياله شيئاً فقد أسرف كما جاء في الخبر ( إبدأ بنفسك ثم بمن تعول ) وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فخذها فقسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئاً فنزلت الآية ) ولا تسرفوا ( أي لا تعطوا كله وإذا منع الصدقة فقد أسرف وبه فسر الآية سعيد بن المسيب ، فإن مجاوز الحد تكون إلى طرف الإفراط وإلى طرف التفريط .
وقال عمر : سرف المال ما هذب منه في غير الزهري : ولا تنفقوا في معصية الله تعالى .
وعن مجاهد : لو كان أبو قبيس ذهباً فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفاً ، ولو أنفق درهماً في معصية الله كان مسرفاً ، وهذا المعنى أراد حاتم الطائي حين قيل له لا يخير في السرف فقال : لا سرف في الخير .
ثم ختم الآية بقوله : ( إنه لا يحب المسرفين ( والمقصود منه الزجر فإن كل مكلف لا يحبه الله فإنه من أهل النار لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادة إيصال الثواب إليه .
قولهك ) حمولة وفرشاً ( معطوف على جنات أي وأنشأ من الأنعام هذين الجنسين .
فالحمولة ما يحمل الأثقال(3/178)
" صفحة رقم 179 "
( فعولة ) بمعنى ( فاعلة ) والفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش مصدر بمعنى ( مفعول ) .
وقيل : الحمولة الكبار التي تصلح للحمل ، والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها مثل الفرش المفروش عليها .
) كلوا مما رزقكم الله ( قالت المعتزلة .
أي مما أحلها لكم ) ولا تتبعوا خطوات الشيطان ( لا تسلكوا طريقه الذي يدعوكم إليه في الحليل والتحريم من عن أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية ) إنه لكم عدوّ مبين ( بين العداوة .
وفي انتصاب ) ثمانية أزواج ( وجهان : قال الفراء : هو بدل من قوله : ( حمولة وفرشاً ( .
وجوز غيره أن يكون مفعول ) كلوا ( والعرب تسمي الواحد فرداً إذا كان وحده فإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منهما زوجاً وهما زوجان ، قال عز من قائل : ( خلق الزوجين الذكر والأنثى ) [ النجم : 45 ] وقال : ( ثمانية أزواج ( ثم فسرها بقوله : ( من الضأن اثنين ( أي زوجين اثنين ) ومن المعز اثنين ( وفي الآية الثانية : ( ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين ( قال الجوهري : الضائن خلاف الماعز والجمع يعني اسم الجمع الضأن والمعز مثل راكب وركب وسافر وسفر .
وضأن أيضاً مثل حارس وحرس .
وقال في الكشاف : إنه قرىء بفتح العين .
والضأن ذوات الصوف من الغنم والمعز ذوات الشعر منها ) قل الذاكرين حرم الأنثيين ( نصب بقوله : ( حرم ( والاستفهام يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله .
ويريد بالذكرين الذكر من النعجة ، والأنثى من المعز وهي العنز ، وذلك على طريق الجنسية والمشاكلة .
ومعنى الاستفهام إنكار أن يحرم الله من جنسي الغنم ضأنها ومعزها شيئاً من نوعي ذكورها وإناثها ولا مما لا يشتمل عليه أرحام الأنثيين أي مما يحمل إناث الجنسين ، وكذلك الذكر من جنسي الإبل والبقرة يعني الجمل والثور والأنثيان منهما الناقة والبقرة وما يحمل إناثهما وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى وأولادها كيفما كانت ذكوراً أو إناثاً ، أو من خلط تارة وكانوا يقولون : قد حرمها الله فقيل لهم : إنكم لا تقرونبنبوّة نبي ولا شريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وهذا يحرم ؟ وأكد ذلك بقوله : ( نبؤني بعلم ( أخبروني بأمر معلوم من جهة الله يدل على تحريم ما حرمتم ) إن كنتم صادقين ( في أن الله حرمه .
واعلم أنه سبحانه منّ على عباده بإنشاء الأزواج الثمانية من الأنعام لمنافعهم وإباحتها لهم إلا أنه فصل بين بعض المعدود وبعضه بالاحتياج على من حرمها وليس ذلك بأجنبي وإنما هي جملة معترضة جيء بها تأكيداً وتشديداً للتحليل ، فالاعتراضات في الكلام لاتساق إلا للتوكيد ، أما قوله : ( أم كنتم شهداء ( ف ( أم ) منقطعة أي بل أكنتم شهداء ومعناه الإنكار(3/179)
" صفحة رقم 180 "
وفحواه أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل وتقولون إن الله حرم هذا فلم يبق إلا المشاهدة فتهكم بهم بذلك وسجل عليهم وعلى مثالهم بالظلم بقوله : ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ( فنسب إليه تحريم ما لم يحرم ، قال المفسرون : يريد عمرو بن لحي بن قمعة الذي غيَّر شريعة إسماعيل عليه السلام وبّحَّر البحائر وسَيَّب السوائب .
والأقرب أن للفظ عام فيتناول كل مفتر وإذا استحق هذا الوعيد على افتراء الكذب في تحريم مباح فكيف إذا كذب على الله تعالى في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والملائكة وفي النبوّات وفي المعاد ؟ قال القاضي : في الآية دلالة على أن الإضلال عن الدين مذموم فلا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى .
وأجيب بأنه ليس كل ما كان مذموماً منا كان مذموماً من الله تعالى فإن تمكين العبيد من أسباب الفجور وتسليط الشهة عليهم مذموم منّا دونه ) إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( قال القاضي : لا يهديهم إلى ثوابه وإلى زيادات الهدى التي يختص المهتدي بها .
وقالت الأشاعرة : معناه أنه لا ينقل المشركين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ثم لما بيّن فساد طريقة الجاهلية فيما يحل ويحرم من المطاعم أتبعه البيان الصحيح في الباب فقال : ( قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً ( أي طعاماً محرماً ) على طاعم يطعمه ( على آكل يأكله ) إلا أن يكون ( ذلك المأكول أو الموجود أو الطعام ) ميتة أو دماً مسفوحاً ( مصبوباً سائلاً .
قال ابن عباس : يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء وما خرج من الأوداج عند الذبح فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما ، وما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل .
وسئل أبو مجلز عما يتلطّخ باللحم من الدم وعن القدر التي سلف في أمثالها ، وانتصاب ) فسقاً ( على أنه معطوف على المنصوبات قبله ، و ) أهل ( صفة له منصوبة المحل سمي ما أهل به لغير الله فسقاً لتوغله في باب الفسق كما يقال : فلان كرم وجود .
وجوز أن يكون ) فسقاً ( مفعولاً له من ) أهل ( وعلى هذا فقد عطف ) أهل ( على ) يكون ( والضمير في ) به ( يعود إلى ما يرجع إليه المستكن في ) يكون ( قالت العلماء : إن هذه السورة مكية وقد بيّن في الآية أنه لم يجد فيما أوحي إليه قرآناً أو غيره محرماً سوى هذه الأربعة ، وقد أكد هذا بما في النحل وفي البقرة مصدرة بكلمة ( إنما ) الدالة على الحصر فصارت المدنية مطابقة للمكية ، والذي جاء في المائدة ) حرمت عليكم الميتة والدم ( إلى قوله : ( وما يأكل السبع إلا ما ذكيتم ) [ الآية : 3 ] من أقسام الميتة ولكنه خص بالذكر لأنهم كانوا يحكمون على تلك الأشياء بالتحليل فثبت أن الشريعة من أولها إلى اخرها كانت مستقرة على هذا الحكم .
وعلى هذا الحصر بقي الكلام في الخمر وفي سائر النجاسات(3/180)
" صفحة رقم 181 "
والمستقذرات فنقول : إنه سبحانه ق وصف الخمر بأنه رجس وههنا علل تحريم لحم الخنزير بكونه رجاً فعلمنا أن النجاسة علة لتحريم الأكل وكل نجس فإنه يحرم أكله ، هذا بعد غجماع الأمة على تحريم الخبائث والنجاسات .
وإن جوزنا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد كما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) وآله نهى عن كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور .
فلا إشكال .
وقيل : المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن محرم على اليهود وزيف بأن تحريم شيء خامس نسخ والأصل عدمه .
ثم بين سبحانه أنه حرم على اليهود أشياء أخر سوى هذه الأربعة فقال : ( وعلى الذين هادوا حرمنا ( وذلك نوعان : الأول أنه حرم عليهم ) كل ذي ظفر ( وفيه لغات : ضم الفاء والعين وهي الفصحى ، وكسرهما وهي قراءة ابن السماك ، واضم مع السكون والكسر مع السكون وهي قراءة الحسن ، واختلف في ذي الظفر فعن ابن عباس في رواية عطاء أنه الإبل فقط ، وعنه في رواية أخرى وهو قول مجاهد أنه الإبل والنعام ، وقيل : كل ذي مخلب منالطير وكل ذي حافر من الدواب ، وسمي الحافر ظفراً على الاستعارة ، وزيف بأن الحافر لا يكاد يسمى ظفراً وبأن البقرة والغنم مباحان لهم كما يجيء مع أن لهما حافراً فإذن يجب حمل الظفر على المخلب والبراثن من الجوارح والسباع بل على كل ما له إصبع من دابة وطائر .
وكان بعض ذوات الظفر حلالاً لهم فلما ظلموا عمم التحريم .
فعموم التحريم خاص بهم ولهذا قدم الجار في قوله ) وعلى الذين هادوا حرمنا ( فيستدل بذلك على حل بعض هذه الحيوانا على المسلمين وهو ما سوى ذات المخلب والناب فيكون الخبر مبيناً للآية لا مخالفاً كما ظن صاحب التفسير الكبير .
النوع الثاني قوله ) ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما ( قال في الكشاف : هو كقولك : ( من زيد أخذت ماله ) تريد بالإضافة يعني إضافة الأخذ إلى زيد بواسطة من زيادة الربط .
والمعنى أنه حرم عليهم من كل ذي ظفر كله ومن البقرة والغنم بعضهما وذلك شحومهما فقط ، هذا أيضاً ليس على الإطلاق لقوله : ( إلا ما حملت ظهورهما ( قال ابن عباس : إلا ما علق بالظهر من الشحم فإني لم أحرمه .
وقال قتادة : إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونها .
وقيل : إلا مااشتمل على الظهور والجنوب من السحفة وهي الشحمة التي علىالظهر الملتزقة بالجلد فيما بين الكتفين إلى الوركين .
وهي بالحقيقة لحم سمين لأنه يحمر عند الهزال ولهذا لو حلف لا يأكل الشحم فأكل من ذلك اللحم السمين لم يحنث على الأصح .
والاستثناء الثاني قوله : ( أو الحوايا ( قال الجوهري : الحوايا الأمعاء واحدها حوية وفي معناها حاوية البطن وحاوياء الطبن .
وقال الواحدي : هي المباعر والمصارين والفحوى ، أو ما اشتمل على الأمعاء يعني أن الشحوم المتصقة بالمباعر والمصارين غير محرمة ، والاستثناء الثالث : ( أو ما اختلط بعظم ( قال جمهور المفسرين :(3/181)
" صفحة رقم 182 "
يعني شحم الألية .
وقال ابن جريج : كل شحم في القوائم والجنب والرأس وفي العينين والأذنين فإنه مخلوط بعظم فهو حلال لهم .
والحاصل أن الشحم الذي حرم الله عليهم هو الثرب وشحم الكلية .
وقيل : إن الحوايا غير معطوف على المستثنى وإنما هو معطوف على المستثنى منه والتقدير : حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فإنه غير محرم .
ودخوله كلمة ( أو ) كدخولها في قوله تعالى : ( ولا تطع منهم آثماً أو كفورا ( ) الدهر : 24 ] والمعنى كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا واعص هذا فكذا ههنا المعنى حرمنا عليهم هذا وهذا ) ذلك ( الجزاء وهو تحريم الطيبات ) جزيناهم ببغيهم ( بسبب قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل وغير ذلك من قبائح أفعالهم ) وإنا لصادقون ( في هذه الأخبار أو فيما يوعد به العصاة .
قال القاضي : نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر عنهم لأن التكليف تعريض للثواب والتعريض للثواب إحسان .
وأجيب بأن المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لمزيد الثواب ويمكن أن يكون بشؤم الجرم المتقدم ) فإن كذبوك ( في ادعاء النبوّة والرسالة أو في تبليغ الأحكام ، وعلى أصول المعتزلة فإن كذبوك في إنجاز إيعاد العصاة وزعموا أن الله واسع الرحمة وأنه يخلف الوعيد جوداً وكرماً .
) فقل ربكم ذو رحمة واسعة ( فلذلك لا يعجل بالعقوبة ) ولا يردّ بأسه ( إذا جاء وقت عذابه ) عن القوم المجرمين ( يعني المكذبين .
وعلى أصولهم رحمته واسعة لأهل طاعته ولا يرد بأسه مع ذلك عن الذين ارتكبوا الكبائر فماتوا قبل التوبة .
ثم حكى أعذار الكفار الواهية فقال : ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ( وإنما جاز العطف عل الضمير المرفوع المتصل من غير أن أكد بالمنفصل لمكان الفصل بعد حرف العطف بلا الزائدة لتأكيد النفي .
أخبر الله تعالى بما سوف يقولونه ولما قالوه .
قال في سورة النحل : ( وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ) [ النحل : 35 ] وإنما قال في سورة النحل بزيادة ( نحن ) و ( من دونه ) مرتين لأن الإشراك مستنكر مطلقاً .
فلفظ الإشراك يدل على إثبات شري لا يجوز إثباته ، وعلى تحليل أشياء وتحريم أشياء من دون الله فلم يحتج إلى لفظ من دونه ، وأما العبادة فإنها غير مستنكرة على الإطلاق وإنما المستنكر عبادة شيء مع الله سبحانه ، ولا تدل على تحريم شيء فلم يكن بد من تقييده بقوله : ( من دونه ( ولما حذف من الآية لفظة ) من دونه ( مرتين حذف معه ) نحن ( لتطرد الآية في حكم التخفيف .
أما تفسير الآية فزعمت المعتزلة أنها تدل على قولهم في مسألة إرادة الكائنات من سبعة أوجه : الأول أن الذي حكى عن الكفار في معرض الذم والتقبيح وذلك قولهم : ( لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك ) هو صريح قول المجبرة(3/182)
" صفحة رقم 183 "
فيكون هذا المذهب مذموماً .
الثاني قوله : ( كذلك كذب الذين من قبلهم ( فلم يذكر المكذب به تنبيهاً على أنهم جاؤا بالتكذيب المطلق لأن الله عز وعلا ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئته القبائح وإرادتها ، والرسل أخبروا بذلك فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب الله ورسوله وكتبه ونبذ أدلة السمع والعقل وراء ظهره .
والحاصل أن هذا طريق متعين لكل الكفار المتقدمين منهم والمتأخرين في تكذيب الأنبياء وفي دفع دعوتهم عن أنفسهم لأنهم يقولون الكل بمشيئة الله تعالى .
الثالث قوله : ( حتى ذاقوا بأسنا ( وذلك يدل على أنهم استوجبوا الوعيد من الله تعالى في هذا المذهب .
الرابع قوله : ( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ( وإنه استفهام على سبيل الإنكار أي لا علم لهؤلاء القائلين ولا حجة الخامس : ( إن تتبعون إلا الظن ( السادس : ( وإن أنتم إلا تخرصون ( السابع : ( قل فللَّه الحجة البالغة ( لأنه أزال الأعذار بالتمكين والإقدار فلم يبق لكم عل الله حجة وإنما الحجة البالغة له عليكم وذلك أنكم تقولون : لو أتينا بعمل على خلاف مشيئة الله لزم أن يكون الإله عاجزاً مغلوباً .
وهذا الكلام غير لازم لأن الله قادر على أن يحملكم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء إلا أن ذلك يبطل الحكمة المطلوبة من التكليف وهذا هو المراد من قوله : ( فلو شاء لهداكم أجمعين ( وبوجه آخر إن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله فلَّله الحجة الكاملة عليكم فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقنضي يقتضي ان تعلقوا دين من يخالفكم أيضاً بمشيئته فتوالوا جميع أهل الأديان ولا تعادوهم .
أجابت الأشاعرة بأنا قد بينا بالدلائل القاطعة من أو لالقرآن إلى ههنا صحة مذهبنا فوجب تأويل هذه الآية دفعاً للتناقض فنقول : إن القول كانوا يتمسكون بمشيئة الله تعالى في إبطال دعوة الأنبياء ، وفي أن التكليف عبث فبين الله تعالى أن ذلك من تكاذيبهم وأكاذيبهم ، أن التشبث بهذا العذر لا يفيدهم لأنه إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه ، شاء الكفر من الكافر ومع ذلك بعث الأنبياء وأمر بالإيمان ، ووردود الأمر على خلاف الإرادة غي ممتنع ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس : أول ما خلق الله القلم فقال : اكتب القدر فجرى بما يكون إلى قيام الساعة .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله ( المكذبون بالقدر مجوس هذه الأمة ) ثم إن ظاهر آخر الآية معناه وهو قوله : ( فلو شاء لهداكم أجمعين ( وحمل المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر تعسف والله أعلم .
ثم لما أبطل جميع حجج الكفار بين أنه ليس(3/183)
" صفحة رقم 184 "
لهم على قولهم شهود فقال : ( قل هلم ( ومعناه إذا كان لازماً أقبل وإذا كان متعدياً أحضر .
قال الخليل : أصله ( هالم ) من قولهم لمَّ الله شعثه أي جمعه كأنه قال : لمَّ نفسك إلينا أي أقرب والهاء للتنبيه واستعطاف المأمور ، ثم حذفت ألفها لكثرة الاستعمال وجعلا اسماً واحداً يستوي فيه الواحد والجمع والتذكير والتأنيث في لغة أهل الحجاز ، وأهل نجد ) والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ) [ الأحزاب : 18 ] وقال الفراء : أصلها ( هل أم ) أرادوا بهل حرف الاستفهام ومعنى أم اقصد .
وقيل : إن أصل استعماله أن قالوا هل لك في الطعام أم أي اقصد .
ثم شاع في الكل .
أمر الله تعالى نبيه باستدعاء إقامة الشهداء من الكافرين ليظهر أن لا شاهد لهم على تحريم ما حرموه .
وإنما لم يقل شهداء يشهدون لأنه ليس الغرض أحضار أناس يشهدون بالتحريم وإنما المراد إحضار شهدائهم الموسومين بالشهادة لهم المعروفين بنصرة مذهبم ولهذا قال : ( فإن شهدوا ( أي فإن وقعت شهادتهم ) فلاتشهد معهم ( أي لا تسلم لهم ما شهدوا بهولا تصدقهم لأن شهادتهم محض الهوى والتعصب ولأجل ذلك قال أيضاً : ( ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ( فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالتكذيب وليرتب عليه باقي الآية فيعلم أن المتصف بهذه الصفات لا تكون شهادتهم عند العقلاء مقبولة .
التأويل : ( وهو الذي أنشأ جنات ( في القلوب ) معروشات ( من شجرة الإسلام والإيمان والإحسان ) وغير معروشات ( هي الصفات الروحانية التي جبلت القلوب عليها كالسخاء والحياء والوفاء والمودة والفتوة والشفقة العفة والعلم والحلم والعقل والشجاعة والقناعة ونخل الإيمان وزرع الأعمال الصالحة وزيتون الأخلاق الحميدة ورمان الإخلاص بالشواهد والأحوال ) متشابها ( أعمالها ) وغير متشابه ( أحوالها ) كلوا من ثمره ( انتفعوا من ثمار الإيمان والأعمال والأخلاص بالشواهد والأحوال لا بالدعاوى والقيل والقال .
) وآتوا حقه ( دعوة الخلق وتربيتهم بالحكمة والمواعظة الحسنة و ) يوم حصاده ( أوان بلوغ السالك مبلغ الرجال البالغين عند إدراك ثمرة الكمال للواصلين دون السالك الذي يتردد بعد بين المنازل والمراحل .
) ولا تسرفوا ( بالشروع في الكلام في غير وقته والحرص على الدعوة قبل أوانها .
) ومن الأنعام ( أي ومن الصفات الحيوانية التي هي مركوزة في الإنسان ما هو مستعد لحمل الأمانة وتكاليف الشرع ، ومنها ما هو مستعد للأكل والشرب البرهان ، ورزق الروح هو المحبة بصدق التحرز عن الأكوان ، ورزق السر هو شهود العرفان(3/184)
" صفحة رقم 185 "
يلحظ العيان ، فانتفعوا من هذه الأرزاق بقدر ما ينبغي .
) إنه لكم عدو مبين ( يخرجكم بالتفريط والإفراط إلى ذد المقصود .
ثم إن الصفات الحيوانية ثمان بعضها ذكرو وبعضها إناث يتولد منها صفات أخر كلها محمودة إذ استعملت في محالها ، وبمقدار ما ينبغي ) من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ( والضأن والمعز من جنس الفرشية كما أن الإبل والبقر من جنس الحمولية .
والذكر من الضأن والمعز هما صفة شهوة البطن والفرج والأنثى منهما صفة حسن الخلق عند الاستمتاع بها وصفة التسليم عند تحمل الإذى ، والذكر من الإبل والبقر صفتا الظلومية والجهولية ، وأنثاهما الحمولية والاستسلام للاستعمال فبهذه الصفات الإنسانية صار الإنسان حامل أعباء الأمانة التي أبت المكونات عن حملها وهن أيضاً حملة عرش القلب فافهم ، وقد أحل الله تعالى استعمالها واستعمال المتولد منها على قانون الشرعية والطريقة ، ومن زعم أنه يجب تركها وفصلها بالكلية فقد افترى ) لو شاء الله ما أشركنا ( الكلام في نفسه حق وصدق إلا أنهم لما ذكروه في معرض الإلزام دفعاً للأذية والآلام كذبوا فيما قالوا والله سبحانه أعلم بالصواب .
( الأنعام : ( 151 - 165 ) قل تعالوا أتل . . . .
" قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في(3/185)
" صفحة رقم 186 "
شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم " ( القرآت : ( تذكرون ( بتخفيف الذال حيث كان : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد فحذفوا إحدى التاءين .
الباقون : بالتشديد لأجل إدغام تاء التفعل في الذال ) وأن هذا ( بسكون النون .
ابن عامر ويعقوب ) وإن هذا ( بكسر الهمزة وتشديد النون : حمزة وعلي وخلف ، الباقون : ( وأن ( بالفتح والتشديد ) صراطي ( بفتح الياء : ابن عامر والأعشى والبرجمي ) فتفرق ( بتشديد التاء : البزي وابن فليح ) أن يأتيهم ( بالياء التحتانية وكذلك في النحل : علي وحمزة وخلف .
الباقون : بالتاء الفوقانية .
) فارقوا ( وكذلك في الروم : حمزة وعلي الباقون ) فرقوا ( بالتشديد ) عشر ( بالتنوين ) أمثالها ( بالرفع : يعقوب .
الباقون بالإضافة ) ربي إلي ( بفتح ياء المتكلم : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع ، ) قيماً ( بكسر القاف وفتح الياء : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل .
الباقون : بالعكس مع تشديد الباء .
) محياي ( بالسكون ) مماتي ( بالفتح : أبو جعفر ونافع .
الباقون : بالعكس .
) وأنا أوّل ( بالمد : نافع وأبو جعفر .
الوقوف : ( شيئاً ( ط للحذف أي وأحسنوا بالوالدين ) إحساناً ( ج لابتداء النهي مع احتمال العطف أي وأن لا تقتلوا ، ) من إملاق ( ط .
) وإياهم ( ج للعطف مع العارض .
) وما بطن ( ط للفصل بين الحكمين المعظمين مع اتفاق الجملتين ) بالحق ( ط لانتهاء بيان الأحكام إلى توكيد الإيصاء للأحكام ) تعقلون ( ه ) أشده ( ج للفصل بين الحكمين ) بالقسط ( ط لاحتمال ما بعده الحال أو الاستئناف ) ذا قربى ( ج لتناهي جواب ( إذا ) وتقدّم مفعول ) أوفوا ( ) تذكرون ( ه لمن قرأ ) وإن هذا ( بالكسر .
) فاتبعوه ( ج للفصل بين النقيضين معنى مع الاتفاق نظماً .
) عن سبيله ( ط ) تتقون ( ه ) يؤمنون ( ه ) ترحمون ( ه لا لأن التقدير فاتبعوه لئلا تقولوا ) من قبلنا ( ص .
) لغافلين ( ه لا للعطف ) أهدى منهم ((3/186)
" صفحة رقم 187 "
ج للفاء مع أن ( قد ) لتوكيد الابتداء .
) ورحمة ( ج للاستفهام مع الفاء ) وصدف عنها ( ط ) يصدفون ( ه ) بعض آيات ربك ( ط ) خيراً ( ط ) منتظرون ( ه ) في شيء ( ط ) يفعلون ( ه ) أمثالها ( ج لابتداء شرط آخر مع العطف ) لا يظلمون ( ه ) مستقيم ( ج لاحتمال أن ) دينا ( نصب على البدل من محل ) إلى صراط ( أو على الإغراء أي الزموا .
) حنيفاً ( ج لابتداء النفي مع اتحاد المعنى ) المشركين ( ه ) العالمين ( ه لا .
) لا شريك له ( ج ) المسلمين ( ه ) كل شيء ( ط لانتهاء الاستفهام إلى الإخبار ) إلا عليها ( ج لتفصيل الأمرين على التهويل مع اتفاق الجملتين ) أخرى ( ج لأنّ ( ثم ) لترتيب الإخبار مع اتحاد المقصود ) تختلفون ( ه ) آتاكم ( ط ) العقاب ( ز للتفصيل بين تحذير وتبشير والوصل للعطف أوضح ) رحيم ( ه .
التفسير : ( لما بين فساد ما يقوله الكفار في باب التحليل والتحريم أتبعه الشافي في الباب فقال : ( قل تعالوا ( وهو من الخص الذي صار عاماً لأن أصله أن يقوله من كان في مكان عالٍ لمن هو أسفل منه .
و ( ما ) في قوله : ( ما حرم ( إما منصوب بفعل التلاوة أي ب ) حرم ( وإما منصوب ب ) حرم ( على أن ( ما ) استفهامية فلا راجع .
والمعنى أقل أي شيء حرم به شيئاً وبالوالدين إحساناً ( كالتفصيل لما أجمله في قوله : ( ما حرم ( فيلزم أن يكون ترك الشرك والإحسان إلى الوالدين محرماً .
فالجواب أن المراد من التحريم البيان المضبوط ، أو الكلام تم عند قوله : ( ما حرم ربكم ( ثم ابتدأ فقال : ( عليكم أن لا تشركوا ( أو ( أن ) مفسرة أي ذلك التحريم هو قوله : ( لا تشركوا ( وهذا في النواهي واضح ، وأما الأوامر فيعلم بالقرينة أن التحريم راجع إلى أضدادها وهي الإساءة إلى الوالدين وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله .
ولا يجوزأن يجعل ( أن ) ناصبة السورة أحسن بيان ، وذلك أن منهم من يجعل الأصنام شركاء لله تعالى فأشار إليهم بقوله : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة ) [ الأنعام : 74 ] ومنهم عبدة الكواكب الذين أبطل قولهم بقوله : ( لا أحب الآفلين ) [ الأنعام : 76 ] ومنهم القائلون بيزدان واهرمن ومنهم الذين يقولون الملائكة بنات الله والمسيح ابن الله وزيف معتقدهم بقوله : ( وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) [ الأنعام : 100 ] ثم عمم النهي بقوله : ( لا تشكروا به شيئاً ( ثم حث على إحسان الوالدين وكفى به خصلة شريفة أن جعله(3/187)
" صفحة رقم 188 "
تالياً لتوحيده .
ثم أوجب رعاية حقوق الأولاد بعد رعاية حقوق الوالدين .
ومعنى ) من إملاق ( أي من خوف الفقر كما صرح بذلك في الآية الأخرى ) ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) [ الإسراء : 31 ] كانا يدفنون البنات أحياء بعضهم للغيرة وبعضهم لخوف الإملاق وهو السبب الغالب فلذلك أزيل الوهم بقوله : ( نحن نرزقكم وإياهم ( فكما يجب على الوالد الاتكال في رزق نفسه على الله فكذا القول في حال الولد ، قال شمر : أملق لازم ومعتد .
أملق الرجل افتقر ، وأملق الدهر ما عنده إذا أفسده .
وإنما قال ههنا : ( نحن نرزقكم وإياهم ( وقال في سبحانه بالعكس لأن التقدير في الآية من إملاق بكم نحن نرزقكم وإياهم ، وهنالك زيدت الخشية التي تتعلق بالمستقبل فالتقدير خشية إملاق يقع بهم نحن نزرقهم وإياكم ، ثم نهى عن قربان الفواحش كلها .
ومعنى ما ظهر منها وما بطن كما مر في قوله : ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) [ الأنعام : 120 ] وفيه أن الإنسان إذا اترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز عنها في الباطن دل على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله تعالى وامتثال أمره ولكن لأجل الخوف من مذمة الناس .
ثم أفرز من جملة الفواحش قتل النفس المحرمة تنبيهاً على فظاعتها ولما نيظ بها من الاستثناء وهو قوله ) إلا بالحق ( وذلك أن قتل النفس المحرمة قد يكون حقاً لجرم صدر عنها كما جاء في الحديث ( لا يحل دم امرىءٍ مسلم إلا لإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق ) وينخرط في سلكه جزاء قاطع الطريق .
والحاصل أن الأصل في قتل النفس هو الحرمة وحله لا يثبت إلا لأمر منفصل .
ثم لما بيّن النواهي الخمسة أتبعه الكلام الذي يقرب إلى القلوب القبول فقال : ( ذلكم وصاكم ( لما في لفظ التوصية من الرأفة والاستعطاف .
ومعنى ) لعلكم تعقلون ( لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا .
ثم ذكر أربعة أنواع أخر من التكاليف وذلك قوله : ( ولا تقربوا مال اليتم إلا بالتي ( أي بالخصلة أو الطريقة التي ) هي أحسن ( وهي السعي في تثميره وإنمائه ورعاية وجوه الغبطة لأجله كما مر في أول سورة النساء ) حتى يبلغ أشده ( أي احفظا ماله إلى هذه الغاية أي أوان الاحتلام ولكن بشرط أن يؤنس منه الرشد .
قال الفراء : واحد الأشد شدته ف القياس ولم يسمع .
وقال أبو الهيثم : الواحد شدّة كأنعم في نعمة ، والشدّة القوّة ومنه قولهم : ( بلغ الغلام شدّته ) وقيل : إنه واحد جاء على بناء الجمع كآنك ولا نظر لهما ) وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ( بالعدل(3/188)
" صفحة رقم 189 "
والسوية .
وإيفاء الكيل إتمامه خلاف البخس .
وقوله : ( والميزان ( أي الوزن بالميزان .
فإن قيل : إيفاء الكيل والوزن هو عين القسط فما فائدة التكرار ؟ قلنا : أمر الله المعطى بإيفاء إيتاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة .
ثم قال : ( لا نكلف نفساً إلا وسعها ( ليعلم أنالواجب هو القدر الممكن من العدالة والسوية لا التحقيق المؤدي إلى الحرج والعسر .
فزعمت المعتزلة ههنا أن هذا القدر من التضييق حيث لم يجوزه الله تعالى فكيف يكلف الكافر الإيمان مع أنه لا قدرة له عليه أو يخلق القدرة ) وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ( المقول له أو عليه ) ذا قربى ( حمله المفسرون على أداء الشهادة وعلى الأمر والنهي والأولى أن يحمل على الأقوال كلها ويدخل فيه قول الرجل في الدعاء إلى الدين .
وتقرير الدلائل عليه بأن يذكر الدليل مخلصاً عن الحشو ومبرأ عن النقص ومجرداً عن العصبية والجدال على مقتضى الهوى والتشهي ، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكذا الكاية الرواية والرسالة .
وحكم الحاكم بحيث يتسوي فيه بين القريب والبعيد ولا ينظر إلا إلى رضا الله ، وختم الأوامر بقوله : ( وبعهد الله أوفوا ( كما قال : ( أوفوا بالعقود ) [ المائدة : 1 ] ويندرج في هذه الخاتمة بالحقيقة جميع الأنواع المذكورة ) وإن هذا صراطي ( من قرأ بالتفح والتخفيف فبإعماله في ضمير الشأن والتقدير : تعالوا أتل ما حرم وأتل أنه هذا صراطي ، وكذا فيمن قرأ بالتشديد وبالفتح إلا أن ضمير الشأن لا يقدر .
وإن شئت جعلتها خفضاً متعلقاً بما قبله أي ذلكم وصاكم به وبأن هذا ، أو بما بعده والتقدير وبأن هذا صراطي مستقيماً ) فاتبعوه ( ومن كسر فلأن التلاوة في معنى القول أو على الاستئناف والمعنى اتبعوا صراطي أنه مستقيم ) ولا تتبعوا السبل ( المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات ) فتفرق بكم ( الباء للتعدية أي فيفرقكم ذلك الأتباع ) عن سبيله ( المستقيم وهو دين الإسلام .
وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله أنه خط خطاً ثم قال : هذا سبيل الرشد .
ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، ثم تلا هذه الآية .
فهذه الآية بالحقيقة إجمال لما في الآيتين المتقدمتين ولهذا ختمها بالتقوى التي هي ملاك العمل وخير الزاد وختم الأولى بقوله ) لعلكم تعقلون ( لأنها أمور ظاهرة جلية يكفي في تعقلها أدنى مسكة وعقل ، وختم الثانية بقوله : ( لعلكم تذكرون ( لأن المذكور فيها أمور خفية تحتاج إلى التدبر والتذكر حتى يقف فيها على موضع الاعتدال .
أو نقل : الأمور الخمسة المذكورة في الآية الأولى كلها عظام جسام وكانت الوصية بها من أبلغ الوصايا فختم الآية(3/189)
" صفحة رقم 190 "
بما في الإنسان من أشرف السجايا وهو العقل الذي امتاز به الإنسان عن سائر الحيوان ، وأما المذكورة في الثانية فأشياء يقبح تعطيها وارتكابها وكانت الوصية بها تجري مجرى الزجر والوعظ فختمها بقوله : ( تذكرون ( أي تتعظون بمواعظ الله تعالى .
قوله : ( ثم آتينا موسى الكتاب ( معطوف على ) وصاكم ( فسئل كيف صح عطفه عليه بثم والإيتاء قبل الوصية بدهر طويل ؟ وأجيب بأن التكاليف التسعة المذكورة تكاليف لا تختلف ببحسب اختلاف الشرائع كما روي عن ابن عباس أن هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب ، وقيل : إنهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار ، وعن كعب الأحبار : والذي نفس كعب بيده إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة .
وأما الشرائع التي كانت التوراة مختصة بها فهي إنما حدثت بعد تلك التكاليف التسعة فكأنه قيل : ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً ، ثمأعظم من ذلك أنا آتينا موسى الكتاب وأنزلنا هذا الكتاب المبارك .
وقيل : إن في الآية حذفاً تقديره : ثم قل يا محمد صلى الله عليه وآله إنا آتينا .
والمعنى اتل ما أوحي إليك ثم اتل عيلهم خبر ما آتينا موسى .
وقيل : هو معطوف على ما تقدم قبل شطر السورة من قوله : ( ووهبنا له إسحق ويعقوب ) [ الأنعام : 84 ] وقوله : ( تماماً علىالذي أحسن ( مفعول له أي لتتم نعمتنا على الذي أحسن أي على من كان محسناً صالحاً ، أو المراد إتمام للنعمة والكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وكل ما أمر به ، أو تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته أي زيادة على علمه .
وقرىء ) أحسن ( بالرفع أي على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه ) وتفصيلاً لكل شيء ( فيدخل في ذلك بيان نبوة رسولنا صلى الله عليه وآله وصحة دينه وشرعه ) وهدى ( دلالة ) ورحمة ( لكي يؤمنوا بلقاء ما وعدهم ربهم به من ثواب وعقاب ) وهذا كتاب أنزلناه ( لا شك أنه القرآن ) مبارك ( كثير الخير والنفع أو ثابت لا يتطرق إليه النسخ كما في الكتابين ) فاتبعون واتقوا ( لكي ترحموا لأن الغرض من التقوى رحمة الله تعالى ، أو اتقوا لترحموا جزاء على التقوى ، أو اتقوا مخالفته على رجاء الرحمة .
قال الفراء قوله : ( أن تقولوا ( مفعول ) واتقوا ( وقال الكسائي : التقدير : إنا أنزلناه لئلا تقولوا .
وقال البصريون : إنا أنزلناه كراهة أن تقولوا والخطاب لأهل مكة ) إنما أنزل الكتاب ( أي التوراة والإنجيل ) على طائفتين من قبلنا ( اليهود والنصارى ) وإن كنا ( هي المخففة من الثقيلة واللام في ) لغافلين ( هي الفارقة بينها وبين النافية والأصل وإنه كنا ومعنى الدراسة القراءة .
وإنما قالوا : ( لكنا أهدى منهم ( لحدة أذهانهم وكثرة حفظهم لأيام العرب ووقائعها وخطبها وأشعارها وأمثالها مع كونهم أميين(3/190)
" صفحة رقم 191 "
قطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم .
ثم قال : ( فقد جاءكم ( أي إن صدقتم أن عدم إنزال الكتاب يصلح للعذ وأنه لو أنزل عليكم الكتاب لكنتم أهدى منهم فقد جاءكم ) بينة من ربكم ( فيما يعلم سمعاً ) وهدى ( فيما يعلم سمعاً وعقلاً ) ورحمة ( من الله في إصلاح المعاش والمعاد ) فمن أظلم ( بعد هذه المعجزات والبينات ) ممن كذب بآيات الله وصدف عنها ( أي منع غيره منها لأن الأول ضلال والثاني إضلال ، ثم ختم الآية بأشد الوعيد وأبلغ التهديد ثم ذكر أنهم بعد نصب الأدلة وإزاحة العذر لا يؤمنون ألبتة ، وشرح أحوالاً توجب المبادرة إلى الإيمان والتوبة فقال : ( هل ينظرون ( أي ينتظرون ومعنى الاستفهام النفي وتقدير الآية أنهم لا يؤمنون بك إلا عند مجيء أحد هذه الأمور : مجيء الملائكة ، أو مجيء الرب ويعني به عذابه وبأسه كما سلف في البقرة ، أو مجيء المعجزات القاهرة .
قال في الكشاف : الملائكة ملائكة الموت أو ملائكة العذاب ومجيء الرب مجيء كل آية ، ثم قال : ( يوم يأتي بعض آيا ربك ( وأجمعوا على أن المراد بهذه الآية علامات القيامة .
عن البراء بن عازب قال : كنا نتذاكر أمر الساعة إذا أشرف النبي صلى الله عليه وآله فقال : ( أتتذاكرون الساعة ؟ إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ودابة الأرض وخسفاً بالمشرق وخسفاً بالمغرب وخسفاً بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغبرها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى وناراً تخرج من عدن ) والمراد أنه إذا بدت أشراط الساعة ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، ولا نفساً ما كسبت في إيمانها خيراً .
ثم أوعدهم بقوله ) قل انتظروا إنا منتظرون ( ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله : ( إن الذين فارقوا دينهم ( أو فرقوا ومعنى القراءتين في الحقيقة واحد لأن الذي فرق دينه بمعنى أنه أقر ببعض وكفر ببعض فقد فارقه أي تركه .
قال ابن عباس : يريد أن المشركين بعضهم يعبدون الملائكة ويقولون إنهم بنات الله ، وبعضهم يعبدون الأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فصاروا شيعاً أي فرقاً وإخواناً في الضلالة .
والشيعة كل فرقة تشيع إماماً لها .
وقال مجاهد وقتادة : هم اليهود والنصارى تفرقوا فرقاً وكفر بعضهم بعضاً وأخذوا بعضاً وتركوا بعضاً كقوله : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) [ البقرة : 85 ] وعن مجاهد أيضاً أنهم من هذه الأمة وهم أهل البدع والشبهات وفي الحديث ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة - كلها في الهاوية(3/191)
" صفحة رقم 192 "
إلا واحدة وهي الناجية - وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة - كلها في الهاوية إلا واحدة .
وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين كلها في الهاوية إلا واحدة ) ) لست منهم في شيء ( أي إنك بعيد من أقوالهم ومذاهبهم والعقاب اللازم على تلك الأباطيل مقصور عليهم لا يتعداهم إليك .
وقال السدي : معناه لم تؤمر بقتالهم فلما أمر بقتالهم نسخ .
ويحتمل أن يقال : ( إن النهي عن القتال في وقت لا ينافي الأمر في وقت آخر فلا نسخ ) إنما أمرهم إلى الله ( بالاستئصال والإهلاك ) ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ( وفيه من الوعيد ما فيه .
وفي الآية حث على أن كلمة المسلمين يجب أن تكون واحدة ليستأهلوا الثواب الجزيل كما قال : ( من جاء بالحسنة ( هي لا إله إلا الله والسيئة الشرك .
والأولى حملها على العموم ) فله عشر أمثالها ( أقام صفة الجنس المميز مقام الموصوف تقديره : عشر حسنات أمثالها كقراءة من قرأ ) عشر أمثالها ( بالرفع والتنوين ، قيل : هذا أقل الموعود وقد وعد سبعمائة وبغير حساب .
وقيل : ليس المراد التحديد بل أراد الأضعاف مطلقاً كقول القائل : لئن أسديت إليّ معروفاً لأكافئنك بعشرة أمثاله .
وفي الوعيد لئن كلمتني واحدة لأكلمنك عشراً .
روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وآله قال عن الله تعالى : ( الحسنة عشرة أو أزيد والسيئة واحدة أو أغفر فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره ) وقال صلى الله عليه وآله يقول الله تعالى : ( إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة وإن لم يعلمها فإن عملها فعشر أمثالها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها فإن عملها فسيئة ) ) وهم لا يظلمون ( أي لا ينقص من ثواب طاعاتهم ولا يزاد على عقاب سيآتهم .
أسؤلة : ما الحكمة في الأضعاف ؟ جوابه كان للأمم أعمار طويلة وطاعات كثيرة فوضع الله لهذه الأمة ليلة القدر حيراً من ألف شهر وأضعاف الأعمال ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ) كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) [ البقرة : 261 ] ( إنما يوفى الصابرون أرجهم بغير حساب ) [ الزمر : 10 ] وأيضاً لو أن الخمصاء يتعلقون بهم يوم القيامة فيذهبون بأعمالهم إلى أن تبقى الأضعاف فيقول الله أضعافهم ليست من فعلهم هي من رحمتني فلا أقتص منهم أبداً .
آخر : كيف يوجب الكفر عقاب الأبد ؟ جوابه أن الكافر كان على عزم الكفر لو عشا أبداً فاستحق العقاب الأبدي بناء على ذلك الإعتقاد بخلاف المسلم المذنب فإنه يكون على عزم الإقلاع فلا جرم تكون عقوبته منقطعة ، وأيضاً الذي جهله الكافر وهو ذات القديم سبحانه وصفاته شيء لا نهاية له فيكون جهله لا يتناهى فكذا عقابه .(3/192)
" صفحة رقم 193 "
آخر : إعتاق الرقبة الواحدة تارة جعل بدلاً عن صيام ستين يوماً وهو في كفارة الظهار وتاة بدلاً عن صيام أيام قلائل .
آخر : أحدث في رأس إنسان موضحتين فوجب أرشان فإن عاد ورفع الحاجز بينهما صار الواجب أرش موضحة واحدة فههنا ازدادت إذا حصل الاندمال ، وقد ترتقي إلى نيف وعشرين .
الأذنان أو إبطال حسهما ، العينان أو البصر ، الاندمال ، وقد الشفتان ، اللسان أو النطق ، الأسنان ، اللحيان اليدان ، الذكر والأنثيان ، الحلمتان ، الشفران ، الإليتان ، الرجلان ، العقل ، السمع ، الشم ، الصوت ، الذوق ، الإمنا أو الإحبال ، إبطال لذة الجماع ، إبطال لذة الطعام ، الإفضاء ، البطش ، المشي .
وقد تضاف إليها موجبات الجوائف والمواضح وسائر الشجات .
فإن عاد الجاني قبل الاندمال وحز الرقبة أوقده بنصفين لم يجب إلاّ دية النفس ، وكل ذلك يدل على أن رعاية المماثلة غير معتبرة في الشرع .
والجواب عن الأسئلة الثلاثة أن هذه الأمور من تعبدات الشرع المطهر وتحكماته فلا سبيل بعقولنا إليها .
ويمكن أن يجاب عن الثالث بأن بدل الأطراف لما لم يستقر بالاندمال دخل في دية النفس لعسر ضبط ذلك والجزاء الحقيقي موكول إلى يوم الجزاء والله أعلم .
قال أهل السنة : كل الثواب تفضل منالله تعالى فلا إشكال .
وقالت المعتزلة : إن بين الثواب والتفضل فرقاً لأن الثواب هو المنفعة المتسحقة والتفضل هو المنفعة التي لا تكون مستحقة .
ثم اختلفوا فقال الجبائي : العشرة تفضل والثواب غيرها إذ لو كان الواحد ثوباً والتسعة تفضلاً لزم أن يكون الثواب دون التفضل فلا يكون للتكليف فائدة .
وقال آخرون : لا يبعد أن يكون الواحد ثواباًً إلا أنه يكون أعلى شأناً من التسعة الباقية .
ثم لما علم رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وآله أنواع الدلائل والرد على أصناف المشركين وبالغ في تقرير إثبات القضاء والقدر وردّ على أهل الجاهلية أباطيلهم أمره بأن يقول : ( إنني هداني ربي ( ليعلم أن الهداية لا تحصل إلا بالله عز وجل .
) وقيماً ( ( فيعل ) من قام كسيد من ساد .
ومن قرأ ) قيماً ( فلعى أنه مصدر بمعنى القيام كالصغر والكبر وصف به للمبالغة و ) ملة إبراهيم ( عطف بيان و ) حنيفاً ( حال من إبراهيم أو من الملة ، والمعنى هداني وعرفني ملة إبراهيم حال كونه أو كونها موصوفاً بالحنيفية .
ثم قال في صفة إبراهيم : ( وما كان من المشركين ( رداً على من زعم عليه شيئاً من ذلك .
ثم كما عرفه الدين القويم والطريق المستقيم علمه كيف يصنع به ويؤديه فقال : ( قل إن صلاتي ونسكي ( أي عبادتي وتقربي إليه كما روى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال : النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة .
وقيل : للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من(3/193)
" صفحة رقم 194 "
دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث .
وقيل : المراد بالنسك ههنا الذبائح جمع بين الصلاة والذبح كما في قوله : ( فصل لربك وانح ) [ الكوثر : 2 ] وقيل : صلاتي وحجي أخذاً من مناسك الحج .
) ومحياي ومماتي ( أي حياتي وموتي مصدران ميمان .
وقال في الكشاف : المراد وما آتيه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح .
وفيه أنه لا يكفي في العبادات أن يؤتى بها كيف كانت بل لا بد أن يكون جيمع حركات المرء وسكناته لله رب العالمين ) وبذلك ( من الإخلاص ) أمرت وأنا أول المسلمين ( لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته .
وقال في التفسير الكبير : إنه تعالى أمر رسوله أن يبين أن صلاته وسائر عباداته وحياته ومماته كلها واقعة بخلق الله تعالى وتقديره وقضائه ، وحكمه وذلك أن المحيا والممات بخلق الله فكذا الصلاة والنسك وبذلك من التوحيد أمرت ، ثم لما أمر نبيه بالتوحيد المحض أمره أن يذكر ما يجري مجرى الدليل عليه فقال : ( قل أغير الله أبغي رباً ( وتقريره أن طوائف المشركين من عبدة الأصنام والكواكب ومن اليهود والنصارى والثنوية كلهم معترفون بأن الله تعالى خالق الكل فكأنه سبحانه قال : قل يا محمد منكراً أغير الله أطلب رباً مع أن هؤلاء الذين اتخذوا من دون آلهة مقرون بأنه خالق تلك الأشياء ولا يدخل في العقل جعل المربوب والعبد شريكاً للرب والمولى .
وبوجه آخر الموجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته ، وقد ثبت أن الواجب لذاتهواحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته فهو إذن رب كل شيء ، وصريح العقل شاهد بأن المربوب لا يكون شريكاً للرب فلا يختص إذن بالربوبية غيره .
ثم لما بين الدليل القاطع على التوحيد ذكر أنه لا يرجع إليه من كفرهم وشركهم ذم ولا عقاب فقال ) ولا تكسب كل نفس إلا عليها ( ومعناه أن إثم الجاني عليه لا على غيره ) ولا تزر وازرة وزر أخرى ( أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم نفس أخرى وهذا كالرد لقولهم : ( اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ) [ العنكبوت : 12 ] ثم بين أن رجوع هؤلاء المشركين إلى موضع لا حاكم هناك إلا الله تعالى فقال : ( ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ( ثم ختم السورة ببيان حال المبدإ والوسط والمعاد على سبيل الإجمال فقال ) وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ( قيل : الخطاب لبني آدم لأنه جعلهم بحيث يخلف بعضهم بعضاً .
وقيل : لأمة محمد صلى الله عليه وآله لأنه خاتم النبيين فخلفت أمته سائر الأمم ، وقيل : لخواص الأمة الذين هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها بالحق كقوله : ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس ) [ ص : 26 ] ( ورفع بعضكم فوق بعض درجات ( في الشرف والعقل والجاه والمال والرزق لا للعجز والبخل ولم لأجل شبه(3/194)
" صفحة رقم 195 "
الابتلاء والامتحان ، ولظهور الموفر من المقصر وتميز المطيع من العاصي حسب ما تقتضيه الحكمة والعدالة والتدبير والتقدير .
ثم وصف نفسه بالقدرة الكاملة على إيصال العقاب وإيفاء الثواب فقال ) إنك ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ( فأدخل اللام في قرينة الترغيب وأسقطها عن قرينة الترهيب ترجيحاً لجانب الرحمة والغفران فإن اللطف والرحمة تفيض عنه بالذات والقهر والتعذيب يصدر عنه بالعرض لأن ذلك من ضروريات الملك ولهذا قال ( سبقت رحمتي غضبي ) وإنما وصف العقاب بالسرعة لأن كل ما هو آت قريب .
وإنما لم يسقط اللام عن قرينة العقاب في سورة الأعراف في قصة أصحاب السبت لأن ذلك قد رود عقب ذكر المسخ فناسب التأكيد باللام ، وإنما أخر قرينة الرحمة في الموضعين ليقع ختم الكلام على المغفرة والرحمة فيكون أدل على كمال رأفته ووفور إحسانه .
التأويل : ( من إملاق ( فيه ترك التوكل على الله وعدم الثقة بالله ) وأوفوا الكيل ( أوفوا بكيل العمر وميزان الشرع حقوق الربوبية واستوفوا بكيل الاجتهاد وميزان الاقتصاد حظوظ العبودية من الألوهية .
) وبعهد الله أوفوا ( بأن لا تعبدوا ولا تحبوا ولا تروا إلا إياه ) وإن هذا صراطي مستقيماً ( إشارة إلى أن الصراط المستقيم الحقيقي إلى الله تعالى هو صراط محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) تماماً على الذي أحسن ( أي على ومن أحسن من أمتك إسلامه. وفيه أن الكتب المنزلة كلها وشرائع الأنبياء كانت تتمة للدين الحنيفي الذي هو الإسلام ، ولهذا أمر بأن يقتدى بالأنبياء ليجمع بين هداه وهداهم .
ويحتمل أن يراد بالذي أحسن النبي صلى الله عليه وآله والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ) أنزلناه مبارك ( وبركته أنه أنزل على قلبه فكان خلقه القرآن ) فقد جاءكم بينة ( ما يبين لكم طريق السير إلى الله ومهدي ما يهديكم إلى الله أتم وأكمل مما جاء في الكتابين ) ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) [ الأنعام : 59 ] ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة ( عياناً وتسوقيهم إلى الله قهراً والجاء ) أو يأتي ربك ( إليهم إذ لم يأتوا إليه في متابعتك ) قل انتظروا ( للمستحيلات ) إنا منتظرون ( للميعاد في المعاد ) إن الذين فارقوا ( الدين الحقيقي الذي فيه كمالية الإنسان ) وكانوا شيعاً ( فرقاً مختلفة من المبتدعة والزنادقة والمتزيدة رياء وسمعة وعلماء السوء وملحدة المتفلسفة ) لست منهم في شيء ( لأنك على الحق وهم على الباطل وبينهما تضاد إنما أمرهم إلى الله في بدء الخلقة وقسم الاستعداد كما شاء ثم ينبئهم ( يوم الجزاء بما يستحقه كل منهم ) من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ( قبل ذلك حتى يقدر على الإتيان بتلك الحسنة وهي حسنة الإيجاد من العدم ، وحسنة الاستعداد حيث خلقه في أحسن تقويم ، وحسنة التربية وحسنة الرزق وحسنة بعثة الرسل وحسنة إنزال الكتب ، وحسنة تبيين الحسنات من السيئات ، وحسنة التوفيق للحسنة(3/195)
" صفحة رقم 196 "
وحسنة الإخلاص في الإحسان ، وحسنة قبول الحسنات ) ومن جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها ( لأن السيئة بذر يزرع في أرض النفس والنفس خبيثة لأنها أمارة بالسوء ، والحسنة بذر يزرع في أرض القلب والقلب طيب ) والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً ) [ أعراف : 58 ] والتحقيق أنه كما للأعداد ثلاث مراتب الآحاد والعشرات والمئات وبعد ذلك تكون الألوف إلى حيث لا يتناهى ، فكذلك للإنسان أربع مراتب : النفس والقلب والروح والسر .
فالعمل الواحد في مرتبة النفس أي إذا صدر عنها يكون واحداً ، وفي مرتبة القلب يكون بعشر أمثالها ، وفي مرتبة الروح يكون بمائة ، وفي مرتبة السر يكون بألف إلى أضعاف كثيرة بقدر صفاء السر وخلوص النية إلى ما لا يتناهي ، وهذا سر ما جاء في القرآن والحديث من تفاوت جزاء الحسنات والله تعالى أعلم ورسوله .
) قل إنني هداني ربي ( من أسفل سافلين القالب بجذبه العناية الأزلية ) ونسكي ( أي سيري على منهاج ( الصلاة معراج المؤمن ) ) ومحياي ( أي حياة قلبي وروحي ) ومماتي ( أي موت نفسي لطلب ) رب العالمين ( والوصول إليه ) وأنا أول ( المستسلمين عند الإيجاد لأمر ( كن ) كما قال : ( أول ما خلق الله نوري ) .
) قل أغير الله ( كيف أطلب غير الله وهو حبيبي والمحب لا يطلب إلا الحبيب وإذا هو رب كل شيء فيكون ما له لي ، وإن طلبت غيره دونه يكون ذلك الغير علي لا لي كما قال ) ولا تكسب كل نفس إلا عليها ( لأن النفس أمارة بالسوء والسوء عليها لا لها ) ولا تزر وازرة وزر أخرى ( فإن كان القلب سليماً من كدورات صفات النفس باقياً على ما جبل عليه من حب الله تعالى وطلبه لا يؤاخذ بمعاملة النفس ولا يتألم بعذابها وإنما تكون النفس فقط مأخوذة بوزرها معاقبة بما هي أهله ، وإن كان القلب منقلب الحال وأزاغه الله تعالى بإصبع القهر إلى محاذاة النفس فتصدأ مرآة القلب بصفات النفس وأخلاقها فيتبع النفس وهواها فيزول عنه الصفاء والطهارة والسلامة والذكر والفكر والتوحيد والإيمان والتوكل والصدق والإخلاص ورعاية وظائف العبودية فيكون مأخوذاً بوزره لا بوزر غيره ) وهو الذي جعل ( كل واحد من بني آدم وقته خليفة ربه في الأرض .
وسر الخلافة أصوره على صفات نفسه حياً قيوماً سميعاً بصيراً عالماً قادراً مريداً متكلماً ) ورفع بعضكم فوق بعض درجات ( فياستعداد الخلافة ) ليبلوكم ( ليظهر من المتخلق بأخلاقه منم القائم به وبأوامره في العباد والبلاد ، ومن الذي رجع القهقرى إلى صفات البهائم وأبطل الاستعداد للخلافة بالختم والطبع والحبس في سجين الطبيعة ) لغفور رحيم ( لمن وفقه لمرضاته ورفع درجاته الله حسبي .(3/196)
" صفحة رقم 197 "
سورة الأعراف
سورة الأعراف مكية إلا خمس آيات ) واسألهم عن القرية ( إلى قوله ) وقطهناهم (
حروفها 14210 كلماتها 3325 ، آياتها مائتان وست .
تفسير سورة الأعراف بسم الله الرحمن الرحيم
( الأعراف : ( 1 - 10 ) المص
" المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون "
( القراآت )
يتذكرون ( بياء الغيبة ثم تاء التفعل : ابن عامر .
والباقون كما مر في آخر الأنعام .
الوقوف : ( المص ( ه كوفي ) للمؤمنين ( ه ) أولياء ( ط ) تذكرون ( ه ) قائلون ( ه ) ظالمين ( ه ) المرسلين ( ه للعطف ) غائبين ( ه ) الحق ( ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب ) المفلحون ( ه ) يظلمون ( ه ) معايش ( ط ) تشكرون ( ه .
التفسير : قد تقدم في أول الكتاب مباحث هذه المقطعة على سبيل العموم .
وعن ابن عباس معنى المص أنا الله أعلم وأفصل .
وقال السدي : معناه أنا المصوّر .
وقيل : معناه ألم نشرح لك صدرك بدليل ) فلا يكن في صدرك حرج منه ( كما زاد في الرعد راء لقوله بعده ) رفع السموات ) [ الآية : 2 ] ثم إن جعلنا هذه الحروف بدل جملة فلا محل لها من(3/197)
" صفحة رقم 198 "
الإعراب ، وإن كانت اسماً للسورة جاز أن يكون ) المص ( مبتدأ و ) كتاب ( يعني به السورة خبره والجملة بعده صفة له ، وجاز أن يكون ) المص ( خبر مبتدأ محذوف وكذا ) كتاب ( أي هذه المص هو كتاب أنزل إليك .
والدليل على أنه منزل من الله تعالى هو أنه ما تلمذ الأتساذ ولا تعلم من معلم ولا طالع كتاباً ولم يخالط أهل الأخبار والأشعار وقد مضى على ذلك أربعون سنة ثم ظهر عليه ذا الكتاب المشتمل على علوما لأولين والآخرين فلن تبقى شبهة في أنه مستفاد بطريق الوحي .
القائلون بخلق القرآن زعموا أن الإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال وهذا من سمات المحدثات .
وأجيب بأن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز هو الحروف والألفاظ ولا نزاع في كونها محدثة مخلوقة .
فإن قيل : الحروف أعراض غير باقية بدليل أنه لا يمكن الإتيان به إلا على سبيل التوالي وعدم الاستقرار فكيف يعقل وفسها بالنزول ؟ أجيب بأنه تعالى أحدث هذه الرقوم في اللوح المحفوظ ثم إن الملك طالع تلك النقوش وحفظها ونزل فعلمها محمداً صلى الله عليه وآله .
ثم قال : ( فلا يكن في صدرك حرج ( أي شك .
وسمي الشك حرجاً لأن الشاك ضيق الصدر حرج كما أن المتيقن منفسح الصدر منشرح ، ومعنى ) منه ( أي من شأن الكتاب أي لا تشك في أنه منزل من عند الله أو من تبليغه أي لا يضق صدرك من الأداء وتوجه النهي إلى الحرج كقولهم لا أرينك ههنا والمراد نهيه عن الكون بحضرته فإن ذلك سبب رؤيته ومثله قوله تعالى ) وليجدوا فيكم غلظة ) [ التوبة : 123 ] ظاهره أمر للمشركين وإنه في الحقيقية أمر للمؤمنين بأن يغلظوا على المشركين .
وفي متعلق قوله ) لتنذر ( أقوال .
قال الفراء : إنه متعلق ب ) أنزل ( وفي الكلام تقديم وتأخير أي أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج .
وفائدة التقديم والتأخير أن الإقدام على الإنذار والتبليغ لا يتم ولا يكمل إلا عند زوال الحرج عن الصدر .
وقال ابن الأنباري : إنه متعلق بالنهي واللام بمعنى كي والتقدير : فلا يكن في صدرك شك كي تقدر على إنذار غيرك لأنه إلا لم يخفهم أنذرهم وكذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار لأن صاحب اليقين جسور لتوكله على ربه وثقته بعصمته .
وقال صاحب النظم : اللام بمعنى ( أن ) كقوله : ( يريدون أن يطفئوا ) [ التوبة : 32 ] وفي موضع آخر ) ليطفؤا ) [ الصف : 8 ] والتقدير لا يضق صدرك ولا تضعف عن أن تنذر به .
وقيل : إن تقدير الكلام هذا الكتاب أنزله الله عليك وإذا علمت أنه تنزيل الله تعالى فالعم أن عناية الله معك وإذا علمت هذا فلا يكن في صدرك حرج لأن من كان الله له حافظاً وناصراً لم يخف أحداً ، وإذا زال الخوف والضيق عن القلب فاشتغل بالإبلاغ والإنذار اشتغال الرجال الأبطال ولاتبال بأحد من أهل الضلال والإبطال .
ثم قال : ( وذكرى للمؤمنين ( قال ابن عباس :(3/198)
" صفحة رقم 199 "
يريد مواعظ للمصدقين .
وقال الزجاج : هو اسم في موضع المصدر .
قال الليث : الذكرى اسم للتذكرة .
وقال صاحب الكشاف : محل ذكرى يحتمل النصب بإضمار فعلها كأنه قيل لتنذر به وتذكر تذكيراً ، والرفع عطفاً على كتاب ، أو بأنه خبر مبتدأ محذوف والجر للعطف على محل ) أن تنذر ( أي للإنذار وللذكرى .
وإنما لم نقل على محل لتنذر لأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل الفعل المعلل واحداً ولو صح ذلك لكان محلهالنصب لا الجر .
وخص الذكرى بالمؤمنين كقوله : ( هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] والتحقيق فيه أن النفوس البشرية منها بليدة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في بحر اللذات الجسمانية فتحتاج إلى زاجر قويّ ، ومنها مشرقة بالأنوار الإلهية مستعدة للإنجذاب إلى عالم القدس إلا أنها غشيتها غواش من عالم الجسم فعرض لها نوع ذهول وغفلة ، فالصنف الأول يحتاج إلى إنذار وتخويف وأما الصنف الثاني فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالى تحتج إلا إلى تذكرة وتنبيه ، فثبت أنه سبحانه أنزل هذا الكتاب على رسوله ليكون إنذاراً في حق طائفة وذكرى في شأن طائفة .
ثم كما أمر الرسول بالتبليغ والإنذار مع قلب قوي وعزم صحيح أمر المرسل إليهم وهم الأمة بالمتابعة فقال : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( ومعنى كونه منزلاً إليهم أنهم مخاطبون بذلك مكلفون به وإلا فهو بالحقيقة منزل على الرسول ، قالت العلماء : المنزل متناول للقرآن والسنة جميعاً .
عن الحسن : يا بن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة رسوله .
وفي الآية دلالة على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس غير جائز لأن متابعة المنزل واجبة فلو عمل بالقياس لزم التناقض .
فإن قيل : العمل بالقياس لكونه مستفاداً من القرآن وهو قوله : ( فاعتبروا ) [ الحشر : 2 ] عمل بالقرآن أيضاً .
قلنا : بعد التسليم إن الترجيح معنا لأن العمل بالمنزل ابتداء أولى من العمل بالمنزل بواسطة ، ثم أكد الأمر المذكور بقوله : ( ولا تتبعوا من دونه ( أي لا تتخذوا من دون الله ) أولياء ( من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع .
ويجوز أن يكون الضمير في ) من دونه ( لما أنزل أي لا تتبعوا من دون الله أولياء .
احتج نفاة القياس بأن الآية دلت على نه لا يجوز متابعة غير ما أنزل الله تعالى والعمل بالقياس .
متابعة غير ما أنزل فلا يجوز .
لا يقال العمل بالقياس عمل بالمنزل لقوله : ( فاعتبروا ) [ الحشر : 2 ] لأنا نقول : لو كان الأمر كذلك لكان تارك العمل بمقتضى القياس كافراً لقوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) [ الكافرون : 44 ] وقد أجمعت الأمة على عدم تكفيره .
أجاب مثبتو القياس بأن كون القياس حجة ثبت بإجماع الصحابة والإجماع دليل(3/199)
" صفحة رقم 200 "
قاطع وظاهر العموم دليل مظنون فلا يعارض القاطع .
وزيف بأنكم أثبتم أن الإجماع حجة بعموم قوله ) ويتبع غير سبيل المؤمنين ) [ النساء : 115 ] ( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) [ آل عمران : 110 ] وبعموم قوله صلى الله عليه وآله ( لا تجتمع أمتي على الضلالة ) والفرع لا يكون أقوى من الأصل .
أجاب المثبتون بأن الآيات والأحادث والإجماع لما تعاضدت في إثبات القياس قوي الظن وحصل الترجيح .
ومن الحشوية من أنكر النظر في البراهين العقلية تمسكاً بالآية .
وأجيب بأن العلم بكون القرآن لحجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية فكيف تنكر .
ثم ختم المخاطبة بنوع معاتبة فقال : ( قليلاً ما تذكرون ( أي تذكرون تذكراً قليلا .
و ( ما ) مزيدة لتوكيد القلة .
ثم ذكر ما في ترك المتابعة من الوعيد فقال : ( وكم من قرية ( فموضع ( كم ) رفع بالابتداء و ( من ) مزيدة للتأكيد والبيان أي كثير من القرى ) أهلكناها ( مثل زيد ضربته وتقدم النصب أيضاً عربي جيد وفي الآية حذف لا لقرينة الإهلاك فقط فإن القرية تهلك بالهدم والخسف كما يهلك أهلها ولكنه يقال التقدير : وكم من أهل قرية لقوله ) فجاءها بأسنا ( والبأس بالأهل أنسب ولقوله : ( أوهم قائلون ( ولأن الزجر والتحذير لا يقع للمكليفين إلا بهلاكهم ولأن معنى البيات والقيلولة لا يصح إلا فيهم .
وإنما قال : ( فجاءها ( رداً بالكلام على اللفظ أو كما يقال الرجال فعلت .
وهنا سؤال وهو أن قوله : ( فجاءها بأسنا ( يقتضي أن يكون الهلاك مقدماً على مجيء البأس ولكن الأمر بالعكس .
والعلماء أجابوا بوجوه منها : أن المراد حكمنا بهلاكها أو أردنا أهلاكها فجاءها كقوله : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) [ المائدة : 6 ] ومنها أن معنى الإهلاك ومعنى مجيء البأس واحد فكأنه قيل : وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا وهذا كلام صحيح .
فإن قيل : كيف يصح والعطف يوجب المغايرة ؟ فالجواب أن الفاء قد تجيء للتفسير كقوله صلى الله عليه وآله ( ا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه ) فإن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه فكذا ههنا مجيء البأس جار مجرى التفسير للأإهلاك لأن الإهلاك قد يكون بالموت المعتاد وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم وقريب منه قول الفراء : لا يبعد أن يقال البأس والهلاك يقعان معاً كما يقال : أعطيتني فأحسنت .
وما كان الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله وإنما وقعا معاً .
ومنها أن ذلك محمول على حذف المعطوف والتقدير : أهلكناهم فحكم بمديء البأس لأن الإهلاك أمارة للحكم بوصول مجيء البأس .
ومنها أنه من باب القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس كقوله : عرضت الناقة على الحوض .
وقوله ( بياتاً ((3/200)
" صفحة رقم 201 "
قال الجوهري : بيت العدوّ أي أوقع بهم ليلاً والاسم البيات .
وفي الكشاف أنه مصدر بات الرجل بياتاً حسناً .
وعلى القولين فإنه وقع موضع الحال بمعنى بائتين أو مبيتين .
ثم قال : ( أوهم قائلون ( والجملة حال معطوفة على ) بياتاً ( كأنه قيل : فجاءها بأسنا مبيتين أو بائتين أو قائلين .
وإنما حسن ترك الواو ههنا من الجملة الاسمية الواقعة حالاً لأن واو الحال قريب من واو العطف لأنها استعيرت منها للوصول فالجمع بين حرف العطف وبينه جمع بين المثلين وذلك مستثقل .
فقولك : جائني زيد راجلاً أو هو فارس .
كلام فصيح ، ولو قلت : جاءني زيد هو فارس كان ضعيفاً .
وقال بعض النحويين : الواو محذوفة مقدرة ورده الزجاج لما قلنا .
أما معنى القيلولة فالمشهور أنها نومة الظهيرة .
وقال الأزهري : هي الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن نوم لقوله تعالى : ( أصحاب الجنة يومئذٍ خير مستقراً وأحسن مقيلاً ) [ الفرقان : 24 ] والجنة لا نوم فيها وإنما خص وقتا البيات والقيلولة لأنهما وقتا الغفلة والدعة فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع .
وكأنه قيل للكفار لا تغتروا بالفراغ والرفاه والأمن والسكون فإن عذاب الله إنما يجيء دفعة من غير سبق أمارة .
أيا راقد الليل مسوراً بأوّله
إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
فقوم لوط ألهكوا وقت السحر ، وقوم شعيب وقت القيلولة .
ثم قرر حالهم عند مجيء البأس فقال : ( فما كان دعواهم ( أي ما كانوا يدعونه من قبل دينهم وينتحلونه من من مذهبهم إلا اعتارفهم ببطلانه وفساده والإقرار بالإساءة والظلم على أنفسهم .
وقال ابن عباس : فما كان تضرعهم واستغاثتهم إلا قولهم هذا وذلك إقرار منهم على أنفسهم بالشرك .
وقال أهل اللغة : الدعوى اسم يقوم مقام الدعاء .
حكى سيبويه اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين ودعوى المسلمين أي فما كان دعواؤهم ربهم إلا اعترافهم بعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم فلا يزيدون على ذم أنفسهم وتحسرهم علىما فرط منهم وفرطوا فيه .
ومحل ) دعواهم ( وعلى عكسه محل ) إن قالوا ( يجوز أن يكون نصباً أو رفعاً كما سبق في إعراب قوله : ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا ) [ الأنعام : 23 ] ثم ذكر على ترك القبول والمتابعة وعيداً آجلاً فقال : ( فلنسئلن الذي أرسل إليهم ( نسأل المرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم كقوله : ( ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ) [ القصص : 65 ] ( ولنسئلن المرسلين ( ) فلنقصن عليهم ( أي على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم ) بعلم ( عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم ) وما كنا غائبين ( عنهم وعمل وجد منهم .
فإن قيل : ما الفائدة في سؤال المرسل إليهم بعدما أخبر عنهم أنهم اعترفوا بذنوبهم ؟ فالجواب أنهم لما(3/201)
" صفحة رقم 202 "
أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين سئلوا بعد ذلك عن سبب الظلم أو التقصير تقريعاً وتوبيخاً .
فإن قيل : ما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة ؟ قلنا : ليلتحق كل التقصير بالأمة فيتضاعف إكرام الله تعالى في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع مواجب التقصير ، ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار .
فإن قلت : كيف الجمع بين قوله : ( فلنسئلن ( وبين قوله : ( فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) [ الرحمن : 39 ] فالجواب بعد تسليم اتحاد الزمان والمكان أن القوم لعلهم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إليها وعن الصوارف التي صرفتهم عنها .
أو المراد نفي سؤال الاستفادة والاسترشاد وإثبات سؤال التوبيخ والإهانة فلا تناقض .
وفي الآية إبطال قول من زعم أنه لا حساب على الأنبياء ولا على الكفار ، وفيها أنه سبحانه عالم بالكليات وبالجزئيات ولا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السموات ، فالإلهية لا تكمل إلا بذلك .
وفيها أنه غير مختص بشيء من الأحياز والجهات وإلا كان غائباً من غيره .
ثم بيّن أن من جملة أحوال يوم القيامة وزن الأعمال فقال : ( والوزن ( وهو مبتدأ خبره ) يومئذ ( وقوله ( الحق ( صفة المبتدأ أي الوزن العدل يوم يسأل الله الأمم ورسلهم. وقيل : لا يجوز الإخبار عن شيء وقد بقيت منه بقية فيجب على هذا أن يكون ) الحق ( خبراً و ) يومئذٍ ( ظرفاً للوزن ومعنى الحق أنه كائن لا محالة .
وفي كيفية الميزان قولان : الأول ما جاء في الخبر ( إنه تعالى ينصب ميزاناً له لسان وكفتان يوم القيامة يوزن به أعمال العباد خيرها وشرها ) .
وكيف توزن فيه وجهان : أحدهما أن المؤمن تتصوّر أعماله بصور حسنة وأعمال الكافر بصور قبيحة فتوزن تلك الصور ذكره ابن عباس .
وثانيهما أن الوزن يعود إلى الصحف التي تكون فيها أعمال العباد .
يروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله سئل عما يوزن يوم القيامة فقال : الصحف .
وعن عبد الله بن سلام أن ميزان العالمين ينصب بين الجن والإنس يستقبل به العرش إحدى كفتي الميزان على الجنة الأخرى على جهنم ولو وضعت السموات والأرض في إحدهما لوسعتهن ، وجبريل آخذ بعموده ناظر إلى لسانه ، وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يؤتى برجل يوم القيامة إلا الميزان ويؤتى له بتسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر فيا خطاياه وذنوبه فتوضع في كفة الميزان ثم يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله فيوضع في الآخرة فترجح )(3/202)
" صفحة رقم 203 "
قال القاضي : يجب أن يحمل هذا على أنه يأتي بالشهادتين بحقهما من العابدات وإلا كان إغراء على المعصية .
ورد بأنه خلاف الظاهر وبأنه لا يبعد أن يكون ثواب كلمة الشهادة أوفى وأوفر من سائر الأعمال لأن معفرة الله تعالى أشرف العقائد والأعمال .
وروى الواحدي في البسيط أنه إذا خف حسنات المؤمن أخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من حجزته بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وخلقك فمن أنت ؟ فيقول : أنا نبيك وهذه صلواتك التي كنت تصليها عليّ قد وافتك أحوج ما تكون إليها القول الثاني قول مجاهد والضحاك والأعمش وكثير من المتأخرين أن المراد من الميزان العدل لأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلا بالوزن والكيل فلا يبعد جعل الوزن مجازاً عن العدل .
ومما يؤكد ذلك أن أعمال العباد أعراض وأنها قد قنيت وعدمت ووزن المعدوم محال وكذا لو قدر بقاؤها .
وأما قولهم الموزون صحائف الأعمال أو صور مخلوقة على حسب مقادير الأعمال فنقول : المكلف يوم القيامة إما أن يكون مقراً بأنه تعالى عادل حكيم وحينئذٍ يكفيه حكم الله تعالى بمقادير الثواب والعقاب في علمه بأنه عدل وصواب ، وإما أن لا يكون مقراً فلا نعرف من رجحات الحسنات على السيئات وبالعكس حقية الرجحان .
أجاب الأولون بأن جميع المكلفين يعترفون يوم القيامة أنه تعالى منزه عن الظلم والجور لكن الفائدة في وضع الميزان ظهور الرجحان لأهل الموقف وازدياد الفرح والسرور للمؤمن وبالضدّ للكافر .
واختلف العلماء أيضاً في كيفية الرجحان فقال بعضهم : يظهر هناك نور في رجحان الحسنات وظلمة في رجحان السيئات .
وقال آخرون : بل يظهر الرجحان في الكفة .
واختلف أيضاً في الموازين فقيل : إنها جمع موزون وأراد الأعمال الموزونة والميزان المنصوب واحد .
ولئن سلم أنها جمع الميزان فالعرب قد توقع لفظاً لجمع على الواحد فتقول : خرج فلان إلى مكة عل الأفراس والبغال .
قاله الزجاج .
وقال الأكثرون : كما لا يمتنع إثبات ميزان له لسان وكفتان فكذلك لا يمتنع إثبات موازين بهذه الصفة فما الموجب لترك الظاهر والمصير إلى التأويل قال عز من قائل : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ) [ الأنبيا : 47 ] وأيضاً لا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان ولأفعال الجوارح ميزان ولما يتعلق بالقول ميزان آخر .
ثم إن المرجئية الذين يقولون المعصية لا تضر مع الإيمان قالوا : إن الله حصر أهل الموقف في قسمين منهم من تزيد حسناته على سيئاته ومنهم على العكس ولا ريب أن هذا القسم أهل الكفر لأنه حكم عليهم بأنهم الذين خسروا أنفسهم بسبب الظلم بآيات الله أي التكذيب بها وهذا لا يليق إلا بالكافر .
ولئنسلم أن العاصي معاقب لكنه يعاقب أياماً ثم يعفى عنه ويتخلص إلى رحمة الله تعالى فهو بالحقيقة ما خسر نفسه بل فاز برحمة الله أبد(3/203)
" صفحة رقم 204 "
الآباد من غير زوال ولا انقطاع .
قيل : في الآية دلالة على أن الذي تكون حسنات وسيئات متعادلتين متساويتين غير موجود والله أعلم .
ثم لما فرغ من التخويف بالعذاب الآجل رغب الخلائق في قبول دعوة الأنبياء بطريق آخر وهو تذكير النعم فإن ذلك يوجب الطاعة فقال : ( ولقد مكناكم في الأرض ( أقدرناكم على التصرف فيها ) وجعلنا لكم فيها معايش ( هي جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها ، أو ما يتوصل به إلى ذلك وبالجملة وجوه المنافع التي تحصل بتخليق الله تعالى ابتداء كالأثمار ، أو بواسطة كالاكتساب ولوجه في معايش تصيح الياء لأنها أصلية لا زائدة كصحائف بالهمز في صحيفة .
وعن ابن عامر أو نافع في بعض الروايات الهمز تشبيهاً بصحائف واستبعده النحويون البصريون .
ثم عاتب المكلفين بأنهم لا يقومون بشكر نعمه كما ينبغي فقال : ( قليلاً ما تشكرون ( وفيه إشارة إلى أنهم قد يشكرون ) وقليل من عبادي الشكور ) [ سبأ : 13 ] .
التأويل : ( المص ( هو إله من لطفه أفرد عباده للمحبة وللمعرفة وأنعم عليهم بالصدق والصبر لقبول كمالية المعرفة والمحبة بواسطة ) كتاب أنزل على قلبك ( فانفسح له صدرك والنشرح فلم يبق فيه ضيق وحرج بخلاف ما أنزل من الكتب في الألواح والصحف فقد عرض لبعضهم ضيق عطن فألقى الألواح .
وكما شرف نبيه بالكتاب المنزل على قلبه حتى صار خلقه القرآن شرف أمته بأن أمرهم باتباع ما أنزل إليهم ليتخلقوا بأخلاق الله .
) وكم من قرية ( قبل أفسدنا استعدادها ) فجاءها بأسنا ( أي إزاغة قلوبهم بإصبع القهارية وأهلها نائمون على فراش الحسبان ) قائلون ( في نهار الخذلان فما كان ادّعاؤهم إلا أن قالوا من قصر نظرهم لا من طريق الأدب ) إنا كنا ظالمين ( فنسبوا التصرف إلى أنفسهم ولم يعلموا أن الله تعالى مقلب أفئدتهم وأبصارهم ) فلنسئلن الذين أرسل إليهم ( وهم عامة الخلائق هل قلبتم الدعوة وعملتم بما أمرتم أم لا فيكون السؤال سؤال تعنيف وتعذيب أو هم الذين قبلوا الدعوة فيكون السؤال سؤال تشريف وتقريب ) ولنسئلن المرسلين ( سؤال إنعام وإكرام هل بلغتم وهل وجدتم أمماً قابِلِي الدعوة ) فنقصن عليهم بعلم ( فليعلمن أنا ما أرسلنا الرسل إليهم عبثاً وإنما أرسلناهم لأمر عظيم وخطب جسيم ) وما كنا غائبين ( عن الرسل بالنصر والمعونة وعن المرسل إليهم بالتوفيق والعناية ) والوزن يومئذ ( لأهل الحق لا الباطل لا نقيم لهم يوم القيامة وزناً .
روي أنه يوم القيامة يؤتى بالرجل العظيم الطويل لا الباطل لا نقيم فلا يزن جناح بعوضة .
) فمن ثقلت موازينه ( بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والأحوال الكاملة ) فأولئك هم المفلحون ( من شر أنانيتهم وإنما جميع الموازين لأن لبدن(3/204)
" صفحة رقم 205 "
كل مكلفٍ ميزاناً يوزن به أعماله ولنفسه ميزاناً يوزن به صفاتها ولقلبه ميزاناً يوزن به أوصاف ولروحه مزيناً يوزن به نعوته ولسره ميزاناً به أحواله ولخفيه ميزاناً يوزن به أخلاقه .
والخفي لطيفة روحانيّة قابلة لفيض الأخلاق الربانية ولهذا قال صلى الله عليه وآله : ( ما وضع في الميزان شيء أقل من حسن الخلق ) وذلك أنه ليس من نعوت المخلوقين وإنما هو خلق رب العالمين والعباد مأمورون بالتخلق بأخلاقه ) خسروا أنفسهم ( أفسدوا استعدادها ) ولقد مكناكم ( هيأنا لكم خلافة الأرض دون غيركم من الحيوانات والملك ) وجعلنا لكم ( خاصة ) معايش ( ولكل صنف من الملك والحيوانات معيشة واحدة وذلك أن الإنسان مجموع من الملكية والحيوانية والشيطانية والإنسانية .
فمعيشة الملك هي معيشة روحه ، ومعيشة الحيوان هي معيشة بدنه ، ومعيشة الشيطان هي معيشة نفسه الأمارة بالسوء ، وقد حصل للإنسان بهذا الترركيب مراتب الإنسانية وإنها لم تكن لكل واحد من الملك والحيوان والشيطان وهي القلب والسر والخفي ، فمعيشة قلبه هي الشهود ، ومعيشة سره هي الكشوف ، ومعيشة خفيه هي الوصال والوصول .
( الأعراف : ( 11 - 25 ) ولقد خلقناكم ثم . . . .
" ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين قال اخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون "
( القراآت )
لأملأن ( يتليين الهمزة الثانية حيث كان : الأصبهاني عن ورش وحمزة في(3/205)
" صفحة رقم 206 "
الوقف : ( تخرجون ( من الخروج : حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وابن ذكوان الباقون : مبنياً للمفعول من الإخراج والله أعلم .
الوقوف : ( إلا إبليس ( ط لأنه معرفة فلا تصلح الجملة صفة له .
) الساجدين ( ه ) إذا أمرتك ( ط ) منه ( ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول .
) طين ( ه ) الصاغرين ( ه .
) يبعثون ( ه ) المنظرين ( ه ) المستقيم ( ه لا للعطف ) شمائلهم ( ط ) شاكرين ( ه ) مدحوراً ( ط لأن ما بعده ابتداء قسم محذوف .
) أجمعين ( ه ) الظالمين ( ه ) الخالدين ( ه ) الناصحين ( ه ) بغرور ( ج لأن جواب ( لما ) منتظر مع الفاء ) ورق الجنة ( ط لأن الواو للاستئناف ) مبين ( ه ) أنفسنا ( سكتة للأدب إعلاماً بانقطاع الحجة قبل ابتداء الحاجة .
) الخاسرين ( ه ) عدو ( ط لعطف المختلفين ) إلى حين ( ه ) تخرجون ( ه .
التفسير : من جملة نعم الله تعالى علينا أن خلق أبانا آدم فجعله مسجوداً للملائكة فلذلك ذكر تلك القصة عقيب تذكري النعم ، ونظر هذه الآيات ما سبق في سورة البقرة ) كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ) [ البقرة : 28 ] منع من المعصية بقوله : ( كيف تكفرون ( ثم علل ذلك المنع بكثرة نعمه على المكلفين وهو أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم خلق لهم ما في الأرض جميعاً من المنافع ، ثم ختم ذلك بقصة جعل آدم خليفة في الأرض مسجوداً للملائكة ، والغرض من الكل أن التمرد والجحود لا يليق بإزاء هذه النعم الجسام .
وقصة آدم وما جرى له مع إبليس ذكرها الله في سبعة مواضع : في ( البقرة ) وههنا وفي ( الحجر ) وفي ( سبحان ) وفي ( الكهف ) وفي ( طه ) وفي ( ص ) وسنبين بعض حكمة اختلاف العبارات بقدر الفهم إن شاء الله تعالى. وههنا سؤال وهو أن قوله : ( ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم ثم قلنا ( يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلقنا وتصويرنا والأمر في الواقع بالعكس .
وأجاب المفسرون بوجوه منها : أن المضاف محذوف أي خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر ثم صورنا أباكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا .
وإنما حسن هذه الكناية لأن آدم عليه السلام أصل البشر نظير قوله لبني إسرائيل المعاصرين ) وإذا اخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ) [ البقرة : 63 ] أي ميثاق أسلافكم .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل .
وإنما قتله أحدهم .
ومنها أن المراد نخلقناكم آدم ثم صورناكم أي صورنا ذرية آدم في ظهره في صورة الذر ثم قلنا للملائكة وهذا قول مجاهد .
ومنها خلقناكم ثم صورناكم ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة .
ومنها أن الخلق في اللغة التقدير وتقدير الله تعالى عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته بتخصيص كل شيء بمقداره المعين له .
فقوله :(3/206)
" صفحة رقم 207 "
) خلقناكم ( إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم .
وقوله : ( صورناكم ( إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورهم كما أنه أثبت صور كل كائن كما جاء في الخبر ( اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ) .
ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له .
قال الإمام فخر الدين رضي الله عنه .
وهذا التأويل عندي أقرب الوجوه في تأويل هذه الآية .
وأما أن إبليس هل هو من الملائكة أم لا فقد تقدم في أوائل سورة البقرة فلا وجه لإعادته .
أما قوله سبحانه .
) ما منعك أن لا تسجد ( فظاهره يقتضي أنه تعالى طلب من إبليس ما منعه من ترك السجود وليس الأمر كذلك فإن المقصود طلب ما منعه من السجود كما قال في سورة ص ) ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ( ) ص : 75 ] فلهذا الإشكال حصل للمفسرين رضي الله عنهم أقوال أوّلها وهو الأشهر : أن ( لا صلة ) زائدة كما في ) لا أقسم ) [ القيامة : 1 ] وكما في قوله : ( لئلا يعلم أهل الكتاب ( ) الحديد : 29 ] أي ليعلم وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين .
قال في الكشاف : وفائدة زيادتها توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل في ) لئلا يعلم ( ليتحقق علم علم أهل الكتاب ، وفي ) ما منعك أن لا تسجد ( ما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك .
قلت : لعله أراد أن زيادة ( لا ) إشارة إلى نفي ما عدا المذكور ليلزم منه تحقق المذكور .
وثانيها أن إثبات الزيادة في كلام الله تعالى خارج عن الأدب وأن الاستفهام للإنكار أي لم يمنعك من ترك السجود شيء كقول القائل لمن ضربه ظلماً : ما الذي منعك من ضربي أدينك أم عقلك أم حياؤك ؟ والمعنى أنه لم يوجد أحد هذه فما امتنعت من ضربي .
وثالثها قال القاضي : ذكر الله تعالى المنع وأراد الداعي فكأنه قال : ما دعاك إلى أن لا تسجد لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها .
وقيل : الممنوع من الشيء مضطر إلى خلاف ما منع منه .
وقيل : معناه ما الذي جعلك في منعة من عذابي ؟ وقيل : معناه من قال لك لا تسجد .
وأقول : يمكن أن لا يعلق قوله : ( أن لا تسجد ( بقوله : ( ما منعك ( وإنما يكون متعلقه محذوفاً التقدير : ما منعك من السجود أن لا تسجد أي لئلا تسجد توجه عليه هذا السؤال .
والحاصل أن عدم سجودك ما سببه ؟ ) إذ أمرتك ( أمر إيجاب .
وفائدة هذا السؤال من علام الغيوب توبيخه وإفشاء معاندته وجحوده .
واستدل العلماء بالآية على أن مجرد الأمر يقتضي الوجوب وإلا لم يترتب الذم عليه ، وأن الأمر يقتضي الفور وإلا لم يستوجب الذم بترك السجود في الحال .
ثم استأنف اللعين قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم زعماً منه أن مثله مستبعد أن يؤمر بما أمر به وتلك الخيرية هي التي منعته عن السجود فقال : ( أنا خير منه ( ثم بين هذه المقدمة بقوله ) خلقتني من نار(3/207)
" صفحة رقم 208 "
وخلقته من طين ( والنار أفضل من الطين لأن النار جوهر مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السموات ملاصق لها ، والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن الأجرام اللطيفة كلها ، وأيضاً النار قوية التأثير والفعل ، والأرض ليس فيها إلا القبول والانفعال والفعل أشرف من الانفعال .
وأيضاً النار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة والنضج وأما الأرضية فللبرد واليبس تناسب الموت والحياة أشرف من الموت .
وأيضاً فما بين التمييز والشباب لما كان وقت كمال الحرارة كانت أفضل أوقات عمر الحيوان بخلاف وقت الشيخوخة لغلبة البرد واليبس المناسب للأرضية والمخلوق من الأفضل أفضل لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع .
وأما أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون فما قد تقرر في العقول فهذه شبهة إبليس والمقدمات بأسرها ممنوعة ، أما أن النار أفضل من الأرض فممنوع لأن كل عنصر من العناصر الأربعة يختص بفوائد ليست لغيره ، وكل منها ضروري في الوجود وفي التركيب فلكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على بعض تطويل بلا طائل .
ومن تأمل ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه تعالى : ( الذي جعل لكم الأرض فراشاً ) [ البقرة : 22 ] وقف على بعض منافعها وعلم أن طعن اللعين مردود جداً .
ولو لم يكن في النار إلا الخفة المقتضية للطيش والاستكبار والترفع وفي الأرض إلا الرزانة الموجبة للحلم والوقار والتواضع لكفى به رداً لكلامه ، وأما أن المخلوق من الأفضل أفضل فهو محل البحث والنزاع لأن الفضيلة عطية من الله تعالى ابتداء ولا يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة ، فقد يخرج الكافر من المؤمن ويحصل الدخان من النار والتكليف يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل .
فالاعتبار بما انتهى إليه لا بما خلق منه وقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ائتوني بأعمالكم ولا تأتوني بأنسابكم ) ) إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) [ الحجرات : 13 ] وفي قوله : ( أنا خير منه ( باطلة .
ولئن سلم فلم لا يجوز خدمة الفاضل للمفضول تواضعاً وإسقاطاً لحق النفس ؟ ولم لا يجوز الأمر بذلك لغرض الطاعة والامتثال أو لتشريف المفضول والرفع من مقداره ؟ قالت العلماء ههنا : إن قوله تعالى للملائكة ) اسجدوا لآدم ( خطاب عام يتناول جميع الملائكة : ثم إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس فاستوجب الذم والتعنيف والدخول في جملة المتكبرين على الله فدل ذلك على أنه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس أنه كانت الطاعة بإبليس أولى من القياس فعسى ربه وقاس .
وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه ، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس .
ويمكن أن يجاب بأنه إنما استحق الذم لأن قياسه كان مبطلاً(3/208)
" صفحة رقم 209 "
للنص بالكلية لا مخصصاً .
وتقريره أنه لو قبح أمر من كان مخلوقاً من النار بسجوده لمن كان مخلوقاً من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقاً من النور المحض بسجوده لما هو مخلوق من الأرض أولى .
ويحتمل أن يزيد هذا الجواب بأن الشريف إذا رضي بتلك الخدمة فلا اعتراض عليه وحينئذٍ لا يقبح أمره بذلك .
ثم إن الملائكة رضوا بذلك فلا بأس ، وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق فقبح أمره بالسجود ، فقياسه يوجب تخصيص النص لا رفعه بالكلية فعلمنا أن استحقاق الذم إنما كان لتخصيص النص بالقياس كما ادعينا .
) قال ( أي الله تعالى كلام تعنيف وتعذيب لا إكرام وتشريف أو قال على لسان بعض ملائكته ) فاهبط ( يعني إذ لم تمثل أمري فاهبط ) منها ( .
قال ابن عباس : يريد من الجنة وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم .
وقال بعض المعتزلة : أمر بالهبوط من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة إلى الأرض التي هي مقر العاصين المتكبرين من الثقلين ) فما يكون ( فما يصح ) لك أن تتكبر فيها ( وتعصي ) فاخرج إنك من الصاغرين ( من أهل الصغار والهوان .
يقال للرجل قم صاغراً إذا أهين .
وفي ذده قم راشداً ، قال الزجاج : إن إبليس طلب التكبر فابتلاه الله بالذلة والصغار كما قال النبي صلى الله عليه وآله : ( من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله ) ) قال أنظرني إلى يوم يبعثون ( طلب الإنظار من الله تعالى إلى وقت البعث وهو وقت النفخة الثانية حين يقوم الناس لرب العالمين ، ومقصوده أنه لا يذوق الموت فلم يعطه الله تعالى ذلك بل ) قال ( مطلقاً ) إنك من المنظرين ( قيل : إن هذا المطلق مقيد بقوله في موضع آخر ) إلى يوم الوقت المعلوم ) [ ص : 81 ] أي اليوم له أجلاً .
والمراد الوقت المعلوم في علم الله تعالى والدليل على ذلك أن إبليس كان مكلفاً والمكلف لا يجوز أن يعلم أجله لأنه يقدم على المعصية بقلب فارغ حتى إذا قرب أجله تاب فيقبل توبته وهذا كالإغراء على المعاصي فيكون قبيحاً .
أجاب الأولون بأن من علم الله تعالى من حالة أن يموت على الطهارة والعصمة كالأنبياء أو على الكفر والمعاصي كإبليس فإن إعلامه بوقت أجله لا يكون إغراء على المعصية لأنه لا يتفاوت حاله بسبب ذلك التعريف والإعلام ) قال فبما أغويتني ( الإغواء ضد الإرشاد وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل إذا بشم والبشم فساد يعرض في جوفه من كثرة شرب اللبن .
ولا يمكن أن يتعلق(3/209)
" صفحة رقم 210 "
الباء بقوله : ( لأقعدن ( لأن لام القسم تأبى ذلك .
لا يقال : والله يريد لأمرنّ .
لأن حكم القسم وما يتلوه حكم همزة الاستفهام وحرف النفي الذي هو ما وهي تعمل من حيث المعنى لا من حيث اللفظ فكأنها عوامل ضعيفة فلم يتقدم عليها شيء من معمولاتها لضعفها .
وإنما يتعلق بفعل القسم المحذوف و ( ما ) مصدرية تقديره : فبما أغويتني أي فبسبب إغوائك إياي أقسم .
ويجوز أن تكون الباء للقسم أي فأقسم بإغوائك لأقعدن .
ومعنى القسم بالإغواء أنه من جلمة آثار القدرة أي بقدرتك عليّ ونفاذ سلطانك في لأقعدن .
وقال في الكشاف : إن الأمر بالسجود كان سبب إغوائه وهو تكليف والتكليف من أحسن أفعال الله لكونه تعريضاً لسعادة الأبد فكان جديراً بأن يقسم به وهذا يناسب أصول الاعتزال .
قال مشايخ العراق : الحلف بصفات الذات كالقدرة والعظمة والجلال والعزة يمين ، والحلف بصفات الفعل كالرحمة والغضب لا يكون يميناً .
ويعني بصفات الفعل ما يجوز أن يوصف بضده فيقال : رحم فلاناً ولم يرحم فلاناً وغضب ولم يغضب .
وقال بعضهم : ما للاستفهام كأنه قيل : بأي شيء أغويتني ثم ابتدأ فقال : ( لأقعدن ( ويرد على هذا القول أن إثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على ( ما ) الاستفهامية قليل .
قيل : إن إبليس أضاف الإغواء ههنا إلى الله وفي قوله : ( فبعزتك لأغوينهم ) [ ص : 82 ] أضاف الإغواء إلى نفسه والأول يدل على الجبر والثاني على القدر ، وهذا دليل على أنه كان متحيراً في هذه المسألة .
أجابت المعتزلة عن قوله : ( فبما إغويتني ( بأن قول إبليس واعتقاده ليس بحجة أو المراد أنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم فعند ذلك ظهر منه كفر فلهذا المعنى أضاف الغي إلى الله .
وقد يقال : لا تحملني على ضربك أي لا تفعل ما أضربك عنده ، أو المراد بالإغواء الإهلاك واللعن .
وقالت الأشاعرة : نحن لا نبالغ في أن المراد بالإغواء ههنا هو الإضلال لأن حاصله كيفما كان يرجع إلى حكاية قول إبليس وهو ليس بحجة إلا أنا نقطع بأن الغاوي لا بد له من مغوٍ وليس ذلك نفسه لأن العاقل لا يختار الغواية مع العلم بكونها غواية والدور أو التسلسل محال فلا بد أن ينتهي إلى خالق الكل وهو المقصود .
أما قوله : ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ( فانتصابه على الظرف كقوله :
لدن بهز الكف يعسل متنه
فيه كما عسل الطريق الثعلب
قال الزجاج : هو كقولهم ضرب زيداً الظهر والبطن أي على الظهر والبطن .
والمراد لأعترضن لهم أي لبني آدم المذكورين في قوله : ( ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم ( على طريق الإسلام كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة ، والحاصل أنه يواظب(3/210)
" صفحة رقم 211 "
على الإفساد بالوسوسة مواظبة لا يفتر عنه ولهذا ذكر العقود لأن من أراد المبالغة في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود .
والعم أن العلماء اختلفوا في أن كفر إبليس كفر عناد أو كفر جهل .
فمن قائل بالأول لقوله : ( صراطك المستقيم ( وصراط الله المستقيم هو دينه الحق .
ومن قائل بالثاني لقوله : ( فبما أغويتني ( فدل ذلك على أنه اعتقد أن الذي هو عليه محض الغواية ، وإنما وصف الصراط بالمستقيم بناء على زعم الخصم واعتقاده ورد بأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغوايه فقد علم أن ضدّه هو الحق فكان إنكاره إنكار اللسان لا القلب وهو المعنى بكفر العناد ، ويمكن أنيجاب بأنه أراد بالإغواء أيضاً الإغواء بزعم الخصم ، قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دنيه ولا في دنياه وإلا لم يمهل إبليس حين استمهله مع علمه بالمفاسد والغوائل المترتبة على ذلك ، ومما يؤيد ذلك أنه بعث الأنبياء دعاة للخلق إلى الحق وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال ، ثم إنه أمات الأنبياء وأبقى إبليس ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أنيفعل ذلك .
قال الجبائي في دفع هذا الاعتراض .
إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه ولا يضل بقوله أحد بل إنما يضل من لو فرضينا عدم إبليس لكان يضل أيضاً بدليل قوله تعالى : ( فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صالي الجحيم ) [ الصافات : 162 ] ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة .
وقال أبو هاشم : يجوز أن يضل به قوم ويكون خلقه جارياً مجرى زيادة الشهوة فإن هذه الزيادة من الشمقة توجب الزيادة في الثواب .
وضعف قول الجبائي بأنا نعلم بالضرورة أن الإنسان إذا جلس عنده جلساء السوء وحسنا في عينه أمراً من الأمور مرة بعد أخرى فإنه لا يكون حاله في الإقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التحسين فكذا الشيطان المزين للقبائح في قلوب الكفار والفساق .
وزيف قول أبي هاشم بأن خلق الزيادة يوقع في الكفر وعقاب الأب ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته أن يزداد ثوابه وحصول هذه الزيادة شيء لا حاجة إليه والأهم رفع العقاب لا تحصيل زيادة الثواب .
فلو كان إله العالم مراعياً لمصالح العباد لم يهمل الأهم لطلب الزيادة التي لا ضرورة إليها .
أما ذكر الجهات الأربع ففيه وجوه أحدها ) من بين أيديهم ( أي أشككهم في صحة البعث والقيامة ) ومن خلفهم ( ألقي إليهم أن الدنيا قديمة أزلية .
وثانيها من بين أيديهم أنفرهم عن الرغبة في سعادات الآخرة ، ومن خلفهم أقوي رغبتهم في لذات الدنيا وطيباتها ؛ فالآخرة بين أيديهم لأنهم يردون عليها ويصلون إليها ، والدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها ، وثالثها قول(3/211)
" صفحة رقم 212 "
الحكم والسدي ) من بين أيديهم ( يعني الدنيا لأنهم بين يدي الإنسان وإنه يشاهدها ) ومن خلفهم ( الآخرة لأنها تأتي بعد ذلك .
وأما قوله : ( وعن أيمانهم وعن شمائلهم ( فقيل : ( عن أيمانهم ( في الكفر والبدعة ) وعن شمائلهم ( في أنواع المعاصي .
وقل : ( عن أيمانهم ( في الصرف عن الحق ) وعن شمائلهم ( في الترغيب في الباطل .
وقيل : ( عن أيمانهم ( افترهم عن الحسنات ) وعن شمائلهم ( أقوي دواعيهم إلى السيئات قال ابن الأنباري : وهذا قول حسن لأن العرب تقول اجعلني عن يمينك أي من المقدمين ولا تجعلني عن شمالك أي من المؤخرين .
وعن الأصمعي هو عندنا باليمين أي بمنزلة حنسة وبالشمال للعكس .
وقال حكماء الإسلام : إن في البدن قوى أربعاً هي الموجبة لفوات السعادات الروحانية : إحداهما القوة الخيالية التي يجتمع فيها مثل المحسوصات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله : ( من بين أيديهم ( وثانيتها القوّة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وهو قوله : ( ومن خلفهم ( وثالثهما الشهوة ومحلها الكبد التي عن يمين البدن .
ورابعتها الغضب ومنشؤه القلب الذي هو في الشق الأيسر .
فالشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة .
وقيل : ( من بين أيديهم ( الشبهات المبنية على التشبيه إما في الذات أو في الصفات كشبه المجسمة وإما في الأفعال كشبه المعتزلة في التعديل والتجويز والتحسين والتقبيح لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات فهي بين يديه وبمحضر منه فيعتقد أن الغائب مثل الشاهد ) ومن خلفهم ( شبهات أهل التعطيل لأن هذه بإزاء الأولى ، ) وعن إيمانهم ( الترغيب في ترك المأمورات ) وعن شمائلهم ( الترغيب في فعل المنهيات .
وعن شقيق رضي الله عنه ما من صباح إلاّ ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع إما من بين يدي فيقول لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ ) وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ) [ طه : 82 ] وإما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ ) وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) [ هود : 6 ] وإما من يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ ) والعاقبة للمتقين ) [ الأعراف : 128 ] وإما من شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ ) وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) [ سبأ : 54 ] وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه قعد له بطريق الإسلام .
فقال له : تدع دين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له تدع ديارك وتتغرب فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له تقاتل فتقتل فيقسم ملك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل ( وعلى هذا فالقعود في(3/212)
" صفحة رقم 213 "
وعلى هذا فالقعود في الطريق والرصد من الجهات مثل الوسوسة إليهم وتسويله بكل ما يمكنه ويتيسر له كقوله : ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ) [ الإسراء : ] وبقي ههنا بحث وهو أنه تعالى كيف قال : ( من بين أيديهم ومن خلفهم ( بحرف الابتداء ) وعن أيمانهم وعن شمائلهم ( بحرف التعدية على حسب السماع .
يقال : جلس عن يمينه وعلى يمينه ، فمعنى ) على ( أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي منالمستعلى عليه ، ومعنى ) عن ( أنه جليس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير ملاصق له ، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ونظيره في المفعول به ) رميت السهم عن القوس وعلى القوس ومن القوس ( لأن السهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدىء الرمي منها ، وكذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ، ومن بين يديه ومن خلفه لأنالفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول : جئته من الليل تريد بعض الليل ، وقال بعض المفسرين : خص اليمين والشمال بكلمة ) عن ( لأنها تفيد البعد والمباينة وعلى جهتي اليمين والشمال ملكان لقوله : ( عن اليمين وعن الشمال قعيد ) [ ق : 17 ] والشيطان لا بد أن يتباعد عن الملك ولا كذلك حال القدام والخلف .
وقالت الحكماء ) من بين أيديهم ومن خلفهم ( هما الوهم والخيال كما مر والناشىء منهما العقائد الباطلة والكفر ) وعن أيمانهم وعن شمائلهم ( الشهوة والغضب والناشىء منهما الأفعال الشهوية والغضبية .
وضرر الكفر لازم لأن عقابه دائم وضرر المعاصي مفارق لأن عذابها منقطع فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة ) عن ( تنبيهاً على أنهما في اللزوم والاتصال دون القسم الأول .
وإنما اقتصر على الجهات الأربع ولم يذكر الفوق والتحت لأن القوى التي منها يتولد ما يوجب تفويت السعادات الروحانية هي هذه الموضوعة في الجوانب الأربعة من البدن ، وأما في الظاهر فقد روي أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا : يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع استيلائه عليه من الجهات ؟ فأوحى الله تعالى إليهم أنه قد بقي للإنسان جهتا الفوق والتحت فإذا رفع يديه إلى فوق بالدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبيهته على الأرض بطريقة الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة .
قال القاضي : هذا القول من إبليس كالدلالة على أن لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخاطله لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المغالبة أحق .
قلت : هذا منافٍ لما في الحديث ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) .
أما قوله : ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ( فسئل أنه من(3/213)
" صفحة رقم 214 "
باب الغيب فكيف عرف ؟ وأجاب بعضهم بأنه كان قد رآه في اللوح المحفوظ فقال على سبيل القطع واليقين .
وقال آخرون : إنه قال على سبيل الظن لأنه كان عازماً على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات فغلب على ظنه أنهم يقبلون قوله : ( ولقد صدقه الله تعالى في ذلك الظن حيث قال : ( ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه ) [ سبأ : 20 ] ( وقليل من عبادي الشكور ) [ سبأ : 13 ] .
وقيل : إن للنفس تسع عشرة قوة : الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب والقوى السبع الكامنة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة ، وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم .
وأما التي تدعوها إلى عالم الأرواح فقوة واحدة وهي العقل ، ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكثر من استيلاء واحدة لا سيما وهي في أول الخلقة تكون قوية ، والعقل يكون ضعيفاً وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلذلك قطع بقوله : ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ( ) قال ( الله تعالى في جوابه إذا كان هذا عزمك ) اخرج منها مذؤماً مدحوراً ( الذام العيب والذأم يهمز ولا يهمز ، والدحر الطرد والإبعاد وفي المثل : لا تعدم الحسناء ذاماً .
واللام في ) لمن تبعك ( موطئة للقسم و ) لأملأن ( جوابه وهو ساد مسد جواب الشرط .
وعن عصام ) لمن تبعك ( بكسر اللام بمعنى لمن تبعك منهم هذا الوعيد وهو قوله : ( لأملأن جهنم ( فغلب ضمير المخاطب كما في قوله : ( إنكم قوم تجعلون ) [ الأعراف : 138 ] أي إنكم وإنهم على هذا .
فقوله : ( لأملأن ( في محل الابتداء ) ولمن تبعك ( خبره .
قال القاضي : كما أن الكافر يتبعه كذلك الفاسق يتبعه فلذلك يجب القطع بدخول الفاسق النار .
وأجيب بشرط عدم العقو .
قوله : ( ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ( الآية .
فيها من المسائل أو جنة من جنان الأرض .
وأن قوله ) وكلا ( أمر إباحة لا أمر تكليف .
وأن قوله : ( ولا تقربا ( نهي تنزيه أو نهي تحريم وأن الشجرة المشار إليها شجرة واحدة بالشخص أو بالنوع وإنها أيّ شجرة كانت .
وأن ذلك الذنب كان صغيراً أو كبيراً .
وأن الظلم في قوله : ( فتكونا من الظالمين ( بأي معنى هو ؟ وأن هذه الواقعة وقعت قبل نبوة آدم أو بعدها ؟ ونحن قد قضينا الوطر عن جميعها في سورة البقرة فلا حاجة إلى الإعادة ) فوسوس لهما الشيطان ( الوسوسة حديث النفس وهو فعل غير متعد كولولت المرأة ووعوع الذئب والمصدر الوسواس أيضاً بكسر الواو والوسواس بالفتح الاسم(3/214)
" صفحة رقم 215 "
كالزلزال .
ويوصل إلى المفعول باللام وبإلى .
فمعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ومعنى وسوس إليه ألقاها إليه أي تكلم معه كلاماً خفياً يكرره ) ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما ( قيل : اللام لام العاقبة لأن الشيطان لم يقصد بالوسوسة ظهر عورتهما وإنما آل أمرهما إلى ذلك ، وقيل : لام الغرض وبدو العورة كناية عن زوال الحرمة وسقوط الجاه الذي كان غرضه ، أو لعله رأى في اللوح المحفوظ أو سمع من الملائكة أنه إذا أكل من الشجرة بدت عورته وفي ذلك سقوط حشمته .
وقوله : ( ووري ( مجهول وارى أي ستر والسوء فرج الرجل والمرأة .
ثم بيّن وسوسة إبليس بأنه ) قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين ( أي إلا كراهة أن تكونا ملكين إلى قوله : ( إني لكما لمن الناصحين ( .
سؤال : كيف يطمع إبليس آدم في أن يكون ملكاً عند الأكل من الشجرة مع أنه شاهد الملائكة ساجدين معترفين بفضله ؟ والجواب بعد تسليم أن هذه الواقعة كانت بعد النبوة وبعد سجود الملائكة له ، أن هذا أحد ما يدل على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الأرض أما ملائكة السموات وملائكة العرش والكرسي والملائكة المقربون فما سجدوا ألبته لآدم وإلا كان هذا التطميع فاسداً .
وربما يجاب بأنه أراد أنه يصير مثل الملك في البقاء والدوام وزيف بلزوم التكرار من قوله : ( أو تكونا من الخالدين ( .
قال الواحدي : كان ابن عباس يقرأ ) ملكين ( بكسر اللام كأن الملعون أتاهما من جهة الملك كقوله : ( هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ) [ طه : 120 ] واعترض بأنه لا نزاع في هذه القراءة الشاذة وإنما النزاع في القراءة المشهورة .
ويمكن أن يجاب بأن آدم لعله رغب في أن يصير من الملائكة في القدرة والقوة والبطش والخلقة بأن يصير جوهراً نورانياً مقره العرش والكرسي .
نقل أن عمرو بن عبيد قال للحسن : إن آدم وحواء هل صدّقاه في قوله ؟ فقال الحسن : معاذ الله لو صدّقناه لكانا من الكافرين .
أراد الحسن أنتصديق الخولد يوجب إنكار البعث والقيامة وإنه كفر .
ويمكن أن يقال : لو أراد بالخلود طول المكث لم يلزم التكفير ، ولو سلم أن الخلود مفسر بالدوام فلا نسلم أن اعتقاد الدوام من آدم يوجب الكفر لأن العلم بالموت ثم البعث يتوقف على السمع ولعل ذلك الدليل السمعي لم يصل إلى آدم وقتئذٍ .
ثم إن المحققين اتفقوا على أن التصديق لم يوجد من آدم لا قطعاً ولا ظناً وإنما أقدما على الأكل لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا عند الشهوة أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير الأمرين كونهما ملكين وكونهما خالدين والظاهر أنه على طريقة التخيير .
سؤال : المقاسمة من الجانبين فكيف يتصور التقاسم بين آدم وإبليس ؟ والجواب كأنه قال لهما : أقسم بالله إني(3/215)
" صفحة رقم 216 "
لكما ناصح وقالا له : نقسم بالله إنك إن صدقت ناصح .
أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها ، أو أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه اجتهد فيها اجتهاد المقاسم ) فدلاهما بغرور ( أي أوقعهما فيما أراد من تغرير ، وأصله أن الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه .
وقيل : أي جرأهما على أكل الشجرة من قولهم : فلان يدل على أقرانه في الحرب كالبازي يدل على صيده .
قال ابن عباس : غرهما باليمين .
وكان آدم يظن أن لا يحلف أحد بالله كاذباً .
وعن ابن عمر أنه كان إذا رأى من بعض عبيده طاعة وحسن صلاة أعتقه فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق ، فقيل له : إنهم يخدعونك فقال : من خدعنا بالله انخدعنا له .
) فلما ذاقا الشجرة ( فيه دلالة على أنهما تناولا اليسير قصداً إلى معفرة طعمه ولولا أنه ذكر في آية أخرى ) فأكلا منهم ) [ طه : 121 ] لم يدل على الأكل لأن الذوق قد يكون من غير أكل .
) بدت لهما سوآتهما ( ظهرت عوراتهما أي عورتاهما مثل ) صغت قلوبكما ) [ التحريم : 4 ] مكان قلباكما ) وطفقا يخصفان ( أخذا في الفعل وهو الخصف ، ويستعمل طفق بمعنى كاد .
قال الزجاج : أي يجعلان ورقة على ورقة ليستترا بهما كما تخصف النعل طرقة على طرقة وتوثق بالسيور .
والورق التين وفيه دليل على أن كشف العورة قبيح من لدن آدم ألا ترى أنهما كيف بادرا إلى الستر لما تقرر في عقلهما من قبح كشف العورة ؟ ) ألم أنهكما ( عتاب من الله وتوبيخ وباقي الآيات مفسر في سورة البقرة .
عن ثابت البنانيك لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة فجعلت حواء تدور حولهم فقال لها : خلي ملائكة ربي فإنما أصابني الذي أصابني فيك .
فلما توفي غسلته الملائكة بماء وسدر وتراً وحنطته وكفتته في وتر من الثياب وحفروا له ولحدوا ودفنوه بسرنديب بأرض الهند وقالوا لبنيه : هذه سنتكم بعده .
وقد بقي علينا من التفسير أسرار المتشابهات الواقعة في هذه القصة فلنفرغ لها .
قوله : ( ما منعك ( وفي ص ) يا إبليس ما منعك ) [ الآية : 75 ] وفي الحجر ) يا إبليس ما لك ( ) الآية : 32 ] حذف المنادى في هذه السورة لأن مضي ذكره هنا أقرب فلم يحتج إلى إعادة اسم للعين بالنداء .
قوله : ( ما منعك أن لا تسجد ( .(3/216)
" صفحة رقم 217 "
قوله : ( أنا خير منه ( الآية في ص ) ما منعك أن تسجد ) [ الآية : 75 ] جمع بين لفظ المنع ولفظ ( لا ) في هذه السورة لأنه لما حذف النداء زاد لفظة ( لا ) زيادة في النفي وإعلاماً بأن المخاطب به إبليس .
وإن شئت قلت : جمع في السورة بين ما في ( ص ) وما يف ( الحجر ) فقال : ( ما منعك أن تسجد ( و ) مالك أن لا تسجد ( وحذف ) أن تسجد ( وحذف ) مالك ( لدلالة الحال ودلالة السورتين عليه فبقي ) ما منعك أن لا تسجد ( .
قوله : ( أنا خير منه ( الآية في ص مثله كلاهما في جواب ) ما منعك ( ظاهر إلا أنه زاد في الحجر لفظ الكون فقال : ( لم أكن لأسجد ) [ الآية : 33 ] ليكون مطابقاً للسؤال حيث قيل : ما لك أن لا تكون مع الساجدين .
قوله : ( أنظرني إلى يوم يبعثون ( وفي ص وفي الحجر ) رب فانظرني ) [ الآية : 36 ] لأنه لما اقتصر في السؤال على الخطاب دون صريح الاسم اقتصر ههنا أيضاً على الخطاب دون ذكر المنادى بخلاف السورتين .
وأما زيادة الفاء في السورتين دون هذه السورة فلأن داعية الفاء ما تضمنه النداء من أدعو وأنادي نحو قوله : ( ربنا فاغفر ) [ آل عمران : 193 ] أي أدعوك فاغفر .
فلما حذف النداء في هذه السورة تركت الفاء .
وكذلك من قوله : ( إنك من المنظرين ( ليطابق الجواب السؤال .
قوله : ( فيما أغويتني ( وفي الحجر ) رب بما أغويتني ) [ الآية : 39 ] بزيادة النداء ليوافق ما قله .
وزاد في هذه السورة الفاء وكذا في ( ص ) ) فبعزتك لأغوينهم ) [ الآية : 82 ] لزيادة الربط .
ولم يمكن دخول الفاء في ( رب ) لامتناع النداء منه لأن ذلك يقع مع السؤال والطلب .
) قال اخرج منها مذؤماً ( ليس في القرآن غيره وإنما اختص هذا الموضع بذلك لأن اللعين بالغ في العزم على الإغواء فقال : ( لأقعدن لهم ( إلى آخره فبالغ الله جل وعلا في ذمه إذا الذام أشد الذم .
قوله : ( فكلا ( بالفاء وفي البقرة ) وكلا ) [ الآية : 35 ] لأن اسكن ههنا من السكنى التي معناها اتخاذ الموضع مسكناً وهذا لا يستدعى زماناً ممتداً يمكن الجمع بين الاتخاذ والأكل فيه بل يقع الأكل عقيبه ، وفي البقرة من السكون الذي يراد به الإقامة فلم يصلح إلا بالواو فإن المعنى أجمعا بين الإقامة فيها والأكل من ثمارها ولو كان بالفاء لوجب تأخير الأكل إلى الفراغ من الإقامة. وإنما زاد في البقرة ) رغداً ( لما زاد في الخبر تعظيماً بقوله : ( وقلنا ( قال بعض الأفاضل في الجواب عن هذه المسائل : إن اقتصاص ما مضى إذا لم يقصد به أداء الألفاظ بأعيانها كان اختلافها واتفاقها سواء إذا أدى المعنى المقصود .
وهذا جواب حسن إن رضيت به كفيت مؤنة السهر إلى السحر والله أعلم .
التأويل : ( ولقد خلقنا ( أرواحكم ) ثم صورناكم ( أي خلقنا لأرواحكم أجساداً كما جاء في الحديث ( إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام ) ولتصوير الأجساد بداية وهي قوله : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) [ الأعراف : 172 ] فإن لفظ الذرية يقع على المصورين ووسط ) يصوركم في الأرحام كيف يشاء ) [ آل عمران : 6 ](3/217)
" صفحة رقم 218 "
ونهاية هي حالة الكهولية في الأغلب ) ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ( وأنتم في صلب وهذا من التمكين أيضاً ) فسجدوا ( لاستعدادهم الفطري للسجود ولائتمارهم لأمر الله ) إلا إبليس لم يكن ( من المستعدين للسجود لما فيه من الاستكبار الناري ) قال ما منعك ( خطاب الامتحان لجرم إبليس لظهر به استحقاقه اللعن فإنه لو كان ذا بصيرة لقال في الجواب منعني تقديرك وقضاؤك ولكنه كان أعور العين اليمنى بصيراً بالعين التي رأى بها أنانيته فقال : ( أنا خير منه ( أي منعني خيريتي من أن أسجد لمن هو دوني ، واستدل على خيريته بأنه خلق من نار وهي علوية نورانية لطيفة وآدم خلق من طين وهو سفلي ظلماني كثيف .
وهذا القياس معارض بأن النار من خاصيتها الإحراق والفناء والطين من خواصه النشوء والإنماء والاستمساك الذي بقوته يصير الإنسان مستمسكاً للفيض الإلهي ونفخ الروح فيه فاستحق سجود الملائكة لأنه صار كعبة حقيقية .
فلما ابتلي إبليس بالصغار وطرد من الجوار أخذ في النوح وأيس من الروح ورضي بالبعاد واطمأن بالحياة فقال : ( أنظرني ( فأجيب إلى ما سأل ليكون وبالاً عليه ويزي في شقوته ، ولكن لم يجبه بأن لا يذيقه ألم الموت لقوله في موضع آخر ) إلى يوم الوقت المعلوم ) [ ص : 81 ] ( قال فبما أغويتني ( لم تكن حوالته الإغواء إلى الله منه نظر التوحيد وإنما كان للمعارضة والمعاندة لقوله : ( أغوينهم ) [ الحجر : 39 ] ( لأقعدن ( ) ثم لآتينهم ( من الجهات التي فيها حظوظ النفس ) من بين أيديهم ( من قبل الحسد على الأكابر من المشايخ والعلماء المعاصرين ) ومن خلفهم ( من قبل الطعن في الأكابر الأقدمين والسلف الصالحين .
) وعن أيمانهم ( من قبل إفساد ذات البين وإلقاء العداوة والبغضاء بين الإخوان ) وعن شمائلهم ( من جهة ترك النصيحة مع أهاليهم وأقاربهم وترك الأمر بالمعروف مع عامة المسلمين .
أو المراد ) وعن أيمانهم ( من قبل الرياء والعجب ) ومن خلفهم ( من قبل الصلف والفخر ) وعن أيمانهم ( من قبل الادعاء وإظهار المواعيد والمواجيد ) وعن شمائلهم ( من قبل الافتراء على أنفسهم ما ليس فيها من الكشوف والأحوال .
أو ) من بين أيديهم ( من قبل الاعتراض على الشيخ ) ومن خلفهم ( من قبل التفريق والإخراج عن صحبة الشيخ ) وعن أيمانهم ( من قبل ترك حشمة المشايخ ) وعن شمائلهم ( من قبل مخالفة الشيخ والرد بعد القبول .
أو ) من بين أيديهم ( أثوّر عليهم أهاليهم وأولادهم ليمنعوهم عن طلب الحق ) ومن خلفهم ( أثور عليهم آباءهم وأمهاتهم ) وعن أيمانهم ( أثور عليهم أحباءهم ) وعن شمائلهم ( أثور عليهم أعداءهم وحسادهم .
) ولا تقربا هذه الشجرة ( يعني شجرة المحبة فإن المحبة مطية المحنة ) فتكونا من الظالمين ( على أنفسكما لأن للمحبة ناراً ونوراً فمن لم يرد نارها لم يجد نورها ومن يرد نارها احترقت أنانيته فيبقى بلا هوية نفسه مع هوية ربه فههنا يجد نور المحبة ويتنور به(3/218)
" صفحة رقم 219 "
كقوله : ( يحبهم ويحبونه ) [ المائدة : 54 ] فشجرة المحبة شجرة غرسها الرحمن بيده لأجل آدم كما خمر طينة آدم بيده لأجل هذه الشجرة ، وإنّ منعه منها كان تحريضاً له على تناولها فإن الإنسان حريص على ما منع .
ولم تكن الشجرة طعمة لغير آدم وأولاده ) إلا أن تكونا ملكين ( أي من أهل السلو كملكين في زوايا الجنة ) أو تكونا من الخالدين ( في الجنة كالحور والرضوان فسقاهما إبليس في كأس القسم شراب ذكر الحبيب ) وقاسمهما ( فلما غرقا في لجّة المحنة وذاقا شجرة المحبة ) بدت لهما سوآتهما ( أي سوآت نار المحبة قبل نورها وهي نار فرقة الأحبة في البداية ) وطفقا ( لاشتعال نائرة المحبة يجعلان كل نعيم الجنة على نارهما ، فلما التهبت احترقت بلظى نارها حبة الوصلة ونعب غراب البين بالفرقة .
فبينما نحن في لهو وفي طرب
بدا سحاب فراق صوبه هطل
وإن من كنت مشغوفاً بطلعته
مضى وأقفر منه الرسم والطلل
فالصبر مرتحل والوجد متصل
والدمع منهمل والقلب مشتعل
) وناداهما ربهما ( نداء العزة والكبرياء ) ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ( فإنها تذل العزيز وتزيل النعيم وتذهب الطرب وتورث التعب والنصب ) إن الشيطان لكما عدوّ مبين ( ولكن في عداوته صداقة مخفية تظهر ولو بعد حين :
واخجلتا من وقوفي باب دارهم
لو قيل لي مغبضاً من أنت يا رجل
فانغسل بماء الخجل منهما رعونات البشرية ولوث العجب والأنانية فرجعا عما طمعا فيه ووقفا لديه وعلما أن لا منجا ولا ملجأ منه إلا إليه فقالا ) ربنا ظلمنا أنفسنا ( بأن أوقعناها في شبكة المحبة لا المحبة تبقينا بالوصال ولا المحنة تفنينا بالزوال ) وإن لم تغفر لنا ( بنوال الوصال ) وترحمنا ( بتجلي الجمال ) لنكونن من الخاسرين ( الذي خسروا الدنيا والعقبى ولم يظفروا بالمولى .
فأمرا بالصبر على الهجر وقيل : ( اهبطوا بعضكم لبعض عدو ( النفس عدو القلب والروح ، والقلب عدو لما سوى الله ) ولكم ( للنفس والقلب والرفع في أرض البدن مقام وتمتع في الشريعة باستعمال الطريقة للوصول إلى الحقيقة إلى حين تصير النفس مطمئنة تستحق الخطاب ، ارجعي من الهبوط وارفعي بعد السقوط .
إن الأمور إذا انسدت مسالكها
فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا
لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة
إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا(3/219)
" صفحة رقم 220 "
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
) قال فيها ( أي في المحبة ) تحيون ( بصدق الهمة وقرع باب العزيمة ) وفيها تموتون ( بطلب الحق على جادة الشريعة بإقدام الطريقة ) ومنها تخرجون ( إلى عالم الحقيقة .
( الأعراف : ( 26 - 34 ) يا بني آدم . . . .
" يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " ( ه .(3/220)
" صفحة رقم 221 "
القراآت : ( ورياشا ( أبو زيد عن المفضل .
الباقون ) ريشاص ( ) ولباس ( بالنصب : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعليّ .
الباقون بالرفع .
) خالصة ( بالرفع : نافع .
الآخرون بالنصب ) ربي الفواحش ( مرسلة الباء : حمزة .
الوقوف : ( وريشاً ( ط لمن قرأ ) ولباس ( مرفوعاً ومن قرأ بالنصب وقف على ) التقوى ( ) خير ( ط ) يذكرون ( ه ) سوآتهما ( ط ) لا يؤمنون ( ه ) أمرنا بها ( ط ) بالفحشاء ( ط ) ما لا تعلمون ( ه ) الدين ( ط ) تعودون ( ه على جواز الوصل لرد النهاية إلى البداية ) الضلالة ( ج ) مهتدون ( ه ) ولا تسرفوا ( ج لاحتمال الفاء أو اللام .
) المسرفين ( ه ) من الرزق ( ط ) يوم القيامة ( ط ) يعلمون ( ه ) ما لا تعلمون ( ه ) أجل ( ج لأن جواب ( إذا ) منتظر مع دخول الفاء فيها ) ولا يستقدمون ( ه .
التفسير : لما ذكر أن الأرض لبني آدم ذكر أنه أنزل كل ما يحتاجون إليه في الدين والدنيا فقال : ( يا بني آدم قد أنزلنا ( وأيضاً لما ذكر واقعة آدم في انكشاف العورة وأنه كان يخصف عليها أتبعه ذكر اللباس أنه قضى ثمة وكتب أو أنه حاصل بالمطر المنزل من أبواب التقوى .
ومعنى إنزال اللباس أنه قضى ثمة وكتب أو أنه حاصل بالمطر المنزل من السماء ومثله ) وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) [ الزمر : 6 ] ( وأنزلنا الحديد ( ) الحديد : 25 ] والريش لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوآتكم ولباساً لزينتكم لأن الزينة غرض صحيح كما قال : ( لتركبوها وزينة ولكم فيها جمال ) [ النحل : 6 ] ومن قرأ ) رياشاً ( فقد قيل : إنه جمع ريش كشعب وشعاب .
وقال الجوهري : الريش والرياش بمعنى كاللبس واللباس وهو لباس الفاخر .
ويقال : الريش والرياش المال والخصب والمعاش .
وبالجملة كل شيء يعيش به الإنسان ومنه قولهم رشت فلاناً أصلحت حاله ، وقال ابن السكيت : الرياش مختص بالثياب والأثاث ، والريش قد يطلق على سائر الأموال .
أما قوله : ( ولباس التقوى ( فمن قرأ بالنصب فعلى المنصوب قبله عطف ، ومن رفع فعلى الابتداء وخبره إما الجملة التي هي ) ذلك خير ( كأنه قيل : ولباس التقوى وهو خير لأن أسماء الإشارة كالضمائر في صلاح العود بسببها ، وإما المفرد الذي هو ) خير ( و ) ذلك ( بدل أو عطف بيان أو صفة بتأويل ولباس التقوى المشار إليه خير .
والعدول إلى الإشارة إما لتعظيم لباس التقوى وإما أن يكون المراد بلباس التقوى هو اللباس المواري للسوأة لأن مواراة السوأة من التقوى تفضيلاً له على لباس الزينة .
ثم من المفسرين من حمل لباس التقوى على نفس الملبوس أي اللباس الذي أنزله الله تعالى ليواري به السوأة هو لباس التقوى لأن قوماً من أهل الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب ويطوفون بالبيت عراة فيكون كقول القائل : قد عرفتك الصدق في أبواب البر والصدق خير لك من غيره فيعيده .
أو المراد به ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها في الحروب .
أو يراد الملبوسات المعدة لأجل إقامة الصلاة ومنهم من حمله على لباس التقوى مجازاً فقال قتادة والسدي وابن جريج : إنه الإيمان .
وقال ابن عباس : هو العمل الصالح .
وقيل : هو السمت الحسن .
وقيل : هو العفاف والتوحيد لأن المؤمن لا تبدو عورته وإن كان عارياً عن الثياب ، والفاجر لا تزال عورته مكشوفة وإن كان كاسياً .
وقال معبد : هو الحياء .
وقيل : هو ما يظهر على الإنسان من السكينة والإخباث والأعمال الصالحات .
وعلى هذا فمعنى الآية إن لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به وأقرب إلى الله تعالى مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به فأضاف اللباس إلى التقوى كما أضيف إلى الجوع والخوف في قوله : ( فأذاقها الله لباس(3/221)
" صفحة رقم 222 "
الجوع والخوف ) [ النحل : 112 ] ( وذلك من آيات الله ( الدالة على فضله ورحمته على عباده ) لعلهم يذكرون ( فيعرفون عظيم النعمة فيه .
ثم حذر أولاد آدم من قبول وسوسة الشيطان لأن المقصود من قصص الأنبياء عليهم السلام أن تكون عبرة لمن يسمعها فقال : ( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان ( الفتنة الامتحان ، تقول : فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته .
وقال الخليل : الفتن الإحراق .
وورق فتين أي فضة محرقة ، قال الله تعالى : ( يوم هم على النار يفتنون ) [ الذريات : 13 ] من قدر على إخراج الأب من الجنة مع كمال قوته وقرب عهده من فيضان ربه فهو على منع أولاده عن أن يدخلوا الجنة أقدر .
ومحل ) كما أخرج ( نصب على المصدر أي فتنة مثل إخراج أبويكم لأن هذا الإخراج نوع من الفتنة .
ومحل ) ينزع عنهما لباسهما ( حال أي أخرجهما نازعا لباسهما بأن كان سبباً في أن نزع عنهما .
واللام في ) ليريهما سوآتهما ( لام العاقبة أو لام الغرض كما تقدم في قوله : ( ليبدي لهما ( ) الأعراف : 20 ] قال ابن عباس : يرى آدم سوأة حواء ويرى حواء سوأة آدم وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر .
وعن عائشة رضي الله عنها ما رأيت منه ولا رأى مني .
وحمله العلماء على الكراهية لا على التحريم .
واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما فقيل : الثوب الحائل بينهما وبين النظر .
وعن سعيد بن جبير : كان لباسهما من جنس الأظفار .
وقيل : اللباس الذي هو ثياب الجنة ، قال الكعبي : في الآية دلالة على أن المعاصي والفتن كلها منسوبة إلى الشيطان .
وأجيب بأنه لا بد من الانتهاء إلى خالق الكل وموجد القدر والدواعي .
ثم علل النهي وأكد التحذير بقوله : ( إنه يراكنم هو وقبيله ( أي جماعته من الثلاثة فصاعداً .
والقبيل بنو أب واحد .
وقال ابن قتيبة : أي أصحابه وجنده .
وقال الليث : هو وقبيله أي وجماعته .
) من حيث لا ترونهم ( أي يكيدون ويغتالون من حيث لا تشعرون .
قال بعض المتكلمين ومنهم المعتزلة : الوجه في أن الإنس لا يرون الجن رقة أجسام الجن ولطافتها ، والوجه في رؤية الجن الإنس كثافة أجسام الإنس ، والوجه في رؤية الجن بعضهم بعضاً أن الله تعالى يقوي شعاع أبصار الجن ويزيد فيه ولو زاد الله في قوة أبصارنا لرأيناهم كما يرى بعضنا بعضاً ، ولو أنه تعالى كثف أجسامهم وبقيت أبصارنا على هذه الحالة لرأيناهم .
وقال أهل السنة : إنهم يرون الإنسان لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكاً ، والإنس لا يرونهم لأنه تعالى لم يخلق هذا الإدراك في عيون الإنس .
قال بعض العلماء : ( من حيث لا ترونهم ( يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص ففيه دليل على أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس ، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم ، وأن زعم من يدعي رؤيتهم فزور ومخرقة .
ولو قدر الجن على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شاؤا لارتفع الوثوق عن(3/222)
" صفحة رقم 223 "
الناس حتى الزوجة والولد ، ولو كانوا قادرين على تخبيط الناس ، وإزالة العقل عنهم لكان أولى الناس بذلك العلماء والمشايخ لأن العداوة بينهم وبين خواص الإنس أشد .
وعن مجاهد قال إبليس : أعطينا أربع خصال : نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى .
وعن مالك بن دينار أن عدوّاً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله .
والضمير في ) إنه ( للشأن وهو تأكيد ليصح العطف على المرفوع المتصل ، ثم قال ) إنا جعلنا الشياطين ( الآية .
واحتج أهل السنة على أنه تعالى هو الذي سلط الشيطان عليهم حتى أضلهم وأغواهم ويتأكد هذا النص بقوله : ( إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزرهم أزاً ( ) مريم : 83 ] اعتذر القاضي بأن المراد من الجعل الحكم بأن الشيطان ولي لمن لا يؤمن أو المراد التخلية بينهم وبينهم كمن يربط الكلب في داره ولا يمنعه من التوثب على الداخل وأجيب بأن حمل الجعل على الحكم خلاف الظاهر ، وهب أنه حكم بذلك فهل يمكن مخالفة حكم الله ؟ وبأن الإرسال إنما يصدق على التسليط لا على التخلية المجردة قوله : ( وإذا فعلوا فاحشة ( قال بعضهم : نزلت في اتخاذهم البحائر والسوائب .
وقيل : في الطواف بالبيت عراة والأولى التعميم والفحشاء الخصلة المتزايدة في القبح أعني الكبيرة والمراد أنهم كانوا يفعلون أشياء هي في أنفسها فواحش ويعتقدون أنها طاعات فوبخوا على ذلك لينتهوا عنها .
ثم إنه حكى عنهم حجتين : الأولى التقليد ولم يذكر جوابها لظهور بطلانها عند كل عاقل ، والثانية أنالله أمرهم بذلك فأجاب عنها بقوله : ( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ( فللمعتزلة أن يحتجوا به على أن الشيء إنما يقبح لوجه عائد إليه وأن كونه في نفسه من الفحشاء مغاير لتعلق الأمر والنهي ولذا أكد هذا المعنى بقوله : ( أتقولون على الله ما لا تعلمون ( ؟ والجواب أن عدم الأمر بالفحشاء لا ينافي إرادة الفحشاء ومشيئتها ونحن لا ندعي إلا أنه تعالى مريد لجميع الكائنات وأن شيئاً منها لا يخرج عن حكمه وأرادته وتقديره مع أنه لا يأمر إلا بالعدل والصواب كما قال : ( قل أمر ربي بالقسط ( قال عطاء والسدي : أي بالعدل وبما ظهر في العقول كونه حسناً .
وعن ابن عباس هو قول لا إله إلا الله ويندرج فيه معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه .
أما قوله : ( وأقيموا ( فليس من باب عطف الطلب على الخبر وإنما التقدير : وقل أقيموا ) وجوهكم ( أي استقبلوا القبلة واستقيموا وأخلصوا ) عند كل مسجد ( في كل وقت سجود أو في مكان سجود كأن المعنى وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة .
وقال ابن عباس : المراد أنه إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا تقولن أحد إني لا أصلي إلا في مسجد قومي .
ثم لما أمر بالتوجه إلى القبلة أمر بعده بالدعاء والأظهر أن المراد به أعمال الصلاة سميت دعاء لأن(3/223)
" صفحة رقم 224 "
أشرف أجزاء الصلاة هو الدعاء والذكر ، ويمكن أن يقال : الدعاء بمعنى العبادة فيكون كقوله ) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) [ البينة : 5 ] ثم برهن على المعاد ليتحقق الجزاء فقال : ( كما بدأكم تعودون ( قال الحسن ومجاهد : كما بدأ خلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً كذلك تعودون أحياء .
وعن ابن عباس : المراد كما بدأ خلقكم مؤمناً أو كافراً تعودون فيبعث المؤمن مؤمناً والكافر كافراً ، فإن من خلقه الله تعالى في أو الأمر للشقاوة يعمل بعمل أهل الشقاوة وكانت عاقبته ذلك ، ومن خلقه للسعادة فإنه يعمل عمل أهل السعادة وكانت عاقبته السعادة .
ويؤيد هذا التفسير قوله عقيب ذلك ) فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة ( وانتصاب ) فريقاً ( الثاني بفعل مضمر يفسره ما بعده أي وخذل أو أضل فريقاً حق عليهم الضلالة كلولك زيداً مررت به .
قال القاضيك المعنى فريقاً هدى إلى الجنة والثواب وفريقاً حق عليهم الضلالة أي العذاب والصرف عن طريق الثواب لأن هخذا هو الذي يحق عليهم دون غيره إذ العبد لا يستحق أن يضل عن الدين إذ لو استحق ذلك لجاز أن يأمر أنبياءه بإضلالهم عن الدين كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة .
وأجيب بأن قوله : ( هدى ( و ) حق ( ماض وحمله على المستقبل خلاف الظاهر ، وبأن الهدى غلى الجنة أو الضلال عنها لا بد أن يكون محكوماً به ف يالأزل وخلاف حكمه محال .
ثم بيّن ما لأجله حقت على هذه الفرقة الضلالة أعني السبب القريب وإلا فانتهاء الكل إلى مسبب الأسباب فقال : ( إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ( فقبلوا دعوتهم دون دعوته ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل .
ثم بين أن جهلهم مركب لا بسيط فقال : ( ويحسبون أنهم مهتدون ( وفيه أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في أصول الدين بل لا بد فيه من القطع واليقين .
ثم لما أمر بالقسط وكان من جملته أمر اللباس والمأكول والمشروب وأيضاً أمر بإقامة الصلاة وكان ستر العورة شرطاً لصحتها فلا جرم قال : ( يا بني آدم خذوا زينتكم ( عن ابن عباس قال : كان أناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراة حتى إن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفليها سيوراً مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر تقيها من الذباب وهي تقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله
وما بدا منه فلا أحله
وعن طاوس : لم يأمرهم بالحرير والديباج وإنما كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد .
وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب(3/224)
" صفحة رقم 225 "
أذنبنا فيها : وقيل : كانوا يفعلون ذلك تفاؤلاً ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب .
وقال الكبي : كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون : يا رسول الله نحن أحق بذلك فأنزل الله الآية .
قال أكثر المفسرين : المراد من الزينة لبس الثياب لقوله تعالى : ( ولا يبدين زيينتهن ) [ النور : 31 ] يعني الثياب .
وأيضاً الزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات ولأنه يناسب ما تقدم من ذكر اللباس والرياش ، ولأن ظاهر الأمر الوجوب وكل ما سوى اللبس غير واجب فوجب حمل الزينةعلى اللبس عملاً بالنص بقدر الإمكان .
والسنة فيه أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة .
وقيل : الزينة المشط .
وقيل : الطيب .
ثم إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالآية تقتضي وجوب اللبس التام عند كل صلاة ترك العمل به في القدر الذي لا يجب ستره من الأعضاء إجماعاً بقي الباقي داخلاً تحت اللفظ .
فإذن ستر العورة واجب في الصلاة وإلا فسدت صلاته .
قال أصحاب أبي حنيفة : لبس الثوب المغسول بماء الورد على أقصى وجوه النظافة أخذ للزينة فيكفي في صحة الصلاة .
وأيب بأن اللام في قوله : ( وأقيموا الصلاة ) [ البينة : 5 ] تنصرف إلى المعهود السابق وهو صلاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم قلتم إنه يصلي في الثوب المغسول بماء الورد ؟ أما قوله : ( وكلوا ( أي اللحم والدسم .
) واشربوا ( فقد قيل إنهما أمر إبحاة بالاتفاق فوجب أن يكون أخذ الزينة أيضاً على الإباحة .
وأجيب بأنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف تركه في المعطوف عليه مع أن الأكل والشرب قد يكونان واجبين .
أيضاً في الجملة وهما يشملان جميع المطعومان والمشربات ويتناولان الأحوال والأوقات إلا ما خصه الدليل المنفصل .
والعقل أيضاً مؤكد لهذا المعنى لأن الأصل في المنافع الحل والإباحة .
وفي قوله : ( ولا تسرفوا ( وجهان : الأول أنه يأكل ويشرب بحيث لا يتعدى إلى الحرام ولا يكثر الإنفاق المستقبح ولا يتناول مقداراً كثيراً يضره ولا يحتاج إليه .
الثاني - وهو قول أبي بكر الأصم - أن المراد من الإسراف قولهم بتحريم البحيرة والسائبة فإنهم أخرجوها عن ملكهم وتكروا الانتفاع بها .
وأيضاً إنهم حرموا على أنفسهم في وقت الحج ما أحله الله تعالى لهم .
قال بعض العلماء : إن حمل الإسراف على الاستكثار مما لا ينبغي أولى من حمله على المنع مما يجوز وينبغي .
وعن ابن عباس : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة ، ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين بن واقد صاحب ا لمغازي : ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم أبدان وعلم أديان .
فقال له : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه .
قال : وما هي ؟ قال : قوله ) كلوا واشربوا ولا تسرفوا ( فقال النصراني :(3/225)
" صفحة رقم 226 "
ولا يؤثر عن رسولكم شيء في الطب فقال : قد جمع رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) الطب في ألفاظ يسيرة .
قال : وما هي ؟ قال : قوله : ( المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته ) فقا : النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً .
قيل : كانوا إذا أحرموا حرموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها فأنكر ذلك عليهم بقوله : ( قل من حرم زينة الله ( قال ابن عباس وأكثر المفسرين : هي اللباس الساتر للعورة .
وقال آخرون : إنها تتناول جميع أنواع الزينة من الملابس والمراكب والحلي وكذا كل ما يستطاب ويستلذ من المآكل والمشارب والنساء والطيب .
عن عثمان بن مظعون أنه أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : غلبني حديث النّفس عزمت على أن اختصي فقال : مهلاً يا عثمان فإن خصاء أمتي الصيام .
قال : فإن نفسي تحدثني بالترهب فقال : إن ترهب أمتي القعود في المساجد لانتظار الصلوات .
فقال : تحدثني نفسي بالسياحة قال : سياحة أمتي الغزو والحج والعمرة .
فقال : أن نفسي تحدثني أن أخرج مما أملك .
فقال : الأولى أن تكفي نفسك وعيالك وأن ترحم المسكين واليتيم وتعطيه ما فضل من ذلك .
فقال : نفسي تحدثني أن أطلق خولة .
فقال : أن الهجرة في أمتي هجرة ما حرم الله تعالى .
قال : فإن نفسي تحدثني أن لا أغشاها فقال : إن المسلم إذا غشى أهله وما ملكت يمينه فإن لم يصب من وقعته تلك ولداً كان له وصيف في تالجنة وإن كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرة عين وفرح يوم القيامة ، وإن مات قبل أن يبلغ الحنث كانله شفيعاً ورحمة يوم القيامة .
قال : فإن نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم .
قال : مهلاً إني آكل اللحم إذا وجدته ولو سألت الله أن يطعمنيه كل يوم فعله .
قال : فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب .
قال : مهلاً فإن جبريل يأمرني بالطيب غباً وقال : لا تتركه يوم الجمعة .
ثم قال : يا عثمان لا ترغب عن سنتي فإنه من رغب عن سنتي ومات فليس مني ، ولو مات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي .
واعلم أن كل واقعة تقع فإما أن لا يكون فيها نفع ولا ضر أو يتساوى ضرها ونفعها فوجب الحكمفي القسمين ببقاء ما كان على ما كان ، وإن كان النفع خالصاً وجب لإطلاق الآية ، وإن كان الضرر خالصاً وكان تركه خالص النفع فيلتحق بالقسم المتقدم ، وإن كان النفع راجحاً والضرر مرجوحاً تقابل المثل بالمثل وبقي القدر الزائد نفعاً خالصاً ، وإن كان الضرر راجحاً بقي القدر الزائد ضرراً خالصاً وكان تركه نفعاً خالصاً ، فبهذا الطريق صارت هذه الآية دالة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحل والحرمة إلا أن نجد نصاً خاصاً في الواقعة فنقضي به تقديماً للخاص على العام .
قال نفاة القياس : لو تعبدنا الله تعالى بالقياس لكان حكم ذلك القياس إما أن يكون موافقاً لحكمم هذا النص العام وحينئذٍ يكون ضائعاً لأن هذا النص مستقبل به ، وإن كان(3/226)
" صفحة رقم 227 "
مخالفاً كان ذلك القياس تخصيصاً لعموم هذا النص فيكون مردوداً لأن العمل بالنص أولى من العمل بالقياس ، فإذن القرن وافٍ بجميع الأحكام الشرعية والله تعالى أعلم .
ثم بيّن أن الزنية والطيبات خلقت في الحياة الدنيا لأجل المؤمنين بالأصالة وللكفرة بالتبعية كقوله : ( ومن كفر فأمتعه قليلاً ) [ البقرة : 126 ] وأما في الآخرة فإنها خالصة لهم فقال : ( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة ( من قرأ بالرفع فلأنه خبر بعد خبر .
قال أبو علي : أبو على الخبر ) والذين آمنوا ( متعلق به والتقدير : هي خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا ) يوم القيامة ( وعلى هذا يكون ) في الحياة ( ظرفاً ل ) آمنوا ( و ) يوم القيامة ( ظرفاً ل ) خالصة ( فيفيهم من ذلك أنها في غير يوم القيامة غير خالصة لهم بل تكون مشوبة برحمة الكفار .
وعلى الأول يكون ) في الحياة ( ظرفاً لمحذوف أي هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا وهي لهم خالصة يوم القيامة .
ومن قرأ بالنصب فعلى الحال وباقي التقدير كما ذكرنا آنفاً ) كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ( أي لقوم يمكنهم النظر والاستدلال حتى يتوصلوا به إلى تحصيل العلوم النظرية .
ثم بين أصول الأفعال المحرمة وحصرها في ستة أنواع لأن الجناية إما على الفروج وأشار إليها بقوله : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ( وإما أن تكون على العقول وهي شرب الخمر وإليها الإشارة بقوله : ( والإثم ( وقيل : الفواحش الكبائر والإثم الصغائر .
وقيل : الفواحش كل ما تزايد قبحه وتبالغ ، والإثم عام لكل ذنب كأنه خصص أوّلاً ثم عمم .
وإما أن تكون الجناية على النفوس والأموال والأعراض وإليهن الإشارة بقوله : ( والبغي بغير الحق ( ومعنى بغير الحق أن لا يقدموا على إيذاء الناس بالقتل والقهر إلا أن يكون لهم فيه حق فحينئذٍ يخرج عن أن يكون بغياً ، وإما أن تكون الجناية على الأديان إما بالطعن في التوحيد وإليه أشارة بقوله : ( وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ( أي لا سلطان حتى ينزل وإما بالافتراء على الله وذلك قوله : ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( فإن قيل : الفاحشة وغيرها هي التي نهى الله تعالى عنها فيصير تقدير الآية إنما حرم ربي المحرمات وهذا كلام خالٍ عن الفائدة .
فالجواب أن كون الفعل فاحشة عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النهي عنه فيزول الإشكال .
ثم شد أمر التكاليف بالآجال المحدودة والأنفاس المعدودة فقال : ( ولكل أمة أجل ( عن ابن عباس والحسن ومقاتل : معناه أنه تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين لا يعذبهم قبل ذلك لا يؤخرهم عنه والمقصود وعيد أهل مكة .
وقيل : معناه أن أجل العمر لا يتقدم ولا يتأخر سواء الهالك والمقتول .
وأورد على القول الأول أنه ليس لكل أمة من الأمم وقت معين في نزول عذاب الاستئصال .
وعلى الثاني أنه كان ينبغي أن يقال : ولكل إنسان أو أحد أجل .
ويمكن أن يقال : الأمة هي الجماعة في كل(3/227)
" صفحة رقم 228 "
زمان والمعلوم من حالها التفاوت في الآجال فزال السؤال .
وليس المراد أنه تعالى لا يقدر على تبقيته أزيد من ذلك ولا أنقص ولا يقدر على أن يميته إلا في ذلك الوقت لأن هذا يقتضي خروجه سبحانه وتعالى عن كونه قادراً مختاراً أوصيرورته كالموجب لذاته ، بل المراد أنه تعالى اختار أن الأمر يقع على هذا الوجه وإنما ذكر الساعة لأن هذا الجزء من الزمنان أقل ما يستعمل في تقليل الأوقات عرفاً .
والساعة في اصطلاح أهل النجوم جزء من أرربعة وعشرين جزءاً من يوم بليلته .
قيل : إن عند حضور الأجل يمتنع عقلاً وقوع ذلك الأجل في الوقت المتقدم فما معنى قوله : ( ولا يستقدمون ( ؟ وأجيب بأن مجيء الأجل محمول على قرب حضور الأجل كقوله العرب : جاء الشتاء إذا قارب وقته ومع مقاربة الأجل يصح التقدم على ذلك الوقت تارة والتأخر عنه أخرى .
التأويل : ( قد أنزلنا عليكم لباساً ( هو لباس الشريعة ) يواري ( سوآت الأفعال القبيحة في الظاهر وسوآت الصفات الذميمة النفسانية والحيوانية بآداب الطريقة في الباطن ) وريشاً ( زينةً وجمالاً في الظاهر والباطن ) ولباس التقوى ( وهو لباس القلب والروح والسر والخفي .
فلباس القلب من التقوى هو الصدق في طلب المولى فيواري به سوآت الطمع في الدنيا وما فيها ، ولباس الروح من التقوى هو محبة المولى فيواري به سوآت التعلق بغير المولى ، ولباس السر من التقوى هو رؤية المولى فيواري بها رؤية غير المولى ، ولباس الخفي من التقوى بقاؤه بهوية المولى فيواري بها هوية غير المولى ) ذلك خير ( لأن لباس البدن بالفتوى هو الشريعة ولباس القلب بالتقوى هو الحقيقة ) ذلك من آيات الله ( أي إنزال الشريعة والحقيقة مما يدل على المولى .
) لا يفتننكم الشيطان ( بالدنيا وما فيها ومتابعة الهوى فيخرجكم عن الجنة الصدق في طلب الحق ) كما أخرج أبويكم من الجنة ( وجوار الحق ) ينزع عنهما لباسهما ( من الشرع وذلك نهيهما عن شجرة المحبة ) ليريهما سوآتها ( من مخالفة الحق وما علما أن فيها هذه الصفة ، ومن جملة سوآتهما كل كمال ونقصان كان مستوراً يهما فأراهما بعد تناول الشجرة ) إنه يراكم هو وقبيله ( يعني من الروحانيين الذين لا صورة لهم في الظاهر فإنهم يرون بنظر الملكوت الروحاني من الإنساني بعض الأفعال التيي تتولد عن الأوصاف البشرية كما رأوا في آدم ) وقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ) [ البقرة : 30 ] ( من حيث لا ترونهم ( أي إنما يرونكم من حيث البشرية التي منشؤها الصفات الحيوانية فإنكم محجوبون بهذه الصفات عن رؤيتهم لا من حيث الروحانية التي هي منشأ علوم الأسماء والمعرفة لإنهم لا يرونكم في هذا المقام ، وأنتم ترونهم بالنظر الروحاني بل بالنور الرباني .
) إنا جعلنا الشياطين أولياء ( خلقناهم مستعدين لتولية أمور أهل الغفلة(3/228)
" صفحة رقم 229 "
والطبيعة .
) وإذا فعلوا فاحشة ( هي طلب الدنيا وحبها ) قالوا إنا وجدنا آباءنا ( على محبة الدنيا وشهواتها ) والله أمرنا ( بطلب الكسب الحلال ) قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ( وإنما يأمر بالكسب الحلال بقدر الحاجة الضرورية لقوام القالب بالقوت واللباس ليقوم بأداء حق العبودية وذلك قوله : ( قل أمر ربي بالقسط ( ) كما بدأكم ( لطفاً أو قهراً ) تعودون ( إليه .
فأهل اللطف يعودون إليه بالإخلاص والطاعة وأهل القهر الذين حقت عليهم الضلالة يعودونإليه جبراً واضطراراً فيسحبون في النار على وجوههم ) خذوا زينتكم ( فزينة الظاهر التواضع والخضوع ، وزينة الباطن الانكسار والخشوع ، وزينة نفوس العابدين آثار السجود ، وزينة قلوب العارفين أنوار الوجود فالعابد على الباب بنعت العبودية والعارف على البساط بحكم الحرية ) وكلوا واشربوا ( في مقام العندية كما قال :
أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني
) ولا تسرفوا ( بالإفراط فوق الحاجة الضرورية والتفريط في حفظ القوة بحيث تضيع حقوق العبودية .
) زينة الله ( فزين الأبدان بالشرائع وآثارها ، وزين النفوس بالآداب وأقدارها ، ويزن القلوب بالشواهد وأنوارها ، وزين الأرواح بالمعارف وأسرارها ، وزين الأسرار بالطوالع وآثارها ، فمن تصدّى لطلب هذه المقامات فهي مباحةله من غير تأخير وقصور وحظر ومنع ) والطيبات من الرزق ( ما لم يكن مشوباً بحظوظ النفس ، فهذه الكرامات والمقامات لهؤلاء السادة في الدنيا مشوبة بشواهد الآفات النفسانية وكدورات الصفات الحيوانية ) خالصة يوم القيامة ( من هذه الآفات والكدورات كما قال : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل ) [ الحجر : 47 ] ( الفواحش ( ما يقطع على العبد طريق السلوك إلى الرب ؛ ففاحشة العوام ) ما ظهر منها ( ارتكاب المناهي ) وما بطن ( خطورها بالبال ، وفاحشة الخواص ) ما ظهر منها تتبع ما لأنفسهم نصيب منه ولو بذرة ) وما بطن ( الصبر على المحبوب ولو بلحظة ، وفاحشة الأخص ) ما ظهر منها ( ترك أدب من الآداب أو التعلق بسبب من الأسباب ) وما بطن ( الركون إلى شيء في الدارين والالتفات إلى غير الله من العالمين .
) والإثم ( الإعراض عن الله ولو طرفة عين ) والبغي ( وهو حب غير الله فإنه وضع في غيره موضعه .
وأن يستغيثوا بغير الله ما لم يكن فيه رخسة وحجة من الشريعة ) وأن تقولوا ( بفتوى النفس وهواها أو بنظر العقل ) على الله ما لا تعلمون ( حقيقتها أو تقولوا في معرفة الله وبيان أحوال السائرين ما لمستم به عارفين ) وكل أمة ( من السائرين إلى الله أو إلى(3/229)
" صفحة رقم 230 "
الجنة مدة مضروبة في الأزل ، وفيه وعد للأولياء واستمالة لقلوبهم ووعيد للأعداء وسياسة لنفوسهم .
( الأعراف : ( 35 - 43 ) يا بني آدم . . . .
" يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون "
( القراآت )
حتى إذا ادّاركوا ( كان يعقوب : إذا وقف على ( إذا ) يبتدىء ) تداركوا ( بالتاء .
سهل : مخير ، وكذلك قوله تعالى : ( قلتم ( ) وقالوا إنا طيرنا ( وافق الكسائي في ) تثاقلتم ( ) أخراهم لأولاهم ( بالإمالة الشديدة : إبراهيم بن حماد وحمزة وعلي وخلف .
وقرأ أبو عمر وغير إبراهيم بن حماد ) أولاهم ( بالإمالة اللطيفة ) أخراهم ( بالإمالة الشديدة ، وافق ورش من طريق النجاري والخزاز عن هبيرة في ) أخراهم ( بالإمالة الشديدة ) فآتهم ( بضم الهاء : رويس وكذلك كل كلمة سقطت الياء لعلة .
إلا قول : ( ومن يولهم ( ) الأنفال : 6 ] ( لا يعلمون ( بياء الغيبة : أبو بكر وحماد ) لا تفتح لهم ( بتاء التأنيث والتخفيف : أبو عمرو .
وقرأ حمزة وعلي وخلف بفتح ياء تحتانية وبالتخفيف .
الباقون بتاء التأنيث والتشديد .
) غواشي ( بالياء في الوقف : يعقوب وكذلك كل كلمة سقطت الياء لأجل التنوين أو لاجتماع الساكنين وهو مذهب سهل من طريق ابن دريد ، ) ما كنا ( بغير(3/230)
" صفحة رقم 231 "
واو العطف : ابن عامر .
الآخرون بالواو .
) أورثتموها ( وبابه بإدغام الثاء : أبو عمرو وحمزة وعلي وهشام .
الوقوف : ( آياتي ( لا لأن الفاء بعده لجواب الشرط ) ولاهم يحزنون ( ه ) النار ( ط ) خالدون ( ه ) بآياته ( ط ) من الكتاب ( ط ) يتوفنهم ( لا لأن ما بعده جواب ( إذا ) .
) من دون الله ( ط ) كافرين ( ه ) في النار ( ط ) أختها ( ط ) جميعاً ( لا لما قلنا .
) من النار ( ط ) لا يعلمون ( ه ) يكسبون ( ه ) الخياط ( ط ) المجرمين ( ه ) غواش ( ج ) الظالمين ( ه ) وسعها ( ط وجعل ) أولئك ( خبراً للموصول أوجه بناء على أن قوله : ( لا نكلف نفساً إلا وسعها ( معترضة ) الجنة ( ط ) خالدون ( ه ) الأنها ( ط للعطف مع العارض .
) اهدنا الله ( ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى ) بالحق ( ط لابتداء النداء بأنها جزاء بعد انتها الحمد والثناء على أنها عطاء ) تعملون ( ه .
التفسير : لما بيّن أحوال التكليف وأن لكل أحد أجلاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر بيّن أنهم بعد الموت إن كانوا قد قبلوا الشرائع الحقة فلا خوف عليهم ولا حزن ، وإن كانوا متمردين وقعوا في أشد العذاب فقال : ( يا بني آدم إما يأتينكم ( وإعرابه مثل ما مر في سورة البقرة ) فإما يأتينكم مني هدى ) [ الآية : 38 ] والراجع محذوف أي فمن اتقى وأصلح منكم والذين كذبوا منكم .
وإنما قال : ( رسل منكم ( لأن ذلك يكون أقطع لعذرهم وأقرب إلى الفهم والآنس .
ومعنى أياتي أحكامي وشرائعي الدالة على صحة المبدأ والمعاد .
ثم قطع شأن الجاحدين بقوله : ( فمن أظلم من افترى على الله كذباً أو كذب بآياته ( والأول الحكم بوجود ما لم يوجد كأقوال أصناف المشركين وطوائف المبتدعة .
والثاني إنكار حكم وجد من نبي أو كتاب .
ثم أخبر عن عاقبة أمرهم فقال ) أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ( قيل : أي العذاب المعين من سواد الوجه وزرقة العين .
وقال الزجاج : أي أنواع البلايا المعدة لكل صنف منهم من السلاسل والأغلال وغيرها على مقدار ذنوبهم ، وقيل : هم اليهود والنصارى يجب علينا إذا كانوا في ذمتنا أن ننصفهم ولا نتعدى عليهم وأن نذب عنهم فذلك معنى النصيب. وعن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير أن النصيب هو ما سبق لهم في حكم الله تعالى ومشيئته من الشقاوة والسعادة والختم على الكفر والشرك ، أو على الإيمان والتوحيد .
وقال الربيع وابن زيد : يعني ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار كأنه سبحانه بيّن من رزق وعمر تفضلاً من الله تعالى لكي يصلحوا ويتوبوا ويؤكد هذا التفسير قوله عقيب ذلك ) حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم ( وذلك أن ( حتى ) هي التي يبتدأ بعدها الكلام وأنه(3/231)
" صفحة رقم 232 "
ههنا جملة شرطية فدل على أن مجيء الرسل المتوفين كالغاية ، فحصول ذلك النصيب يكون مقدماً على حصو لالوفاة وليس ذلك إلا العمر والرزق .
ومحل ) يتوفونهم ( نصب على الحال من الرسل .
قال ابن عباس : هم ملك الموت وأعوانه وإنهم يطالبون الكفار بهذه الأشياء عند الموت على سبيل الزجر والتوبيخ .
وقال الحسن والزجاج : إن هذا يكونفي الآخرة والرسل ملائكة العذاب يتوفون عدّتهم عند حشرهم إلى النار أي يستكملون عدّتهم حتى لا ينفلت منهمأحد .
قال في الكشاف : ( ما ) وقعت موصولة بأين في خط المصحف قلت : وإني رأيت النقل على العكس كما ذكرته في المقدمة السابقة من مقدمات الكتاب ، ومعنى الآية أي الآلهة التي تدعون أي تعدبونهم وتدعونهم في الشدائد ) قالوا ( على سبيل الاعتراف والعود إلى الإنصاف ) ضلوا عنا ( أي غابوا وذهبوا ولم ننتفع بهم ) وشهدوا على أنفسهم ( بالاعتراف أو بشهادة الجوارح عند معاينة الموت ) أنهم كانوا كافرين ( ثم شرح بقية أحوال الكفار وذلك قوله : ( قال ( أي الله .
وعن مقاتل هو من كلام خازن النار .
وهذا مبني على أنه سبحانه لا يجوزأن يكلمالكفار وإن كان كلام سخط ) ادخلوا في أمم ( قيل : أي ادخلوا في النار مع أمم والأولى أن لا يلتزم الإضمار والمجاز .
والمعنى ادخلوا كائنين في جملة أمم تقدم زمانهم زمانكم في النار .
وفيه دليل على أن أصحاب النار لا يدخلون النار دفعة واحدة ولكن فيهم سابق ومسبوق ) كلما دخلت أمة لغنت أختها ( في الدين والعقيدة .
فالمشرك يلعن المشرك ، واليهودي يلعن اليهودي ، والنصراني يلعن النصراني ، وكذا المجوس وسائر أديان الضلالة وإذا لعنت نظيرها فلأن تلعن غيرها أولى ) حتى إذا ادّاركوا فيها ( أي تداركوا بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار وأدرك بعضهم بعضاً واستقر معه ) قالت أخراهم ( أي آخرتهم دخولاً في النار ) لأولاهم ( دخولاً فيها أو أتباعهم وسفلتهم لرؤسائهم وقادتهم والمعنيان متلازمان عندي لأن المضل لا بد وأن يكون مقدماً على الضال في دخول النار .
واللام بمعنى التعليل أي لأجل أولاهم وذلك لأن خطابهم مع الله لا معهم ) ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم ( الفاء للجزاء ) عذاباً ضعفاً ( أي مضاعفاً وذلك عذاب الضلال وعذاب الإضلال بالدعوة إلى الباطل وتزيينه في أعينهم والسعي في إخفاء الدلائل .
قال أبو عبيدة : الضعف مثل الشيء مرة واحدة وهو قول الشافعي في رجل أوصى فقال : أعطوا فلاناً ضعف نصيب ولدي يعطى مثل نصيبه مرتين .
وقال الأزهري : العرب تريد بالضعف المثل إلى ما زاد وليس بمقصور على المثلين بدليل قوله عز من قائل : ( فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا ) [ سبأ : 37 ] وأقل ذلك عشرة لقوله : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) [ الأنعام : 160 ] وإنما قال الشافعي ما قال لأن ذلك متقن وما فوقه مشكوك ) قال ( أي الله أو خازن النار ) لكل ( من القادة والأتباع ) ضعف ( أما(3/232)
" صفحة رقم 233 "
للقادة فملا قلنا ، وأما للأتباع فلأنهم عظموهم وقلدوهم وروّجوا أمرهم .
سئل ههنا إن تضعيف العذاب للشخص الذي يستحق العذاب ظلم وأجيب في التفسير الكبير بأن عذاب الكفار مؤبد فكل ألم يحصل فإنه يعقبه حصول ألم آخر إلى غير النهاية .
قلت : وهذا لا يختص بصنف من الكفار دون صنف ولا بشخص دون شخص فلا يصلح للجواب والصواب أن يقال : معنى تضعيف عذاب التابع والمتبوع أن ذلك العذاب زائد على مقدار ما تستحقه تلك العقيدة لو حصلت لا من حيثية التابعية والمتبوعية والله أعلم ) ولكن لا تعلمون ( من قرأه على الغيبة فمعناه لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر لأن الاسم الظاهر يعود الضمير إليه على الغيبة ، ومن قرأ على الخطاب فالمعنى لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل منكم من العذاب أو لاتعلمون يا أهل الدنيا ما مقدار ذلك .
) وقالت أولاهم لأخراهم ( إذا قد حكم الله بأن لكل منا ضعفاً ) فما كان ( أي فما ثبت ) لكم علينا من فضل ( لأنكم مؤاخذون بالاتباع كما نحن مؤاخذون بالاستتباع ) فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ( يحتمل أن يكون من قول القادة وأن يكون من قول الله تعالى فيهم .
قال في التفسير الكبير : قول القادة ليس لكم علينا فضل كذب لأن الرؤساء لهم عذاب الضلال والكذب عليهم جائز عندنا كقوله : ( والله رينا ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] قلت : إن سلمنا أن الكذب يجوز أن يصدر عنهم يوم القيامة إلا أن هذا الكلام لا يجوز أن يكون كاذباً لأنهم بنو كلامهم على حكم الله سبحانه بأن لكل ضعفاً .
ثم ذكر ما يل على خلودهم في النار فقال : ( إن الذين كذبوا بآياتنا ( وهي الدلائل الدالة على الذات والصفات والنبوات والمعاد ) واستكبروا عنها ( أي ترفعوا عن قبولها ) لا تفتح لهم أبواب السماْ قال ابن عباس : أي لا تفتح لأعمالهم ولا لعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله تعالى من قوله : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) [ فاطر : 10 ] ومن قوله : ( إن كتاب الأبرار لفي عليين ) [ المطففين : 18 ] وقال السدي وغيره : لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء التي هي موضع بهجة الأرواح وأماكن سعادتهم كما جاء في الحديث ( إن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال مرحباً بالنفس الطيب التي كانت يف الجسد الطيب ويقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة .
ويستفتح لروح الكافر فيقال لها ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء ( وقيل : بناء على أن الجنة في السماء معناه ولا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء ولا تطرّق لهم إليها حتى يدخلوا(3/233)
" صفحة رقم 234 "
الجنة .
وقيل : أي لا تنزل عليهم البركة الخير من قوله تعالى : ( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ) [ القمر : 11 ] ( ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ( الولوج الدخول .
وسئل ابن مسعود عن الجمل فقال : زوج الناقة استجهالاً للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف .
والسم بالحركات الثلاثة وقد قرىء بها ثقب الإبراة وكل ثقب في البدن لطيف ومنه السم القاتل لنفوذه بلطف في مسام البدن حتى يصل إلى القلب .
والخياط ما يخاط به قال الفراء : خياط ومخيط كإزار ومئزر ولحاف وملحف وقتاع ومقنع .
ولما كان جسم الجمل من أعظم الأجسام المشهورة عند العرب كما قال :
لا عيب بالقوم من طول ومن عظم
جسم الجمال وأحلام العصافير
وكان سم الإبراة مثلاً في ضيق المسلك حتى قيل : أضيق من خرت الإبرة .
وقالوا للدليل الماهء خريت لاهتدائه في المضايق المشبهة بأخرات الإبر ، وقف الله تعالى دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط المحال ليلزم يأسهم من دخول الجنة قطعاً فإن الموقوف على المحال محال ومثله قول العرب : ( لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ويبيض القار ( .
وقرىء الجمل بوزن القمل وكذا الجمل بوزن الحبل وبمعناه لأنه حبل ضخم من ليف أو خوص من آلات السفن .
واختار ابن عباس هذا التفسير قائلاً : إن الله تعالى أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة والبعير لا يناسبه .
وأهل التناسخ أوّلوا الآية بأن الأرواح التي كانت في الأبدان البشرية لمّا عصت وأذنبت فإنها بعد موت الأبدان ترد من بدن إلى بدن ولا تزال تبقى في التعذيب حتى تنتقل من بدن الجمل إلى بدن الذرة فتنفذ في سم الخياط ، وحيئنئذٍ تصر مطهرة عن تلك الذنوب فتدخل الجنة وتصل إلى السعادة ) وكذلك ( ومثل ذلك الجزاء الفظيع ) نجزي المجرمين ( قيل : هم الكافرون المكذبون المستكبرون المار ذكرهم ، وقيل : يدخل فيه الفساق بشرط عند التوبة عند المعتزلة ، وبشرط عدم العفو عند الأشاعرة .
ثم لما بين أنهم لا يدخلون الجنة ذكر أنهم يدخلون النار فقال : ( لهم من جهنم مهاد ( أي فراش ) ومن فوقهم غواش ( هي جمع غاشية وهي كل ما يغشاك أي يجللك ، والمراد الإخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولحاف .
والتنوين في ) غواش ( مثله في ( جوار ) أعني أنه للتمكين عند بعض لأنه بعد حذف يائه لم يبق على رنة مساجد ، وللعوض عند بعض ، إما عن الياء أو عن إسكان الياء ) وكذلك نجزي الظالمين ( هم المشركون أو الفسقة الذين ظلموا أنفسهم .
ثم عقب الوعيد بالوعد فقال : ( والذين آموا وعملوا الصالحات ( الآية .
وقوله(3/234)
" صفحة رقم 235 "
) لا نكلف نفساً إلى وسعها ( وق مر تفسيره في آخر سورة البقرة اعتراض بين المبتدأ وخبره وليس بأجنبي وإلا لم يحسن .
وفيه تنبيه للمقصرين على أن الجنة مع عظم قدرها تحصل بالعمل السهل من غير ما حرج وصعوبة فبعداً لمن فاتته وسحقاً لمن فارقته .
ومن جعله خبراً فالعائد محذوف أي لا نكلف نفساً منهم .
ثم وصف أخلاق أهل الجنة فقال : ( ونزعنا ما في صدورهم منغل ( نزع الشيء قلعه من مكانه ، والغل الحدق والتركيب يدور على الإخفاء ومنه الغلول كما مر في تفسير قوله : ( وما كان لنبي أن يغل ) [ آل عمران : 161 ] وللآية تفسيران : الأول أزلنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا بتصفية الطباع وإسقاط الوسواس ومنعه من أن يرد على القلوب فإن لشيطان مشغول بالعذاب فلا يتفرغ لإلقاء الوسواس فلم يكن بينهم إلا التوادد والتعاطف .
عن علي كرم الل وجهه أني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم .
الثاني : أن درجات أهل الجنة متفاوته بحسب الكمال والنقص ، فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى إن صاحب الدرجة الناقصة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة فيكون هذا في مقابلة ما ذكره الله تعلاى من تبريء بعض أهل النار من بعض ولعن بعضهم بعضاً وليس هذا ببديع ولا بيعد من حال أهل الجنة ، فإن أولياء الله تعالى في دار الدنيات أيضاً بهذه المثابة بحسن توفيق الله تعالى ونور عنايته وهدايته كل منهم قد قنع بما حصل له من نعيم الدنيا وطيبتاتها لا يميل طبعه إلى زوجة لغيره أحسن من زوجته ولا إلى لا مشتهى ألذ مما رزقه الله ، وكل هذا نتيجة ملكه الرضا بالقضاء والتسليم لأمر رب الأرض والسماء ، فيموتون كذلك ويحشرون على ذلك وفقنا الله لنيل هذا المقام ببركة أولئك الكرام ) تجري من تحتهم الأنهار ( وهذه من جملة أسباب التنزه والترفه أن أجرى على ظاهره ، ومن جملة السعادات الروحانية أن أريد بها أنواع المكاشفات وأصناف التجليات ) وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا ( النعيم المقيم والفوز العظيم بأن يسر الأسباب وخلق الدواعي ومنع الصوارف ، أو بأن أعطى العقل ونصب الأدلة وأزاح العلة ) وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ( من قرأ بواو العطف فظاهر ، ومن حذف الواو فلأنها جملة يقرب معناها من معنى الأولى وكأنها تفسرها فلا حاجة إلى العطف المؤذن بالتغاير .
ثم حكى عنهم سبب الاهتداء وذلك قوله : ( لقد جاءت رسل ربنا بالحق ( فجعله واسطة لهدايتنا أو لطفاً وتنبيهاً يقولون ذلك فيما بينهم سروراً واغتباطاً بما نالوا وتلذذاً بالتكلم به لا تقرباً وتعبداً فإن الجنة ليست دار التكليف ) ونودوا أن تلكم ( بأنه تلكم ) الجنة ( والضمير للشأن والحديث ويجوز كونه بمعنى أي لأن النداء في معنى القول .
وإنما قيل : ( تلكم ( لأنهم وعدوا بها في الدنيا وكأنه قيل لهم هذه تلكم التي وعدتم بها ، ويجوز أن يكون التبعيد للتعظيم .
ومعنى ) أورثتموها ( صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله .
قد يستعمل الإرث ولا يرا به زوال(3/235)
" صفحة رقم 236 "
الملك عن الميت إلى الحي كما يقال هذا الفعل يورثك الشرف أو العار .
وقيل : أعطوا تلك المنازل من غير تعب في الحال فصار شبيهاً بالميراث .
وقيل : إن أهل الجنة يرثون منازل أهل النار لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : ( ليس من مؤمن ولا كافر إلا له في الجنة والنار منزل فإذا دخل أهل الجنة وأهل النار النار رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ثم يقال يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم ) قالت المعتزلة قوله : ( بما كنتم تعملون ( يدل على أن الموجب للجزاء هو العمل لا التفضيل .
وقال غيرهم : لما كان الموفق للعمل الصالح هو الله تعالى كان دخول الجنة بفضله .
وجعل العلم أمارة على ذلك والمنادي هو الله جل وعلا أو الملك الموكل بذلك والله تعالى أعلم .
التأويل : ( يا بني آدم أما يأتينكم رسل ( الهامات من أنفسكم من طريق قلوبكم وأسراركم وفيه أن بين آدم كلهم مستعدون لإشارات الحق وإلهاماته .
) افترى على الله كذباً ( بأن يقول أكرمني الله بالكرامات والمقامات ولم يعط ) أو كذب ( بمقامات أعطاها بعض أوليائه ) أولئك ينالهم نصيبهم ( من الشقاء الذي كتب لهم ) حتى إذا جاءتهم ( رسل الإلهامات الإلهية والواردات الربانية بعد أن كان هائماً في تيه البشرية ) يتوفونهم ( بجذبات الألطاف الإلهية عن الأوصاف البشرية ) قالوا أينما كنتم تدعون من دون الله ( من الدنيا وشهواتها ) وشهدوا ( هؤلاء المجرمون المحرومون ) أنهم كانوا كافرين ( ساترين الحق بالباطل فهداهم الله تعالى .
ثم قال لأهل الخذلان ) ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ( وقدم الجن لأن الله تعالى خلق أولاً بني الجان منهم مؤمن ومنهم كافر ، فلما استولى أهل الكفر منهم بعث إليهم جنداً من الملائكة - وقيل رئيسهم إبليس - فاستأصلوهم ثم خلق آدم وذريته منهم مؤمن ومنهم كافر .
) كلما دخلت أمة ( في أعمال أهل النار ) لعنت أختها ( المتقدمة في تلك الأعمال لأنهم سنوها ) حتى إذا ( تدارك الكل في الأعمال الموجبة للنار .
) عذاباً ( ) ضعفاً ( لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ) لكل ضعف ( لأن المتأخر أيضاً متقدم الذي يتلوه ويستن بسنته ) ولكن لا تعلمون ( أنكم متقدمون لمتأخريكم فما كان لكم عيلنا من فضل لأنكم سننتم لمتأخريكم كما سننا لكم ) لا تفتح لهم أبواب ( سماء القلوب إلى الحضرة ) ولا يدخلون ( جنة القربة والوصلة حتى يدخل جمل النفس المتكبرة في سم خياط أحكام الشريعة وآداب الطريقة ، وحتى تصير بالتربية في إزالة الصفات الذميمة وقطع تعلقات ما سوى الله أدق من الشعرة بألف مرة فيلج في سم خياط الفناء فيدخل جنة البقاء ) وكذلك نجزي المجرمين ( الذين(3/236)
" صفحة رقم 237 "
صارت أنفسهم في حمل الأوزار كالجمل ) لهم من جهنم ( المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس قمع الهوى لحاف فتذهبهم وتحرق أنانيتهم .
) لا نكلف نفساً إلا وسعها ( فيرفع ع ظاهرهم وباطنهم كلفة الإيمان والعمل حتى تسير عليهم العبودية بحسن التوفيق .
( الأعراف : ( 44 - 53 ) ونادى أصحاب الجنة . . . .
" ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون "
( القراآت )
نعم ( بكسر العين حيث كان : علي .
الباقون بالفتح ) مؤذن ( بغير همز : النجاري عن روش ويزيد والشموني وحمزة في الوقف .
) أن ( مخففة ) عنة الله ( بالرفع : عاصم وأبو عمرو وأبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل .
الباقون : مشددة وبالنصب .
الوقوف : ( حقاً ( ج لانتهاء الاستفهام .
) نعم ( ج للعطف مع الابتداء بالتأذين .
) على الظالمين ( ه لا لأن ( الذين ) صفتهم ) عوجاً ج لاحتمال الواو الاستئناف أو الحال ) كافرون ( ه لأن ما بعده لم يدخل في التأذين ولم يجزأن يكون حالاً ) حجاب ( ج لتناهي حال الفئتين واتفاق الجملتين ) بسيماهم ( ط ) يطمعون ( ه ) أصحاب النار ( لا لأن ما بعده جواب ( إذاً ) ) الظالمين ( ه ) تستكبرون ( ه ) برحمة ( ط لتناهي الاستفهام والأقسام(3/237)
" صفحة رقم 238 "
) تحزنون ( ه ) رزقكم الله ( ط ) الكافرين ( ه ) الحياة الدنيا ( ج للابتداء مع فاء التعقيب ) هذا ( لا ( وما ) مصدرية كما في ) كما نسوا ( والتقدير ننساهم كنسيانهم وجحودهم ) يجحدون ( ه ) يؤمنون ( ه ) إلا تأويله ( ط ) بالحق ( ج لابتداء الاستفهام مع الفاء للتعقيب ) كنا نعمل ( ط ) يفترون ( ه .
التفسير : ولما شرح وعيد الكفار وثواب الأبرار أتبعه المناظرات التي تدور بين الفريقين فقال : ( ونادى ( وإنما ذكره بلفظ الماضي لأن المستقبل الذي يخبر الله تعالى عنه من حيث تحقق وقوعه كالماضي .
والظاهر أن هذا النداء إنما يكون بعد الاستقرار في الجنة لأنه ورد بعد قوله : ( ونودوا أن تلك الجنة أورثتموها ( قيل : الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرض .
ومع هذا البعد الشديد كيف يصح هذا النداء ؟ وأجيب بأن البعد الشديد والقرب عندنا ليس من موانع الإدراك ، ولو سلم المنع في الشاهد فلا يسلم في الغائب .
وهذاالنداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار لأن أصحاب الجنة وأصحاب النار يفيد العموم لكن الجمع إذا قرن بالجمع يوزع الفرد على الفرد ، فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار .
و ( أن ) في ) إن قد وجدنا ( مفسرة أو مخففة من الثقيلة كما مر في قوله : ( أن تلكم الجنة ) [ الأعراف : 43 ] وكذا قوله : ( أن لعنة الله ( لأن النداء والتأذين في معنى القول : قال ابن عباس : ( وجدنا ما وعدنا ربنا ( في الدنيا من الثواب ) حقاً ( صحيحاً مطابقاً للواقع ) فهل وجدتم ما وعد ربكم ( من العقاب ) حقاً ( والغرض من هذا الاستفهام إظهار الشاشة والاغتباط وإيقاع الحزن في قلب العدو ، وفي هذه الحكاية لطف للمؤمنين وترغيب كما في سائر الأخبار .
وإنما حذف المفعول في ) وعد ربكم ( لدلالة المفعول في ) وعدنا ( عليه ، ولأن كونهم مخاطبين من قبل الله تعالى بهذا الوعد يوجب مزيد التشريف وأنه لا يليق إلا بحال المؤمنين ويحتمل أن يكون الإطلاق ليتناول كل ما وعد الله من البعث والحساب والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة ) قالوا نعم ( قال سيبويه : نعم عدة وتصديق أي تستعمل تارة عدة وتارة تصديقاً .
فإذا قال : أتعطيني ؟ قال : نعم ، فهو عدة .
وإذا قال : قد كان كذا وكذا فقتل : نعم فقد صدقت .
والحاصل أن نعم للتصديق في الخبر والتحقيق في الاستفهام مثبتين كانا أو منفيين .
فلو قيل : قام زيد أو أقام زيد فتقول : نعم .
كان معناه نعم قام زيد مصدقاً أو محققاً ولو قيل : ما قام زيد أو ألم يقم زيد فقلت : نعم .
كان المعنى ما قام زيد مصدقاً أو محققاً ومن ثم قال ابن عباس : لو قالوا في جواب ) ألست بربكم ) [ الأعراف : 172 ] ( نعم ) لكان كفراً .
هذا من حيث اللغة وقد يكون العرف على خلاف ذلك كقول الفقهاء .
لو قيل أليس لي عليك دينار(3/238)
" صفحة رقم 239 "
فقلت : نعم التزمت بالدينار بناء على العرف الطارىء بد الوضع .
وكنانة تكسر العين من نعم .
وروي عن عمر أنه سأل قوماً عن شيء فقالوا : نعم فقال عمر : أما النعم فالإبل وقولوا نعم وأنكر هذه الرواية أبو عبيد ) فإذن مؤذن ( قال ابن عباس : هو الملك صاحب الصور يأمره الله فينادي نداء يسمع أهل الجنة وأهل النار .
ومعنى التأذين النداء والتصويت للإعلام ومنه الأذان لأنه إعلام بالصلاة وبوقتها .
والظالمون في الآية قيل : عام للكافر والفاسق والظاهر أنهم الكفار لأن الصد عن سبيل الله أي المنع عن قبول الدين الحق بالقهر أو بالحيلة وإلقاء الشكوك والشبهات في الدلائل وهو المراد بقوله : ( ويبغونها عوجاً ( وقد مر في آل عمران .
والكفر بالآخرة كلها من أوصاف الكفرة وإنما قدم بالآخرة تصحيحاً لفواصل الآيط ولم يزد لفظة هم هنا على القياس .
وأما في سورة هود فلما تقدم ) هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ( وقال : ( ألا لعنة الله على الظالمين ) [ الآية : 18 ] ولم يقل ( عليهم ) والقياس ذلك التبس أنهم هم أم غيرهم فكرر ليعلم أنهم هم المذكرون لا غيرهم .
ثم وصف أهل الجنة والنار فقال : ( وبينهما ( يعني بين الجنة والنار أو بين الفريقين ) حجاب ( وهو السور المذكور في قوله سبحانه : ( فضرب بينهم بسور له باب ) [ الحديد : 13 ] قيل : أي حاجة إلى ضرب هذا السور لا يمنع أن يكون بينهما سور وحجاب .
والأعراف لغة جمع عرف بالضم أحدهما عن الآخر لا يمنع أن يكون بينهما سور وحجاب .
والأعراف لغة جمع عرف بالضم وهو الرمل المرتفع ومنه عرف الفرس وعرف الديك ، وكل مرتفع من الأرض عرف لأنه بسبب ارتفاعه يصير أعرف مما عرف الفرس وعرف الديك ، وكل مرتفع من الأرض عرف لأنه أخرى .
أما الذين فسروه بالمكان وهم الأكثرون فقال : إن الأعراف أعلى أعالي شرف الصراط وعلى هذا التفسير فالذين هم على الأعراف من هم فيه قولان : أحدهما أنهم أقوام يكونون في الدرجة العليا من الثواب .
وثانيهما : أنهم في الدرجة النازلة .
وعلى الأول فيه وجوه : فقال أبو مجلز : هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار .
فقيل له : يقول الله تعالى : ( وعلى الأعراف رجال ( وأنت تقول : إنهم ملائكة .
فقال : الملائكة ذكور لا إناث .
ويرد عليه أن الرجل لغة يطلق على من يصلح أن يكون من نوعه أنثى بل يطلق علىالذكر من بني آدم .
وقيل : إنهم الأنبياء عليهم السلام أجلسهم الله تعالى على ذكل المكان العالي إظهاراً لشرفم وليكونوا مشرفين على الفريقين مطلعين على أحوالهم ومقادير ثوابهم وعقابهم .
وقيل : إنهم الشهداء وعلى القول الثاني قيل : إنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم أوقفهم الله على هذه الأعراف لأنها درجة متوسطة بين الجنة والنار .
ثم تؤل عاقبة أمرهم إلى الجنة(3/239)
" صفحة رقم 240 "
برحمة من الله وفضل قاله حذيفة وابن مسعود واختاره الفراء .
وخصصه بعضهم فقال : هم قوم خرجوا إلى الغزو بغير إذن أمهاتهم فاستشهدوا فساوت معصيتهم طاعتهم وفي هذا التخصيص نظر .
وقال عبد الله بن الحرث : إنهم مساكين أهل الجنة .
وقال قوم : هم الفساق من أهل الصلاة يعفو الله عنهم ويسكنهم الأعراف .
وأما الذين فسروه بغير المكان وهو قول الحسن والزجاج فقد قالوا : إن المعنى وعلى معرفة أهل الجنة والنار رجال يميزون البعض من البعض إما بالإلهام أو بتعريف الملائكة .
قال الحسن : والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا .
وعلى جميع التفاسير فهم يعرفون أهل الجنة وأهل النار .
قال قوم : يعرفون أهل الجنة بكون وجوههم ضاحكة مستبشرة مبيضة ، وأهل النار بسواد وجوههم وزرقة عيونهم .
وزيف بأن هذا النوع من المعرفة عام لأهل المحشر فلا وجه لتخصيص أصحاب الأعراف بذلك .
ويمكن أن يقال : إن معرفتهم لكونهم على الأمكنةالمرتفعة آمنين .
وقال المحققون : إنهم كانوا يعرفون أهل الخير والإيمان والصلاة وأهل الشر والكفر والإفساد وهم كانوا في الدنيا شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية ، فهو تعالى يجلسهم على الأعراف ليكونوا مطليعين على الكل يشهدون على كل أحد بما يليق به .
ثم قال : ( ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ( أي إنهم إذانظروا إلى الجنة سلموا على أهلها .
ثم أخبر على سبيل الاستئناف أن أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة ) وهم يطمعون ( كأن سائلاً سأل عن حالهم أو على أنه صفة أخرى لرجال .
فإن قلنا : إن أصحاب الأعراف هم الأشراف فيكون الله تعالى أخر إدخالهم الجنة ليطلعوا على أحوال أهل الجنة والنار ، ثم إنه تعالى ينقلهم إلى الدرجات العلا في الجنة كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : ( ان أهل الدرجات العلا ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدريّ في وسط السماء وإن أبا بكر وعمر منهم ) ومعنى يطمعون على هذا يتيقنون كقول إبراهيم : ( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) [ الشعراء : 82 ] ولا يخفى ما في هذه العبارة من حسن الأدب .
وإن قلنا أصحاب الأعراف هم الأوساط فلا إشكال لأنهم يطمعون من فضل الله وإحسانه أن ينقلهم من ذلك الموضع إلى الجنة ) وإذا صرف أبصارهم تلقاء أصحاب النار ( قال الواحدي : التلقاء جهة اللقاء وهي جهة المقابلة وهو في الأل مصدر استعمل ظرفاً .
ولم يأت من المصادر على ( تفعال ) بالكسر إلا حرفان ( تبيان ) و ( تلقاء ) وإنه في الاسم كثير كتمثال وتقصار ، والمعنى أنه كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى أن لا يجعلهم من زمتهم .
وفي بناء الفعل للمفعول وإن لم يقل وإذا أبصروا فائدة هي أن صارفاً يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا .
ثم بين أن أصحاب الأعراف ينادون رجالاً من أكابر أهل النار واستغنى عن التصريح بهم بوصفهم بما لا يليق إلا بهم فقال :(3/240)
" صفحة رقم 241 "
) ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم ( المال أو كثرتكم واجتماعكم ) وما كنتم تستكبرون ( عن الحق وعلى الناس ، وفيه تبكيت للمخاطبين وشماتة بهم ، ثم زادوا في التبكيت مشيرين إلى فريق من أهل الجنة كانوا يستضعفونهم ويستقلون أحوالهم ، وربم ااستهزؤوا بهم وأنفوا من مشاركتهم في دينهم لقلة حظوظهم من الدنيا فقالوا : ( أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ( أما قوله : ( ادخلوا الجنة ( إلى آخر الآية .
فمن قول الله تعالى لأصحاب الأعراف ، أو من قول الملائكة لهم بأمره ، أو من قول بعضهم لبعض وذلك بعد أن يحبسوا ويجلسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويقولوا .
قال المفسرون : الرجال ههنا الوليد بن المغيرة وأبو جهل ابن هشام والعاص بن وائل السهمي ونظارؤهم .
وكانوا يقولون إن بلالاً سلمان وعماراً وأمثالهم يدخلهم الله الجنة ويدخلنا النار كلاً والله إن الله لا يفضل علينا خدمنا ورعاتنا ، أقسموا أن لا يخصهم بفضل دونهم فناداهم أصحاب الأعراف .
ثم ختم المناظرت بقوله : ( ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة ( قال ابن عباس : لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بفرج بعد اليأس فقالوا : ربنا إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم ، فأمر الله بالجنة فزخرفت ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم ، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم قد اسودت وجوههم وصاروا خلقاً آخر ، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وقالوا : ( أفيضوا علينا من الماء ( طلبوا الماء أوّلاً لما في بواطنهم من الاحتراق الشديد .
وفي الإفاضة نوع دلالة على أن أهل الجنة أعلى مكاناً من أهل النار .
قال بعض العلماء : إنهم سألوا ذلك مع جواز الحصول .
وقال آخرون : بل مع اليأس لأنهم عرفوا دوام عقابهم ولكن الآيس من الشيء قد يطلبه كما يقال في المثل : الغريق يتعلق بالزبد .
وإن علم أنه لا يغنيه .
قوله : ( أو مما رزقكم الله ( قيل : أي سائر الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة .
وقيل : أي من الثمار أو الطعام .
والمراد : وألقوا علينا من الطعام والفاكهة كقوله :
علفتها تبناً وماءاً بارداً
فيكون في الآية دليل على نهاية عطشهم وشدّة جوعهم .
ثم كأن سائلاً سأل فبماذا أجابهم أهل الجنة ؟ فقيل : ( قالوا إن الله حرمهما على الكافرين ( أي منعهم شراب الجنة وطعامها كما يمنع المكلف ما يحرم عليه وهذه نهاية الحسرة والخيبة أعاذنا الله منها .
ثم(3/241)
" صفحة رقم 242 "
وصف هؤلاء الكافرين بأنهم ) الذيناتخذا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة ( وقد مر تفسير الوصفين في أوسط سورة الأنعام .
وقال ابن عباس : يريد المستهزئين المقتسمين ، وملة الأمر أن الإنسان يطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة الماء وقوة الجاه فلشدة رغبته في هذه الأشياء يصير محجوباً عن طلب الدين غريقاً في بحر الدنيا ومشتهياتها .
ثم ذكر جزاءهم يوم القيامة على سبيل الحكاية فقال : ( فاليوم ننساهم ( أي نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا قاله الحسن ومجاهد والسدي والأكثرون ، وقيل : أي نعاملهم معاملة من نسي بتركهم في النار كما فعلوا هم في الإعراض عن آياتنا ، فسمي جزاء النسيان نسياناً كقوله : ( وجزاء سيئة سيئة ) [ الشورى : 40 ] والحاصل أنه لا يجب دعائهم ولا يرحم ضعفهم وذلهم .
عن أبي الدرداء أن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بالضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة ، ثم يذكرون الشراب فيستغيثون إلى أهل الجنة كما في هذه الآية فتقول أهل الجنة ) إن الله حرمهما على الكافرين ( ، ويقولون لمالك ليقض علينا ربك فيجيبهم على ما قيل بعد ألف عام إنكم ماكثون ، ويقولون ربنا أخرجنا منها فيجيبهم اخسؤا فيها ولا تكلمون ، فعند ذلك ييأسون من كل خير ويأخذون في زفير وشهيق .
وعن ابن عباس في صفة أهل الجنة : إنهم يرون الله عز وجل في كل جمعة ، ولمنزل كل واحد منهم ألف باب فإذا رأوا الله تعالى دخل من كل باب ملك معهم الهدايا الشريفة .
وقال : إن نخل الجنة خشبها الزمرد وقوائمها الذهب الأحمر وسعفها حلل وكسوة لأهل الجنة وثمرتها أمثال القلال أشد بياضاً من الفضة وألين من الزبد وأحلى من العسل لا عجم فيها .
فهذه صفة الفريقين من القرآن والحديث فتأهب لأيهما شئت والله الموفق .
ولما شرح الله تعالى حال الطائفتين والمناظرات الجارية بينهم لتكون حاملاً للمكلف على الحذر من مواجب النار وعلى الرغبة في مستتبعات الجنة بيّن شرف هذا الكتاب الكريم وغاية منافعه الجليلة فقال : ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه ( ميزنا بعضه عن بعض تمييزاً يهدي إلى الرشاد ويؤمن من الغلط والتخليط .
وإنما فعلنا ذلك لا كيفما اتفق بل ) على علم ( بما في كل فصل من تلك الفصول من الفوائد الكثيرة والمنافع الغزيرة حتى جاء بريئاً من كل خلل وقدح ومعجزاً باقياً على وجه الدهر .
وقوله : ( وهدى ورحمة ( حالان من منصوب ) فصلناه ( كما أن ) على علم ( حالٍ من مرفوعه .
ويحتمل أن يكونا مفعولاً لهما ) لقوم يؤمنون ( لأن فائدته تعود إليهم ، ثم لما بيّن إزاحة العلة بسب إنزال هذا الكتاب المفصل الموجب للهداية والرحمة بين بعده حال من كذب به فقال : ( هل ينظرون إلا تأويله ( والنظر ههنا بمعنى الانتظار والتوقع ، وكيف ينتظرون مع جحدهم وإنكارهم ؟ الجواب لعل فيهم أقواماً تشككوا(3/242)
" صفحة رقم 243 "
وتوقفوا ولهذا السبب انتظروه .
وأيضاً إنهم كانوا جاحدين إلا أنهم بمنزلة المنتظرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة .
قال الفراء : الضمير في تأويله للكتاب أي إلا عاقبة أمره وما يؤل إليه من بيان صدقه صحة ما نطق به من الوعد والوعيد ، أو عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب العقاب ، والتأويل مرجع الشيء ومصيره من قولهم آله الشيء يؤل ) يوم يأتي ( يريد يوم القيامة وانتصابه على أنه ظرف ) يقول ( ومعنى : ( نسوه ( تركوا العمل به والإيمان أو أنهم صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نسيه ) ق جاءت رسل ربنا بالحق ( أي متلبسين بما هو الحق ، أو الباء للتعدية والمراد اعترافهم بثبوت الحشر والنشر وأحوال القيامة وأهوالها إذا عاينوها ) فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ( منصوب بإضمار ( أن ) بعد الفاء والتقدير : هل يثبت لنا شفيع فيشفع ) أو ( هل ) نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ( فنوحد الله تعالى بدلاً عن الشرك ونطيعه بدلاً عن المعصية .
وفيه دليل على أن أهل الآخرة لا تكليف لهم خلافاً للنجار ومن تبعه وإلا لم يسألوا الرد إلى دار التكليف ولم يتمنوه بل كانوا يتوبون في الحال .
ثم حكم بأن ذلك التمني لا يفيدهم شيئاً وأن مطلوبهم لا يكون ألبتة فقال : ( قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( أي لا ينتفعون بالأصنام التي عبدوها في الدنيا وليس تفيدهم نصرة الأوثان التي بالغوا في نصرها .
التأويل : نادى أهل المحبة أهل القطيعة ) أن قد وجدنا وعدنا ربنا حقاً ( يعني قوله : ( ألا من طلبني وجدني ) ) فهل وجدتم ما وعدكم ( ) ربكم ( حقاً وهو قوله : ( ومن طلب غيري لم يجدني ) ) فأذن مؤذن ( العزة والعظمة على الظالمين الذين وضعوا استعداد الطلب في غير موضع مطلوبه ، الذين يصدون القلب والروح عن سبيل الله وطلبه ، ويطلبون صرف وجوههم إلى الدنيا وما فيها ) وبينهما حجاب ( من الأوصاف الله وطلبه ، ويطلبون صرف النفسانية فلا يرى أهل النار أهل الجنة وكذا بين أهل الجنة وأهل الله - وهم أصحاب الأعراف - حجاب من أوصاف الخلقية والأخلاق الحميدة الروحانية .
وسميت أعرافاً لأنها موطن أهل المعرفة ، وسموا رجالاً لأنهم بالرجولية يتصرفون فيما سوى الله تصرف الرجال في النساء ولا يتصرف فيهم شيء منه ، فالأعراف مرتبة فوق الجنان في حظائر القدس عند الرحمن ) يعرفون كلاً ( من أهل الجنة وأهل النيران ) بسيماهم ( من آثار نور القلب وظلمته ) نادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ( يعني هنيئاً لكم ما أنتم فيه من النعيم والحور والقصور .
ثم أخبر عن همة أهل الأعراف فقال : ( لم يدخلوها ( أي الجنة ونعيمها ولم يلتفتوا إلى غير المولى ) وهم يطمعون ( في الوصول إلى الحق سبحانه .
) وإذا صرفت(3/243)
" صفحة رقم 244 "
أبصارهم تلقاء أصحاب النار ( ابتلاء ليعرفوا أنه تعالى من أي دركة خلصهم وبأي كرامة خصهم ومن هذا القبيل يكون ما يسنح لأرباب الكمالات من الخواطر النفسانية وما أتاهم الله بشيء من الدنيا والجاه والقبول والاشتغال بالخلق ليعفوا قدر العزلة والتجريد والأنس مع الله في الخلوات ) رجالاً يعرفونهم بسيماهم ( يعني أهل الجنة وأهل النار ) ما أغنى عنكم جمعكم ( يا أهل الجنة وأهل الله من الطاعات ويا اهل النار من الدنيا والشهوات ) وما كنتم تستكبرون ( عن السير في حقيقة لا إله إلا الله ) أهؤلاء الذين أقسمتم ( يعني أن من المؤمنين والعلماء بعلم الظاهر في بعض الأوقات من يقول لدناءة همته لأهل المحبة والمعرفة ) لا ينالهم الله برحمة ( الوصول ) ادخلوا الجنة ( يعني الجنة المضافة إليه في قوله : ( ادخلي جنتي ) [ الفجر : 30 ] في حظائر القدس وعالم الجبروت ) لا خوف عليكم ( من الخروج ) ولا أنتم تحزنون ( على ما فاتكم من نعيم الجنة إذ فزتم بشهود جمالنا .
اعلم أن أهل الجنة وأهل النار يرون أهل الله وهم أصحاب الأعراف بالصورة ما داموا في مواطن الكونين ، فإذا دخلوا الجنة الحقيقية المضافة إلى الله في حظائر القدس وسرادق العزة انقطع عنهم نظرهم ونظر الملائكة المقرّبين فافهم .
يحكى عن بابا جعفر الأبهري أنه دخل على بابا طاهر الهمداني فقال : أين كنت فإني حضرت البارحة مع الخواص على باب الله فما رأيتك ثمة ؟ فقال بابا طاهر : صدقت كنت على الباب مع الخواص وكنت داخلاً مع الأخص فما رأيتني .
) فيضوا علينا من الماء ( كانوا في الدنيا عبيد البطون حراصاً على الطعام والشراب فماتوا على ما عاشوا وحشروا على ما ماتوا ، وإن أهل الجنة لما جوعوا بطونهم لوليمة الفردوس كان اشتغالهم في الجنة بشهوات النفس والمضايقة بها ) فقالوا إن الله حرمهما على الكافرين ( وفي الحقيقة إنما حرمهما عليهم في الأزل فلم يوفقوا لمعاملات تورث الجنة ) هل ينظرون إلا تأويله ( أي ما يؤل إليه عاقبته في شأنهم .
فللمؤمنين كشف الغطاء وسبوغ العطاء ، ولأهل الجحود الفرقة الافتقار وعذاب النار أعاذنا الله تعالى منها .
( الأعراف : ( 54 - 58 ) إن ربكم الله . . . .
" إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون والبلد الطيب(3/244)
" صفحة رقم 245 "
يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون "
( القراآت )
يغشي ( بالتشديد حيث كان : حمزة وعلي وخلف وأبو بكر وحماد وسهل ويعقوب غير روح .
) والشمس والقمر والنجوم مسخرات ( كلها بالرفع : ابن عامر .
الآخرون بالنصب .
) الريح ( على التوحيد : ابن كثير وحمزة وعلى خلف ) نشرا ( بالنون وسكون الشين : أبو عامر .
وبفتح النون وسكون الشين : حمزة وعلي وخلف وأبو زيد عن المفضل .
وبعضم الباء الموحدة والشين الساكنة : عاصم غير أبي زيد الباقون بضم النون والشين .
) ميت ( بالتشديد : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وحفص والمفضل ) نكداً ( بفتح الكاف : يزيد .
الآخرون بكسرها .
الوقوف : ( حثيثاً ( ط لمن قرأ ) والشمس ( وما بعده مرفوعات ) بأمره ( ط ) والأمر ( ط ) العالمين ( ه ) وخفية ( ط ) المعتدين ( ه للعطف مع الآية .
) وطمعاً ( ط ) المحسنين ( ه ) رحمته ( ط ) الثمرات ( ط ) تذكرون ( ه ) بإذن ربه ( ج للابتداء مع العطف ) نكداً ( ط ) يشكرون ( ه .
التفسير : لما بالغ سبحانه في تقرير أمر المعاد عاد على عادته إلى بيان المبدإ وهو ذكر الدلائل الدالة على التوحيد وكما القدرة والعلم تأكيداً للمعاد .
والمعنى إن الذي يربيكم ويصلح شأنكم ويوصل إليكم الخيرات ويدفع عنكم المكاره هو الذي بلغ كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته إلى حيث خلق هذه الأجسام الجسام وأودع فيها أنواع المنافع وأصناف الفوائد ، فكيف يليق أن يرجع إلى غيره في طلب الخيرات ويعوّل على غيره في تحصيل السعادات ؟ قال علماء الأدب : أصل ست سدس بدليل سديس وأسداس .
ثم إن العرب كانوا يخاطبون اليهود فالظاهر أنهم سمعوا بعض أوصاف الخالق منهم فكأنه سبحانه يقول : لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام فإن ربكم هو الذي سمعتم من عقلاء الناس أنه هو الذي خلق السموات والأرض على غاية عظمتها ونهاية جلالتهما في ستة أيام .
قيل : إنه تعالى كان قادراً على إيجادهما دفعة واحدة فما الفائدة في ذكر أنه خلقهما في ستة أيام في أثناء ذكر ما يدل على وجود الصانع ؟ وأجيب بأنه أراد أن يعلم عباده الرفق والتأني في الأمور والصبر فيها كيلا يحمل المكلف تأخير الثواب والعقاب على التعطيل .
ومن العلماء من قال : إن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع الإحداث فلعله يخطر ببال بعضهم أن ذلك إنما وقع على سبيل الاتفاق ، أما إذا أحدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للحكمة والمصلحة كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث(3/245)
" صفحة رقم 246 "
حكيم عليم قادر رحيم .
وأيضاً ثبت بالدليل أنه تعالى يخلق العاقل أوّلاً ثم يخلق السموات .
والأرض بعده لأن خلق ما لا ينتفع به في الحال يجر إلى العبث .
ثم إن ذلك العاقل - ملكاً كان أو جنياً - إذا شاهد في كل ساعة وحين حدوث شيء آخر على سبيل التعاقب والتوالي كان ذلك أقوى في إفادة اليقين لأنه يتكرر على عقله ظهور هذا الدلائل لحظة فلحظة .
وأما تقدير المدة بستة أيام فلا يرد عليه إشكال لأن السؤال يعود على أي مقدار فرض ، وقيل : إن لعدد السبعة شرفاً عظيماً ولهذا خصت ليلة القدر بالسابع والعشرين .
فالأيام الستة لتخليق العالم والسابع لتحصيل كمال الملك والملكوت .
فإن قيل : كيف يعقل حصول الأيام قبل خلق الشمس التي نيط تقدير الأزمنة بطلوعها وغروبها ؟ فالجواب أن المراد خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام قوله : ( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً ) [ مريم : 62 ] والمراد مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا صباح عند الله ولا مساء .
وعن ابن عباس أن هذه الأيام أيام الآخرة كل يوم ألف سنة مما تعدون .
والأكثرون على أنها أيام الدنيا لأن التعريف بها يقع .
والظاهر أنها الأيام بلياليها لا النهار .
ونقول : يمكن أن تحمل الأيام الستة على الأطوار الستة التي للأجسام الهيولي والصورة والجسم البسيط ثم المركب المعدني والنباتي والحيواني والله تعالى أعلم بمراده .
أما قوله سبحانه : ( ثم استوى على العرش ( فحمل بعضهم الاستواء على الاستقرار وزيف بوجوه عقلية ونقلية منها : أن استقراره على العرش يستلزم تناهيه من الجانب الذي يلي العرش ، وكل ما هو متناهٍ فاختصاصه بذلك الحد المعين يستند لا محالة إلى محدث مخصص فلا يكون واجباً .
ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون الإله تعالى نوراً غير متناهٍ ويراد باستقراره على الرعش بلا تناهيه إحاطته به من الجوانب ونفوذه في الكل لا كإحاطة الفلك الحاوي بالمحوى .
ولا كنفوذ النور المحسوس في الشرف ، بل على نحو آخر تعوزه العبارة أو متناهياً من بعضها دون بعض .
وعلى الأول يلزم اختلاطه بجميع الأجسام حتى للقاذورات ومع ذلك فالشيء الذي هو محل السموات ، إما أن يكون عين الشيء الذي هو محل الأرض أو غيره ، وعلى الأول يلزم أن يكون السماء والأرض حالين في محل واحد فهما شيء واحد لا شيئان .
وعلى الثاني يلزم التركيب والتجزئة في ذاته تعالى .
وأما إن كان متناهياً من الجهات فلو حصل في جميع الأحياز فهو محال بالبديهة ، وإن حصل في حيز واحد فلو كان جوهراً فرداً لزم أن يكون واجب الوجود أحقر الأشياء وإلا لزم التبعيض لأن جهة الفوق منه تكون مغايرة لمقابلتها .
وكذا الكلام فيه إن كان متناهياً من بعض الجهات ، ولو جاز أن يكون الشيء المحدود من جانب أو جوانب(3/246)
" صفحة رقم 247 "
قديماً أزلياً فاعلاً للعالم فلم لا يجوز أن يقال فاعل العالم هو الشمس والقمر أو كوكب آخر ؟ وأيضاً يصح على الشق المتناهي أن يكون غير متناهٍ وعلى غير المتناهي أن يكون متناهياً ، لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية كل ما صح على واحد منها صح على الباقي فيصح النمو والذبول والزيادة والنقصان والتفريق والتمزق على ذاته تعالى فيكون ممكناً محدثاً لا واجباً قديماً .
ولقائل أن يقول : إنه غير متناهٍ ولا يلزم من ذلك أن يكون محلاً للعالم ولا حالاً فيه ، واستصحاب الشيء للمحل غير كونه نفس المحل أو مفتقراً إلى المحل .
وحديث اختلاطه بالقاذورات تخييل لا أصل له عند الرجل البرهاني .
ومنها أنه لو كان الباري يتعالى حاصلاً في المكان والجهة لكان الأمر المسمى بالجهة إما أن يكون موجوداً مشاراً إليه أو لا يكون .
فإن كان موجوداً كان له بعد وامتداد وللحاصل فيه أيضاً بعد وامتداد فيلزم تداخل البعدين ومع ذلك يلزم كون الجهة والحيز أزليين ضرورة كون الباري تعالى أزلياً ومحال أن يكون ما سوى الواجب أزلياً ، وإن لم يكن موجوداً لزم كون العدم المحض ظرفاً لغيره ومشاراً إليه بالحسن وذلك باطل .
واعترض بأن ذلك أيضاً وارد عليكم في قولكم : ( الجمس حاصل في الحيز والجهة ) .
وأجيب بأن مكان الجسم عندنا عبارة عن السطح الظاهر من الجسم المحوي وهذا المعنى بالاتفاق في حق الله محال فسقط الاعتراض .
ولقائل أن يقول : الجهة مقطع الإشارة الحسية وهذا في حقه محال لعدم تناهيه .
ولم لا يجوز أن يكون الملكان خلاء فلا يلزم تداخل البعدين ولو لزم هناك لزم في الأجسام أيضاً بل لا بعد هناك ولا امتداد ، ولو فرض فلن يلزم منه الانقسام في الخارج ، ومنها أن لو امتنع وجود الباري تعالى بحيث لا يكون مختصاً بالحيز والجهة لكانت ذاته مفتقرة في تحققها ووجودها إلى غيره فيكون ممكناً .
والجواب ما مر من أن استصحاب المكان لا يوجب الافتقار إليه .
ومنها أن الحيز والجهة لا معنى له إلا الفراغ المحض ، ولأن هذا المفهوم واحد فالأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية .
فلو اختص ذاته تعالى يحيز معين لكان اختصاصه به لمخصص مختار ، وكل ما كان فعل الفاعل المختار فهو محدث ، فحصوله في الحيز محدث وكل ما لا يخلو عن الحادث فهو أولى بالحدوث فالواجب محدث هذا خلف .
ولقائل أن يقول : ما لا يتناهى لا يعقل له حيز معين ولو فرض لا تناهي الأحياز أيضاً فافتقاره إليها ممنوع ، وكيف يفتقر الشيء إلى ما تأخر وجوده عن وجود ذلك الشيء والمعية بعد ذلك لا تضر ؟ ومنها لو كان في الحيز والجهة لكان مشاراً إليه بالحسن ، ثم إن كان قابلاً للقسمة لزم التجزي وإلا لكان نقطة أو جوهراً فرداً فلا يبعد أن يقال : إن إله العالم جزء من ألف جزء من رأس إبراة ملتصقة بذنب قملة أو نملة .
ولقائل أن يقول : لا نسلم أن كونه مع(3/247)
" صفحة رقم 248 "
الحيز من جميع الجهات المفروضة يستلزم كونه مشاراً إليه حساً فإن العقل يعجز عن إدراكه فلاً عن الحس وباقي الكلام لا يستحق الجواب .
ومنها كل ذات قائمة بالنفس يشار إليها بحسب الحس فلا بد أن يكون جانب يمينه مغايراً لجانب شماله فيكون منقسماً وكل منقسم مفتقر ممكن .
قالوا : هذا الدليل مبني على نفي الجوهر الفرد .
ومنها لو كان في حيز لكان إما أعظم من العرش أو مساوياً له أو أصغر منه والثالث باطل بالأجماع والأولان يستلزمان الانقسام لأن المساوي للمنقسم منقسم وكذا الزائد عليه ، لأن القدر الذي فضل به عليه مغاير لما سواه .
ولقائل أن يقول : لا نسبة بين الجسم وبين نور الأنوار وتستحيل هذه التقادير .
ومنها أنه لو فرض كونه تعالى غير متناهٍ من ميع الجهات كما يزعم الخصم لزم لا تناهي الأبعاد وإنه محال لبرهان تناهي الأبعاد .
ولقائل أن يقول : إن برهان تناهي الأبعاد لا يسلم ولو سلم فلا بعد فيما وراء العالم الجسماني ولا امتداد .
ومنها أنه سبانه لو كان حاصلاً في الحيز لكان كونه هناك أما أن يمنع من حصول جسم آخر فيه أو لا يمنع .
وعلى الأول كان تعالى مساوياً لجميع الأجسام في هذا المعنى ، ثم إنه إن لم تحصل بينه وبينها ومخالفة بوجه آخر صح عليه ما يصح عليها من التغيرات وإنه محال ، وإن حصل بينه وبينها مخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايراً لما به المخالفة فيكون الواجب مركبا بل ممكناً .
وأيضاً الوجوه كان ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد إما أن يكون محلاً لما به المخالفة أو حالاً فيه أو لا هذا ولا ذاك .
فإن كان محلاً له كان البعد جوهراً قائماً بنفسه والأمور التي بها حصلت المخالفة أعراضاً وصفات ، وإذا كانت الذوات متساوية في تمام الماهية فكل ما يصح على بعضها يصح على البواقي ، وكل ما يصح على بعض الأجسام من التفرق والتمزق والنمو والذبول والعفونة والفساد يصح على ذاته تعالى .
وإن كان ما به المخالفة محلاً وذوات وما به المشاركة حالاً وصفة فذلك المحل إن كان له أيضاً اختصاص بحيز وجهة فيجب افتقاره إلى محل آخر لا إلى نهاية وإلا كان موجوداً مجرداً فلا يكون بعداً وامتداداً هذا خلف .
وإن لم يكن حالاً ولا محلاً كان أجنبياً مبايناً فتكون ذات الله تعالى مساوية لتمام الأجسام في الماهية ويصح عليه ما يص عليها هذا محال ، وعلى التقدير الثاني - وهو أن ذاته تعالى لا تمنع من حصول جسم آخر في حيزه - لزم سريانه في ذلك ولقائل أن يقول : كون البارىء تعالى مع الحيز مغاير لكون الجسم في الحيز فأين الاشتراك ؟ ولو سلم فالاشتراك في اللوازم لا يوجب الاشتراك في الملزومات فمن أين يلزم التركيب ؟ قوله : ( فإن كان محلاً له كان البعد جوهراً قائماً بنفسه ) قلنا : كون البعد جوهراً قائماً بنفسه(3/248)
" صفحة رقم 249 "
حق ، ولكن الملازمة ممنوعة ، وكذا قوله : ( الأمور التي بها حصلت المخالفة ) أعراض وصفات لجواز قيام العرض بالعرض كالبطء والسرعة القائمين بالحركة ، قوله : ( وإلا كان موجوداً مجرداً فلا يكون بعداً ) ممنوع لما قلنا من احتمال وجود بعد مجرد بلا وجوبه ، والكلام في سريانه في الموجودات قد مر .
ومنها أنه لو كان في حيز فإن أمكنه التحرك منه بعد سكونه فيه كان المؤثر في حركته وسكونه فاعلاً مختاراً ، وكل فعل لفاعل مختار فهو محدث وما لا يخلو عن المحدث أولى بأن يكون محدثاً وإن لم يمكنه التحرك منه كان كالزمن المعقد العاجز وذلك محال .
وأيضاً لا يبعد فرض أجسام أخرى مختصة بأحياز معينة بحيث يمتنع خروجها عنها فلا يمكن إثبات حدوث الأجسام بدليل الحركة والسكون والكرامية يساعدون على أنه كفر .
ولقائل أن يقول : إن الحركة والسكون من خواص الأجسام المفتقرة إلى أحياز ، فأما النور المجرد فلا يوصف بالحركة والسكون وإن كان مع الحيز والمتحيز .
سلمنا وجوب اتصافه بأحدهما فلم لا يجوز أن لا يمكنه التحرك لا لكونه زمناً مقعداً ولكن لأنه نور غيره تمناهٍ لا يصح وصفة بالتخلخل والتكاثف ونحو ذلك ، فتستحيل عليه الحركة لأنها موقوفة على شغل حيز وتفريغ حيز آخر ، ولأن العالم النوراني الذي لا نهاية له مملوء منه فكيف تيصور خلو حيز عنه ؟ ومنها أنه لو كان مختصاً بحيز فإن كان لطيفاً كالماء والهواء كان قابلاً للتفرق والتمزق ، وإن كان صلباً كان إله العالم جبلاً واقفاً في الحيز العالي ، وإن كان نوراً محضاً جاز أن تفرض هذه الأنوار التي تشرق على الجدران إلهاً .
وأيضاً إن كان له طرف وحدّ فإن كان ذا عمق وثخن كان باطنه غير ظاهره وإلا كان سطحاً في غاية الرقة مثل قشرة الثوم بل أرق منها ألف ألف مرة .
قلت : إن أمثال هذه الكلمات لا تصدر إلا عمن لا يفرق بين النور المعقول والنور المحسوس ، والجوهر المجرد والجوهر المادي ، والشيء القائم بذاته المفتقر إلى غيره .
ومن العجب العجاب أن هذا المستدل قد سمع من جمهور العقلاء أن الأجرام الفلكية لا تطلق عليها الصلابة واللين ، وإذا جاز أن يكون في أنواع الأجسام نوع لا يمكن أن يتصف بهذين المتقابلين لأن ذلك الموضع أجل وأشرف من أن يتصف بأحدهما ، فلم لا يجوز أن يكون فيما هو أشرف من ذلك النوع شيء لا يتصف بهما ؟ ومنها لو كان إله العالم فوق العرش لكان مماساً للعرش أو مبايناً له ببعد متناهٍ أو غير متناهٍ .
وعلى الأول فإن لم يكن له ثخن كان سطحاً رقيقاً كما مر ، وإن كان له ثخن فالمماس مغاير لغير المماس ويلزم تركيبه ، وإن كان مبايناً ببعد متناهٍ فلا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى أن يماسه ويعدو الإلزام المذكور ، وإن كان مبايناً ببعد غير متناهٍ لزم أن يكون غير المتناهي محصوراً بين الحاصرين ، ولقائل أن يقول : المباينة والمماسة من(3/249)
" صفحة رقم 250 "
خواص الأجسام وإنه تعالى نور مجرد محض فلا يصلح عليه الاتصال والانفصال والتماس والتباين والتداخل وأشباه ذلك .
ومنها ، الاستقراء قد دل على أن الجرمية كلما كانت أقوى كانت الفاعلية والتأثير أضعف وبالعكس ، ولهذا كان تأثير الأرض أقل من تأثير الماء ، وتأثير الماء من تأثير الهواء ، وتأثير الهواء من تأثير النار بالإحراق والطبخ ، وتأثير النار من تأثير الأفلاك المؤثرة في العنصريات .
ثم إنه لا قدرة ولا قوة أشد من قدرة الواجب لذاته فيكون بريئاً من الحجم والجرم والكثافة والرزانة .
قلت : في الاستقراء نزاع إنه صحيح أولاً ، ولكن لا نزاع في أن واجب الوجود تعالى شأنه بريء عن الحجمية والكثافة وعن كل شيء يقدح في قيوميته .
وههنا حجج قد أوردت في أوائل سورة الأنعام ف تفسير قوله سبحانه : ( وهو القاهر فوق عباده ) [ الأنعام : 18 ] وقد عرفت ما عليها فهذه حجج عقلية عول عليها الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه في تفيره الكبير ، وقد أوردنا عليها ما كانت ترد من المنوع والاعتراضات لااعتقاداً للتشبيه والتجسم أو تقليداً لأولئك الأقوام بل تشحيذاً للذهن وتقريباً إلى المعارف والحقائق وجذباً بضبع المتأمل في المضايق والمزالق فليختر المنصف ما أراد والله الموفق للرشاد .
ولعل هذا المقام مما لا يكشف المقال عنه غير الخيال والله أعلم بحقيقة الحال .
ثم قال رضي الله عنه : وأما الدلائل السمعية فكثيرة منها قوله تعالى : ( قل هو الله أحد ) [ الإخلاص : 1 ] والأحد مبالغة في كونه واحداً والذي يمتلىء منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركباً من أجزاء فوق أجزاء العرش وذلك ينافي كونه أحداً .
وأجيب بأنه ذات واحدة حصلت في كل الأحياز دفعة واحدة ، وزيف بأن هذا معلوم الفساد بالضرورة لو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال جميع العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة الأحياز فظن أنه أشياء كثيرة .
قلت : وهذه مغالطة فإن هذا الجزء الذي لا يتجزأ لصغره غير الشيء الذي لا يقبل التجزئة والأنقسام لذاته .
وأيضاً المتحيز الذي مقداره ذراع في ذراع لا يشغل بالبديهة حيزين كل منهما ذراع في ذراع فلزم منه أن لا يشغل ذينك الحيزين متحيز مقداره .
ضعف ذلك على أن الحق ما عرفت مراراً أن نور الأنوار قيوم في ذاته حاصل في جميع الأشياء لا منفصل عنها انفصال المحاط ، ولا متصل بها اتصال العرض الساري في الأجسام ، ولهذا لا يلزمه بانقسامها الانقسام .
ومنها قوله : ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية ) [ الحاقة : 17 ] ويلزم منه أن يكون حامل العرش حاملاً للإله .
والجواب أنك إن سميت المعية حملاً فلا نزاع .
ومنها قوله : ( والله الغني ) [ محمد : 38 ] فوجب أن يكون غير مفتقر إلى المكان والجهة ، والجواب أن الاستصحاب غير الافتقار .
ومنها أن فرعون(3/250)
" صفحة رقم 251 "
طلب حقيقة الإله في قوله : ( وما رب العالمين ) [ الشعراء : 23 ] ولم يزد موسى على ذكر الأوصاف .
وأما فرعون فقد طلب الإله في السماء في قوله ) فاطلع إلى إله موسى ) [ القصص : 38 ] فعلمنا أن التنزية دين موسى ووصفه بالمكان والحيز دين فرعون .
والجواب لا نزاع في أن حقيقة ذاته كما هي لا يعلمها إلا هو والبسائط المحضة لا تعرف إلا بلوازم ، وطلب فرعون إنما كان مذموماً لأنه تصور أن يكون الإله شخصاً مثله على تقدير وجوده لقوله : ( ما علمت لكم من إله غيري ) [ القصص : 38 ] .
ومنها هذه الآية لأنها تدل على أنه استقر على العرش بعد تخليق السموات والأرض وكان قبل ذلك مضطرباً .
والجوب المراد بالاستقرار أنه كان ولم يكن معه شيء فإذا خلق ما خلق من عالم الأجسام والأختلاط بقي ما وراءه نوراً محضاً .
ومنها قصة إبراهيم وتبرئه من الآفلين ولو كان جسماً لكان آفلاً في أفق الإمكان .
والجواب أن نور الأنوار أجل من ذلك ولا يلزم من كونه مع جميع الأحياز ومع ما سواها أن يكون في مرتبة الأجسام بل النفوس والعقول .
ومنها أن أول الآية أعني قوله : ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض ( يدل على قدرته وحكمته وكذا قوله ) يغشي الليل النهار ( إلى آخر الآية .
فلو كان المراد من الاستواء هو الاستقرار كان أجنبياً عما قبله وعما بعده لأنه ليس من صفات المدح إذ لو استقر عليه بق وبعوض صدق عليه أنه استقر على العرش .
فإذن المراد بالاستواء كمال قدرته في تدبير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها .
والجواب أن الاستقرار بالتفسير الذي ذكرناه أدل شيء على المدح والثناء ، وحديث البق والبعوض خراف وهل هو إلا كقول القائل : لو كان واجب الوجود بقاً أو بعوضاً صدق عليه أنه إله فلا يكون الإله دالاً على المدح .
ومنها أنه سبحانه حكم في آيات كثيرة بأنه خالق السموات فلو كان فوق العرش كان سماء لساكني العرش لأن السماء عبارة عن كل ما علا وسما ، ومن هنا قد يسمى السحاب سماء فيلزم أن يكون خالقاً لنفسه .
والجواب بعد تسليم أن كل ما سما وارتفع فهو سماء من غير اعتبار أنه نور أو جسم ، أن ذاته سبحانه مخصوصة بدليل منفصل كقوله : ( الله خلق كل شيء ) [ الرعد : 16 ] هذا والغير الموسومين بالمجسمة والمشبهة في الآية قولان : الأول القطع بكونه متعالياً عن المكان والجهة ثم الوقوف عن تأويل الآية وتفويض علمها إلى الله ، واثاني الخوض في التأويل وذلك من وجوه : أحدها تفسير العرش بالملك والاستواء بالاستعلاء أي استعلى على الملك .
وثانيها : أن ( استوى ) بمعنى ( استولى ) كقول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
وثالثهما ذكر القفال أن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك ، ثم(3/251)
" صفحة رقم 252 "
جعل العرش كناية عن نفس الملك .
يقال : استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه إذا استقام له أمره واطرد .
وفي ضدّه خلا عرشه أي انتقض ملكه وفسد .
فالله تعالى دلّ على ذاته وصفاتهوكيفية تدبيره للعالم بالوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم لتستقر عظمة الله تعالى في قلوبهم إلا أن ذلك مشورط بنفي التشبيه ، فإذا قال : إنه عالم فهموا منه أنه تعالى لا يخفى عليه شيء ، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة أو روية ولا باستعمال حاسة وإذا قال : قادر .
علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات وتكوين الممكنات ثم عرفوا أنه غني في ذلك الإيجاد والتكوين عن الآلات والأدوات وسبق المادة والمدّة والفكرة والروية ، وكذا القول في كل من صفاته .
وإذا أخبر أن له بيتاً يجب على عباده حجة فهموا منه أنه نصب موضعاً يقصدونه لمآربهم وحوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب ، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه وأنه لم يجعل ذلك البيت مسكناً لنفسه ولم ينتفع به لدفع الحر والبرد .
وإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ثم علموا أنه لا يفرح بذلك التحميد والتمجيد ولا يحزن بتركه والإعراض عنه .
وإذا أخبر أنه خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش فهموا منه أنه بعد أن خلقهما استوى على عرش الملك والجلال .
ومعنى التراخي أنه يظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلقها لأن تأثير الفاعل لا يظهر إلا في القابل .
وقال أبو مسلم : العرش لغة هو البناء والعارش الباني قال تعالى : ( ومن الشجر ومما يعرشون ) [ النحل : 68 ] فالمراد أنه بعد أن خلقها قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها .
قوله سبحانه : ( يغشي الليل النهار ( قال صاحب الكشاف : يلحق الليل بالنهار أو النهار بالليل يحتملهما اللفظ جميعاً .
وقال القفال : لما أخبر بالاستواء على العرش وأن أمر المخلوقات منوط بتدبيره ومشيئته أراهم ذلك عياناً فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر .
وقدم ذكر الليل والنهار لما في تعاقبهما من المنافع الجليلة فبهما تتم أمور الحياة ، ثم وصف الحركة التي يحصلان منها بالسرعة والشدةّ فقال ) يطلبه حثيثاً ( قال الليث : الحث الإعجال وذلك أن حركة الفلك الأعظم أشدّ الحركات سرعة حتى إنها في مقدار ما تقول واحد واحد يتحرك ألفاً وسبعمائة واثنين وثلاثين فرسخاً من مقعر فلكه والله أعلم بتحرك محدبه .
فإن قيل : ما محل الجملتين ؟ قلت : أما الأولى فمستأنفة كأنه قيل : فماذا يفعل بعد خلق السموات والأرض ؟ فأجيب يغشي الليل النهار .
وعلى قول من يفسر الاستواء بالتدبير والتصرف يحتمل أن تكون هذه الجملة مبينة .
وأما الثانية ففي محل النصب على الحال من الملحق كما أن ) حثيثاً ( منصوب على الحال من الطالب وهو الملحق(3/252)
" صفحة رقم 253 "
بعينه .
ثم قال : ( والشمس والقمر والنجوم مسخّرات ( من قرأهن منصوبات فمعناه وخلق هذه الأجرام حال كونهن تحت تسخيره ، ومن قرأها مرفوعات فعلى الابتداء والخبر ، وكلتا القراءتين حسنة لأنك إذا قلت : ضربت زيداً استقام أن يقال زيد مضروب .
وقوله : ( بأمره ( متعلق بمسخرات أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره .
قال في الكشاف : سمي ذلك أمراً على التشبيه كأنهن مأمورات بذلك .
ومنهم من حمل هذا الأمر على الأمر الذي هو الكلام ، وعلى هذا لا يبعد أن يكون ) بأمره ( متعلقاً ب ) خلق ( .
بدأ بالشمس لأنه سلطان الكواكب ، وثنى بالقمر لأنه كالنائب ، وثلث بسائر النجوم لأنها كالخدم .
فالشمس سلطان النهار ، والقمر سلطان الليل ، والشمس تأثيرها بالتسخين ، والقمر تأثيره بالترطيب ، وتوليد المواليد الثلاثة المعادن والنبات والحيوان لا يتم ولا يكمل إلا بتأثير الحرارة في الرطوبة .
ثم إنه سبحانه وتعالى خص كل كوكب بخاصية عجيبة وتأثير غريب لا يعلمه بتمامه إلا مبدعه وخالقه ، واعلم أن الأجسام متماثلة في الجسمية ؛ فاختصاص جرم الشمس بالنور الباهر والتسخين الشديد والتدبيرات العجيبة في العالم العلوي والسفلي وكذا تخصيص كل واحد من سائر السيارات والثوابت بقوّة أخرى لا بد أن يستند غلى فاعل حكيم قدير عليم فلهذا قال : ( مسخرات بأمره ( .
وأيضاً إن لكل واحد من إجرام الشمس والقمر والكواكب سيراً خاصاً من المغرب إلى المشرق ، وسيراً آخر سريعاً بسبب حركة الفلك الأعظم ، فقوله : ( يغشي الليل النهار ( تنبيه على أن حدوث الليل والنهار إنما هو بحركة الفلك الأعظم المسمى بالعرش ، وقوله : ( والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ( إشارة إلى أن العرش يحرك جيمع الأفلاك والكواكب وأنه سبحانه أودع في جرمه قوّة قاهرة قاسرة باعتبارها قويت على تحريك من دونه على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب .
وأيضاً أن أقسام الأجسام ثلاثة : متحرك إلى الوسط وهما العنصران الثقيلان ، ومتحرك عن الوسط وهما الخفيفان ، ومتحرك على الوسط وهي الأجرام الفلكية ، فيكون الأفلاك والكواكب متحركة بالاستدارة لا إلى المركز ولا عن المركز لا يكون إلا بتسخير الله تعالى ، ولأمر ما أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية تبدل الضياء بالظلام وبالعكس ، وأحوال الشمس والقمر والنجوم ، وأمر بالنظر في ملكوت السماء والغبراء وبالتفكر فيهما قائلاً : ( أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ) [ الأعراف : 185 ] ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ) [ ق : 6 ] ( أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) [ الروم : 8 ] وإن من صنف كتاباً شريفاً مشتملاً على دقائق العلوم العقلية والنقلية(3/253)
" صفحة رقم 254 "
فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان : منهم من اعتقد كونه كذلك على الإجمال ، ومنهم من وقف على دقائقها على سبيل التفصيل والكمال ، ولا ريب أن اعتقادك الفريق الثاني يكون أكمل وأقوى إذا ثبت هذا فنقول : من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث وكل محدث فله محدث حصل له بهذا الطريق إثبات الصانع ، أما الذي ضم إلى هذه المعرفة البحث عن أحوال هذا العالم العلوي والعالم السفلي على التفصيل الممكن لا يزال ينتقل من برهان إلى برهان ومن دليل إلى دليل فإن يقينه يتزايد وبصيرته تتكامل إلى أن يصير علماً مقعولاً مضاهياً لما عليه الموجود ، ولمثل هذه الفوائد والأغراض والغايات أنزل هذا الكتاب الكريم لا لتكثير وجوه الإعراب والاشتقاقات المؤدية إلى الإطناب والإسهاب ، وأما قوله عز من قائل ) ألا له الخلق والأمر ( فالخلق عبارة عن التقدير ويختص بكل ما هو جسم وجسماني لأنه خص بمقدار معين ، فكل ما كان بريئاً عن الحجم والمقدار فهو من عالم الأرواح وعالم الأمر لأنه أوجد بأمر ( كن ) من غير سبق مادّة ، فعالم الخلق في تسخيره وعالم الأمر في تدبيره واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره .
وههنا مسائل ذكرها العلماء : الأولى أنه تعالى متكلم آمر ناهٍ مخبر مستخبر لأن قوله : ( ألا له الخلق والأمر ( دل على أن له الأمر فوجب أن يكون له النهي وسائر أنواع الكلام ضرورة أنه لا قائل بالفرق .
الثانية لا خالق إلا هو لأن قوله : ( ألا له الخلق ( بتقديم الخبر يفيد الحصر .
ولو سلم أنه لا يفيده فلا أقل من إفادة أنه خالق بعض الأشياء ، وحينئذٍ يثبت المطلوب لأن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه والإمكان مفهوم واحد في الممكنات وإنه علة للحاجة إلى موجود معين ، فجميع الممكنات محتاجة إلى ذلك المعين فالذي يكون مؤثراً في وجود شيء واحد يجب أن يكون هو المؤثر في جميع الممكنات ولا يحتاج إلى الممكنات .
الثالثة قالت الأشاعرة : لقوله : ( ألا له الخلق والأمر ( ويتفرع على هذا أنه لا إله إلا الله وإلا كان الثاني مدبراً وخالقاً ، وأنه لا تأثير للكواكب في أحوال هذا العالم ، وأن القول بالطبائع والعقول والنفوس على ما يزعم الفلاسفة وأصحاب الطلسمات باطل ، وأن خالق أعمال العباد هو الله تعالى والقول بأن العلم يوجب العالمية والقدرة توجب القادرية باطل ، كل ذلك لئلا يلزم خالق ومؤثر غير الله تعالى .
الرابعة كلام الله تعالى قديم لأنه ميز بين الخلق وبين الأمر ولو كان أمر الله مخلوقاً لما صح هذا التمييز .
أجاب الجبائي بأنه لا يلزم من إفراد الأمر بالذكر عقيب الخلق أن لا يكون الأمر داخلاً في الخلق كقوله : ( وملائكته ورسله وجبريل وميكال ( ) البقرة : 98 ] وعارض الكعبي بقوله : ( فآمنوا بالله ورسوله النبي الأميّ الذي يؤمن بالله(3/254)
" صفحة رقم 255 "
وكلماته ) [ الأعراف : 158 ] فإنه لو وجب مغايرة المعطوف للمعطوف عليه لزم أن تكون الكلمات غير الله تعالى ، وكل ما كان غير الله تعالى فإنه محدث ومخلوق فكلمات الله مخلوقة .
وقال القاضي : اتفق المفسرون على أنه ليس المراد بهذا الأمر كلام الله تعالى بل المرا به نفاذ إرادته وإظهار قدرته ، وقال قوم : لا يبعد أن يقال الأمر داخل في الخلق ولكنه من حيث كونه أمراً يدل على نوع آخر من الكمال والجلال .
والمعنى له الخلق والإيجاد في المرتبة الأولى .
ثم بعد الإيجاد والتكوين له الأمر والتكليف في المرتبة الثانية .
وقال آخرون : معنى قوله : ( ألا له الخلق ( أنه إن شاء خلق وإن شاء لم يخلق ، فقوله : ( والأمر ( يجب أن يكون معناه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر ، ويلزم منه أن يكون الأمر محدثاً مخلوقاً لأنه لو كان قديماً لم يكن ذ 1 لك الأمر بحسب مشيئته بل كان من لوازم ذاته فلا يصدق أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر هذا خلف .
وأجيب بأنه لو كان الأمر داخلاً تحت الخلق لزم التكرار والأصل عدمه فلا يصار إليه إلا للضرورة ولا ضرورة ههنا .
الخامسة في الآية دلالة على أنه ليس لأحد أن يلزم غيره شيئاً إلا الله ، ففعل الطاعة لا يوجب الثواب ، وفعل المعصية لا يوجب العقاب ، وإيصال الألم لا يوجب العوض .
السادسة دلت الآية على أن القبيح لا يجوز أن يقبح لوجه عائد إليه ، وأن الحسن لا يحسن لأمر عائد إليه وإلا لم يأمر إلا بما حصل فيه وجه الحسن ولم ينه إلا عما حصل فيه وجه القبح ، فلا يكون متمكناً من الأمر والنهي كيف شاء وأراد هذا خلف .
السابعة أطلق الخلق والأمر فيعلم أنه لو أراد خلق ألف عالم بما فيه من العرش والكرسي والكواكب في أقل من لحظة لقدر عليه ، لأن هذه الماهيات ممكنة والحق قادر على كل الممكنات .
الثامنة قال قوم : الخلق صفة من صفات الله تعالى وهو غير المخلوق لأن أهل السنة يقولون : معنى قوله : ( الأمر لله ( أنه صفة له فكذا الخلق صفة قائمة بذاته فلا يكون مخلوقاً ، وأجيب بأن الخلق لو كان غير المخلوق فإما أن يكون قديماً ويلزم من قدمه قدم المخلوق ، وإما أن يكون حادثاً فيفتقر إلى خلق آخر ويتسلسل ، ويمكن أن يقال : الصفة قديمة والتعلق حادث .
التاسعة له الأمر يقتضي أن لا أمر لله .
وقول النبي صلّى الله عليه وآله : ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) لا ينافي ذلك لأن الموجب لأمره في الحقيقة هو أمر الله تعالى ، العاشرة في الآية دلالة على أن الله تعالى أمراً ونهياً على عباده والخلاف مع نفاة التكليف .
قالوا : إن كان التكليف معلوم الوقوع كان واجب الوقوع فكان الأمر به تحصيلاً للحاصل ، وإن كان غي معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع فكان الأمر به أمراً بما يمتنع وقوعه وهو محال .
وأيضاً إنه تعالى إن خلق الداعي إلى فعله كان واجب الوقوع وإلا فلا فائدة في الأمر به .
وأيضاً(3/255)
" صفحة رقم 256 "
الكافر أو الفاسق لا يستفيد بالتكليف ، إلا الضرر المحض لأنه تعالى يعلم أنه لا يؤمن ولا يطيع وخلاف علم الله محال فلا يحصل من الأمر إلا مجرد استحقاق العذاب وهذا لا يليق بالرحيم الحليم .
وأيضاً التكليف إن لم يكن لفائدة في الأمر فهو عبث ، وإن كان لفائدة فلا بد أن تعود إلى المكلف لأنه سبحانه غني فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل نفع أو دفع ضر والله تعالى قادر على تحصيلهما للمكلف من غير واسطة التكليف فكان توسيط التكليف إضراراً محضاً .
والجواب أن أوّل الآية دل على أنه تعالى هو الخالق لكل العبيد ، وإذا كان خالقاً لهم كان مالكاً لهم ، وتصرف المالك في ملك نفسه كيف شاء مستحسن ، ويحسن منه تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقاً لا كما يقول المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحاً أو من كونه موجب عوض أو ثواب .
ولما بين أن له الأمر والنهي والحكم ولتكليف ذكر أنه يستحق الثناء والتقديس فقال : ( تبارك الله رب العالمين ( وللبركة تفسيران : أحدهما الثبات والدوام ولا ريب أنه الواجب لذاته القائم بذاته الدائم الغني بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه .
وثانيهما كثرة الآثام الفاضلة .
ولا شك أن كل الخيرات والكمالات فائضة من جوده وإحسانه بل جميع الممكنات رشحة من بحار فضله وامتنانه .
ثم لما بيّن كمال قدرته وحكمته وأرشد إلى التكليف الموصل إلى سعادة الدارين أتبعه ذكر ما يستعان به على تحصيل المطالب والمآرب الدينية والدنيوية فقال : ( ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ( قال في الكشاف : نصب على الحال أي ذوي تضرع وخفية وكذلك ) خوفاً وطمعاً ( قلت : ويحتمل الانتصاب على المصدر مثل : رجع القهقرى .
والتضرع التذلل وهو إظهار ذل النفس والخفية بالضم أو الكسر ضد العانية .
قال بعض العلماء : الدعاء ههنا بمعنى العبادة لئلا يلزم التكرار وعطف الشيء على نفسه في قوله : ( وادعوه خوفاً وطمعاً ( والأظهر أنه على الأصل .
ومن الناس من أنكر الدعاء قال : لأن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع أو كان مراداً في الأزل أو كان على وفق الحكمة والمصلحة وقع لا محالة وإلا فلا فائدة فيه .
وأيضاً إنه نوع من سوء الأدب وعدم الرضا بالقضاء وقد يطب ما ليس بنافع له .
وفيه من الاشتغال بغير الله وعدم التوكل عليه ما لا يخفى .
والحق أن الدعاء نوع من أنواع العبادة ورفضه يستدعي رفض كثير من السوائل والوسائط والروابط ، ولو لم يكن فيه إلاّ معرفة ذلة العبودية وعزة الربوبية لكفى بذلك فائدة ، ولهذا روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) وآله : ( ما من شيء أكرم على الله سبحانه من الدّعاء ) إلا أنه لا بد فيه من الإخلاص والصون عن الرياء والسمعة ، وإليهما أشار بقوله : ( تضرعاً وخفية ( ونحن قد أطنبنا في تحقيق الدعاء وشرائطه في سورة البقرة في تفسير قوله : ( وإذا سألك عبادي(3/256)
" صفحة رقم 257 "
عني ) [ البقرة : 186 ] ثم ختم الآية بقوله : ( إنه لا يحب المعتدين ( وللمسلمين اتفاق على أنه ليس معنى المحبة عند أطلاقها على الله شهوة النفس وميل الطبع ولكنها عبارة عن أيصاله الثواب والخير إلى العبد ، وهذا مبني على قول الكعبي وأبي الحسين أنه تعالى غير موصوف بالإرادة ، وأن كونه مريداً لأفعال نفسه عبارة عن إيجادها وفعلها ، وكونه مريداً لأفعال غيره هو كونه آمراً بها .
وأما الأشارعة ومعتزلة البصرة القائلون بصفة الإرادة فإنهم فسروا المحبة بإرادة إيصال الثواب .
وقال بعض العلماء : إنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخيرات إلى ذلك الابن وكانت هذه الإرادة أثراً من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها .
غاية ما في الباب أن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة في النفس وذلك في حقه تعالى محال .
إلا أنا نقول : لم لا يجوز أن يقال أن محبة الله صفة أخرى يترتب عليها إيصال الثواب إو إرادة الإيصال ؟ لكنا لا نعرف تلك المحبة ما هي وكيف هي لأن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء .
نظير ذلك أن أهل السنة يثبتون كونه مرئياً ثم يقولون إن تلك الرؤية لا كرؤية الأجسام والألوان .
ويعني بالمعتدين المجاوزين ما أمروا به فيشمل كل من خالف أمر الله ونهيه .
وقال الكلبي وابن جريج : أثنى على زكريا فقال : ( إذ نادى ربه نداء خفياً ) [ مريم : 3 ] وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي ) وعنه صلى الله عليه وآله : ( سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ قوله إنه لا يحب المعتدين ) .
ومن هنا اختلف أرباب الطريقة أن الأولى في العبادات الإخفاء الاقتداء .
وتوسط الشيخ محمد بن علي الحكيم الترمذي فقال : إن كان خائفاً على نفسه من الرياء فالأولى في حقه الإخفاء ، وإن بلغ في الصفا وقوة اليقين إلى حيث صار آمناً من شائبة الرياء فالأولى في حق الإظهار ليحصل فائدة الاقتداء .
قال الشافعي : إظهار التأمين أفضل .
وقال أبو حنيفة : الإخفاء أفضل لأنه إن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله : ( ادعوا ربكم(3/257)
" صفحة رقم 258 "
تضرعاً وخفية ( وإن كان اسماً من أسماء الله تعالى على ما قيل فكذلك لقوله تعالى : ( واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ( فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية ، ثم نهى عن مجامع المفاسد والمضار بقوله : ( ولا تفسدوا في الأرض ( فيدخل فيه خمسة أشياء : المنع من إفساد النفوس بالقتل ، ومن إفساد الأموال بقطع الطريق والسرقة ، وإفساد الأنساب بالزنا واللواط والقذف ، وإفساد العقول بشرب المسكرات ، وإفساد الإديان بالكفر والبدعة ، وذلك أن قوله : ( لا تفسدوا ( منع عن إدخال ماهية الفساد في الوجود والمنع من الماهية يقتضي المنع من جميع أنواعه .
ومعنى : ( بعد أصلاحها ( بعد أن أصلح خلق الأرض على الوجه المطابق لمنافع الخلق الموافق لمصالح المكلفين ، أو المراد إصلاح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتفصيل الشرائع ، فإن الإقدام على تكذيب الرسل وإنكار الكتب والتمرد عن قبول الشرائع يقتضي وقوع الهرج والمرج وحدوث الفتن في الأرض .
وفي الآية دلالة على أن الأصل في المضار الحرمة فإن وجدنا نصاً خاصاً يدل على جواز الإقدام على بعض المضار قضينا به تقديماً للخاص على العام .
وفيها أيضاً دلاللة على أن كل عقد وقع التراضي به بين الخصمين فإنه منعقد صحيح لأن رفعه بعد ثبوته يكون إفساداً بعد الإصلاح ، فإن وجنا نصاً يدل على عدم صحة بعض تلك العقود قضينا فيه بالبطلان عملاً بالأخص .
فجميع أحكام الله تعالى داخلة تحت عموم قوله : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) [ الأعراف : 32 ] بأنها كانت تدل على أن الأصل في المنافع واللذات الإباحة والحل ، فكل واحدة من الآيتين مطابقة ومؤكدة للأخرى ، ثم لما بين أن الدعاء لا بد أن يكون مقروناً بالتضرع والإخفاء وبعدم المنافي وهو الإفساد بالوجوه الخمسة ، ذكر أن فائدة الدعاء والباعث عليه أحد الأمرين الخوف من العقاب والطمع في الثواب .
واعترض عليه بأن أهل السنة يقولون : التكاليف إنما وردت بمقتضى الإلهية والعبودية أي كونه إلهاً لنا ، وكوننا عبيداً له اقتضى أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء ولا يعتبر فيه كونه في نفسه صلاحاً وحسناً .
والمعتزلة يقولون : إنها وردت لأنها في نفسها مصالح .
فعلى القولين من أتى بها للخوف من العقاب والطمع في الثواب لم يأت بها لوجه وجوبها فوجب أن لا يصح .
وأجيب بأن المراد من الآية ادعوه مع الخوف من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها أي كونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في جميع أعمالكم ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم قد أديتم حق ربكم كقوله : ( والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة ) [ المؤمنون : 6 ] .
والجواب الصحيح عندي أن غاية التكليف من الآمر غير غايته من المأمور إذاً فهب أن(3/258)
" صفحة رقم 259 "
الغاية الأولى هي المصلحة أو الإلهية والعبودية فلم لا يجوز أن تكون الغاية الثانية الخلاص من العذاب والوصول إلى الثواب ؟ ثم ختم الآية بقوله : ( إن رحمة الله قريب من المحسنين ( ظاهره أن يقال قريبة .
وذكروا في حذف علامة التأنيث وجوهاً : فقيل : لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي .
وقال الزجاج : لأن الرحمة غير حقيقي .
وقال الزجاج : لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد ، أو لأن المراد بالرحمة الترحم أو الرحم .
وقيل : إنه صفة موصوف محذوف أي شيء قريب ، أو شبه بفعيل الذي بمعنى مفعول كما شبه ذاك به فقيل : قتلاء وأسراء ، وقيل : لأنه بزنة المصدر كالنقيض صوت العقبان أو الدجاجة والضغيب صوت الأرنب .
وقيل : المراد ذات مكان قريب كلابن وتامرن ، وروى الواحدي بإسناده عن ابن السكيت تقول العرب : هو قريب مني وهما قريب مني وهي قريب لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني. قال بعض المفسرين : معنى هذا القرب أن الإنسان يزداد بعداً عن الماضي وقرباً من المستقبل أي الآخرة التي هي مقام رحمة الله .
ويمكن أن يقال : المراد به قرب الحصول سواء كان في الدنيا أو في الآخرة كقوله : ( ألا إن نصر الله قريب ) [ البقرة : 214 ] قالت المعتزلة : إن ماهية الرحمة لما كانت حصة المحسنين وجب أن لا يحصل للكافر والفاسق منها شي ، والغرض أن صاحب الكبيرة لا يكون له نصيب من العفو .
وأجيب بأن المحسن من صدر عنه الإحسان ولو من بعض الوجوه ، فكل من آمن بالله تعالى وأقر بالتوحيد والنبوة فقد أحسن والدليل عليه الإجماع .
على أن الصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر فإنه يسمى مؤمناً محسناً ، على أن قوله ماهية الرحمة نصيب المحسنين ممنوع لأن الكافر أيضاً في رحمة الله ونعمته في الدنيا بدليل قوله : ( ومن كفر فأمتعه ) [ البقرة : 126 ] ثم إنه سبحانه لما ذكر دلائل الإلهية وكمال العلم والقدرة من العالم العلوي أتبعه ذكر الدلائل من أحوال هذا العالم وهي الآثار العلوية من المعادن والنبات والحيوان ومن جملتها أحوال الرياح والسحب والأمطار .
وأيضاً لما أقام الدلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العليم الحكيم الرحيم أقام الدلالة في هذه الآية على صحة القول بالحشر والنشر ليتم بالآيتين تقرير المبدأ والمعاد فقال : ( وهو الذي يرسل الرياح ( الريح هواء متحرك ، وتحركه ليس لذاته ولا للوازم ذاته وإلا دام بدوام الذات ، فهو بتحريك الفاعل المختار .
قالت الحكماء : من أسباب الريح أن يرتفع من الأرض أجزاء أرضية لطيفة تسخنت تسخيناً شديداً ، فبسبب تلك السخونة ترتفع وتتصاعد ، فإذا وصلت إلى قريب من الفلك فإن الهواء الملتصق بمقعر الفلك يمنع هذه الأدخنة من الصعود بل يردها عن سمت حركتها لتحرك تلك الطبقة على(3/259)
" صفحة رقم 260 "
الاستدارة تشيعاً للفلك ، فحينئذٍ ترجع الأدخنة وتتفرق في الجوانب وبسبب تفرقها تحصل الرياح .
وكلما كانت تلك الأدخنة أكثر وكان صعودها أقوى كان رجوعها أيضاً أشد فكانت الرياح أقوى ، وزيف بأن صعود تلك الأجزاء الأرضية إنما يكون لأجل شدة تسخينها بالعرض ، فإذا تصاعدت ووصلت إلى الطبقة الباردة بردت فامتنع صعودها إلى الطبقة العيا المتحركة بحركة الفلك .
سلمنا أ ، ها تصعد إلى الطبقة المتحركة بالاستدارة لكن رجوعها يجب أنيكون على الاستقامة كما هو مقتضى طبيعة الأرض لكنها تتحرك يمنة ويسرة .
وأيضاً إن حركة تلك الأجزاء لا تكون قاهرة فإن الرياح إذا أصعدت الغبار الكثير ثم عاد ذلك الغبار ونزل على السطوح لم يسح أحد بنزولها ، ونحن نرى هذه الرياح تقلع الأشجار وتهدم الجبال وتموج البحار ، وأيضاً لو كان الأمر على ما قالوا لكانت الرياح كلما كانت أشد وجب أن يكون حصول الأجزاء الغبارية الأرضية أكثر وليس كذلك ، لأنه قد توجد الرياح العاصفة في وجه البحر وليس فيها شيء من الغبار .
ويمكن أن يجاب بأن الحكم بامتناع الصعود استبعاد محض وحديث الرجوع على الاستقامة مبني على أن الريح هي تلك الأجزاء الراجعة فقط وليس كذلك ، فإن الراجع إذا خرق الهواء حدث فيما يجاوره من الهواء تحرك واضطراب وتموج شبه ما يحدث في الماء إذا ألقي فيه حجر ، وكذا الكلام في الوجهين الباقيين .
وقال المنجمون : قد يحدث بسبب وصول كوكب معين إلى موضع معين من البروج ريح عاصفة ، وزيف بأنه لو كان كذلك لزم تحرك كل الهواء .
والجواب أن وصول الكوكب إلى الموضع الفلاني إنمايوجب تحرك الهواء بتسخين أو تلطيف أو تكثيف يحدث في بعض المواد المستعدة لذلك فيطلب ذلك القابل مكاناً أكثر أو أقل مما كان عليه ، فيلزم من ذلك تحرك الهواء المجاور له لاستحالة التداخل والخلاء لا يتدافع إلى أن يتحرك جمع كرة الهواء بل يتموج بعض أجزاء الهواء ثم يستقر كل في موضعه ، ويختلف مقدار ذلك بحسب المؤثرة والمتأثر والكل يستند إلىتدبير الله سبحانه وتقديره ، وإنما قال في هذه السور ) يرسل الرياح ( بلفظ المستقبل وكذا في ( الروم ) لأن ما قبله ههنا ذكر الخوف والطمع وأنهما يناسبان المستقبل ، وأما في ( الروم ) فليناسب ما قبل ) ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ) [ الروم : 46 ] وقال في الفرقان : ( أرسل الرياح ) [ الفرقان : 48 ] بلفظ الماضي ليناسب ما قبله : ( كيف مد الظل ) [ الفرقان : 45 ] وما بعده ) وهو الذي جعل ( ) الفرقان : 62 ] وكذا في ( فاطر ) مبني على أو السورة ) فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة ) [ فاطر : 1 ] وهما بمعنى الماضي والله تعالى أعلم .
أما قوله : ( نشراً ( بنون مفتوحة وشين ساكنة فإنه مصدر نشر .
وانتصابه إما على الحال بمعنى منتشرات وإما لأن أرسل ونشر(3/260)
" صفحة رقم 261 "
متقاربان كأنه قيل : نشرها نشراً .
ومن قرأ ) نشراً ( بضمتين فلأنه جمع نشور كرسول ورسل ، وقد تخفف كرسل ، ومن قرأ ) بشراً ( بضم الباء الموحدة وسكون الشين فلأنه نمخفف بشر جمع بشير .
ومعنى : ( بين يدي رحمته ( أمام نعمته وهي الغيث الذي هو من أجلِّ النعم وأحسنها وهذا بحسب الأغلب ، فإن المطر قلما لا يتقدمه رياح يسلطها الله تعالى على السحاب والعرب تستعمل اليدين بدل قدام وأمام مجازاً لأن اليدين من الحيوان متقدمان على الرجلين .
) حتى إذا أقلت ( حملت ورفعت واشتقاقه من القلة لأن الرافع الذي يقدر على حمل الثقيل يزعم أن ما يربفعه قليل ) سحاباً ( جمع سحابة ولهذا قال : ( ثقالاً ( على الجمع جمبع ثقيلة والضمير في ) سقناه ( يعود إلى السحاب على لفظه ، وضمير المتكلم في ) سقناه ( على أًله .
وأما الذي في قوله : ( وهو الذي ( فعلى طريقة الالتفات وإلا فالظاهر أن يقال : نحن أرسلنا .
واعلم أن السحاب المستمطر للمياه العظيمة إنما يبقى معلقاً في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أنيحرك الرياح تحريكاً شديداً .
ولتلك الحركات فوائد منها : أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى بعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر ثم تصير متفرقة .
ومنها أن تتحرك الرياح يمنة ويسرة فتمنع الأجزاء المائية الرشية عن النزول فيبقى معلقاً في الهواء .
ومنها أن ينساق السحاب إلى موضع علم الله احتياجهم إلى نزلو الأمطار ، ومن الرياح مقوية للزروع والأشجار ومكملة لما فيها من النشوء ولانماء وهي اللواقح .
ومنها مبطلة لها كما في الخريف .
ومنها طيبة لذيذة وموافقة للأبدان .
ومنها مهلكة للحر الشديد كالسموم أو البرد الشديد .
ومنها مشرقية ومغربية وشمالية وجنوبية ، وبالحقيقة تهب الرياح من كل جانب ولكنها ضبطت كذلك ، وقد يصعد الريح من قعر الأرض فقد يشاهد غليان شديد في البحر بسبب تولد الرياح في قعره ثم لا يزال يتزايد ذلك الغليان إلى أن ينفصل الريح إلى ما فوق البحر ، وحينئذٍ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر ، وعن ابن عمر : الرياح ثمان : أربع منها عذاب وهو العاصف والقاصف والصرصر والعقيم ، وأربع منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات ، وعن النبي صلى الله عليه وآله : ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والجنوب من ريح الجنة ) وعن كعب : لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض ، وعن السدي أنه تعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب ، ثمإنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فينزل الماء على السحاب ، ثميطر السحاب بعد ذلك برحمته وهي المطر .
ومعنى(3/261)
" صفحة رقم 262 "
) لبلد ميت ( أي لأجل بلد ميت ليس فيه نبات ولا زرع ، والبلد كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خالٍ أو مسكون .
) فأنزلنا به الماء ( قال الزجاج وابن الأنباري : أي بالبلد .
وجائز أن يراد بالسحاب أو بالسوق فالباء للسببية .
) فأخرجنا به ( قال الزجاج : أي بالبلد .
) من كل الثمرات ( ويجوز أن يراد أي بالماء .
قال جمهور الحكماء : إنه تعالى أودع في الماء قوّة وطبيعة توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج الماء بالتراب .
وقال أكثر المتكلمين : إن الثمار ليست متولدة من الماء وإنما أجرى الله تعالى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب ) كذلك ( مثل ذلك الأخراج وهو إخراج الثمرات .
) نخرج الموتى ( فالتشبيه إنما وقع في أصل الإحياء أي كما أحيا هذا البلد وأنبت فيه الشجرة وجعل فيه الثمر كذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا تراباً لأن من قدر على إحداث الجسم وخلق الرطوبة والطعم فيه كان قادراً على إحداث الحاية في بدن الميت .
وقال كثر من المفسرين : المراد أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الماء كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال مطر على الأجساد الرميمة .
يروى أنه يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطر كالمني أربعين يوماً فينبتون عند ذلك أحياء .
وعن مجاهد : تمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر ، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها .
قال العلماء : إن هؤلاء المفسرين ذهبوا إلى هذا بناء على النقل وعلى إجراء العادة وإلا فإنه تعالى قادر على خلق الحياة في الجسم ابتداء من غير واسطة المطر كما أنه يجمع بقدرته الأجزاء المتفرقة والمتمزقة غاية التفرق والتمزق ولهذا ختم الآية بقوله : ( لعلكم تذكرون ( والمعنى أنكم شاهدتم أن الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف والخريف بالأزهار والثمار والأشجار ثم صارت وقت الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة ، ثم أحياها مرة أخرى ، فالقادر على إحيائها قادر على إحياء الأجساد بعد موتها ، ثم ضرب الله سبحانه مثلاً للمؤمن والكافر وشبه القرآن بالمطر ، وذلك أن الأرض الحرة إذا نزل بها المطر حصل فيها أنواع الأزهار والثمار والأرض السبخة بعد نزول المطر لا يخرج منها إلا النزر القليل من النبات ، عليها أنواع المعارف والأخلاق الفاضلة ، والنفس الخبيثة لا ترجع منذلك إلا بخفي حنين .
وقيل : ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها ، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة .
فمن يطلب هذا النفع اليسير فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لابد منها ومن تحملها في أداء الطاعات كان(3/262)
" صفحة رقم 263 "
أولى .
وفي الآية دلالة على أن السعيد لا ينقلب شقياً وبالعكس ، لأنها دلت على أن الأرواح قسمان : منها ما تكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، ومنها ما تكون بالضد لا تقبل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة كالأرض السبخة التي لا يتولد فيها الأشجار والأنهار والثمار .
ومما يقوّي هذا الكلام أن النفوس نراها مختلفة في الصفات ؛ فمنها مجبولة على حب الإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانيات كقوله تعالى : ( ترى أعينهم تفيض من الدمع ) [ المائدة : 83 ] ( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ) [ البقرة : 273 ] ومنها قاسية قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة ، ومنها مائلة إلى الشهوة دون الغضب ، ومنها على العكس ، ومنها راغبة في المال دون الجاه ، ومنها بالخلاف ومن الراغبين في المال من يرغب في العقار دون الأثمان والنقود ، ومنهم من هو بالعكس .
ومما يؤكد هذه المعاني قوله سبحانه وتعالى : ( بإذن ربه ( أي بتيسيره وهو في موضع الحال كأنه قيل : يخر نباته حسناً كاملاً لوقوعه في طباق ) نكداً ( والنكد الذي لا خير فيه .
وتقدير الآية ونبات البلد الخبيث لا يخرج ، أو البلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكداً فحذف المضاف الذي هو النبات وأقيم المضاف إليه وهو الضمير الراجع إلى البلد مقامه فانقلب مرفوعاً مستكناً بعد أن كان مجروراً بارزاً .
من قرأ ) نكداً ( بفتح الكاف فعلى المصدر أي ذا نكد ) كذلك ( مثل ذلك التصريف نردّد الآيات ونكررها ) لقوم يشكرون ( نعمة الله لأن فائدة التصريف تعود عليهم وإنما ختم الآية بالحث على الشكر لأن الذي سبق ذكره هو أن الله تعالى يرسل الرياح النافعة فيجعلها سبباً للمطر الذي هو سبب الملاذ والطيبات فهذا يدل من أحد الوجهين على وجود الصانع وقدرته ، ومن الوجه الثاني على عظيم نعمته وقدرته فوجب من هذا الوجه مقابتلها بالشكر والله أعلم .
التأويل : عرّف ذاته للخلق بصفات الهوية والألوهية والقدرية والخالقية والمدبرية والحكيمية والاستوائية فقال : ( إن ربكم الله ( الآية وإنما خص ستة أيام لأن أنواع المخلوقات ستة : الأوّل الأرواح الإنسانية ( ب ) الملكوتيات منها الملائكة والجن والشياطين وملكوت السموات والأرض ومنها العقل المفردة والمركبة .
( ج ) النفوس السماوية الأرضية .
( د ) الأجرام البسيطة العلوية كالعرش والكرسي والسموات والجنة والنار .
( ه ) الأجسام البسيطة السفلية وهي العناصر ، والأجسام الكثيفة المركبة من العناصر ، فملا خلق الأنواع الستة استوى على العرش بعد الفراغ من خلقها استواء التصرف في العالم وما فيه .
وخص العرش بالاستواء لأنه مبدأ الأجسام اللطيفة القبلة للفسض الرحماني .
والاستواء كالعلم صفة من صفاته لا يشبه استواء المخلوقين كما أن علمه لا يشبه علم المخلوقين .
ومن أسرار(3/263)
" صفحة رقم 264 "
الخلافة الروح تتصرف في النطفة أيام الحمل فتجعلها عالماً صغيراً ، فبدنه كالأرض .
ورأسه كالسماء والقلب كالعرش ، والسر كالكرسي .
والقلب يقسم فيض الروح إلى القالب كما أن العرش يقسم فيض الإله إلى سائر المخلوقات ) يغشى ( أي يستولي ليل ظلمات النفس وصفاتها على نهار أنوار القلب وبالعكس .
) ألا له الخلق ( بواسطة ) الأمر ( بلا واسطة ) ادعوا ربكم تضرعاً ( بالجوارح ) وخفية ( بالقلوب .
أو تضرعاً بأداء حق العبودية وخفية بمطالب حق الرببوبية ) إنه لا يحب المعتدين ( الذي يطلبون منه سواه ) ولا تفسدوا ( في أرض القلوب بعد أن أصلحها الله برفع الوسائط .
) وادعوه خوفاً ( من الانقطاع ) وطمعاً ( في الاصطناع ، أو خوفاً من الاثنينية وطمعاً في الوحدة ، أو خوفاً من الانفصال وطمعاً في الوصال .
) إن رحمة الله قريب من المحسنين ( الذين لا يرون سواه يرسل رياح العنانية فينشر سحاب الهداية سحاباً ثقالاً بأمطار المحبة ، سقناه لكل قلب ميت فأنزلنا به ماء المحبة فأخرجنا به ثمرات المكاشفات والمشاهدات ، كذلك نخرج موت القلوب من قبور الصدور ولعلكم تذكرون أيام حياتكم في عالم الأرواح إذ كنتم في رياض القدس وحياض الأنس .
والبلد الطيب الحي يتخلق بأخلاقه الحميدة ) كذلك نصرف الآيات ( أي النفوس وصفاتها إلى أوصاف القلب وأخلاقه .
( الأعراف : ( 59 - 72 ) لقد أرسلنا نوحا . . . .
" لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء(3/264)
" صفحة رقم 265 "
سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين "
( القراآت )
إله غيره ( بالجر على الوصف حيث كان : يزيد وعلي الباقون بالرفع حملاً على محل ) من إله ( ) إني أخاف ( بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير ) أبلغكم ( بالتخفيف حيث كان : أبو عمرو .
والباقون : بالتشديد .
عباس : بالاختلاس ) بصطة ( بالصاد : أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل وعاصم وعلي وسهل وشجاع وابن الأخزم عن ابن ذكوان الحلواني عن قالون مخيراً .
الوقوف : ( غيره ( ط ) عظيم ( ه ) مبين ( ه ) العالمين ( ه ) لا يعلمون ( ه ) ترحمون ( ه ) بآياتنا ( ط ) عمين ( ه ) هوداً ( ط ) غيره ( ط ) تتقون ( ه ) الكاذبين ( ه ) العالمين ( ه ) أمين ( ه ) لينذركم ( ط لتناهى الاستفهام ) بسطة ( ج تنبيهاً على الإنعام العام بعد ذكر إنعام خصا مع اتفاق الجملتين ) تفلحون ( ه ) آباؤنا ( ج للعدول مع فاء التعقيب ) الصادقين ( ه ) وغضب ( ط ) من سلطان ( ج لانتهاء الاستفهام إلى أمر التهديد ) المنتظرين ( ه ) مؤمنين ( ه .
التفسير : لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل قاهرة وبينات باهرة شرع في قصص الأنبياء وفي ذلك فوائد منها ، التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول الدلائل عادة معتادة فيكون فيه تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
ومنها بيان سوء عاقبة المستكبرين وحسن عقبى المطيعين وفي ذلك تقوية قلوب المحقين وكسر قلوب المبطلين .
ومنها التنبيه على أن الله سبحانه لا يهمل المبطلين وإن كان يمهلهم .
ومنها العظة والاعتبار ) لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ) [ يوسف : 11 ] ومنها الدلالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من حيث إنه إخبار بالغيب لأنه أمي لم يقرأ الكتب فيكون قد عرف ذلك بالوحي لا محالة .
فمن القصص أولاها قصة آدم وقد مرت في أوّل السورة .
الثانية قصة نوح وهو نوح بن لمك بن مثوشلخ بن أخنوخ ، وأخنوخ اسم إدريس .
قيل : كان اسمه يشكر فسمي نوحاً لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه فأهلكوا فندم ، أو حين راجع ربه في شأن ابنه ، أو حين مر بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح فعوتب على ذلك .
قال الله له : أعبتني إذ خلقته أم عبت الكلب ؟ وهذه الوجوه متكلفة فإن الإعلام لا تفيد صفة في السمسمى .
والصحيح أنه اسم أعجمي .
قال ابن عباس : معنى أرسلنا بعثنا .
وقال آخرون : معناه أنه تعالى حمله رسالة(3/265)
" صفحة رقم 266 "
يؤدّيها ، فالرسالة على هذا التقدير تكون متضمنة للبعث كالتابع لا أنه أصل .
قال في التفسير الكبير : وهذا البحث مبني على مسألة أصولية هي أن الرسول أرسل إلى قوم ليعرّفهم أحكاماً لا سبيل لهم إلى معرفتها بعقولهم ، أو الغرض من بعثته مجرد تأكيد ما في العقول .
وهذا الاختلاف بتفاريع المعتزلة أليق ، أمرهم نوح بعبادة الله ثم حكم بأنه لا إله إلا الله ثم حذرهم عذاب يوم عظيم هو القيامة أو الطوفان ، ولم يذكر دليلاً على هذه الدعاوى الثلاث لأن قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد ظهور المعجزة حجة ، أو لعله قد ذكر الحجج وما حكاها الله تعالى لأنه قد علم من القرآن ذم التقليد في مواضع كثيرة فيعلم أن نبي الله لا يأمر قومه بالتقليد المحض ، وأيضاً قد مر دلائل التوحيد والنبوّة وصحة القرآن من أول سورة البقرة إلى ههنا غير مرة ، فوقع التعويل على ذلك هذا مع أن الحكم الثاني كالعلة للأوّل لأنه إذا لم يكن لهم إله غير كان كل ما حصل عندهم من وجوه النفع والإحسان والبر واللطف حاصلاً منه ، ونهاية الإنعام توجب غاية التعظيم ومن عنا قال بعض العلماء : لا يحسن منا عبادة الله تعالى قبل العلم بأنه واحد لأنا إذا جوّزنا التعدد لم يتعين المنع فتقع العابدة ضائعة ، والإله معناه المستحق للعبادة وإلا فهو في الأزل غير معبود .
ومعنى الخوف في الآية قال بعضهم : الجزم واليقين فإنه كان جازماً بنزول العذاب بهم عاجلاً وآجلاً .
وقال آخرون : الشك لأنه كان يجوّز إيمانهم ومع هذا التجويز كيف يجزم بالعذاب ، أو لعل السمع لم يرد بعد فلهذا كان متوقفاً ، أو لعله وصف العذاب بالعظم ولكنه جر على الجوار .
ثم إنه تردد في وصف العذاب بالعظم لا في نفس العذاب .
وقيل : المراد من الخوف التحذير .
وجملة قوله : ( إني أخاف ( بيان للداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون الأصنام ) فقال الملأ من قومه ( أي الأشراف وصدور المجالس الذين هم بعض قومه في جواب نوح ) إنا لنراك في ضلال ( في ذهاب عن طريق الحق .
والصواب مبين بين والرؤية رؤية القلب بمعنى الإعتقاد والظن دون المشاهدة والبديهة .
نسبوه إلى الصلال فيما ادعاه من التكليف والتوحيد والنبوّة والمعاد ) قال يا قوم ليس بي ضلالة ( لم يقل ضلال ليكون أبلغ في عموم السل كأنه قال : ليس بي نوع من أنواع الضلال ، ثم لما نفى عن نفسه العيب الذي نسب إليه وصف نفسه بأشرف الصفات وأجلها فاستدرك قائلا : ( ولكني رسول من رب العالمين ( وهذا الاستدراك يسمى في علم البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم .
وفي ذلك بيان فرط جهالتهم وعتوّهم حيث وصفوا من هو بهذه المنزلة من الهدى بالضلال الظاهر الذي لا ضلالة بعده ، وفيه أن مدح الإنسان نفسه إذا كان في موضع الضرورة جائزة .
ثم ذكر ما هو المقصود من البعثة وهو أمران : الأول تبليغ الرسالة ، والثاني تقرير النصيحة فقال ) أبلغكم ( الآية .
والجملة استئناف(3/266)
" صفحة رقم 267 "
بيان لكونه رسولاً من رب العالمين ، أو صفة لرسول .
وإنما جاز أن تكون صفة ولفظ الرسول غائب نظراً إلى المعنى كقوله : أنا الذي سمتن أمي حيدره ) رسالات ربي ( ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة ، أو ما أوحي إليّ في المعاني المختلفة في الأوامر والنواهي .
وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا .
ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جده إدريس وهي ثلاثون صحيفة ، ومن صحف شيث وهو خمسون صحيفة ) وأنصح لكم ( قال الفراء : العرب لا تكاد تقول نصحتك وإن كان جائزاً ولكن تقول نصحت لك .
قال في الكشاف : وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة .
وحقيقة النصح الإرشاد إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكر .
ومعنى الآية : وأبلغكم تكاليف الله ثم أرشدكم إلى الأصلح الأصوب وأدعوكم إلى ما دعاني الله تعالى وأحب لكم ما أحب لنفسي ) وأعلم من الله ما لا تعلمون ( أي أعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان ، وذلك أنهم لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلبهم أو عأعلم أن الله يعاقبكم في الآخرة عقاباً ، أو أعلم من توحيد الله من صفات جلاله ما لا تعلمون ، ويكون المقصود حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم .
) أو عجبتم ( الهمزة للأإنكار ، والمعطوف محذوف والتقدير : أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر من ربكم .
قال الحسن : يعني الوحي الذي جاءهم به .
وقال آخرون : الذكر المعجز كتاباً أو غير كتاب .
وقيل : هو الموعظة ) على رجل ( أي على لسانه قاله ابن قتيبة ونظيره ) آتنا ما وعدتنا على رسلك ) [ آل عمران : 194 ] وقال الفراء ( على ) معنى ( مع ) تقول : جاءنا الخبر على وهك ومع وجهك كلاهما جائز .
وقيل : أي منزل على رجل : ومعنى ) منكم ( من بني نوعكم كأنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه لاعتقادهم أن المقصود من الإرسال التكليف ، وأن التكليف لا منفعة فيه للمعبود لتعاليةن ولا للعابد لتضرره في الحال ، وأما في المآل فالله تعالى قادر على تحصيلة بدون واسطة التكليف .
وأيضاً إن العقل كافٍ في معرفة الحسن والقبيح ، وما لا يعلم حسنه ولا قبحه فإن كان المكلف مضطراً إليه فعل لأأنه تعالى لا يكلف ما لا يطاق ، وإن لم يكن مضطراً إليه ترك حذراً عن الخطر وبتقدير أنه لا بد من الرسول فإن إرسال الملائكة أولى لشدة بطشهم ووفور عصمتهم وطهارتهم واستغنائهم عن الأكل والشرب والنكاح ، وبتقدير جواز كون النبي من البشر فلعلهم اتعقدوا أن من كان فقيراً خاملاً لا يصلح للنبوّة فأنكر نوح عليه السلام كل هذه الأشياء لأنه تعالى خالق فله بحكم الإلهية أن يأمر عباده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها ، ولا يجوز أن يخاطبهم بتلك التكاليف من غير واسطة لأن ذلك ينتهي إلى حد(3/267)
" صفحة رقم 268 "
الإلجاء المنافي للتكليف ، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول ملكاً لأن الجنس إلى الجنس أسكن وقد مر في أوّل ( الأنعام ) .
ثم بين ما لأجله يبعث الرسول فقال ) لينذركم ( الآية .
وإنه ترتيب أنيق لأن المقصود من البعثة الإنذار ، ومن الإنذار التقوى ، ومن التقوى الفوز برحمة الله .
قال الجبائي والكعبي : في الآية دلالة على أنه تعالى لم يرد من المبعوث إليهم إلا التقوى والفوز بالجنة دون الكفر والعذاب ، وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً ) فكذبوه ( في ادعاء النبوّة وتبليغ التكاليف وأصروا قال بعض العلماء : ما في حق العقلاء من التكذيب فبغير الباء نحو كذبوا رسلي وكذبوه ، وما في حق غيرهم فبالباء نحو كذبوا بآياتنا .
والتحقيق أن المراد كذبوا رينا برد آياتنا ) فأنجيناه والذين ( استقروا ) معه في الفلك ( وأنجيناهم في السفينة من الطوفان .
قيل : كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة .
وقيل : كانوا تسعة وهم بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به .
وإنما قال في سورة يونس ) فنجيناه ومن معه في الفلك ) [ الآية : 73 ] لأن التشديد للتكثير ولفظة من أدل على العموم ولهذا يقع على الواح دوالتثنية والجمع والذكر والمؤنث بخلاف الذين ) إنهم كانوا قوماً عمين ( قال ابن عباس : عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوّة والمعاد .
وقال أهل اللغة : يقال رجل عمٍ في البصيرة وأعمى في البصر .
فالعمى يدل على عمّى ثابت والعامي على عمّى حادث .
القصة الثالثة قصة هود وذلك قوله سبحانه ) وإلى عاد أخاهم هوداً ( والتقدير لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً .
واتفقوا على أن هوداً ما كان أخاهم في الدين .
ثم قال الزجاج : معناه أنه كان من آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة والجن .
وقيل : أراد واحداً منهم قاله الكلبي ، وهو من قولك يا أخا العرب لواحد منهم ، وقيل : خص واحداً منهم بالإرسال إليهم ليكونوا أعرف بحاله في صدقه وأمانته .
وقيل : معناه صاحبهم .
والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أخاكم أذن وإنما يقيم من أذن ) يريد صاحبهم .
ونسبه هود بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح ) وهوداً ( عطف بيان لأخاهم .
وأما عاد فهم كانوا باليمين بالأحقاف .
قال ابن إسحق : والأحقاف الرمل الذي بين عمان إلى حضرموت .
واعلم أن ألفاظ هذه القصة بعضها يوافق الألفاظ المذكورة في قصة نوح وبعضها يخالفها فلنبين أسرارها فمنها قوله هناك ) فقال يا قوم اعبدوا الله ( وههنا ) قال يا قوم : والفرق أن نوحاً عليه السلام كان واظباً على دعوتهم وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة ، وأما هود فما كان جدّه إلى هذا الحد فلا جرم جاء بالتعقيب في قصة نوح دون قصة هود .
ويمكن أن يقال : لما أضمر ) أرسلنا ( أضمر الفاء لأن الداعي إلى الفاء ) أرسلنا ( وفي الكشاف أن هذا وارد على سبيل الاستئناف .
ومنها قوله : ( ما لكم من إله(3/268)
" صفحة رقم 269 "
غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ( وفي قصة هود ) ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ( لأن واقعة هود كانت مسبوقة بواقعة نوح فوقع الاقتصار على ذلك أي لعلكم تحذرون مثل ذلك العذاب العظيم الذي اشتهر خبره في الدنيا .
ومنها ) قال الملأ من قومه ( وفي قصة هود ) قال الملأ الذين كفروا من قومه ( إما أن هذا وصف وارد للذم لا غير ، وإما أنه لم يكن في أشراف قوم نوح من يؤمن وكان في أشراف قوم هود من آمن ه منهم مرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه فأريد التفرقة بالوصف .
ومنها أن قوم نوح ) قالوا إنا لنراك في ضلال مبين ( وقوم هود ) قالوا إنا لنراك في سفاهة ( أي متمكناً منها تمكن المظروف من الظرف .
وذلك أن نوحاً كان يخوّفهم بالطوفان العام وكان يشتغل بإعداد السفينة مدّة طويلة فوصفوه بضعف الرأي والبعد عن السداد .
وأما هو فما ذكر شيئاً إلا أنه زيف معتقدهم في عبادة الأصنام وطعن فيها فقابلوه بمثله ونسبوه إلى السفاهة وخفة العقل حيث فارق دين قومه .
ثم قالوا ) وإنا لنظنك من الكاذبين ( في ادعاء الرسالة .
قي : الظن بمعنى الجزم واليقين كقوله ) الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) [ البقرة : 46 ] قال الحسن والزجاج : كانوا شاكين فيعلم أن الشك والتجويز في أصول الدين يوجب الكفر .
ومنها قول نوح ) وأنصح لكم ( وقال هود ) وأنا لكم ناصح ( وذلك لأنه كان من عادة نوح عليه السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة ، وصيغة الفعل دلت على التجدد المستمر ولهذا ) قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً ) [ نوح : 5 ] إلى آخر الآيات .
وأما هود فكان ثابتاً على النصح غير مجدد إياه لحظة فلحظة كما كان يفعل نوح .
ثم إن نوحاً عليه السلام قال ) وأعلم من الله ما لا تعلمون ( لأنه كان يعلم من أسرار الله تعالى ما لم يصل إليه هود فلا جرم أمسك هود لسانه واقتصر على وصف نفسه بكونه أميناً ثقة أي عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة فليس من حقي أن آتي بالكذب والغش .
أو المراد تقرير الرسالة فإنها تدور على الأمنة أي أنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه ، أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه .
وفي هذين الجوابين عن مثل ذينك الشخصين مع جلالة قدرهما دليل على أن الحكيم يجب أن لا يقابل السفهاء إلا بالكلام المبني على الحلم والإضاء .
ومنها أن هوداً اقتصر على قوله ) لينذركم ( لما مر في قصة نوح أن فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة فلم يكن حاجة إلى الإعادة ولكنه ضم إلى ذلك شيئاً آخر يختص بهم فقال ) وذاكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ( أي خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكاً قد استخلفكم فيها بعدهم وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأملاكهم وما يتصل بها من المنافع ، ( وإذا ) مفعول به لا ظرف في اذكروا وقت جعلكم خلفاء ) وزادكم في الخلق بسطة ( فالخلق التقدير وقلما يطلق إلا(3/269)
" صفحة رقم 270 "
على الشيء الذي له مقدار وحجمية .
والمراد حصول الزيادة في أجسامهم زيادة خارقة للعادة وإلا لم تذكر في معرض الامتنان .
قال الكلبي : كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعاً .
وقال آخرون : تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يد الإنسان إذا رفعها كانوا يفضلون على أهل زمانهم بهذا القدر .
ومنهم من حمل اللفظ على الزيادة في القوة ، ومنهم من قال : الخلق الخليفة وبسطتهم فيهم كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدّة والجلادة متناصرين متوادّين ) فاذكروا آلاء الله ( في استخلافكم وبسطة أجرامكم وفيما سواهما من عطاياه وآلاء الله نعمه واحدها إلى ونحوه أني وآناء كعنب وأعناب .
قال الجوهري : واحدها إني بالفتح وقد يكسر ويكتب بالياء .
استدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرية بالآية قالوا : إنه تعالى رتب حصول الفلاح على مجرد التذكر .
وأجيب بأن الآيات بالدالة على وجوب العمل مخصصة أو مقيدة والتقدير : فاذكروا آلاء الله واعملوا عملاً يليق بذلك الإنعام لعلكم تفلحون .
ذكرهم نبيهم نعم الله عليهم ليرجعوا إلى عقولهم فيعلموا أن العبادة نهاية التعظيم ولا تلق إلا بمن صدر عنه نهاية الإنعام وليس للأأصنام على الخلق شيء من النعم لأنها جماد والجماد لا قدرة له أصلا فلم يكن للقوم جواب عن هذه الحجة إلا التمسك بطريقة التقليد وذلك قولهم ) أجئتنا لنعبد الله وحده ( الهمزة لإنكار الختصاص الله وحده بالعبادة .
وفي المجيء أوجه منها : أن يكون لهود معتزل يتحنث فيه أي يتعبد كما كان يعفل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحراء قبل المبعث ، فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم .
ومنها الاستهزاء اعتقاداً منهم أن الله لا يرسل إلا ملكاً فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك ؟ ومنها ، يراد به القصد كما يقال : ذهب يشتمني ، ولا يراد حقيقة الذهاب كأنهم قالوا : أتعرضت لنا بتكليف عبادة الله وحده أي منفرداً عن الأصنام وهو من المعارف التي وقعت حالاً بتأويل .
ولا يمكن أن يكون وحده ههنا اعترافاً كما يقول الموحد لا إله إلا الله وقال الله وحده لأن الفرض أنهم مشركون .
ثم إن قول هود فيما قبل ) أفلا تتقون ( كان مشعراً بالتهديد والوعيد فلهذا استعجلوا العذاب زعماً منهم أنه كاذب وذلك قولهم ) أتنا بما تعدنا ( فأجابهم هود بقوله ) قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب ( ولا بد أن يحملا على معنيين متغايرين لمكان العطف .
أما الغضب في حقه تعالى فإرادة إيقاع السوء كما سبق مراراً ، وأما الرجس فقيل : العذاب .
اعترض عليه بلزوم التكرار .
وقيل : العقائد المذمومة والصفات القبيحة .
وذلك أن الرجس ضد التطهير كما قال سبحانه في صفة أهل البيت ) إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) [ لأحزاب : 33 ي وقال القفال : الرجس والازدياد في الكفر بالرين على القلوب كما قال ) فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) [ التوبة : 125 ] وهذا التفسير أخص .
أما قوله ) قد وقع ( ولم يقع العذاب بعد(3/270)
" صفحة رقم 271 "
ففيه وجوه : قال بعض من يقول بأن إرادة الله تعالى حادثة : معناه أنه تعالى أحدث إرادة في ذلك الوقت .
وقيل : أراد هود أنه أخبر بنزول العذاب .
وقيل : جعل المتوقع الذي لا شك فيه بمنزلة الواقع كقولك لمن طلب منك حاجة قد كان ذلك .
تريد أنها ستكون ألبتة .
وعن حسان أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور وهو طفل فجاء أباه يبكي فقال له : يا بني ما لك ؟ فقال : لسعني طوير كأنه ملتف في بدري حبرة فضمه إلى صدره وقال : يا بني قد قلت الشعر .
ثم أنكر عليهم قبيح فعالهم فقال ) أتجادلونني في أسماء تناظرونني في شأن آلهة أشياء ما هي إلا أسماء ) سميتموها ( أحدثتموها ) أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ( أي لا حجة على حقيقتها فتنزل .
والحاص لأنها أسماء بلا مسميات لأنكم تمسونها آلهة ومعنى الإلهية فيها معدوم محال .
سموا واحداً بالعزي مشتقاً من العز وما أعطاه الله تعالى عزاً أصلاً .
وسموا آخر منها باللات من الإلهية وماله من الإلهية أثر .
وإنما قال في هذه السوةر نزل وفي غيرها مما سيجيء ) أنزل ( لأن ( نزل ) للتكثير فيكون للمبالغة ويجري ما بعده مجرى التفصيل للجملة ، أو أنواع للجنس والله أعلم .
ثم إنه ذكرهم وعيداً محدوداً فقال ) فانتظروا ( سوء عاقبة هذه الأصنام ) إني معكم من المنتظرين ( عاقبة السوء أو عاقبة الحسنى وذلك قوله ) فأجيناه والذين معه برحمة ( بسبب رحمة كانوا يستحقونها ) منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ( أي استأصلناهم ودمرناهم عن آخرهم وقد مر مثله في الأنعام .
وفائدة نفي الإيمان عنهم في قوله ) وما كانوا مؤمنين ( مع إثبات التكذيب بآيات ربهم أن يكون تعريضاً بمن آمن منهم ، أو معنى ) وما كانوا مؤمنين ( في علم الله تعالى أي لم يكونوا من المكذبين الذي لو بقوا لآمنوا .
قال في الكشاف : وإن عاداً قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت وكانت لهم أصنام يعبدونها .
صداء وصمود والهباء فبعث الله هوداص نبياً وكان من أوسطهم وأشرفهم وأفضلهم حسباً فكذبوه وازدادوا عتواً وتجبراً ، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا .
وإن الناس كانوا إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله الفرج من ذلك عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر ، فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلاً منهم قيل بن عنز ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه فلما نزلوا على معاوية بن بكر وهوة بظاهر مكة خارجاً من الحرم أنزلهم وأكرهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان كانتا لمعاوية إحداهما وردة والأخرى جرادة ولما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا لأجله أهمه ذلك وقال : قد هلك أخوالي(3/271)
" صفحة رقم 272 "
وأصهاري وهؤلاء على ما هم عليه وما يستحي أن يكلمهم خيفة أن يظنوا أنه ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا : قل قولاً نغينهم به لا يدرو من قاله فقال معاوية :
ألا ياقيل ويحك قم فهينم
لعل الله يسقينا غماماً
ويسقي أوض عاد إن عاداً
قد آمسوا ما يبينون الكلاما
الهينمة إخفاء الكلام في الدعاء وغيره ، ومعنى يسقينا يجعله ساقياً لنا .
وقوله ما يبينون الكلام أي لا يكادون يفقهون قولاً من ضعفهم وسوء حالهم .
فلما غنتا به قالوا : إن قومكم يتغوّثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم .
فقال لهم مرثد بن سعد : والله لا يسقون بدعائكم ولكم إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم وأظهر إسلامه .
فقالوا لمعاوية : أحبس عنا مرثداً لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة فقال قيل : اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم فأنشأ الله سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء يا قيل اختر لنفسك ولقومك .
فقال : اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث فاسبشروا بها وقالوا : هذا عارض ممطرنا .
فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فتعبدوا الله فيها حتى ماتوا .
التأويل : لقد أرسلنا نوح الروح إلى قومه ببلاد القوالب وهم القلب وصفاته والنفس وصفاتها ، ومن صفة الروح العبودية والطاعة دعوة القلب والنفس وصفاتها إلى الله وعبوديته ، ومن صفات النفس تكذيب الروح ومخالفته والإباء عن نصحه والتعجب ) فكذبوا ( يعني النفس وصفاتها نوح والروح ) فأنجيناه والذين معه ( في الفلك الشريعة ) وأغرقنا ( النفس وصفاتها في البحر الدنيا وشهواتها ) إنهم كانوا قوماً عمين ( عن رؤية الله والوصول إليه ) وزادكم في الخلق بسطة ( كما أوقع التفاوت بين شخص وشخص فيما يعود إلى المباني أوقع التباين بين قوم وقوم وفيما يرجع إلى المعاني ) قد رفع عليكم من ربكم رجس وغضب ( أي مقالتكم تدل على حالتكم أنه أصابكم سطوات العذاب .
فمن أمارات الإعراض رد العبد إلى شهود الأغيار وتغريقه إياه في بحار الظنون والأوهام والجدال .
( الأعراف : ( 73 - 84 ) وإلى ثمود أخاهم . . . .
" وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض(3/272)
" صفحة رقم 273 "
تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين " ( القرآات : ( وقال الملأ ( بالواو : ابن عامر ) إنكم ( بحذف همزة الاسفهام : أبو جعفر ونافع وحفص وسهل .
) أئنكم ( بهمزتين : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير جفص ، وهشام يدخل بينهما مدة ، ) آينكم ( بالمد وبالياء : أبو عمرو وزيد .
) أينكم ( بالهمزة والياء : ابن كثير ويعقوب غير زيد .
الوقوف : ( صالحاً ( لئلا يظن أن ) صالحاً ( صفة لا علم فالجملة بعده نعت له وهذا بخلاف اسم شعيب وغيره من الأعلام العربية ) غيره ( ط ) من ربكم ( ط ) أليم ( ه ) بيوتاً ( ط لما مر في قصة هود ) مفسدين ( ه ) من ربه ( ج ) مؤمنون ( ه ) كافرون ( ه ) المرسلين ( ه ) جاثمين ( ه ) ناصحين ( ه ) من العالمين ( ه ) من دون النساء ( ط لمكان الإضراب .
) مسرفون ( ه ) من قريتكم ( ج لاحتمال التعليل استهزاء ) إلا امرأته ( ز لاحتمال الاستئناف والأشبه أنها حال المرأة ) من الغابرين ( ه ) مطراً ( ط ) المجرمين ( ه .
التفسير : القصة الرابعة قصة صالح مع قومه ثمود .
قال أبو عمرو بن العلا : سميت ثمود لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل .
وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى .
وإنه لا ينصرف تارة بتأويل القبيلة وينصرف أخرى بتأويل الحي ، أو باعتبارها الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح .
وقيل : إن ثمود أخو جديس وطسم .
وقد ورد القرآن بالصرف وبمنعه جميعاً قال تعالى ) ألا إن ثموداً كفروا ربهم(3/273)
" صفحة رقم 274 "
ألا بعداً لثمود ) [ هود : 68 ] ( قد جاءتكم بينة ( آية ظاهرة دالة على صدقي وكأنه قيل : ما تلك البينة فقال ) هذه ناقة الله لكم آية ( وانتصابها على الحال والعامل فيها ما في اسم الإشارة أو حرف التنبيه من معنى الفعل أي أشير إليه أو أنبه عيلها آية .
و ) لكم ( بيان لمن هي له آية موجبة للإيمان وهو ثمود .
وسبب تخصيص أولئك الأقوام بها مع أنها آية لكل أحد أنهم عاينوها وغيرهم أخبروا بها وليس الخبر كالمعاينة. أو لعله يثبت سائر المعجزات إلا أن القوم التمسوا هذه المعجزة بعينها على سبيل الاقتراح فأطهرها الله تعالى لهم فلهذا حسن التخصيص .
وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيماً لها وتفخيماً لشأنها حيث جاءت مكونة من عنده من غير فحل وطروقة آية من آياته كما تقول : آية الله وبيت الله ، وبالحقيقة هي آية تشتمل على آيات .
آية ، وأن لها شرب يوم ولجميع ثمود شرب يوم آية ، وكذا الكلام في قوتها المناسب للماء وفي غزارة لبتها ، وأنكر الحسن فقال : إنها لم تحلب قطرة لبن قط .
ويورى أن جميع الحيوانات كانت تمتنع عن الورود في يوم شربها .
وقيل : سميت ناقة الله لأنه لا مالك لها سوى الله تعالى .
وقيل : لأنها حجة الله على القوم ) فذروها تأكل في أرض الله ( أي الناقة ناقة الله والأرض أرض الله فدوعها تأكل في أرض ربها ومما أنبت منها ) ولا تمسوها بسوء ( من الضرب والطرد وسائر أنواع الأذى إكراماً لآية الله .
) فيأخذكم عذاب أليم ( يعني أخذ الاستفزاز والاستئصال ) واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد ( تفسيره كما في قصة هود ) وبوأكم في الأرض ( أنزلكم فيها والمباءة المنزل والأرض أرض الحجر ) تتخذون من سهولها ( أي تبنون من سهول الأرض قصوراً بما تعملون من الأراضي السهلة لبناً وآجراً ورهصاً .
واتصاب ) بيوتاً ( على الحال المقدرة كما تقول خط هذا الثوب قميصاً لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت ولا الثوب قميصاً في حال الخياطة. ويجوز أن تكون من مقدرة اكتفاء بقوله : ( من سهولها ( كما جاءت في موضع آخر ) تنحتون من الجبال بيوتاً فارهين ) [ الشعراء : 149 ] فيكون منصوب فيكون منصوباً على أنه مفعول به .
وقيل : المراد أنهم كانوا يسكنون السهول في الصيف الجبال في الشتاء ) فاذكروا آلاء الله ( يعني إني قد ذكرت لكم بعض نعم ربكم فاذكروا أنتم العموم .
وإعرابه قد مر في أوائل سورة البقرة .
ٌال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا ( أي المساكين الذين ساحقرهم رؤساء الكفار .
وقوله ( لمن آمن منهم ( بدل من إلى الذين استضعفوا فيكون البدل بدل البعض ودل على أن المستضعفين فريقان مؤمنون وكافرون ، وإما أن يرجع إلى قومه فيكون البدل بدل الكل ودل على أن الاستضعاف من شأن(3/274)
" صفحة رقم 275 "
أهل الإيمان يستحقرهم المستكبرون ، ولا يكون صفة ذم في حقهم وإنما الذم يعود إلى المستحقرين .
وفي الآية دلالة على أن الفقر خير من الغنى لأن الإستكبار يتولد من كثرة المال والجاه والتصديق والانقياد بنشأ من قلتهما ) أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه ( قالوه على سبيل التهكم والسخرية لا للاستعلام والاسترشاد .
) قالو إنا بما أرسل به مؤمنون ( جعلوا إرساله أمراً بيناً مكشوفاً مسلماً لا يدخله ريب وإنما الكلام في وجود الإيمان فنخبركم أنا به مؤمنون ولذلك ) قال الذي استكبروا ( في جوابهم ) إنا بالذي أمنتم به كافرون فعقروا الناقة ( قال الأزهري : العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ثم أطلق على النحر إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، وأسند العقر إلى جميعهم مع أنه ما باشره إلا بعضهم لأنه كان برضاهم ، وقد يقال للقبيلة العظيمة أنتم فعلتم كذا ولعله لم يفعله إلا واحد منهم كقوله ) وإذ قتلتم ) [ البقرة : 72 ] ( وعتوا عن أمر ربهم ( استكبروا عن امتثاله .
قال مجاهد : العتو الغلو في الباطل وأمر ربهم شأنه أي دينه ، أو المراد أمر به صالح من قوله ) فذروها ( ) ولا تمسوها ( والمعنى أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوهم فإن الإنسان حريص على ما منع .
) وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ( أطلقوا الوعد وأرادوا ما وعدهم من العذاب واستعجالهم العذاب إنما كان لأجل تكذيبهم بكل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد ، ولذلك علقوه بما كانوا ينكرونه وهو كونه من المرسلين ) فأخذتهم الرجفة ( قال الفراء والزجاج : هي الزلزلة الشديدة قال تعالى ) يوم ترجف الأرض والجبال ( ) المزمل : 14 ] قال الليث : هي كرجفان البعير تحت الرحل وكما ترجف الشجرة إذا أرجفتها الريح وهذا لا يناقض ما ورد في موضع آخر أنهم أهلكوا بالطاغية وفي آخر أنهم أهلكوا بالصيحة لأن الطغيان مجاوزة الحد .
قال تعالى ) إنا لما طغا الماء حملناكم ) [ الحاقة : 11 ] فالزلزلة هي الحركة الخارجة عن الحد المعتاد ، والغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصحية الهائلة .
) فأصحبوا في دارهم ( أي في بلدهم كقولك : دار الحرب ودار الإسلام .
وقد جمع في آية أخرى فقال : ( في ديارهم ) [ هود : 67 ] لأنه أراد بالدار ما لكل واحد من منزلة الخاص إلا أنه حيث ذكر الرجفة وحد وحيث ذكر الصيحة جمع لأن الصحية كأنها من السماء فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة .
ومعنى ) جاثمين ( موتى لا حراك بهم .
قال أبو عبيدة : الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئاً بالأرض في حال سكونه بالليل ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة التي تربط وتجمع قوائمها لترمى ) قتولى عنهم ( الفاء للتعقيب .
فالظاهر أن صالحاً عليه السلام أدبر عنهم بعدما أبصرهم جاثمين وكأنه تولى وهو مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم ) وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ( وحد(3/275)
" صفحة رقم 276 "
الرسالة بخلاف ما مر في قصتي نوح وهود لأن المراد هناك أشياء كانا يأمران بها قومهما بعد الإيمان بالله ، وههنا وقع في آخر القصة فأراد بها مجموع ما أدى من الرسالة ، أو أراد بذلك أداء حديث الناقة فقط .
) ونصحت لكم ( لم آل جهداً في النصيحة ) ولكن لا تحبون الناصحين ( حكاية لحال ماضية .
واعترض على هذا التفسير بأنه كيف يصح خطاب الموتى ؟ وأجيب بأنه قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه في حياته فلم يصغ إليه يا أخي كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل مني حتى ألقيت بنفسك إلى التهلكة .
والفائدة في مثل هذا الكلام أن يسمعه بعض الإحياء فيعتبر به .
ولعل القائل أيضاً يتسلى بذلك وتزول بعض الغصة عن قلبه ويخف عليه ما نزل به ، وإن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقف على قليب قتلى بدر وقال : يا فلان ويا فلان قد وجدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ؟ فقيل له : كيف تتكلم مع هؤلاء الجيف ؟ فقال : ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يقدرون على الجواب .
وتفسير آخر وهو أن يكون تولى غنهم تولى ذاهب عنهم منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب .
وجملة قصتهم ما روي أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بالدها وخلفوهم في الأرض فكثروا وعمروا أعماراً طوالاً حتى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته فنحتوا البيوت من الجبال وكانوا في سعة ورخاء من العيش ، فعتوا عن أمر الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان فبعث الله إليهم صالحاً وكانوا قوماً عرباً .
وصالح من أوسطهم نسباً .
فدعاهم إلى الله فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية فقال : أية آية تريدون ؟ قالوا : تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة فندعو آلهتنا وتدعوا إلهك ، فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا .
فقال صالح : نعم .
فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألها الاستجابة فلم تجبهم .
ثم قال سيدهم جندع بن عمرو ، وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء ، والمخترجة التي شاكلت البخت فإن فعلت صدّناك وأجبناك ، فأخذ صالح عليهم المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدّقن .
قالوا : نعم .
فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا ، وكانت في غاية العظم حتى قال أبو موسى الأشعري : أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة يعني - موضع بروكها - فوجدته ستين ذراعً .
ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه ومنع بقاياهم ناس من رؤوسهم أن يؤمنوا فمكثت الناقة وولدها ترعي الشجرة وتشر الماء وكانت ترد غباً كما قال عز من قائل ) لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ) [ الشعراء : 155 ] وذلك أن الماء كان عندهم قليلاً فجعلوا(3/276)
" صفحة رقم 277 "
ذلك الماء بالكلية شرباً لها يوماً وشرباً للقوم يوماً .
قال السدي : وكانت الناقة في اليوم الذي شرب فيه الماء تحلب فيكفي الكل فكأنها كانت تصب اللبن صباً ، وفي اليوم الذي يشربون الماء لا تأتيهم وكانت إذا وقع الحر تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطن الوادي ، وإذا وقع البرد كان الأمر بالعكس فشق ذلك عليهم وقال لهم صالح : يولد في شهركم هذاغلام يكون هلاككم على يديه فذبحوا تسعة نفر من أبنائهم ثم ولد العاشر فأبى أن يذبح ابنه فنبت نباتاً سريعاً ، ولما كبر الغلام جلس مع قوم يشربون الشراب فأرادوا ماء يمزجونه به وكان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء فاشتد ذلك عليهم .
فقال الغالم : هل لكم في أن أعقر هذه الناقة فشدّ عليها لما بصرت به شدّت عليه فهرب منها إلى جانب صخرة فردّوها عليه ، فلما مرت به تناولها فعقروها فسقطت فذلك قوله تعالى ) فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ) [ القمر : 29 ] وأظهروا حينئذ كفرهم وقيل : زينت لهم عقرها امرأتان - عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار - لما أضرت الناقة بمواشيهما وكانت كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فانطلق فصيلها حتى رقي جبلاً اسمه قارة فرغا ثلاثاً وكان صالح قال لهم : أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه وانفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح : تصبحون غداً ووجوهكم مصفرة ، وبعد غد ووجوهكم محمرة ، واليوم الثالث ووجوهكم مسودة ، ثم يصبحكم العذاب .
فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله إلى أرض فلسطين .
ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا .
واستبعد بعضهم أن العاقل مع مشاهددة هذه المعجزات والعلامات كيف يبقى مصراً على كفره ؟ وأجيب بأنهم عنده مشاهدة العلامات خرجوا عن حدّ التكليف وأن تكون توبتهم مقبولة .
عن جابر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما مر بالحجر قال : لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فأخذ بهم الصحية فلم يبق منهم إلا رجل واحد كان في حرم الله .
قالوا : من هو قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ذاك أبو رغال .
فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه ، وروي أن صالحاً كان بعثه إلى قوم فخالف أمره .
وروي أن نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) مر بقبر أبي رغال فقال : أتدرون من هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم .
فذكر قصة أبي رغال وأنه دفن ههنا وأنه دفن معه غصن من ذهب فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن .
وروي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ونزل بهم العذاب يوم السبت .
وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الداخن ساطعاً فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفاً وخمسمائة دار ، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم ، ويروى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين مر بالحجر في غزو تبوك قال لأصحابهك لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين(3/277)
" صفحة رقم 278 "
إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) يا علي ، أتدري من أشقى الأوّلين ؟ قال : الله ورسوله أعلم .
قال : عاقر ناقة صالح أتدري من أشقى الآخرين : قال : الله ورسوله أعلم .
قال قاتلك .
القصة الخامسة قوله سبحانه ) ولوطاً إذ قال لقومه ( تقديره أرسلنا لوطاً وقت قال لقومه ، ويجوز أن يكون معناه واذكر لوطاً إذ قال لقومه على أن ( إذ ) بدل من المفعول به لا ظرف .
وإنما صرف نوح ولوط مع أن فيه سببين : العجمة والعلمية ، لأن سكون وسطه قاوم أحد السببين ) أتأتون الفاحشة ( أتفعلون الخصلة المتمادية في القبح ) ما سبقكم بها ( قال في الكشاف : الباء للتعدية من قولك : سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله أي ما عملت قبلكم .
قلت : ومن المحتمل أن تكون الباء فيه مثله في قولك : كتبت بالقلم .
وفي قوله ) تنبت بالدهن ) [ المؤمنون : 20 ] أي ما سبقكم ملتبساً بها من أحاد من العالمين ( من ) الأولى زائدة لتأكيد النفي وإفادة الاستغراق .
والثانية للتبعيض .
وموقع هذه الجملة استئناف لأنه أنكر عليهم أوّلاً بقوله ) أتأتون الفاحشة ( ثم وبخهم عليها فقال : وأنتم أوّلأ من عملها. أو هو جواب سؤال مقدر كأنه قيل : لم لا نأتيها ؟ فقال : ( ما سبقكم بها من أحد ( فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به .
ويجوز أن تكون صفة للفاحشة كقوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني
وههنا سؤال وهو أنه كيف يجوز دعوى عدم السبق في هذه الخصلة ولم تزل الشهة داعية إليها ؟ والجواب لعل متقدميهم كانوا يستقذرونها وينفرون عنها طبعاً كسائر الحيوانات ، أو المراد أن الإقبال باكلية على ذلك العمل لم يوجد في الأعصار المتقدمة .
قال الحسن : كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم وكانوا لا ينكحون إلا الغراباء .
وقال عطاء عن ابن عباس : استحكم ذلك فيهم حتى فعل بعضهم ببعض ) أئنكم لتأتون الرجال ( بيان لما أجمله في قوله ) أتأتون الفاحشة ( وكلا الاستفهامين للإنكار .
وفي الثاني أكثر ولهذا زيد فيه ( إن ) ومثله في النمل ) أتأتون ( وبعده ) أئنكم لتؤتون ) [ النمل : 55 ] وفي العنكبوت ) إنكم لتأتون الفاحشة ) [ الآية : 28 ] ( أئنكم لتؤتون الرجال ) [ النمل : 55 ] فجمع بين ( إن ) ( وأئن ) القصة ) إنا منجوك ( إنا منزلون .
وانتصب ) شهوة ( على أنها مفعول له أي لا حامل لكم على غشيان الرجال من دون النساء إلا مجرد الشهوة ، أو مصدر وقع حالاً يقال : شهى يشهى شهوة ) بل أنتم قوم مسرفون ( إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحالة الموجبة لارتكاب القبائح وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء .
وختم هذه الآية بلفظ الاسم موافقة لرؤوس الآيات التي تقدمت ) العالمين ( ) الناصحين ((3/278)
" صفحة رقم 279 "
) جاثمين ( ) المرسلين ( وفي النمل ) قال بل أنتم قوم تجهلون ) [ الآية : 55 ] أما العدول من الإسراف إلى الجهل فلتغير العبارة ، وكل إسراف جهل وكل جهل إسراف .
وأما العدول من الاسم إلى الفعل فلتوافق ما قبلها من الآيات وكلها أفعال ) ينصرون ( ) تتقون ( ) يعلمون ( واعلم أن قبح هذا العمل كالأمر المقرر في الطباع ووجوه القح فيه كثيرة منها : أن أكثر الناس يحترزون فيه عن الولد لأن الولد يحمل المرء على طلب المال وإتعاب النفس في وجوه المكاسب إلا أنه تعالى جعل الوقاع سبباً لحصول اللذة العظيمة حتى إن الإنسان يطلب تلك اللذة ويقدم على الوقاع وحينئذ يحصل الولد شاء أم أبى ، وبهذا الطريق يبقى النسل ولا ينقطع النوع فوضع اللذة في الوقاع يشبه وضع الشيء الذي يشتهيه الحيوان في الفخ والغرض إبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع .
فكل لذة لا تؤدي إلى هذا الغرض وجب الحكم بتحريمها لما فيه من ضياع البذر ولزوم خلاف الحكمة .
ومنها أن الذكورة مظنة الفعل والأنوثة مظنة الانفعال ، فانعكاس القضية يكون خروجاً عن مقتضى الطبيعة والحكمة ، ومنها أن الاشتغال بمحض الشهة تشبه بالبهائم وخروج عن الغريزة الإنسانية .
وهب أن الفاعل يلتذ بذلك العمل إلا أنه سعى في إلحاق العار العظيم بالمفعول ما دام حياً ، والعاقل لا يرضى لأجل لذة زائلة إلحاق منقصة دائمة بغيره .
ومنها أنه يوجب استحكام العداوة بين الفاعل والمفعول إلى حيث يقدم المفعول على قتل الفاعل ، أو على إلحاق الضرر به بكل طريق يقدر عليه وذلك لنفور طبعه عن رؤيته .
وأما حصول هذا العمل بين الرجل والمرأة فإنه يوجب زيادة الألفة والمحبة كما قال تعالى ) خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) [ الروم : 21 ] ومنها أنه تعالى أودع في الرحم قوّة جاذبة للمني بحيث لا يبقى شيء منه في مجاريه وأوعيته ، أما إذا واقع الذكر فإنه يبقى شيء من أواخر المني في المجاري فيعفن ويفسد ويتولد من العلل والأورام في الأسافل كما يشهد به القوانين الطبية قال بعضهم : ( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) [ المؤمنون : 5 ، 6 ] يقتضي حل وطء المملوك مطلقاً ذكراً كان أو أنثى .
ولا يمكن تخصيص هذا العموم بقوله ) أتأتون الذكران من العالمين ( ) الشعراء : 165 ] لأن كلاً من الآيتين أعم من الأخرى من وجه لأن المملوك قد يكون ذكراً وقد لا يكون ، والذكر قد يكون مملوكاً وقد لا يكون ، فتخصيص إحداهما بالأخرى ترجيح من غير مرجح بل الترجيح لجانب الحل لمقتضى الأصل وذلك لأن المالك مطلق التصرف ، ولأن شرع محمد أولى من شرع لوط .
وأجيب بأن الاعتماد على التواتر الظاهر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن هذا العمل حرام قال تعالى ) وما كان جواب قومه ( بالواو كيلا يكون التعقيب(3/279)
" صفحة رقم 280 "
بالفاء بعد الاسم .
وفي النمل ) تجهلون فما كان ) [ النمل : 55 ] وفي العنكبوت ) وتأتون في ناديكم المنكر فيما كان ( لصحة تعقيب الفعل الفعل ) إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم ) [ الآية : 29 ] وفي النمل ) أخرجوا آل لوط ) [ الآية : 56 ] لكيون ما في النمل تفسيراً لهذا الكناية وقيل : إن سورة النمل نزلت قبل الأعراف فيكون قد صرح في الأولى وكنى في الثانية .
قال في الكشاف : يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة .
ووسمهم بسمة الإٍراف الذي هو أصل الشر كله ولكنهم جاؤا بكلام آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم ضجراً بهم وبما يسمعونهم من وعظهم ونصحهم ، وقولهم ) إنهم أناس يتطهرون ( سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش وافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد .
وقيل : المراد أن ذلك العمل في موضع النجاسة فمن تركه فقد تطهر .
وقيل : ان البعد عن الإثم يسمى طهارة ، فالمراد أنهم يتباعدون عن المعاصي والآثم ) فأنجيناه وأهله ( أي أنصاره وأتباعه والذين قبلوا دينه ، وعن ابن عباس : أراد المتصلين به في النسب بدليل قوله ) إلا امرأته ( يقال : امرأة الرجل بمعنى زوجته ولا يقال مرء المرأة يعني زوجها لأن المالكية حق الزوج ) كانت من الغابرين ( وفي النمل ) قدرناها من الغابرين ) [ النمل : 57 ( أي كانت في علم الله من الغابرين .
) فقدرناها من الغابرين ( وإن قلنا بتأخر نزول الأعراف فالمعنى قدرناها من الغابرين فصارت من الغابرين ، والغبور المكث والبقاء أي من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا ، أو التذكير لتغليب الذكور وكانت كافرة موالية لأهل سدوم .
روي أنها التفتت فأصابها حجر فماتت .
ثم وصف العذاب فقال ) وأمطرنا عليهم مطراً ( أي أرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً .
قيل : كانت المؤتفكة خمس مدائن .
وقيل كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة .
فأمطر الله عليهم الكبريت والنار .
وقيل : خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم .
وقيل : أمطر عليهم ثم خسف بهم .
وروي أن تاجراً منهم كان في الحرم فوقف له الحجر أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه ) فانظر ( يا محمد أو كل من له أهلية النظر والاعتبار والاعتبار ) كيف كان عاقبة المجرمين ( وهذه الأمة وإن أمنت من عذاب الاستئصال إلا أن الخوف والاعتبار من شعار المؤمن لا ينبغي أن ينفك عنه على أن عذاب الآخرة أشدّ وأبقى ولم يأمنوه بعده .
مسائل : الأولى مذهب الشافعي أن اللواط يوجب الحدّ لأنه ثبت في شريعة لوط فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ ولم يظهر نسخ في شرعنا ، ولأن ذكر الحكم عقيب(3/280)
" صفحة رقم 281 "
الوصف المناسب يدل على عليه الوصف للحكم ، فالآية دلت على أن هذا الجرم المخصوص علة لحصول هذا الزاجر المخصوص .
وقال أبو حنيفة : إن الواجب فيه العزير لأنه فرج لا يجب المهر بالإيلاج فيه فلا يجب الحدّ كإتيان البهيمة ، وعلى الأول ففي عقوبة الفاعل قولان : أحدهما أن عقوبته القتل محصناً كان أو لم يكن لما روي انه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول ) وأصحهما أن حده حد الزنا فيرجم إن كان محصناً ويجلد ويغرب إن لم يكن محصناً لأنه حد يجب بالوطء ، ويختلف فيه البكر والثيب كالإتيان في القبل .
وعلى قول القتل فيه وجوه أحدها : يقتل بالسيف كالمرتد ، والثاني وبه قال مالك وأحمد يرجم تغليظاً ، ويرى عن علي عليه السلام أيضاً .
والثالث يهدم عليه جدار أو يرمى من شاهق جبل ليموت أخذاً من عذاب قوم لوط .
وأما المفعول وإن كان مكلفاً طائعاً فيقتل بما يقتل به الفاعل إن قلنا إن الفاعل يقتل ، وإن قلنا يحد حد الزنا فيجلد ويغرب محصناً كان أو لم يكن ، وإن أتى امرأة في دبرها ولا ملك ولا نكاح فالأظهر أنه لواط لأنه إتيان في غير المأتي ويجيء في الفاعل والمفعول ما ذكرنا .
وقيل : إنه زنا لأنه وطء أنثى فأشبه الوطء في القبل فعلى هذا حده حد الزنا بلا خلاف .
وترجم المرأة إن كانت محصنة. وإذا لاط بعبده فهو كالأجنبي على الأصح ولو أتى امرأته أو جاريته في البر فالأصح اللقطع بمنع الحد لأنها محل استمتاعه بالجملة .
التأويل : ( هذه ناقة الله ( معجزة الخواص أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر عشراء بسقب سر السر وهو الخفي .
وناقة الله هي التي تحمل أمانة معرفته وتعطي ساكني يلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية ، ) فذروها ( ترتع في رياض القدس وحياض الإنس ) ولا تمسوها بسوء ( مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة ) فيأخذكم عذاب أليم ( بالانقطاع عن مواصلات الحقيقة .
) إذ جعلكم خلفاء ( مستعدين للخلافة ) وبوأكم ( في أرض القلوب ) تتخذون من سهولها ( وهي المعاملات بالصدق والإخلاص ) قصوراً ( في الجنان ) وتنحتون ( من جبال أطوار القلب ) بيوتاً ( هي مقامات السائرين إلى الله ) فاذكروا آلاء الله ( النعماء والإخلاص .
فالأول يتضمن ترويح الظاهر ، والثاني يوجب تلويح السر .
فالترويح بوجود المسار والتلويح بشهود الأسرار ) ولا تعثوا في الأرض ( القلب بالفساد للاستعداد الفطري ) الذين استكبروا ( هم الأوصاف البشرية(3/281)
" صفحة رقم 282 "
والأخلاق الذميمة ) الذين استضعفوا ( من أوصاف القلب والروح .
) أتعلمون ( أن صالح الروح ) مرسل ( بنفخة الحق إلى بلد القلب وساكنيه ليدعوهم من الأوصاف السفلية لظلمانية إلى الأخلاق العلوية النورانية ) فعقروا ( أي النفس وصفاتها ناقة سر القلب بسكاكين مخالفات الحق ) فأخذتهم ( رجفة الموت ) فأصبحوا في دار قالبهم ) جاثمين ( والله العزيز .
تم الجزء الثامن ويليه التاسع أوله : ( وإلى مدين أخاهم شعيباً. .. . ((3/282)
" صفحة رقم 283 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء التاسع من أجزاء القرآن الكريم
( الأعراف : ( 85 - 93 ) وإلى مدين أخاهم . . . .
" وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين " ( القراءة كما مر الوقوف : ( شعيباً ( ط ) غيره ( ط ) إصلاحها ( ط ) مؤمنين ( ج ه لعطف المتفقتين أو وقوع العارض أو رأس الآية ) عوجاً ( ج لاتفاق الجملتين مع طول الكلام ) فكثركم ( ج لعطف المتفقتين ) امفسدين ( ه ) بيننا ( ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف ) الحاكمين ( ه ) ملتنا ( ط ) كارهين ( ه وقيل لا وقف لأن الابتداء بقوله ) وقد افترينا ( قبيح قلنا إذا كان محكياً عن شعيب كان أقبح ولكن الكلام معلق بشرط يعقبه .
) منها ((3/283)
" صفحة رقم 284 "
ط ) الله ( ط ) ربنا ( ط ) علماً ( ط ) توكلنا ( وللعدول ) الفاتحين ( ه ) الخاسرون ( ه ) جاثمين ( ه ج إن وصل وقف على ) كأن لم يغنوا فيها ( على جعل ) الذين ( بدلاً من الضمير في ) أصبحوا ( و ) كأن لم يغنوا ( حال لمعنى في الجاثمين .
وإن على ) الذين ( مبتدأ خبره ) كأن لم يغنوا ( وقف على ) جاثمين ( وعلى ) شعيب ( ويستأنف ب ) كانوا ( ولا يخلو من تعسف .
) الخاسرين ( ه ) ونصحت لكم ( ط لأن ) كيف ( للتعجب فيصلح للابتداء مع أنه فيه فاء التعقيب .
) كافرين ( ه والله أعلم .
التفسير : القصة السادسة قصة شعيب ومدين اسم البلد .
وقيل : اسم القبيلة لأنه شعيب بن توبب بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه ، وذلك أنه أمرهم بأشياء : الأوّل : عبادة الله ، أمرهم بها ونهاهم عن عبادة غير الله وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء .
الثاني : تصديق ما ادعاه من النبوّة وأشار إليه بقوله ) قد جاءتكم بينة ( أي معجزة دالة على نبوّتي .
ففي الآية دلالة مجملة على أن لشعيب معجزة ظاهرة كما ينبغي لكل مدعي نبوّة وإلا كان متنبئاً ، غير أن معجزته لم تذكر في القرآن كما لم يذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وآله فيه .
يحكى أنه دفع إلى موسى عصاه وتلك العصا ربت التنين وأيضاً قال لموسى : إن هذه الأغنام تلد أولاداً عنقها أسود وسائرها أبيض وقد وهبتها منك وكان الأمر كما أخبر .
وكل ذلك قبل أن يستنبأ موسى .
فقال أهل السنة : إن هذه الأمور علامات نبوّة موسى ويمسى إرهاصاً .
وقالت المعتزلة : إنها معجزات شعيب بناء على أن الإرهاص عندهم غير جائز .
الثالث قوله ) فأوفوا الكيل ( الآية .
واعلم أن للأنبياء عليهم السلام أن يبدأوا في الموعظة بما يكون قومهم مقبلين عليه .
وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف فكأنه يقول : البخس عبارة عن الخيانة بالشيء القليل وهو أمر مستقبح في العقول ومع ذلك فقد جاءت البينة والشريعة الموجبة لتحريمه فلم يبق لكم فيه عذر فأوفوا الكيل والميزان .
قال في الكشاف : لم يقل المكيال والميزان كما في سورة هود لأنه أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال ، أو سمى ما يكال به بالكيل كما قيل العيش لما يعاش به ، أو أريد فأوفوا الكيل ووزن الميزان ، أو الميزان مصدر كالميعاد والميلاد .
الرابع ) ولا تبخسوا الناس أشياءهم ( يقال : بخسته حقه إذا نقصته إياه ومنه قيل للمكس البخس .
وفي المثل تحسبها حمقاء وهي باخس .
قال ثعلب : وإن شئت قلت باخسة وذلك بتأويل الإنسان أن النسمة يضرب لمن لا يعبأ به وفيه دهاء وجربزة .
خص أولاً ثم عمم ليشمل جميع أنواع الظلم كالغصب(3/284)
" صفحة رقم 285 "
والسرقة وأخذ الرشوة وقطع الطريق وانتزاع الأموال بوجوه الاحتيال .
يورى أنهم كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه ، وكانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمة الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطعاً ثم أخذوها بنقصان ظاهر وأعطوه بدلها زيوفاً .
الخامس ) ولا تفسدوا في الأرض ( وهذا أعم من البخس لشموله الأموال والأعراض والنفوس وكل ما يوجب مفسدة دنيوية أو دينية .
والمعنى بعد إصلاح أهلاه على حذف المضاف أو هو كقوله ) بل مكر الليل والنهار ) [ سبأ : 33 ] اي بعد الإصلاح فيها يعني إصلاح الصالحين من الأنبياء زمتابعيهم العالمين بشرائعهم ) ذلكم ( الذي ذكر من الأمور الخمسة ) خيرٌ لكم ( في الإنسانية وحسن الأحوثة وزيادة البركة لرغبة الناس في متاجرتكم عند اشتهاركم بالأمانة والديانة .
ولا يخفى أن حاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) إن كنتم مؤمنين ( مصدقين لي في قولي .
ثم فصل بعض ما أجمل فقال ) ولا تقعدوا بكل صراط ( قيل : الصراط حقيقة وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطرق والمراصد كما كانت تفعل قريش بمكة يخوّفون من آمن بشعيب ويقولون إنه كذاب لا يفتنكم عن دينكم ، أو كانوا يقطعون الطرق أو كانوا عشارين .
وقيل : إنه مجاز عن الدين أي لا تقعدوا على طريق الدين ومنهاج الحق لأجل أن تمنعوا الناس عن قبوله اقتداء بالشيطان حيث قال ) لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) [ الأعراف : 16 ] ودليل هذا المجاز قوله ) وتصدون عن سبيل الله ( يقال : قعد بمكان كذا أي التصق به ، وعلى مكان كذا أي علا ذلك المكان وفيه إذا حل ، فحروف الجر تتعاقب في مثلهذا الموضع لتقارب معانيها .
ومحل ) توعدون ( وما عطف عليه نصب على الحال ، نهاهم عن القعود على صراط الله حال الاشتغال بأحد هذه الأفعال .
وإنما قال ) بكل صراط ( مع أن صراط الحق واحد لأنه يتشعب إلى معالم وحدود وأحكام كثيرة كل منها في نفسه سبيل ، وكانوا إذا رأوا أحداً يشرع فيها أوعدوه وصدوه .
والضمير يف ) به ( راجع إلى كل صراط والتقدير : توعدون من آمن به وتصدون عنه فوضع الظاهر موضع الضمير زيادة في التقبيح والتفظيع .
ومعنى ) وتبغونها ( تطلبون لسبيل الله ) عوجاً ( أي تصفونها للناس بأنها معوجة وذلك بالقاء الشكوك والشبهات .
قال في الكشاف : أو يكون تهكماً بهم وأنهم يطلبون لها ما هو محال لأن طريق الحق لا تعوج .
ثم ذكرهم نعم الله تعالى لأن ذكر النعم مما يحمل على الطاعة ويبعد عن المعصية فقال ) واذكرا إذ كنتم ( أي وقت كونكم ) قليلاً فكثركم ( قال الزجاج يحتمل كثرة العدد بعد القلة وكثرة الغنى بعد الفقر وكثرة القدرة والشدة بعد الضعف والذلة .
قيل : إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها(3/285)
" صفحة رقم 286 "
بالبركة والنماء وصاروا كثيراً في العدة والعدة والشدّة .
ثم حذرهم سوء عاقبة من أفسد قبلهم من الأمم وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة فقال ) وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ( رغبهم أولاً ثم رهبهم ثانياً وأكد الترهيب بقوله ) وإن كان طائفة ( الآية .
وفيه وعيد للكافرين ووعد للمؤمنين وحث لهم على الصبر على ما يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم بمقتضى العدل والحكمة خير الحاكمين .
ثم حكى جواب قومه المحجوجين المستكبرين وذلك قولهم ) لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ( أي أحد الأمرين كائن لا محالة إما إخراجكم وإما عودكم إلى الكفر .
وههنا سؤال وهو أن الكفر على الأنبياء محال فكيف يتصور عوده إليه ؟ وهب أن قول الكفار ليس حجة أليس قول شعيب حجة حيث قال ) إن عدنا في ملتكم ( ؟ وأجيب بأن الكلام بني على التغليب ، وأن شعيباً أراد عود قومه إلا أنه نظم نمفسه في جملتهم لما ذكرنا ، أو لعل رؤساؤهم قالوا ذلك تلبيساً على القوم وشعيب أجرى كلامه على وفق ذلك ، أو أنه كان في أوّل أمره يخفي مذهبه فتوهموا أنه على دينهم ، أو أريد بالملة الشريعة التي صارت منسوخة بشرعه ، أو يطلق العود على الابتداء كقوله :
وإن تكن الأيام أحسنّ مرّة
إليّ فقد عادت لهن ذنوب .
شعيب في جوابهم ) أوَلو كنا كارهين ( الهمزة للاستفهام والواو للحال والتقدير : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهيتنا ؟ .
ثم صرح بأنه لا يفعل ذلك فقال ) قد افترينا على الله كذباً ( إن فعلنا ذلك وذلك أن أصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة والبراءة عن الكذب والعود في ملتكم ينافي ذلك .
ومعنى قوله ) بعد إذ نجانا الله منها ( بعد أن علمنا قبحه وفساده ونصب الأدلة على بطلانه ، أو المراد نجى قومه فغلب ، أو المراد على حسب زعمكم زمعتقدكم كما مر .
قال في الكشاف : وقوله ( قد افترينا ( إخبار مقيد بالشرط وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون كلاماً مستأنفاً فيه معنى التعجب كأنهم قالوا : ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام لأن الارتداد أعظم من الكفر حيث إن المرتد يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل وكفره أزيد .
والثاني أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام معناه والله لقد افترينا على الله كذباً ) وما يكون لنا ( أي ما ينبغي لنا وما يصح ) أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ( قال أهل السنة : في الآية دلالة على أن المنجي من الكفر هو الله تعالى وكذا المعيد إليه قال الواحدي : ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ، ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام ) واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام ) [ إبراهيم : 35 ] وكثيراً ما كان يقول(3/286)
" صفحة رقم 287 "
نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك ) وقال يوسف ) توفني مسلماً ) [ يوسف : 101 ] أجابت المعتزلة بوجوه : الأوّل : أن قوله ) إلا أن يشاء ( قضية شرطية أي إن شاء يعد وليس فيه بيان أنه شاء أم أبى .
الثاني : أن هذا على طريق التبعيد والإحالة .
كما يقال لا يفعل ذلك إلا إذا ابيض القار وشار الغراب .
الثالث : لعل المراد ما لو أكرهوا على العود فإن إظهار الكفر عند الإكراه جائز وإن كان الصبر أفضل وما كان جائزاً صح أن يكون مراد الله تعالى كما أن المسح على الخفين مراد الله وإن كان غسل الرجلين أفضل .
الرابع : يحتمل أن يعود الضمير في ) فيها ( إلى قرية .
كأنه قال : إن أخرجتمونا من القرية حرم علينا العود فيها إلا بإذن الله تعال .
الخامس : المشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل فإنه تعالى يريد الكفر من الكافر ولا يجوز فعله إنما الذي يوجب الجزواز هو الأمر فيحتمل أن يراد بالمشيئة ههنا الأمر فيكون التقدير : إلا أن يأمر الله أن نعود إلى شريعتكم المنسوخة ، فإن الشرع المنسوخ لا يبعد أن يأمر الله تعالى بالعمل به مرة أخرى .
السادس : قال الجبائيّ : المراد من الملة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصوم والصلاة ، فمن الجائز أن يكون بعض أحكام الشريعة المنسوخة باقياً فيكون المعنى إلا أن يشاء الله إبقاء بعض تلك الملة فيدلنا عليها .
ثم إن المعتزلة تمسكوا بالآية على صحة قولهم من وجهين : أحدهما : أن قوله ) وما يكون لنا ( معناه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود وذلك يقتضيى أن كل ما شاء تعالى وجوده كان فعلاً جائزاً مأذوناً فيه ، وما كان حراما ممنوعاً منه لم يكن مراد الله تعالى .
وثانيهما : أن قوله ) لنخرجنك ( أو ) لتعودن ( لا وجه للفصل بينهما فإن كان العود بخلق الله كان الإخراج أيضاً بخلقه .
قلت : للسني أن يلتزم ذلك .
أما قوله ) وسع ربنا كل شيء ( فوجه تعلقه بما تقدمه على قول الجبائيّ هو أن التكليف بحسب المصالح فيكون معنى قول شعيب إلا أن يشاء الله إلا أن تختلف المصلحة في تلك العبادات فحينئذ يكلفنا بها والعلم بالمصالح لا يكون إلا بأن وسع كل شيء علماً .
وقالت الأشاعرة : وجه التعلق هو أن القوم لمّا قالوا لنخرجنك أو لتعودن قال شعيب ) وسع ربنا كل شيء علماً ( فربما كان في علمه قسم ثالث : وهو أن يبقينا في القرية مؤمنين ويجعلكم مقهورين خاسرين ويؤكد هذا التفسير قوله عقيب ذلك ) على الله توكلنا ( أي لا على غيره وانتصاب ) علماً ( على التمييز .
وفي قوله ) وسع ( بلفظ الماضي دلالة لعلى أنه تعالى كان في الأزل عالماً بجميع(3/287)
" صفحة رقم 288 "
المعلومات فلا يخرج عن شيء عن مقتضى علمه وهو معنى جفاف الأقلام وطي الصحف لزوم الأحكام وسعادة السعيد وشاقوة الشقي ويعلم من عموم كل شيء أنه علم الماضي والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف يكون .
فهذه أقسام أربعة يقع كل منها .
على أربعة أوجه لأنه علم الماضي كيف كان ، وعلم أنه لو لم يكن ماضياً بل كان حالاً أو مستقبلاً أو معدوماً محضاً فإنه كيف يكون ، وكذا الكلام في الأقسام الأخر فيكون المجموع ستة عشر .
وإذا اعتبر كل منها بحب كل جنس أو نوع أو صنف أو شخص من الجواهر أو الأعراض صار مبلغاً تتحير فيه عقول العقلاء بل تقف دون أوّل قطرة من قطرات بحاره .
ثم إن شعيباً لما أعرض عن الأسباب وارتقى بطريق الت وكل إلى مسببها ختم كلامه بالدعاء قائلاً ) ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ( قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : احكم واقض .
وعن ابن عباس : ما أدري ما معناه حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : تعالى أفاتحك أي أحاكمك .
وجوز الزجاج أن يكون معنى الآية أظهر أمرنا حتى يتضح ونكشف ما بيننا وبين قومنا .
والمراد أن ينزل عليهم عذاباً يدل على كونهم مبطلين وعلى كون شعيب وقومه محقين .
ثم أثنى على الله بقوله ) وأنت خير الفتاتحين ( كما قال ) وهو خير الحاكمين ( قالت الأشاعرة : الإيمان فتح باب الخيرات وهو أشرف صفات المحدثات ، فلو كان موجد الإيمان هو العبد كان خير الفاتحين هو العبد .
وللمعتزلة أن يقولوا : لولا ألطافه المرجحة الداعية لم يوجد الإيمان من العبد فصح أن الله هو خير الفاتحين .
ثم بيّن أن رؤساء قوم شعيب لمن يقتصروا على الضلال بل بادروا إلى الإضلال قائلين لمن دونهم ) لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون ( أي في الدين أو في الدنيا لأنه يمنعكم من ازداياد الأموال بطريق البخص والتطفيف ) فأخذتهم الرجفة ( قد سبق تفسيرها ) الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها ( يقال غني القوم في دارهم إذ طال مقامهم فيها .
والمغاني المنازل إذا كان فيها أهلها .
وقال الزجاج : أي كأن لم يعيشوا فيها مستغنين من الغنى الذي هو ضد الفقر .
وعلى التفسيرين شبه حال المكذبين بحال من لم يكن قط في تلك الديار كقوله : ( كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر .
قال في الكشاف ) الذين كذبوا ( مبتدأ خبره ) كأن لم يغنوا ( وكذلك ) كانوا هم الخاسرين ( وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل : الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في ديارهم لأن الذين اتعبوا شعيباً قد أنجاهم ) الذين كذبوا شعيباً ( هم المختصون بالخسران العظيم دون أتباع فإنهم الرابحون ، وفي هذا الاستئناف والابتداء والتكرير مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم(3/288)
" صفحة رقم 289 "
وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم .
قلت : والعرب قد تكرر للتفخيم والتعظيم فتقول : أخوك الذي ظلمنا أخوك الذي أخذ أموالنا أخوك الذي هتك أعراضنا .
وأيضاً إن القوم لما قالوا ) لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون ( بيّن الله تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه وهم الخاسرون .
وفي الآية فوائد أخرى منها : أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة وإلا حصل في أتباع شعيب كما حصل في حق الكفار .
ومنها أن ذلك الفاعل عليم بالجزئيات حتى يمكنه تالتمييز بين المطيع والعاصي .
ومنها أن يكون معجزة لشعيب حيث وقع ذلك العذاب على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلد واحد ) فتولى عنهم ( قد تقدم أن هذا التولي جائز أن يكون قبل نزول العذاب وجائز أن يكون بعده .
قال الكلبي : خرج من بينهم ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بين أظهرهم .
ولما اشتد حزنه على قومه من جهة الوصلة والقرابة والمجاورة وطول الإلفة لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منم الإجابه للإيمان عزّى نفسه وقال ) فكيف آسى على قوم كافرين ( لأنهم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر .
والأسى شدة الحزن .
وقيل : المراد لق دأعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصيحتي فكيف آسى عليكم لأنكم لستم مستحقين لذلك ؟ .
التأويل : ( ولا تبخسوا ( فيه أن البخاسة والدناءة والحرص والظلم من الصفات التي يجب تزكية النفس عنها فإن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها .
) ولا تفسدوا في الأرض ( أرض الطبيعة التي جبل الإنسان عليها ) ولا تقعدوا بكل صراط ( لا تقطعوا الطريق على الطالبين بأنواع الحيل والمكايد .
) إذ كنتم قليلاً فكثركم ( بالتناصر والتعاون في الأمور وبكثرة العدد والعدد نعمة تامة يجب أن تصرف في إعلاء كلمة الدين ) وإن كان طائفة منكم ( أي الروح والقلب ) وطائفة لم يؤمنوا ( وهم النفس وصفاتها ) وهو خير الحاكمين ( لا يجعل الروح والقلب المؤمنين تبعاً للنفس الكافرة في العذاب وإذاقة ألم الهجران ) أو لتعودن في ملتنا ( إشارة إلى أن كل جنس لا يميل إلا إلى أشكاله وإلا وجد في إيابه من يأمن نهج أضرابه ) بعد إذ نجانا الله منها ( في القسمة الأزلية ) افتح بيننا ( احكم بيننا وبينهم بإظهار حقيقة ما قدرت لنا من خاتمة الخير وإظهار ما قدرت لهم من خاتمة السوء ) فأخذتهم الرجفة ( فصارتصورتهم نبعاً لمعناهم فإنهم كانوا جاثمي الأرواح في ديار الأشباح ) كأن لم يغنوا فيها ( لأن الباطل زاهق لا محالة .
( الأعراف : ( 94 - 102 ) وما أرسلنا في . . . .
" وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا(3/289)
" صفحة رقم 290 "
مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين "
( القراآت )
لفتحنا ( بالتشديد : ابن عامر ويزيد ) أو أمن ( بسكون الواو : أو جعفر ونافع غير ورش ، وابن عامر وابن كثير غير ابن فليح ، وقرأ ورش بنقل حركتها إلى الساكن قبلها ) أو لم نهد ( النون حيث كان : زيد عن يعقوب .
الباقون : بالياء التحتانية ) رسلهم ( بسكون السين حيث كان : أبو عمرو .
الوقوف : ( يضرعون ( ه ) لا يشعرون ( ه ) يكسبون ( ه ) نائمون ( ه لمن قرأ ) أو أمن ( بفتح الواو على أن الهمز للاستفهام ، ومن سكن الواو فلا وقف لأن ( أو ) للعطف ) يلعبون ( ه ) مكر الله ( ج للفصل بين الإخبار والاستخبار مع أن الفاء للتعقيب .
) الخاسرون ( ه ) بذنوبهم ( ج للفصل بين الماضي والمستقبل والتقدير : نحن نطبع مع اتحاد القصة .
) لا يسمعون ( ه ) من أنبائها ( ج لعطف المختلفتين ) بالبينات ( ط لأن ضمير ) فما كانوا ليؤمنوا ( لأهل مكة وضمير .
) جاءهم ( للأمم الماضية مع أن الفاء توجب الاتصال ) من قبل ( ط ) الكافرين ( ه ) من عهد ( ج لعطف الجملتين المختلفين ) لفاسقين ( ه .
التفسير : إنه سبحانه لما عرّفنا أحوال هؤلاء الأنبياء وما جرى على أممهم ذكر ما يدل على أن هذا الجنس من الهلاك قد فعله بغيرهم وليس مقصوراً عليهم ، وبيّن العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعل .
والقرية مجتمع القوم فتشمل المدينة أيضاً وتقدير الكلام : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء .
قال الزجاج : البأساء الشدة في الأموال والضراء الأمراض في الأبدان .
وقيل بالعكس ) لعلهم يضرعون ( أي يتضرعون فأدغم التاء في الضاد والمعنى : ليحطوا أردية التعزز والاستكبرا ويتبعوا نبيهم .
ثم بيّن أن(3/290)
" صفحة رقم 291 "
تدبيره في أهل القرى لا يجري على نمط واحد فقال ) ثم بدلنا مكان السيئة ( وهي كل ما يسوء صاحبه ) الحسنة ( وهي ما يستحسنه الطبع والعقل أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من الفقر والضر السعة والصحة ) حتى عفوا ( كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم عفا النبات والشحم والوبر ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وأعفوا اللحى ) ) وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء ( كما هو دأب الأشرين يقولون هذه عادة الدهر في أهله يوم محنة ويوم منحة .
والمراد أنهم لم ينتفعوا بتدبير الله تعالى فيهم من رجاء بعد شدّة وأمن بعد خوف وراحة بعد عناء ) فأخذناهم بغتة ( آمن ما كانوا عليه ليكون ذلك أعظم من الحسرة ) وهم لا يشعرون ( بنزول العذاب .
والحكمة في جميع هذه الحكايات اعتبار من سمعها ووعاها وتعريف أن العصيان سبب الحرمان عن الخيرات وسد لجميع أبواب السعادات ولهذا قال ) ولو أن أهل القرى ( أي جنسها أو القرى المذكورة في قوله وما أرسلنا في قرية ) آمنوا ( بما يجب به الإيمان في باب المبدأ والمعاد ) واتقوا ( كل ما نهى الله عنه ) لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ( أي لأتيناهم بالخير من كل وجه أو أراد القطر والنبات .
والمراد بفتح البركات عليهم تيسير أسباب النجاح كقولهم : تفتحت على القارىء إذا يسرت القراءة عليه بالتلقين ) ولكن كذبوا الرسل فأخذناهم ( بالجذب والمحل وهو ضد البركة والخير ) بما كانا يكسبون ( أي بشؤم كسبهم وهو الكفر والمعاصي .
ثم خوف المكلفين نزول العذاب عليهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل وحال الضحى بالنهار ، لأنه الوقت الذي يغلب على المرء في التشاغل باللذات والمهمات فقال ) أفأمن ( قال في الكشاف : الهمزة للإنكار والفاء للعطف على قوله ) فأخذناهم بغتة ( والآية بينهما اعتراض والتقدير : أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً ، وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى ؟ فلهذا عطف الثانية بالواو .
وأما قوله ) أفأمنوا مكر الله ( فتكرير لقوله ) أفأمن أهل القرى ( فلهذا رجع فعطف بالفاء .
قلت : يجوز أن يقدّر المعطوف عليه بعد الهمزة والمعنى : أفعلوا ما فعلوا فأمن وأما من قرأ ( أو ) ساكنة فمعناه إما أحد الشيئين ويرجع المعنى إلى قولنا فأمنوا إحدى هذه العقوبات ، وإما للإضراب كما تقول : أنا أخرج ثم تقول أو أقيم .
على أن المراد هو الإضراب عن الخروج وإثبات للإقامة أي لا بل أقيم .
ومعنى ) بياتاً ( قد تقدم في أوّل السورة .
و ) ضحى ( نصب على الظرف قال الجوهري : ضحوة النهار بعد طولع الشمس ثم بعده الضحى وهو حين تشرق(3/291)
" صفحة رقم 292 "
الشمس مقصورة ، وتذكر على أنه مفرد كصرد وتؤنث على أنها جمع ضحوة .
ثم بعده الضحاء ممدوداً مذكراً وهو عند ارتفاع النهار الأعلى .
في قوله ) وهم يلعبون ( يحتمل التشاغل بما لا يجدي عليهم من أمور الدنيا فهي لهو ولعب ، ويحتمل خوضهم في كفرهم لأن ذلك كاللعب في أنه يضر ولا ينفع .
ومكر الله كما تقدم في آل عمران عذاب بعد الاستدراج أو سمي جزاء المكر مكراً .
وعن الربيع بن خثيم أن ابنته قالت له : ما لي أرى الناس ينامنون ولا أراك تنام ؟ قال : يا بنتاه إن أباك يخاف البيات يعني المذكور في الآية .
اللهم اجعلنا من الخائفين العاقلين لا من الآمنين الغافلين .
ثم لما بيّن حال المهلكين مفصلاً ومحلاً ذكر أن الغرض من القصص حصول العبرة للباقين فقال ) أولم يهد ( من قرأ بالياء ففاعله ) أن لو نشاء ( والمعنى : أو لم يهد الذين يخلفون أولئك المتقدمين فيرثون أرضهم وديارهم هذا الشأن وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي بعقابها كما أصبنا من قبلهم .
ومن قرأ بالنون فقوله ) أن لو نشاء ( منصوب والهداية بمعنى التبيين على القراءتين ولهذا عُدّي فعلها باللام ، والمفعول على القراءة الأولى محذوف والتقدير : أولم يكشف لهم الحال والشأن المذكور .
وأما قوله ) ونطبع على قلوبهم ( فإما أن يكون منقطعاً عما قبله بمعنى ونحن نطبع كما مر في الوقوف ، وإما أن يكون متصلاً بما قبله .
قال الكشاف : وذلك هو يرثون أو ما دلّ عليه معنى ) أولم يهد ( كأنه قيل : يغفلون عن الهداية ونطبع .
ثم قال : ولا يجوز أن يكون معطوفاً على ) أصبناهم ( و ) طبعنا ( لأن القوم كانوا مطبوعاً على قلوبهم فيجري مجرى تحصيل الحاصل ولقائل أن يقول : لا يلزم من المذكور وهو كونهم مذنبني أن يكونوا مطبوعين ، فاقتراف الذنوب غير الطبع لأن يذنب أوّلاً أو يكفر ثم يستمر على ذلك فيصير مطبوعاً على قلبه .
وأيضاً جاز أن يراد لو شئنا لزدنا في طبعهم أو لأدمناه والله سبحانه أعلم بمراده .
ثم أخبر عن الأقوام المذكورين تسلية لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ) تلك القرى ( وهي مبتدأ وخبر .
وقوله ( يقص ( حال والعامل معنى اسم الإشارة ، أو خبر بعد خبر ، أو ) القرى ( صفة ل ) تلك ( و ) نقص ( خبر .
وفائدة الإخبار على هذا التقدير ظاهرة .
وأما على الأوّلين فترجع الفائدة إلى الحال أو الخبر الثاني كما ترجع إلى الصفة في قولك : هو الرجل الكريم .
الحاصل أن تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك ، وأيضاً خصصنا تلك القرى بقصص بعض أنبائها لأنهم اغتروا بطول الأمهال مع كثرة النعم وكانوا أقرب الأمم إلى العرب فذكرنا أحوالهم تنبيهاً على الاحتراز عن مثل أعمالهم .
ثم عزى رسوله بقوله ) ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا ( من قبل اللام لتأكيد النفي(3/292)
" صفحة رقم 293 "
وأن الإيمان كان منافياً لحالهم .
قال ابن عباس والسدي : فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بسبب تكذيبهم يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم أقروا باللسان كرهاً وأضمروا التكذيب .
وقال الزجاج : فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات بما كذبوا به من قبل رؤية تلك المعجزات .
وعن مجاهد فما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد الإهلاك ورردناهم إلى دار التكليف بما كذبوا من قبل كقوله ) ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) [ الأنعام : 28 ] وقيل : فما كانوا ليؤمنوا عندخ مجيء الرسل بما كذبوا من قبل مجيئهم .
وقيل : ما كانوا ليؤمنوا في الزمان المستقبل بما كذبوا به في الزمان الماضي أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إلى أن ماتوا مصرين لم ينجع فيهم تكرير المواعظ وتتابع الآيات ) كذلك ( أي مثل ذلك الطبع الشديد ) يطبع الله على قلوب الكافرين ( الذي كتب أن لا يؤمنوا أبداً .
والطبع والختم والرين والكنان والغشاوة والصد والمنع واحد كما سلف .
وقال الجبائي : هو أن يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن صاحبها لا يؤمن .
وقال الكعبي : إنما أضاف الطبع إلى نفسه لأجل أن القوم إنما صاروا إلى ذلك الكفر عند مره وامتحانه فهو كقوله تعالى ) فلم يزدهم دعائي إلا فراراً ) [ نوح : 6 ] ثم شرح حال المكلفين فقال ) وما وجدنا لأكثرهم من عهد ( والضميرللناس على الإطلاق .
قال ابن عباس : يعني بالعهد قوله للذر ) ألست بربكم ) [ الأعراف : 172 ] أقروا به ثم خالفوا .
عن ابن مسعود هو الإيمان كقوله ) إلا من اتخذ عند الرحمن عهد ) [ مريم : 87 ] يعني من قال لا إله إلا الله .
وقيل : العهد عبارة عن الأدلة على التوحيد والنبوّة والمراد الوفاء بالعهد ) وإن وجدنا ( هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة في قوله ) لفاسقين ( وقد عملت في ضمير شأن مقدر والتقدير : وإن الشأن والحديث علمنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والآية اعتراض .
ويحتمل أن يعود الضمير على الأمم المذكورين كانوا إذا عاهدوا الله في ضرر ومخافة لئن أنجيتنا لنؤمنن نكثوه بعد كشف الضر .
التأويل : ( إلا أخنذا أهلها بالبأساء والضراء ( الوفي يتضرع إليه عند البلاء ويتوكل عليه والعدوّ يذهل عن الحق ولا يرجع إليه ) ولو أن أهل القرى ( يعني صفات النفس ) آمنوا ( بما يرد إلى صفات القلب والروح من ألطاف الحق ) واتقوا ( مشتبهات النفس ) فتحنا عليهم ( أٍباب العواطف من سماء الروح وأرض القلب ) فأخذناهم ( عاقبناهم بعذاب البعد ) بما كسبوا ( من مخالفات الحق وموافقات الطبع ) بياتاً ( في صور القهر ) ضحى ( في صورة اللطف بسطوات الجذبات ) وهم يلعبون ( يشتغلون بالدنيا .
) إلا القوم الخاسرون ( من أهل القهر هم الذين خسروا سعادة الدارين من أهل اللطف هم(3/293)
" صفحة رقم 294 "
الذين خسروا الدنيا والعقبى وربحوا المولى ) أولئك هلم الأمن وهم مهتدون ( .
( الأعراف : ( 103 - 126 ) ثم بعثنا من . . . .
" ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين "
( القراآت )
حقيق على ( بالتشديد : نافع .
الباقون : بالتخفيف ) معي ( بفتح الياء حث كان : حفص ) أرجه ( بإسكان هاء الضمير : حمزة وعاصم غير المفضل ) أرجه ( بكسر الجيم والهاء من غير إشباع يزيد وقالون ) أرجهي ( بالإشباع : نافع غير قالون وعلي وعباس وخلف المفضل ) أرجئه ( بالهمزة : أبو عمرو غير عباس وسهل ويعقوب وابن الأخرم عن ابن ذكوان وهشام غير الحلواني ) أرجئهوا ( بالإشباع : ابن كثير والحلواني عن هشام ) أرجئه ( بكسر الهاء : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ) سحار ( بالمبالغة : حمزة وعلي وخلف وكذلك في يونس .
وقرأ قتيبة ونصير والدوري وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو بالإمالة .
البقون ) ساحر ( .
) أن لنا ( بحذف همزة والاستفهام : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وحفص .
) أئن لنا ( بإثبات همزة الاستفهام : عاصم غير حفص وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام .
يدخل بينهما مدة ) آين لنا ( المدة وقلب الهمزة ياء :(3/294)
" صفحة رقم 295 "
أبو عمرو وزيد .
) أين لنا ( بالياء ولا مدة : سهل ويعقوب غير زيد ) تلقف ( بالتخفيف حيث كان : حفص ولمفصل ) تلقف ( بالتشديد وإدغام التاء الأولى في الثانية : البزي وابن فليح .
الباقون : بتشديد القاف وحذف تاء التفعل .
) آمنتم ( بهمزة واحدة ممدودة : حفص .
) أأمنتم ( بزيادة همزة الاستفهام : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص .
) آمنتم ( بالمد وتليين الهمزة : أبو جعفر ونافع وابن عارم وأبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير غير الهاشمي وابن مجاهد وأبي عون عن قنبل ) فرعون وآمنتم ( بالواو الخالصة : الهاشمي عن قنبل ) وآمنتم ( بالواو وتحقيق الهمزة الأولى : ابن مجاهد وأبو عون والهرندي عن قنبل .
الوقوف : ( فظلموا بها ( ج للفصل بين الخبر والطلب مع العطف بالفاء ) المفسدين ( ه ) العالمين ( ه ج وقف لمن قرأ ) حقيق عليّ ( بالتشديد أي واجب عليّ ، ومن قرأه مخففاً جاز له الوصل على جعل ) حقيق ( وصف الرسول و ( على ) بمعنى الباء ) إلا الحق ( ط ) بني إسرائيل ( ط ) الصادقين ( ه ) مبين ( ه للفصل بين الجملتين والوصل أجود للجميع بني الحجتين ) للناظرين ( ه ) عليم ( ه لا لأن ما بعده وصف لساحر ) من أرضكم ( ج لاحتمال أن ما بعده من تمام قول الملأ لفرعون وحده ، والجمع للتعظيم أوله ولعظمائه حضرته ، وأن يكون ابتداء جواب من فرعون أي فماذا تشيرون ) قاهرون ( ه ) حاشرين ( ه لا لأن ما بعده جواب الأمر ) عليم ( ه ) الغالبين ( ه ) المقربين ( ه ) الملقين ( ه ) ألقوا ( ج للعطف ) عظيم ( ه ) عصاك ( ط لحق لمحذوف لأن التقدير فألقاها فإذا هي ) ما يأفكون ( ه ) وكذلك يعملون ( ه ) صاغرين ( ه ج لمكان حروف العطف ) ساجدين ( ه ج لاحتمال كون ) قالوا ( حالاً بإضمار ( قد ) ) العالمين ( ه لا للبدر ) هرون ( ه ) آذن لكم ( ج للابتداء مع اتحاد القائل ) أهلها ( ج لأن ( سوف ) للتهديد مع العطف ) تعلمون ( ه ) أجمعين ( ه ) منقلبون ( ه للآية مع اتحاد المقول ) جاءتنا ( ط للعدول عن المحاباة إلى المناجاة ) المسلمين ( ه .
التفسير : القصة السابعة من قصص هذه السورة قصة موسى عليه السلام .
وقد ذكر في هذه القصة من البسط ولتفصيل ما لم يذكر في غيرها لأن جهل قومه أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام ولهذا كانت معجزاته أقوى من معجزات متقدميه من الأنبياء .
والضمير في قوله ) ثم بعثنا من بعدهم ( يعود إلى الرسل أو إلى الأمم المذكورين ، في قوله ) بآياتنا ( دلالة على كثرة معجزاته وأن النبي لا بد له من آية ومعجزة بها يمتاز عن المتنبي .
) فظلموا بها ( أي بتلك الآيات والمراد كفرهم بها لأن وضع الإنكار في موضع(3/295)
" صفحة رقم 296 "
الإقرار وإيراد الكفر بدل الإيمان وضع للشيء في غير موضعه ، أو تظلموا الناس بسببها حين أوعدوهم وصدوهم عنها وأذوا من آمن بها .
) وانظر ( أيها المعتبر المستبصر بعين بصيرتك ) كيف كان عاقبة المفسدين ( كيف فعلنا بهم ؟ وهذه قصة إجمالية ثم شرع في تفصيلها وذلك قوله ) وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين ( أي إله قادر عليم حكيم .
وفيه أن العالم موصوف بصفات لأجلها افتقر إلى رب يربيه ) حقيق على أن لا أقول ( من قرأ بالتشديد في ) عليّ ( و ) حقيق ( إما بمعنى فاعل أي واجب عليّ ترك القول على الله إلا بالحق ، أو بمعنى مفعول أي حق عليّ ذلك .
تقول العرب إني لمحقوق علي أن أفعل خيراً .
وأما قراءة العامة ) حقيق علي أن لا أقول ( مرسلة الياء ففيه وجوه أحدها : أن يكون ( علي ) بمعنى ( الباء ) كقولهم جئت على حال حسنة وبحال حسنة ، قال الأخفش : وهذا كما قال ) ولا تقعدوا بكل صراط ) [ الأعراف : 86 ] أي على كل صراط ويؤكد هذا الوجه قراءة أبيّ ) حقيق بأن لا أقول ( أي أنا خليق بذلك : وثانيها : أن الحق هو الدائم الثابت الحقيق مبالغة فيه ، وكل ما لزمك فقد لزمته فكأن المعنى أنا ثاب مستمر على أن لا أقول إلا الحق .
ثالثها : أن يضمن حقيق معنى حريص .
ورابعها : أن يكون من القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس فيؤل المعنى إلى قراءة نافع .
وخامسها : أن يكون إغراقاً في الوصف ومبالغة بالصدق والمراد أنا حقيق على قول الحق أي واجب عليذ أن أكون أنا قائله والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به .
وسادسها : أن يكون على هذه هي التي تقرن بالأوصاف اللازمة الأصلية كقوله تعالى ) فطرة الله التي فطر الناس عليها ) [ الروم : 30 ] ويقال : جاءني فلان على هيئته وعلى عادته وعرفته وتحققته على كذا وكذا من الصفات .
فمعنى الآية لم أتحقق إلا على قول الحق .
ولما كان ظهور المعجزة على وفق الدعوى دالاً على وجود الإله القادر المختار وعلى تصديق الرسول جميعاً قال ) قد جئتكم ببينة من ربكم ( أي بمعجزة قاهرة باهرة منه .
ثم فرع عليه تبليغ الحكم وهو قوله ) فأرسل معي بني إسرائيل ( أي أطلقهم وخل سبيلهم حتى يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم .
وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرضت الأٍباط غلب فرعون نسلهم واستعبدهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة ) قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين ( فيه سؤالان : أحدهما لفظي وهو أن القائل : إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمة زيداً .
وثانيهما : أن قوله ) إن كنت جئت بآية ( وقوله ( فأت بها ( كلاهما واحد في المعنى فكيف يفيد تعليق أحدهما بالآخرة ؟ وجوابه المنع إذ المراد إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فأحضرها لتصح دعواك .
ثم(3/296)
" صفحة رقم 297 "
إن فرعون لما طالب موسى عليه السلام بإقامة البينة الدالة على وجود الرب وعلى صحة نبوته قلب العصا ثعبناً وأظهر اليد البيضاء وذلك قوله سبحانه ) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ( ومعنى كون الثعبان مبيناً أن أمره ظاهر لا يشك في أنه ثعبان ليس مما جاءت به السحرة من التمويهات وإنما هو من قبيل المعجزات .
أو المراد أنه أبان قول موسى عن قول المدعي الكاذب والثعبان فياللغة الحية الضخم الذكر .
روي أنه كان أشقر فاغراً فاه بين لحييه ثمانون ذراعاً وضع لحيه الأسفل على الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون ليأخذه فوثب فرعون من سريره وهرب وصاحوا وحمل على الناس فانهزموا ومات منهم خمسة وعشرون ألفاً ، ودخل فرعون البيت وصاحوا يا موسى خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل ، فأخذه موسى فعاد عصاً .
والنزع في اللغة القلع والإخراج أن أخرجها من جيبه أو من جناحه بدليل قوله في موضع آخر ) وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء ) [ النمل : 12 ] روي أنه أرى فرعون يده وقال : ما هذه ؟ فقال : يدك .
ثم أدخلها في جيبه وعليه مدرعة صوف ثم نزعها فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً غلب شعاعها الشمس ، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة وقوله ( للناظرين ( يتعلق ببيضاء فإنها لا تكون بيضاء للناظرين إلا إذا كان بياضها عجيباً خراجاً عن العادة اجتمع الناس للنظر إليه كما يجتمعون للعجائب .
واعلم أن القول بجواز انقلاب العادات عن مجاريها مقام صعب مشكل ولهذا اضطربت أقوال العلماء فيه ؛ فالأشاعرة جوّزوا ذلك على الإطلاق بنا على القول بالفاعل المختار فجوّزوا في الإنسان وسائر أنواع الحيوان أن يتولد دفعة واحدة من غير سابقة مادة ومدة ، وجوّزوا في الجوهر الفرد أن يكون حياً عالماً قادراً قاهراً من غير حصول بنية ولا مزاج ، وجوّزا في الأعمى الذي بالأندلس أن يبصر في ظلمة الليل البقة التي تكون بأقصى المشرق وفي سليم البصر أن لا يرى الشمس في كبد السماء من غيرحائل .
والمعتزلة جوّزا انخراق العادات في بعض الصور دون بعض من غير ضابط ولا قانون اللهم إلا أن يحال على الشرع ، والطبيعيون المتفلسفون أنكروا ذلك على إطلاق وزعموا أنه لا يجوز حدوث الأشياء ودخولها في الوجود إلا على هذا الوجه المخصوص والطريق المعين والإلزام فتح باب الجهالات فإنه إذا جاز أن تنقلب العصا ثعباناً جاز في الشخص الذي شاهدناه كموسى وعيسى ومحمد مثلاً أنه ليس هو الشخص الأوّل وهذا يوجب القدح في النبوّة والرسالة .
فإن زعم زاعم أن هذه الأمور تختص بزمان دعوة الأنبياء .
قلنا : المخصص في ذلك(3/297)
" صفحة رقم 298 "
الزمان لا يعرف إلا بدليل غامض ، وكل من لا يقف على ذلك الدليل يقع في تيه الإشكال والضلال مع أن زمان جواز الكرامات لا ينقرض عندكم أبداً فلا ينقضي التجويز سرمداً .
هذا وإنما جمع بين العصا واليد مع أن المعجز الواح كافٍ لأن كثرة الدلائل توجب مزيد اليقين .
قال بعض المتحذلقين : هما شيء واحد والمراد أن حجة موسى كانت قوية ظاهرة فمن حيث إن الحجة أبطلت أقوال المخالفين كانت كالثعبان الذي يلقف ما يأفكون ، ومن حيث إنها كانت ظاهرة في نفسها وصفت باليد البيضاء كما يقال لفلان يد بيضاء ف الأمر الفلاني أي قوّة كاملة ومرتبة ظاهرة .
والتحقيق أن انقلاب العصا وغير ذلك أمور ممكنة في ذواتها لأن الأجسام متماثلة في الجسمية فكل ما صح على شيء صح على مثله والله سبحانه قادر على كل الممكنات ، فكل ما ثبت وقوعه بالتواتر وجب قبوله من غير تأويل ودفع ، ثم أن السحر كان غالباً في ذلك الزمان وكانت السحرة متفاوتين في ذلك ، فزعم أتباع فرعون أن موسى عليه السلام كان لكونه في النهاية من علم السحر أتى بتلك الصفة وأنه كان يطلب بذلك الملك والرياسة وذلك قوله سبحانه ) قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم ( ولا ينافي هذا ما حكاه الله تعالى في سورة الشعراء أنه قال ذلك فرعون ، فإنه يحتمل صدور هذا القول في تلك الحالة منه ومنهم أو لعل فرعون قاله ابتداء فتلقفه المأ فقالوه لغيرهم ، أو قالوا عنه لسائر الناس على طريق التبليغ فأن الملوك إذا رأو رأياً ذكروه للخاصة وهم يذكرونه للعامة .
والأظهر أن قوله ) فماذا تأمرون ( من كلام فرعون إما لأن الأمر لا يجوز أن يكون من الأدنى للأعلى ، أو لأنه من قولهم أمرته فأمرني بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأي ولهذا قال الملأ في جوابه ) أرجه وأخاه ( أي أخر أمره وأمر أخيه ولا تعجل بقضاء في شأنهما فتصير عجلتك حجة عليك .
قال الجوهري : أرجأت الأمر وأخرته يهمز ولا يهمز .
وعن الكلبي وقتادة أن المعنى أحسبه ، وزيف بأنه خلاف اللغة إلا أن يقال حبس المرء نوع من التأخير في أمره وبأن فرعون ما كان يظن أنه قادر على حبس موسى بعد مشاهدة حال العصا .
) وأرسل في المدائن حاشرين ( أي جامعين جمع مدينة وهي فعيلة من مدن بالمكان يمدن مدوناً إذا أقم به ، ولهذا أطبق القراء على همز ) مدائن ( لأنه كصحائف .
وقيل : إنها مفعلة من دنت أي ملكت وكأن هذا القائل لا يهمز مدائن .
وقال المبرد : أصلها مديونة من دانه إذا قهره وساسه ، فُعِلَ بها ما فعل بنحو ( مبيع ( في ) مبيوع ( وليس المراد مدائن الأرض كلها ولكن المقصود مدائن صعيد مصر .
وقال ابن عباس : وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد ) يأتوك بكلّ سحار ( الباء بمعنى ) مع ( أو للتعدية .
قيل : كانا سبيعن ساحراً سوى رئيسهم .(3/298)
" صفحة رقم 299 "
وقيل : بضعة وثلاثين ألفاً .
وقيل : سبعين ألفاً .
وقيل ثمانين ألفاً وقيل : كان يعلمهم مجوسيان من أهل نينوى قرية بقرب الموصل .
وضعف بأن المجوس من أتباع زرادشت وهو إنما جاء بعد موسى .
وفي الآية دلالة على كثرة السحرة في ذلك الزمان ولهذا كانت معجزة موسى شبيهة بالسحر وإن كانت مخالفة في الحقيقة كما أن الطب لما كان غالباً على أهل زمن عيسى كانت معجزته من جنس ذلك كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وكانت الفصاحة والبلاغة غالبة في عصر نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) فلا جرم كانت معجزته العظمى وهي القرآن من جنس الفصاحة ، وتحقيق السحر وسائر ما يتعلق به قد رمر في سورة البقرة فليتذكر ) وجاء السحرة فرعون قالوا ( لم يقل فقالوا بناء للكلام على سؤال مقدر كأن سائلاً سأل ما قالوةا إذ جاءوه ؟ فأجيب رقالوا إن لنا لأجراً ( أي جعلاً على اغلبة والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلاً وإن له لغنماً يقصدون الكثرة ) قال نعم ( أي إن لكم أجراً ) وإنكم لمن المقربين ( أراد إني لا أقتصر لكم على الثواب بل لكم مع ذلك ما يقل معه الثواب وهو التقريب والتكريم لأن الثواب إنما يهنأ إذا كان مقروناً بالتعظيم .
روي أنه قال لهم تكونون أوّل من يدخل وآخر من يخرج .
وروي أنه دعا برؤساء السخرة فقال لهم : ما صنعتم ؟ قالوا قد عملنا سحراً لا يطيقة سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به .
وفي الآية إشارة إلى أن أهل السحر ليسوا قادرين على قلب الأعيان وإلا قلبوا لاحجر ذهباً بل قلبوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولم يطلبوا منه الأجر ، فعلى العاقل أن لا يغترّ بأكاذيبهم ومزخرفاتهم .
ثم إن السحرة راعوا حسن الأدب فخيروا موسى أوّلاً وقدموه في الذكر ثانياً حيث قالوا ) يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ( كما هو دأب المتناظرين والمتصارعين ، مع أن في قولهم ) وإما أن كون نحن ( بالأمر أليق منه بالخبر .
وبدليل قوله ) والله مع الصابرين ( وفيه ترغيب في الثبات على الجهاد .
فمعنى الآية إذن أن يكن منكم عشرون فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يغلبوا مائتين ، ثم الصبر لا يحصل إلا بكونه شديد الأعضاء قوياً جلداً شجاعاً غير جبان ولا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة ، وعند حصول هذه الأمور كان يجب الواحد أن يثبت للعشرة لما سبق من وعد النصر في قوله ) حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) [ الأنفال : 64 ] وإنما كرر العشرين وما كانت تزيد على المائة فورد على وفق الواقعة ، وإما في الكرة الثانية فإنما كررت النسبة للطباق ولكيون فيه بشارة وإشارة إلى أن عدد عسكر الإسلام سيؤول من العشرات والمئات إلى الألوف والله أعلم بمراده .
ثم بين السبب(3/299)
" صفحة رقم 300 "
في الغلبة فقال ) بأنهم قوم لا يفقهون ) [ الأنفال : 65 ] أي بسبب أن الكفار قوم جهلة لا يعرفون معاداً وقد انحصرت السعادة عندهم في هذه الحياة العاجلة .
وأيضاً إنهم يعولون على قوتهم وشوكتهم والمسلمون بتوكلون على ربهم ويستغيثونه ويتوقعون منه إنجاز ما وعد من النصر والتأييد ، ووجه آخر هو أن أهل العلم والمعرفة يكون لهم في أعين الناس هيبة وحشمة ويكونون في أنفسهم أقوياء أشداء لما تجلى عليهم من أنوار المعرفة والبصيرة يعرف ذلك أصحاب العلوم وأرباب المعارف بخلاف الجهلة الذين لا بصيرة لهم ولا نور .
قال عطاء : عن ابن عباس لما نزل التكليف الأول ضج المهاجرون وقالوا : يا رب نحن جياع وعدوّنا شباع ونحن في غربة وعدونا في أهليهم .
وقال الأنصار .
شغلنا بعدوّنا وواسينا إخواننا .
وعن ابن جريج كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد للعشرة وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث حمزة في ثلاثين راكباً قبل بدر فلقي أبا جهل في ثلثمائة راكب وأردوا قتالهم فمنعهم حمزة .
وبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان وكان في جماعة وابتدر عبد الله فقال : يا رسول الله صفه لي فقال : إنك إذا رأيته ذكرت الشيطان ووجدت لذلك قشعريرة .
وبلغني أنه جميع لي فأخرج إليه وأقتله ، فلما خرجت تعميمة للمأفوك بالإفك .
قال المفسرون : لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً وابتلغت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم ، فلما أخذها موسى صارت عصاً كما كانت من غير تفاوت في الحجم والمقدار أصلاً ، فلعل الله سبحانه أعدم بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرقها أجزاء لطيفة ثم قال سبحانه وتعالى ) فوقع الحق ( .
قال مجاهد والحسن : ظهر ، وقال الفراء : فتبين الحق من السحر .
وقيل : الوقوع ظهور الشيء ووجوده نازلاً إلى مستقرو .
وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا : لو كان ما صنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد ، ولما فقدت ثبت أن ذلك بخلق الله وتقديره وبهذا تميز المعجزة عن السحر .
وقال القاضي : معناه قوة الظهور بحيث لا يصح فيه نقيضه كما لا يصح في الواقع أن يصير لا واقعاً .
ومع ثبوت هذا الحق زالت الأعيان التي أفكوها وهي تلك الحبال والعصي وذلك قول ) وبطل ما كانوا يعملون ( أي الذي عملوه أو عملهم ) فغلبوا هنالك ( أي حين التحدي ) وانقلبوا صاغرين ( لأنه لا ذل ولا صغار أعظم من حق المبطل من دحض حجته .
روي أن تكل الحبال والعصي كانت حمل ثلثمائة بعير ، فلما ابتلعها ثعبان موسى وصارت عصاً كما كانت قال بعض السحرة لبعض : هذا خارج عن حد السحر وإنما هو أمر إلهي .
قال المحققون : إنهم لأجل كمالهم في علم السحر ميزوا السحر عن غيره فانتقلوا ببركة ذلك من الكفر إلى الإيمان ، فما ظنك بالإنسان(3/300)
" صفحة رقم 301 "
الكامل في علم التوحيد والشريعة والحكمة .
وفي قوله ) وألقي السحرة ساجدين ( دليل على أن ملقياً أقاهم وما ذاك إلا الله سبحانه الموجد للدواعي والقدر .
وقال لأخفش .
من سرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقاهم غيرهم لأنهم لم يتمالكوا أن قوعوا ساجدين .
قال بعض العلماء : الإيمان مقدم على السجود فكيف نقل عنهم أنهم سجدوا ثم قالوا آمنا برب العالمين ؟ وأجيب بأنه لا يبعد أنهم عند الذهاب إلى السجود قالوا ذلك ، أو أنهم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله في الحال شكراً على الفوز بذلك وإظهاراً للخشوع والتذلل وإقراراً باللسان بعد التصديق بالجنان .
قال المفسرون : لما قالوا آمنا برب العالمين قال فرعن : إياي يعنون .
فملا قالوا ) رب موسى ( قال : إياي يعنون لأني أنا الذي ربيته فلما أفردا بالذكر من جملة العالمين ليعلم أن الداعي إلى إيمانهم هو موسى .
وقيل : خصا بالذكر تعظيماً وتشريفاً .
ثم إن فرعون لما رأى أن أعلم الناس بالحسر أقر بنبوّة موسى بمحضر جميع عظيم خاف أن يصير ذلك حجة عليه عند قومه فألقى في الحال شبهة في البين بعدما أنكر عليهم إيمانهم .
أما الإنكار فذلك قوله ) آمنتم له ( من لم يزد حرف الاستفهام فعلى أنه إخبار توبيخاً أي فعلتم هذا الفعل الشنيع ، ومن قرأ بحرف الاستفهام فمعناه الاستبعاد والإنكار .
وفي قوله قبل ) أن آذن لكم ( دلالة على مناقضة فرعون من ادعائه الإلهية لأنه لو كان إلهاً لما جاز أن يأذن لهم في أن يؤمنوا بغيره وهذا من جملة الخذلان والدحوض الذي يظهر على المبطلين .
وأما الشبهة فقوله ) إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها ( أي هذه حيلة احتلتموها أنتم وموسى أو تواطأتم عليها لغرض لكم وهو أن تخرجوا القبط وتسكنوا بني إسرائيل .
وروي محمد بن جرير عن السدي في حديث عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أن موسى وأمير السحرة التقيا فقال له موسى : أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق ؟ فقال الساحر : لآتين غداً بحسر لا يغلبه سحر وإن غلبتني لأومنن بك ، وفرعون ينظر إليهما ويسمع فلذلك زعم التواطؤ ) فسوف تعلمون ( وعيد إجمالي وتفصيله ) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ( أي كل من شق طرفاً ) ثم لأصلبنكم أجميعن ( واختلف المفسرون هل وقع ذلك منه أم لا .
فمن قائل إنه لم يقعل لأنهم سألوا ربهم أن يتوفاهم من جهته لا بهذا القتل والقطع ، ومن قائل وقع وهو الأظهر وعليه الأكثر ومنهم ابن عباس لأنه حكى عن الملأ أنهم قالوا لفرعون ) أتذر موسى وقومه ليفسدا في الأرض ) [ الأعراف : 127 ] ولو أنه ترك أولئك السحرة لذكورهم أيضاً وحذروه إياهم ،(3/301)
" صفحة رقم 302 "
لأنهم قالوا ) ربنا أفرغ علينا صبراً ( والصبر لا يطلب إلا عند نزول البلاء وقد يجاب عن الأول بأنهم داخلون تحن قوله ) وقومه ( وعن الثاني بأنهم طلبوا الصبر على الإيمان والثبات عليه وعدم الالتفات إلى وعيده .
وعن قتادة : كانوا أوّل النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة ، ثم حكى عن القوم أنهم قالوا عند الوعيد ) إنا إلى ربنا منقلبون ( أي نحن لا نبالي بالموت لأنا ننقلب إلى لقاء ربنا ونخلص منك ، أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد القطع والصلب أو إنا جميعاً يعنون أنفسهم وفرعون يرجع إلى الله فيحكم بيننا ، أو إنا لا محالة ميتون فما تقدر أن تفعل بنا إل ما لا بد لنا منه ) وما تنقم منا ( قال ابن عباسك ما أتينا بذنب تعذبنا عليه وما تعب منا ) إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ( وهي المعجزات الظاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى وهذا من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
ثم لما لجأوا إلى الدعاء كما هو دأب الصديقين عند نزول البلاء فقالوا ) ربنا أفرغ علينا صبراً ( أفض عيلنا سجال الثبات على متابعة الدين أو على ما توعدونا به فرعون ) وتوفنا مسلمين ( ثابتين على الدين الذي جاء به موسى وأخبروا عن إيمانهم أوّلاً وسألوا التوفي على الإسلام ثانياً .
فيمكن أن يستدل بالآية على أن الإيمان الإسلام واحد ، واحتجت الأشاعرة بالآية على أن الإيمان والإسلام بخلق الل تعالى وإلا لم يطلبوا ذلك منه ، والمعتزلة يحملون أمثال ذلك على منح الألطاف .
واعلم أن مبني القصة في هذه اسورة على الاختصار وفي الشعراء على التطويل فلهذا قيل هناك ) يريد أن يرخرجكم من أرضكم بسحره ( ، ) وإنكم إذا لمن المقربين ( ، ) قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون ( ، ) فسوف تعلمون ( وفي كل ذلك زيادة وأما قوله ههنا ) وأرسل في المدائن ( وهناك ) وابعث ( فلأن الإرسال يفيد معنى البعث مع العلو فخص هذه السورة بذلك ليعلم أنّ المخاطب به فرعون دون غيره .
وإنما قال ههنا ) آمنتم به ( وفي طه والشعراء ) آمنتم له ( باللام لأن ضمير ) به ( في هذه يعود إلى رب العالمين ، وفي السورتين إلى موسى ، وقيل آمنت به وآمنت له واحد .
وقال ههنا ) ثم لأصلبنكم ( وفي السورتين ) لأصلبنكم ( لأنه لما أفاد الترتيب كان العطف المطلق كافياً وكثر من متشابهات هذه السور الثلاث يعود إلى رعاية الفواصل فتنبه .
التأويل : ( فظلموا بها ( بأن جعلوها سحراً فوضعوها في غير موضعها ) عاقبة المفسدين ( الذين أفسدو الاستعداد الفطري بالركون إلى الدنيا ولذاتها ) حقيق علي أن لا(3/302)
" صفحة رقم 303 "
أقول على الله إلى الحق ( لأن قائم بحقائق الجميع فانٍ على الخلق وآثار التفرقة ) فإذا هي ثعبان ( لأنه أضاف العصا إلى نفسه في قوله ) هي عصاي ) [ طه : 18 ] ويعلم منه أن كل شيء أضفته إلى نفسك وجعلته محل حاجاتك فإنه ثعبان يبتلعك ولهذا قيل ) ألقها يا موسى ) [ طه : 19 ] ( فإذا هي بيضاء ( فيه الأيدي قبل تعلقها بالأشياء كانت بيضاء نقية نورانية روحانية وأن اليد لموسى كانت روحانية في جميع الأوقات ولكن ما كانت نورانيتها منظورة للناظرين إلا بإظهار الله تعالى في بعض الأوقات خرقاً للعادات على يده الجسمانية ) يريد أن يخرجكم ( لا شك أن موسى أراد أن يخرجهم من أرضهم ولكن من أرض بشريتهم إلى نور الروحانية .
) قالوا أرجه وأخاه ( توهموا أن التأخير وحسن التدبير يغير شيئاً من التقدير ، ولم يعلموا أن عند حلول الحكم لا سلطان للعلم والفهم .
) أئن لنا لأجر ( لم يعلموا أن أجرهم في المغلوبية لا في الغالبية ) قال نعم وإنكم لمن المقربين ( أجرى الله تعالى هذا عل لسان فرعون حقاً وصدقاً فصاروا مقربين عند الله ) قالوا يا موسى أما أن تلقي ( أكرموا موسى بالتقديم والاستئذان فأكرمهم الله تعالى بالسجود والإيمان ) بسحر عظيم ( أي عظيم في الإثم كما قال ) سبحانك هذا بهتان عظيم ( وعظمة إثم السحر لمعارضة المعجزة ) فإذا هي تلقف ما يأفكون ( فيه أن عصا الذكر إذا ألقيتها عند إلقاء سحر سحرة صفا النفس تبتلغ بفم لا النفي جميع ما سحروا به أعين الناس ) فوقع الحق ( بإثبات لا إله إلا الله ) وبطل ما كانوا يعلمون ( من تزيين زخارف الدنيا في العيون ) فغلبوا ( أي سحرة صفات النفس إذا تنوّرت بنور الذكر ) وانقلبوا صاغرين ( ذليلين تحت أوامر الشرع ونواهيه ) وألقى السحرة ساجدين ( أي صارت صفات النفس بعد التمرد منقادة للعبودية .
) رب موسى ( الروح ) وهارون ( القلب .
واعلم أن صفات النفس إذا تنوّرت بنور الذكر يتبدل كفرها بالإيمان ولكن النفس بذاتها لا تؤمن ولا تتبدل اللهم إلا عند غرقهافي بحر الواردات والمواهب الربانية كحال فرعون وإيمانه عند الغرق .
وفي القصة دلالة على أنه تعالى قد يبرز العدوّ في صورة الولي مثل بلعام وبالعكس كالسحرة ) قبل أن آذن لكم ( هذا من جملة جهل فرعون ، ظن أن الإيمان بإذنه ولم يعلم أن الإيمان بإذن الله ) لمكر مكرتموه ( في موافقة موسى الروح في مدينة القالب ) لتخرجوا منها أهلها ( هو اللذات والشهوات البدنية ) لأقطعن ( بسكين التسول عن الأعمال الصالحة ) ثم لأصلبنكم في جذوع ( تعلقات الدنيا وزخارفها والله أعلم .
( الأعراف : ( 127 - 141 ) وقال الملأ من . . . .
" وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن(3/303)
" صفحة رقم 304 "
تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم "
( القراآت )
سنقتل ( بالتخفيف : ابن كثير وأبو جعفر ونافع ) يورّثها ( بالتشديد : الخزاز عن هبيرة ) كلمات ربك ( على الجمع : يزيد في رواية ) يعرشون ( بضم الراء حيث كان : ابن عامر وأبو بكر وحماد : الباقون : بالكسر ) يعكفون ( بكسر الكاف : حمزة وخلف .
الباقون : بالضم ) أنجاكم ( ابن عامر .
الآخرون ) أنجيناكم ( على الحكاية ) يقتلون ( بالتخفيف : نافع .
الوقوف : وآلهتك ( ط ) نساءهم ( ج ) للابتداء والعطف واتحاد القائل ) قاهرون ( ه و ) اصبروا ( ج لما قلنا ) من عباده ( ط ) للمتقين ( ه ) ما جئتنا ( ط ) تعلمون ( ه ) يذكرون ( ه ) لنا هذه ( ج لبيان تباين الإضافتين على التناقض ) ومن معه ( ج ) لا يعلمون ( ه ) بها مؤمنين ( ه ) مجرمين ( ه ) بما عهد عندك ( ج لأن جواب ( لئن ) منتظر مع اتحاد القائل ) بني إسرائيل ( ج لأن جواب ( لما ) متظر مع دخول الفاء فيه ) ينكثون ( ه ) غافلين ( ه ) باركنا فيها ( ط للعدول عن الحكاية وكذلك ) بما صبروا ( ط لعكسه .
) يعرشون ( ه ) يعكفون ( ه ) أصنام لهم ( ج لاتحاد القائل بلا عطف ) آلهة ( ط(3/304)
" صفحة رقم 305 "
) تجهلون ( ه ) يعملون ( ه ) العالمين ( ه ) سوء العذاب ( ج لاحتمال كون ما بعده مستأنفاً أو حالاً ) نساءكم ( ط ) عظيم ( ه والله أعلم .
التفسير : ثم أن فرعون بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض لموسى ولا أخذه ولا حبسه لأنه كان كلما يرى موسى يخافه أشدّ الخوف إلا أن قومه لا يعرفون ذلك فحملوه على أخذه وحبسه فقالوا ) أنذر موسى ( أتتركه ) وقومه ليفسدوا في الأرض ( أي يغيروا على الناس دينهم الذي كانوا عليه فيتوسلوا بذلك إلى أخذ الملك .
وقوله ( ويذرك ( عطف على ) ليفسدوا ( ، وقوله ( وآلهتك ( مفعول معه .
والمراد أنه إذا تكرهم ولم يمنعهم كان ذلك مؤدياً إلى تركه مع آلهته فقط ، ويحتمل أن يكون منصوباً على أنه جواب الاستفهام والمعنى : أيكون منك أن تذر موسى ويكون من موسى أنيذرك وآلهتك .
قال كثير من المفسرين : إن فرعون كان قد وضع لقومه أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتهم وسمى نفسه الرب الأعلى .
وقال الحسن : كان فرعون يعبد الأصنام ووجه بأنه لعله كان اتخذ أصناماً على صور الكواكب على أن الكواكب مدبرات العالم السفلي .
وأما المجدي في هذا العالم للخلق المربي لهم فهو نفسه ولذلك قال أنا ربكم الأعلى أي أنا مربيكم والمنعم عليكم للخلق والمربي لهم فهو نفسه ولذلك قال أنا ربكم الأعلى أي أنا مربيكم إن فرعون أوهم قومه أنه إنما لم يحبسه ولم يمنعه لعدم التفاته إليه لا للخوف منه فقال ) سنقتل أبناهم ونستحيي نساءهم ( فكأنه قال : إن موسى إنمايمكنه الإفساد بواسطة الرهط والشيعة فنحن نسعى في تقليل رهطه وشيعته ) وإنا فوقهم قاهرون ( أي سنعيد عليهم ما كنا محناهم به قبل من قتل الأبناء ليعلموا أما على ما كنا عليه من الغلبة ، ولئلا يتوهم العامة أنه المولد الموعود من قبل الكهنة ولكنه منتظر بعده ) قال موسى ( لما وصله ما جرى بين فرعون وملته ) لقومه استعينوا بالله واصبروا ( ولا ريب أن الصبر نتيجة الاستعانة بالله فإن من علم أنه لا مدبر للعالم إلا الله تعالى انشرح قلبه بنور المعرفة وعلم أن الكل بقضاء الله وقدره فيسهل عيله ما يصل إليه ، ثم لما أمرهم بشيئين بشرهم بآخرين فقال ) إن الأرض ( يعني أرض مصر أو جنس الأرض فيتناول مصر بالتبعية ) لله يورثها من يشاء من عباده ( ويعني بالتوريث جعل الشيء للخلف بعد السلف ) والعاقبة للمتقين ( والخاتمة الحميدة لمن هو بصدد التقوى منكم ومن القبط .
وهذا من كلام المنصف وإلا فمعلوم أن القبط لا تقوى لهم ، أو المراد أن كل من اتقى الله وخافه فالله الغني الكريم يعينه في الدنيا والآخرة .
ثم إنهم خافوا وفزعوا من تهديد فرعون فشكوا إلى موسى مستعجلين النصر و ) قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ( يعنون قتل أبنائهم(3/305)
" صفحة رقم 306 "
قبل مولده إلى حين نبوته ثم إعادة ذلك عليهم في قوله ) سنقتل ( إلى غير ذلك من أنواع المحن والمهن .
فعند ذلك قال لهم موسى مصرحاً بما رمز إليهم من البشارة قبل ) عسى ربكم إن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض ( أرض مصر ولا ريب أن في ) عسى ( طمعاً وإشفاقاً ومثل هذا الكلام إذا صدر عن النبي المؤيد بالمعجزات القاهرة الناظر بنور الحق أفاد قوة اليقين وأزال ما خامره من الضعف .
ثم قال ) فينظر كيف تعملون ( قال الزجاج : أي يرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبحه شكره وكفره لوقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم قديماً وإنما يجازيهم على ما يقع منهم حديثاً فتتعلق الرؤية الأزلية به .
عن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة .
وعلى مائدته رغيف أو رغيفان .
فطلب زيادة لعمرو فلم يكن فقرأ عمرو هذه الآية .
ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال قد بقي ) فينظر كيف تعملون ( .
و ) وكيف ( نصب ب ) تعملون ( لا ب ) ينظر ( لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما يتقدمه ثم حكى سبحانه ما نزل بفرعون وآله من المحن والبلايا بشؤم التكذيب والتمرد فقال ) ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ( أي بسني القحط .
فالسنة من الأسماء الغالبة غلبت على القحط كالدابة والنجم ، وقد يراد بها في غير هذا الوضع الحول والعام .
قال أبو زيد والفراء : بعض العرب يقول هذه سنين ورأيت سنيناً فيعرب النون ومنه قول الشاعر : دعاني من نجد فإن سنينه لعبن بنا شيباً وشيبننا مرداً .
والسنون من الجموع والمصححة الشاذة .
عن ابن عباس : السنون لأهل البوادي وأصحاب المواشي ) ونقص من الثمرات ( لأهل الأمصار .
وفائدة توسيط من أن يعلم أن والطاة فإن مس الضر مما يلين الأعطاف ويرق القلوب .
قيل : عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروهاً في ثلثمائة وعشرين سنة وأصابه في تلك المدة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية .
قال القاضي : في الآية دلالة على أنه تعالى أراد منهم أن يتذكروا لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر .
وأجيب بأنه يعاملهم معاملة المختبر ولا اختبار في الحقيقة ولا يرعوي عن الكفر والطغيان إلا من شاء وأراد ) ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ( فلهذا حكى عن فرعون وقومه ) فإذا جاءتهم الحسنة ( قال ابن عباس : أي العشب والخصب والمواشي والثمار وسعة الرزق والعافية والسلامة ) قالوا لنا هذه ( أي نحن مخصوصون بذلك ولم نزل في الرفاهية والنعمة وهكذا عادة الزمان فينا ولم يعلموا أنها من الله فيشكروه عليها ويقوموا بحق نعمته ) وإن تصبهم سيئة ( أضداد ما ذكرنا(3/306)
" صفحة رقم 307 "
) يطيروا ( يتشاءموا بموسى ومن معه .
وأصله يتطيروا فأدغم التاء في الطاء لقرب مخرجهما وإنما عرفت الحسنة وخصت ب ) إذا ( ونكرت السيءة وقرنت ب ) أن ( لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته وشموله وأما السيئة فوقوعها نادر مشكوك فيه ولهذا قيل لقد عددت أيام البلاء فهل عددت أيام الرخاء ؟ ) ألا إنما طائرهم عند الله ( قال الأزهري : يقال للشؤم طائر وطيرة .
وعن ابن عباس : طائرهم ما قضى عليهم وقدر لهم ومنه قول العرب طار له سهم كذا أي حصل ووقع ذلك في حظه .
وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتفاءل ولا يتطير لأن الفأل الكلمة الحسنة والتطير عيافة الطير .
قال الإمام فخر الدين الرازي. : وذلك لأن الأرواح الإنسانية أقوى وأصفى من الأرواح البهيمية فيمكن الاستدلال بالأول على بعض الخفيات بخلاف الثاني .
ومعنى الآية أن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله وبتقديره ) ولكن أكثرهم لا يعلمون ( أن الكل رهين بمشيئته وتقديره فيقولون هذا بيمن فلان أو بشؤمه .
وقد تشاءمت اليهود بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآله في المدينة فقالوا : غلت أسعارنا وقلت أمطارنا مذ أتانا .
قال في الكشاف : ويجوز أن يكون معناه ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوءهم لأجله ويعاقبون له بعد موتهم ، وكما حكى عنهم أنهم لجهلهم أسندوا حوادث هذا العالم لا إلى قضاء الله وقدره كذلك حكى عنهم أنهم لجهلهم وسفههم لم يميزوا بين المعجزات والسحر ) قالوا لنبيهم مهما تأتنا به ( الآية وفي ( مهما ) قولان : فعن البصريين أن أصلها ما الشرطية زيدت عليها ( ما ) المؤكدة إلابهاميه ثم كرهوا التكرار فجعلوا الألف من الأولى هاء .
وعن الكسائي أن ( مه ) بمعنى ( أكفف ) و ( ما ) للشرط كأنه قيل : كف ما تأتنا به .
ومحل ( مهما ) الرفع بمعنى أيما شيء تأتنا به أو النصب بمعنى أي شيء تحضرنا تأتنا به .
) من آية ( بيان لمهما والضمير في ( به ) وكذا في ( بها ) يعود إلى ( مهما ) لأن البيان كالزيادة فلا يعود إليه شيء ما أمكن العود إلى المبين إلا أن الضمير ذكّر تارة حملاً على اللفظ وأنّث أخرى حملاً على المعنى .
وسموها آية تهكماً إذ لو قالوا ذلك اعتقاداً لم يردفوها بقولهم ) لتسحرنا بها ( وبقولهم ) فما نحن لك بمؤمنين ( قال ابن عباس : إن القوم لما قالوا ما قالوا وكان موسى رجلاً حديداً دعا عليهم فأرسل الله عليهم الطوفان .
قيل : هو الجدري وهو أوّل عذاب وقع فيهم فبقي في الأرض .
وقيل : هو الموتان .
وقيل : الطاعون .
والأصح أنه المطر وأصله ما طاف وغلب من مطر أو سيل ، أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا يهلكون وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك .
فدعا فرفع عنهم فما آمنا فنبت لهم تلك السنة(3/307)
" صفحة رقم 308 "
من الكلأ والزرع ما لم يعهد بمثله وزعموا أن هذا الذي جزعوا منه هو خير لهم ولم يشعروا به فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب والسقوف والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة فأرسل الله تعالى ريحاً فاحتملت الجراد فألقته في البحر .
وقيل : خرج موسى إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها فقالوا : مان نحن بتاركي ديننا .
فأقاموا شهراً فسلط الله عليهم القمل وهو الحمنان كبار القردان .
وعن أبي عبيدة وقيل : الدبى وهو أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها .
وقيل : البراغيث .
وقرأ الحسن العمل بعم وسكون الميم يريد القمل المعروف .
وعن سعيد بن جبير هو السوس فأكل كل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم جنبهم كثيب أعفر فضربه بعصاه فصار قملاً فأخذ في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فأخذ عليهم العهود فرفع عنهم فقالوا : قد تحققنا الآن أنك ساحر ، وعزة فرعون لا نصدقك أبداً .
فأرسل الله عليهم الضفادع بعد شهر فدخلت بيوتهم وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم ، وكان أحدهم إذا أراد أن يتكلم وثبت الضفدع إلى فيه وكان يمتلىء منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرقاد ، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي .
فشكوا إلى موسى فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم ، ثم نقضوا العهد فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دماً ، وكان يجتمع القبطي .
والإسرائيلي على إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دماً .
وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك وكان يمص الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحاً أجاجاً .
وقيل : الدم الرعاف سلطه الله عليهم .
وقوله ( آيات مفصلات ( نصب على الحال من المذكورات ومعناها ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها معجزات أو فصل بين بعضها وبعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم وينظر أيوفون بالعهد أم ينكثون كما روي أن موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات .
ولا شك أن كل واحدة من هذه معجزة في نفسها واختصاصها بالقبطي دون الإسرائيلي معجزة أخرى ) واستكبروا ( عن العبادة والطاعة ) وكانوا قوماً مجرمين ( مصرين على الذنب والجرم .
ثم فصل استكبارهم وإجرامهم فقال ) ولما وقع عليهم الرجز ( أي الأنواع الخمسة المذكورة من العذاب .
وعن سعيد بن جبير أنه الطاعون وهو العذاب السادس الذي كان(3/308)
" صفحة رقم 309 "
أصابهم فمات من القبط سبعون ألف إنسان في يوم واحد فتركوا غير مدفونين ) قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك ( أي بعهده عندك وهو النبوة ف ) ما ( مصدرية والباء يتعلق ب ) ادع ( تعلق القلم بالكتبة في قولك : كتبت بالقلم أي ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك .
أو تعلق المقسم عليه بالفعل فتكون باء الاستعطاف أي أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد وكرامته بالنوبة .
ووجه آخر وهو أن يكون قسماً مجاباً ب ) لنؤمنن ( فيكون معتلقاً بالأقسام أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل أي نخيلهم وشأنهم فتذهب بهم حيث شئت ) فلما كشفنا عنهم ( العذاب لا مطلقاً ولا في جميع الوقائع بل ) إلى أجل هم بالغوه ( لا محالة ومعذبون فيه ) إذا هم ينكثون ( جواب ( لما ) أي لما كشفنا عنهم فاجأوا النكث وبادروه فانتقمنا منهم سلبنا النعمة عنهم بالعذاب ) فأغرقناهم في اليم ( وهو البحر الذي لا يدرك قعره .
وقيل : هو لجة البحر ومعظم مائة سمي باليم لأن المنتفعين به يتيممونه أن يقصدونه ) بأنهمك كذبوا بآياتنا ( أي كان إغراقهم بسبب التكذيب ) و ( بأنهم ) كانوا عنها ( أي عن الآيات وقيل عن النقمة بدلالة انتقمنا أي وكانوا عن النقمة قبل حلولها ) غافلين ( أي معرضين غير متفكرين فإن نفس الغفلة ليس باختيار الإنسان حتى يترتب الوعيد عليها .
ثم بين ما فعله بالمحقين بعد إهلاك المبطلين فقال ) وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون ( بقتل الأبناء واستحياء النساء والاستخدام في الأعمال الشاقة ) مشارق الأرض ومغاربها ( يعني أرض مصر والشام لأنها هي التي كانت تحت تصرف فرعون .
وقوله ( التي باركنا فيها ( أي بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشام .
وقل : المراد جملة الأرض لأنه خرج من بني إسرائيل من ملك جملتها كداود وسليمان ) وتمت كلمة ربك الحسنى ( تأنيث الأحسن صفة للكلمة .
قيل : يريد بالكلمة قوله ي سورة القصص ) نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ) [ القصص : 5 ] إلى تمام الآيتين .
ومعى ) تمت ( مضت واستمرت من قولك تم على الأمر إذا مضى عليه .
وقيل : معنى تمام الكلمة الحسنى إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوّهم واستخلافهم في الأرض ، لأن الوعد بالشيء جعله كالمعلق فإذا حصل الموعود صار تاماً كاملاً ) بما صبروا ( أي بسب بصبرهم .
وفيه أن الصبر عنوان الظفر وصمين بالنصر والفرج ) ودمرنا ( أي أهلكنا والدمار والهلاك ) ما كان يصنع فرعون وقومه ( قال ابن عباس : يريد المصانع .
وقال غيره : يعني العمارات وبناء القصور .
ولعله على العموم فيتناول المعاني والأعيان وما كانوا يعرشون من الجنات كقوله ) هو الذي أنشأ جنات معروشات ) [ الأنعام : 141 ] وقيل : وما كانوا يرفعون من(3/309)
" صفحة رقم 310 "
الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وغيره ، وههنا تمت قصة فرعون والقبط .
ثم ذكر ما جرى على بني إسرائيل بعد ذلك فقال ) وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ( روي أنه عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعد ما أهلك الله فرعون وقومه فصاموه شكراً لله ) فأتوا على قوم ( أي فمروا بقوم ) يعكفون ( يواظبون ) على ( عبادة ) أصنام لهم ( قال ابن جريج : كانت تماثيل بقر وذلك أوّل شأن العجل .
وقيل : كانوا قوماً من لحم نزلوا بالرقة عن قتادة وقيل : كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم ) قالوا : يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ( ما كافة للكاف عن العمل ولهذا دخلت على الجملة .
وكأنهم طلبوا من موسى أن يعين لهم أصناماً وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى كقول الكفرة ) ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) [ الزمر : 3 ] فتوجه الذم عليهم لأن العابدة نهاية التعظيم سواء اعتقد في المعبود أنه إله واعتقد أنه مقرب من الله ، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام وكأن هذا القول لم يصدر من مشاهير بني إسرائيل وعظمائهم كالسبعين المختارين ، ولكنهصدر عن عوامهم وجهلتهم ولهذا ) قال ( لهم موسى ) إنكم قوم تجهلون ( تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآيات العظمى فوصفهم بالجهل المطلق المؤكد .
وعن علي رضي الله عنه أن يهودياً قال له : اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه ، فقال علي : اختلفنا عنه لا فيه .
ثم قال : قلتم اجعل لنا إلهاً ولما تجف أقدامكم ) إن هؤلاء ( يعني عبدة تلك التماثيل ) متبر ( أي مكسر مهلك ) ما هم فيه ( من قولهم إنا متبر إذا كان فضاضاً والتبار الهلاك .
وباطل ما كانوا يعملون ( أي يتبر الله أصنامهم ويهدم دينهم الذي هم عليه على يدي فيصير إلى الزوال والاضمحلال .
وفي إيقاع ) هؤلاء ( اسماً ل ) أن ( وفي تقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لأن إشارة إلى أن عبدة الأصنام ليسوا على شيء ألبتة وأن مصيرهم إلى النار لا محالة .
) قال أغير الله أبغيكم إلهاً ( انتص ( غير ) على الحال المقدمة التي لو تأخرت كانت صفة كما تقول : أبغيكم ألهاً غير الله .
وانتصب ) إلهاً ( على المفعول به .
قال الواحدي : يقال بغيت فلاناً شيئاً وبغيته له قال تعالى ) يبغونكم الفتنة ) [ التوبة : 47 ] والمعنى أغير المستحق للعبادة أطلب معبوداً ) وهو فضلكم على العالمين ( خصكم بالنعم الجسام دون أبناء زمانكم .
ومعنى الهمزة الإنكار والتعجب مما اقترحوه مع كونهم مغمورين في نعم الله ، فإن الإله ليس شيئاً يطلب ويجعل بل الإله هو الموجود بنفسه القادر على الإيجاد والإعدام والإكرام والإنعام .
والآية الباقية قد مر تفسيرها في البقرة ، والفائدة في إعادتها ههنا التعجب والتعجيب ممن اشتغل بعبادة غير هذا المنعم .
وإنما قيل ههنا ) تقتلون ( دون ) يذبحون ( لتناسب قوله ) سنقتل أبناءهم ( والله أعلم .(3/310)
" صفحة رقم 311 "
التأويل : ( وقال الملأ من قوم فرعون ( من الهوى والغضب والكبر لفرعون النفس ) أتذر موسى ( الروح ) وقومه ( من القلب والسر والعقل ) ليفسدوا ( في أرض البشرية ) ويذرك وآلهتك ( من الدنيا والشيطان والطبع ) قال ( فرعون نفس ) سنقتل أبناءهم ( يعني أعمالهم الصالحة نبطلها بالرياء والعجب ) ونستحيي نساءهم ( أي الصفات التي عنها يتولد الأعمال ) وأنا فوقهم قاهرون ( بالمكر والخديعة والحيلة ) قال موسى ( الروح ) لقومه ( هم القلب والعقل والسر ) استعينوا بالله واصبروا ( علىجهاد النفس ومخالفتها ومتابعة الحق ) إن الأرض لله ( أي أرض البشرية ) يورثها من يشاء من عباده ( يورث أرض بشرية السعداء الروح وصفاته فتتصف بصفاته ، ويورث أرض بشرية الأشقياء النفس وصفاتها فتتصف بصفاتها ) والعاقبة للمتقين ( يعني عاقبة الخير والسعادة للأتقياء السعداء بصفاتها .
) أوذينا من قبل أن تأتينا ( بالواردات الروحانية قبل البلوغ ، كنا نتأذى من أوصاف البشرية ومعاملاتها ) ن بعد ما جئتنا ( بالواردات والإلهامات الروحانية بعد البلوغ نتأذى من دواعي البشرية ) عسى ربكم أن يهلك عدوّكم ( النفس وصفاتها وفيه إشارة إلى أنالواردات الروحانية لا تكي لإفناء النفس وصفاتها ولا بد في ذلك من تجلي صفات الربوبية ) إذا جاءتهم الحسنة ( الكفور لا يرى فضل المنعم .
وكذا الملول إذا أراد قطيعة
مل الوصال وقال كان وكانا
) ولكن أكثرهم لا يعلمون ( لأن بصائرهم مسدودة وعقولهم عن شهود الحق مصدودة ) فأرسلنا عليهم الطوفان ( العلم الكثير ) والجراد ( الواردات ) والقمل ( الإلهامات ) والضفادع ( الخواطر ) والدم ( أصناف المجاهدات والرياضيات ) مفصلات ( وقتاً بعد وقت وحيناً غب حين ) فاستكبرا ( عن قبولها والعمل بها ) وكانوا قوماً مجرمين ( في الأزل ، فلهذا لم تفدهم الوسائط والأسباب ) ولما وقع عليهم الرجز ( وهو عذاب القطيعة ) فأغرقناهم ( في يم الدنيا وشهواتها ) وما كانوا يعرشون ( أي يرفعون بالتجبر والتكبر أنفسهم .
قال عرش الطائر إذا ارتفع بجناحيه على من تحته ) وجاوزنا ( بصفات القلب من بحر الدنيا وخلصناهم من فرعون النفس فوصلواإلى صفات الروح .
) يعكفون على أصنام لهم ( من المعاني المقعولة والمعارف الروحانية فاستحسنوها وأرادوا العكوف على عتبة عالم الأرواح ) قال لهم موسى ( الوارد الرباني عند ركونهم إلى الروحانيات ) انكم قوم تجهلون ( يعني صفات الروح ) متبر ما هم فيه ( من الروكون والعكوف على استحلاء المعاني المعقولة ) وباطل ما كانوا يعملون ( في غير طلب الحق والوصول إلى ا لمعارف الرباينة ) وهو فضلكم على العالمين ( من الحيوان والجن ولملك بفضيلة العبور من الجسمانيات والروحانيات إلى الوصول إلى المعارف والحقائق الإلهية .(3/311)
" صفحة رقم 312 "
( الأعراف : ( 142 - 154 ) وواعدنا موسى ثلاثين . . . .
" وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون "
( القراآت )
أرني أنظر ( بسكون الراء وفتح الياء : ابن الفليح وزمعة والخزاعي عن البزي .
الباقون : بكسر الراء وسكون الياء .
) دكاء ( بالمد : حمزة وعلي وخلف .
) إني اصطفيتك ( بفتح ياء المتكلم : ابن كثير وأبو عمرو ) برسالتي ( على التوحيد : أبو جعفر ونافع وابن كثير .
الباقون : ( برسالاتي ( ) آياتي الذين ( مرسلة الياء : ابن عامر وحمزة .
) الرشد ( بفتحتين : حمزة وعلي وخلف .
الباقون : بضم الراء وسكون الشين .
) من(3/312)
" صفحة رقم 313 "
حليهم ( بفتح الحاء وسكون اللام : يعقوب ) حليهم ( بالكسيرات وتشديد الياء : حمزة وعلي .
الباقون : مثله ولكن بضم الحاء .
) ترحمنا ربنا وتغفر لنا ( بالخطاب والنداء : حمزة وعلي وخلف والمفضل .
الباقون : على الغيبة ورفع ) ربنا ( على الفاعلية ) بعدي أعجلتم ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو .
) قال ابن أم ( بكسر الميم : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل .
الباقون : بفتحها ومثله ) يا ابن أم ( ) الآية : 94 ] في طه .
الوقوف : ( أربعين ليلة ( ج للعطف مع اختلاف القائل ) المفسدين ( ه ) ربه ( لا لأن ما بعده جواب ) إليك ( ط ) فسوف تراني ( ج ) صعقا ( ط ) المؤمنين ( ه ) الشاكرين ( ه ) الاكرين ( ه ) لكل شيء ( ج للعدول مع فاء التعقيب ) بأحسنها ( ج ) الفاسقين ( ه ) بغير الحق ( ج ) بها ( ج لابتداء شرط آخر ولبيان تعارض الأحوال مع العطف ) سبيلاً ( ج ) ذلك سبيلاً ( ه ) غافلين ( ه ) أعمالهم ( ط ) يعملون ( ه ) خوار ( ط ) سبيلاً ( ه لئلا تصير الجملة صفة السبيل فإن الهاء ضمير العجل ) ظالمين ( ه ) ضلوا ( ج لأن ما بعده جواب .
) الخاسرين ( ه ) أسفاً ( ج لما ) بعدي ( ج للابتداء بالاستفهام مع اتحاد القائل ) أمر ربكم ( ج لأن قوله ) وألقى ( معطوف على قوله ) قال بئسما ( وقد اعترض بينهما استفهام ) إليه ( ط ) يقتلونني ( ط ز صلى والوصل أولى لأن الفاء للجواب أي إذا هم هموا بقتلي فلا تشمتهم بضربي .
) الظالمين ( ه ) في رحمتك ( ز صلى الأولى أن يوصل لأن الواو للحال تحسيناً للدعاء بالثناء ) الراحمين ( ه ) الدنيا ( ط ) المفترين ( ه ) وآمنوا ( ج لظاهر إن والوجه الوصل لأن ما بعده خبر والعائد محذوف والتقدير : إن ربك من بعد توبتهم لغفور لهم .
) رحيم ( ه ) الألواح ( ج صلى لاحتمال ما بعده الحال ) يرهبون ( ه .
التفسير : لما أهلك الله سبحانه أعدجاء بني إسرائيل سأل موسى ربه أن يؤتيه الكتاب الذي وعده فأمره بصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة ، فلما أتم الثلاثين أنكر من نفسه خلوف الفم فتسوّك فقالت الملائكة : كنا نشم من فيك راحئة المسك فأفسدتها بالسواك ، فأوحى الله تعالى إليه : أما عملت أن خلوف فم الصائم أطب عندي من ريح المسك ؟ فأمره الله أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لهذا السبب .
وقيل : فائدة التفصيل أنه تعالى أمره بصوم ثلاثين وأن يعمل فيها ما يقربه من الله ، ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها .
وقال أبو مسلم الأصفهاني : من الجائز أن يكون موسى عند تمام الثلاثين بادر إلى ميقات ربه قبل قومه بدليل قوله في طه ) وما أعجلك عن قومك يا موسى ) [ طه : 83 ] فلما أعلمه الله تعالى خبر قومه مع السامري رجع إلى قومه ، ثم عاد إلى الميقات في عشرة أخرى فتم أربعون ليلة .
وقيل : لا يمتنع أن يكون الوعد الأوّل موسى وحده والوعد الثاني لحضرة(3/313)
" صفحة رقم 314 "
المختارين معه ليسمعوا الكلام .
ومن فوائد الفذلكة في قوله ) فتم ميقات ربع أربعين ليلة ( إزالة وهم من يتوهم أن الميقات كان عشرين ثم أتمه بعشر فصار ثلاثين .
والفرق بين الميقات والوقت أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت الشء قدره مقدراً أم لا .
وانتصب ) أربعين ( على الحال أي تم بالغاً هذا العدد .
) وهارون ( عطف بيان ) لأخيه ( وقرىء بالضم على النداء ) أخلفني في قومي ( كن خليفتي فيهم ) وأصلح ( كن مصلحاً أو أصلح ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائل ومن دعاك إلى الإفساد فلا تتبعه .
وإنما جعله خليفة مع أنه شريكه في النبوّة بدليل ) وأشركه في أمري ) [ طه : 32 ] والشريك أعلى حالاً من الخليفة لأن نبوّة موسى كانت بالأصالة ونبوّة هارون بتبعيته فكأنه خلفته ووزيره .
وإنما وصاه بالإصلاح تأكيداً واطمئناناً وإلا فالنبي لا يفعل إلا الإصلاح .
) ولما جاء موسى لميقاتنا ( اللام بمعنى الاختصاص كأنه يل : اختص مجيئه بوقتنا الذي حددنا له كما يقال : أتيته لعشر خلون من شهر كذا ) وكلمه ربه ( للناس في كلام الله مذاهب فقيل : هو عبارة عن هذه الحروف المؤلفة المنتظمة .
وقيل : صفة حقيقية مخالفة للحروف والأصوات وعلى الأول فمحل تلك الحروف والأصوات هو ذات الله تعالى وهو قول الكرامية ، أو جسم مغار كالشجرة ونحوها وهو قول المعتزلة .
وعلى التالي فالأشعرية قالوا إن موسى عليه السام سمع تلك الصفة الأزلية لأنه كما لا يتعذر رؤيته عندنا مع أنه ليس بجسم ولا عرض فكذا لا يمتنع سماع كلامه مع أنه لي سبحرف ولا صوت .
وقال أبو منصور الماتريدي : الذي سمعه موسى عليه السلام أصوات مقطعة وحروف مؤلفة قائمة بالشجرة .
واختلف العلماء أيضاً في أن الله تعالى كلم موسى وحده لظاهر الآية أو مع السبعين المختارين وهو قول القاضي لأن تكليم الله موسى معجز وقد تقدمت نبوّة موسى فلا بد من ظهرو هذا المعنى لغيره ) قال رب أرني أنظر إليك ( أي أرني نفسك واجعلني متمكناً من رؤيتك فانظر إليك وأراك .
عن ابن عباس : أن موسى عليه السلام جاء ومعه السبعون وصعد الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل وكلم الله موسى وكتب له في الألواح كتاباً وقربه نجياً .
فلما سمع صرير القلم عظم شوقه فقال رب أرني انظر إليك .
قالت الأشاعرة إن موسى سأل الرؤية وأنه عارف بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى .
فلو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها .
قال القاضي : للمحصلين من العلماء في هذا المقام أقوال : أحدها قول الحسن وغيره أن موسى ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى وهذا لا يقدح سبحانك في معرفته لأن العلم بامتناع الرؤية وجوازها غير جائزة على الله تعالى وهذا لا يقدح سبحانك بأنه يلزم أن يكون موسى أدون حالاً من علماء المعتزلة العالمين بامتناع الرؤية على الله(3/314)
" صفحة رقم 315 "
تعالى ، وبأنهم يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئياً فإنه يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل ، فلو لم يكن هذا العلم حاصلاً لموسى كان ناقص العقل وهو محال ، وإن كان حاصلاً وجوّز موسى عليه المقابلة كان كفراً وهو أيضاً محال .
وثانيها طريقة أبي علي وأبي هاشم أن موسى عليه السلام سألل الرؤية عن لسان قومه فقد كانوا يكررون المسألة عليه بقولهم ) لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) [ البقرة : 55 ] وزيف بأنه لو كان كذلك لقال موسى أرهم ينظرون إليك ، ولقال الله لن يروني ، وبأنه لو كان محالاً لمنعهم كما منعهم لما قالوا اجعل لنا إلهاً ، وبأن ذكر الدليل القاطع في هذا المقام فرض مضيق فلم يمكن تأخيره مع أنهم كانوا مقرين بنبوّة موسى كفاهم في الامتناع عن السؤال قول موسى وإلا فلا انتفاع لهم بهذا الجواب فإن لهم أن يقولوا لا نسلم أن هذا المنع من الله بل هذا مام افتريته على الله .
وثالثها وهو اختيار أب القاسم الكعبي أن موسى سأل ربه المعرفة الضرورية بحيث تزول عندها الخواطر والوساوس كما في معرفة أهل الآخرة .
وردّ بأنه تعالى أراه من الآيات كالعصا واليد وغيرها ما لا غاية بعدها فكيف يليق به أن يقول أظهر لي آية تدل على أنك موجود ؟ ولو فرض أنه لائق بحال موسى فلم منعه الله تعالى عن ذلك ؟ ولقائل أن يقول : منعه في الدنيا لحكمة علمها الله تعالى ولا يلزم منه المنع في الآخرة .
ورابعها وهو قول أبي بكر الأصم أن موسى أراد تأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي ، وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء .
وضعف بأنه كان الواجب عليه حينئذ أن يقول : أريد يا إلهي أن يقوى أمتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في عقلي .
ولقائل أن يقول : هذا تعيين الطريق .
وفي الآية سؤال وهو أه تعالى لم قال ) لن تراني ( دون ) لن تنظر إليّ ( ليناسب قوله ) انظر إليك ( والجواب لأن موسى لم يطلب النظر المطلق وإنما طلب النظر الذي معه الإدراك بدليل ) أرني ( ومن حجج الأشاعرة أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز هو استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز .
وردّ بأنه علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حلا حركته بدليل قوله ) ولكن انظر إلى الجبل فان استقر مكانه ( أي وقت النظر وعقيبه واستقرار الجبل حال حركته محال .
ومنها قوله ) فلما تجلى ربه ( أي ظهر وبان ومنه جلوت العروس إذا أبرزتها ، أو ظهر للجبل اقتداره وتصدى له امره وإرادته ) جعله دكاً ( أي مدكوكاً كالمصدر بمعنى ( مفعول ) .
والدك والدق أخوان .
ومن قرأ بالمد أراد أرضاً دكاء مستوية ومنه ناقة دكاء متواضعة السنام .
والدكاء أيضاً اسم للرابية النازة ن الأرض كالدكة .
والغرض من الجميع تعظيم شأن الرؤية وأن أحداً لا يقوى على ذلك إلا بتقوية الله وتأييده .
وقالت المعتزلة : الرؤية أمر محال لقوله ) لن تراني ( وكلمة ( لن ) إن لم تفد التأبيد فلا أقل من التأكيد .
وأيضاً الاستدراك في قوله ) ولكن انظر ( معناه أن النظر إليّ محال فلا تطلبه ولكن عليك(3/315)
" صفحة رقم 316 "
بنظر آخر إلى الجبل لتشاهد تدكك أجزائه وتفرق أبعاضه من عظمة التجلي ، وإذا لم يطق الجماد ذلك فكيف الإنسان ؟ قالت الأشاعرة ههنا : لم يبعد أن يخلق الله تعالى حينئذ في الجبل حياة وعقلاً وفهماً ورؤية .
وأيضاً قوله ) وخر موسى صعقاً ( أي مغشياً عليه غشية كالموت دليل استحالة الرؤية على الأنبياء فضلاً عن غيرهم .
روي أن الملائكة مرت عليه وهو مغشى عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم يقولون : يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزّة .
وأيضاً قوله بعد الافاقة من الصعقة ) سبحانك ( أنزهك عما لا يليق بك من جواز الرؤية عليك ) إن تبت إليك ( من طلب الرؤية بغير إذن منك وإن كان لغرض صحيح هو تنبيه القوم على استحالة ذلك بنص من عندك ) وأنا أوّل المؤمنين ( بأنك لست بمرئي ولا مدرك بشيء من الحواس .
وقالت الأشاعرة : وأنا أوّل المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا أو بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك .
ثم لما سأل الرؤية ومنعه الله إياها أخذ في تعداد سائر تسلية مويى عن منع الرؤية .
قيل : وفي هذا دليل على جواز الرؤية في نفسها وإلا لم يكن إلى هذا العذر حاجة .
وإنما قال ) اصطفيتك على الناس ( ولم يقل ( على الخلق ) لأن الملائكة قد تسمع كلام الله تعالى من غير واسطة كما سمعه موسى .
والغرض أنه تعالى خصه من دون الناس بمجموع أمرين الرسالة والكلام وسائر الرسل لهم الرسالة فقط .
وإنما كان الكلام بلا وسط سبباً للشرف بناء على العرف الظاهر وقد جاء في الخبر أن نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) رأى ربه ليلة المعراج بعن الرأس .
وفي ذلك دليل على أفضليته على موسى شتان بين من اتخذه الملك لنفسه حبيباً وقرّبه إليه بلطفه تقريباً وبين من قرب له الحجاب وحال بينه وبين المقصود بواب ونواب .
والمزاد بالرسالات ههنا أسفار التوراة ) فخذ ما أتيتك ( من شرف الرسالة والكلام ) وكن من الشاكرين ( لله على ذلك بأن تشتغل بلوازمها علماً وعملاً .
ثم فصل تلك الرسالة فقال ) وكتبنا له في الألواح ( قيل : خر موسى صعقاً أن يوم عرفة وأعطاه الله التوراة يوم النحر .
وذكروا ف عداد الألواح وفيو جوهرها وطلوها أنها كانت عشرة ألواح ، وقيل سبعة ، وقيل لوحين ، وأنها كانت من خشب نزلت من السماء .
وعن وهب أنها كانت من صخرة صماء لينها الله تعالى لموسى قطعها بيده وشققها بأصابعه .
وقيل : طولها كان عشرة أذرع .
والتحقيق أن أمثال هذه يحتاج إلى النقل الصحيح وإلا وجب السكوت عنه إذ ليس في الآية ما يدل على ذلك .
وأما كيفية تلك الكتابة فقال ابن جريج كتبها جبرائيل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور وحكم هذا النقل أيضاً كما قلنا ) من كل شيء ( مفعول ) كتبنا ( و ( من ) للتبعيض نحو أخذت من الدراهم(3/316)
" صفحة رقم 317 "
) موعظة وتفصيلاً ( بدل منه فيدخل في الموعظة كل ما يوجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية وذلك بذكر الوعد والوعيد .
وأراد بالتفصيل تبيين كل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل من أقسام الأحكام ، ويجوز أن يكون ) موعظة وتفصيلاً ( مفعولين ل ) كتبنا ( والتقدير : وكتبنا له في الألواح موعظة من كل شيء وتفصيلاً لكل شء .
قيل : أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منها في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر : موسى ويوشع وعزير وعيسى .
وعن مقاتل : كتب في الألواح أني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئاً ولا تقطعوا السبيل ولا تحلفوا باسمي كذباً فإن من حلف باسمي كذباً فلا أزكيه ، ولا تزنوا ولا تقتلوا ولا تعقوا الوالدين .
) فخذها ( على إرادة القول أي وكتبنا فقلنا له خذها أبو بدل من قوله ) فخذ ما أتيتك ( والضمير للألواح أو لكل شيء لأنه في معنى الأشياء ، أو اللرسالات أو للتوراة ) بقوّة ( بجد وعزيمة فعل أولى بالعزم من الرسل ) وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ( سئل ههنا أنه لما تعبد بكل ما في التوراة وجب كون الكل مأموراً به ، فظاهر قوله ) يأخذوا بأحسنها ( يقتضي أن فيه ما ليس بأحسن وأنه لا يجوز الأخذ به .
وأجاب العلماء بوجوه منها ، أن تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر ، فمرهم أن يأخذوا بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب فيكون كقوله ) واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ) [ الزمر : 55 ] وكقوله ) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) [ الزمر : 18 ] قال قطرب : الأحسن بمعنى الحسن وكلها حسن .
وقيل : الحسن يشمل الواجب والمندوب والمباح والأحسن الواجب والمندوب .
وقال في الكشاف : يجوز أن يراد يأخذوا بما أمروا به دون ما نهوا عنه كقولهم الصيف أحر من الشتاء .
ثم ختم الآية بالوعيد والتهديد فقال ) سأريكم دار الفاسقين ( قال ابن عباس والحسن ومجاهد يعني جهنم أي ليكن ذكر جهنم حاضراً في أذهانكم لتحذروا أن تكونوا منهم .
وعن قتادة : يريد مواطن الجبابرة والفراعنة الخاوية بالشأم ومصر ليعتبروا بذلك فلا يفسقوا مثل فسقهم فيصبيهم مثل ما أصابهم .
وقال الكلبي : هي منازل عاد وثمود وأقرانهم يمرون عليها في أسفارهم .
وقيل : المراد الوعد والبشارة بأن الله تعالى سيرزقهم أرض أعدائهم ويؤيده ما قرىء ) سأورثكم ( .
وقوله ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون ) [ الأعراف : 137 ] .
ثم ذكر ما به يعامل الفاسقين المتكبرين فقال ) سأصرف عن آياتي ( الآية .
فاحتجت الأشاعرة بها على أنه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصرف عنه .
وقال الجبائي : قوله ) سأصرف ( للاستقبال والمصروفون موصوفون بالتكبر والانحراف عن الطريق المستقيم في الزمان الماضي ، فعلم أن المراد من هذا الصرف ليس هو الكفر .
وأيضاً الصرف مذكور(3/317)
" صفحة رقم 318 "
على وجه العقوبة على التكبر والاعتساف ولا تكون العقوبة عين المعاقب عليه فوجب تأويل الآية .
وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني : إن هذا الكلام تمام لما وعد الله به موسى من النصرة والعسمة أي أصرفهم عن آياتي فلا يقدرون على منعك من تبليغها كما قال في حق نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ) بلغ ما أنزل إليك ( إلى قوله ) والله يعصمك من الناس ( وقل : سأصرف هؤلاء المتكبرين عن نيل ما في آياتي من العز والكرامة المعدَّة للأنبياء والمؤمنين ، فيكون ذلك الصرف المستلزم للإذلال والإهانة جارياً مجرى العقوبة على كفرهم وتكبرهم على الله تعالى .
وقيل : إن من الآيات آيات لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد سبق الإيمان فإذا كفروا فقد صيرا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بما بعد ذلك فحينئذ يصرفم الله تعالى عنها .
وبوجه آخر إن الله تعالى إذا علم من حال بعضهم أنه إذا شاهد تلك الآيات فإنه لا يستدل بها بل يستخف بها ولا يقوم بحقها ، فإذا علم الله تعالى ذلك صح أن يصرفهم عنها ، أو عن الحسن : إن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه وهي بالطبع والخذلان ، فالمراد بالمصروفين هؤلاء .
وعن رسول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إذا عظمت أمتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن لمنكر حرمت بركة الوحي ) قوله ) بغير الحق ( أما أن يكون حالاً بمعنى يتكبرون غير محقين لأن التكبير بالحق لله وحده ، إذ لا كمال فوق كماله فله إظهار العظمة والكبرياء على كل من سواه ، وإما أن يكون صلة للفعل أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الذي لا أصل له ، ومنه يعلم أن للمحق ان يتكبر على المبطل كما قيل : التكبر على المتكبر صدقة .
والرشد طريق الهدى والحق والصواب كلاهما واحد قاله الكسائي ، وفرق أبو عمرو فقال : الرشد بضم الراء الصلاح لقوله ) فإن آنستم منهم رشد ) [ النساء : 6 ] وبفتحتين الاستقامة في الدين قوله تعالى ) مما علمت رشداً ) [ الكهف : 66 ] وسبيل الغي ضد ما ذكرنا .
ثم بين أن ذلك الصرف وتعكس القضية إنما كان الأمرين : كونهم مكذبين بآيات الله ، وكونهم غافلين عنها ، ومحل ذلك الرفع على الابتداء أو النصب على معنى صرفهم الله ذلك الصرف بسبب أنهم كذا وكذا .
ثم بيّن أن أولئك المتكبرين مجزيون شر الجزاء وإن صدر عنهم صورة الإحسان والخير فقال ) والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ( أي جحدوا المعاد حبطت أعمالهم .
ثم قال ) هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ( احتجت الأشاعرة بها على فساد قول أبي هاشم إن تارك الواجب يستحق العقاب بمجرد ترك الواجب وإن لم يصدر عنه فعل ذلك .
قالوا : لأنها دلت على أنه لا جزاء إلا على عمل وترك الواجب ليس بعمل .
أجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء .
ورد(3/318)
" صفحة رقم 319 "
بأن الجزأ ما يجزىء ، أي يكفي عن لمنع عن النهي أو في الحث على المأمور ، لكن العقاب على ترك الواجب كافٍ في الزجر عن ذلك فكان جزاء .
قيل : إن بني إسرائيل كان له عيد يتزينون فيه يستعيرون من القبط الحلي فاستعاروها مرة فأغرق الله القبط فبقيت تلك الحل في أيدي بني إسرائيل ، فلهذا أضيفت إليهم على أن مجرد ملابسة الاستعارة أيضاً تحقق الإضافة وتصححها .
والحليّ جمع حلي كثدي وثديّ .
ومن كسر الحاء فللإتباع .
فجمع السامري تلك الحليّ وكان رجلاً مطاعاً فيهم ذا قدر وكانوا قد سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً بعبدونه فصاغ السامري لهم عجلاً .
واختلف المفسرون العجل فانقلب لحماً ودماً وظهر منه الخوار مرة واحدة فقال السامري هذا إلهكم وإله موسى .
قال أكثر المفسرين من المعتزلة : إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوّفاً ووضع في جوفه أنابيب على وجه مخصوص ، ثم وضع التمثال على مهب الرياح فظهر منه صوت شديد يشبه خوار العجل .
وقال آخرون : إنه صير ذلك التمثال أجوف وخبأ تحته من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس .
وإنما قال سبحانه ) واتخذ قوم موسى ( من أن المتخذ هو السامريّ وحده لأن القوم رضوا بذلك واجتمعوا علهي فكأنهم شاركوه ، أو لأن المراد باتخاذ العجل هو عبادته كقوله ) ثم اتخذتم العجل من بعده ) [ البقرة : 51 ] أي من بعد مضيه إلى الطور .
قال الحسن : كلهم عبدوا العجل غير هارون لعموم الآية ولقول موسى في الدعاء ) رب اغفر لي ولأخي ( ولو كان غيرهما أهلاً للدعاء لأشركهم في ذلك .
وقال آخرون : بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه لقوله سبحانه ) من قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [ الأعراف : 181 ] وهل انقلب ذلك التمثال لحماً ودماً أو بقي ذهباً كما كان مال بعضهم إلى الأوّل لأنه تعالى قال ) عجلاً جسداً له خوار ( والجسد اسم للجسم ذي اللحم والدّم والخوار إنما يكون للبقرة لا للصورة .
واستبعده بعضهم وناقش في أن الجسد مختص بذي الروح .
ثم قال : إن ذلك الصوت لما أشبه الخوار لما يبعد إطلاق لفظ الخوار عليه .
وقرأ على كرم الله وجهه ) جؤار ( بالجيم والهمزة من جأر إذا صاح و ) جسداً ( بدلاً من ) عجلاً ( ثم إنه سبحانه احتج على فساد كون ذلك العجل إلهاً بقوله ) ألم يرو أنه يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً ( ومن حق الإله أن يكون متكلماً هادياً إلى سبيل الحق ومناهجه بما ركز في العقول من الأدلة وبما أنزل من الكتب .
قالت المعتزلة : ههنا سؤال فمن كان مضلاً عن الدين لا يصلح أن يكون إلهاً .
قالت الأشاعرة : لو صح أن الإله يلزم أن يكون متكلماً هادياً لزم أن يكون كل متكلم هادٍ إلهاً .
والحق أن الملازمة(3/319)
" صفحة رقم 320 "
ممنوعة فإن الدعوى ليست إلا أن كل إله يجب أن يكون متكلماً هادياً والموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها على أنه يمكن أن يقال لا متكلم ولا هادي في الحقيقة إلا الله تعالى .
ثم ختم الآية بقوله ) اتخذوه وكانوا ظالمين ( وهذا كما قال في البقرة ) ولما سقط في أيديهم ( معناه ولما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل .
واختلفوا في وجه هذه الاستعارة فقال الزجاج : أريد بالأيدي القلوب والأنفس كما يقال حصل في يده مكروه وإن كان من المحال حصول المكروه في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين .
وقال ي الكشفا : إن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه وقع فيها ، فأصل الكلام سقط فوه في يده فحذف الفاعل وبني الفعل للمفعول فيه كما يحذف الفعل ويبنى للمفعول فيه في قولهم ( مُرَّ بزيد ) وهذا من باب الكناية لأن عض اليد من لوازم الحسرة والندم .
وقيل : كل عمل يقدم المرء عليه فذلك لاعتقاد أن ذلك العمل خير وصواب وأنه يورثه رفعة ورتبة ، فإذا بان أن ذلك العمل باطل فكأنه انحط وسقط من علو إلى أسفل ومنه قولهم للرجل إذا أخطأ ( ذلك منه سقطة ) ثم إن اليد آلة البطش والأخذ والنادم كأنه تدارك الحالة التي لأجلها حصل له الندم وكأنه قد سقط في يد نفسه من حيث أنه بعد حصول ذلك الندم يشتغل بالتدارك والتلافي .
وحكى الواحدي أنه من السقط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج فمن وقع في عاقبته ولم يحصل على طائل من سعة .
وقال بعضهم : الآله الأصلية في أكثر الأعمال اليد والعاجز في حكم الساقط فسقاط اليد هو العجز التام كما يقال في العرف ضل يده ورجله لمن لا يهتدي إلى صلاحه .
وقيل : إن ( في ) بمعنى ( على ) أي سقط على أيديهم فإن من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضعه على يده تحت ذقنه .
ثم قال الله تعالى ) ورأوا أنهم قد ضلوا ( أي قد تبينوا ضلالهم كأنهم أبصروه بعيونهم .
قال القاضي : الكلام على التقديم والتأخير لأن الندم والتحسر بعد تعرف الحال وتبين الخطأ والترتيب الأصلي : ولما رأوا أنهم قد لوا سقط في أيديهم .
ويمكن أن يقال : الواو لا تفيد الترتيب ، أو يقال : الإقدام على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأً فاسد موجب للندم وقد يتكامل العلم فيظهر أنه خطأ جزماً .
ثم إنهم اعترفوا بذنوبهم وانقطعوا إلى ربهم وذكروا مثل ما ذكر أبونا آدم وأمنا حواء ) إن لم يرحمنا ربنا ( الآية .
) ولما رجع موسى إلى قومه ( قال بعضهم إن موسى قد عرف خبر القوم بعد رجوعه إليهم .
وقال الأكثرون وهو قول أبي مسلم : إنه كان عارفاً(3/320)
" صفحة رقم 321 "
بذلك قبل رجوعه بدليل قوله ) غضبان أسفاً ( فإنه يدل على أن هاتين الحالتين حاصلتنا له عند رجوعه إليهم ولما جاء في سورة طه ) قد فتنا قومك من بعدك ) [ الآية : 85 ] وفي دليل ظاهر على أنه تعالى أخبره بوقوع الواقعة في الميقات .
والأسف الشديد الغضب وهو قول أبي الدرداء الزجاج .
وعن ابن عباس والحسن إنه الزين .
وقال الواحدي : هما متقاربان فإذا جاءك ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت ، فكأن موسى غضبان على قومه أسفاً من فتنة ربه ) بئسما خلفتموني ( خاطب عبدة العجل أو وجوه القوم - هارون والمؤمنين - حيث لم يكفوا العبدة .
وفاعل ) بئس ( مضمر يفسره ) ما خلفتموني ( والمخصوص محذوف التقدير : بئس خلاف خلفتمونيها من بعدي خلافتكم .
ومعنى ) من بعدي ( مع قوله ) خلفتموني ( من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله ونفي الأنداد أو من بعد ما كنت أحمل القوم عليه من التوحيد والكف من اتخاذ إليه غير الله حيث قالوا جعل لنا إلهاً ومن حق الخلفاء أن يسيرا بسيرة مستخلفيهم من بعدهم ولا يخالفوهم ونظير الآية قوله ) فخلف من بعدهم خلف ) [ مريم : 58 ] أي من بعد أولئك الموصفين بالصفات الحميدة ) أعجلتم أمر ربكم ( قال الواحدي : العجلة التقدم بالشيء قبل وقته ولذلك صارت مذمومة ف الأغلب بخلاف السرعة فإنها عمل الشيء في أوّل وقته .
قال ابن عباس : يعني أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبرو له .
وقال الحسن : أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين وذلك أنهم قدّروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة فقد مات .
وروي أن السامري قال لهم : إن موسى لن يرجع وإنه قد مات .
وروي أنهم عدوا عشرين يوماً بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا .
وقال الكلبي ، أعجلتم عبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم .
وقال عطاء : أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به ) وألقى الألواح ( التي فيها التوراة لما لحقه من الدهش والضجر غضباً لله .
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : ( يرحم الله أخي موسى ما الخبر كالمعاينة ) لقد أخبره الله تعالى بفتنة قومه فعرف أن ما أخبره به حق وأنه مع ذلك متمسك بما في يده .
وروي أن التوراة كانت سبعة أسباع فلما ألفى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباعها وبقي سبع واحد ، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء وفيما بقي الهدى والرحمة .
قال في التفسير الكبير : إلقاء الألواح ثابت بالقرآن ، فأما إلقاؤها بحيث تكسرت فلا وإنه جراءة(3/321)
" صفحة رقم 322 "
عظيمة ومثله لا يقليف بالأنبياء .
وأقول : الجراءة تحصل بنفس الإلقاء لا بالتكسير الذي لا يتعلق باختياره فكل ما يجعل عذراً عن نفس الإلقاء يصح أن يجعل عذراً عن التكسر ) وأخذ برأس أخيه ( أي بشرع رأسه يجره إليه بذؤابته .
واعلم أن موسى علهي السلام كان في نفسه حديداً شديد الغضب وكان هارون ألن منه جانباً ولذلك كان أحبّ إلى بني إسرائيل من موسى .
وقد استتبع غضبه أمرين : أحدهما إلقاء الألواح والآخر أخذ رأس أخيه جار إليه ، فزعم مثبتو عصمة الأنبياء أنه جر برأس أخيه إلى نفسه ليسارّه ويستكشف منه كيفية الواقعة لا لأجل الإهانة والاستخفاف ، ثم إن هارون خاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى فعل ما فعل به إهانة ) فقال يا ابن أم ( من كسرها فعلى طرح ياء المتكلم ، ومن فتحها فتشبيهاً بخمسة عشر لكثرة الاستعمال أو على الألف المبدلة من ياء الإضافة .
وإنما أضافه إلى الأم إشارة إلى أن أمهما واحدة على ما روي أنه كان أخاه لأمه ليكون أدعى إلى العطف والرقة لأنها كانت مؤمنة فافتخر .
بنسبها ولأنها هي التي تحملت فيه الشدائد فذكره حقها ) إن القوم استضعفوني ( استذلوني وقهرون ولم يبالوا بي لقلة أنصاري ) وكادوا يقتلونني ( حين منعتهم عبادة العجل ونهيتهم عنها ) فلا تشمت بي الأعداء ( العابدي العجل فإنهم يحملون هذا لذي تفعل بي على الإهانة لا على الإكرام منهم .
ولا يخفى ما في بعض هذا التفسير من التعسف والتكلف ، والحق أن هذا القدر من الحدة الناشئة من عصبية الدين لا يقدح في العصمة وغايته أن يكون من قبيل ترك الأولى فلذلك ) قال ( موسى ) رب اغفر لي ( ما أقدمت عليه من الحدة قبل جلية الحال ) ولأخي ( أن عساه فرّط في شأن الخلافة ثم أخبر عن مجازاة القوم فقال ) إن الذين اتخذوا العجل ( إلهاً ) سينالهم غضب من ربهم وذلة ( كلاهما في الحياة الدنيا .
فالغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم والذلة خروجهم من ديارهم وذل الغربة لا يخفى .
واعترض بأن قوله ) سينالهم ( للاستقبال وفي وقت نزول الآية كان القتل واقعاً .
وأجيب بأن هذا الكلام حكاية عما أخبر الله تعالى موسى به في الميقات من افتتان قومه وكان سابقاً على وقوعه في الغضب والذلة .
قلت : ويجوز أن يكون الآيتان من تتمة قول موسى إلا أن قوله ) وكذلك نجزي المفترين ( ينبو عن ذلك إلا أن يحمل على الاعتراض .
ولما في هذا التفسير من التكلف ذهب به بعض المفسرين إلى أن المضاف في الآية محذوف والتقدير : إن الذن اتخذ آباؤهم العجل يعني الذين كانا في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا بضرب الجزية ، أو غضب وذلة كلاهما في الدنيا بالقتل(3/322)
" صفحة رقم 323 "
والجلاء كما نال بني قريظة والنضير ، أو التقدير : إن الذين اتخذا العجل سينال أولادهم ) وكذلك نجزي المفترين ( أي كل مفتر في دين الله فجزاؤه الغضب والذلة .
قال مالك بن أنس : ما من مبتدع إلا وتجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية ) والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا ( ظاهر الآية يدل على أن التوبة شرط العفو وأنه لا بد مع التوبة من تجديد الإيمان فما أصعب شأن المذنبين ، ولكن عموم لفظ السيئات يدل على أن من أتى بجميع المعاصي ثم تاب فإنه الله يغفرها له فما احسن حال التائبين ) لغفور ( ستور عليهم محَّاء لما صدر منهم ) رحيم ( منعم عليهم بالجنة .
وفيه أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوه وكرمه أعظم وأجل .
ولما بين ما كان من موسى مع الغضب بين ما كان منه بعد الغضب فقال ) ولما سكت عن موسى الغضب ( قال علماء البيان : إنه خرج على قانون الاستعارة فكأنه الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول ألق الألواح وغير ذلك ، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء .
وعن عكرمة أن المعنى سكت موسى عن الغضب فقلب كما يقال : أدخلت الخف في رجل وإنما أدخل الرجل في الخف .
وقيل : السكوت بمعنى السكون وقد قرىء به .
) أخذ الألواح ( التي ألقاها منبهاً على زوال غضبه لأنه أوكد ما تقدم من إمارات الغضب ) وفي نسختها ( فعلة بمعنى مفعول كالخطبة من النسخ والكتب أي في مكتوبها من اللوح المحفوظ سواء قلنا إن الألواح لم تتكسر وأخذها موسى بأعيانها بعد ما ألقاها أو قلنا إنها تكسرت وأخذ ما بقي منها ، وقيل : النسخ بمعنى الإزالة لما روي عن ابن عباس أنه لما ألقى الألواح تكسر فصام أربعين يوماً فأعاد الله تعالى الألواح وفها غير ما في الأولى ) هدى ( من الضلال ) ورحمته ( من العذاب ) للذين هم لربهم يرهبون ( أدخل اللام في المفعول لتقدمه فإن تأخير الفعل يكسبه ضعفاً ونظيره ) للرؤيا تعبرون ) [ يوسف : 43 ] وقولك : لزيد ضربت ويجوز أن يكون المراد للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء وسمعة ، وجوّز بعضهم أن تكون اللام صلة نحو ردف لكم .
التأويل : ( ثلاثين ليلة ( لئلا تستكثر النفس الأربعين من ضعف البشرية ) وأتممناها بعشر ( الخصوصية الأربعين في ظهور ينابيع الحكمة من القلب على اللسان ) وقال موسى ( الروح ) لأخيه هارون ( القلب عند توجهه لمقام المكالمة والتجلي كن خليفتي في قومي من الأوصاف البشرية و ) وأصلح ( ذات بينهم على وفق الشريقعة وقانون الطريقة ) ولا تتبع سبيل المفسدين ( من الهوى والطبيعة .
وهذه الخلافة هي السر الأعظم في بعثة الروح من ذروة عالم الأرواح إلى حضيض عالم الأشباح ) ولما جاء موسى ( ولما حصل الروح على بساط القرب وتتابع عليه كاسات الشرب أثر فيه سماع الكلمات فطال لسان(3/323)
" صفحة رقم 324 "
انبساطه عند التمكن على بساطه ف ) قال رب أنظر إليك ( فقيل : هيهات أنت بعد في بعد الأثنينية وحجب جبل الأنانية فلن تراني لأنه لا يراني إلا من كنت له بصراً فبي يبصر ) ولكن انظر ( إلى جبل الأنانية ) فإن استقر مكانه ( عند التجلي ) فسوف تراني ( ببصر أنانيتك ) وخر موسى صعقاً ( بالأنانية فكان ما كان بعد أن بان ما بان وأشرقت الأرض بنور ربها .
قد كان ما كان سراً أبوح به
فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
فلو لم يكن جبل أنانية النفس بين موسى الروح وتجلي الرب لطاش في الحال وما عاش ، ولولا أن القلب يحيا عند الفناء بالتجلي لما أمكنه الإفاقة والروح إلى الوجود ، ولو لم يكن تعلق الروح بالجسد لما استسعد بالتجلي ولا بالتحلي فافهم .
) فما أفاق ( من غشية الأنانية بسطوة تجلي الربوبية ) قال ( موسى بلا هويته ) سبحانك ( تنزيهاً لك من خلقك واتصال الخلق بك ) وانا أوّل المؤمنين ( بأنك لا ترى بالأنية وإنما ترى بنور هويتك .
) برسالاتي وبكلامي ( دون رؤيتي ) وكن من الشاكرين ( فإن الشكر يبلغك إلى ما سألت من الرؤية لأن الشكر يورث الزيادة والزيادة هي الرؤية ) للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ يونس : 26 ] ( فخذها بقوّة ( اي بقوة الصدق والإخلاص أو بقوة وإعانة منا ) سأريكم دار الفاسقين ( الخارجين عن طلب الله إلى طلب الآخرة في الدنيا ) سأصرف عن آياتي ( فبحجاب التكبر يحجب المتكبر عن رؤية الآيات ) واتخذ قوم موسى ( أي سامري الهوى من بعد توجه موسى الروح لميقات مكالمة الحق .
اتخذ حلى زينة الدنيا ورعنات البشرية التي استعارها بنو إسرائيل صفات القلب من قبط صفات النفس ) عجلاً ( هو الدنيا ) له خوار ( يدعو الخلق به إلى نفسه ) ولما سقط في أيديهم ( عند رجوع موسى الروح إلى قومه وهم الأوصاف الإنسانية ندمت من فعلها وعادت إلى ما كانت فيه من عبودية الحق والإخلاص له قائلة ) إن لم يرحمنا ( بجذبات العناية ) ربنا ( الآية ) غضبان ( مما عبدت صفات القلب عجل الدنيا ) أسفاً ( على ما فاتها من عبودية الحق ) أعجلتم امر ربكم ( بالرجوع إلى الدنيا وزينتاه التعلق بها قبل أوانه من غير أن يأمركم به ربكم .
وفيه إشارة إلى أن أصحاب السلوك لا ينبغي ان يلتفتوا إلى شيء من الدنيا أثناء الطلب اللهم إلا إذا قطعوا مفاوز النفس والهوى ووصلوا إلى كعبة وصال المولى فيأمرهم المولى أن يرجعوا إلى الدنيا لدعوة الخلق ) وألقى الألواح ( يعني ما لاح للروح من اللوائح الربانية عند استيلاء الغضب الطبيعي .
) وأخذ برأس أخيه ( القلب فإنه أخو الروح ) يجره إليه ( قسراً عند استيلاء طبيعة الروحانية ) قال ابن أم ( هما من أب وأم واحد أبوهما الأمر وأمهما الخلق ، وإنما نسبه إلى الخلق لأن في عالم الخلق تواضعاً وتذللاً بالنسبة إلى عالم(3/324)
" صفحة رقم 325 "
الأمر .
إن ) القوم استضعفوني ( يعني أن أوصاف البشرية استذلوني بالغلبات عند غيبتك ) وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ( وهم الشيطان والنفس والهوى ) ولا تجعلني مع القوم الظلمين ( فيه أن صفات القلب تتغير وتتلون بلّون صفات النفس ورعونتها ، ولكن القلب من حيث هو هو لا يتغير عما جبل عليه من محبة الله وطلبه وإنما يمرض بتغير صفاته كما أن النفس لا تتغير من حيث هي عما جبلت عليه من حب الدنيا وطلبها ، وإنما تتغير صفاتها من الأمارية إلى اللوّامية والمهمية والمطمئنة والرجوع إلى الحق ، ولو وكلت إلى نفسها طرفة عين لعادت إلى طبعها ) رب اغفر لي ولأخي ( إشارة إلى أن اللوح والقلب استعداد قبول الجذبة الإلهية التي يدخلها بالسير في عالم الصفات ) وكذلك نجزى المفترين ( الذين يدّعون أن الهل أعطاهم قوّة لا يضرهم عبادة الهوى والدنيا وشهواتها .
( الأعراف : ( 155 - 159 ) واختار موسى قومه . . . .
" واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " ( القراآت ) عذابي أصيب ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع ) أصارهم ( على جميع : أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب والمفضل .
الباقون على التوحيد .
الوقوف ) لميقاتنا ( ج للابتداء بكلمة الجزاء مع فاء التعقيب ) وإياي ( ط ) منا ( ج لتصدر ( ان ) النافية مع اتحاد القائل ) فتنتك ( ج لأن ما بعده مستأنف ) وتهدي من تشاء ( ط ) الغافرين ( ه ) إليك ( ط ) من أشاء ( ط للفصل بين الجملتين تعظيماً لشأنهما مع الاتفاق(3/325)
" صفحة رقم 326 "
في اللفظ ) كل شيء ( ط للتبيين واختلاف الجملتين والفاء لاستئناف وعد على الخصوص ) يؤمنون ( ه ج لاحتمال ما بعده النصب أو الرع على المدح والجر على البدل ) الإنجيل ( ج لأن ) يأمرهم ( يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو يأمرهم ، وأن يكون نعتاً أي مكتوباً أمراً أو بدلاً من ) مكتوباً ( أو مفعولاً بعد مفعول أي يجدونه أمراً ، أو يكون التقدير الأمي الذ يأمرهم فيكون كالبدل من الصلة ) كانت عليهم ( ط ) أنزل معه ( لا لأن ما بعده خبر ( فالذين ) .
) المفلحون ( ه ) والأرض ( ج لاحتمال ما بعده الابتداء والحال أي استحق ملك السموات غير مشارك ) ويميت ( ط لطول الكلام وإلا فالفاء للجواؤ أي إذا كنت رسولاً فأمنوا إجابة .
) تهتدون ( ه ) يعدلون ( ه .
التفسير : الاختيار افتعال من لفظ الخير يقال : اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره ومن هنا سمي فعل الحيوان فعلاً اختيارياً ، وذلك ان صدور الفعل عن الحيوان موقوف على حكمه بكون ذلك الفعل خيراً له من تركه .
قال النحويون : أصله واختار موسى من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل ، فمن الأفعال ما يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف واحد ثم يتسع فيحذف الحرف .
من ذلك قولهم : اخترت من الرجال زيداً ثم يتسع فيقال اخترت يراد بالقوم المعتبرون منهم إطلاقاً لاسم الجنس على ما هو المقصود منهم فيكون مفعولاً أوّل من غير واسطة ويكون ) سبيعن ( بدلاً أو بياناً قيل : اختار من اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة فاروا اثنين وسبعين فقال : ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال : إن لمن قعد منكم مثل اجر من خرج فقعد كالب ويوشع .
وروي أنه لم يجد إلا ستين شيخاً فأوحى إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً .
وقيل : كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يجاوزوا الأربعين قد ذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى أن يتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سينا لميقات ربه .
وللمفسرين خلاف في أن هذا الميقات عين ميقات الكلام والرؤية أم غيره ؟ الذاهبون إلى الأوّل قالوا : إن موسى كان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل ، فلما سمعا الكلام طلبوا الرؤية وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهي المراد في تفسير قوله ) وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك ( وقد ذكرنا هنالك أن منهم من قال هذه الواقعة كانت قبل قتل الأنفس توبة من عبادة العجل ، ومنهم من قال إنها كانت بعد القتل .
واحتج أصحاب هذا المذهب على المغايرة بأنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها ذكر قصة العجل ثم ختم الكلام بهذه القصة ، فظاهر الحل يتقضي أن تكون هذه القصة مغايرة لتلك(3/326)
" صفحة رقم 327 "
القصة وإلا انخرم التناسب .
عن علي عليه السلام أن موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبل فنام هارون فتوفاه الله تعالى ، فلما رجع موسى إلى قومه قالوا إنه قتل هارون فاختار من قومه سبعين فذهبوا إلى هارون فأحياه الله تعالى فقال : ما قتلني أحد فأخذتهم الرجفة هنالك .
قيل : كانت موتاً .
وقيل أخذتهم الرعدة حتى كادت تبين مفاصلهم وتنقض ظهورهم فخاف موسى عليهم الموت فدعا الله تعالى وقال ) رب لو شئت ألهكتهم من قبل وإياي ( قال في الكشاف : هذا تمن منه للإهلاك قبل ان يرى ما رأى كما يقول الندم على الأمر إذا رأى سوء المغبة لو شاء الله لأهلكني قبل هذا ) أتهلكنا ( جميعاً يعني نفسه وإياهم ) بما فعل السفهاء منا ( قال أهل العلم : لا يجوز أن يظن موسى أن الله تعالى أهلك قوماً بذنوب غيره ، فهذا الاستفهام بمعنى الجحد أراد أنك لا تفعل ذلك كما تقول : أتهين من يخدمك تريد أنك لا تفعل ذلك ، وقال المبرد : إنه استفهام استعطاف أي لا تهلكنا .
قيل : لو كان تسفيههم لقولهم ) لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) [ النساء : ( ناسب أن يقال : أتهلكنا بما قاله السفهاء .
فإذن التسفيه لفعل صدر عنهم كعباة العجل أوغيرها ، ومنه يعلم أن هذا الميقات غير ميقات طلب الرؤية ) إن هي إلا فتنتك ( الضمير يعود غلى الفتنة أي كما تقول إن هو إلا زيد وإن هي إلا هند قاله الواحدي .
ولعله يعود إلى مقدر ذهني والمعنى أن الفتنة التي وقع يها السفهاء لم تكن إلا تنتك ابتلاءك ومحنتك حين كلمتني وسمعوا كلامك أو حين أسمعتهم صوت العجل ) تضل بها ( أي بالفتنة من تشاء فيفتتن ) وتهدي من تشاء ( فيثبت على الحق .
قالت الأشاعرة : في الآية دلالة ظاهرة على مذهبنا ان الإضلال والهداية من الله تعالى .
وقالت الأشاعرة : في محنته لما كانت سببباً لأن ضلوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام أو الضمر يعود إلى الرجفة أي ) تضل ( على الجنة بسبب عدم الصبر على تلك الرجفة ، أولعدم الإيمان بأنها من عندك ) من تشاء وتهدي ( إلى الجنة بها الاضداد ما قلنا ) من تشاء ( أو المراد بالإضلال الإهلاك أي تهلك من تشاء بالرجحفة وتصرفاه عمن تشاء ) أنت ولينا ( يفيد الحصر أي لا ولي لنا ولا ناصر إلا أنت ) فاغفر لنا وارحمنا ( قيل : تذكر أن قوله ) إن هي إلا فتنتك ( جراءة عظيمة فأشرك نفسه مع قومه في طلب المغفرة والرحمة ) وأنت خير الغافرين ( لأن غفرانك غير متوقف على جلب نفع أو دفع ضر بل لمحض الفضل والكرم .
) واكتب ( أوجب ) لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ( نظيره سؤال المؤمنين من هذه الأمة ) ربنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) [ البقرة : 201 ] وقد فسرنا في سورة البقرة .
واعلم أن كونه تعالى ولياً للعبد يناسبه أن يطلب العبد منه دفع(3/327)
" صفحة رقم 328 "
المضار وتحصيل المنافع ليظهرآثار كرمه وإلهيته .
وأيضاً اشتغال العبد بالتوبة والخضوع يناسب طلب هذه الأشياء .
فذكر السبب الأوّل ثم رتب عليه الدعاء وختمه بالسبب الثاني وهو قوله ) إنَّا هدنا إليك ( قال أهل اللغة : النهود التوبة أي تبنا ورجعنا .
وقد تم بذكر السببين عهد عز الربوبية وعهد ذل العبودية فلا يبعد وقوع الإجابة ولأن دفع الضر مقدم على تحصيل النفع ، قدم طلب المغفرة والرحمة على طلب إيجاب الحسنة في الدارين ) قال ( الله تعالى في جواب موسى ) عذابي ( من حالة وصفته أني ) أصيب به من أشاء ( إذا ليس لأحد عليّ اعتراض في ملكي .
وقالت المعتزلة : أي من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة .
وقرأ الحسن ) من أساء ( من الإساءة ) ورحمتي ( من شأنها أنها ) وسعت كل شيء ( قالت الأشاعرة : هذا من العام الذي أريد به الخاص .
وقال أكثر المحققين : إن رحمته في الدنيا تعم الكل ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمته .
وأما في الآخرة فهي مختصة بالمؤمنين وذلك قوله ) فسأكتبها للذين يتقون ( وقيل : الوجود خر من العدم فلا موجود إلا وهو مشمول بنعمته .
وقيل : الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض وما بالذات راجح غالب .
وقالت المعتزلة : الرحمة عبارة عن إرادة الخير ولا حي إلا وقد خلقه الله تعالى للرحمة والخير واللذة وإن حصل هناك ألم فله أعواض كثيرة .
واعلم أن تكاليف الله تعالى كثيرة ولكنها محصورة في نوعين : التروك والأفعال .
فقوله ) فسأكتبها للذين يتقون ( إشارة إلى التروك .
التكليف الفعلي إما ما لي وهو قوله ) ويؤتون الزكاة ( وإما غره وذلك قوله ) والذين هم بآياتنا يؤمنون ( فإنه يشمل كل ما يجب على الإنسان علماً وعملاً .
ثم ضم إلى ذلك اتباع النب الأمي إلى آخره .
وصف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ف هذه الآية بصفات تسع : الأولى الرسالة .
الثانية النبوة .
فإن قيل : وجه فقد يكون رسولاً ولا يكون نبياً كقوله ) جاعل الملائكة رسلاً ) [ فاطر : 1 ] وقد يكون نبياً لا رسولاً ككثير من الأنبياء ، فلا يكون أحد الوصفين على الإطلاق مغنياً عن الآخر .
ولو سلم فذكر الآخر تتميم وتصريح بما علم ضمناً .
الثالثة .
كونه أمياً .
قال الزجاج : معناه أنه على صفة أمة العرب .
قال صلى الله عليه وآله : ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) .
وقيل : إنه منسوب إلى الأم أي إنه على هيئته يوم ولد لم يكتسب خطأ ودراسة .
وكان هذا من جملة معجزاب نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) وبيانه من وجوه : الأول أنه كان يقرأ(3/328)
" صفحة رقم 329 "
عليهم كتاب الله منظوماً مرة بعد أخرى من غير تبديل .
والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد أن يزيد فيها وينقص ، فهذا المعنى من مدد سماوي كقوله ) سنقرئك فلا تنسى ) [ الأعلى : 6 ] الثاني لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهماً بأنه طالع كتب الأوّلين ، ولما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على جلائل العلوم من غير تعلم ومطالعة عرف انه من السماء وإليه الإشارة بقوله ) وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاق المبطلون ) [ العنكبوت : 48 ] الثالث : أن تعلم الخط لا يتفقر إلا إلى فطنة قليلة ومع ذلك كان الخط مشكلاً عليه .
ثم إن الله تعالى آتاه علوم الأوّلين والآخرين وما لم يصل إليه أحد من العالمين ، فالجمع بين هاتين الحالتين من الأمور الخارقة للعادة كالجمع بين الضدين .
الصفة الرابعة ) الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ( الضمير في يجدون للذين يتعبونه من بني إسرائيل .
ثم إن كان المراد أسلافهم فالوجه ان يراد بالاتباع اعتقاد نبوته من حيث وجدوا نعته في التوراة إذ لا يمكن أن يتبعوه في شرائعه قبل بعثه إلى الخلق ، ويكون المراد من قوله ) والإنجيل ( أنهم يجدون نعته مكتوباً عندهم في الإنجيل فمن المحجال أن يجدوه في الإنجيل قبل إنزال الإنجيل ، وإن كان المراد المعاصرين فالمعنى أن هذه الرحمة لا يفوز بها بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بالدلائل في زمن موسى واتبع نبي آخر الزمان في شرائعه ، وفي هذا دليل على أن نعته وصحة نبوّته مكتوب في التوراة والإنجيل ، وإلا كان ذكر هذا الكلام من أعظم القوادح والمنفرات لأهل الكتبين عن قبول قوله ، لأن الإصرار على الزور والبهتان يوجب نقصان حال المدعي فلا يرتكبه عاقل فلما أصل على ذلك دل على أن لأمر في نفسه كذلك الخامسة والسادسة ) يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ( وقد ذكرنا تفصيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آل عمران ومجامع ذلك محصورة في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ملاك الدين تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله ) فإن كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلاً قاهراً وبرهاناً باهراً على توحيد الله وتنزيهه فإنه يجب النظر إليها بعين الاحترام والإشفاق كما يليق بها .
السابعة ) ويحل لهم الطيبات ( قيل : أي ما يستطاب طبعاً لأن تناول ذلك يفيد لذة .
وقيل : يعني الأشياء التي حكم الله تعالى بحلها وزيف بأنه يجري مجرى قول القائل : ويحل المحللات وهو تكرار .
ويمكن أن يجاب بأن المراد ويبين لهم المحللات .
وفائدة العدول أن يعلم أن كل حلال مستطاب طبعاً وأن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل إلا الدليل منفصل .
وقيل : يعني ما يحرم عليه من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها .
الثامنة ) ويحرم عليهم الخبائث ( قال(3/329)
" صفحة رقم 330 "
عطاء عن ابن عباس : الميتة والدم ونحوهما من المحرمات .
وقيل : كل ما يستخبثة الطبع فالأصل فيه لحرمة إلا بدليل منفصل .
التاسعة ) ويضع عنهم إصرهم ( الإصر الثقل الذي يأصر حبه أي يحبسه من الحراك لثقله وهو مثل لصعوبة تكاليفهم كاشتراط قتل النفس في صحة التوبة .
وكذا الأغلال التي كانت علهيم مثل لما في شرائعهم من الأمور الشاقة كالقصاص بتة من غير شرع الدية ، وكقطع الأعضاء الخاطئة ، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب .
وإحراق الغنائم ، تحرم العروق ف اللحم جعلها الله تعالى أغلالاً لأن التحريم يمنع من الفعل كما أن الغل يمنع من الفعل .
عن عطاء : كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسموح وغلو أيديهم إلى أعناقهم ، وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبدة .
فالأغلال على هذا القول غير مستعارة ، وفي الآية دلالة على أن الأصل في المضار والمشاق الحرمة كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) وهذا أصل عظيم في هذه الشريعة .
ثم لما وصفه بالصفات التسع أكد الإيمان به بقوله ) فالذين آمنوا به ( قال ابن عباس : يعني من اليهود والأولى حمله على العموم ) وعزروه ( وقروه وعظموه .
قال في الكشاف : وأصل العزر المنع ومنه التعزير للضرب دون الحد لأنه منع من معاودة القبيح .
فالمراد ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدوّه ، وعلى هذا لم يبق بينه وبين قوله ) ونصروه ( فرق كبير ) واتبعوا النور الذي أنزل معه ( وهو القرآن أي أنزل مع نبوّته لأن نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن أو يتعلق ب ) اتبعوا ( أي اتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته ، واتبعوا القرآن كما اتبعه النبي مصاحبين له في اتباعه ) أولئك هم المفلحون ( الفائزون بالمطلوب في الدارين ، اعلم أنه سبحانه لما قال ) فسأكتبها للذين يتقون ( بين أن من شرو نزول الرحمة لأولئك المتقين كونه متبعين لرسول آخر الزمان ، ثم أراد أن يحقق عموم رسالته إلى المكلفين فقال ) قل يا أيها الناس أني رسول إليكم جميعاً ( وانتصابه على الحال من ) إليكم ( وفيه دليل على أن محمداً صلى الله عليه وآله مبعوث إلى الخلق كافة خلافاً لطائفة من اليهود يقال لهم العيسوية أتباع عيسى الأصفهاني ، زعموا أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) رسول صادق لكنه مبعوث إلى العرب خاصة وفساده طظاهر لأنه من المعلوم بالتواتر من دينه أنه كان يدعي عموم الرسالة فإن كان رسولاً إلى العرب وإلى غيرهم .
وزعم بعض العلماء أنه عام دخله التخصيص لأنه(3/330)
" صفحة رقم 331 "
غير مبعوث إلى غير المكلفين بقوله : ( صلى الله عليه وسلم ) : ( رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ) وأيضاً يمكن وجود قوم في طرف من أطراف العمارة لم يصل إليهم خبر وجوده فهم لا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوّته .
والجواب أن رفع القلم عن الأصناف الثلاثة أيضاً حكم عليهم بهذا الاعتبار يدخلون تحت الخطاب وإن وجود قوم كما زعمتم من المستبعدات فلا يستحق الالتفات إليه .
قال بعض الأكابر : إن الآية وإن دلت على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مبعثوث إلى كل الخلق فليس فيها دلالة على أن غيره من الأنبياء ما كان مبعوثاً إلى كلهم .
وقد تمسك جمع من العلماء بالحديث المشهور : ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ونصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ، وختم بي النبيون ) ورد بأن مجموع هذه الأمور من خواصه لا كل واحد واحد ، وبأن آدم بعث إلى كل ألواده في ذلك الزمان فيكون مبعوثاً إلى كل الناس وقتئذ .
ولا يخفى ضعف هذا الرد لأنا نعلم من دني محمد أنه خاتم النبيين وحده في رواية أخرى : ( واحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ) وإذا كان بعض هذه الأمور من خواصه لزم أن يكون كل واحد منها كذلك .
وأيضاً أن آدم لم يكن مبعوثاً إلى حواء لأنها عرفت التكليف لا بواسطة آدم بدليل ولا تقرباً .
ثم لما أمر رسولا لله بأن يقول للناس أني رسول الله إليكم أتبعه ذكر ما يدل على صحة هذه الدعوى وأنها لا تتم إلا بتقرير أصول أربعة : أوّلها إثبات أن للعالم إلهاً حياً عالماً قادراً وأشار إليه بقوله ) الذي له ملك السموات والأرض ( إذ لو لم يكن للعالم مؤثر موجب بالذات لا فاعل بالاختيار لم يمكن القول ببعثة الرسول .
ومحل ) الذي ( نصب أو رفع على المدح أو جر بدلاً أو وصفاً لله .
وثانيها أن إله العالم واحد وذلك قوله ) لا إله إلا هو ( إذ لو فرض إلهان لم يكن عبادة أحدهما أولى من عبادة الآخر .
وثالثها أنه تعالى قادر على الخير والشر ولبعث والحساب كما قال ) يحيى ويميت ( وإنما لم يوسط العطف بين هذه الجمل لأن كل واحد منها مبينة لما قبلها ، وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت أصل رابع وهو أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف .
أما بالأول والثاني فلأنه يحسن من المولى مطالبة عبده بطاعته وخدمته ولا سيما إذا كان فرداً منزهاً عن الشريط والنظير مستقلاً بالأمر والنهي .
وأما الأصل الثالث فلأنه يحسن من القادر تكليف المكلف بنوع من طاعته إيصالاً له إلى الجزاء إلى لذة الجزاء ، فإن تحصيل لذة الأجر بدون كونه أجر ممتنع وأشار إلى هذا الأصل الرابع بقوله ) فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي ( اقتصر من الصفات المذكورة ههنا على الأمية(3/331)
" صفحة رقم 332 "
لأنها أجل الأوصاف وأدلها على حقيته ، وذلك أنه لم يتفق له مطالعة كتاب ولا مصاحبة معلم لأنه ما كانت مكة بلدة العلماء وما غاب عنها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غيبة طويلة يمكن التعلم فيها ومع ذلك فتح الله عليه أبواب العلم واتحقيق وأظهر عليه هذا القرآن الذي اشتمل على علوم الأوّلين والآخرين فليس ذلك إلا بتأييد سماوي وفيض إلهي .
ثم وصفه بقوله ) الذي يؤمن بالله وكلماته ( لأن النبي صلى الله عليه وآله يجب أن يكون ممن آمن بالله وبكتبه .
وإنما لم يقل آمنوا بالله وبي بعد قول ) إني رسول الله ( بل عدل إلى المظهر ليمكن أن يجري عليه الصفات المذكورة .
ولما في طريقة الالتفات من البلاغة ، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المتقل بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته كائناً من كان ، أنا أو غيري إظهاراً للنصفة واحترازاً عن العصبية .
والعلم أن الكمالات إما نظرية وأشار إليها بقوله ) فآمنوا بالله ( وإما عملية وإليها الإشارة بقوله ) واتبعوه ( والأولى إشارة إلى التكاليف المستفادة من أقواله ، والثانية إشارة إلى المستفادة من أفعاله ، فإن كل فعل يصدر عنه وقد واظب عليه فلا بد أن يكون جانب فعله ذلك الفعل جانب فعله راجحاً على تركه .
ثم إن ظاهر الأمر للوجوب فيجب علينا اتباعه وإن كان لك مندوباً له إلا أن يدل دليل منفصل على أن ذلك لفعل من خصائصه .
ومعنى الترجي في ) لعلكم تهتدون ( قد مر في نظائره ولا سيما في أوّل البقرة في قوله ) لعلكم تتقون ) [ البقرة : 21 ] ثم لما ذكر الرسو لوأنه يجب على الخلق متابعته ذكر أن في قوم موسى من اتبع الحق وهدي إليه فقال ) ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق ( أي يهدون الناس بكلمة الحق ) وبه ( أي بالحق ) يعدلون ( بينهم في الحكم لا يجرون .
وهذه الآية متى حصلت في أي زمان كانت ؟ اختلف المفسرون في ذلك .
فقيل : هم اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله كعبد الله بن سلام وابن صوريا وغيرهما .
ولفظ الأمة قد يطلق على القليل إذا كان لهم شأن كما أطلق على الواحد في قوله ) إن إبراهيم كان أم ) [ النحل : 120 ] وقيل : إنهم قوم ثبتوا علىدين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن الحريف والتبديل ف زمن تفرق بني إسرائيل وإحداثهم البدع ، ويجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه ، ويجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك ، وقال السدي وجماعة من المفسرين : إن بني إسرائيل لما قتلا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم ففتح الله لهم نفقاً في الأض فساروا فيه سنة ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين .
ثم من المفسرين من قال : إنهم بقوا متمسكين بدين اليهودية إلى الآن بناء على أن خبر نبينا لم(3/332)
" صفحة رقم 333 "
يصل إليهم فيهم معذورون ، ومنهم من اتبعد عدم وصول الخبر إليهم مع أن خبر هذه الشريعة طار في كل أفق وتغلغل في كل نفقة فقال : إنهم هنالك حنفاء مسلمون يستقلبون قبلتنا .
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن جبرائيل ذهب به ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبرائيل : هل تعرفون من تكلمون ؟ قالوا : لا .
قال : هذا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) النبي الأمي فآمنوا به .
وقالوا : يا رسول الله إن موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه السلام ، فرد محمد على موسى عليه السلام ثم أقرأهم عشر سور من القران نزلت بمكة ولم تكن نزلت فريقة غير الصلاة والزكاة ، وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت والله أعلم .
التأويل : ( واختار موسى قومه ( المختار من الخلق من اختاره الله تعالى ) وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ) [ القصص : 68 ] فالذي اختاره الله كان مثل موسى ) وأنا اخترتك ) [ طه : 13 ] .
والذين اختارهم موسى كانوا مستحقين بسوء الأدب للرجفة والصعقة .
وههنا نكتة هي أن قلب موسى عليه السلام لما كان مخصوصاً بالاصطفاء للرسالة والكلام دون القوم كان سؤاله للرؤية شعلة نار المحبة مقروناً بحفظ الأدب على بساط القرب بقوله ) رب أرني أنظر إليك ( قدّم عزّة الربوبية وأظهر ذلة العبودية ، وكان سؤال القوم من القلوب الساهية اللاهية فتصاعد دخان الشوق بسوء الأدب فقالوا ) لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) [ البقرة : 55 ] فدّموا الجحود والإنكار وطلبوا الرؤية جهاراً فأخذتهم الصاعقة .
فصعقة موسى كانت صعقة اللطف مع تجلي صفة الربوبية ، وصعقتهم كانت صعقة القهر عند إظهار صفة العزة والعظمة .
ولما كان موسى عليه السلام ثابتاً في مقام التوحيد كان ينظر بنور الواحدة فيرى الأِياء كلها من عند الله ، فرأى سفاهة القوم من آثار صفات قهره فتنة واختياراً لهم فقال ) إن هي إلا فتنتك ( تزيع بها قلب من تشاء بأصبع صفة القهر ، وتقيم قلب من تشاء بإصبع صفة اللطف .
) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة ( الرؤية كما كتبت لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فسأكتبها ( يعني حسنة الرؤية والرحمة ) للذين يتقون ( بالله من غيره ) ويؤتون ( عن نصاب هذا المقام ) الزكاة ( إلى طلابه والذين هم بأنوار شواهد الآيات بالتحقيق لا بالتقليد يؤمنون ، وفي قوله ) الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ( إشارة إلى أن في أمته من يكون مستعداً لاتباعه في هذه المقامات الثلاثة ، ومعنى الأمي أنه أم الموجودات وأل المكوّنات كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أول ما خلف الله روحي ) .
وقال حكاية عن الله لولاك لما خلقت الكون .
فأما اتباعه في مقام الرسالة فبأن تأخذ منه ما أتاك وتنتهي عما نهاك ) وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [ الحشر : 7 ] فالرسالة تتعلق بالظاهر والنبوة بالباطن فللعوام شركة مع الخواص(3/333)
" صفحة رقم 334 "
في الانتفاع من الرسالة وللخواص اختصاص بالانتفاع من النبوة ، فمن أدى حقوق أحكام الرسالة في الظاهر يفتح له ببركة ذلك أحوال النبة في الباطن فيصير صاحب الإشارات والإلهامات الصادقة والرؤيا الصالحة والهاوتف المملكية ، وربما يؤل حاله إلى أن يكون صاحب المكالمة والمشاهدة والمكاشفة ، ولعله يصير مأموراً بدعوة الخلق إلى الحق بالمتابعة لا بالاستقلال كما قال صلى الله عليه وآله : ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ( وأما اتباعه في مقام أمبته فذلك لأخص الخواص وذلك أنه صلى الله عليه وآله يرجع بالسير من مقام بشريته إلى مقام روحانيته الأولى ، ثم بجذبات الوحي أنزل في مقام التوحيد وهو قاب قوسين ، ثم اختطف بأنوار الهوية عن أنانيته إلى أو أدنى وهو مقام روحانيته ثم بجذبات النبوة أنزل في مقام التوحيد ، ثم اختطف بأنوار المتابعة عن أنانية إلى مقام الوحدة فقد حظي من مقام أميته ) مكتوباً عندهم ( بالحقيقة هو مكتوب عنده في مقعد صدق ) يأمرهم بالمعروف ( وهو طلب الحق ) وينهاهم عن المنكر ( طلب ما سواه ) ويحل لهم الطيبات ( كل ما يقرّب إلى الله فإن الله هو الطيب ) ويحرم عليهم الخبائث ( الدنيا وما فيها ) ويضع عنهم أصرهم ( أي العهد الذي بين الله وبين حبيبه أو لا يوصل أحد إلى مقام أميته إلا أمته وأهل شفاعته كقوله : ( الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم ) فكان من هذا العهد عليهم شدة وأغلال يمنعهم من الوصول إلى هذا المقام .
فقد وضع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا الإصر والأغلال بالدعوة إلى متابعته ، وأشار إلى هذه المعاني بقوله ) فالذين آمنوا به وعزروه ( وقروه باعتقاد اختصاص هذا المقام به دون سائر الأنبياء والرسل ونصروه بالمتابعة ) واتبعوا ( نور الوحدة الذي ) أنزل معه ( له ملك سموات القلوب وأرض النفوس لا مدبر فيهما غيره ، يحيي قلب من يشاء من عباده بنور الوحدة ، ويميت نفسه عن صفات البشرية .
ولكاته هي ما أوحى إليه ليلة المعراج بلا واسطة ) ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق ( يعني خواصهم الذين يرشدون الخلق بالكتاب المنزل بالحق على موسى ) وبه يعدلون ( في الحكم بين العوام فشتان بين أمة غايتهم القصوى هي هداية الخلق وكان نبيهم محجوباً بحجاب الأنانية عند سؤال الرؤية فأجيب ب ) لن تراني ( وبين أمة أمية بلغوا بجذبات أنوار المتابعةإلى مقام الوحدة حتى سموا أمة أميين وقال في حقهم : ( كنت له سمعاً وبصراً ولساناً فبي يسمع وبي ببصر وبي ينطق ( فلهذا دعا موسى عليه السلام : اللهم اجعلني من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) شوقاً إلى لقاء ربه فافهم جداً .
( الأعراف : ( 160 - 171 ) وقطعناهم اثنتي عشرة . . . .
" وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب(3/334)
" صفحة رقم 335 "
بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون "
( القراآت )
تغفر ( بالتاء الفوقانية مضمومة وفتح الفاء : أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب والمفضل .
الباقون : بالنون وكسر الفاء ) خطاياكم ( مجموعاً جمع التكسير : أبو عمرو ) خطيئتكم ( بالرفع وعلى الواحدة : ابن عامر ) خطيئاتكم ( بالرفع مجموعاً جمع السلامة : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب والمفضل .
الباقون : مثله ولكن بالنصب الذي يليق بجمع سلامة المؤنث .
) يسبتون ( من الإسبات .
زيد عن المفضل معذررة بالنصب حفص والمفضل .
الباقون : بالرفع ) يئس ( مثل رئم : أبو جعفر ونافع ) بيِّسِ ( على فعيل كسيد : ابن عامر ) ببئس ( على فيعل بفتح العين : الأعشى البرجمي .
الباقون ) بيئس ( على فعيل .
) تأذن ( بالتليين : الأصفهاني عن ورش والشموني وحمزة(3/335)
" صفحة رقم 336 "
في الوقف ) تعقلون ( بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب وحفص .
الباقون بياء الغيبة ) يمسكون ( من الإمساك : أبو بكر وحماد والآخرون بالتشديد .
الوقوف : ( أمماً ( ط وإن اتفقت الجملتان لأن ) أوحينا ( عامل ) إذا استسقاه ( دون ) قطعنا ( فإن تفريق الأسباط لم يكن في زمان الاستسقاء ) الحجر ( ط للحذف مع اتحاد الكلام أي فضرب فانبجست ) عيناً ( ط ) مشربهم ( ط ) والسلوى ( ط ) ما رزقناكم ( ط لحذف جمل أي قلنا كلوا ولا تدخروا فادخرو فانقطع عنهم ) وما ظلمونا ( ط ) يظلمون ( ه ) خطيئاتكم ( ط ) المحسنين ( ه ) يظلمون ( ه ) البحر ( لا كيلا يصير ما بعده ظرفاً لقوله ) وأسألهم ( فإنه محال ) لا تأتيهم ( ج لاحتمال تعلق ) كذلك ( به أي يوم لا يسبتون لا تأتيهم إتياناً كإتيانهم يوم السبت .
والأصح أن كذلك صفة مصدر محذوف أي نبلوهم بلاء كذلك فالوقف على ) كذلك ( جائز أيضاً ) يفسقون ( ه ) قوماً ( ) العذاب ( ط ) رحيم ( ه ) وأمماً ( ج لاحتمال كون ما بعده صفة أو مستأنفاً ) دون ذلك ( ز ) للعطف على ) قطعنا ( فإن لم تجعل الجار صفة للأمم كان عطفاً مع عارض ) يرجعون ( ه ) سيغفر لنا ( ج ) يأخذوه ( ط ) يتقون ( ه ) تعقلون ( ه ) الصلاة ( ص على تقدير حذف أي لا نضيع أجرهم إذ هم المصلحون ) ولا نضيع أجر المصلحين ( ، وللوصل وجه على تقدير وضع الظاهر موضع الضمير أي إنا لا نضيع أجرهم المصلحين ) واقع بهم ( ط لاحق المحذوف ) تتقون ( ه .
التفسير : إنه سبحانه ختم قصة بني إسرائيل بتعداد جمل من أحوالهم تبصرة للمكلفين بعدهم .
ومعنى ) قطعناهم ( أي صيرناهم قطعاً أي فرقاً وميزنا بعضه عن بعض كيلا يتحاسدوا ويتباغضوا فيقع بينهم الفتن والهرج .
الأسباط أولاد الأولاد جمع سبط وأصله من السبط نبت يعتلفه الإبل فكان الأب كالشجرة والأولاد كالأغصان الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل من العرب وههنا سؤال وهو أن مميز ما عدا العشرة إلى تسعة وتسعين مفرد فهلا قيل اثني عشر سبطاً ؟ وأجيب بأن كل قبيلة أسباط لا سبط فوضع أسباطاً موضع قبيلة كقوله :
بين رماحي مالك ونهشل
ولهذا أنث اثنتي عشرة
وقال الزجاج : المميز محذوف و ) أسباطاً ( نعت لذلك المحذوف والتقدير : اثنتي عشرة فرقة أسباطاً .
قال الفارسي والجوهري : ( أسباطاً ( بدل من ) اثنتي عشرة ( والمميز كما قال الزجاج .
وقوله ( أمماً ( بدل من ) اثنتي عشرة ( لأن كل أسباط كانت جماعة(3/336)
" صفحة رقم 337 "
كثيرة العدد تؤم خلاف ما كانت تؤمه الأخرى .
وباقي الآية إلى قوله ) بما كانوا يظلمون ( قد مر تفسيره في البقرة ، وكذا بيان المتشابهات فلنذكر النوع الآخر من أحوالهم .
قوله تعالى ) واسئلهم عن القرية ( أي عن أهلها وليس المقصود تعرف هذه القصة من قبل اليهود لأنها معلومة للرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من قبل الله تعالى ، ولكن المراد تقرير ما كانوا قد أول عليه من الاعتداء والفسق ليعلم أن هلم سابقة في ذلك ، وليس كفرهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أول مناكيرهم .
وقد يقول الإنسان لغيره : هل كان هذا الأمر كذا وكذا ليعرف ذلك الغير أنه محيط بتلك القصة ؟ وفيه أنه إذا أعلمهم به من لم يقرأ كتاباً ولم يتعلم علماً كان ذلك مستفاداً من الوحي فيكون معجزاً .
والكثرون على أن تلك القرية أيلة ، وقيل مدين ، وقيل طبرية ، والعرب تسمي المدينة قرية .
ومعنى ) حاضرة البحرة ( قريبة من البحر وعلى شاطئه ) إذ يعدون في السبت ( يتجاوزون حد الله فيه وهو اصطيادهم في يوم السبت .
ومحل ) إذ يعدون ( مجرور بدلاً عن القرية بدل الاشتمال أي واسألهم عن وقت عدوانهم .
قال في الكشاف : يجوز أن يكون منصوباً بحاضرة أو بكانت بناء على أن كان النقصة تعمل في غير الاسم والخبر وفيه نظر إذ لا معنى لكون القرية حاضرة البحر في قوت العدوان لأنها حاضرته في جميع الأحيان وقوله ( إذ تأتيهم ( منصوب ب ) يعدون ( أو مجرور بدلاً بعد بدل .
والحيتان جمع الحوت وهو السمكة ) شرعاً ( ظاهرة على وجه الماء جمع شارع كركع وراكع وكل شيء دان من شيء فهو شارع ، ودار شارعة إذا دنت من الطريق ، ونجوم شورع إذا دنت من المغيب ، فالحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يمكنهم صيدها ، وعن الحسن تشرع على ابوابهم كانهم الكباش البيض .
وقال ابن عباس ومجاهد : إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله تعالى به وحرم عليهم الصيد فيه ، وباقي القصة مذكور في البقرة ، وفها دلالة على أن من أطاع الله تعلى خفف عليه أهوال الدنيا والآخرة ، ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلايا والمحن .
قالت الأشاعرة : لو وجب رعاية الأًلح على الله تعالى لوجب أن لا يكثر الحيتان في ذلك اليوم صوناً لهم عن الكفر والمعصية وهذا الاعتراض وارد على خلق إبليس وسائر أسباب الشرور .
والنوع الثلالث قوله ) وإذا قالت ( وهو معطوف على ) إذ يعدون ( وحكمه حكمه في الإعراب ) أمة منهم ( جماعة من صلحاء أهل القرية الذين بالغوا في موعظتهم حتى آيسوا الآخرين كانوا لا يتركون وعظهم ) لم تعظن قوماً الله مهلكهم ( مدمرهم ) أو معذبهم عذاباً شديداً ( لعلهم بأن عاقبة المعصية شؤم والمنهمك في الفساد لا يكاد يفلح ) قالوا معذرة ( من رفع فبتقرير هذه أو موعظتنا أو قلنا إبداء عذر إلى الله .
والمعذرة(3/337)
" صفحة رقم 338 "
مصدر كالمغفرة ، ومن نصب على أنَّا نعتذر معتذرة أو وعظناهم معذرة إلى ربكم أي إذا طولبنا بإقامة النهي عن المنكر قلنا قد فعلنا فنكون بذلك معذورين ) ولعلهم يتقون ( ولأنا نرجو أن يقتوا بعض الاتقاء فيتركوا الصيد في السبت ) فلما نسوا ( يعني أهل القرية تركوا ما ذكرهم به الصالحون ) أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس ( ومعناه على اختلاف القراآت شديد من بؤس بأساً إذا اشتد .
والظاهر أن هذا العذاب عير المسخ المتأخر في قوله ) فلما عتوا ( تكبروا وتمردوا أو أبوا عن ترك ما نهوا عنه بحذف المضاف لأن الإباء عن المنهي عنه يكون طاعة ) قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ( والمراد أمر التكوين والإيجاد لا أن هناك قولاً .
وقيل : فلما عتوا تكرير لقوله ) فلما نسوا ( والعذاب البئيس هو المسخ .
عن الحسن : أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها أثقلها خزياً ف الدنيا وأطولها عذاباً في الآخرة .
هاه وأيم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم ولكن الله جعل موعداً والساعة أدهى وأمر .
وقد ذكرنا هذه القصة مع تحقيق المسخ في سورة البقرة إلا أنه بقي ههنا بحث هو أن أهل القرية كم فرقة كانوا ؟ فقيل : فرقتان المذنبة والوعظة ، وأما الأمة القائلة ( لم تعظون ) فهم المذنبة بعينها قالوا للفرقة الواعظة ) لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم ( بزعمكم .
والاعتراض على هذا القول أنه لو صح ذلك لكان اللائق أن يقال في الجواب معذرة إلى ربكم ولعلكم تتقون لأن الجميع خطاب من الفرقة الناهية للفرقة العاصية .
والصحيح أنهم ثلاث فرق فرقة مذنبة وفرقة واعظة وفرقة قالوا للواعظين ) لم تعظن ( أما المذنبة فقد هلكوا بالاتفاق ، وأما الواعظة فقد نجوا .
بقي الكلام في الثالثة : فعن ابن عباس انه توقف فيهم وكان يقول فيهم ليت شعري ما فعل بهؤلاء .
وعنه أيضاً أنهم هلكوا وكان إذا قرئ عليه هذه الآية بكى .
وقال : أن نقول شيئاً .
وعن الحسن أنهم نجوا لأنهم كانوا ينكرون عليهم ويحكمون بأن الله سيهلكهم أو يعذبهم وإنما تركوا الوعظ لأنهم لم يروا فيه غرضاً صحيحاً لعلمهم بحال لقوم ، وإذا علم الناهي بحال لمنهي وأن النهي لا ينجع فيه سقط عنه النهي .
ولعل الواعظين لم يستحكم يأسهم بعد كما استحكم يأس هؤلاء أو لعلهم كانوا أحرص الطائفتين .
ولعل الأمة سألوا عن علة الوعظ سؤال المسترشدين لا سؤال المنكرين والله تعالى أعلم بالسرائر .
النوع الرابع : ( وإذ تأذن ربك ( هو تفعل من الإيذان وهو الإعلام والمعنى عزم ربك لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه فكأنه يؤذن النفس بأنه يفعله وأجري مجرى فعل القسم ف الجزم بالجزاء نحو ( علم الله ) و ( شهد الله ) .
فأجيب بجواب القسم أي ختم ربك(3/338)
" صفحة رقم 339 "
وكتب على نفسه ) ليبعثن ( ومعناه التسليط كقوله ) بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد ( ) الإسراء : 5 ] واختلف في العائد في ) عليهم ( فقيل : يرجع إلى الممسوخين بناء على أن لهم نسلاً .
وقيل : إلى صلحاء تلك القرية فكأنه مسخ المعتدين وألحق الذل بالبقية .
وقال الأكثرون : هم اليهود الذين أدركهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ودعاهم إلى شريعته فثبتوا على الكفر واستمروا على اليهودية .
أما العذاب فقيل : هو أخذ الجزية كانوا يؤدونها إلى المجوس إلى أن بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فضربها عليهم ، فلا تزال مضروبة عليهم إلى يوم القيامة .
وقيل : الاستخفاف والإهانة .
وقيل : القتل والقتال كما وقع في زمن بختنصر وغيره .
وقيل : الإخراج عن الأوطان كما في يهود خيبر وبني قريظة والنضير .
وإذ قد أخبر الله تعالى بلزوم الذل والصغار إياهم ونحن نشاهد أن الأمر كذلك فهو إذاً إخبار عن الغيب فيكون معجز .
قيل : والخبر المروي في أن أتباع الدجال هم اليهود إن صح فمعناه أنهم كانوا قبل خروجه يهود ، ثم دانوا بآلهيته فذكرا بالاسم الأول ، وإنما تكلف ذلك لأنهم يكونون في وقت اتباع الدجال قاهرين غالبين .
النو الخامس : ( وقطعناهم في الأرض أمماً ( فرقناهم فيها تفريقاً شديداً فلا يكاد يوجد بلد إلا وفيه منهم طائفة ) منهم الصالحون ( الذين كانوا في زمن موسى يهدون بالحق أو الذين هم وراء الصين .
وعن ابن عباس ومجاهد : الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وآله وآمنوا به .
) ومنهم دون ذلك ( أي ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه فيجوز أن يكون فيهم بعض الصلاح وإن كان أدون من صلاح الأولين إلا أن قوله بعد ذلك ) لعلهم يرجعون ( يدل على أن المراد بهم الكفرة الفسقة الباقية على ضد الخير والرشاد .
ومحل ) دون ذلك ( رفع على أنه صفة مرفوع محذوف كما قلنا ) وبلوناهم ( عاملناهم معاملة المبتلى المختبر ) بالحسنات ( الخصب والعافية ) والسيئات ( بالجدب والشدائد ) لعلهم يرجعون ( لأن كلاً من لحالتين تدعو إلى الطاعة والإنابة والنعم بالترغيب والنقم بالترهيب ) فخلف من بعدهم خلف ( ظاهره يدل على أن الأوّل ممدوح والثاني مذموم .
فالمراد فخلف من بعد أولئك الصلحاء خلف سوء .
قال الجوهري الخلف القرن بعد القرن يقال : هؤلاء خلف سوء لناس لاحقين بناس أكثر منهم .
قال الأخفش : وقد يحرك ومنهم من يقول خلف سوء من أبيه بالتسكين وخلف صدق من أبيه بالتحريك قال لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
والخلف الردئ من القول يقالك سكت ألفاً ونطق خلفاً أي سكت عن ألف كلمة ثم تكلم بخطأ ) ورثوا الكتاب ( أي التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفه يقرؤنها ويقفون على(3/339)
" صفحة رقم 340 "
ما فيها من الأوامر والنواهي ولا يعملون بها ) يأخذون عرض هذا الأدنى ( أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها .
يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر .
وفي الإشارة بقوله ) هذا الأدنى ( تحقير وتخسيس .
وأراد بالدنو القرب لأنه عاجل .
أو دنو الحال وسقوطها وقلتها .
والمراد كانوا يأخذونه من الرشا في تحريف الأحكام والنعوت ) ويقولون سيغفر لنا ( يؤاخذنا الله بما أخذنا .
وإسناد الفعل إما إلى الجار والمجرور وإما الإلى الأخذ الدال عليه ) يأخذون ( ، ) وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ( الواو للحال أي يرجون المغفرة جزماً وهم مصرون والمراد الإخبار عن إصرارهم على الذنوب .
وقال الحسن : هذا الإخبار عن حرصهم على الدنيا وأنهم لا يشبعون منها .
ثم بين نكث عهدهم فقال ) ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ( أي التوراة .
ومحل ) ألا يقولوا على الله إلا الحق ( رفع عطف بيان للميثاق المذكور في التوراة وهو أن لا يحرّفوا الكلم عن مواضعه ولا يقبلوا الرشا أو لا يصرون على الذنب مع الجزم بالغفران .
فإن خلاف كل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب وفتراء على الله وتقول عليه ما ليس بحق .
ويجوز أن يكون ) ألا يقولوا ( مفعولاً لأجله ومعناه لئلا يقولوا ويجوز أن تكون ( أن ) مفسرة ) ولا يقولوا ( نهياً كأنه قيل : ألم نقل لهم لا تقولوا على الله إلا الحق ؟ ) ودرسوا ( عطف على ) ألم يؤخذ ( نهياً كأنه قيل : أخذ عليهم الميثاق وقرأوا ما فيه أي أنهم ذاكرون لما أخذ عليهم قد قرأوه ودرسوه .
) والدار الآخر خير ( من ذلك العرض أتبعها حال من تمسك أي اعتصم به فقال ) والذين يمسكون ( الآية والتشديد للتكثير وفي إفراد إقامة الصلاة بالذكر مع أن التمسك بالكتاب مشتمل على كل عبادة إظهار لمزية الصلاة وإشعار بأنها عماد الدين .
النوع السادس : ( وإذ نتقنا الجبل ( قال أبو عبيدة : أصل النتق قلع الشيء عن موضعه والرمي به ومنه امرأة ناتق إذا كثر ولدها كأنها ترمي بأولادها رمياً .
والمعنى إذا قلعنا الجبل من أصله وجعلناه ) فوقهم كأنه ظله ( وهي كل ما أظلك من سقف أو حائط ) وظنوا أنه واقع بهم ( علموا وتيقنوا أنه ساقط عليهم .
وقيل : قوي في نفوسهم أنه يقع بهم إن خالفوا .
روي أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ .
وقيل لهم : إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم .
فلما نظرا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجداً عل حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً من سقوطه فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على حاجيه الأيسر ويقولون هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة .
ولما نشر موسى الألواح وفيه كتاب لله لم يبق جبل ولا حجر إلا اهتز فلذلك لا ترى يهودياً تقرأ عليه التوراة إلا(3/340)
" صفحة رقم 341 "
اهتز ونغض لها رأسه .
) خذو ( على إرادة القول اي قلنا لهم أو قائلين خذوا ) ما آتيناكم ( من الكتاب ) بقوة ( بجد وعزيمة على احتمال مشاقه وتكاليفه ) واذكروا ما فيه ( من الأوامر والنواهي ، أو من التعريض للثواب ، أو المراد خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوة إن كنتم تطيقونه كقوله ) إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذا ) [ الرحمن : 33 ] واذكروا ما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة ) لعلكم تتقون ( ما أنتم عليه من الإباء .
التأويل : ( القرية التي كانت حاضرة البحر ( هي قرية الجسد الحيواني على شاطئ بحر البشرية ، وأهل قرية الجسد الصفات الإنسانية صنف روحاني كصفات الروح ، وصنف فلبي كصفات لقلب ، وصنف نفساني كصفات النفس الأمارة بالسوء ، وكل قد نهوا عن صيد حيتان الدواعي البشرية في سبت محارم الله ، فلم تنتهك الحرمة إلا الصفات النفسانية ) إذا تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ( لأن الإنسان حريص على ما منع فتهيج الدواعي في المحرمات دون المحللات ) بما كانوا يفسقون ( أي بما كان من طبيعة النفس وصفاتها من الخروج عن أمر الله أنها أمارة بالسوء ) وإذ قالت أمة منها ( هي صفات القلب قالوا لصفات الروح ) لم تعظون قوماً الله مهلكهم ( بالمخالفات عند استيفاء اللذات والشهوات ) أو معذبهم عذاباً شديداً ( وهو المسخ بتبديل الصفات الإنسانية إلى الصفات الحيوانية ) قالوا معذرة إلى ربكم ( لأنه خلقنا هكذا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر فنقضي ما علينا ليعلم أنّا ما تغيرنا عن أوصافنا الرحانية والملكية ، ولعل النفس وصفاتها ) يقون ( فتتصف بالمأمورية والاطمئنان فإنها قابلة لذلك ) بعذاب بئيس ( وهو إبطال استعداد قبول الفيض الإلهي ) ليبعثن عليهم ( على الأرواح والقلوب الذين بتبعون النفس وصفاتها ) من يسومهم ( وهو الشيطان المنظر إلى يوم القيامة ) سوء العذاب ( عذاب البعد عن الله وعذاب ذلة الخدمة للنفس والشيطان ) وقعناهم ( فرقنا الأرواح والقلوب في أرض الأجساد ) منهم الصالحون ( قابلون لفيض نور الله ) ومنهم دون ذلك ( في القبول ) وبلوناهم بالحسنات ( وهي الطاعات ) والسيئات ( وهي المعاصي ) لعلهم يرجعون ( إلى الحق .
وذلك أن السير إلى الله يتم بقدم الطاعة وبقدم ترك المعصية ومن هنا قيل خطوتان اوقد وصلت .
أو بلوناهم بالحسنات ليردعوا إلينا بقدم الشكر ، والسيئات ليرجعوا بقدم الصبر أو بلوناهم بكثرة الطاعات والعجب بها كما كان حل إبليس وبكثرة المعاصي والندامة عليها كما كان حال آدم ) فخلف ( من بعد الأرواح والقلوب لما سلكوا طريق الحق ووصلوا إلى مقعد صدق خلفهم النفوس الأمارة بالسوء ) ورثوا الكتاب ( وهو ما ألهم الله تعالىالأرواح والقلوب من المواعظ والحكم والمعاني والأسرار وورثتها النفوس(3/341)
" صفحة رقم 342 "
وجعلوها ذرعة للعروض الدنياوية وتحصيل المال والجاه واستيفاء اللذات ) ويقولون سيغفر لنا ( مثل هذه الزلات لأنان واصلون كاملون كما هو مذهب أهل الإباحة ، أو سيغفر لنا إذا اسغفرنا وهم يستغفرون باللسان لا بالقلب ) وإذ نتقنا الجبل ( فيه أن الإنسان لو وكل إلى طبعه ونفسه لا يقبل شيئاً من الأمور الدينية وإنما يعان على القبول بأمر ظاهر أو باطن .
وفيه أن على رؤوس أهل الطلب جبل أمر الحق وهو أمر التحويل فيحولهم بالقدرة إلى أن يأخذوا ما آتاهم الله تعالى بقوة منه لا يقوتهم وإرادتهم .
( الأعراف : ( 172 - 183 ) وإذ أخذ ربك . . . .
" وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين "
( القراآت )
ذريتهم ( على التوحيد : حمزة وعلي وخلف وابن كثير وعاصم سوى حفص والمفضل .
الباقون : على الجمع ) يقولوا ( بياء الغيبة في الحرفين : بو عمرو ) يلهث ذلك ( بالإظهار : حفص والأصفهاني عن ورش ، والحلواني عن قالون والنقاش عن أبي ربيعة عن قنبل ) يلحدون ( بفتح الياء والحاء : حمزة ، الباقون : بضم الياء وكسر الحاء من الإلحاد ) ولقد ذرأنا ( مظهراً : أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ورش وعاصم غير الأعشى ) ذرأنا ( بغير همزة : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف .
الباقون : بالهمز .
الوقوف : ( أنفسهم ( ج لأن التقدير وقال ألست بربكم مع اتحاد الكلام .
بربكم ط فصلاً بين السؤال والجواب .
) بلى ( ج لأن ) شهدنا ( يصلح أن يكون من قولهم(3/342)
" صفحة رقم 343 "
فيوقف على ) شهدنا ( ويعلق أن بمحذوف أي فعلنا ذلك لئلا تقولوا ، ويصلح أن يكون ) شهدنا ( من قول الملائكة أي قيل للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا فيكون منفصلاً من جملة بلى متصلاً بأن تقولوا .
) غافلين ( ه لا للعطف ) من بعدهم ( ج لابتداء الاستفهام واتحاد القائل .
) المبطلون ( ه ) يرجعون ( ه ) الغاوين ( ه ) هواه ( ج لأن قوله ) فمثله ( مبتدأ ولدخول الفاء فيه ) كمثل الكلب ( ج لابتداء الشرط من أ الجملة تفسير للمثل ) أو تتركه يلهث ( ط ) بآياتنا ( ط ) يتفكرون ( ه ) يظلمون ( ه ) المهتدي ( ج للعطف ولأن التفصيل بين الجملتين أبلغ في التنبيه ) الخاسرون ( ه ) والإنس ( ط والوصل أولى ولأن الجملة بعده صفة ل ) كثيراً ( ، ) لا فقهون بها ( ج لأن العطف صحيح ولكن الوقف لإمهال فرصة الاعتبار وكذا الثانية ولهذا كرر لفظة ) لهم ( في أول كل جملة ) لا يسمعون بها ( ط ) أضل ( ط ) الغافلون ( ه ) فادعوه بها ( ص لعطف المتفقتين ) في أسمائه ( ط ) يعملون ( ه ) يعدلون ( ه ) لا يعلمون ( وج وعطف ) وأملي ( على ) سنستدرجهم ( احسن من جعله مستأنفاً فيوقف على ) أملي ( ، ) لهم ( ، ) متين ( ه .
التفسير : لما شرح قصة موسى على أقصى الوجوه ذكر ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين .
وفي الآية للمفسرين قولان : أحدهما ما روى مسلم بن يسار الجهني ان عمر بن الخطاب قال : سئل عنها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله تبارك خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون .
قال رجل : يا رسول الله ففيم العمل ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال اهل الجنة فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت في عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار ( وهذا القول ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك وعكرمة والكلبي وابن عباس .
وأما المعتزلة وأصحاب النظر والمعقولات فإنهم فسروا الآية بأنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم ، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى إلى أرحام الأمهات وجعلها علقة ثم مضغة ثم جعلهم بشراً سوياً وخلقاً كاملاً ، ثم أشهدهم على أنفسهم بم ركب في عقولهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقته وغرائب صنعته وكأنه قررهم وقال ) ألست بربكم ( وكأنهم ) قالوا بلى ( أنت ربنا ) شهدنا على أنفسنا ( وأقررنا بواحدانيتك .
وباب التمثيل باب واسع في كلام الله ورسوله وفي كلام العرب نظيره ) فقال له وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ( ) فصلت : 11 ] وقال الشاعر :(3/343)
" صفحة رقم 344 "
امتلأ الحوض وقال قطني
وهذا القول الثاني غير منافٍ للقول الأول ولا هو مطعون في نفسه إنما الكلام في صحة القول الأول .
والمنكرون طعنوا فيه بوجوه : منها أن قوله ) من ظهورهم ( بدل ) من بني آدم ( بدل البعض من الكل .
فالمعنى وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم .
وعلى هذا فلم يذكر الله تعالى أنه اخذ من ظهر بني آدم شيئاً .
ويمكن أن يجاب بأنه تعالى يعلم ان الشخص الفلاني يتولد من آدم ومن فلان فلان آخر فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم ويميز بعضهم من بعض فثب إخراج الذرية من ظهور بني آدم بالقرآن ، وثبت إخراج الذرة من ظهر آدم بالخير ، فوجب المصير إليهما معاً صوناً للآية والخبر عن الطعن .
ومنها أن أولئك الذر إن لم يكونوا عقلاء لم يمكن أخذ الميثاق منهم وإن كانوا عقلاء وجب أن يتذكروا تلك الحالة في هذا الوقت ، وبهذا الدليل بعينه يبطل التناسخ .
ويحتمل أن يجاب بالفرق وذلك أنا غذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين ودهوراً امتنع في مجرى العادة نسيانها ، وأما أخذ هذا الميثاق فإنما حصل في أسرع زمان فلم يبعد حصور النسيان فيه .
ومنها أن جميع الخلق من أولاد آدم جمع عظيم وجم غفير ، وصلب آدم على صغره لن ستع لذلك المجموع على أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل الفهم فكل واحدة من أولئك الذر لها بنية وإن كانت صغيرة والمجموع يبلغ مبلغاً عظيماً في الحجمية والمقدار ، وأجيب بأن البنية عندنا ليست شرطاً في الحياة والعقل .
فمن الجائز أن يكون كل من الذر جوهراً فرداً .
ومنها أن فائدة أخذ الميثاق أن يكون حجة عليهم في ذلك الوقت أو في الدنيا ، والإجماع منعقد على أنهم بسبب ذلك لا التكليف على الطفل فكيف يتوجه على الذر ؟ وأجيب بأنه لا يسأل عما يفعل .
وإن المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الأعمال وإنطاق الجوارح قالوا لا يبعد أن يكون لعبض المكلفين في إسماع هذه الأشياء نطق فكذا ههنا ، ولا يبعد ان يكون لبعض الملائكة في تمييز السعداء من الأشقياء في وقت أخذ الميثاق نطق .
وقيل : إن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم القيامة .
ومنها أنه سبحانه قال ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ( ) المؤمنون : 12 ] وقال ) فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق ) [ الطارق : 5 ، 6 ] وكون أولئك الذر أناساً ينافي كون الإنسان مخلوقاً من الماء والطين .
والجواب لا يجوز أن يخرج الله تعالى من صلب آدم ذرة من الماء ثم منها ذرة أخرى وهلم جراً إلى آخر نسلها ثم يعدم الكل أو يميتها فتحصل الحياة للإنسان أربع مرات : أولها ؟ وقت الميثاق ، وثانيها : في الدنيا ، وثالثا : في القبر ، ورابعها في القيامة ، ويحصل له الموت ثلاثة مرات بين كل حياتين واحد .
ولا ينافي هذا حكاية قول الكفرة ) ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ((3/344)
" صفحة رقم 345 "
[ غافر : 11 ] لأنهم قالوا ذلك بناء على حسب ظنونهم .
أما قوله ) أن تقولوا ( فالتقدير : وأشهدهم على أنفسهم بكذا لئلا يقولوا أو كراهة أن يقولوا ) يوم القيامة أنا كنا عن هذا ( المشهود له ) غافلين ( من قرأ بياء الغيبة فلأن الكلام على الغيبة وهو قوله ) من بني آدم من ظهرهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ( لئلا يقولوا .
ومن قرأ على الخطاب فلأنه قد جرى في الكلام خطاب وهو قوله ) ألست بربكم ( وكلا الوجهين حسن لأن الغائبين هم المخاطبون في المعنى .
) أو يقولوا ( يعني الكفار إنما أشركنا لأن آباءنا أشركا فقلدناهم في ذلك الشرك فكان الذنب لأسلافنا فكيف تعذبنا على هذا الشرك وهو معنى قوله ) أفتهلكنا بما فعل المبطلون ( والحصل أن الله تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع منهم التمسك بهذا العذر .
وعند المعتزلة معناه أشهدنا عليهم كراهة أن يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم فلا عذر معهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء .
وقال في الكشاف : المراد ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله ، وبذرياتهم الذن كانوا في عهد رسول الله من أخلافهم المقتدين بآبائهم لأن الآيات السابقة في شأن اليهود .
وكذلك قوله ) واتل عليهم ( أي على اليهود ) نبأ الذي آتيناه آياتنا ( أما قوله ) وكذلك ( أي ومثل ذلك التفصيل البليغ ) نفصل الآيات ( لهم ) لعلهم يرجعون ( وإرادة أن يرجعوا غلى الحق ويعرضوا عن الباطل نفصلها أ يرجعوا إلى ما أخذ الله عليهم من اليمثاق في التوحيد. ولبعض العلماء في الآية قول ثالث وهو أن الأرواح البشرية موجودة قبل الأبدان والإقرار بوجود الإله من لوازم ذواتها وحقائقها ، وهذا العلم ليس مما يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب وهو المراد بأخذ الميثاق عليهم ، لكنها بعد التعلق بالأبدان يشغلها التعلق عن معلومها فربما تتذكر بالتذكير والتنبيه وربما لا تتذكر واتل عليهم ( على بني آدم أو اليهود خاصة .
وقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد : نزلت في بلعم بن باعوراء ؛ وذلك أن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه وغزا أهله وكانوا كفاراً فطلبوا ان يدعو على موسى وقومه .
وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم .
فامتنع منه فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليهم فاستجيب له ووقع موسى عليه السلام وبنو إسرائيل بدعائه في لتيه .
فقال موسى : يا رب بأيّ ذنب وقعنا في التيه ؟ فقال : بدعاء بلعم .
فقال : كما سمعت دعاءه عليذ فاسمع دعائي عليه .
ثم دعا موسى عليه السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فسلخه الله تعالى مما كان عليه ونزع عنه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فهذه قصته .
ويقال أيضاً أنه كان نبياً من أنبياء الله تعالى فلما دعا عليه موسى عليه السلام انتزع الله تعالى منه الإيمان فكان(3/345)
" صفحة رقم 346 "
كافراً وهذا بعيد لأنه سبحانه قال ) الله أعلم حيث يجعل رسالاته ) [ الأنعام : 124 ] وفيه أنه تعالى لا يشرف عبداً من عبيده بالرسالة إلا إذا علم امتيازه عن سائر عبيده بمزيد الشرف والفضل ، ومن كان هذا حاله فكيف يليق به الكفر ؟ وقال عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبو روق : نزلت في امية بن أبي الصت وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعلى يرسل رسولاً في ذلك الوقت فرجاً أن يكون هما فلما أرسل الله محمد صلى الله عليه وآله حسده ثم مات كافراً ولم يؤمن بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الذي قال فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لقد كاد يسلم .
وذلك أنه يوحد الله تعالى في شعره وذكر دلائل توحيده من خلق السماء والأرض وأحوال الآخرة والجنة والنار .
وقيل : نزلت في أبي عامر الراهب الذي سماه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالفاسق وكان يتزهد في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وآله فمات هناك طريداً وحيداً وهو قول سعيد ابن المسيب .
وقيل : نزلت في منافقي أهل الكتاب وكانوا يعرفون أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نبي الحق عن الحسن والأصم .
وروى عكرمة عن ابن عباس قال : هو رجل أعطى ثلاث دعوات يستجاب له فيها ، وكانت له امرأة يقال لها البسوس وكان له منها ولد وكان يحبها فقالت : اجعل للي منها دعوة .
قال : لك منها واحدة فماذا تأمرين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني غسرائيل .
فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئاً آخر فدعا الله عليها أن يجعلها كلبة نباحة فذهب فيها دعوتان ، وجاء بنوها فقالوا : ليس لنا على هذا إقرار قد صارت أمنا كلبة نباحة يعيرنا بها الناس فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها ، فدعا الله فعادت كما كانت وذهبت الدعوات الثلاث وبها يضرب المثل فيقال : ( أشأم من البسوس ) .
وقيل : هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه وهو قو لقتادة وعكرمة وأبي مسلم .
ومعنى قوله ) آتيناه آياتنا ( عند الأكثرين علمناه حجج التوحيد وفهمناه أدلته حتى صار عارفاً بها ) فانسلخ منها ( فخرج من محبة الله تعالى إلى معصيته ومن رحمته إلى سخطه. يقال لكل من فارق شيئاً بالكلية إنه انسخل منه .
وقال أبو مسلم ) آتيناه آياتنا فانسلخ منها ( أي بيناها فلم قبل وعري منها وتباعد كما هو شأن كل كافر لم يؤمن بالأدلة وأقام على الكفر .
والقول الأول أولى لأن الانسلاخ يدل على أن الشيء كان موجوداً فيه ثم خرج منه لا على إنه لم يوجد فيه أصلاً .
وأيضاً ثبت بالأخبار أن الآية نزلت في إنسان كان عارفاً بدين الله ثم خرج من المعرفة إلى الكفر والغواية وذلك قوله ) فأتبعه الشيطان ( أي أدركه ولحقه وصار قريناً له ، أو أتبعه الشيطان خطواته أو كفار الإنس وغواتهم أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعاً له ) فكان من الغاوين ( في علم الله تعالى أو فصار(3/346)
" صفحة رقم 347 "
منهم ) ولو شئنا لرفعناه ( إلى منازل الأبرار ) بها ( أي بتلك الآيات ) ولكنه أخلد إلى الأرض ( أصل الإخلاد اللزوم على الدوام فكأنه قيل : لزم الميل إلى الأرض ومنه أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به .
قال ابن عباس : معناه مال إلى الدنيا .
وقاتل مقاتل : رضي بالدنيا .
وقال الزجاج : سكن إلى الدنيا. وقال الواحدي : فهؤلاء فسروا الأرض بالدنيا لأن ما في الدنيا من الضياع والعقار كلها أرض وسار أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان يستخرج من الأرض وبها يكمل ويقوى ، ومعنى قوله ) واتبع هواه ( أنه أعرض عن التمسك بما آتاه من الآيات ، ثم إنه لو جاء الكلام على ظاهره لقيل : ولو شئنا لرفعنا بها ولكنا لم نشأ إلا أن قوله ) ولكنه أخلد إلى الأرض ( لما دل على هذا المعنى لا جرم أقيم مقامه .
قالت الأشاعرة : لفظة ( لو ) تدل على أن الله تعالى قد لا يريد الإيمان ويريد الكفر .
وقال الجبائيّ : معناه ولو شئنا لرفعناه بأعماله بأن يحترمه ونزيل التكليف عنه قبل ذلك الكفر حتى تسلم له الرفعة لكنا عرضناه بزيادة التكليف لمنزلة زائدة فأبى أن يستمر على الإيمان ، أو المراد لو شئنا لرفعناه بأن نحول بينه وبين الكفر قهراً أو جبراً إلا أن ذلك ينافي التكليف فلا جرم تركناه مع اختياره .
وقال صاحب الكشاف : ومعناه لو لزم العمل بالآيت ولم ينسخل منها لرفعناه بها ، وذلك أن مشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون ) ولو شئنا ( في معنى ما هو فعله .
ثم وضع قوله ) فمثله كمثل الكلب ( موضع فحططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في هذا المعنى ومحل قوله ) أن تحمل عليه ( النصب على الحل كأنه قيل : كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة لاهثاً في الحالين ، ويجوز أن يكون تفسيراً للمثل كما مر .
قال الليث : اللهث هو أن الكلب ونحوه إذا ناله الإعياء عند شدّة العدو وعند شدّة الحر فإنه يدلع لسانه من العطش ، وكل شيء يلهث فإنه يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في جميع أحواله لا لحاجة وضرورة بل لطبيعته الخسيسة .
فمعنى الآية أن هذا الكلب إن شدّ عليه وهيج لهث ، وإن ترك لهث ايضاً لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له .
عن ابن عباس : الكلب منقطع الفؤاد يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه .
قيل : لما دعا بلعم على موسى خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب فيكون هذا وجه التمثيل .
واعلم أن التمثيل ما وقع بجميع الكلاب وإنما وقع بالكلب اللاهث وأخس الحيوانات هو الكلب وأخس الكلام هو اللاهث ، وإن الرجل إذا توسل بعلمه إلى طلب الدنيا فذلك إنما يكون لأجل أن يورد عليهم أنواع علومه ويظهر عندهم فضائل نفسه(3/347)
" صفحة رقم 348 "
ومناقبها ، ولا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات يدعل لسانه ويخرجه لأجل ما تمكن من قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا فكانت حاله شبيهة بحال ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبداً من غير حاجة ولا شرورة بل لمجرد الطبيعة الجسيدة .
وأيضاً هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال والخسارة عادة أصيلة وطبيعة ذاتية له كما أن ذلك الكلب إن شدّ عليه لهث وإن ترك لهث .
ثم عمم بالتمثيل جميع المكذبين الضالين فقال ) ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ( وقال ابن عباس : يريد أهل مكة كانوا يتمنون هادياً يهديهم وداعياً يدعوهم إلى طاعة الله ، ثم لما جاءهم من لا يشكون في صدقه وديانته كذبوه .
وقيل : هم اليهود قرأوا نعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .
) فاقصص القصص ( يريد قصص المكذبين أو قصص نحو سيرته .
ثم ذكر تأكيداً آخرا في باب التحذير فقال ) ساء مثلاً لقوم ( ولا بد من تقدير مضاف ليناسب التمييز المخصوص بالذم فيصير التقدير : ساء مثلاً القوم ، أو ساء أصحاب مثل القوم .
وفي ) ساء ( ضمر مبهم يفسره المنصوب بعده .
وظاهر الآية يقتضي كون المثل مذموماً فقيل : كيف يتصور ذلك مع أن الله تعالى ذكره ؟ والجواب أن الذم إنما يتوجه إلى ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها حتى صاروا في ذلك بمنزلة الكلب اللاهث .
أما قوله ) وأنفسهم كانا يظلمون ( فإما أن يكون معطوفاً على كذبوا فيدخل في حيز الصلة بمعنى الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم ، وإما أن يكون كلاماً منقطعاً بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم بالتذكيب ، وتقديم المفعول للاختصاص كأنه قيل : وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدها إلى غيرها .
ثم بين أن الهداية والضلال بتقديره فقال ) من يهد الله فهو المهتدي ( وهو محمول على اللفظ من حيث إن ( من ) مفرد اللفظ ومن حيث إن اهتدى مطاوع هدى ) ومن يضلل فأولئك الخاسرون ( محمول على المعنى لأن من معناه ههنا الجمع ولأن الخسار ليس مطاوع والإضلال بل الإضلال .
مطاوع له والخسار لازم اللازم .
ولا يخفى أن ظاهر الآية موافق لمعتقد الأشاعرة أن الهداية والضلال بل جميع الأفعال بخلق الله تعالى ، والمعتزلة اولوها بأن المراد من يهد الله إلى الجنة والثواب فهو المهتدي في الدنيا ، ومن يضلله عن الجنة والثواب يضلله عن طريق الجنة .
وقال بعضهم : التقدير من يهد الله فقبل هداه فهو المهتدي ، ومن يضل بأن لم يقبل فهو الخاسر .
وقيل : من يهده الله بالألطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي ، ومن يضلله عن ذلك بما تقدم منه(3/348)
" صفحة رقم 349 "
بسوء اختياره فأخرج لهذا السبب تلك الألطاف من أن تؤثر فيه فهو الخاسر ، وزيف بالعلم والداعي وبأن الأصل عدم الإضمار وبأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف فقد فعله عند المعتزلة في حق جميع الكفار وبالآية بعدها وهي قوله ) ولقد ذرأنا ( إلى آخره .
وذلك أنه بين أنه خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم وقد علم ذلك في الأزل وخلاف مقدوره ومعلومه محال .
وأيضاً العاقل لا يريد الكفر والجهل. الموجبين لدخول النار ، فحصول ذلك على خلاف قصده واجتهاده لا يكون إلا من قبل غيره ، ولا يتسلسل بل ينتهي إلى مسبب الأسباب لا محالة .
لا يقال العبد إنما يسعى في تحصيل ذلك الاتعقاد الباطل لأنه اشتبه لامر عليه وظنه اعتقاداً صحصحاً لأنا نقول على هذا التقدير إنما وقع في هذا الجهل لأجل جهل متقدم ، ولا تسلسل بل ينتهي إلى جهل حصل ابتداء فيتوجه الإلزام .
قالت المعتزلة : الآيات الدالة على أنه سانه أراد من العبد الطاعة والعبادة والخير فقط كثيره كقوله ) وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] وأيضاً أنه قال في معرض الذم ) لهم قلوب لايفقهون بها ( إلى آخره .
ولو ولو كانوا مخلوقين للنار غير قادرين على الإيمان لم يحسن ذمهم .
وأيضاً لو خلقهم للنار لما كان له نعمة على الكفار أصلاً لأن منافع الدنيا بأسرها لا اعتداد بها في جنب العذاب الدائم لكن القرآن مملوء من أنه تعالى منعم على جميع الخلائق .
وأيضاً مذبكم وبجب أن لا يكون للمدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب فائدة ، ولو خلقهم للنار لوجب أن يخلقهم في النار ابتداء لأنه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم. وأيضاً الآية متروكة الظاهر لأن لام الاختصاص لا تفيد فيها إلا إذا قدر ( ولقد ذرأناهم ) لكي يكفروا فيصيروا إلى جهنم فيجب بناؤها على قوله ) وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] لأن ظاهره يصح من غير حذف .
وعلى هذا اوجب أن تؤول الآية بأن اللام فيها لام العاقبة كقوله ) فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً ) [ القصص : 8 ] أو يقال إنه جعلهم لإغراقهم في الكفر وشدّة شكائمهم فيه كأنهم مخلوقون للنار كقولهم ما خلق فلان إلا لكذا إذا كان غريقاً في بعض الأمور .
وأجيب إجمالاً بأنه لا يسأل عما يفعل ، وتفصيلاً بأن النعمة وإن قلت فهي في نفسها نعمة ، وبأن الوسائط معتبرة ، وبأن حمل اللام على العاقبة تجوّز لا يصار إليه إلا لضرورة تصحيح المعنى ، وههنا لا ضرورة فقد تعاضدت الدلائل العقلية كالعلم والداعي والنقلية كآيات كثيرة على أن الكل من الله فوجب المصير إلى طرف الجبر ولا سيما فإن ما قبل هذه الآية وهو قوله ) من يهد الله فهو المهتدي ( وما بعدها وهو قوله ) والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم ( يدل على ما قلنا .
وأيضاً لاريب أن أولئك الكفار(3/349)
" صفحة رقم 350 "
كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالح الدنيا ، وكذا أعين مبصرة وآذان سامعة ، فالمراد أنهم كانوا يفقهون ويبصرون ويسمعون ما يرجع غلى مصالح الدين .
ثم إنه تعالى كلفهم تحصيل الدين مع عدم القابلية كيف وغن الكفار بلغوا في عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وفي شدة النفرة عن قبول دينه مبلغاً لا يكتنه كنهه .
والعلم الضروري حاصل بأن حصول الحب والبغض في القلب ليس باختيار الإنسان بل هو حالة حاصلة في القلب كره الإنسان أو أراد ، حئنئذ يثبت القول بالجبرز وروى الشيخ أحمد البهقي ي كتاب مناقب الشافعي أن عليّ بن أبي طالب عليه السلام خط بالناس فقال : وأعجب ما في الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضدادها ، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن سعد بالرضا شقي بالسخط ، وإن ناله الخوف شغله الحزن ، وإن أصابته المصيبة قتله الجزع ، وإن وجد مالاً أطغاه الغنى ، وإن عضته فاقة شغله البلاء ، وإن أجهده الجوعقعد به الضعف ، فكل تقصير به مضر ، وكل إفراط له مفسد .
وهذا الفصل كالمطلع على سر مسألة القضاء والقدر لأن أعمال الجوارح مربوطة بأحوال القلوب ، وكل حالة من أحوال القلب فإنها مستندة إلى حالة أخرى حصلت قبلها .
وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر .
وذكر الإمام الغزالي في الإحياء فصلاً ثم قال : فإن قلت أني أجد من نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلاً بي لا بغيري .
أجبنا وقلنا : هب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول : وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئاً شئت ، وإن شئت أن لا تشاءه لم تشأ ، ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له ، فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار .
والله تعالى أعلم .
قال بعض العلماء أنه تعالى نف الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم ، وفيه دليل على أن محل الفقه هو القلب .
وأقول : ليس المراد بالقلب ههنا اللحم الصنوبري بل اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنساناً وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة وبالروح .
أما قوله ) أولئك كالأنعام بل هم أضل ( فتقريره أن الإنسان يشاركه سائر الحيوان في القوى الطبعية الغاذية والنامية والمولدة ، وفي منافع الحواس الخمس الظاهرة ، وفي أحوال التخيل والتفكر .
وإنما يحصل الامتياز بالقوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فإذا لم تحصل هذه الغاية للإنسان صار في درجة الأنعام بل أضل وادون لأن الذي أعرض عن اكتساب الفضائل مع القدرة على تحصيلها من حيث النوع كان أخس(3/350)
" صفحة رقم 351 "
حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز عنها .
وقيل : وجه الأضلية أن الأنعام مطيعة لله والكافر غير مطيع .
وقال مقاتل : الأنعام تعرف ربها وتبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيلها ودفعها ، وهؤلاء الكفار أكثرهم معاندون مصرون وقيل : إنها تفر أبداً إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها ، والكافر يهرب عن ربه إلى الأصنام .
وقيل : إنها لا تضل إذا كان معها مرشد والكافر يضل بعد إرسال الرسل وغنزال الكتب ) أولئك هم الغافلون ( الكاملون في الغفلة .
وقال عطاء : إنهم الغافلون عما اعد الله لأوللياءه من الثواب ولأعدائه من العقاب .
ثم نبه بقوله ) ولله الأسماء الحسنى ( على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكره سبحانه ، والمخلص من عذاب جهنم هو ذكره ، وكل من له ذوق وجد من نفسه أن الأمر كذلك فإن القل بإذا غفل عن الذكر وأقبل على الدنيا وقع في نار الحرص وزمهرير الحرمان ولا يزال ينتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب غلى طلب ومن ظلمة غلى ظلمة فإذا فتح على قلبه الذكر خلص مننيران الآفات وخسران الحسرات إلى معرفة رب الأرض والسموات .
وهذا اللفظ مذكور في ثلاثة مواضع أخر : في آخر بني إسرائيل وفي أوّل طه وفي آخر الحشر .
ومعنى حسن الأسماء حسن معانيها ومفهوماتها لأنها أسماء دالة على معاني الكمال ونعوت الجلا وهي محصورة في نوعين : عدم افتقاره تعالى إلى غيره وفي آخر الحشر .
ومعنى حسن الأسماء حسن معانيها ومفهوماتها لأنها أٍماء دالة على معاني الكمال ونعوت الجلال وهي محصورة في نوعين : عدم افتقاره تعالى إلى غيره وثبوت افتقاره غيره إليه .
وقد عرفت في تفسير البسملة أن أسماء الله تعالى لا تكاد تنحصر بحسب السلوب والإضافات ، فكل من كان وقوفه على أسار حكمه في مخلوقاته أكثر كان علمه بأسماء الله الحسنى اكثر .
والآن نقول : إن من تقسيمات أسماء الله ما يقوله المتكلمون من أن صفات الله أنواع ما يجب وما يجوز وما يستحيل عليه تعالى .
ومنها أن يقال إن أسماء الله إما أن يجوز إطلاقها على غيره كالرحيم والكريم وإن كان معناها في حق الله مغايراً لمعناها في حق غيره ، وإما أن لا يجوز نحو ( الله ) و ( الرحمن ) .
وقد يقيد القسم الأوّل بقيود مثل ( يا أرحم الراحمين ) و ( يا أكرم الأكرمين ) و ( يا خالق السموات والأرضين ) .
ومنها أن يقال منالأسماء ما يمكن ذكره وحده كقولنا ( يا الله يا رحمن يا حي يا حكيم ) .
ومنها ما لا يكون كذلك كقولنا ( مميت ) و ( ضارّ ) فإنه لا يجوز إفراده بالذكر بل يجب أن يقال ( يا محيي يا مميت يا ضار يا نافع ) .
ومنها أن يقال أوّل ما يعلم من صفات الله تعالى كونه محدثاً للأشياء مرجحاً لوجودها على عدمها ، وذلك إنما يعلم بواسطة الاستدلال بوجود الممكنات عليه ، وذلك المرجح إما ان يرجح على سبيل الوجوب أو على سبيل الصحة ، والأوّل باطل وإلا لزم دوام العالم بدوامه ، والثاني هو المعنيّ بكونه قادراً .
ثم إنا بعد هذا نستدل بكون أفعاله محكمة متقنة على كونه عالماً ثم(3/351)
" صفحة رقم 352 "
نقول : إن القادر العالم يمتنع أن لا حياً فظهر أن العلم بصفاته وبأسمائه ليس واقعاً في درجة واحدة بل العلم بها علوم مترتبة يستفاد بعضها من بعض ، ومن البين أن الأسماء الحسنى لا تكون إلا لله تعالى لأن كل الشرف والجلالة يستلزم وجوب الوجود ، وكل نقص وخساسة فإنه يعقب الإمكان وكل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله تعالى .
ومن هنا اختلف في أنه هل يطلق عليه اسم الشيء أم لا ؟ وقد مر تحقيق ذلك في تفسير البسملة وفي الانعام في قوله ) قل أي شيء اكبر شهادة قل الله ) [ الأنعام : 19 ] أما قوله ) فادعوه بها ( ففيه دليل على أن الإنسان لا يجوز أن يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى بعد أن عرف معانيها ويكون مستحضراً الأمرين : عزة الربوبية وذلة العبودية ، كما أنه في قوله عند التحريم ( الله أكبر ) يشير غلى أنه لا نسبة لكبريائه وعظمته إلى ما سواه من الروحانيات والجسمانيات والعلويات والسفليات وإنما هو أكبر من هذه الأشايء وأكبر من أن يقال له اكبر من هذه الأشياء ) وذروا الذين يلحدون في أسمائه ( قال ابن السكيت : الملحد العادل عن الحق والمدخل فيه ما ليس منه .
يقال قد ألحد في الدين ولحد .
وقال غيره من أهل اللغة : الإلحاد العدول عن الاستقامة والانحراف عنها ومنه للحد الذي يحفر إلى جانب القر .
قال الواحدي : الأجود قراءة العامة ولا يكاد يمسع منالعرب لأحد بمعنى ملحد .
والإلحاد في أسماء الله تعالى يقع على ثلاثة أوجه : الاوّل : إطلاق أسمائه المقدسة على الأصنام كاشنقاقهم اللات من الله والعزى من العزيز ، ومناة من المنان ، وكان مسيلمة الكذاب يمسى نفسه الرحمن .
والثاني أن يسموه بما لا يجوز عليه كما سمع عن البدو وإن قالوا بجهلهم ( يا أبا المكارم ، يا أبيض الوجه ، يا نخّي ) بناء على أن النخوة مدح .
الثالث : أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى كالرحمن مثلاً .
قال بعض العلماء : إن ورود الإذن في بعض الأسماء لا يجوز إطلاق سائر الألفاظ المشتقة منه عليه ، فلا يجوز أن يقال ( يا معلم ) وإن ورد ) وعلم آدم الأسماء ) [ البقرة : 31 ] وكذا في حق الأنبياء لا يجوز أن يقال إن آدم عاصٍ أو غاوٍ وإن ورد ) وعسى آدم ربه فغوى ) [ طه : 121 ] ثم أوعد الملحدين في أسمائه بقوله ) سيجزون ما كانوا يعملون ( ثم لما أخبر أن كثيراً من الثقلين مخلوقون لنار حكى أن بعضاً منهم مخلوقون للجنة فقال ) وممن خلقنا أمة يهدون بالحق ( وقد مر مثل هذه الآية في قصة موسى فعن قتادة وابن جريج وابن عباس أن المراد في الآية أمة محمد صلى الله عليه وآله .
وروى الربيع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول : ( إذ قرأها هذه الكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ) .
وعن الربيع بن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية فقال : إن من أمتي قوماً على الحق(3/352)
" صفحة رقم 353 "
حتى ينزل عيسى .
وعن الكلبي : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب .
وقال الجبائي : هم العلماء والدعاة إلى الدين في كل حين ثم أعاد ذكر المكذبين وما عليهم من الوعيد فقال ) والذين كذبوا بآياتنا ( قال ابن عباس : يري أهل مكة والظاهر أنه عام .
والاستدراج استفعال من الدرجة ومنه درج الصبي إذا قارب بينخطاه ، أدرج الكتاب إذا طواه شيئاً بعد شيء .
ومعنى الآية سنقربهم إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم ) من حيث لا يعلمون ( ما يراد بهم .
وذلك أنهم كلما أقدموا على ذنب فتح الله عليهم باباً من أبوب الخير فيزدادون بطراً وانهماكاً في الغي والفساد ، ثم يأخذهم إفل ما يكونون ) وأملي لهم ( أطيل لهم مدة عمرهم ) إن كيدي متين ( عن ابن عباس : يريد أن مكري شديد والمتين من كل شيء هو القوي .
يقال متن متانة .
واحتجت الأشاعرة بألفاظ الاستدراج والإملاء والكي في مشألة القضاء والقدر حتى قال بعض المجبرة : المراد سنستدرجهم إلى الكفر مع أنه فاسد لأن جزاء الكفر لا يكون كفراً آخر .
وحملها المعتزلة على أن المراد سنستدرجهم إلى العقوبات إما في الدنيا وفي الآخرة ، وزيف بأن هذاالاستدراج والإمهال مما يزيد الكافر به كفراً وعتوواَ واستحقاقاً للعقاب ، فلو أراد به الخير لأماته قبل أن يصير مستوبجاً لتلك الزيادات من العقوبة بل كان يجب في حكمته ورعايته للأصلح أن لا يخلقه ابتداء ، أو يميته قبل التكليف لما خلقه وألقاه في ورطة التكليف وأمهله ومكنه من المعاصي مع علمه بأن كل ذلك لا يفيده غلا مزيد استحقاق العقاب علمنا أنه ما خلقه إلا للنار كما قال ) لقد ذرأنا لجهنم ( الآية .
التأويل : ( وإذا أخذ ربك ( لم يقل ( ربكم ) ليعلم أن في الآية غموضاً لا يطلع عليه غيره ( صلى الله عليه وسلم ) وغير من أنعم الله به عليه من خواص متابعيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأنه تعالى لم يكلم أحداً وهو يجيبه في العدم إلا بني آدم كلمهم وهم غير موجودين وأجابوه وهم معدومون فجرى بالجود ما جرى لا بالوجود ، فهذا بدايتهم وإلى أن تنتهي نهايتهم بأن يكون الله تعالى سمعهم وأبصارهم وألسنتهم ) إنما أشرك آباؤنا ( بأن رضوا بالأثنينية وما جعلوا إلى الوحدة بالفناء في الله ) بما فعل المبطلون ( الذين أبطلوا استعداد الرجوع إلى الوحدة لله ) ولعلهم يرجعون ( بهذه الدلالات من البداية إلى النهاية وهو مقام الوحدة ) فانسلخ منها ( أي وقع فرخ همته العليةعن ذكر طلب الحق ومحبته فأدركته هزة الشيطان وجعلته من الهالكين ليعلم أن المعصوم من عصمة الله وأن السلك الواصل يجب أن لا يأمن مكر الله فلا يفتح على نفسه أبواب التنعم والترفه ، ولا يميل إلى حب المال والجاه ) ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً ( وهم مظاهر القهر ) فادعوه بها ( بأن تتصفوا بصفاته بالنيات الصالحات وبالأعمال الزاكيات ثم تتخلقوا بها بالأحوال بتصفية مرآة القلب ومراقبته عن التعلق بما سوى الله(3/353)
" صفحة رقم 354 "
تعالى ) والذين كذبوا بآياتنا ( بأن لم توافق أقوالهم أفعالهم ) سنستدرجهم ( فينحطون عن مراتبهم بالتدريج والله أعلم .
( الأعراف : ( 184 - 198 ) أولم يتفكروا ما . . . .
" أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون "
( القراآت )
فبأي ( بتليين الهمزة حيث كان : الأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف ) ويذرهم ( بالياء مرفوعاً : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم غير عياش والمفضل ) ويذرهم ( بالياء مجزوماً : عياش وحمزة وعلي وخلف .
الباقون : بالنون مرفوعاً ) أن أنا إلا ( بالمد : أبو نشيط ) شركاً ( بكسر الشين وسكون الراء : أبو جعفر ونافع وأبو بكر وحماد .
الآخرون : ( شركاء ( علىالجميع ) يتبعوكم ( مخففاً : نافع .
الباقون : بالتشديد .
) يبطشون ( بضم الطاء يزيد ) قل ادعوا ( بكسر اللام للساكنين وكذا بابه : حمزة وعاصم وسهل ويعقوب وعياش .
الآخرون : بالضم للإتباع ) كيدون ( بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل ، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل والحلواني عن هشام في(3/354)
" صفحة رقم 355 "
الوصل ) ينظرون ( بالياء في الحالين : يعقوب وافق سهل وعياش في الوصل .
) إن وليّ الله ( بياء واحدة مشددة : أبو زيد عن المفضل وشجاع وعيشا إذا قرأ الإدغام الكبير ) وليي ( بثلاث يا آت : رويس والبرجمي .
الباقون : بياءينأولاهما شمددة مكسورة والثانية .
مفتوحة .
الوقوف : ( من جنة ( ط ) مبين ( ه ) من شيء ( لا لأن التقدير وفي أن عسى ) أجلهم ( ط لابتداء الاستفهام مع الفاء ) يؤمنون ( ه ) هادي له ( طلمن قرأ ) ويذرهم ( .
بالرفع على الاستئناف ، ومنجزم فلا وقف لأنه معطوف على موضع ) فلا هادي له ( ، ) يعمهون ( ه ) مرساها ( ط ) عند ربي ( ج لاختلاف الجملتين ) إلا هو ( ط ) والأرض ( ط ) بغتة ( ط ) عنها ( ط ) لايعلمون ( ه ) ما شاء الله ( ط ) من الخير ( ج لاحتمال أن يفسر السوء بالجوع فيكون معطوفاً على جواب ( لو ) .
واحتمال أن يفسر بالجنون الذي نسبوه إليه فكون ابتداء نفي ) يؤمنون ( ه ) إليها ( ج لأجل الفاء ) فمرت به ( ج لذلك ) الشاكرين ( ه ) فيما آتاهما ( ج لابتداء التنزيه ووجه الوصل تعجيل التنزيه ) يشركون ( ه ) وهم يخلقون ( ه والوصل أولى للعطف ) ينصرون ( ه ) لا يتبعوكم ( ط ) صامتين ( ه ) صادقين ( ه ) يمشون بها ( ز لأن ( أم ) عاطفة مع أنها في معنى ابتداء استفهام للإنكار الثانية والثالثة كذلك ) يسمعون بها ( ط ) ينظرون ( ه ) الكتاب ( ط والوصل أولى لتكون الواو عاطفة ) الصالحين ( ه ) وينصرون ( ه ) لا يسمعوا ( ط ) لا يبصرون ( ه .
التفسير : إنه تعالى لما بالغ في تهديد الملحدين المعرضين عن آياته الغافلين عن التأمل في بيناته عاد إلى الجواب عن شبهاتهم فقال ) أو لم يتفكروا ( وإذاعلم أن الرؤية بالصبر حالة مخصوصة بالانكشف والجلاء ولها مقدمة هي تقليب الحدقة إلى جهة المرئي ، كذلك رؤية البصيرة وهي المسماة بالعلم واليقين حال متعينة بالوضوح والإنارة ولها مقدمة هي تقليب حدقة القل بإلى الجوانب طلباً لذلك ، وهذه الحالة تسمى بنظر العقل وفكرته .
وفي اللفظ محذوف والتقدير : أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة وهي حالة من الجنون كالجلسة .
كان جهال أهل مكة ينسبونه إلىالجنو لوجهين : أحدهما أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يغشاه حالة عجيبة عند الوحي شبيهة بالغشي يتربد وجهه ويتغير لونه ، والثاني أن فعله وهو الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والدعاء إلى الله تعالى كان مخالفاً لفعلهم .
وعن الحسن وقتادة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قام ليلاً على الصفا يدعو فخذاً فخذاً من قريش : يا بني فلان يابني فلان يحذرهم بأس الله وعقابه .
فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون واظب على الصياح إلى الصباح .
فأمرهم الله تعالى بالتفكر والتدبر في أمره وذلك(3/355)
" صفحة رقم 356 "
أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدعوهم غلى عبادة الله وحده ويقيم عليهم الدلائل القاطعة بألفاظ فصيحة عجز .
الأولون والآخرون عن معارضتها ، وكان حسن الأخلاق طيب العشرة مرضي السيرة مواظباً على أعمال حسنة ، صار بسببها قدوة لعقلاء العالمين ، ومن الملعوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون وإنما هونذير مبين أرسله رب العالمين لترهيب الكافرين وترغيب المؤمنين .
ولما كان النظر يف أمر النبوة مفرعاً على دلائل التوحيد قال ) أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ( أي في مدلولاتهما .
والملكوت الملك العظيم ، وفي إنكار عدم النظر دلالة على وجوب الاستدلال فيما للعقل إليه سبيل وقد مر في هذا الكتاب كيفية دلالة السموات والأرض على وجود الصانع ولا سيما في سورة البقرة عند قوله ) إن في خلق السموات والأرض ) [ البقرة : 164 ] ثم قال ) وما خلق الله من شيء ( أي مما يقع عليه اسم الشيء من اجناس غير محصورة .
والغرض التنبيه على أن الدلالة على التوحيد ليست مقصورة على السموات والأرض ، بل كل ذرة من ذارت هذا العالم .
فيها برهان باهر ودليل ظاهر على الوحدانية لأنها مختصة بحيز معين من الأحياز غير المتناهية ، وبقدر معين من الأقدار ، وبوضع معين من الأوضاع وكذا الكلام في لونها وشكلها وطبعها وطعمها وسائر صفاتها ، وكل واحد من هذه الاختصاصات لا بد له من مخصص ولا بد من الانتهاء إلى واجب واحد في ذاته وفي جميع اعتبارته ) وأن عسى ( هي مخففة من الثقيلة والأصل ( وأنه عسى ) على أن الضمير للشأن وفي أن يكون ضمير الشأن أيضاً والمعنى : أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى ) أن ن يكن ( الشأن ) قد اقرب أجلهم ( الموت أو القيامة .
وإذا كان أحد هذين الاحتمالين قائماً وجب على العاقل المسارعة إلى هذا الفكر والنظر سعياً في تخليص النفس من هذا الخوف الشديد والخطر العظيم ، أما قوله ) فبأي حديث بعده يؤمنون ( فمتعلق بقوله ) عسى أن يكون ( كأنه قيل : لعل أجلهم قد أقترب فما لهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن قبل الفوت ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا .
ودلالة في إطلاق لفظ الحديث على القرآن على أنه ليس بقديم لأن المراد بالحديث ما يرادف الكلام ، ولو سلم فإنه محمول على الألفاظ والكلمات ولا نزاع في حدوثها ، قوله ) من يضلل الله ( قد سبق تفسير مثله ، ثم لما تكلم في النبوة والتوحيد والقضاء والقدر أتبعه الكلام في المعاد فقال ) يسألنك عن الساعة ( وأيضاً لما ذكر اقتراب الأجل بين أن وقت الساعة مكتوم عن الأفهام ليصير ذلك حاملاً للمكلفين على المسارعة إلى التوبة وأداء الفرائض .
ومن السائل ؟ عن ابن عباس أنهم اليهود قالوا : يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً فإنا نعلم متى هي. وعن قتادة :(3/356)
" صفحة رقم 357 "
إنهم قريش قالوا : يا محمد إن بيننا وبينك قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة .
قال في الكشاف .
الساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا ، سميت القيامة ساعة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها أو على العكس لطولها كما يقال للحبشي أو البيضاء ، أو لأنها عندالله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق ) وأيان ( استفهام عن الزمان ويختص بالأمور العظام نحو ) أيان مرساها ) [ النازعات : 42 ] ( وأيان يوم الدين ) [ الذاريات : 12 ] ولا يقال أيان نمت .
وكسر همزته لغة بني سليم .
وعن ابن جني أن شاتقاقه من أيّ ( فعلان ) منه وأيّ فعل من أويت إليه لأن البعض يأوي إلى الكل ، وأنكر أن يكون اشتقاقه من ( أين ) لأنه للزمان و ( أين ) للمكان ولقلة ( فعال ) في الأسماء وكثرة ( فعلان ) فيها .
وقال الأندلسي : أصله ( أي أو أن ) حذفت الهمزة مع الياء الأخيرة فبقي ( أيوان ) فأدغم بعد القلب .
وقيل : أصله لا يستعمل إلا بلام التعريف .
والمرسى بمعنى الإرساء والإثبات ، والرسّو الثبات والاستقرار ولعله لا يطلق إلا على ما فيه ثقل ومنه رسا الجبل وأرست السفينة ولا أثقل من الساعة على الخلائق ) قل إنما علمها ( أي علم وقت إرسائها وإثباتها وإقرارها ) عند ربي ( قد استأثر به لم يخبر به أحداً منملك مقرب ولا نبي مرسل يكاد يخفيها من نفسه ليكون أدعى غلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى وقت الموت لذلك ) لا يجليها ( لا يظهرها ) لوقتها ( أي للخبر عن وقتها قبل مجيئها أحد ) إلا هو ( والحاصل أنه لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإخبار والإعلام إلا هو ) ثقلت في السموات والأرض ( قال الحسن : أي ثقل مجيئها على أهل السموات لانشقاق السماء وتكوير الشمس وانتثار النجوم ، وعلى أهل اللأرض لأن في ذكل اليوم فناءهم وهلاكهم .
أو ثقل هذااليوم على الخلائق بما فيه من الشدائد والأهوال ، أو ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين عليهم أي أشكل واستبهم حتى صار ثقيلاً على الأفهام ) ا تأتيكم إلا بغتة ( إلا فجأة على حين غفلة منكم .
وهذه الجمل مؤكدات ومبينات لما تقدمها ولهذا فقد العاطف .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه ) وروى الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( والذي نفس محمد بيده لتقومن الساعة وإن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه وبين(3/357)
" صفحة رقم 358 "
ذلك ) ثم كرر ) يسألونك ( للتأكيد ولما نيط به من زيادة قوله ) كأنك خفي عنها ( فكان السؤال الأول عن وقت قيام الساعة ، والسؤال الثاني عن كنه ثقل الساعة شدتها ومهابتها ولهذا خص باسم الله في قوله ) قل إنما علمها عند الله ( لأن أعظم أسماء الله مهابة هو الله ، وأما الرب فيدل على التربية والرحمة دون الهيبة والعزة ، وفي الحفي وجوه : فقيل إنه البار اللطيف و ( عن ) بمعنى ( الباء ) أي كأنك بارّ بهم لطيف العشرة معهم وهذا قول الحسن وقتادة والسدي ، والضمير عائد إلى قريش التي ادعت القرابة وجعلوها وسيلة إلى أن يخبرهم بالساعة .
والمعنى أنك لا تكون حفياً بهم ما داموا على كفرهم ولو أخبرت بوقتها وأمرت بالغخبار عنها لكنت مبلغه القريب والبعيد من غير تخصيص كسائر ما أوحي إليك .
وعلى هذا القول جاز أن يكون ) عنها ( متعلقاً ب ) يسألونك ( أي يسألونك عنها كأنك حفي أي عالم بها فحذف قوله ( بها ) لطول الكلام أو لأنه معلوم .
وقيل : ( عنها ( بتعلق بمحذوف .
وحفي ( فعيل ) من حفي فلان بالمسألة أي استقصى ، والمعنى كأنك بليغ في السؤال عنها لأن من أكثر السؤال علم .
وهذا التركيب يفيد المبالغة ومنه إحفاء الشارب ، وأحفى في المسألة إذا ألحف .
وقيل : المراد كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه وتؤثره يعني أنك تكرهالسؤال عنها لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( أنه مختص بذلك العلم أو لا يعلمون أن القيامة حق وإنما يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا ، أو لا يعلمون السبب الذي لأجله خفيت معرفة وقتها المعين عن الخلف .
ثم أمر نبيه بإظهار ذلة العبودية حتى لا ينسب إليه نقص ولا يعاب من قبل عدم العلم بالغيب فقال ) قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ( وفيه أن قدرته قاصرة وعلمه قليل ، وكل من كان عبداً كان كذلك ، والقدرة الكاملة والعلم المحطيط ليس إلا لله تعالى .
واحتجب الأشاعرة بالآية في مسألة خلق الأعمال قالوا : الإيمان نفع والكفر ضر فوجب أن لا يححصلا إلا بمشيئة الله تعالى .
وأجابت المعتزلة بأن المراد لا أملك لنفسي من النفع والضر إلا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني منه .
وظاهر الآية وإن كان عاماً إلا أنها مخصوصة بصورة النزول .
قال الكلبي : إن أهل مكة قالوا : يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري فتربح ، وبالأرض التي يريد أن تجدب فترتحل عنها إلى ما قد أخصب ، فأنزل الله هذه الآية ، فالمراد بالخير في قوله ) ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ( هو جلب منافع الدنيا وخيراتها من الخصب والأرباح والأكساب .(3/358)
" صفحة رقم 359 "
وقيل : المراد ما يتصل بأمر الدين يعني لو كنت أعلم بالغيب لكنت أعلم أن الدعوة إلى الدين الحق تؤثر في هذا ولا تؤثر في لك فكنت أشتغل بدعوة هذا دون ذاك .
وقال بعضهم : لما رجع صلىالله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق جاء في الطريق ريح نفرت ناقته .
منها فأخبر ( صلى الله عليه وسلم ) بموت رفاعة وكان فيه غيظ للمنافقين وقال : ( انظروا أين ناقتي ) .
فقال عبد الله بن أبيّ لقومه : ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته .
فقال صلى الله عليه وآله : ( إن ناساً من المنافقين قالوا كيت وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة ) فوجدوها على ما قال فنزلت .
أما قوله ) وما مسني السوء ( فمعناه لكان حالي على خلاف ما هي عليه من المغلوبية في بعض الحروب والخسران في بعض التجارات والأخطاء في بعض التدبير ) إن أنا ( إلا عبد مرسل للنذارة والبشارة وما منشأني أن أعلم الغيب .
وقوله ( لقوم يؤمنون ( إما أن يتعلق بالبشير وحده ويكون المتعلق بالنذير وهو للكافرين محذوفاً للعلم به كقوله ) سرابيل تقيكم الحر ( ) النحل : 81 ] أو يتعلق بالوصفين جميعاً إلا أن المؤمنين لما كانوا هم المنتفعين به خصوا بالذكر كقوله ) هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] واعلم أن أكثر ما جاء في القرآن من لفظي الضر والنفع معاً جاءا بتقديم لفظ الضر على النفع وهو النفع وهو الأصل لأن العابد يعبد معبوده خوفاً من عقابه أولاً ثم طمعاً في ثوابه ثانياً يؤيده قوله ) يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ) [ السجدة : 16 ] وحيثما تقدم النفع على الضر فذلك لسابقة لفظ تضمن معنى نفع كما في هذه السورة تقدم لفظ الهداية على الضلال في قوله ) من يهد الله فهو المهتدي ومن يضل ) [ الكهف : 17 ] وتقدم الخير على السوء في قوله ) لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ( وفي الرعد تقدم ذكرالركوع في قوله ) طوعاً وكراها ) [ آل عمران : 83 ] والطوع نفع .
وفي الفرقان تقدم قوله ) هو عذاب فرات ) [ الفرقان : 53 ] وهو نفع وفي سبأ تقدم البسط في قوله ) الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) [ الرعد : 26 ] وقس على هذا .
ثم رجع إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك فقال ) هو الذي خلقكم من نفس واحدة ( والمروي عن ابن عباس أنها نفس آدم وقد تقدم مثل ذلك في أول سورة النساء .
قال مجاهد : كان لا يعيش لآدم وامرأته ولد فقال لهما الشيطان : إذا ولد لكما ولد فسمياه عبد الحرث وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث وذلك قوله ) فملا آتاهما صالحاً ( ولداً سوياً ) جعلا ( يعني آدم وحوّاء ، ) له شركاء ( والمراد تسميته بعبد الحرث وهذا تمام القصة وقد زيفها النقاد بوجوه منها : أنه تعالى قال ) فتعالى الله عما يشركون ( بلفظ الجمع لا التثنية ومنها قوله ) أيشركون ما لا يخلق شيئاً ( إلى آخر الآيات وفي ذلك تصريح بأن المراد الأًنام ولو لكان المراد إبليس(3/359)
" صفحة رقم 360 "
لكان ( أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهو يخلق ) ؟ .
ومنها أن آدم عليه السلام كان عالماً بجميع الأسماء فكيف ضاقت عليه الأسماء ، أم كيف لم يعرف أن اسم إبليس كان حرثاً ، أم كيف لم يتنبه لغدر إبليس بعد أن جرى عليه منه ما جرى ؟ ومنها أنه أراد بذلك اسم علم أو اسم صفة والأوّل لا يستلزم محذوراً إلا أن أسماء الأعلام لا تفيد في المسميات فائدة فلا يلزم الإشراك ، والثاني يوجب الكفر الصريح ولا قائل بإمكان نسبته إلى آدم فعند ذلك ذكر العلماء في تأويله وجوهاً : أحدهما أن هذا مثل فكأنه تعالىيقول هو الذي خلقكم أي كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية يكسن أي تلك النفس ، فذكر بعد ما أنث حملاً على المعنى ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويطمئن إليها فكان التذكير أحسن طباقاً للمعنى ) فلما تغشاها ( أي جامعها لأنه إذا علاها صار كالغاشية لها ) حملت حملاً خفيفاً ( قالوا : يريد النطفة .
والحمل بالتفح ما كان في البطن أو على رأس الجرة ، وبكسر الحاء ما حمل على الظهر أو على الدابة ) فمرت به ( أي استمرت وقضت على ذلك الحمل من غير إذلاق .
وقيل : فقامت وقعدت به من غير ما ثقل .
وقيل : المرادبالخفة أنها لم تلق ما تلقاه بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى ) فلما أثقلت ( كان وقت ثقل حملها ولادتها ) دعوا ( أي الزوج والزوجة ) الله ربهما ( ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأنيدعى ويلتجأ إليه فقالا ) لئن آتيتنا صالحاً ( ولداً قد صلح بدنه أو ولد ذكراً لأن الذكورة من الصلاح والجودة ) لنكونن من الشاكرين ( لنعمائك ) فلما آتاهما صالحاً ( كما طلب ) جعلا له شركاء ( ومن قرأ ) شركاً ( فعلى حذف المضاف أي ذوي شرك وهم الشركاء أيضاً .
أو المراد أحدث لله إشراكاً في الولد لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع ، وتارة إلى الكواكب ، وتارة إلى الأوثان والأصنام ، وثانها أن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم آل قصيّ والمعنى : هو الذي خلقكم من نفس قصي وجعل من جنسها زوجة عربية قرشية ، فلما أتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد الدار .
والضمير في ) يشركون ( لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك ، وثالثها سلمنا أن الآية وردت في قصة آدم إلا أنه لا يجوز أن يكون قوله ) جعلا ( وارداً بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد ؟ .
ثم قال ) فتعالى الله عما يشركون ( أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الإنعام ثم يقول لذلك المنعم إن ذلك المنعم عليه يقصد إيذاءك وإيصال الشر إليك فيقول ذلك المنعم : فعلت في حق فلان كذا(3/360)
" صفحة رقم 361 "
وأحسنت إليه بكذا وكذا ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة إنه برئ من ذكل .
فغرضه من قوله ( إنه يقابلني بالشر ) النفي والتبعيد .
أو نقول : لم لا يجوز أن يكون قوله ) جعلا له ( على حذف المضاف أي جعلا أولادهما له شريكاً ؟ وكذا فيما ) آتاهما ( أي آتى أولادهما عبر عنهم بلفظ التثنية مرة لكونهم صنفين أو نوعين ذكراً وأنثى وبلفظ الجمع أخرى وهو قوله ) فتعالى الله عما يشركون ( سلمنا أن الضمير في ) جعلا ( وفي آتاهما ( لآدم وحواء إلا أنهما كانا عزماً أن يجعلا وقفاً على خدمة الله وطاعته ثم بدا لهما فكانا ينتفعان به في مصالح الدنيا ، فأريد بالشرك هذا القدر .
وعلى هذا فإنما قال تعالى ) عما يشركون ( لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين .
أو نقول : إنما سمياه عبد الحرث اعتقاداً منهما إنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه ، وقد يسمى المنعم عليه عبد المنعم ومنه قول بعض العلماء أنا عبد من علمني حرفاً .
فلما حصل الإشراك في لفظ العبد صارا معاتبين بذلك والله تعالى ألعم .
ثم أقام الحجة على أن الأوثان لا تصلح للإلهية فقال ) أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلفون ( اعتبر اللفظ أوّلاً فوحد والمعنى ثانياً ، وإنما جمع بالواو والنون بناء على معتقدهم أنهم عقالاء .
واحتجت الأشاعرة بها في مسألة خلق الأعمال فإنها تدل على أن غير الله لا يخلق ثم بيّن أن المعبود يجب أن يكون قادراً على إيصال النف ودفع الضر وهذه الأصنام ليست كذلك فقال ) ولا يستطيعون لهم نصراً ( وهو المعونة على العدة ) ولا أنفسهم ينصرون ( ولا يدفعون عن أنفسهم مكروها فإن من أراد كسرهم لم يقدروا على دفعه .
والحاصل أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تقتص ممن عصاها بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم ويحامون عليهم .
ثم ذكر أنها كما لا تنفع ولا تضر فكذلك لا علم لها بشيء من الأشياء وأنها لا يصح منها إذا دعيت إلى الخير والصلاح الاتباع ولا ينفصل حال من يخاطبهم ممن يسكت عنهم فقال ) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ( ويجوز أن يكون المراد وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبتكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله بدليل قوله بعد ) فادعوهم فليستجيبوا لكم ( ثم قوّى هذا الكلام بقوله ) سواء عليكم أدعوتموهم أو أنتم صامتون ( وإعرابه شبيه بما تقدم في أول سورة البقرة في قوله ) سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) [ البقرة : 6 ] وإنما عطف الاسمية على الفعلية لأن هؤلاء المشركين كانوا إذا وقعوا في مهم ومعضلة تضرعوا إلى تلك الأصنام ، وإذا لم تحدث تلك الواقعة بقو ساكتين صامتين فقيل لهم : لا فرق بين إحداثكم دعاءهم وبين أن تستمروا على صمتكم .
ثم أكد بيان أنها لا تصلح للإلهية بقوله ) إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ( فسئل أنه كيف يحسن وصف الجمادات بأنها(3/361)
" صفحة رقم 362 "
عباد ؟ وأجيب بعد تسليم اختصاص العباد بالعقلاء بأن ذلك ورد على معتقدهم أنها عقلاء .
وفيه أيضاً نوع من الستهزاء أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم فلم قبلتموها آلهة لكم وأرباباً ؟ .
ثم بين عدم التفاضل بقوله ) فادعوهم فليستجيبوا لكم غن كنتم صادقين ( في أنها آلهة ولام الأمر للتعجيز فإنه إذا ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنها لا تصلح للعبودية وأنها والعباد سواء بل هم أخس وأدون بدليل قوله ) ألهم أرجل يمشون بها ( الآية .
وذلك أن كل ما هو من شأنه أن يكون له هذه الأعضاء والآلات فإذا كان فيها قوي محركة ومدركة كان هو أفضل ممن خلت أعضاؤه عن هذه القوى فكيف يليق بالأفضل الأكرم الأشرف خدمة المفضول الخسيس الدنيء ؟ وإنما قلنا كل ما من شأنه أن يكون له هذه الأعضاء لأن من جل عن ثبوت هذه الأعضاء والجوارح له فعدم هذه الأشياء بالنسبة إليه فضيلة وكمال ، فإن القدر القاهر من غير افتقار إلى آلة وعدّة كان أشرف ممن يفتقر في أفعاله إلى الآلات فضلاً عمن لا فعل لآلته ، فلا يرد اعتراض بعض أغمار المشبهة أن الله تعالى لو لم تكن له هذه الأعضاء لكان عدمها دليلاً علىعدم إلهيته .
ثم إنهم كانوا يخوّفون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بآلهتهم كما قال قوم هود ) أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ) [ هود : 54 ] فقال عز من قائل لنبيه ) قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون ( أمر من الكيد المكر ) فلا تنظرون ( نهي عن الإنظار والإمهال والخطاب لهم ولشركائهم جميعاً .
وهذا قول واثق بعصمة الله أن لا يبالي بغي الله كائناً من كان .
ثم لما أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بالتبري حثه على التولي فقال ) إن وليي ( أي ناصري عليكم ) الله ( الآية .
وفيه أن الواجب على كل عامل عبادة الذي يتولى تحصيل منافع الدارين .
أما الدينية الأخروية فسبب إنزال الكتاب المشتمل على العوم الجمة ، وأما الدنيوية فهو المراد بقوله ) وهو يتولى الصالحين ( أي من عباده أن ينصرهم فلا يضرهم عداوة من عاداهم في ذلك يأس المشركين أن يضره كيدهم .
يحكى أن عمر بن عبد العزيز كان لا يدخر لأولاده شيئاً فقيل له في ذلك فقال : إما أن يكون ولدي من الصالحين فوليه الله ولا حاجة له إلى مالي ، وإما أن يكون من المجرمين وقد قال تعالى ) فلن أكون ظهيراً للمجرمين ( ومن رده الله لم أشتغل باصلاح مهماته .
أقول : وفي التقريب الآية الثانية نظر لأنها حكاية كلام موسى اللهم إلا أن يقال التقريب في التقرير .
ثمأعاد وصف الأصنام بمثل الصفات المذكورة فقال ) والذني تدعون من دونه ( الآية .
قال الواحدي : إنما أعيد هذا المعنى لأن الأول مذكور على جهة التقريع وهذا مذكور على جهة الفرق بين من يجوز له العبادة وبين من لا(3/362)
" صفحة رقم 363 "
يجوز كأنه قيل : الإله المعبود يجب أن يكون بحيث يتولى الصالحين وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكون صالحة للإلهية ) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا ( لا سماع سمع ولا سماع إجابة ) وتراهم ( تحسبهم ) ينظرون إليك ( يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوّروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليك ) وهم لا يبصرون ( لا يدركون المرئي .
وقيل : الضمير في قوله ) وإن تدعوهم ( إلى آخر الآية يعود إلى المشركين المار ذكرهم في قوله ) قل ادعوا ( والمراد أنهم بلغوا في الجهل والحماقة إلى أنك لو دعوتهم وأظهرت أنواع الحجة والبرهان لم يسمعوا بقعولهم ألبتة ) وتراهم ( إلى الناس وإليك ينظرون ولكنهم لشدّة إعراضهم عن قبول الحق لم ينتفعوا بذلك النظر فكأنهم عمي يصدقه قوله في موضع آخر ) فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) [ الحج : 46 ] .
التأويل : ( أول ينظروا في ملكوت السموات والأرض ( لأرباب العقول النظر والاستدلال لتحصيل الإيمان ، ولأرباب القلوب الولوج والكشف لحصول الإيقاف العيان ) وما خلق الله من شيء ( يعني عالم الملك المخلوق من مادة بخلاف عالم الملكوت الذي أبدع من غير شيء ) وإن عشى أن يكون قد اقترب أجلهم ( يعني أجل فنائهم عما سوى الحق ، فإن لم يؤمنوا بطريق النظر استدلالاً ) فبأي حديث بعده ( أي بعد النظر ) يؤمنون ( ، ) يسألونك عن الساعة ( يريد التي يظهر الله تعالى فيها آثار صفة القهارية لإفناء عالم الصورة فلا يبقى منه داع ولا مجيب فيجيب هو بنفسه لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) لاستكثرت من الخير ( من الحياة الأبدية ورفع الحاجات البشرية .
) خلقكم من نفس واحدة ( هي الروح ) وخلق منها زوجها ( وهي القلب ) يسكن إليها ( لأن القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن فكان الروح يشم من القلب نسائم نفحات ألطاف الحق ) حملت حملاً خفيفاً ( في البداية بظهر أدنى أثر من آثار الصفات البشرية في القلب الروحاني ) فلما أثقلت ( كثرت آثار الصفات خاف الروح والقلب على أنفسهما عن تبدل الصفات الروحانية الأخروية النورانية بالصفات النفسانية الدنيوية الظلمانية ) فدعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً ( قابلاً للعبودية ) لنكونن من من الشاكرين فلما آتاهما صالحاً جعلا ( أي الروح والقلب ) له شركاء ( أي جعلا وجه النفس إلى الدنيا ونعيمها فصارت عبد البطن وعبد الخميصة وعبد الدرهم والدينار .
) ولا يستطيعون لهم نصراً ( أي لا تستطيع الدنيا ومن فيها للروح والقلب والنفس تقوية وتربية إلا بالله ) ولا أنفسهم ينصرون ( للبقاء والدوام .(3/363)
" صفحة رقم 364 "
( الأعراف : ( 199 - 206 ) خذ العفو وأمر . . . .
" خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون "
( القراآت )
طيف ( بسكون الياء : ابن كثير أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي .
الباقون : ( طائف ( على وزن ( فاعل ) ) يمدونهم ( من الإمداد : أبو جعفر ونافع .
الآخرون : بفتح الياء وضم الميم من المد ) العفو وأمر ( مدغماً : أبو عمرو .
وقرىء بغير همز حيث كان : يزيد والشموني وحمزة في الوقف .
الوقوف : ( الجاهلين ( ه ) بالله ( ط ) عليم ( ه ) مبصرون ( ه ج لأن قوله ) وإخوانهم ( مبتدأ إلا أن المعنى يقتضي الوصل لبيان اختلاف حالي الفريقين ) لا يقصرون ( ه ) اجتبيتها ( ط ) من ربي ( ج لاختلاف الملتين بلا عطف مع اتحاد المقول ) يؤمنون ( ه ) ترحمون ( من الغافلين ( ه ) يسجدون ( ه .
التفسير : لما ذكر فساد طريقة عبدة الأصنام وبين النهج القويم والصراط المستقيم أرشد إلى مكارن الأخلاق والعفو الفضل وكل ما أتى من غير كلفة .
واعلم أن الحقوق التي تستوفى من الناس إما أن يجوز إدخال المساهلة فيها وهو المراد بقوله ) خذ العفو ( ويدخل في التخلق مع الناس بالخلق الحسن وترك الغلظة والفظاظة ، ومن هذا الباب أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بالرفق واللطف كما قال في حق نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) فبما رحمة من الله لنت لهم ) [ آل عمران : 159 ] وإما أن لا يجوز دخول المسامحة فيها وذلك قوله ) وأمر بالعرف ( وهو والمعروف .
والعارفة كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به ويكون وجوده خيراً من عدمه ، فلو اقتصرل في هذا القسم على الأخذ بالعفو ولم يبذل في ذلك وسعه كان راضياً بتغيير الدين وإبطال الحق .
ثم أمر بالمعروف ورغب فيه ونهى عن المنكر ونفر عنه فربما أقدم بعض الجاهلين على السفاهة والإيذاء فلهذا قال ) وأعرض عن الجاهلين ( قال عكرمة : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا جبرائيل ما هذا ؟ فقال : لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال : يا محمد إن ربك أمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو(3/364)
" صفحة رقم 365 "
عمن ظلمك ) .
قال أهل العلم : تفسير جبرائيل مطابق للفظ الآية فإنك إذا وصلت من قطعك فقد عفوت عنه ، وإذا أعطيت من حرمك فقد أمرت بالمعروف ، وإذا عفوت عمن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهل .
يروى عن جعفر الصادق رضي الله عنه : ليس في القرآن العزيز آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية ولبعض المفسرين في تفسير الآية طريق آخر قالوا ) خذ العفو ( أي ما أتوك به عفواً فخذه ولا تسأل ما وراء ذلك فنسخت بآية الزكاة ) وأمر بالعرف ( أي بإظهار الدين الحق وهذا غير منسوخ ) وأعرض عن الجاهلين ( أي المشركين وهذا منسوخة بآية القتال .
والحق أن تخصيص أخذ العفو بالمال تقييماً للمطلق من غير دليل ، ولو سلم فإيجاب الزكاة بالمقادير المخصوصة لا ينافي ذلك لأن آخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم أموال الناس وأن لا يشدد الآمر على المزكي .
وأيضاً لا يمتنع أن يؤمر النبي بأن لا يقابل سفاهة المشركين بمثلها ولكن يقاتلهم ، وإذا كان الجمع بين الأمرين ممكناً فلا حاجة إلى التزام النسخ .
قال أبو زيد : لما نزل قوله ) وأعرض عن الجاهلين ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : كيف يا رب والغضب ؟ فنزل ) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ( أي غرز ونخس جعل النزغ نازغاً كما قيل : جدّ جدّه .
عن أبي زيد : نزغت ما بين القوم أي أفسدت ما بينهم وأصله الإزعاج بالحركة إلى الشر ، وأكثر ما يكون ذلك عند الغضب .
ونزغ الشيطان وسوسته في القلب بما يسوّل للإنسان من المعاصي وعلاجه ودفعه إنما يكون بالاستعاذة وهي الاستخلاص عن حول الإنسان وقوته إلى حول الرحمن وقوته والإعراض عن مقتضى الطبع والإقبال على أوامر الشرع عن معاذ بن جبل قال : استبَّ رجلان عند النبي حتى عرف الغضب في وجه أحدهما فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب غضبه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) .
قاب لعض الطاعنين في عصمة الأنبياء : لو لم يجز على النبي الإقبال على وسوسة الشيطان لم يأمر بالستعاذة .
والجواب أن كلمة ( إن ) لا تفيد وقوع الشرط ، ولو سلم فمن أين علم أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قبل تلك الوسوة منه ؟ ولو سلم فمحمول على ترك الأولى .
ثم ختم الآية بقوله ) إنه سميع عليم ( ليعرف أن القول اللساني بدون المعارف الحقيقية عديم الفائدة وكأنه تعالى قال : اذكر لفظالاستعاذة بلسانك فإني سميع .
وأحضر معنى الاستعاذة في ضميرك فإني عليم .
ثم بين أن حال المتقين قد تزيد على حال النبي في باب وسوسة إبليس فإن النبي لا يكون له إلا النزع الذي هو كابتداء الوسوسة ، وأما المتقون فقد يمسهم الشيطان وذلك قوله ) إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف ( قال الفراء : الطائف كالخاطر وجوز بعضهم أن يكون مصدراً كالعاقبة ولكنه بلا تاء .
والأصح أنه اسم فاعل من طاف يطوف أو من طاف به الخيال يطيف طيفاً .
ومن قرأ طيف فهو إما(3/365)
" صفحة رقم 366 "
مصدر أي لمسة من الشيطان ، وإما مخفف طيف ( فعيل ) من طاف يطيف كلين ، أو من طاف يطوف كهين .
قال في الكشاف : وهذا تأكيد وتقرير لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان وأن المتقين هذه عادتهم إذا أصابهم نزغ من الشيطان وإلمام بوسوته .
ومفعول ) تذكروا ( محذوف أي تذكروا ما أمر الله به ونهى عنه فأبصروا السداد .
واعلم أن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا استقبح من المغضوب عليه عملاً من الأعمال ثم اعتقد في نفسه كونه قادراً وفي المغضوب عليه كونه عاجزاً هذا إذا كان واقفاً على ظلمات عالم الأجسام فيغتر بظواهر الأمور ، أما إذا انكشف له نور من عالم العقل عرف أن المغضوب عليه إنما أقدم على ذلك العمل لأن الله تعالى خلق فيه داعية جازمة وقد علم منه تلك الحالة في الأزل ، ومتى كان كذلك فلا سبيل إلى تركها فحينئذ يفتر غضبه كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ) وأيضاً إنه كم أساء في العمل وقد تجاوز عنه وإن الله أقدر عليه وإنه إذا أمضى الغضب كان شريكاً للسباع ربما انقلب الضعيف قوياً .
مضاهياً للأنبياء والأولياء متسأهلاً للثواب الجزيل ، وإنه المؤذية ، وإذا اختار العفو كان مضاهياً للأنبياء والأولياء مستأهلاً للثواب الجزيل ، وإنه ربما انقلب الضعيف قوياً .
وبالجملة فالمراد من قوله تعالى ) إذا مسهم طائف من الشيطان ( ما ذكرنا من الاعقتادات ، والمراد من قوله ) تذكروا ( الأمرو تفيد ضعف تلك الاعتقادات ، أما قوله ) وإخوانهم ( فالضمير فيه يرجع إلى الشيطان ، وجمع لأن المراد به الجنس كقوله ) أولياؤهم الطاغوت ) [ البقرة : 257 ] والضمير المرفوع في ) يمدون ( يرجع إلى الأخوان لأن شيطاطين الإنس يعضدون شياطين الجن على الإغواء والإضلال ، أو إلى الشياطين فيكون الخبر جارياً على غير من هو له .
والمعنى وإخوان الشياطين ليسوا بمتقين فإن الشياطين يمدونهم أي كونون مدداً لهم في الغي .
وجوذز أن يراد بالإخوان الشياطين والضمير المجرور يعود إلى الجاهلين فيكون الخبر جارياً على ما هو له .
قال في الكشاف : والأوّل أوجه لأن ) إخوانهم ( في مقابلة ) الذين اتقوا ( قال الواحدي : عامة ما جاء في التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على ( أفعلت ) كقوله ) إنما نمدهم به من مال ) [ المؤمنون : 55 ] ( وأمددناهم بفاكهة ) [ الطور : 22 ] ( أتمدونن بمال ) [ النمل : 36 ] وما كان بخلافه فإنه يجيء على مددت قال ) ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) [ البقرة : 15 ] فالوجه ههنا قراءة العامة ووجه الضم الاستهزاء والتهكم نحو ) فبشرهم بعذاب أليم ) [ آل عمران : 21 ] أما قوله ) ثم لا يقصرون ( فالإقصار الكف عن الشيء .
قال ابن عباس : أي لا يمسك الغاوي عن الضلال والمغوي عن الإضلال ، ومعنى ( ثم ) تبعيد عدم الإقصار عن المدد فإنه يجب على العاقل إذا أقبل علي غي أن يمسك عنه سريعاً أن يتمادى فيه وينهمك ولهذا قيل :(3/366)
" صفحة رقم 367 "
الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل .
ثم ذكر نوعاً واحداً من إغوائهم فقال ) وإذا لم تأتهم ( بآية وذلك أنهم كانوا يطلبون آيات معينة ومعجزات مخصوصة على سبيل التعنت كقولهم ) لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ) [ الإسراء : 90 ] ثم إنه صلى ما كان يأتيهم بها فعند ذلك ) قالوا لولا اجتبيتها ( ياقل اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه أي جمعه ، وجبى إليه فاجتباه أي أخذه ، والمعنى هلا افتعلتها وجئت بها من عند أخذتها واقترحتها على إلهك ومعبودك إن كنت صادقاً في أن الله يجيب دعاءك ويسعف باقتراحك ؟ وعند هذا أمر رسوله أن يذكر في الجواب ) إنما أتبع ما يوحى إليَّ من ربي ( ولست بمفتعل للآيات أو لست بمقترح لها .
ثم بين أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها ألا يقدح في الغرض لأن ظهرو القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة قاهرة كافية في تصحيح النبوة فكان طلب الزيادة من التعنت فقال ) هذا ( يعني القرآن ) بصائر ( إطلاق لاسم المسبب على السبب ، وذلك أن فيه حججاً بينة تفيد القلوب بصيرة وكشفاً ) هدى ( للمستدلين الواصلين بالنظر والاستدلال إلى درجة العرفان .
فالبصائر لأصحاب عين اليقين ، والهدى لأرباب علم اليقين ، والرحمة لغيرهم من الصالحين المقلدين ، والجميع ) لقوم يؤمنون ( ولما عظم شأن القرآن بتلك الأوصاف علم المكلفين أدباً حسناً في بابه فقال ) وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ( والإنصات السكوت للاستماع .
قال العلماء : ظاهر الأمر للوجوب فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجباً وقت قراءة القرآن في صلاة وغير صلاة وهو قول الحسن وأهل الظاهر .
وعن أبي هريرة كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت .
وقال قتادة .
كان الرجل يأتي وهم في الصالة فيسألهم كم صليتم وكم بقي وكانوا يتكلمون في الصلاة لحوائجهم فنزلت .
ثم صار سنة في غير الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرأ فيه القرآن .
وقيل : نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام لما روي عن ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ في الصلاة المكتوبة وقرأ أصحابه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت .
وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وجماعة : نزلت ففي الإنصات عند الخطبة يوم الجمعة ، وزيف بأن اللفظ عام فكيف يجوز قصره على قراء ة القرآن في الخطبة أو على الخطبة نفسها بناء على أنها قد تسمى قرآناً لاشتمالها عليه .
وأجيب بأن كلمة ( إذا ) لا تفيد العموم بدليل أنه إذا قال لزوجته إذا دخلت الدار فأنت طالق فإنها لا تطلق مرة ثانية بدخول الدار مرة أخرى ، وبدليل أن الشافعي أوجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة ، ورد بأن المأموم إنما يقرأ الفاتحة في حال سكتة(3/367)
" صفحة رقم 368 "
الإمام كما قال أبو سلمة : للإمام سكتتان فاغتنم القراءة في أيهما شئت يعني سكتة بين التكبير إلى أن يقرأ ، وأخرى بين القراءة إلى أن يركع .
واعترض بأن سكوت الإمام واجب أم لا .
والأول باطل بالإجماع ، وعلى الثاني يجوز أن لا يسكت وحينئذ يلزم أن تحصل قراءة المأموم مع قراءة الإمام فيفضي إلى ترك الاستماع .
وأيضاً لهذا السكوت ليس له حد مجدود والمئمومون مختلفون ببطء القراءة وسرعتها ، فربما لا يتمكن المأموم من إتمام قراءة الفاتحة في مقدار سكوت الإمام فيلزم المحذور المذكور .
وأيضاً الإمام في هذا السكوت يصير كالتابع للمأموم وذلك غير جائز .
قال الواحدي : الإنصات هو ترك الجهر عند العرب وإن كان يقرأ في نفسه إذ لم يسمع أحداً .
وأورد عليه أن غاية توجيهه هو أن الإنصات مع قراءة الإمام ممكن لكن إمكان حصول الاستماع مع قراءته ممنوع ، فإن الاستماع عبارة عن كونه بحيث يحيط بذلك الكلام المسموع على الوجه الكامل ، ولعل الإنصاف أن الاستماع على تقدير الإنصارت المفسر ممكن أي يحصل مع قراءة بخبر الواحد وقد سلم كثير من الفقهاء عموم اللفظ إلا أنهم جوّزا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وذلك ههنا قوله صلى الله عليه وآله : ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) وذهب الإمام مالك وهو القول القديم للشافعي : إنه لا يجوز للمأموم قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية عملاً بمقضتى هذا النص ويجب عليه القراءة في الصلاة السرية لأن الآية دلالة لها على هذه الحالة .
وفي الآية تفسير آخر وهو أن الخطاب في الآية مع الكفار وذلك أن كون القرآن بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله استمعوا لهوأنصتوا ليقفوا على مبانيه ومعانيه في فيعترفوا بإعجازه ويستغنوا بذلك على طلب سائر المعجزات ، ومما يؤكد هذا التفسر قوله في آخر الآية ) لعلكم ترحمون ( والترجي إنما يناسب حال الكفار لا حال المؤمنين الذين حصل لهم الرحمة جزماً في قوله ) ورحمة لقوم يؤمنون ( ويمكن أن يجاب بأن الأطماع من الكريم واجب فلم يبق إلا الفرق. وقيل : المراد باستماع القرآن العمل بما فيه .
ثم أمر نبيه وأمته تبعيته ( صلى الله عليه وسلم ) بالذكر العام - قرآناً كان أو غيره - على سبيل الدوام ، ولك أن استماع القرآن كان الذكر الخفي فقال ) واذكر ربك في نفسك ( وفي الآية قيود : الأوّل : تخصيصه اسم الرب دون الإله وغيره تنبيهاً على أن سبب الذكر هو التربية والإنعام وليدل على الطمع والرجاء .
والثاني : ذكر الرب في النفس ليكون أدخل في الإخلاص وأبعد عن الرياء .
قيل : ذكره في النفس هو أن يكون عارفاً بمعاني الأسماء التي ذكرها بلسانه .
قال بعض المتكلمين : الذكر النفساني هو الكلام النفسي الذي يثبته الأشاعرة .(3/368)
" صفحة رقم 369 "
الثالث والرابع : ( تضرعاُ وخيفة ( أي متضرعاً وخائفاً ، فالتضرع لإظهار ذلة العبودية .
والخوف إما خوف العقاب فهو مقام المذنبين ، وإما خوف الجلال وهو مقام العارفين فإذا كوشفوا بالجمال عاشوا وإذا كوشفوا بالجلال طاشوا ، وأما خوف الخاتمة بل خوف السابقة فإنها علة الخاتمة .
الخامس : قوله ) ودون الجهر من القول ( والمراد أن يقع ذلك الذكر متوسطاً بين الجهر والإخفاء ، قال ابن عباس : هو أن يذكر ربه على وجه يسمع نفسه وإنما أخر هذا عن الذكر القلبي لأن الخيال يتأثر من الذكر القلبي فيوجب قوة في النفس ولا يزال يتزايد في ذلك إلى أن يجري الذكر على لسانه بل يسري في جميع أعضائه وجوارحه وأركانه سرياناً معتدلاً خالياً عن التكلف بريئاً من التعسف .
السادس : قوله ) بالغدو والآصال ( والغدّ مصدر غدا يغدو والمراد وقت الغدو كما يقال دنا الصباح أي وقته .
وقيل : إنه يقال : اشتقاقه من الأصل واليوم بليلته .
إنما يبتديء في الشرع من أول الليل فسمي آخر النهار أصيلاً لكونه ملاصقاً لما هو الأصل لليوم الثاني .
وخص هذان الوقتان بالذكر لأن الغدو عندما ينقلب الحيوان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة ، والعالم يتحول من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الي هو طبيعة وجودية ، وفي الآصال الأمر بالضد وهدان النوعان من التغير العجيب دليلان قاهران باهران على وجود صانع قدير وحكيم خبير فوجب أن يكون المكلف فيهما مشتغلاً بالذكر والحضور ، ويمكن أن يكون المراد مداومة الذكر والمواظبة عليه بقدر الإمكان .
السابع : قوله ) ولا تكن منالغافلين ( وفيه غشارة إلى أن الذكر القلبي يجب أن يداوم عليه ولا يزال الإنسان يستحضر جلال الله وكبرياءه بحسب الطاقة البشرية ليتنور جوهر النفس ويستعد لقبول الإشراقات القدسية فيضاهي سكان حظائر الجبروت مدحهم الله بقوله ) إن الذين عند ربك ( ومعنى عند دنو الشرف والقرب من عنايته وألطافه ) لا يستكبرون عن عبادته ( فيداومون على ذلك ) ويسبحونه ( يبرئونه وينزهونه عن كل سوء وهذا يرجع إلى المعارف والعلوم ) وله يسجدون ( بحضرته بغاية الخضوع والاستكانة ، وهذا يعود إلى أعمال الجوارح .
وفي هذا الترتيب دليل على أن الأصل في الطاعة والعبودية أعمال القلوب ويتفرع عليه أعمال الجوارح .
والمقصود من الآية أن الملائكة مع غاية طهارتهم ونهاية عصمتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والحسد والغضب ودواعي الحقد والحسد يواظبون على العبودية والطاعة ، فالإنسان مع كونه مبتلى بظلمات عالم الطبيعة وكدورات الزلات البشرية أولى بأن يداوم على ذكر معبوده ، وينجذب ما أمكن إلىالعالم العقلي ومقره الأصلي ويصفي مرآة قلبه عن أصداء الهواجس وينتقش بالجلايا القدسية والمعارف الحقية(3/369)
" صفحة رقم 370 "
والله وليّ التوفيق .
التأويل : ( وأمر بالعرف ( وهو طلب الحق لأنه معروف العارفين ) وأعرض عن الجاهلين ( الذي يطلبون غير الله ) من الشيطان نزغ ( في طلب غير الله ) فاستعذ بالله ( من طلب غير الله ) إن الذين اتقوا ( هم أرباب القلوب لإن التقوى من شأن القلب كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( التقوى ههنا ) وأشار إلى صدره .
) طائف من الشيطان ( نزغ من العمل الشيطاني يراه القلب بنور التقوى ويعرفه فيذكره أنه يفسده ويكدر صفاءه فيجتنبه ) وإخوانهم ( يعني إخوان القلوب وهم النفوس الأمارة ) وإذا لم تأتهم ( أي لم تأت القلوب ) بآية ( من الله لتعجز النفوس عن تكذيبها ) قالوا ( أي النفوس للقلب لولا اختلقتها من خاصية قلبيتك لتزكية النفوس ) قل إنما أتبع ( إلهام فلا أقدر على تزكية النفوس إلا بقوة الإلهام الرباني .
) فاستمعوا ( بآذانكم الظاهرة ) وأنصتوا ( بألسنتكم الباطنة ) لعلكم ترحمون ( بالاستماع بالسمع الحقيقي وذلك قوله : ( كنت له سمعاً وبصراً فبي يسمع وبي يبصر ) فمن سمع القرآن من بارئه فقد سمع من قارئه وهذا سر الرحمن علم القرآن فهو المستعد لخطاب ) واذكر ربك في نفسك ( بأن تبدل أخلاقها الله ) تضرعاً ( في البداية وهو من باب التكلف ) وخيفة ( في الوسط ) ودون الجهر من القول ( في النهاية وهو مقام الفناء فإن إفشاء سر الربوبية كفر في غدوّ الأزل وآصال الأبد ، فإن الذاكر والذكر والمذكور هو الله ولهذا قال في الأزل ) فاذكروني أذكركم ) [ البقرة : 152 ] ومن هنا قال يوسف بن الحسين الرازي : ما قال أحد الله إلا الهل ) ولا تكوننَّ من الغافلين ( والذين لا يعلمون أن الذاكر والذكر والمذكور هو الله ) إن الذين عند ربك ( وهم الذين بقوا ببقاء الله ) يستكبرون ( عن عبادته ( لأنهم أفنوا أخلاقهم في أخلاقه ) يسبحونه ( ينزهونه عن الحلول والاتصال والاتحاد ) وله يسجدون ( في الوجود والعدم من الأزل إلى الأبد منه المبدأ وإليه المنتهى .(3/370)
" صفحة رقم 371 "
سورة الأنفال
سورة الأنفال مدنية إلا سبع آيات من قوله ) وإذ يمكر بك ( إلى قوله ) يحشرون (
حروفها 5294 كملها 1231 آياتها خمس وسبعون. ( الأنفال : ( 1 - 10 ) يسألونك عن الأنفال . . . .
" يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم "
( القراآت )
مردفين ( فتح الدال : أب وجعفر ونافع وسهل ويعقوب وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل .
الباقون : بالكسر .
الوقوف : ( عن الأنفال ( ط ) والرسول ( ج لعطف المختلفين مع الفاء ) ذات بينكم ( ص ) مؤمنين ( ه ) يتوكلون ( ه ج لاحتمال جعل ) الذين مبتدأ والوصل أولى فيكون الوقف على ) ينفقون ( ويكون الثناء بحقيقة الإيمان منصرفاً إلى قوله ) هم المؤمنون ( ) حقاً ( ط ) كريم ( ه ج لما يجيء في التفسير ) بالحق ( ص لطول الكلام ) لكارهون ( ه ) لا ينظرون ( ه ) الكافرين ( ه ) المجرمون ( ه ج لاحتمال كون ( إذ ) متعلقاً بمحذوف وهو ( اذكر ) أو بقوله ) يوحق ( مدرفين ( ه ) قلوبكم ( ج لابتداء النفي مع احتمال الحال ) عند الله ( ط ) حكيم ( ه .(3/371)
" صفحة رقم 372 "
التفسير : روى عكرمة عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : من فعل كذا فله كذا ، فذهب شبان الرجال وجلس الشيوخ تحت الرايات فلما كانت القسمة جاء الشبان يطلبون نفلهم وقالت الشيوخ : لا تستأثروا علينا فإنا كنا تحت الرايات ولو انهزمتهم كنا ردأ لكم فأنزل الله تعالى ) يسألونك عن الأنفال ( فقسمها بينهم بالسواء .
وعن عبادة بن الصامت قال : لم هزم العدوّ يوم بدر واتبعتهم طائفة يقتلونهم ، أحدقت طائفة برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واستولت طائفة بالعكسر والنهب ، فلما نفى الله العدوّ رجع الذي طلبوهم وقالوا : لنا النفل نحن طلبنا العدوّ وبنا قفاهم الله وهزمهم .
وقال الذين أحدقوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ما أنتم بأحق به منا نحن أحدقنا برسول الله لا ينال العدوّ منه ( صلى الله عليه وسلم ) غرة .
وقال الذين استولوا على العسكر والنهب : نحن أخذناه واستولينا عليه فهو لنا فنزلت الآية ، فقسمها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بينهم بالسواء .
وعن سعد بن أبي وقاص لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاس فأخذت سيفه فأعجبني فجئت به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف .
فقال : ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض أي في المقبوض من الغنائم ، فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي ، فما جاوزت إلا قليلاً حتى جاءني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد أنزلت سورة الأنفال عليه فقال : ( يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وإنه الآن قد صار لي فاذهب فخذه ) والنفل بالتحريك الغنيمة وجمعه الأنفال وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهراً .
قال الأزهري : هو ما كان زيادة علىالأصل فسميت الغنائم بذلك لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل الغنائم لهم .
وصلاة التطوّع نافلة لأنها زائدة على الفرض وقال تعالى ) ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة ) [ الأنبياء : 72 ] أي زيادة على ما سأل .
والضمير في ) يسألونك ( عائد إلى جامع معينين منالصحابة لهم تعلق بالغنائم كما قررنا .
وحسن العود وإن لم يجر لهم ذكر في اللفظ لدلالة الحال عليهم ، ولفظ السؤال وإن كان مبهماً إلا أن تعيين الجواب يدل على أن المراد أنهم سألوا عن الأنفال كيف مصرفها ومن المستحق لها .
قال الزجاج : إنما سألوا عنها لأنها كانت حراماً على من كان قبلهم .
وضعف بأن الآية دلت على أنها مسبوقة بالتنازع والتنافس فسألوا عن كيفية قسمتها لا عن حلها وحرمتها .
وعن عكرمة أن المراد من هذا السؤال الاستعطاء أي يلطبون منك الغنائم وقال في الكشاف : النفل ما ينفله الغازي أي يعطاه زائداً على سهمه من المغنم وهو أن يقول الإمام تحريضاً على البلاء في الحرب .
منقتل قتيلاً فله سلبه .
أو قال السرية ما أصبتم فهو لكم أو فلكم نصفه أو ربعه .
ولا يخمس النفل ويلزم الإمام(3/372)
" صفحة رقم 373 "
الوفاء بما وعد به .
وهذا التفسير يناسب خبر سعد بن أبي وقاص في إعطاء السيف إياه .
وعن ابن عباس في بعض الروايات أن المراد بالأنفال ما شذ عن المشركين إلى المسلمين من غير قتال من دابة أو عبد أو متاع فهو إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يضعه حيث يشاء .
وعن مجاهد : إن الأنفال الخمس الذي جلعه الله لأهل الخمس .
وعلى هذا فالقوم إنما سألوا عن الخمس فنزلت الآية .
ثم أمر بالشروع في الجواب فقال ) قل الأنفال لله والرسول ( أي حكمها مختص بالله ورسوله يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ويمتثل الرسول أمر الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها مفوّضاً إلى رأيى أحد .
قال مجاهد وعكرمة والسدي : إنها منسوخه بقوله ) واعلموا أن ما غنمتم ) [ الأنفال : 41 ] الآية .
وضعف بأن جعل أربعة أخماسها ملكاً للغانمين لا ينافي كون الحكم فيها لله والرسول ، ولو فسر الأنفال بالخمس أو بالسلب فلا إشكال .
ثم حثهم على ترك المنازعة وعلى المؤاخاة والمصافاة فقال ) فاتقوا الله ( أي عقابه ولا تقدموا على معصيته واتركوا المنازعة والمخاصمة بسبب هذه الأموال ) وأصلحوا ذات بينكم ( أي التي هي بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفه ومودة وموافقة .
ولما كانت الأحوال واقعة في البين قيل لها ذات البين كما أن الأسرار لما كانت مضمرة في الصدور قيل لها ذات الصدور .
ثم ختم الآية بقوله ) إن كنتم مؤمنين ( أي كاملي الإيمان تنبيهاً عل أن كمال الإيمان موقوف وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله .
ثم وصف المؤمنين الكاملين فقال ) إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ( أي فزعت لذكره استعظاماً لجلاله وحذراً من أليم عقابه .
وقد يطمئن القلب بعد ذلك إذا تذكر كمال رأفته وجزيل ثوابه كقوله ) ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ) [ الزمر : 23 ] وقيلك هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم لمعصية فيقال له اتق الله فينزع ) وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ( قالت العلماء : زيادة الإيمان تكون على ثلاثة أنحاء الأوّل : بقوّة الدليل وبكثرته ، فإن كل دليل مركب لا محالة من مقدمات .
ولا شك في أن النفوس مختلفة في الأشراق والإنارة ، والأذهان متفاوته بالذكاء والغباوة ، فكل من كان جزمه بالمقدمات أكثر وأدوم كان علمه بالنتيجة أكمل وأتم ، وكذا من سنح له على المطلوب دليلان كان علمه أتم ممن لا يجد على المطلوب دليل واحد ولذا يورد العلماء دلائل متعددة على مدلول واحد ولله در القائل : وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد .
الثاني : بتعدد التصديق وتجدده ؛ فمن المعلوم أن من صدق إنساناً في شيئين كان تصديقه أزيد من تصديق من صدقه في شيء واحد ، فمعنى الآية أنهم كلما سمعوا آية متجددة أتوا بإقرار جديد .
الثالث : أن يقال : الإيمان عبارة عن مجموع الإعتقاد والإقرار والعمل كما ينبىء عنه ظاهر الآية لأنه لما ذكر(3/373)
" صفحة رقم 374 "
الأمور الخمسة قال ) أولئك هم المؤمنون ( فدل ذلك على أن كل تلك الخصال داخلة في مسمى الإيمان ويؤيده ما رواه أبو هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ) وإذا كان الإيمان عبارة عن مجموع الأركان الثلاثة فبسبب التفاوت في العمل يظهر التفاوت في الإيمان ، وإن لم يكن التفاوت في الإقرار والاعتقاد متصوراً .
أما قوله ) وعلى ربهم يتوكلون ( فيفيد الحصر أي لا يتوكلون إلا على ربهم وهذه الصفات مرتبة على أحسن جهات الترتيب ؛ فأولى الفزع من عقاب الله ، والثانية الانقياد لتكاليفه ، والثالثة الانقطاع بالكلية عما سواه .
ثم لما فرغ من أعمال القلوب وهي الخشية والتسليم والتوكل شرع في وصفهم بأعمال الجوارح وذكر منها رأسها وسنامها وهما الصلاة والصدقة ، ثم عظمهم بقوله ) أولئك هم المؤمنون حقاً ( وفي ) أولئك ( وفي توسيط الفصل وتعريف الخبر وإيراد ) حقاً ( من المبالغات ما لا يخفى و ) حقاً ( صفة مصدر محذوف أي إيماناً إنه منوط بما بعده أي حقاً لهم درجات .
واعلم أن الأئمة اتفقوا على أن الرجل المؤمن يجوز له أن يقول أنا مؤمن ، ثم اختلفوا في أنه هل يجوز له أن يضيف إليه حقاً أو لا بل يستثني فيقول إن شاء الله .
والأوّل مذهب أصحاب أبي حنيفة لما ورد في الآية ، ولأن الشك في الإيمان لا يجوز لأن التصديق والإقرار كلاهما محقق .
والثاني مذهب أصحاب الشافعي ، وأجابوا عن الآية بأنه لا نزاع في أن الموصوف بالصفات المذكورة مؤمن حقاً إنما النواع من أن لاقئل أنا مؤمن هل موصوف بتلك الصفات جزماً أم لا .
وأما حديث الشك فمبني على أن الإيمان عبارة عن الأركان الثلاثة ، ولا ريب أن كون الإنسان آتياً بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه ، والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية ، فإن النزاع لفظي على أنا نسلم أن الاستثناء لأجل الشك وإنما هو لزوال العجب أو لعدم القطع بحسن الخاتمة ، أو لنوع من الأدب ففيه تفويض بالأمر إلى علم الله وحكمه كقوله ) لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) [ الفتح : 27 ] وإنه تعالى منزهعن الشك والريب .
عن الحسن أن رجلاً سأله أمؤمن أنت ؟ قال : الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله ) إنما المؤمنون ( فوالله لا أدري(3/374)
" صفحة رقم 375 "
أمنهم أنا أم لا .
وعن الثوري : من زعم أنه مؤمن بالله حقاً ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية .
وهذا إلزام منه يعني كما لا يقع بأنه من أهل الجنة حقاً فلا يقطع بأنه مؤمن حقاً .
ويحكى عن أبي حنيفة أنه قال لقتادة : لم تستثني في إيمانك ؟ فقال : اتباعاً لإبراهيم في قوله ) والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي ) [ الشعراء : 82 ] فقال له : هلا اقتديت به في قوله ) أو لم نؤمن قال بلى ) [ البقرة : 260 ] قيل : وكان لقتادة أن يقول ) ولكن ليطمئن قلبي ) [ البقرة : 260 ] وفيه ما فيه .
ثم أخبر عن مآل حالهم فقال ) هم درجات عند ربهم ( أي سعادات روحانية متفاوتة في الصعود والارتفاع ، ولكن استغراق كل واحد في سعادته الخاصة به يمنعه عن التألم من حال من فوقه كما قال سبحانه ) ونزعنا ما في صدورهم من غل ( ، ) ومغفرة ) [ الحجر : 47 ] وتجاوز عن سيئاتهم ) ورزق كريم ( هو نعيم الجنة المقرون بالدوام والتعظيم .
والكرم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن في بابه نقله الواحدي عن أهل اللغة .
فالله سبحانه موصوف بأنه كريم لأنه محمود في كل ما يحتاج إليه ، والقرآن كريم لأنه يوجد فيه بيان كل شيء ) وقال إني ألقي إليّ كتاب كريم ) [ النمل : 29 ] وقال ) من كل زوج كريم ) [ لقمان : 10 ] وقال ) وقل لهما قولاً كريماً ) [ الإسراء : 23 ] قال بعض العارفين .
المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة من الاشتغال بغير الله .
والرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفته ومحبته .
قوله عز من قائل ) كما أخرجك ( يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج وذكروا فيه وجوهاً : الأوّل : أن المشبه محذوف تقديره هذا الحال كحال إخراجك .
والمعنى أن حالهم في كراهة ما صنعت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب ، وذلك أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما كثرة المشركين يوم بدرٍ وقلة المسلمين قال : ( من قتل قتيلاً فله كذا وكذا ) .
ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا .
ترغيباً لهم القتال ، فما انهزم المشركون قال سعد بن عبادة : يا رسول الله لو أعطيت هؤلاء ما سميته لهم بقي خلق كثير بغير شيء فنزلت ) قل الأنفال لله والرسول ( يصنع فيها ما يشاء فأمسك المسلمون عن الطلب وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهة .
والثاني : أن ينتصب الكاف على أنه صفة مصدر الفعل المقدّر في قوله ) قل الأنفال لله والرسول ( أي ثبت الحكم واستقر بأن الأنفال لله وإن كرهوا ثباتاً مثل إخراج ربك إياك إلى القتال وإن كرهوا ، ووجه تخصيص هذا المشبه به بالذكر من بين سائر أحكام الله أن القصة واحدة ووجه جعل الإخراج مشبهاً به كونه أقوى في وجه الشبه لأن مدار القصة عليه .
وقيل : التقدير هو أن الحكم بكونهم مؤمنين حق كما أن حكم الله بإخراجك من بيتك لأجل القتال حق .
الثالث : قال الكسائي : الكاف متعلق بما بعده وهو قوله(3/375)
" صفحة رقم 376 "
) يجادلونك ( والتقدير كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه .
والبيت بيته صلى الله عليه وآله بالمدينة أو المدينة نفسها لأنها مهاجره ومسكنه فلها به اختصاص كاختصاص البيت بساكنه ، ومعنى بالحق أي إخراجاً ملتبساً بالحكمة والصواب ) وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون ( في موضع الحال أي أخرجك في حال كرهة بعضهم .
ثم بين الكراهة بقوله ) يجادلونك ( ويجوز أن تكون الجملة بدلاً أو خبراً بعد خبر .
روي أن قريش أقبلت من الشأم فيها تجارة عظيمة ومعهم أربعون راكباً - منهم أبو سفيان وعمر بن العاص وعمرو بن هشام - فأخبر جبريل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم ، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول ، عيركم ، أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً .
وقد رأت أخت العباس ابن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها : إني رأيت عجباً رأيت كأن ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل فرمى بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة .
فحدث بها العباس فقال أبو جهل : ما يرضى رجالهم أن يتنبأوا حتى تتنبأ نساؤهم .
فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير على ما قيل السائر : ( لا في العير ولا في النفير ) فقيل له : إن العير ولا في النفير ( فقيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس إلى مكة فقال : لا والله لا يكون ذلك أبداً حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ونقيم القينات والمعازف ببدر فيتسامع جميع العرب بمخرجنا وأن محمداً لم يصب العير .
فمضى بهم إلى بدر ونزل جبرائيل فقال : يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا فاستشار النبي صلىالله عليه وسلم أصحابه وقال : ما تقولون إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحب إليكم أم النفير ؟ قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ .
فتغير وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم ردّ عليهم فقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدوّ .
فقام عند غضب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبو بكر وعمر فأحسنا أي الكلام ، ثم قام سعد بن عبادة فقال : انظر فامض فوالله لو سرت إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار .
ثم قال : المقداد بن عمرو : يا رسول الله امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ) اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ) [ المائدة : 24 ] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت عين تطرف .
فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال : ( أشيروا عليّ أيها الناس ) .
وهو يريد الأنصار(3/376)
" صفحة رقم 377 "
لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه ونساءنا فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتخوف أن يكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة .
فقال سعد بن معاذ فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل .
قال : قد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أدرت فوالذي بعثك بالحق نبيناً لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدوذنا ، إنا بالصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك بنا ما .
تقرُّ به عينك ، فسر بنا على بركة الله ، ففرح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ونشطه قول سعد ثم قال : ( سيروا على ربكة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ) .
ولنرجع إلى التفسير .
قوله ) في الحق ( أي في تلقي النفير بعد ما تبين أي بعد إعلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأنهم هم المنصورون وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير .
وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب وذلك لكراهتهم القتال ) كأنما يساقون إلى الموت ( المتقين لمشاهدة أسبابه من قلة العدد والعدد .
روي أنه ما كان منهم إلا فارسان .
وانتصب بإضمار ( اذكر ) .
قوله ) وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين ( وقوله ( أنها لكم ( بدل من ) إحدى الطائفتين ( وهما العير أ والنفير ) وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ( أي تتمنون أن يكون لكم العر لأنها الطائفة التي لا حدة لها ولا شدّة .
والشوكة الحدّة مستعار من واحدة الشوك ) ويريد الله أن يحق الحق ( يثبته ويعليه ) بكلماته ( بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة من إنزال الملائكة وأسر الكفرة وقتلهم وطرحهم في قليب بدر ) وبقطع دابر الكافرين ( أي يستأصلهم .
والدبر الآخر يعني أنكم تريدون العاجل وسفساف الأمور والله يريد معاليها وما يرجع إلى تقوية الدين وشتان ما بين المرادين .
قوله ) ليحق الحق ( متعلق بمحذوف أي لإظهار الإسلام وإبطال الكفر .
فعل ما فعل وإنما قدّر المحذوف متأخراً ليفيد معنى الاختصاص أي مافعل لك إلا لتحقيق الحق وإبطال الباطل وقيل : يتعلق ب ) يقطع ( فإن قيل : الحق حق لذاته والباطل باطل في ذاته وما ثبت للشيء لذاته فإنه يمتنع تحصيله بجعل جاعل .
قلنا : المراد إظهار كون الحق حقاً والباطل باطلاً وذلك يكون تارة بإظهار الدلائل والبيان ، وتارة بتقوية رؤساء الحق وقهر رؤساء الباطل .
فإن قيل : أليس في الكلام تكرار ؟ قلنا : لا إذ المراد بالأوّل تثبيت ما وعده في هذه الواقعة من الظفر بالأعداء ، والمراد الاثني إعلاء الإسلام ومحق الكفر .
والحاصل أن الأول جزئي أي(3/377)
" صفحة رقم 378 "
أنتم تريدون العير والله يريد غهلاك النفير ، الثاني كلي يشمل هذه القضية وغيرها من القضايا التي حصل في ضمنها إعلاء كلمة الله وقمع بكلمة الكفر .
احتجت الأشاعرة بقوله ) كما أخرجك ربك ( وقوله ( ليحق الحق ( على أن الأعمال والعقائد كلها بخلق الله وبتكوينه ولا يمكن أن يقال : المراد من إظهار الحق وضع الدلائل عليه لأن هذا المعنى حاصل بالنسبة إلى المسلم والكافر وقبل هذه الواقعة وبعدها فلا يبقى للتخصيص فائدة .
والمعتزلة تمسكوا بالآية على إبطال قول من يقول إنه لا باطل ولا كفر إلا والله مريد له ، لأن ذلك ينافي إرادة تحقيق الحق وإبطال الباطل .
واجيب بأن اللام في ) الحق ( ينصرف إلى المعهود الاسبق أي في هذه القضية فلم قلتم : إنه كذلك في جميع الصور ) ولو كره المجرمون ( أي الكافرون أو المشركون كقوله ) ويأبىالله إلا أن يُتم نوره ولو كره الكافرون ) [ التوبة : 32 ] وفي موضع آخر ) ولو كره المشركون ) [ الصف : 90 ] وقوله ( إذ تستغيثون ( بدل من قوله ) وإذا يعدكم ( وقيلك يتعلق بقوله ) ليحق الحق ( واستغاثتهم أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال طفقوا يدعون الله يقولون : يا غياث المستغيثين أغثنا .
وعن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه ثلثمائة ، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه ، فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه وقال : يا نبي الله كفاك منا شدّتك بالدعاء ربك فإنه سينجز لك ما وعدك .
ويروى أنه لما اصطف القوم قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره .
ورفع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يده بالدعاء المذكور .
ومعنى تسغيثون تطلبون الإغاثة ، يقول الواقع في بلية أغثني أي فرج عني ) فاستجاب لكم ( ، ) أني ( أي بأني ) ممدكم بألف من الملائكة مردفين ( بكسر الدال وفتحها من أردفته إياه إذا أتبعته متعدياً إلى مفعولين ، أو من ردفته إذا أتبعته أي جئت بعده متعدياً إلى مفعول واحد .
ومعنى الأوّل جاعلين بعضهم أو مجعولين بعضهم تابعاً لبعض أو أنفسهم تابعين للمؤمنين يحرسونهم أو لملائكة أخرى .
ومعنى الثاني تابعين بعضهم للبعض أو للمؤمنين يقدمونهم على ساقتهم يحفظونهم أو لغيرهم من الملائكة .
واختلف في قتال الملائكة يوم بدر فقيل : نزل جبرائيل في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر ، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي بن أبي طالب في صور الرجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم فقاتلت ، وقيل : قاتلت يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين .
وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود : من أين كان ذلك اصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصاً ؟ قال : من(3/378)
" صفحة رقم 379 "
الملائكة. فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم .
وروي أن رجلاً من المسلمين بينا هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه فنظر إلى المشرك قد خر مستلقياً وشق وجهه ، فحدث الأنصاري رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( صدقت ذاك من مدد السماء ) .
وعن أبي داود المازني قال : تبعت رجلاً من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي .
قيل : لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كافٍ في إهلاك أهل الدنيا ، وقد أجبنا عن هذه الشبهة في تفسير سورة آل عمران وكذا في تفسير قوله ) وما جعله الله ( الآية .
قود مر هنالك وقد بقي علينا بيان المتشابه فنقول : حذف ) لكم ( ههنا لأن المخاطبين معلومون في قوله ) فاستجاب لكم ( وقدم ) قلوبكم ( وأخر به في ( آل عمران ) ازدواجاً بين الخطابين وعكس ههنا ازدواجاً بين الغائبين .
ثم إن قصة بدر سابقة على قصة أحد فقيل في الأنفال ) إن الله عزيز حكيم ( ليستقر الخبر وجعله في آل عمران صفة لأن الخبر قد سبق والله أعلم .
التأويل : كثرة السؤال توجب الملال وإنما سألوا ليكون لهم الأنفال فأجيبوا على خلاف ما تمنوا .
وقيل : الأنفال لله والرسول قطعاً لطريق الاعتراض والسؤال .
وأصلحوا ما بينكم من الأخلاق الردية والهمم الدنية ) وأطيعوا الله ورسوله ( بالتسليم والائتمار ) زادتهم إيماناً ( بحسب تزايد الأنوار ) كما أخرجك ربك ( فيه أنه أخرج المؤمن الحفي عن أوصاف البشرية إلى مقام العبودية بجذبات العناية ) كما أخرجك ( من وطن وجودك بالحق وهو تجلي صفات الجمال والجلال ) وإن فريقاً ( هم القلب والروح ) لكارهون ( للفناء عند التجلي ، فإن البقاء محبوب عند كل ذي وجود ) يجادلونك ( أي الروح والقلب ) في ( مجيء ) الحق بعد ما تبين ( مجيئه كأنهم ينظرون إلى الفناء ولايرون البقاء بعد الفناء كمن يساق إلى الموت روإذ يعدكم الله ( أيها السائرون ) إحدى الطائفتين ( إما الظفر بالأعداء وهي النفوس وإما عير الواردات الروحانية وغنائم الاسرار الربانية .
) وتودون أن غير ذات الشوكة ( أي أردتم أن لا تجاهدوا عدوّ النفس ذات المكر والحية والهوى ، واستحليتم الواردات والشواهد الغيبية وذلك أن السير قسمان : سير السالكين على أقدام الطاعات وتبديل الصفات النفسانية إلى جنات الروحانية ، وسير المجذوبين على أجنحة عنقاء الجذبات إلى وراء قاف الأنانية ، فكان موسى من السالكين إلى ميقات ربه لم يجاوز طور النس فكان مقامه مع الله المكالمة ، وكان محمد من المجذوبين وكان سيره على جناح جبرائيل إلى سدرة المنتهى ومنها على رفرف الجذبة الإلهية إلى قاب قوسين أو أدنى ، فكان مكانه المشاهدة فمن العناية أن لا يكل الله السائر إلى ما يوافق طبعه وهواه(3/379)
" صفحة رقم 380 "
كما قال ) ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ( أي بجذباته ) ويقطع دابر الكافرين ( النفوس الأمارة بالسوء .
) إذ تستغيثون ربكم ( يعني استغاثة الروح والقل بمن النفس إلى الله عند استيلاء صفاتها ) بألف من الملائكة ( هم الصفات الملكية والروحانية ) إلا بشرى لكم ( بتبديل الأخلاق ) وما النصر ( بإهلاك النفس وصفاتها إلا بتجلي صفته القهارية ) إن الله عزيز ( لا يوصل إليه إلا بعد فناء الوجود ) حكيم ( في كل ما يفعل بمن يفعل والله أعلم .
( الأنفال : ( 11 - 19 ) إذ يغشيكم النعاس . . . .
" إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين "
( القراآت )
يغشاكم النعاس ( ابن كثير وأبو عمرو .
) يغشيكم النعاس ( من باب الأفعال : أبو جعفر ونافع .
الباقون ) يغشكيم النعاس ( من باب التفعيل .
ويقال من الإنزال : ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو عمر .
والآخرون : بالتشديد ) رمى ( بالإمالة : حمزة وعلي وخلف ويحيى .
) موهن ( من الأفعال ) كيد ( بالنصب : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وسهل ورويس ) موهن ( من الأفعال ) كيد ( بالجر للإضافة : حفص .
الباقون ) موهن ( بالتشديد ) كيد ( بالنصب ) وإن الله ( بالفتح : ابن عامر وأبو جعفر ونافع وحفص والمفضل .
الباقون : بالكسر .
الوقوف : ( الإقدام ( ه ط لتعلق ( إذ ) بمحذوف هو ( اذكر ) .
) الذين آمنوا ( ط ) كل بنان ( ط ) وسوله ( الأوّل ج ) العقاب ( ه ) النار ( ه ) الأدبار ( ه ) جهنم ( ط ) المصير ( ه ط ) قتلهم ( ص لعطف المتفقتين ) رمى ( ج لاحتمال أن تكون الواو(3/380)
" صفحة رقم 381 "
مقمحة واللام متعلقاً بما قبله واحتمال أنتكون عاطفة على ) ولكن الله رمى ( أو على محذوف أي لتستبشروا وليبلى ) حسناً ( ط ) عليهم ( ط ) الكافرين ( ه ) الفتح ( ج للفصل بين الجملتين المتضادتين مع العطف ) خير لكم ( ج ) لذلك ) نعد ( ج ) كثرت ( ط لمن قرأ ( وإن ) بالكسر ) المؤمنين ( ه .
التفسير : قال في الكشاف ) إذ يغشيكم ( ( إذ ) بدل ثانٍ من ) إذ يعدكم ( أو منصوب بالنصر أبو بما في عند الله من معنى الفعل أو بما جعله الله أو بإضمار اذكروا و ) أمنة ( مفعول لأجله ) ومنه ( صفة لها أي أمنة حاصلة لكم من عند الله .
ولما كان غشيان النعاس وكذا إغشاؤه وتغشيته متضمناً لمعنى تنعسون كان فاعل الفعل المعلل والعلة واحداً كما هو شريطة انتصاب المفعول له .
والمعنى إذ تنعسون لأمنتكم أو يغشاكم النعاس فتنعسون أمناً .
وجوّز على قراءة الإغشاء والتغشية أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان أي ينعسكم إيماناً منه .
وجوّز أن ينتصب الأمنة على أنها للنعاس الذي هو فاعل ) يغشاكم ( أي يغشاكم النعاس لأمنه على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة ، أو على أن المراد أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم وإنما غشاكم أمنة حاصلة له من الله لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل ، وقد مر فوائد هذا النعاس في سورة آل عمران .
ومن نعم الله تعالى عليهم في تلك الواقعة إنزال المطر عليهم وكان يه فوائد : إحداها : تحصيل الطهارة ، والثانية : إذهاب رجز الشيطان .
وقيل : هو الجنابة التي أصابتهم لأنها من تخييل الشيطان ولا تكرار لأن الأولى عام وهذه خاص. وقيل : المراد المني لأنه شيء مستخبث مستقذر وعلى هذا يكون في الآية دلالة على نجاسة المني لقوله ) والرجز فاهجر ( ) المدثر : 5 ] وقيل : المراد وسوسة الشيطان إليهم وتخويفه إياهم من العطش وذلك أن المشركين سبقوهم إلى الماء ونزل المؤمنون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء فناموا فاحتلم أكثرهم فتمثل لهم إبليس في صورة إنسان فقال لهم : أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم علىالحق وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة قد عطشتم ، ولو كنتم على حق لما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة .
فحزنوا حزناً شديداً وأشفقوا فأنزل الله المطر فمطروا ليلاً حتى جرى الوادي واتخذ أصحاب رسول الله الحياض علىعدوة الوادي وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضأوا وتلدب الرمل الذي كان بينهم وبين العدوّ حتى ثبتت عليه الأقدام وكانت هذه ثالثة الفوائد وأشار إليها بقوله ) ويثبت به ((3/381)
" صفحة رقم 382 "
أي بالماء ) الأقدام ( وقيلك الضمير عائد إلى الربط الذي يدل عليه قوله ) ليربط على قلوبكم ( والمراد من تثبيت الأقدام الصبر في مواطن القتال ، وذلك أن من كان قلبه ضعيفاً فرّ ولم يقف فلما ربط الله على قلوبهم أي قوّاها ثبتت أقدامهم ومعنى ( على ) أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأن علاها وارتفع فوقها .
قال الواحدي : يشبه أن يكون على صلة والمعنى وليربط قلوبكم بالنصر وما أوقع فيها من اليقين .
روي أن المطر نزل على الكافرين أيضاً ولكن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب فعظم الوحل وصار مانعاً لهم منالمشي والاستقرار .
فقوله ) ويثبت به الأقدام ( يدل مفهومه على أن حال الأعداء كان بخلاف ذلك .
ومن جملة النعم قوله ) إذا يوحي ربك ( وهو بدل ثالث من ) إذ يعدكم ( ومنصوب ب ) يثبت ( أو بذكر أني معكم الخطاب للملائكة والمراد أني معينكم على التثبيت فثبتوهم .
وقيل : الخطاب للمؤمنين لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف والملائكة ما كانوا يخافون الكفار .
وقوله ( فثبتوا الذين آمنوا ( في هذا التثبيت وجوه : أحدها : أنه مفسر لقوله ) سألقي ( ) فاضربوا ( ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة ، ولا تثبيت أبلغ منضرب أعناقهم واجتماعهما غاية النصرة .
وثانيها : أن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصح عزائمهم ونياتهم في القتال فالإلهام من الملائكة كالوسوسة من الشياطين .
وثالثهما : أن الملائكة كانوا يشتبهون بصور رحال من معارفهم وكانوا يعدونهم النصر والظفر .
ومعنى ) فوق الأعناق أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنها مفاصل ، فكان إيقاع الضرب فيها إزالة الرأس من الجسد .
وقيل : أراد ضرب إلهام لأن الرؤوس فوق الأعناق .
والبنان الأصابع سميت بذلك لأن بها صلاح أحوال الإنسان التي يريد أن يقيمها من أبن بالمكان أي أقام به ، والمراد نفي الأطراف من اليدين والرجلين .
ثم اختلفوا فمنهم من قال : المراد أن يضربهم كما شاؤوا لأن ما فوق العنق هو الرأس وهو أشرف الأعضاء والبنان عبارة عن أضعف الأعضاء فذكر الأشرف والأخس تنبيهاً على كل الأعضاء .
بوجه أخر الضرب إما وقع على مقتل أو غير مقتل ، فأمرهم بان يجمعوا عليهم النوعين معاً .
ومنهم من قال : الأوّل إشارة إلى القتل ، وقطع النبان عبارة عن إفناء آلات المدافعة والمحاربة ليعجزوا عن القتال .
وجوّز في الكشاف أن يكون قوله ) سألقي ( إلى قوله ) كل بنان ( تلقيناً للملائكة ما يثبتونهم به أي قولوا لهم قول سألقي ، فالضاربون على هذا هم المؤمنون ) ذلك ( العقاب العاجل من الضرب والقتل وقع عليهم ) بأنهم شاقوا ( بسبب مشاقتهم وخالفتهم ) لله ورسوله ( ثم بيّن أن الذي نزل بهم في ذلك اليوم شيء يسير وقدر نزل في جنب ما أعد الله لهم ولأمثالهم في(3/382)
" صفحة رقم 383 "
الآجل فقال ) ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ( أي له .
والكاف في ) ذلك ( للرسول أو لكل من له أهلية الخطاب ، في ) ذلكم ( للكفرة على طريقة الالتفات ومحله الرفع تقديره : ذلكم العذاب أي الزموه فذوقوه أو هو كقولك زيداً فاضربه .
قال في الكشاف : ( وإن للكافرين ( عطف على ذلك ) ذلكم ( في وجهيه أو نصب على أن الواو بمعنى ( مع ) والمعنى : ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة .
فوضع الظاهر موضع ضمير الخطاب .
قلت : ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أي وأن للكفارين عذاب النار حق أو بالعكس أي والحكم والشأن أن للكافرين .
وفي ذكر الذوق إشارة إلى أن عذاب الدنيا شيء قليل بالنسبة إلى عذاب الآخرة .
قوله سبحانه ) يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً ( قال الأزهري : أصلى الزحف هو أن يزحف الصبي على أسته قبل أن يقوم ، شَبَّهَ بزحف الصبي مشي الطائفتين تتمشى كل فئة مشياً رويداً إلى الفئة الأخرى تتدانى للضرب .
فانتصابه على الحال من الفريقين أي ، إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم ، ويجوز أن يكون حالاً من الذين كفروا .
والزحف الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف أي يدب دبيباً سمي بالمصدر ، والجمع زحوف والمعنى : إذا لقتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تفروا فضلاً عن حالتي المداناة والمساواة ، ويجوز أن يكون حالاً من المخاطبين وهم المؤمنون أي إذا ذهبتم إليهم للقتال فلا تنهزموا ومعنى ) فلا تولوهم الأدبار ( لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم ألفاً .
وفي قوله ) من يولهم يومئذ دبره ( أمارة عليه ، ثم بين أن الانهزام محرم إلا في حالتين فقال ) إلا متحرفاً لقتال ( هو المكر بعد الفرّ يخيل إلى عدوّه أنه منهزم ثم يعطف عليه وهو نوع من خدع الحرب ) أو متحيزاً ( أي منحازاً ) إلى فئة ( إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها .
وعلى هذا انتصب ) متحرفاً ( و ) متحيزاً ( على أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال ووجد صحته من أنه ليس في الكلام نفي ظاهر هو أنه في معنى النفي كأنه قيل : ومن لا يقدم أو لا يعطف عليهم في حال من الأحوال إلا في حال التحرف أن التحيز ، ويجوز أن يكون الاستثناء تاماً على أن الموصوف محذوف والتقدير : ومن يولهم دبره إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً .
ووزن متحيزاً ( متفعيل ) لأنه من حاز يحوز فعل به ما فعل بأيام ، لو كان ( متفعلاً ) لقيل ( متحوزاً ) : عن ابن عمر : خرجت سرية وأنا فيهم ففروا ، فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت فقلت : يا رسول الله نحن(3/383)
" صفحة رقم 384 "
الفرارون فقالك بل أنتم العاكرون وأنا فئتكم .
والعكرة البكرة .
وعن ابن عباس أن الفرار من الزحف ف يغير هاتين الصورتين من أكبر الكبائر .
واحتج القاضي بالآية على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة .
وأجيب بأنه مشروط بعدم العفو .
وعن أبي سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بيوم بدر لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان حاضراً بنفسه ، لأنه تعالى وعدهم النصرة ، ولأنه كان أول جهاده فناسب التشديد ولهذا منع من أخذ الفداء. : وأكثر المفسرين على أنه عام في جميع الحروب لأن العبرة بعموم اللفظ لا(3/384)
" صفحة رقم 385 "
بخصوص السبب .
قال أكثر المفسرين : إن المؤمنين لما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا أقبلوا على التفاخر وكان القائل يقول قتلت وأسرت فقيل لهم : فلم تقتلوهم .
والفاء جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن ( صلى الله عليه وسلم ) قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوّى قلوبكم وربط عليها .
ولما طلعت قريش قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتني ) فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال : خذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوههم وقال : ( شاهت الوجوه ) فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا فنزلت ) وما رميت إذ رميت ( أي وما رميت أنت يا محمد إذ رميت ) ولكن الله رمى ( أثبت الرمية للرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأن صورتها وجدت منه عليه وسلم ونفاها عنه لأن أثرها فوق حد تأثير القوى البشرية .
قال حكيم بن حزام : لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بتلك الحصباء فانهزمنا ، وعن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : أقبل أبي بن خلف يوم أحد إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يريده فاعترض له رجال من المؤمنين فأمرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فخلوا سبيله فاستقبله مصعب ابن عمير أخو بني عبد الدار ورأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ترقوه أبيّ منفرجة بين سابغة البيضة والدرع فطعنه بحربته فسقط أبي من فرسه ولم يخرج من طعنته دم وكسر ضلعاً من أضلاعه ، فأته أصحابه وهو يخور مخوار الثور فقالوا له : ما أعجزك إنما هو خدش فقال : والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لما أتوا أجمعين فمات أبيّ إلى النار قبل أن يقدم مكة فأنزل الله في ذلك ) وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ( وقيل : نزلت في خيبر حين دعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقوس فرمى منها بسهم فأقبل السهم يهوي حتى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه .
وأصح الأقوال هو الأوّل كيلا يدخل في أثناء القصة كلام أجنبي ، نعم لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
) وليبلى المؤمنين منه بلاء حسناً ( وليعطهم عطاء جميلاً فعل ما فعل وما فعله إلا لذلك .
قال القاضي : ولولا أن المفسرين أجمعوا على أن معنى البلاء ههنا النعمة وإلا لكان يحتمل المحنة أي الذي فعله تعالى يوم بدر كان كالسبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات .
) إن الله سميع ( لكلامكم ) عليم ( بضمائركم .
وهذا يجري مجرى التحذير والترهيب كيلا يغتر العبد بظواهر الأمور ) ذلكم ( الغرض أي الغرض ذلكم ) وإن الله موهن كيد الكافرين ( إعرابه كما مر في قوله ) وأن للكافرين عذاب النار ) [ الأنفال : 14 ] قال ابن عباس : ينبىء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويقول إني قد أوهنت كيد عدوّك حتى قتلت جبابرتهم وأسرت أشرافهم .
قال السدي والكلبي والحسن : انصرا أعلى الجندين وأهدى التفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين فأنزل الله تعالى خطاباً لهم على سبيل التهكم ) إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ( وقال عكرمة : قال المشركون : اللهم لا نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق فنزلت .
وروي أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أينا كان أفجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم أي فأهلكه .
وقيل : إنه خطاب للمؤمنين الذين استغاثوا الله وطلبوا النصر .
ثم خاطب الكفار بقوله ) وأن تنتهوا ( أي عن عداوة روسل الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فهو خير لكم ( وأسلم وإن تعودزا لمحاربته نعد لنصرته عليكم .
وجوذز بعضهم أن يكون الخطاب في الجميع للمؤمنين أي إن تكفوا عن المنازعة في أمر القتال أيو عن طلب الفداء فهو خير لكم ) وإن تعودا ( إلى تلك المنازعات ) نعد ( إلى ترك نصرتكم .
ثم ختم الآية بقوله ) وغن الله مع المؤمنين ( تقديره على قراءة الفتح ولأن الله معين المؤمنين كان ذلك .
التأويل : ( إذ يغشاكم النعاس أمنة ( فيه تغليب الحال إلى ضده بأمر التكوين كما قال للنار ) كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ) [ الأنبياء : 69 ] كذلك قال للخوف كن أمناً على محمد وأصحابه فكان ) ينزل عليكم ( من سماء الروحانية ماء الإلهام الرباني ) ليطهركم به ( من دنس الصفات النفسانية والحيوانية ) ويذهب عنكم ( وساوس الشيطان هواجسه ) وليربط على قلوبكم ( بالصدق والإخلاص والمحبة والتوكل واليقين ) ويثبت الأقدام ( على طريق الطلب ) إني معكم فثبتوا ( فيه أن التثبيت من الله لا من غيره ، وكذلك إلقاء الرعب في قولبهم وغير ذلك .
) إذا لقيتم الذين كفروا ( إذا لقيتم كفار النفوس وصفاتها مجتمعين على قهر القلوب وصفاتها فلا تنهزموا فتقعوا عن صراط الطلب ) إلا متحرفاً ( إلا قلباً يتحرك ليتهيأ لأسباب القتال مع النفس أو راجعاً إلى الاستمداد من(3/385)
" صفحة رقم 386 "
الروح وصفاتها أو إلى ولاية الشيخ أو إلى حضرة الله تعالى مستمداً في قمع النفس وقهرها بطريق المجاهدة فإنها تورث المشاهدة ) فلم تقتلوهم ( نفى القتل عن الصحابة بالكلية أو حاله إلى نفسه فقال ) ولكن ( ولم ينف الرمي عن النبي بالكلية حيث قال ) إذ رميت ( لأن الله تعالى كان قد تجلى بالقدرة وكأن يده يد الله كما كان حل عيسى حين تجلي له بصفة الإحياء كان يحيي الموتى ) وليبلى المؤمنين منه ( فيجتهدوا في متابعته إلى أن يبلغوا هذا المقام ) إن تستفحوا ( أي تفتحوا أبواب قلوبكم بمفتاح الصدق والإخلاص وترك ما سوى الله في طلب التجلي ) فقد جاءكم الفتح ( بالتجلي فأنه تعالى متجل في ذاته أزلاً وأبداً فلا تغير له وإنما التغير في أحوال الخلق ، فهم عند انغلاق أبواب قلوب محرومون وعند انفتاح أبوابها محفوظون ) وأن تنتهوا ( عن طلب غير الله ) فهو خير وأن تعودوا ( إلى طلب الدنيا وزخافها ) نعد ( غلى خذلانكم ونكالكم ونكلكم إلى أنفسكم ودواعيها ) ولن تغني عنكم ( لا يقوم شيء منالدنيا والآخرة وما فيهما مقام شيء مما أعدّ لأهل الله وخاصته .
( الأنفال : ( 20 - 30 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين "
( القراآت )
ولا تولوا ( بالإدغام : البزي وابن فليح .
الوقوف : ( تسمعون ( ه ج للآية واللعطف ) لا يسمعون ( ه ) لا يعقلون ( ه ) لأسمعهم ( ط ) معرضون ( ه ) لما يحييكم ( ج لعطف المتفقتين مع اعتراض الظرف ) تحشرون ( ه ) خاصة ( ج لما مر ) العقاب ( ه ) تشكرون ( ه ) تعلمون ( ه ) فتنة ((3/386)
" صفحة رقم 387 "
لا للعطف ) عظيم ( ه ) ويغفر لكم ( ط ) العظيم ( ه ) أو يخرجوكم ( ط ) ويمكر الله ( ط ) الماكرين ( ه .
التفسير : إنه سبحانه بعد ذك رنحو من قصة بدر والغنائم .
أدَّب المؤمنين أحسن تأديب فأمرهم بطاعته وطاعة رسوله في قسمة الغنائم وغيرها ثم قال ) ولا تولوا عنهؤ فوحد الضمير لأن التولي إنما يصح في حق الرسول بأن يعرضوا عنه وعن قبول قوله وعن معونته في الجهاد ، أو لأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقوله ) والله ورسوله أحق أن يرضوه ) [ التوبة : 62 ] وكقولك الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان وجوّز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة أي لا تولوا عن هذا الأمر وامتثاله ) وأنتم تسمعون ( لم يبين أنهم ماذا يمسعون إلا أنه يعلم من مساق الكالم في السورة أن المراد وأنتم تسمعون دعاءه إلى الجهاد أو المراد وأنتم تسمعون الأمر المذكور ، أو وأنتم تصدقون بدليل قوله ) ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ( لأنهم ليسزوا بمصدقين فلا يصح دعوى السماع منهم .
وتحقيق ذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يقبل التكليف ويلتزمه إلا بعد أن يسمعه ، فجعل السماع كناية عن القبول ، ثم أكد التكاليف المذكورة بقوله ) إن شر الدواب ( أي إن شر من يدب على الأرض ، أو إن شر البهائم .
والفرق بين التفسيرين أن الأوّل حقيقة إلا أنه ذكر في معرض الذم كقولك لمن لا يفهم الكلام هو شبح وجسد .
والثاني مذكور في معرض التشبيه بالبهائم بل جعلهم شرّها لجهلهم وعدولهم عن الانتفاع بالحواس كقوله ) بل هم أضل ) [ الأعراف : 179 ] ومعنى ) عند الله ( أي في حكمه وقضائه .
ثم قال ) ولو علم الله فيهم ( أي في هؤلاء الصم والبكم ) خيراً لأسمعهم ( عن ابن جريج : هم المنافقون .
وعن الحسن : أهل الكتاب ، وقيل : بنو عبد الدار بن قصي لم يسصلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويد بن حرملة كانوا يقولون : نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمع ولا نجيبه فقتلوا جميعاً بأحد وكانوا أصحاب اللواء .
وروي أنهم سألوا النبي أن يحيي لهم قصي ابن كلاب وعيره من أمواتهم ليخبروهم بصحة نبوّته ، فبيّن تعالى أنه لوعلم فيهم خيراً وهو انتفاعهم بقول هؤلاء الأموات لأحياهم حتى يسمعوا كلامهم ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون هذا الكلام إلا على سبيل العناد والتعنت .
وأنهم لو أسمعهم الله كلامهم لتولوا عن قبول الحق لأعرضوا عنه على عادتهم المستمرة .
واعلم أن معلومات الله تعالى على أربعة أقسام : جملة الموجودات ، وجملة المعدومات ، وإن كل واحد من الموجودات لو كان معدوماً فكيف يكون حاله ، وإن كل واحد من المعدومات لو كان موجوداً فكيف يكون حاله ،(3/387)
" صفحة رقم 388 "
والأولان علم بالواقع ، والآخران الباقيان علم بالمقدر ومن هذا القبيل .
قوله تعالى ) ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ( وتقدير الكلام لو حصل فيهم خيراً لأسمعهم الله الحجج والمواعظ فعبر عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده ، وأورد على الآية أنها على صورة قياس شرطي فإذا حذفنا الحد الأوسط بقيت النتيجة : لو علم الله فيهم خيراً لتولوا ولكن كلمة ( لو ) وضعت للدلالة على النتفاء الشيء لانتفاء غيره فيكون التولي منتفياً لأجل انتفاء علم الله الخير فيهم بل لأجل انتفاء الخير فيهم .
لكن انتفاء التولي خير من الخيرات فأوّل الكلام يقتضي نفي الخير عنهم وأخره يقتضي .
حصول الخير فيهم وهذا تناقض والجواب المنع من أن الحد الأوسط مكرر لأن المراد بالإسماع الأوّل إسماع التفهم وإلزام القبول ، والمراد بالإسماع الثاني صورة الإسماع فحسب ، وأيضاً كلمة ( لو ) في المقدمة الثانية هي التي تجيء للمبالغة بمعنى ( أن ) كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ( فإذاً لا تعلق لإحدى الجملتين بالأخرى فلا قياس .
واستدلت الأشاعرة بالآية على أن صدور الإيمان عن لكافر محال لأن الصادق قد أخبر أنهم على تقدير الإسماع معرضون وخلاف علمه وخبره محال .
وقال في الكشاف : لو علم الله فيهم خيراً أي انتفاعاً باللطف للطف بهم حتى يسمعوا سماع المصدقين ولو لطف بهم لما نفع فيهم اللطف فلذلك منعهم ألطافه ، أو ولو لطف بهم فصدقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبا ولم يستقيموا وتزييف هذا التفسير سهل .
ثم علم المؤمنين أدباً آخر فقال ) استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ( فوحد الضمير كما مر .
والمراد بالاستجابة الطاعة والامتثال ، وبالدعوة البعث والتحريض. عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مرّ على باب أبيّ بن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال : ما منعك عن إجابتي ؟ قال : كنت أصلي .
قال : ألم تخبر فيما أوحي إليّ ) استجيبوا لله وللرسول ( ؟ قال : لا جرم لا تدعوني إلا أجبتك ، وقد يتمسك الفقهاء بهذا الخبر على أن ظاهر الأمر دعاءه كان لأمر لم يحتمل التأخير وإذا وقع مثله للمصلي فله أن يقطع صلاته .
ثم الإحياء لا يمكن أن يحمل على نفس الحياة لأن إحياء الحي محال فذكروا فيه وجوهاً : قال السدي : هو الإسلام والإيمان لأن الإيمان حياة القلب والكفر موته بدليل قوله ) يخرج الحي من الميت ) [ الأنعام : 95 ] أي المؤمن من الكافر .
وقال قتادة : يعني القرآن لأن فيه العلم الذي بهالحياة الحقيقية .
والأكثرون على أنه الجهاد لأن وهن أحد العدوّين سبب حياة الآخر ، ولأن الجهاد سبب حصول الشهادة التي توجب الحياة الدائمة قوله ) بل أيحاء عند ربهم ) [ آل عمران : 169 ] ، وقيل : أنه عام ي كل حق وصواب فيدخل فيه القرآن(3/388)
" صفحة رقم 389 "
والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة .
والمراد لما يحييكم الحياة الطيبة كما قال ) فلنحيينه حياة طيبة ) [ آل عمران : 169 ] ، ) واعلموا أن الله يحول بين المرء وقله ( اختلف الناس فيه بحسب اختلافهم في مسألة الجبر والقدر فنقل الواحدي عن ابن عباس والضحاك : يحول بين الكافر وطاعته ويحول بين المطيع ومعصيته .
فالسيعد من أٍعده الله والشقي من أضله الله ، والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ويخلق فيها القصود والدواعي والعقائد حسبما يريد ، وتقرير ذلك من حيث العقل وجوب انتهاء جميع الأسباب إليه ، ثم ختم الآية بقوله ) وإنه إليه يحشرون ( ليعلم أنهم مع كونهم مجبورين خلقوا مثابين ومعاقبين إما للجنة وإما للنار لا يتركون مهملين معطلين .
وقالت المعتزلة : إن من حال الله بينه وبين الإيمان فهو عاجز وأمر العاجز سفه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، وإنه تعالى أمر بالاستجابة لله وللرسول فلو لم تكن الإجابة ممكنة فكيف يأمر بها ، ولو كان الأمر بغير المقدور جائزاً لكان القرآن حجة للكفار على الرسول لا له عليهم .
فإذا لا يمكن حمل الآية على ما قاله أهل الجبر .
فتأويلها أن الله يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بسبب الموت يدل عليه قوله ) وإنه ( أي وأن الشأن أو الله إليه تحشرون والمقصود الحث على الطاعة قبل نزول سلطان الموت ، أو أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يتمناه بقلبه تسمية للشيء باسم محله فكأنه قيلك بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على طول البقاء فإن الأجل يحول دون الأمل أو المراد سارعوا غلى الطاعة ولا تمتنعوا عنها بسبب ما تجدون في قلوبكم من الضعف والجبن فإن الله مقلب القلوب من حالة العجز والجبن إلى القوة والشجاعة وقد يبدل بالأمن خوفاً وبالخوف أمناً ، وبالذكر نسياناً وبالنسيان ذكراً ، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى ، فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب من أفعال القلوب فلا .
وقال مجاهد : المراد بالقلب العقل والمعنى بادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون .
ولا تأمنوا زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف فلا يقدر على الكفر والإيمان .
وعن الحسن : إن الغرض التنبيه على أنه تعالى مطلع على بواطن العبد وضمائره ، وإن قربه من عبده أشد من قرب قلبه منه كقوله ) ونحن أقرب إليك من حبل الوريد ) [ ق : 16 ] ثم حذرهم الفتن والاختلاف فقال ) واتقوا فتنة ( قيل : هو العذاب .
وقيل : افتراق الكلمة .
وقيل : إقرار المنكر بين أظهرهم .
وقوله ( لا تصيبن ( إما أن يكون جواباً للأمر وجاز دخول النون المؤكدة فيه مع خلوه من الطلب لأن فيه معنى النهي كقولك : انزل عن الدابة لا تطرحك وإن شئت قلت لا تطرحنك .
وعلى هذا ( من ) في ) منكم ( للتبعيض .
وقيل : الجواب محذوف والمعنى إن أصابتكم لا تصيب بعضكم وهم الظالمون حال كونهم ) خاصة ((3/389)
" صفحة رقم 390 "
ولكنها تعم الظالمين وغيرهم لأنه يحسن من الله تعالى ذلك بحكم المالكية أو لاشتمال ذلك على نوع من الصلاح ، وإما أن يكون نهياً بعد أمر و ( من ) للبيان كأنه قيل : احذروا ذنباً أو عقاباً .
ثم قيل لا تصيبنكم تلك العقوبة خاصة على ظلمكم كأن الفتنة نهيت عن ذلك الاختصاص على طريق الاستعارة .
وهكذا إن جعلت الجملة الناهية صفة للفتنة على إرادة القول أي اتقوا فتنة مقولاً فيها لا تصيبن كقوله .
جاؤا بمذق هل رأيت الذئب قط
عن الحسن : نزلت ي علي وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة على ما قال الزبير : نزلت فينا وقرأناها زماناً وما رأينا أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها .
وعن السدي : نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الجمل .
وروي أن الزبير كان يسامر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً إذ أقبل علي فضحك إليه الزبير فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : كيف حبك لعلي ؟ فقال : يا رسول الله يأبى أنت وأمي إني أحبه كحبي لولدي أو أشد حباً .
قال : فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله ؟ ثم ختم الآية بقوله ) واعلموا أن الله شديد العقاب ( والمراد منه الحث على لزوم الاستقامة .
ثم ذكرهم نعمه عليهم فقال ) واذكرا إذ أنتم ( وانتصابه على أنه مفعول به أي وقت أنكم ) قليل ( يستوي فيه الواحد والجمع ) مستضعفون في الأرض ( أرض مكة قبل الهجرة ) تخافون أن يتخطفكم الناس ( يستلبونكم لكونهم أعداء لكم ) فآواكم ( إلى المدينة ) وأيدكم بنصره ( بمظاهرة الأنصار وبإمدادكم بالملائكة يوم بدر ) ورزقكم من الطيبات ( من الغنائم ) لعلكم تشكرون ( أي نقلكم من الشدة إلى الرخاء ، ومن البلاء إلى النعماء والآلاء حتى تشتغلوا بالكشر والطاعة فكيف يليق بكم أن تشتغلوا بالمنازعة في الأنفال ؟ ، ثم منعهم من الخيانة في الأمانة .
يروى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حاصر يهود بني قريظة أحدى وعشرين ليلة فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحاء منأرض الشام ، فأبى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة بن مروان بن المنذر وكان مناصحاً لهم لأن عياله وماله في أيديهم .
فبعثه إليهم فقالوا له : ما ترى هل ننزل على حكم سعد ؟ فأشار إلى حلقه إنه أي إن حكم سعد بن معاذ هو الذبح .
قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله فنزلت الآية .
فشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال : والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ .
فمكث سبعة أيام حتى خرّ مغشياً عليه ثم تاب الله عليه فقيل له : قد تيب عليك في نفسك .
فقال : لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي يحلني .
فجاءه فحله بيده فقال : إن من تمام توبتي أن(3/390)
" صفحة رقم 391 "
أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : يجزيك الثلث أن تتصدق به .
وقال السدي : كانوا يسمعون من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : يجزيك الثلث أن فنهاهم الله عن ذلك .
وقال ابن زيد نهاهم الله أن يخونوا كما صنع المنافقون يظهرون الإيمان ويسرون الكفر .
وعن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فعلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خروجه وعزم على الذهاب إليه فكتب إليه رجل من المنافقين إن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فنزلت .
وقال الزهري والكلبي : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة بخروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليها حكاه الأصم .
قال القاضي : والأقرب أنها في الغنائم .
فالخيانة فيها خيانة الله لأنها عطيته ، وخيانة لرسول الله صلى لأنه القيم بقسمتها ، وخيانة للمؤمنين الغانمين فلكل منهم فيها حق .
قال : ويحتمل أن يراد بالأمانة كل ما تعبد به كأن معنى الآية إيجاب إخلال ، ومعنى الخون النقص كما أن معنى الوفاء التمام فإذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت النقصان فيه ، وقد استعير فقيل : خان الدلو كرب ، وخان الشتار السبب .
والكرب حبل قصير يوسف بالرشاء ويكون على العراقيّ سمي كرباً لأنه يكرب من الدلو أي يقرب منه .
واشتار العسل إذا اجتناه وجمعه .
وتخونوا يحتمل أن يكون جزماً داخلاً في حكم النهي وأن يكون نصباً بإضمار أن كقوله ) وتكتموا الحق ) [ البقرة : 42 ] ومعنى الآية على الوجه العام لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه ورسوله بأن لا تستنوا به وأماناتكم فيما بينكم بأن لا تحفظوها وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله ، أو تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عمداً لا سهواً .
وقيل : وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن .
ثم لما كان الداعي إلى الخيانة وهو محبة الأموال والأولاد ولعل ما فرط من أبي لبابة كان بسبب ذلك نبه الله سبحانه على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك الحب فقال ) إنما أموالكم وأولادكم فتنة ( أي أنها سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب أو هي محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون على حدوده في ذلك الباب ) وإن الله عنده أجر عظيم ( فعليكم أن تزهدوا في الدنيا وما يتعلق بها وتنوطوا هممكم بما يفضي إلى السعادات الروحانية الباقية .
ويمكن أن يتمسك بالآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل لكونه مفضياً إلى الأجر العظيم عند الله هو أفضل من الاشتغال بالنكاح لأدائه إلى الفتنة .
ثم رغب في التقوى التي توحب الإعراض عن محبة الأموال والأولاد وعن التهالك في شأنهم فقال ) يا أيها الذين آمنوا أن تتقوا الله ( في ارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر ) ويجعل لكم فرقاناً ( فارقاً بينكم وبين الكفار في الأحوار الباطنة(3/391)
" صفحة رقم 392 "
بالاختصاص بالمعرفة والهداية وانشراح الصدر وإزالة الغل والحسد والمكر وسائر الأخراق الذميمة والأوصاف السبعية والبهيمية ، وفي الأحوال الظاهرة بإعلاء الكلمة والإظهار على أهل الأديان كلهم ، وفي أحوال الآخرة بالثواب الجزيل والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة .
) ويكفر عنكم سيئاتكم ( يستر عليكم في الدنيا صغائركم إن فرطت منكم ) ويغفر لكم ( في دار الجزاء ) والله ذو الفضل العظيم ( فإذا وعد بشيء وفى به أحسن الإيفاء .
ومن عظيم فضله أنه يتفضل بذاته من غير واسطة وبدون التماس عوض وكل متفضل سواه فإنه لا يتفضل إلا بعد أن يخلق الله يه داعية التفضل وبعد أن يمكن المتفضل عليه من الانتفاع بذلك .
وبعد أن يكون تصوّر فيه ثواباً أو ثناء ، أو حمله على ذلك رقة طبع أو عصبية وإلا فلا فضل في الحقيقة إلا لله سبحانه فلهذا وصفه بالعظم .
ثم لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم بقولهم ) واذكروا إذ أنتم قليل ( ذكر رسوله نعمته عليه وذلك دفع كيد المشركين عنه حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في نجاته من مكرهم وفيما أتاح له من حسن العاقبة .
والمعنى واذكر وقت مكرهم .
فإن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين : ذكروا ان قريشاً اجتمعوا في دار الندوة متاشورين في أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إبليس في صورة شيخ وقال : أنا شيخ من نجد ما أنا من تهامة دخلت مكة صلى الله عليه السلام فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال : أنا شيخ من نجد ما أنا من تهامة دخلت من نجد لا بأس عليكم به .
فقال أبو البختري من بني عبد الدار : رأيي أن تحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه وتسدوا بابه غير كوّة وتلقون إليه طعامه وشرابه منها وتتبرصوا به ريب المنون ، فقال إبليس : بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم .
فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما صنع واسترحتم .
فقال : بئس الرأي يفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم .
فال أبو جهل : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً وتعطوه سيفاً صارماً فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا .
فقال الشيخ : صدق هذا الفتى هو أجودكم رأياً .
فتفرقوا على رأي أبي جهل مجمعين على قتله ، فأخبر جبريل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن الله له في الهجرة فأمر علياً عليه السلام فنام في مضجعه وقال له : اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه .
وباتوا مترصدين فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله سعيهم واقتصوا أثره فأبطل مكرهم .
ومعنى ) ليثبتوك ( قال ابن عباس : ليوثقوك ويسجنوك لأنه لا يقدر على الحركة وهو إشارة إلى رأي أبي البختري .
وقوله ( أو(3/392)
" صفحة رقم 393 "
يقتلوك ( إشارة إلى رأي أبي جهل .
وقوله ( أو يخرجوك ( أي من مكة إشارة إلى رأي هشام .
وأنكر القاضي حديث إبليس في القصة وتصويره نفسه بصورة الإنس .
قال : لأن ذلك التغيير إن كان فعل الله فهو إعانة للكفار على المكر ، وإن كان من فعل إبليس فلذلك لا يليق بحكمة الله تعالى لأن إقدار إبليس على تغيير صورة نفسه إعانة له على الإغواء والتلبيس .
هذا ما حكى عن القاضي وذهب عليه أن هذا الاعتراض وارد على خلق إبليس نفسه وعلى خلق سائر أسباب الشرور والآثام وقد أجبنا عن أمثال لك مراراً ، وقد عرفت تفسير المكر في سورة آل عمران .
والحاصل أنهم احتالوا في إبطال أمر محمد والله نصره وقواه فضاع فعلهم وظهر صنع الله .
فإن قيل : لا خير في مكرهم فكيف قال والله أنه حير بالماكرين ؟ وأجيب بأن المراد أقوى الماكرين ، أو المراد أنه لو قدر في مكرهم خير لكان الخير في مكره أكثر ، أو المراد أنه في نفسه خير .
التأويل : إن شر من دب في الوجود ) الصم ( عن استماع كلام الحق .
يسمع القلب والقبول ) إليكم ( عن كلام الحق والكلام مع الحق .
والأصم لا بد أن يكون أبكم فلذلك خصا بالذكر ) الذين لا يعقلون ( أنهم لماذا خلقوا فلا جرم يؤل حالهم من آن يكون خير البرية إلى أن يكونوا شرّ الدواب ) استجيبوا لله ( إنه تعالى يطلب بالمحجة عن العب الإجابة كما يطلب العبد للحاجة منه الإجابة ، فالاستجابة لله إجابة الأرواح للشهود وإجابة القلوب للشواهد ، وإجابة الأسرار للمشاهدة ، وإجبابة الخفي للفناء في الله ، والاستجابة للرسول بالمتابعة لما يحييكم يفنيكم عنكم ويبقكيم به ) واعلموا أن الله يحول ( بسطوات أنوار جماله وجلاله بين مرآة قلبه ولظنة أوصاف قالبه ) وإنه إليه تحشرون ( بالفناء عنكم والبقاء به ) واتقوا ( أيها الواصلون فتنة ابتلاء النفوس بحظوظها الدنيوية والأخروية .
لا تصيب النفوس الظالمة فقط بل تصيب ظلمتها الأرواح النورانية والقلوب الربانية فتجتذبها من حظائر القدس ورياض الأنس إلى حضائض صفات الإنس ) واعلموا أن الله شديد العقاب ( يعاقب الواصلين بالانقطاع والاستدراج عن الالتفات إلى ما سواه ) واذكروا إذ أنتم ( أيها الأرواح والقلوب ) قليل ( لم ينشأ بعد لكما الصفات الأخلاق الروحانية ) مستضعفون ( من غلبات صفات النفس لإعواز التربية بألبان آداب الطريقة ولانعدام جريان أحكام الشريعة عليكم إلى أوان البلوغ .
) يخافون ( أن تسلبكم النفوس وصفاتها والشيطان وأعوانه ) فآواكم ( إلى حظائر القدس ) وأيدكم ( بالواردات الربانية ) ورزقكم ( المواهب الطاهرة من لوث الحدوث .
) يا أيها الذين آمنوا ( يعني الأرواح والقلوب المنوّرة بنور الإيمان المستسعدة بسعادات العرفان ) لا تخونوا الله ( فيما آتاكم من المواهب(3/393)
" صفحة رقم 394 "
فتجعلوها شبكة لاصطياد الدنيا ولا تخونوا الرسول بترك السنة والقيام بالبدعة ) وتخونوا أماناتكم ( التي هي محبة الله ، وخيانتها تبديلها بمحبة المخلوقات ) وأنتم تعلمون ( إنكم تبيعون الدين بالدنيا والمولى بالأولى ) فتنة ( يختبركم الله بها بالتمييز الموافق من المنافق ، والصديق من الزنديق .
) يا أيها الذين آمنوا ( بهذه المقامات والكرامات ) أن تتقوا الله ( من غير الله ) يجعل لكم فرقاناً ( يفض عليكم من سجال جماله وجلاله القديم ما تفرقون به بين الحدوث والقدم ) ويكفر عنكم ( سيئات وجودكم الفاني ) ويغفر لكم ( يستركم بأنوار جماله وجلاله ) والله ذو الفضل العظيم ( وهو البقاء بالله بعد الفناء فيه ) ليثبتوك ( أيها الروح في أسفل سافلين الطبيعة أو يعدموك بانعدام آثارك ) أو يخرجوك ( من عالم الأرواح ) والله خير الماكرين ( يصلح حال أهل الصلاح ألبته .
( الأنفال : ( 31 - 40 ) وإذا تتلى عليهم . . . .
" وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير "
( القراآت )
بما تعملون ( ، ) بصير ( بتاء الخطاب : يعقوب .
الوقوف : ( مثل هذا ( لا لأن الابتداء بأن هذا إلا أساطير الأولين قبيح ) الأولين ( ه ) أليم ( ه ) وأنت فيهم ( ط ) يستغفرون ( ه ) وما كانوا أولياءه ( ط ) لا يعلمون ( ه ) وتصدية ( ط ) تكفرون ( ه ) عن سبيل الله ( ط ) يغلبون ( ط لأن ما بعده مبتدأ ) يحشرون ( ه لا لتعا اللام ) في جهنم ( ط ) الخاسرون ( ه ) ما سلف ( ط لابتداء الشرط(3/394)
" صفحة رقم 395 "
مع العطف ) الأولين ( ه ) كله لله ( ط ) بصير ( ه ) مولاكم ( ط ) النصير ( ه .
التفسير : لما حكى مكرهم في ذات محمد صلى الله عليه وآله حكى مكرهم في دينه .
وروي أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة تاجراً واشترى أحاديث كليلة ودمنة وقصة رستم واستفنديار ، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين فيقرأ عليهم ويقول هذا مثل ما يذكره محمد من قصص الأوّلين ، ولو شئت لقلت مثل قوله ، وهذا منه ومن أمثاله صلف تحت الراعدة لأنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة .
ويروى عن النضر أو عن أبي جهل على ما في الصحيحين أن أحدهما قال ما معناه ) اللهم إن كان هذا هو الحق ( الآية .
وهذا أسلوب من العناد بليغ لأن قوله ) هو الحق ( ومعنى ) حجارة من السماء ( الحجارة المسوّمة للعذاب أي إن كان القرآن هو المخصوص بالحقية فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل أو بنوع أخر من جنس العذاب الأليم .
ومراده نفي كونه حقاً فلذلك علق بحقيته العذاب كما لو علق بأمر محال فهو كقول القائل إن كان الباطل حقاً فأمطر علينا حجارة .
وعن وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة .
قال : أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين دعاهم إلى الحق ) إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة ( ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له .
ثم شرع في الجواب عن شبهتهم فقال ) وما كان الله ليعذبهم ( اللام لتأكيد النفي دلالة على أن تعذيبهم بعذاب الستئصال والنبي بين أظهرهم غير مستقيم عادة تعظيماً لشأن النبي ) وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ( قال قتادة والسدي : المراد نفي الاستغفار عنهم أي لو كانوا مما يؤمن ويستغفر من الكفر ملا عذبهم .
وقيل : الفظ عام لأن المراد بعضهم وهم الذين تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من السمتضعفين المؤمنين فهو كقولك : قتل أهل المحلة فلاناً وإنما قتله واحد منهم أو اثنان .
وقيل : وصفوا بصفة أولادهم والمعنى وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفي علم الله أنه يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه ، وفي علم الله أن فيهم من يؤل أمره إلى الإيمان كحكيم بن حزام والحرث بن هشام وعدد كثير ممن آمن يوم الفتح وقبله وبعده .
وفي الآية دلالة على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب .
قال ابن عباس : كان فيهم أمانان : نبي الله والاستغفار .
أما النبي فقد مضى وأما الاستغفار فهو باقٍ إلى يوم القيامة .
ثم بين أنه يعذبهم إذا خرج الرسول من بينهم فقال ) ومالهم ألا يعذبهم الله ( وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم يعني لا حظ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة .
قيل : لحقهم هذا العذاب(3/395)
" صفحة رقم 396 "
المتوعد به يوم بدر .
وقيل : يوم فتح مكة بدليل قوله ) وهم يصدون ( أي كيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله عام الحديبية .
والأوّلون قالوا : إن إخراجهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين من الصدّ .
وعن ابن عباس أن هذا العذاب عذاب الآخرة والذي نفاه عنهم هو عذاب الدنيا وكانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم فنصدّ من نشاء وندخل من نشاء فنفى الله استحقاقهم الولاية بقوله ) وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ( من المسلمين وليس كل مسلم يصلح لذلك فضلاً عن مشرك ) ولكن أكثرهم لا يعلمون ( كان فيهم من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة .
أو أراد بالأكثر الجميع كما يراد بالقلة العدم .
ثم ذكر بعض أسباب سلب الولاية عنهم فقال ) وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ( المكاء ( فعال ) كالثغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر .
والتصدية التصفيق ( تفعلة ) من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من الجبل فيكون في الأصل معتل اللام ، أو من صدّ يصدّ مضاعفاً أي صاح فقلبت الدال الأخيرة ياء كالتقضي في التقضض ، وأنكر هذا الاشتقاق بعضهم وصوّبه الأهري وأبو عبيدة .
قال جعفر بنربيعة : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن المكاء والتصدية فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيراً .
وقيل : هو أن يجعل بعض أصابع اليمين وبعض أصابع الشمال في الفم ثم يصفر به. وقيل : تصويب يشبه صوت المكَّاء بالتشديد وهو طائر معروف .
عن ابن عمر : كانوا يطوفون بالبيت عراة وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون .
فالمكاء والتصدية على هذا نوع عبادة لهم فلهذا وضعا موضع الصلاة بناء على معتقدهم .
وفيه أن من كان المكاء والتثدية صلاته فلا صلاة له كقول العرب : ما لفلان عيب إلا السخاء أي من كان السخاء عيبه فلا عيب له .
وقال مجاهد ومقتل : كانوا يعارضون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الطواف والصلاة عند المسجد الحرام يستهزؤون به ويخلطون عليه فجعل المكاء والتصدية صلاة لهم كقولك : زرت الأمير فجعل جفائي صلتي أي أقام الجفاء مقام الصلة .
ثم خاطبهم على سبيل المجازاة بقوله ) فذوقوا العذاب ( عذا بالقتل والأسر يوم بدر أو عذاب الآخرة ) بما كنتم تكفرون ( بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة .
ولما شرح أحوال هؤلاء الكفار في الطاعات البدنية أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية فقال ) إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ( الآية .
قال مقاتل والكلبي : نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا انثي عشر رجلاً : أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ونبيه ومنبه ابنا حجاج وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحرث وحكيم بن حزام وأبيّ بن خلف وزمعة بن أسود والحرث بن عامر بن نوفل والعباس أبن عبد المطلب .
وكلهم من(3/396)
" صفحة رقم 397 "
قريش وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر .
وقال سعيد بن جبير وابن أبزى : نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش - والأحبوش جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة - وأنفق عليهم أربعين أوقية من فضة .
والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً - قاله في الكشاف .
وقال محمد بن إسحاق عن رجاله : لما أصيب قريش يوم بدر فرجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيع ة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان ابن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حر ومن كان له في تلك العير تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال الذي أفلت على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأراً لمن أصيب منا فأنزل الله تعالى الآية .
) ومعنى ) ليصدّوا عن سبيل الله ( أن غرضهم في الإنفاق كان هو الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يكن عندهم كذلك .
ثم أبخر عن الغيب على وجه الإعجاز فقال ) فيسنفقونها ( أي سيقع منهم هذا الإنفاق ثم تكون عاقبة إنفاقها ندماً وحسرة فكأن ذاتها تصير ندماً وتنقلب حسرة ثم يغلبون آخر الأمر وإن كانت الخرب بينهم وبين المؤمنين سجالاً لقوله ) كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) [ المجادلة : 21 ] ومعنى ( ثمك ) في الجملتين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكورو بين ظهرو دولة الإسلام من الامتداد ، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل المال وعدم حصول المقصود من المباينة .
ثم قال ) والذين كفروا ( أي الكافرون منهم ولم يقل ( ثم يغلبون وإلى جهنم يحشرون ) لأن منهم من أسلموحسن إسلامه فذكر أن الذي بقوا على الكفر لا يكون حشرهم إلا إلى جهنم دون من أسلم منهم .
ثم بين الغاية والغرض فيما يفعل بهم من الغلبة ثم الحشر إلى جهنم فقال ) ليميز الله الخبيث ( أي الفريق الخبيث من الكفار ) من ( الفريق ) الطيب ( وهم المؤمنون ) ويجعل ( الفريق ) الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً ( عبارة عن الجمع والضم وفرط الازدحام .
يقال : ركم الشيء يركمه إذا جمعه وألقى بعضه على بعض ) أولئك ( الفريق الخبيث ) هم الخاسرون ( وقيل : الخبيث والطيب صفة المال أي ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين من المال الطيب الذي أنفقه المهاجرون والأنصار في نصرته فيركمه فيضم تلك الأموال الخبيثة بعضها على بعض فيلقيه في جهنم ويعذبهم بها كقوله ) فتكى بها جباههم وجنوبهم ) [ التوبة : 35 ] وعلى هذا فاللام في قوله ) ليميز الله ( يتعلق بقوله ) ثم تكون عليهم حسرة ( قاله في الكشاف .
ولا يبعد عندي أن يتعلق ب ) يحشرون ( و ) أولئك ( إشارة إلى الذين كفروا .
ولما بين ضلالهم في عباداتهم البدنية والمالية أرشدهم إلى(3/397)
" صفحة رقم 398 "
الطريق المستقمي وما يتبعه من الصلاح فقال ) قل للذين كفروا ( أي قل لأجلهم هذا القول وهو أن ينتهوا عما هم عليه من عداوة الرسول وقتاله بالدخول في السلم والإسلام ) يغفر لهم ما قد سلف ( من الكفر والمعاصي .
ولو كان المراد خطابهم بهذا القول لقيل : ( أن ) تنتهوا يغفر لكم ( .
وقد قرأ بذلك ابن مسعود ) وإن تعودوا ( لقتاله ) فقد مضت سنة الأوّلين ( منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر أو سنة الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم فأهلكوا أو غلبوا كقوله ) كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) [ المجادلة : 21 ] واستدل كثير من العلماء منهم أصحاب أبي حنيفة الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الإسلام لأن الخطاب مع الكفر باطل بالإجماع وبعد زواله لا يؤمر بقضاء العبادات الفائتة ، بل ذهب أبو حنيفة إلى أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردة وقبلها وفسر ) وإن يعودوا ( بالعودة إلى الردة .
واختلفوا في أن الزنديق هل تقبل تبوته أم لا ؟ والصحيح أنها مقبولة لشمول الآية جميع الكفار لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( نحن نحكم بالظاهر ( ولأنه يكلف بالرجوع ولا طريق له إلا التوبة ، فلو لم تقبل لزم تكليف ما لا يطاق .
ثم أمر بقتالهم إن أصروا على الكفر فقال ) وقاتلوهم ( الآية .
وقد مر تفسيره في سورة البقرة إلا أنه زاد ههنا لفظة ) كله ( في قوله ) ويكون الدين كله لله ( لأن القتال ههنا مع جيمع الكفار وهناك كان مع أهل مكة فحسب ) فإن انتهوا ( عن الكفر وأسلموا ) فإن الله بما يعملون بصير ( يثيبهم على توبتهم وإسلامهم .
ومن قرأ بتاء الخطاب أراد فإن الله بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعوة إلى دينه بصير يجازيكم عليه أحسن الجزاء .
) وإن تولوا ( ولم ينتهوا ) فاعلموا أن الله مولاكم ( ناصركم ومتولي أموركم يحفظكم ويدفع شر الكفار عنكم فإنه رنعم المولى ونعم النصير ( فثقوا بولايته ونصرته .
التأويل : قالوا قد سمعنا وما سمعوا في الحقيقة وإلا لم يقولوا لو نشاء لقلنا فإن كلام المخلوق لن يكون مثل كلام الله .
ثم انظر كيف استخرج الله منهم عقيب دعواهم ) لقلنا مثل هذا ( قولهم ) اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر ( ليعلم أن من هذا حاله كيف يكون مثل القرآن مقاله ، ولو كان لهم عقل لقالوا إن كان هذا حقاً فاهدنا له ومتعنا به وبأنواره وأسراره ) وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ( لأنه رحمة للعالمين والرحمة تنافي العذاب ) إن أولياؤه إلا المتقون ( ، ) ولكن أكثرهم ( يعني أكثر المتقين أو ) لا يعلمون ( أنهم أولياؤه لأن الولي قد لا يعرف أنه ولي ) إن الين كفروا ينفقون أموالهم ( كذلك دأب كفار النفوس ينفقون أموال الاستعداد الفطري في غير طلب الله وإنما تصرفها في استيفاء اللذات والشهوات فستندم حين لا ينفع الندم ) ثم يغلبون ( لا يظفرون(3/398)
" صفحة رقم 399 "
بمشتهيات النفس كلها ولأجلها ، والذين كفروا من الأرواح والقلوب التابعة والنفوس ) إلى جهنم ( البعد والقطعية ) يحشرون ( ، ) ليميز الله ( الأرواح والقلوب الخبيثة من الطيبة التي لا تركن إلى الدنيا ولا تنخدع بالنخداع النفوس ) فيركمه جيمعاً ( فيجعل الأرواح الخبيثة فوق النفوس الخبيثة فيلقي الجميع في جهنم القطيعة ) قل للذين كفروا ( من الأرواح والقلوب أي ستروا النر الروحاني بظلمات صفات النفس ) إن ينتهوا ( عن اتباع الهوى ) يغفر لهم ( يستر لهم تلك الظلمات بنور الفرقان والرشاد .
) وقاتلوا ( كفار النفوس ) حتى لا تكون ( آفة مانعة عن الوصول ) ويكون الدين كله لله ( ببذل الوجود وفقد الموجود لنيل الوجود وكرامة الشهود والله تعالى أعلم .
تم الجزء التاسع ويليه الجزء التاسع وأوله ) واعلموا أنما غنمتم. .. . ((3/399)
" صفحة رقم 400 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء العاشر من أجزاء القرآن الكريم
( الأنفال : ( 41 - 49 ) واعلموا أنما غنمتم . . . .
" واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم "
( القراآت )
بالعدوة ( بكسر العين في الحرفين : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب .
الباقون : بالضم .
) من حيي ( بياءين : أبو جعفر ونافع وخلف وسهل ويعقوب والبزي ونصير وأبو بكر وحماد .
الباقون : بالإدغام ) ولا تنازعوا ( بالإدغام : البزي وابن فليح(3/400)
" صفحة رقم 401 "
) وتذهب ( بالجزم للجزاء عن هبيرة ) وإذ زين ( وبابه مدغماً : أبو عمرو وعلي وحمزة في رواية خلاد ابن سعدان وهشام ) إني أرى ( ، ) إني أخاف ( بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو .
) تراءت الفئتان ( بالإمالة : نصير .
الوقوف : ( وابن السبيل ( ط لتعلق حرف الشرط بمحذوف يدل عليه ما قبلها تقديره : واعلموا واعتقدوا هذه الأقسام إن كنتم .
) الجمعان ( ط ) قدير ( ه ) أسفل منكم ( ط ) في الميعاد ( لا لعطف لكن ) مفعولا ( لا لتعلق اللام ) من حيَّ عن بينه ( ط ) عليم ( لا لتعلق ( إذا ) ) قليلاً ( ط ) منكم ( ط ) الصدور ( ه ) مفعولا ( ط ) الأمور ( ه ) تفلحون ( ه ج للآية وللعطف ) واصبروا ( ط ) الصابرين ( ه ج لما ذكر ) عن سبيل الله ( ط ) محيط ( ه ) جار لكم ( ط ) أخاف الله ( ط ) العقاب ( ه ) دينهم ( ط ) حكيم ( ه .
التفسير : ( لما أمر سبحانه بالقتال في قوله ) وقاتلوهم ) [ الأنفال : 39 ] والمقاتلة مظنة حصول الغنيمة أعاد حكم الغنيمة ببيان أوفى وأشفى فقال ) واعلموا أنما غنتم ( أي الذي حزتم من أموال الكفرة قهراً .
وقوله ( من شيء ( بيان ( ما ) أي من كل ما يقع عليه اسم الشيء حتى المخيط والخيط .
وقوله ( فأن الله ( بالفتح مبتدأ محذوف الخبر .
وروى الجعفي عن أبي عمرو ) فإن الله ( بالكسر .
قال في الكشاف : والمشهورة آكد وأثبت للإيجاب كأنه قيل : فلا بد من ثبات الخمس فيه ولا سبيل إلى الإخلال به لأنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات كقولك : ثابت واجب حق لازم كان أقوى لإيجابه من النص على واحد .
عن الكلبي أن الآية نزلت ببدر .
وقال الواقدي : كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على سأر عشرين شهراً في الهجرة .
واعلم أن الآية تقتضي أخذ الخمس من الغنائم واختلفوا في كيفية قسمة ذلك الخسم على أقوال أشهرها : أن ذلك الخمس يخمس حتى يكون مجموع الغنيمة ومقسماً بخمسة وعشرين قسماً عشرون الغنائم بالاتفاق لأنهم كسبوها كالاحتطاب والاصطياد ، وأما الخمسة الباقية فواحد منها كان لرسول الله ويصرف الآن ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كسد الثغور وعمار ةالحصون والقناطر والمساجد وأرزاق القضاة والأئمة الأهم فالأهم ، وواحد لذوي القربى يعني أقارب رسول الله من أولاد هاشم والمطلب ابني عبد مناف دون عبد شمس ونوفل وهما ابنا عبد مناف أيضاً لما روي عن عثمان بن عفان وجبير بن مطعم - وكان عثمان من بني عبد شمس وجبير من بني نوفل - أنهما قالا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك(3/401)
" صفحة رقم 402 "
الله منهم ، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام ، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد - وشبك بين أصابعه - يستوي ف يهذاالسهم غنيهم وفقيرهم إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين .
وثلاثة أخماس الباقية لليتامى والمساكين وابن السبيل .
وهذا عند الإمامين أبي حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة قال : إن سهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ساقط بموته وكذلك سهم ذوي القربى وإنما يعطون لفقرهم فهم أسوة سائر الفقراء .
فعلى مذهب الإمامين .
معنى قوله سبحانه ) فأن لله خمسه وللرسول ) [ التوبة : 62 ] فأن لرسول الله خمسة كقوله ) والله ورسوله أحق أن يرضوه ( وعن أبي العالية إيجاب سهم آخر لله وأنه يقسم الخمس على ستة أسهم. والذاهبون إلى هذا القول اختلفوا فقيل : إن ذلك السهم لبيت المال .
وقيل : يصرف إلى مصالح الكعبة لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة فهو سهم الله .
وعن ابن عباس أنه كان يقسم على ستة لله وللرسول سهمان ، وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل ، وكذلك روي عن عمرو ومن بعده من الخلفاء .
وروي أن أبا بكر بني هاشم الخمس وقال : إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم ، فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غني لا يعطى هو ولا يتيم موسر من الصدقة شيئاً ، وروي عن زيد بن علي أنه قال : ليس لنا أن نبني منه قصوراً ولا أن نركب منه البراذين .
وقيل : الخمس كله للقرابة لما روي عن علي عليه السلام أنه قيل له : إن الله تعالى قال ) واليتامى والمساكين ( فقال : أيتامنا ومساكيننا .
وعن الحسن : في سهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لولي الأمر من بعده .
وعند مالك بن أنس الأمر في الخمس مفوّض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين الأصناف الخمسة عند الشافعي وإن رأى أعطى بعضهم دون بعض ، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فذاك .
فعند هذا يكون معنى قوله ) فأن لله خمسه ( أن من حق الخمس أن يكون متقرباً به إلى الله لا غير .
ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلاً لها على غيرها كقوله ) وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل ( وحاصل الآية إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل على عبدنا فاعلموا علماً يتضمن العلم والطاعة أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به فاقطعوا عنه أطماعكم واقنعوا بالأخماس الأربعة ) يوم الفرقان ( يوم بدر لأنه فرق فيه بين أهل الحق وأهل الباطل .
والجمعان فريقاهما والذي أنزل عليه يومئذ الآيات والملائكة والنصر والتأييد ) والله على كل شيء قدير ( فبذلك نصر القليل على الكثير ) إذ أنتم ( بدل(3/402)
" صفحة رقم 403 "
من يوم الفرقان ) بالعدوة ( بالكسر والضم شط الوادي أي جانبه وحافته .
وقال أبو عمرو ، هي المكان المرتفع و ) الدنيا ( تأنيث الأدنى يعني الجانب الذي يلي المدينة وقلب الواو ياء فيه على القياس لأن ( فعلى ) من بنات الواو وتقلب ياء كالعليا ، وأما القصوى تأنيث الأقصى فإنه كالقود في مجيئه على الأصل وقد جاء القصيا أيضاً قليلاً والعدوة القصوى مما يلي مكة ) والركب ( يعني الأربعين الذين كانوا يقودون العير ) أسفل منكم ( بالساحل وهو نصبب على الظرف مرفوع المحل خبراً للمبتدأ أي مكاناً أسفل من مكانكم والفائدة في ذكر مراكز الفرق الثلاث تصوير وقعة بدر وما دبر الله سبحانه من عجيب صنعه وكمال رأقته ونصره حتى كان ما كان .
وذلك أن العدة القصوى التي أناخ بها المشركون كانت في مكان فيه الماء وكانت أرضاً لا بأس بها ، وأما العدوة الدنيا فهي رخوة تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها وكانت العير وراء ظهرو العدو مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وعبدتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحروب بعيالهم وأثقالهم ليبعثهم الذب عن الحرم على بذلك مجهودهم حيث لم يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه .
) ولو تواعدتم ( أنتم وأهل مكة على موضع تلاقون فيه ) لاختلفتم في الميعاد ( فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من هيبة الرسول والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما تيسر بتوفيق الله وتسبيبه ) ولكن ليقضي الله ( أي ليظهر ) أمراً كان مفعولاً ( مقداراً وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك .
وقوله ( ليهلك ( بدل بدر كان فيها من الآيات والمعجزات ما يكون الكافر بعدها كالمكابر لنفسه فكفره صادر عن وضوح بينة أي لا شك في كفره وعناده كما أنه لم يبق شك للمسلمينفي حقية دين الإسلام .
وفي قوله ) ليقضي ( و ) ليهلك ( دلالة على أن أفعاله تعالى مستتبعة للحكم والمقاصد والغايات خلاف ما عليه ظاهر الأشاعرة .
) وغن الله لسميع ( لدعائكم ) عليم ( بنياتكم ) إذ يريكم ( منصوب باذكر أو بدل آخر من يوم الفرقيان أو متعلق بعليم أي يعلم تدابيركم إذ يريكهم ) في منامك ( أي في رؤياك ) قليلاً ( أراه وإياهم في رؤياه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم .
وقيل : في منامك أي في عينك في اليقظة لأن العين موضع النوم وفيه تكلف .
) ولو أراكهم كثيراً ( على ما هم عليه ) لفشلتم ( والفشل الجبن والخور .
) ولتنازعتم في الأمر ( أمر الحرب والإقدام ) ولكن الله سلم ( عصم من الفشل والتنازع ) إنه عليم بذات الصدور ( يعلم ما سيحدث فيها من مواجب الإقدام والإحجام ) وإذ يريكموهم ( يبصركم إياهم ) إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ( نصب على الحال لأن(3/403)
" صفحة رقم 404 "
الرؤية رؤية العين لا القلب وقد استوفت الإراءة مفعولية فلن يتعدى إلى ثالث ) ويقللكم في أعينهم ( الحكمة في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهرة مع أن في ذلك تصديقاً لرؤيا النبي ، وأما تقليل المؤمنين في أعين الكفار فالحكمة في ذلك أن يجترئ الكفار عليهم قلة مبالاة بهم وأن يستعدّوا لهم كما ينبغي ) ليقضي الله أمراً كان معفولاً ( فعل ما فعل منالتقليل ) ولى الله ترجع الأمور ( فيه أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها .
وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاداً للمعاد .
ثم علم المؤمنين آداب اللقاء في الحروب فقال ) إذا لقيتم فئة فاثبتوا ( لقتالهم ولا تفروا واللقاء اسم غلب في القتال لفهذا ترك وصف الفئة بالمحاربين ونحو ذلك ، والأمر بالثبات في القتال لا ينافي الرخصة في التحرف والتحيز فلعل الثبات في الحرب لا يحصل إلا بهما .
) واذكروا الله كثيراً ( في مواطن الحرب ) لعلكم تفلحون ( تظفرون بمرادكم من النصر والمثوبة .
وفيه إشعار بأن العبد لا يجوز له أن يفتر عن ذكر رربه في أي شغل وعمل كان ، ولو أن رجلا أقبل من المغرب إلى المشرق منفقاً أمواله لله ، والآخر من المشرق إلى المغرب ضارباً بسيفه في سبيل الله كان الذاكر لله أعظم أجراً .
وقيل : المراد من هذا الذكر أن يدعو على العدو : اللهم اخذلهم اللهم اقتطع دابرهم ونحو ذلك والأولى حمله على العموم ) وأطيعوا الله ورسوله ( في سائر ما يأمر لأن الجهاد لا ينفع إلى مع التمسك بسائر الطاعات ) ولا تنازعوا فتفشلوا ( منصوب بإضمار ( أن ) أو مجزوم لدخوله في حكم النهي ويظهر التقدير ( أن ) في قوله ) وتذهب ريحكم ( على القراءتين .
والريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها وتمشيته على وفق المشيئة بالريح وهبوبها .
يقال : هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره .
وقيل : الريح حقيقة ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله .
وفي الحديث : ( نصرت بالصبا ) حذرهم التنازع واختلاف الرأي نحو ما وقع لهم بأحد بمخالفتهم رسول الله .
احتج نفاة القياس بالآية لأن القول به يفضي غالباً إلى النزاع المنهى عنه .
وكذا القائلون : بأن النص لا يجوز تخصيصه بالقياس .
قال أهل السير : إن أهل مكة حين نفروا لحماية العير أتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة أن ارجعوا فقد سلمت عيركم ، فأبى أبو جهل وقال : حتى نقدم بدراً نشرب بها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب .
فوافوها فسقوا كؤوس(3/404)
" صفحة رقم 405 "
المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان فنهى الله المؤمنين أن يكونوا مثلهم بطرين مرائين بأعمالهم كإطعام الطعام ونحوه فقال ) ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم ( الآية .
وصفهم بأوصاف ثلاثة : أولها : البطر وهو الطغيان في النعمة ويقال أيضاً شدّة المرح .
وزالتحقيق إن النعم إذا كثرت من الله على العبد فإن صرفها في مرضاته وعرف حق الله فيها فذاك هو الشكر وإن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمكاثرة على أبناء الزمان فذاك هو البطر .
وثانيها : رئاء الناس وهو القصد إلى إظهار الجميل مع قبح النية وفساد الطوية ، أو هو إظهار الجميل مع قبح النية وفساد الطوية ، أو هو إظهار الطاعة مع إبطان المعصية كما أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر .
وثالثها قوله ) ويصدون عن سبيل الله ( أي يمنعون عن قبول دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال الواحدي : معناه وصدا عن سبيل الله ليكون عطفاً للاسم على الاسم ، أو يكون الكل أحوالاً على تأويل بطرين مرائين صادّين أو يبطرون ويراءون ويصدّون .
واعترض عليه في التفسير الكبير بأنه تارة يقيم الاسم مقام الفعل والأخرى بالعكس ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها ، وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبر عن الأولين بالمصدر وعن الثالث بالفعل .
ثم ذكر السبب فقال : إن أبا جهل ورهطه كانوا مجبولين على البطر والرياء فذكرا بلفظ الاسم تنبيهاً على أصالتهم فيهما ، وأما الصدّ فإنما حصل في زمان ادعاء محمد النبوة فذكر بلفظ الفعل الدال على التجدد .
قلت : لو جعلنا قوله ) ويصدون ( عطفاً على صلة ( الذين ) لم يحتج غلى هذه التكلفات التي اخترعها الإمامان .
) والله بما يعملون محيط ( فيه زجر عن التصنع والافتخار ، ويعلم منه أن المعصية مع الانكسار أقرب إلى الخلاص من الطاعة مع الاستكبار .
) وإذ زين ( معناه واذكر إذ زين أو هو معطوف على ما قبله من النعم وأقربها قوله ) وإذ يريكموهم ( وفي هذا التزيين وجها : أحدهما .
أن الشيطان زين بوسوسته من غير أن يتمثل بصورة إنسان وهو قول الحسن والأصم .
وفي الكشاف : زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها في معاداة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون ، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجرئهم .
فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم أي بطل كيده حين نزلت جنود الله .
وثانيهما : أنه ظهر في صورة إنسان وذلك أن المشركين حين أرادوا المسير إلىبدر ذكروا الذي بينهم وبين بني كنانة من الحرب فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم ، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني وكان من أشرافهم في جند من الشياطين معه راية ) وقال لا غالب لكم اليوم من الناس ( أي لا غالب كائن لكم ولو كان لكم مفعولاً بمعنى لا غالب إلا إياكم لانتصب كما يقال لا ضارباً زيداً .
) وإني جار لكم ( أي مجيركم من بني كنانة أو(3/405)
" صفحة رقم 406 "
من كل عدوّ يعرض من البشر .
ومعنى الجار ههنا الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن الجار .
) فلما تراءت الفئتان ( أي التقى الجمعان بحيث رأت كل واحدة الأخرى ) نكص على عقبيه ( والنكوص الإحجام عن الشيء أي رجع .
) وقال إني بريء منكم ( قيل : كانت يده في يد الحرث بن هشام فلما نكص قال له الحرث إلى أين ؟ أتخذلنا في هذه الحالة فقال ) إني أرى ما لا ترون ( أي من نزول الملائكة ودفع في صدر الحرث وانطلق وانهزموا ، فلما بلغوا مكة قالوا : خزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم ، فلما أسلموا علموا أنه الشيطان .
وفي الحديث : ( ما رؤي إبليس يوماً أصغر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزل الرحمة إلا ما رأى يوم بدر ) وأما قوله ) إني أخاف الله ( فقد قيل : إنه لما رأى جبريل خافه ، وقيل : لما رأى الملائكة ينزلون من السماء خافهم لأنه ظن أن الوقت الذي أنظر إليه قد حضر .
قال قتادة : صدق في قوله ) إني أرى ما لا ترون ( وكذب في قوله : ( إني أخاف الله ( وقوله ( والله شديد العقاب ( يجوز أن كيون من بقية حكاية كلام إبليس ، ويجوز أن يكون اعتراضاً وظرفه ) إذ يقول ( أو لا ظرف له ) وإذ يقول ( ينتصب بذكر على أنه كلام مبتدأ منقطع عما قبله ولهذا فقد العاطف .
و ) المنافقون ( قوم منالأوس والخزرج بالمدينة ) والذين في قلوبهم مرض ( يجوز أن يكون من صفة المنافقين وأن يراد قوم من قريش وأسلموا وما قوي الإسلام في قلوبهم ولم يهاجروا .
ثم إن قريشاً لما خرجوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أولئك نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه ، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا ، وقال محمد بن إسحاق .
ثم قتلوا جميعاً مع المشركين يوم بدر .
) غرّ هؤلاء دينهم ( قال ابن عباس : معناه أن خرج بثلثمائة وثلاثة عشر إلى زهاء ألف وما ذلك إلا لأنهم اعتمدوا على دينهم .
وقيل : المراد أن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت .
ثم قال جواباً لهم ) ومن يتوكل على الله ( يكل أمره إليه ويثق بفضله ) فإن الله عزيز ( غالب يسلط الضعيف القليل على القوي الكثير ) حكيم ( يوصل العذاب إلى أعدائه والرحمة إلى أوليائه .
التأويل : ( واعلموا ( يا أهل الجهاد الأكبر ) أنما غنمتم ( عند رفع الحجب من أنوار المشاهدات وأسرار المكاشفات فلكم أربعة أخماسه تعيشون بها مع الله وتكتمونها عن الأغيار وتنفقون خمسها في الله مخلصاً وللرسول متابعاً ) ولذي القربى ( يعني الإخوان في(3/406)
" صفحة رقم 407 "
الله مواصلاً ) واليتامى ( يعني أهل الطلب من الذين غاب عنهم مشايخهم قبل بلوغهم إلى حد الكمال ) والمساكين ( الذين تمسكوا بأيدي الإرادة بأذيال إرشادكم ) وابن السبيل ( وإرادتهم واستعدادهم .
إن كنتم وصلتم في متابعة الرسول إلى الإيمان بالله عياناً ) وبما أنزلنا على عبدنا ( في سفر ) فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 10 ] ( يوم الفرقان ( الذي فيه الرحمن علم القرآن ) يوم التقى الجمعان ( جمع الصفات الإنسانية وجمع الأخلاق الربانية فصار لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع الله خلوة لا يتبه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل ) والله على كل شيء قدير ( فيقدرر على أن يوصلكم في متابعة رسوله إلى هذا المقام وهو الفناء عن الوجود والبقاء بالمعبود ) إذ أنتم ( أيها الصادقون في الطلب ) بالعدوة الدنيا ( نازلة ) وهم بالعدوة القصوى ( أي الأرواح بأقصى عالم الملكوت بارزة ) والركب أسفل منكم ( يعني الهياكل والقوالب في أسفل سافلي الطبيعة .
) ولو تواعدتم ( أيها الأرواح والنفوس والأجساد ) لاختلفتم في الميعاد ( لما بينكم من التباين والتضاد ) ولكن ( جمعكم الله بالقدرة والحكمة ) ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ( وهو إيصال كل شخص إلى رتبته التي استعد لها ) فيهلك من هلك عن بينة ( عن حجة ثابتة عليه ) ويحيا من حيى عن بينة ( فالأشقياء يبقون في سجن الطبيعة ونار القطيعة ، وأما السعداء فأرواحهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، قال ) ارجعي إلى ربك راضية ) [ الفجر : 28 ] ونفوسهم مع الملائكة المقربين كما قال ) فادخلي في عبادي ) [ الفجر : 29 ] وأبدانهم في جنات النعيم كما قال ) وادخلي جنتي ) [ الفجر : 30 ] ( إن الله لسميع ( من دعاه للوصول والوصال بالغدو والآصال ) عليم ( بمن يستحق الإذلال أو يستأهل الإجلال ) لفشلتم ( على عادة طبع الإنسان ) ولكن الله سلم ( من الخوف البشري ) ويقللكم في أعينهم ( لأنهم نظروا إليكم بالأبصار الظاهرة فلم يدركوا كثرة معناكم ومددكم بالملائكة .
) وإذا لقيتم فئة ( هي النفس وهواها والشيطان وأعوانه والدنيا وزينتها ) فاثبتوا ( على ما أنتم عليه من اليقين الصدق والإخلاص والطلب ) ولا تكونوا كالذين خرجوا ( من ديار أوصافهم وتركوا الدينا وداروا البلاد وزاروا العباد ليتباوا بذلك على الإخوان والأقران .
) وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ( فظنوا أنهم بلغوا مبلغ الرجال وأنه لا يضرهم التصرف في الدنيا وارتكاب بعض المنهيات بل ينفعهم في نفي الرياء والعجب إذ هو طريق أهل الملامة .
) فلما تراءت الفئتان ( فئة(3/407)
" صفحة رقم 408 "
الأرواح والقلوب وفئة النفوس وصفاتها وأمد الله تعالى فئة الأرواح والقلوب بالأوصاف الملكية والواردات الربانية حتى انقادت النفوس لها ) نكص على عقبيه ( زهق باطله وصار مخالفاً للنفس كما قال ) إني بريء منكم ( ، ) إني أرى ما لا ترون ( لأنه يرى بنظر الروحانية تجلي الأنوار الربانية من القلوب ، ولو وقع على الشيطان من ذلك تلألؤ لأحرقه ولهذا قال ) إني أخاف الله ( وفيه إشارة إلى أنه غير منقطع الرجاء من رحمة الله إنه أرحم الراحمين .
( الأنفال : ( 50 - 66 ) ولو ترى إذ . . . .
" ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين "
( القراآت )
تتوفى ( بتاء التأنيث : شامي .
البقون : بالتذكير ) ولا يحسبن ( بياء الغيبة : ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص والمفضل .
الآخرون : بتاء الخطاب .
) أنهم ( بالفتح : ابن عامر ) السلم ( بكسر السين : أبو بكر وحماد ) ترهبون ( بالتشديد : رويس .(3/408)
" صفحة رقم 409 "
الباقون : بالتخفيف من الإرهاب ) وإن يكن منكم ( بالياء التحتانية : أبو عمرو وسهل يعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف .
الباقون : بالتاء الفوقانية ) وعلم ( مبنياً للمفعول بفتح الذاد .
الآخرون بالضم .
) فإن لم يكن منكم مائة ( بالتحتانية : عاصم وحمزة وعلي وخلف .
الوقوف : ( كفروا ( لا لأن فاعل ) يتوفى ( الملائكة .
وما يل إن المتوفي هنا الله غير صحيح لاختلال النظم وفساد المعنى لأن الكفار لا يستحقون أن يتوفاهم الله بلا واسطة .
) وأدبارهم ( ج لحق الإضمار أي يقولون ذوقوا ) الحريق ( ه ) للعبيد ( ه لا لتعلق الكاف ) فرعون ( لا للعطف .
) من قبلهم ( ط ) بذنوبهم ( ط ) العقاب ( ه ) بأنفسهم ( لا لعطف ( أنّ ) على ( أنَّ ) ) عليم ( ه لا للكاف ) من قبلهم ( ط ) بآيات ربهم ( ج لاختلاف الجملتين من الفاء ) آل فرعون ( ج لأن الواو تصلح للاستئناف والحال ) ظالمين ( ه ) يذكرون ( ) على سواء ( ط ) الخائنين ( ه ) على الله ( ط ) العليم ( ه ) حسبك الله ( ط ) بين قلوبهم ( الأول ط ) بينهم ( ط ) حكيم ( ه ) من المؤمنين ( ه ) على القتال ( ط ) مائتين ( ج لابتداء الشرط مع العطف ) لا يفقهون ( ه ) ضعفاً ( ج ) مائتين ( ج ) بإذن اله ( ط ) الصابرين ( ه .
التفسير : ( لما شرح أحوال هؤلاء الكفار في حياتهم شرح أحوالهم حين وفاتهم .
وجواب ( لو ) محذوف ، وترى في معنى الماضي الخاصية ( لو ) ، وكذا ) يتوفى ( لخاصية ( إذ ) وإذ نصب على الظرف قاله في الكشاف .
ويمكن أن يكون مفعولاً به والمعنى لو رأيت أو عاينت أو شاهدت وقت قبض الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمراً فظيعاً .
) يضربون وجوههم وأدبارهم ( قال مجاهد : يريد بالأدبار الأستاه ولكن الله كريم يكني .
وفي تخصيص العضوين بالضرب نوع من الخزي والنكال .
وعن ابن عباس : المراد ما أقبل منهم وما أدبر .
وذلك أن المشركين كانوا إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف .
وإذا ولّوا ضربوا أدبارهم فلا جرم قابلهم الله بمثله في قوت خروج أرواحهم .
ومعنى ) عذاب الحريق ( مقدمة عذاب النار أو عذاب النار نفسها في الآخرة تبشيراً لهم بذلك .
وعن ابن عباس أن معهم مقامع من حديد كلما ضربوا بها التهبت النار .(3/409)
" صفحة رقم 410 "
قوله ) ذلك بما قدمت أيديكم ( الآية قد مر تفسيرها في آخر آل عمران ، ويحتمل أن يكون هنا حكاية كلام الملائكة. ولما بين سبحانه ما أنزله بأهل بدر من الكفار عاجلاً أم آجلاً ذكر أن هذه نسة في فرق الكفرة كلهم فقال ) كدأب آل فرعون ( يريد أن عادتهم وعملهم الذي داموا عليه كعادة آل فرعون فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي أولئك بالإهلاك والإغراق .
ثم ذكر ما يجري مجرى العلة في العقاب الذي أنزله بهم فقال ) ذلك بأن الله لم يك ( حذف النون لكثرة الاستعمال .
ومعنى الآية أن ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله لم يستقم في حكمته وتدبيره أن يغير ) نعمته على قوم حتى يغيروا ما ( بهم من الأحوال والأخلاق .
والغرض أن آل فرعون ومشركي مكة قد فتح الله عليهم أبواب الخيرات وأزال الموانع وسهل السبل ومنّ عليهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل ، ثم إنهم قابلوا هذه النعم بالكفر والفسوق العصيان فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن ) وأن الله سميع ( للأقوال ) عليم ( بالأحوال فيجزي كل فريق بما يستأهله .
ثم ذكر مرة أخرى قوله ) كدأ آل فرعون ( وفي التكرير بعد التأكيد فوائد استنبطها العلماء منها أن الثاني كالتفصيل للأول أن الإغراق كالبيان للأخذ بالذنوب .
ومنها أن الأول لعله في حال الموت والثاني لما بعد الموت .
قلت : ويشبه أن يكون بالعكس لأن الإهلاك والإغراق بحال الموت أنسب .
ومنها أن الأول إخبار عن عذاب لم يمكن الله أحداً من فعله وهو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند نزع أرواحهم .
والثاني إخبار عن عذاب مكن الناس من فعل مثله وهو الإهلاك والإغراق .
ومنها أن المراد في الأول ) كدأ آل فرعون ( فيما فعلوا وفي الثاني ) كدأب آل فرعون ( فيما فُعل بهم فهم فاعلون في الأول ومفعولون في الثاني .
ومنها أن المراد بالأول كفرهم بالله ، وبالثاني تكذيبهم الأنبياء لأن التقدير : كذبوا الرسل برد آيات ربهم .
ومنها أن يجعل الضمير في ) كفروا ( و ) كذبوا ( لكفار قريش أي كفروا بآيات الله كدأب آل فرعون ، وكذبوا بآيات ربهم كدأب آل فرعون .
ومنها أن الأول إشارة إلى أنهم أنكروا دلائل الإليهة فكان لازمه الأخذ ، والثاني إشارة إلى أنهم أنكروا دلائل التربية والإحسان فكان لازمه الإهلاك والإغراق .
ثم ختم الآية بقوله ) وكل كانوا ظالمين ( أي وكل واحد من غرقى القبط وقتلى قريش وممن قبلهم من الكفرة كانوا ظالمي أنفسهم بالكفر والمعاصي ، وظالمي غيرهم بالإيذاء والإيحاش ، فلا رجم دمرهم الله بسبب ظلمهم .
ثم خص من الظلمة سرهم فقال ) إن شر الدواب ( الآية .
جعلهم شر الدواب لأن شر الناس الكفار وشر الكفار المصرون منهم وأشار إلى هذا بقوله ) فهم لا يؤمنون ( وشر(3/410)
" صفحة رقم 411 "
المصرين الناكثون للعهود وأشار إليهم بقوله ) الذين عاهدت منهم ( و ( من ) للتبعيض ومفعول ) عاهدت ( محذوف أي الذين عاهدتم وهم بعض أولئك الكفرة يعني الأشراف الذين معهم تليق المعادة ) ثم ينقضون ( عطف المستقبل على الماضي لفائدة الاستمرار وأن من شأنهم نقض العهد ) في كل مرة ( من مرات المعاهدة .
ومعنى ( ثم ) تبعيد النقض عن المعاهد .
قال ابن عباس : هو بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأعانوا عليه المشركين بالسلاح يوم بدر وقالوا : قد نسينا وأخطأنا ثم عاهدهم فنكثوا وأعانوا عليه يوم الخندق ) وهم لا يتقون ( عاقبة الغدر وما فيه من العار والنار .
ثم أمر رسوله بالمخاشنة معهم والغلظة عليهم جزاء على قبح فعلهم وسوء عقيدتهم فقال ) فأما تثقفنهم ( تصادفنهم وتظفرن بهم في الحرب ) فشرد بهم من خلفهم ( والتشريد التفريق مع الاضطراب أي ففرق عن محاربتك من وراءهم .
وقال عطاء : معناه أكثر فيهم القتل حتى يخافك غيرهم .
والضمير في ) لعلهم يذكرون ( لمن خلفهم لأنه إذا نكل بالناكثين وقتلهم شر قتلة لن يجسر عليه أحد بعدهم اتعاظاً بحالهم ) وإما تخافنّ من قوم ( معاهدين ) خيانة ( ونكثاً بأمارات تلوح لك ) فانبذ إليهم ( فاطرح إليهم العهد ) على سواء ( على طريق مستوٍ قصد أي أخبرهم أخباراً مكشوفاً بيناً أنك قطعت ما بينك وبينهم ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك .
وقيل : على استواء في العلم بنفض العهد .
وقيل : على استواء في العداوة .
قال في الكشاف : الجار والمجرور في موضع الحال كأنه قيل : فانبذ إليهم ثابتاً على طريق قصد سوي ، أو حاصلين على استواء في العلم ، أو العداوة على أنها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معاً .
قلت : ويحتمل أن يكون حالاً من المنبوذ أي حال كون المنبوذ وهو العهد واقعاً على طريق واضح فيكون كناية عن تحقير شأن العهد إذ ذالك ، أو عن انكشاف حاله في النبذ .
قال أهل العلم : إن آثار نقض العهد
إذا ظهرت فإما أن تظهر ظهوراً محتملاً أو ظهوراً مقطوعاً به .
فإن كان الاول وجب الإعلام به كما هو مذكور في الآية .
وذلك أن قريظة عاهدوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وآله خوف الغدر منهم به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء ويؤذنهم بالحرب ، أما إذا ظهر نقض العهد ظهوراً قطعياً فلا حاجة إلى نبذ العهد إليهم كما فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأهل مكة لما نقضوا العهد .
ثم بيّن حال منفاته يوم بدر ولم يتمكن من التشفي منه والانتقام كيلا يبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذيته مبلغاً عظيماً فقال ) ولا يحسبن ( من قرأ بتاء الخطاب فمفعوله(3/411)
" صفحة رقم 412 "
الأول ) الذين كفروا ( وثانيه ) سبقوا ( أي فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم ) إنهم لا يعجزون ( كل من المكسورة والمفتوحة تعليل له إلا أن المكسورة على طريقة الاستئناف كأن سائلاً سأل ما لهم لا يسحبون سابقين ؟ فأجيب بما أجيب .
والمفتوحة تعليل صريح والجار محذوف أي لأنهم يعجزون الله من الانتقام منهم ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم .
أو عجزت فلاناً وعجزته جعلته أو وجته عاجزاً .
والمراد لا تحسبنهم أنهم لما تخلصوا من الأسر والقتل يوم بدر فقد تخلصوا من العقاب عاجلاً أم آجلاً .
ومن قرأ بالياء التحتانية تذكر فيه وجوهاً منها ( أن ) فاعله ) الذين كفروا ( ومفعولاه ) سبقوا ( على أن الأصل أن سبقوا فحذفت ( أن ) كقوله ) ومن آياته يريكم البرق ( ويؤيده قراءة ابن مسعود أنهم سبقوا .
ومنها أن الفعل وقععلى أنهم لا يعجزون على أن لا صلة وسبقوا في موضع الحال .
ومنها أن المفعول الأول محذوف للعلم به والتقدير لا يحسبنهم أو لا يحسبن أنفسهم الذين كفروا وسبقوا .
ومنها أن فاعله محذوف أي لا يحسبن قبيل المؤمنين الذي كفرا سبقوا .
ثم إنه لما أنفق لأصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا آلة وعدة ، أمرهم أن لا يعودوا لمثله ويتأهبوا لقتال الأعداء فقال ) وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ( عن عكرمة : هي الحصون .
وعن عقبة بن عامر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال : إلا إن القوة الرمي قالها ثلاثاً ومات عقبة عن سبعين قوساً في سبيل الله والأصح أنها عامة في كل ما يتقوى به في الحرب من آلة وعدذة .
وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( القوة الرمي ) كقوله : ( الحج عرفة ) وفيه تنبيه على أن المذكور جزء شريف في جملة المقصود ) ومن رباط الخيل ( هو اسم للخيل التي تربط في سبيل الله الخمس فما فوقها .
ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصال وفصيل ، والظاهر أنه بمعنى المرابط .
ويجوز أن يكون قوله ) ومن رباط الخيل ( تخصيصاً للخيل من بين ما يتقوّى به كقوله ) وجبريل وميكائيل ( فلا ريب أن ربط الخيل من أقوى آلات الجهاد .
وري عن ابن سيرين أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون فقال : يشتري به الخيل فتربط في سبيل الله ويغزي عليها .
فقيل له : إنما أوصى في الحصون .
فقال : ألم تسمع قول الشاعر :(3/412)
" صفحة رقم 413 "
ولقد علمت على توقّي الردى
أن الحصون الخيل لا مدرالقرى
وعن عكرمة أن الخيل ههنا الإناث لأنها أولى بالربط لتفيد النسل .
وقيل : هي الفحول لأنها أقوى على الكر والفر .
والظاهر العموم .
ثم ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال ) ترهبون به ( أي بما استطعتم ) عدو الله وعدوكم ( لأن الكفار إذا علموا تأهب المسلمين للقتال لم يجسروا عليهم وخافوهم وربما يدعوهم ذلك إلى الانقياد والطاعة ) وآخرين من دونهم ( يريد بالأوّلين أهل مكة وبالآخرين اليهود على قول ولكنه لا يجاريه قوله ) لا تعلمونهم الله يعلمهم ( والمنافقين على قول .
واعترض عليه بأنهم لا يرهبون لانخراطهم في سلك المسلمين ظاهراً .
وأجيب بأن الخائن خائف فلكما اشتدت شوكة المسلمين ازداد المنافقون في أنفسهم خوفاً ورعباً فربما يدعوهم ذلك إلى الإخلاص .
وعن السدي : هم أهل فارس .
وروى ابن جريج عن سليمان بن موسى أنهم كفرة الجن وجاء في الحديث إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا داراً فيها فرس عتيق وروي أن صهيل الخيل يرهب الجن .
وقيل : المراد بالآخرين أعداء المرء من دينه فإن المسلم قد يعاديه مسلم آخر .
ثم رغبهم في الإنفاق في باب الجهاد فقال ) وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم ( أي ثوابه ) وأنتم لا تظلمون ( لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً .
ثم رخص في المصالحة إن مال الأعداء إليها فقال ) وإن جنحوا للسلم ( الآية جنح له وإليه جنوحاً إذا مال .
وإنما قيل ) فاجنح لها ( لأن السلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب ، أو بتأويل الخصلة أو الفعلة .
عن ابن عباس ومجاهد أن الآية منسوخة بقوله ) قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ) [ التوبة : 29 ] وبقوله ) اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) [ التوبة : 5 ] والأوْلى أنيقالك إنها ثابتة فليس بحتم أن يقاتل المشركون أبداً ، أو يجابوا إلى الهدنة أبداً ، وإنما الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وذويه ، فإذا رأى الصلاح في الصلح فذاك .
والمصلحة قد تظهر عند ضعف المسلمين إما لقلة العدد أ ولقلة المال وبعد العدوّ وقد تكون مع القوة للطمع في إسلامهم أو قبولهم الجزية إذا خالطوا المسلمين أو بأن يعينوه على قتال غيرهم .
وأما مدة المهادنة فإذا لم يكن بالمسلمين ضعف ورأى الإمام الصلاح في المهادنة فقد قال الشافعي يهادن أربعة أشهر فما دونها لقوله تعالى ) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) [ التوبة : 2 ] وذلك كان في أقوى ما كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منصرفه من تبوك .
وإن كان بالمسلمين ضعف جازت الزيادة بحسب الحاجة إلى عشر سنين اقتداء برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين صالح أهل مكة بالحديبيةعلى وضع القتال عشر سنين : إلا أنهم(3/413)
" صفحة رقم 414 "
نقضوا العهد قبل كمال المدة وإن نقضت المدة والحاجة باقية استأنف العقد .
ثم قال ) وتوكل على الله ( أي فوض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عوناً لك على السلامة وينصرك عليهم .
إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء كما كان من شأن قريظة والنضير .
وعن مجاهد نزلت فيهم ) إنه هو السميع ( للأقوال ) العليم ( بالأحوال .
وفيه زجر عن نقض الصلح ما أمكن .
ثم ذكر حكماً من أحكام المهادنة فقال ) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك ( محسبك وكافيك ) الله ( والمعنى أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة وجب قبول ذلك الصلح لأن الحكم فيه يبنى على الظاهر كما أن أصل الإيمان مبني على الظاهر .
ولا تنافي بين هذه الاية وبين ما تقدم من قوله ) وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم ) [ الأنفال : 58 ] لأن هذه المخادعة محمولة على أمور خيفة تدل على الغل والنفاق ، وذلك الخوف محمول على أمارة قوية يدل على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة .
ثم أكد كون الله تعالى كافياً له بقوله ) هو الذي أيديك بنصره ( أي من غير واسطعة اأسباب معتادة .
) وبالمؤمنين ( أي بواساطة الأنصار .
ثم بين أنه كيف أيده بالمؤمنين فقال ) وألف بين قلوبهم ( قال جمع من المفسرين : هم الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك أشرافهم ودق جماجمهم ، فرفع الله تعالى ذلك بلطيف صنعه ، والأولى حمله علىالعموم والتأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الآيات الباهرة لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغائن في الأمور المستحقرة لم تكد تأتلف أهواؤهم وينتظم شملهم ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله حتى بذلوا دونه المهج والأرواح والأموال فليس ذلك الأمن مقلب القلوب والأحوال .
والتحقيق في باب أن المحبة لا تحصل إلا عند تصور حصول خير من المحبوب .
ثم إن كان سبب انعقاد المحبة أمراً سريع التغير كالمال أو الجاه أو اللذة الجسمانية كانت تالك المحبة بصدد الزوال والاضمحلال ، فالمعشوق يريد العاشق لماله ، والعاشق يحب المعشوق لاستيفاء لذة بهيمية ، فمهما حصل مرادهما كانا متحابين ومتى لم يحصل عادا متباغضين وإن كان سبب انعقاد المودة كمالاً حقيقياً روحانياً دائماً لم يتصور لها تغير وزوال .
ثم إن العر بكانوا قبل مقدم النبي صلى الله عيه وسلم مقبلين على المفاخرة والتسابق في المار والجاه والتعصب والتفرق ، فلا جرم كانوا متحابين تارة ومتباغضين أخرى ، فلما جاءهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غلى عبادة الله تعالى والإعراض عن الدنيا والإقبال على تحصيل السعادة الأبدية الروحانية توحد مطلبهم وصاروا إخواناً متراحمين متحابين في الله ولله .
) إنه عزيز حكيم ( أي قادر قاهر على تقليب القلوب والدواعي فاعل لكل ما يفعل على وجه الإحكام والإتقان أو على حسب المصالح على الختلاف القولين في مسألة الجبر(3/414)
" صفحة رقم 415 "
والقدر .
قال القاضي : لولا ألطاف الله تعالى ساعة فساعة لما حصلت هذه الأحوال .
ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته ، وأجيب بأنه عدول عن الظاهر والآية صريحة في أن العقائد والإرادات والكراهات كلها بخلق الله تعالى وإيجادهع ، اللهم يا مصرف القلوب ومقلبها ثبت قلبي على دينك ووفقني لمتابعة نبيك إنك قادر على ما تشاء ولا يكون إلا ما تشاء .
ثم إنه سبحانه لما وعد نبيه النصر والكفاية عند مخادعة الأعداء وعده النصر والكفاية على الإطلاق فقال ) يا أيها النبي حسبك الله ( ومحل ) ومن اتبعك ( منصوب بمنزلة ( زيداً ) في قولك ( حسبك وزيداً درهم ) قال الفراء : وليس بكثير في كلامهم أن يقولوا حسبك وأخيك بل المستعمل أن يقال : حسبك وحسب أخيك بإعادة الجار .
فلو كان قوله ) ومن اتبعك ( مجروراً لقيل حسبك وحسب من اتبعك .
ومعنى الآية كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً .
وجوزّ أن يكون محل الرفع أي كفاك الله وكفاك المؤمنون فيكون كقوله ) هو الذين أيدك بنصره وبالمؤمنين ( ويؤكده ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أسلم مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فصاروا أربعين فأنزل الله تعالى الآية .
ثم بيّن سبحانه أن كفايته مشروطة بالجد والاجتهاد في الجهاد فقال ) يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ( والتحريض .
في اللغة كالتحضيض وهو الحث على الشيء .
وذكروا في اشتقاقه أنه من الحرض وهو الإشراف على الهلاك من شدّة الضنى كأنه ينسبه إلى الهلاك لو تخلف عن المأمور ، أو كأنه يأمره أن يبالغ فيه وفي تحصيله حتى يدنو من التلف .
وفي قوله ) إن يكن منكم عشرون صابرون ( عدّة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم بعون الله وتأييده .
واعترض عليه بأنه يلزم منه أن لا يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين ، ويمكن أن يجاب بعد تسليم وقوع مثل ذلك أن الخلل لعله يكون من فقدان الشرط وهو الصبر .
قال بعض العلماء : هذا خبر ي معنى الأمر كقوله ) والوالدات يرضعن ) [ البقرة : 233 ] ( والمطلقات يتربص ) [ البقرة : 228 ] بدليل قوله المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر ، أو من جهة تعريف الخبر وإقحام الفصل .
قال الفراء : قد جمع بين ( إما ) و ( إن ) في هذه الآية بخلاف قوله ) وما يعذبهم ( ) وإما يتوب عليهم ( لأن الفعل ههنا في موضع أمر بالاختيار أعني في موضع نصب كقول القائل : اختر ذا أو ذا .
كأنهم قالوا : اختر أن تلقى بخلاف تلك الآية فإن الأمر لا يصلح هناك .
قال موسى(3/415)
" صفحة رقم 416 "
للسحرة ألقوا ما ترغبون فيه ازدراء بشأنهم وقلة مبالاة وثقة بأن الأمر الإلهي يغلب ولن بالكفر كفر .
فالجواب من وجوه : أحدها : أنه إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقاً فإذا لم يكن كذلك فلا أمر ألبتة كقول القائل : اسقني الماء من الجرة .
فهذا إنما يكون أمراً بشرط حصول الماء من الجرة .
والثاني : أن موسى علم أنهم جاءوا لذلك فلا بد أن يفعلوه ودفع النزاع في التقديم والتأخير .
الثالث : أنه أذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليتمكن من الإقدام على إبطاله كمن يريد سماع شبهة ملحد ليبحث عنها ويكشف عن ضعفها يقول له : هات وقل ومراده أن يجيب عنها ويبين لكل أحد ضعفها وسقوطها ) فلما ألقوا سحروا أعين الناس ) [ الأعراف : 116 ] قال القاضي : لو كان السحر حقاً لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم فثبت أنهم خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه .
وقال الواحدي : بل المراد أنهم قلبوا الأعين عن صحة إدراكها بسبب تلك التمويهات .
وروي أنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق وجلعوا الزئبق دواخل العصي فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض فخيل إلى الناس أنها تسعى ) واسترهبوهم ) [ الأعراف : 116 ] أي أرهبوهم والسين زائدة كأنهم استدعوا رهبتهم .
وقال الزجاج : اشتدت رهبة الناس فبعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك أيها الناس احذروا فهذا هو الاسترهاب ) وجاؤا بسحر عظيم ) [ الأعراف : 116 ] كما زعموا أن لذلك سحر لا يطيقه سحرة أهل الأرض .
عن ابن عباس أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن الق عصاك .
وفي رواية الواحدي عنه أن المراد بالوحي ههنا الإلهام وههنا إضمار والتقدير : فألقاها فإذا هي تلقف .
قال الجوهري : لقفت الشيء بالكسر ألقفه وتلقفته أيضاً تناولته بسرعة و ( ما ) في ما يأفكون موصولة أو مصدرية بمعنى ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزوّرونه ، أو أفكهم نحوه ودنوت منه وجدت القشعريرة فقال لي : من الرجل ؟ قلت له : من العرب سمعت بك وبجمعك ومشيت معه حتى إذا تمكنت منه قتلته بالسيف وأسرعت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذكرت أني قتلته فأعطاني عصاه وقال : أمسكها فإنها آية بيني وبينك يوم القيامة .
وقال عكرمة : إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين فلما كثروا خفف الله عنهم ولهذا قال ابن عباس : أيما رجل فر من ثلاثة فمل يفر ، فإن فر من اثنين فقد فر .
والحاصل أن الجمهور ادّعوا أن قوله ) الآن خفف الله عنكم ( ناسخ لحكم الآية المتقدمة وأنكر ذلك أبو مسلم الأصفهاني قال : لأن لفظ الآية ورد على الخبر .
سلمنا أنه بمعنى الأمر لكن لم قلتم إن التقدير ليكن العشرون(3/416)
" صفحة رقم 417 "
يغلب فإن قيل : إن إلقاءهم الحبال والعصي معارضة المعجز بالسحر وذلك كفر والأمر صابرين في مقابلة المائتين ، ولم لا يجوز أن يكون المراد إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين فليشتغلوا بجهاده وإذا كان الشرط غير حاصل في حق هؤلاء لقوله ) وعلم أن فيكم ضعفاً ( فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم فلا يتصور النسخ .
ولفظ التخفيف لا يقتضي ورود التثقيل قبله لأن مثل هذا الكلام قد تقوله العرب ابتداء .
ومما يدل على عدم النسخ تقارن الآيتين ، والناسخ يجب أن يكون بعد المنسوخ بزمان .
وهذا حاصل قول أبي مسلم وهو إنما يستحق الجواب لو لم يحصل قبله إطباق على حصول هذا النسخ والله تعالى أعلم .
ومعنى قوله ) وعلم أن فيكم ضعفاً ( ظهر معلومه فلا يبقى لهشام حجة في مذهبه أنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا بعد وقوعها .
والمراد بالضعف قبل الضعف في البدن وقيل في البصيرة والاسقامة في الدين وكانوا متفاوتين في ذلك .
والظاهر أن المراد الضعف الإنساني المذكور في قوله ) وخلق الإنسان ضعيفاً ) [ النساء : 28 ] .
التأويل : ( يضربون وجوههم وأدبارهم ( لأن الكافر ذاهب عن الدنيا مع تعلقه بها فيحصل له ألم من جهة الخلف ويقبل على الآخرة ولا نور له يبصر به ما أمامه فيحصل له تألم من قدام ) ولم يك مغيراً نعمه ( مبدلاً حسن تقديم واستعداد أعطاهم الله بضده ) حتى يغيروا ( بالكفر والتكذيب ) ما بأنفسهم ( من نعم الاستعداد الفطري ) الذين عاهدت منهم ( يا رروح في الأزل لأن نورك وصفتك غلب على ظلمة النفس وصفاتها ) فشرد ( يا روح ) بهم من خلفهم ( أي بالغ في تبديل صفات النفس وفي تزكيتها بحيث يؤثر نور تبدلها في الصفات التي وراءها ) فانبذ إليهم على سواء ( أي أظهر عداوتك معهم ) وجاهدهم ( أنهم لا يعجزون أي النفوس الكافرة تحت تصرفي فلا تقنطوا من رحمتي في إصلاح حالهم منقوة الروح وغلبات صفاتها وإعداده بمداومة الذكر وقطع التعلق ومن رباط الخيل ( ومن ربط القلب بطريق المراقبة لئلا يلتفت إلى الدنيا وزينتها ) ترهبون ( من نفوس شياطين الإنس ) لا تعلمونهم ( أنهم عدّوكم من الأحباب والأصدقاء والأقرباء ) الله يعلمهم ( أنهم عدوّ لكم كقوله ) إن من أزواجكم وأولادكم ) [ التغابن : 14 ] ( وما تنفقون من شيء ( من شهوات النفس ولذاتها وزينتها بطريق الذكر والمراقبة ) يوف إليكم ( فوائد من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ) وألف بين قلوبهم ( بين الروح والقلب والسر وبين النفس وصفاتها .
) لو أنفقت ما في أرض ( وجودك من السعي والجد والاجتهاد لما بين الروح النوراني والنفس الظلماني من التضاد ) ولكن الله ألف ( بين الروح والنفس وبين القلب والقالب ليكون الشخص الإنساني طلسماً على كنز وجوده لم يكسر الطلسم(3/417)
" صفحة رقم 418 "
للوصول إلى الكنز والله أعلم .
( الأنفال : ( 67 - 75 ) ما كان لنبي . . . .
" ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم "
( القراآت )
أن تكون ( بالتاء الفوقانية : أبوعمرو وسهل ويعقوب ويزيد ) أسارى ( يزيد والمفضل .
الآخرون ) أسرى ( من الأسرى .
يزيد أبو عمرو والمفضل. الباقون من االأسرى .
) من ولايتهم ( بكسر الواو حمزة .
والباقون : بفتحها .
الوقوف : ( في الأرض ( ط لأتقدير الاستفهام أي أتريدون ) الآخرة ( ط ) حكيم ( ه ) عظيم ( ه ) واتقوا الله ( ط ) رحيم ( ه ) ويغفر لكم ( ط ) رحيم ( ه ) منهم ( ) ط ) حكيم ( ه ) واتقوا الله ( ط ) حتى يهاجروا ( ج ) ميثاق ( ط ) بصير ( ه ) أولياء بعض ( ط ) كبير ( ه ) حقاً ( ط ) كيم ( ه ) منكم ( ط ) في كتاب الله ( ط ) عليم ( ه .
التفسير : ( هذا حكم آخر من أحكام الجهاد ومعنى ما كان ما صح وما استقام والإثخان كثرة القتل وإشاعته من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة والمعنى فيه تذليل الكفر وإضعافه وإعزاز الإسلام وإظهاره بإشاعة القتل في الكفرة .
روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتى بسبعين أسيراً - فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب - فاستشار أبا بكر .
فيهم فقال : قومك وأهلك فاستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك .
وقال عمر : كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء ، مكان علياً من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان لنسيب(3/418)
" صفحة رقم 419 "
له فلنضرب أعناقهم .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن الله ليليِّن قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال ) فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) [ إبراهيم : 36 ] ومثلك يا عمر مثل نوح قال ) رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ) [ نوح : 216 ] ثم قال لأصحابه : أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أضرب عنق .
وروي إنه قال لهم : إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم .
فقالوا : بل نأخذ الفدءا فاستشهدوا بأحد وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية .
وعن محمد بن سيرين كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهماً .
وروي أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية فدخل عمر على رسول الله صل الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال : أبكي على أصحابك في أخذهم الفدءا ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه .
وروي أنه قال : لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر .
وسعد بن معاذ لقوله : كان الإثخان في القتل أحب إليّ. واعلم أن الطاعنين في عصمة الأنبياء عليهم السلام تمسكوا في هذا المقام بوجوه : الأول : ( وما كان لنبي ( صريح في النهي وقد حصل الأسر بدليل ) قل لمن في أيديكم من الأسرى ( الثاني : أنهم أمروا بالقتل يوم بدر في قوله ) فاضربوا فوق الأعناق ( فكان الأسر معصية .
وأجيب بأن قوله ) حتى يثخن ( يدل على أن الأسر كان مشروعاً ولكن بشرط الإثخان ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقاً عظيماً فلعل العتاب إنما ترتب لأن الإثخان أمر غير مضبوط فظنوا أن ذلك القدر من القتل بلغ حد الإثخان فأخطأوا في الاجتهاد وكان قوله ) فاضربوا فوق الأعناق ( تكليفاً مختصاً بحالة الحرب فمل يتناول الأسر بعد انهزام الكفار .
الثالث : قالوا : الحكم بأخذ الفداء معصية وإلا لم يتوجه الذم في قوله ) تريدون عرض الدنيا ( أي حطامها سمي بذلك لأنه سريع الزوال كالعرض قسيم الجوهر ) والله يريد الآخرة ( أي ثوابها أو ما هو سبب بالجنة وهو إعزاز الإسلام بإشاعة القتل في أعدائه .
وقرئ بجر الآخرة أي عرض الآخرة على التقابل .
) والله عزيز ( يغلب أولياؤه على أعدائه ويقهرونهم ويلجئونهم إلى القتل والفداء والجواب أن كل ذلك محمول على ترك الأولى وكذا الكلام في قوله ) لولا كتاب من الله سبق ( أي لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحداً يخطىء في الاجتهاد لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم وحصول أولاد(3/419)
" صفحة رقم 420 "
منهم مسلمين ، وإن فدائهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله ، وخفي عليهم أن قتلهم أعزّ للإسلام وأهيب لمن وراءهم .
قال ابن عباس : هذا الحكم إنما كان يوم بدر لأن المسلمين كانوا قليلين فلما كثروا وقوي إسلامهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى ) حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء ) [ محمد : 4 ] قال بعض العلماء : هذا الكلام يوهم أن مقتضى الآيتين مخلتف وليس كذلك فإن كلتاهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان على الداء .
وعن سعيد بن جبير ) لولا كتاب من الله سبق ( بأنه سيحل لكم الفدية وكأن قرب الوقت من التحليل يوجب تخفيف العقاب .
وقال محمد بن إسحاق ) لولا كتاب من الله سبق ( أنه لايعذب أحداً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي .
وحاصل هذا القول يرجع إلى ترك الأولى ذلك أن الأولى وغير الأولى يتشركان في كونهما مباحين وإنما يعاتب على ترك الأولى لا على سبيل العقوبة بل على سبيل الحث على فعل الأولى .
وعن بعضهم المراد حكم الله بأنه لا يعذب من شهد بدراً .
واعترض بأنه يلزم أن لا يكونوا مكلفين .
والجواب أن عدم العقاب لعىالذنب لا يوجب عدم التكليف فلعل التكليف لأجل زيادة الثواب .
وقيل : لولا كتاب سبق بالعفو عن هذه القواعة لكان استحقاق مس العذاب حاصلاً .
روي أنهم أمسكوا عن الغنائم أو عن أخذ الفداء لأنه من جملة الغنائم فنزلت ) فكلوا ( والفاء للتسبيب ومعنى الآية قد أبحت لكم الغنائم فكلوا و ) حلالاً ( نصب على الحال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلاً حلالاً ) واتقوا الله ( فيما يستقبل فلا تقدموا على شيء لم تؤمروا به ) إن الله غفور ( لما فرط منكم من ترك الأولى ) رحيم ( فبذلك رخص لكم فيما رخص من أخذ الفداء ثم قال لاستمالة قلوب الأسارى ) يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى أن يعلم الله ( إن يظهرمعلومه أن ) في قلوبكم خيراً ( وهو الإيمان والعزم على طاعة الله وطاعة رسوله في جميع التكاليف والتوبة عن الكفر وعن جميع المعاصي ويدخل يفه العزمم على نصرة الرسول والتوبة عن محاربته ) يؤتكم ( في الدنيا ) خيراً مما أخذ منكم ( من المنافع العاجلة ) ويغفر لكم ( في الآخرة ، أو المراد بالخير إيصال الثواب وبالمغفرة إزالة العقاب .
ثم إنا قد نعلم أن كل من خلص من الأسر وآمن فقد آتاه الله في الدنيا خيراً لدلالة الآية على ذلك إجمالاً ، وذلك الخير إن كان ديناً فلا شك أن كلهم قد وجدوا ذلك لأن قليل الدنيا مع الإيمان أعظم من كثير الدنيا مع الكفر ، وإن كان دنيوياً فتفضيل ذلك غير معلوم إلا ما روي عن بعضهم كالعباس روى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفاً ، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو(3/420)
" صفحة رقم 421 "
المغفرة .
وقال ابن عباس : نزلت الآية في العباس وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث .
وكان العباس أسر بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس ، وكان أحد العشر الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر فلم تبلغه النوبة حتى أسر فقال العباس .
كنت مسلماً إلا أنهم استكرهوني فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : إن يكن ما تذكره حقاً فالله يجزيك فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا .
قال العباس : وكلمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يترك ذلك الذهب عليّ فقال : أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا .
قال : وكلفني الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية وفداء نوفل بن الحرث .
فقال العباس : تركتني يا محمد أتكفف قريشاً : فقال رسول الله عليه وسلم : فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني في وجهي فإن حدث فيّ حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل .
فقال العباس : وما يدريك ؟ قال : أخبرني به ربي .
قال العباس : فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ، ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب .
قال العباس : فأبدلني الله خيراً من لك لي الآن عشرون عبداً أن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً ، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جمع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي .
ثم قال ) وإن يريدوا خيانتك ( أي نكث ما بايعوك عليه ، روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته وإلى معاضدة المشركين كما هو العادة فيمن يطلق من الحبس والأسر .
وقيل : المراد من الخيانة منع ما ضمنوا من الفداء .
) فقد خانوا الله من قبل ( في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه .
) فأمكن ( أي المؤمنين ) منهم ( يوم بدر قتلاً وأسراً فذاقوا وبال أمرهم فسيمكن المؤمنين منهم مرة أخرى إن أعادوا الخيانة ) والله عليم ( بأحوالهم ) حكيم ( فيجازيهم على حسب أعمالهم .
واعلم أن رسول الله صلىالله عليه وسلم إنما ظهرت نبوته بمكةت ودعاالناس هناك إلى الدين ثم انتقل منها إلى المدينة ، فمن المؤمنين من وافقه في الهجرة وهم المهاجرون الأولون ، ومنهم من لم يوافقه في ذكل ، ومنهم من هاجر بعد هجرته فذكر في خاتمة هذه السورة أحكام هذه الأصناف وأحوالهم مع ذكر أنصاره بالمدينة ومع ذكر الكفار أيضاً فقال ) إن الذين آمنواؤ ويدخل فيه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والانقياد لجميع التكاليف ) وهاجروا ( فارقوا الأوطان وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله ) وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ( أما المجاهدة بالأموال فلأنهم إذا فاروقا الديار ضاعت(3/421)
" صفحة رقم 422 "
مساكنهم ومزارعهم وضيعاتهم وبقيت في أيدي الأعداء واحتاجوا إلى الإنفاق في تلك العزيمة والسفرة وفي الغزوات والمحاربات ، وأما المجاهدة بالأنفس فيكفي في وصف ذلك أنهم أقدموا على قتال أهل بدر من غير آلة ولا عدّة والأعداء في غاية الكثرة ونهاية الشدّة ، وذكل يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أرواحهم في سبيل الله وكانوا أول الناس إقداماً على هذه الأفعال والتزاماً لهذه الخصال ، ولهذه المسابقة أثر عظيم في تقوية الدين ) ايستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ) [ الحديد : 10 ] وذلك أن غيرهم يقتدي بهم وتقوى دواعيهم بما يرون منهم ، والمحن تخف على القلوب بالمشاركة ، ولأن المهاجرين لهم سابقة في الإسلام ذكر الله تعالى الأنصار بعدهم فقال ) والذين آووا وناصروا ( أي الذين أنزلوا المهاجرين بهم وجعلوا لهم مأوى أي نصروهم على أعدائهم ) أولئك بعضهم أولياء بعض ( أطبق جم غفير من المفسرين كابن عباس وغيره على أن المراد بهذه الولاية الإرث ؛ كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون القرابة حتى نسخ ذلك ابقوله ) وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ( واستبعد الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله هذا التفسير لأنه يستلزم النسخ واستلزام النسخ محذور منه ما أمكن ، ولأن لفظ الولاية يشعر بالقرب حيث يطلق دون الإرث كقولهم : السلطان ولي من لا ولي له .
وقال سبحانه ) ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ) [ يونس : 62 ] فإذن المراد أن المهاجرين والأنصار يعظم بعضهم بعضاً وبينهم معاونة وتناصر وأنهم يد واحدة على الأعداء ، وأن حب كل واحد لغيره جار مجرى حبه لنفسه ، أما قوله ) والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء ( فوجهت قراءة حمزة بأن تولي بعضهم بعضاً شبه بالعمل والصناعة والتجارة والقصارة كأنه يتوليه صاحبه يزاول أمراً ويباشر عملاً .
قال المفسرون : لا يجوز أن يكون المراد بهذه الولاية النصرة والمعونة وإلا لم يصح عطف ) وإن استنصروكم ( عليه لأن الشيء لا يعطف على مثله ، فالمراد بها الإرث كما مر .
وأجيب بأنا لو حملناهما على التعظيم زال الإشكال وحصل التغاير لأن أهل الإيمان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض الأحوال مع أنهم لا يوالونهم بمعنى الإجلال والتعظيم ، وكذا قد ينصر المرء عبده ولا تعظيم جعل الله تعالى حكم هؤلاء المؤمنين متوسطاً بين الأولين وبين الكفرة من حيث إنه نفى عنهم الولاية قبل أن يهاجروا وأثبت لهم النصرة عند الاستنصار إلا على الكفار المعاهدين لأنهم لا يبدأون بالقتال .
ثم قال ) والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ( ظاهره إثبات الموالاة بينهم والغرض نهي المسلمين عن مولاتهم وإن كانوا أقارب ، وأن يتركوا(3/422)
" صفحة رقم 423 "
يتوارث بعضهم بعضاً .
وفيه أن المشركين واليهود والنصارى لما اشتركوا في عداوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صارت هذه الجهة موجبة لانضمام بعضهم إلى بعض وقرب بعضهم من بعض وإن كان كل واحد منهم في نهاية الإنكار لصاحبه ذلك من أدلة الدلائل أن تلك العداوة ليست لأجل الدين ولكنها محض الحسد والعناد ، ومن جعل الولاية في هذه الآيات بمعنى الإرث استدل بذلك على أن الكفار في التوارث على اختلاف مللهم كأهل ملة واحدة ، فالمجوسي يرث الوثني ، والنصراني يرث المجوسي ، واليهودي يرث النصراني وبالعكس .
ثم قال ) لا تفعلوه ( أي ما أمرتكم به من موالاة المسلمين المهاجرين ومن عدم موالاة غير المهاجرين إلا في حالة الاستنصار ومن عدم موالاة الكفر أصلاً ) تكن فتنة ( أي تحصل مفاسد عظيمة ) في الأرض ( من تفرق الكلمة واختلاط المؤمن بالكافر ووقوع الهرج والمرج .
ثم كرر تعظيماً لشأن المؤمنين وثناء عليهم قوله ) والذين آمنوا وهاجروا ( الآية .
فوصفهم بأنهم هم المؤمنون حقاً و ) لهم مغفرة ورزق كريم ( وقد تقدم تفسير مثله في أو لالسورة .
والحاصل أن هذه السعادات العالية إنما حصلت لهم لأنهم أعرضوا عن اللذات الجسمانية فتركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال ، وفيه تنبيه على أنه لا طريق إلى تحصيل السعادات إلا بالإعراض عن هذه الجسمانيات .
ثم وصف اللاحقين بالهجرة بعد السبقين إليها فقال ) والذين آمنوا من بعد ( نقل الواحدي عن ابن عباس : أن المراد بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية .
وقيل : بعد نزول الآية .
وقيل : بعد يوم بدر والأصح أن المراد والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى ) فأولئك منكم ( ألحقهم بالأولين تشريفاً للآخرين وتعظيماً لشأن السابقين ، ولولا كون القسم الأول أشرف لما صح هذا الإلحاق. ثم ختم الكلام بقوله ) وأولوا الأرحام ( أي ذوو القرابات ) بعضهم أولى ببعض ( أي أحق بهم وأجدر ) في كتاب الله ( أي في حكمه وقسمته أو في اللوح أو في القرآن وهو آية المواريث .
وهذه الآية ناسخة عند الأكثرين للتوارث بالهجرة والنصرة ، أما الذين فسروا تلك الولاية بالنصرة والمحبة والتعظيم فإنهم قالوا : لما كانت تلك الولاية مخالفة للولاية بسبب الميراث بيّن الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة ذلك الوهم أعني إزالة وهم من يجعل الولاية بمعنى الإريث .
وقد تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام وهم ذوو قرابة ليست بسبب فرض ولا عصوبة أو كل قريب يخرج عن أًحاب الفروض والعصبات وإنهم عشرة أصناف : الجد أو الأم وكل جد وجدة ساقطين ، وأولاد البنات ، وبنات الإخوة ، وأولاد الأخوات ، وبنو الإخوة للأم والعم للأم ،(3/423)
" صفحة رقم 424 "
وبنات الأعمام والعمات والأخوال والخالات .
والخلاف في أنه إذا لم يوجد ذو فرض أو عصبة فهل يورث ذوو الأرحام أو يوضع المال في بيت المال ؟ فقدمهم أبو حنيفة على بيت المال للآية ، وعكس الشافعي وقال : إن الآية مجملة في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية فلما قال ) في كتاب الله ( كان معناه في الحكم الذي بينه الله في كتابه فصارت هذه الآية مقيدة بأحكام آية الميراث فلا تبقى حجة في توريث ذوي الأرحام .
واعلم أنه سبحانه قال في أول الآيات ) وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ( في براءة بتقديم ) في سبيل الله ( لأن في هذه السورة تقدم ذكر المال والفداء والغنيمة في قوله ) تريدون عرض الدنيا ( وفي قوله ) لمسكم فيما أخذتم ( أي من الفداء وفي قوله ) فكلوا مما غنمتم ( وفي براءة تقدم ذكر الجهاد في سبيل الله وهو قوله ) ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ) [ التوبة : 16 ] وفي قوله ) كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ) [ التوبة : 19 ] ثم إنه حذف من الآية الثانية ) بأموالهم وأنفسهم ( اكتفاء بما في الأولى وحذف في الثالثة ) في سبيل الله ( أيضاً اكتفاء بما في الآيتين قبلها والله أعلم .
ثم ختم السورة بقوله ) إن الله بكل شيء عليم ( والمراد أن هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكم وصواب وصلاح وليس فيها عيب وعبث ، لأن العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب ونظيره أن الملائكة لما ) قال أتجعل فيها من يفسد فيها ( قال مجيباً لهم ) أني أعلم ما لا تعلمون ) [ البقرة : 30 ] التأويل : ( ما كان لنبي ( الروح ) أن يكون له أسرى ( أي نفس مأسورة وقوى موجهة إلى تدير أمور المعاش والدعوة إلى الله وإن كان تصرفاً بالحق للحق حتى يشبع في أرض البشرية قتل القوى والنفوس المنطبعة بسيف الرياضة والمجاهدة ، لهذا كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل الوحي يتحنث في غار حراء ) تريدون عرض الدنيا ( فيه إشارة إلى أن الإنسان من سجيته وطبعه أن يميل إلى الآخرة إنما هو يتوفيق الله إياه وبعنايته الأزلية ) لولا كتاب من الله سبق ( بأن الإسنان لن يكون منجذباً نحو العالم الأرواح بالكلية وإنما يكون متوسطاً بين العالمين مراعياً للطرفين ) لمسكم فيما أخذتم ( من فداء النفس المأسورة وهو التفاتها إلى تدبير البدن ) عذاب عظيم ( هو عذاب القطيعة والبعد عن عالم النور ) فلكوا مما غنمتم ( من أوقات الجهاد الأكبر من الأنوار والأسرار عند رفع الأستار ) حلالاً طيباً ( نفوسكم عن لوث محبنها فكل ما يشغل المرء عن الالتفاف إلى الله فهو شرك وصنم .
) واتقوا الله ( عما سواه ) إن الله غفور ( يستر بأنوار(3/424)
" صفحة رقم 425 "
وجوده ظلمات وجودكم ) رحيم ( بكم حيث يغنيكم عنكم ويبقيكم به .
) يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ( من النفوس المأسورة التي أسرت في الجهاد الأكبر عن استيلاء سلطان الذل عليها ) أن يعلم الله في قلوبكم خيراً ( من الاطمئنان إلى ذكر الله الانقياد لأحكامه ) يؤتكم خيراً ( مما أخذ منكم من اللذات الفانية وأسبابها وذلك البقاء الحقيقي والذوق السرمدي ) وإن يريدوا خيانتك ( يعني الميل إلى ما جبلت النفوس عليه من طموح إلى الزخارف الدنيوية ) فقد خانوا الله من قبل ( بالتجاوز عن حدود الشريعة ورسوم الطريقة ) فأمكن منهم ( عند استيلاء الذكر عليها وقتلها بسيف الرياضة ) والله عليم ( بأحوالهم ) حكيم ؤفيما دبر من أمر جهادها وتزكيتها .
) والذين آووا ( ذكر الله ومحبته في القلوب ) ونصروا ( المحبة بالذكر الدائم والطلب القائم ) أولئك بعضهم أولياء بعض ( في المرافقة والموافقة في الطلب والسير إلى الله ) والذين آمنوا ( بأن الطلب حق ) ولم يهاجروا ( عن أوصافهم وأفعالهم ووجودهم المجازي .
) وإن استنصروكم ( تمسكوا بأذيال إرادة الواصلين منكم ) فعليكم النصر ( بأن تدلوهم على طريق الحق بمعاملتكم وسيركم ليقتدوا بكم وبأحوالكم ) إلا على قوم ( أي إلا على بعض أحوالكم مما سالحتهم عليه نفوسكم بعد ما جاهدتموها وأسرتموها وأمنتم شرها ، فلا تدلوا الطلاب على هذه الأحوال لئلا يميلوا إلى الصلح في أوان الجهاد ) فأولئك منكم ( يشير إلى أن المتأخرين إذا دخلوا في زمرة المتقدمين الواصلين فهم منهم وإنم ذوو رحم الوصول لأنه ليس عند الله صباح ولا مساء ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : ( أمتي كالمطر لا يدري أوّلهم خير أم آخرهم ) .(3/425)
" صفحة رقم 426 "
سورة التوبة
سورة التوبة مدنية
حروفها 10087 كلمها 2479 وآياتها 129
( التوبة : ( 1 - 16 ) براءة من الله . . . .
" براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون " ((3/426)
" صفحة رقم 427 "
القراآت : ( ورسوله ( بالنصب : روح وزيد .
الباقون : بالرفع .
) أئمة ( بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام يدخل بينهما مدة الباقون ) أيمة ( بهمز ثم ياء .
) لا يإمان ( بكسر الهمزة : ابن عامر .
الباقون : بالفتح جمع يمين ) يعملون ( بياء الغيبة : عباس .
الوقوف : ( من المشركين ( ط ) معجزي الله ( لا للعطف ) الكافرين ( ه ) من المشركين ( لا للعطف ) ورسوله ( ط ) لكم ( ج لابتداء الشرط مع الواو ) معجزي الله ( ط ) أليم ( ه للاستثناء ) مدتهم ( ط ) المتقين ( ه ) مرصد ( ج ) سبيلهم ( ط ) رحيم ( ه ) مأمنه ( ط ) لا يعلمون ( ه ) المسجد الحرام ( ج لأن ( ما ) للجزاء مع اتصالها بالفاء ) فاستقيموا لهم ( ط ) المقتين ( ه ) ولا ذمة ( ط ) قلوبهم ( ج ) فاسقون ( ه ج لأن ما بعده يصلح وصفاً واستئنافاً .
) يعملون ( ه ) ولا ذمة ( ط ) المتعدون ( ه ) في الدين ( ط ) يعلمون ( ه ) أئمة الكفر ( لا لتعلق ( لعلهم ) بقوله ) فقالتوا ( وما بينها اعتراض ) ينتهون ( ه ) أوّل مرّة ( ط ) أتخشونهم ( جل لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء ) مؤمنين ( ه لا للعطف ) قلوبهم ( ط ) من يشاء ( ط ) حكيم ( ه ) وليجة ( ط ) تعملون ( ه .
التفسير : قد عد في الكشاف من أسماء هذه السورة ( براءة ) وذلك واضح ، و ( التوبة ) لأن فيها ذكر التوبة على المؤمنين و ( المشقشقة ) لأنها تقشقش من النفاق أي تبرئ منه و ( المبعثرة ) و ( المثيرة ) و ( الحافرة ) و ( الفاضحة ) و ( المنكلة ) و ( المشردة ) و ( المخزية ) و ( المدمدمة ) لأنها تبعثر عن أسرار المنافقين تبحث عنها وتثيها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكلهم وتشرد بهم وتخزيهم وتدمدم عليهم .
وعن حذيفة : إنكم تسمونها سورة التوبة وإنما هي سور العذاب ، والله ما تركت أحداً إلا نالت منه .
وعن ابن عباس : ما زالت تقول ) ومنهم ( حتى حسبنا أن لا تدع أحداً .
وللعلماء خلاف في سبب إسقاط التسمية من أولها .
فعن ابن عباس قال : قلت لعثماء بن عفان في ذلك فقال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلما نلزت عليه سورة يقول : ضعوها في موضع كذا ، وكانت براءة آخر القرآن نزولاً وتوفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يبين موضعها ، وكانت قصتها شبيهة بقصة الأنفال فقرنت بينهما وكأنه أراد بالمشابهة .
ما روي عن أبيّ بن كعب في الأنفال ذكر العهود ، وفي براءة نبذ العهود ، فوضعت إحداهما بجنب الأخرى .
واستبعد جمع من العلماء هذا القول لأنا لو جوّزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من الله على سبيل الوحي لجوزنا مثله في سائر السور وفي آيات السورة الواحدة وذلك يفضي إلى تجويز الزيادة والنقصان في القرآن على ما يقول به(3/427)
" صفحة رقم 428 "
الإمامية .
وقال بعض العلماء : إن الصحابة اختلفوا في أن ( الأنفال ) مع ( التوبة ) سورتان أم سورة واحدة لأنهما مائتان وست آيات فهما بمنزلة إحدى الطوال ، وكلتاهما وردت في القتال والمغازي ، فلمكان هذا الاختلاف فرجوا بينهما فرجة تنبيهاً على قول من يقول إنهما سورتان ، ولم تكتب البسملة تنبهاً على قول من يرى أنهما واحدة فعلموا عملاً يدل على أن هذا الاشتباه حاصل .
وفيه أنهما لما لم يسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا متشددين في ضبط الدين وحفظ القرآن من التغيير والتحريف وذلك يبطل قول الإمامية ، وفيه دليل على أن البسملة آي من كل سورة والإجازات كتابتها ههنا بل عند كل مقطع كلام .
وعن ابن عباس : سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك فقالك لأن ) بسم الله الرحمن الرحيم ( أما وأن هذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود .
وذكر سفيان بن عيينة هذا المعنى وأكده بقوله تعالى ) ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً ) [ النساء : 94 ] فقيل له : أليس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كتب إلى أهل الحرب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ؟ .
فأجاب بأن ذلك ابتداء منه يدعوهم إلى الله ولم ينبذ إليهم عهدهم ولهذا قال في آخر الكتاب ) والسلام على من اتبع الهدى ) [ طه : 47 ( ومما يؤكد شبهة من زعم أنهما سورة واحدة هو أن ختم الأنفال وقع بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضاً وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية ، وقوله ( براءة من الله ورسوله ( و ( من ) لابتداء الغاية متعلق بمحذوف لا بالبراءة لفساد المعنى .
والمعنى هذه براءة واصلة من الله ورسوله ) إلى الذين عاهدتم ( كما تقول : كتاب من فلان إلى فلان .
ويجوز أن يكون ) براءة ( مبتدأ لتخصصها بصفتها هي الجار والمجرور كما قلنا والخبر محذوف كما ذكرنا نظيره قولك : رجل من بني تميم في الدار .
كان قد أذن الله في معاهدة المشركين فاتفق المسلمون مع رسول الله وعاهدوهم فلما نقضوا العهد أوجب الله النبذ إليهم وكأنه قيل للمسلمين : اعلموا ان الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين .
روي أنهم كانوا عاهدوا المشركين منغير أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا ناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ، فنبذ العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين ساروا .
والأشهر هي الحرم لقوله ) فإذا انسلخ الأشهر الحرم ( والسياحة الضرب في الأ ) ض والاتساع في السير والبعد عن المدن وموضع العمارة مع الإقلال من الطعام والشراب منه يقال للصائم سائح لتركه المطعم والمشرب .
والمعنى في هذا الأمر إباحة الذهاب مع الأمان وإزالة الخوف .
روي أن فتح مكة كان سنة ثمان من الهجرة وكان(3/428)
" صفحة رقم 429 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد ولّى عتاب بن أسيد الوقوف بالناس في الموسم ، فاجتمع في تلك السنة في المواقف ومعالم الحج المسلمون والمشركون ونزلت هذه السورة سنة تسع ، وكان أمر فيها أبا بكر على الموسم فلما نزلت السورة أتبعه علياً راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له : لو بعث بها إلى أبي بكر ؟ فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني ، فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
فلما لحقه قال : أمير أو مأمور ؟ قال : مأمور .
وروري أن أبا بكر لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام وقال : يا محمد لا يبلغن رسالتك إلا رجل منك فأرسل علياً فرجع أبو بكر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : يا رسول الله أشيء نزل من السماء ؟ قال : نعم .
فسر وأنت على الموسم وعلي ينادي بالآي .
فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدّثهم عن مناسكهم وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس إني رسول سول الله إليكم .
فقال : بماذا ؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية .
وعن مجاهد ثلاث عشرة .
ثم قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده .
فقالوا عند ذلك : يا علي أبلغ ابن عمك أناقد نبذنا العهد وراء ظهرونا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب السيوف .
استدلت الإمامية بهذا القصة على تفضيل علي كرم الله وجهه وعلى تقديمه .
وأجاب أهل السنة بأمنه أمر أبا بكر على الموسم وبعث علياً خلفه لتبليغ هذه الرسالة حتى يصلي علي خلف أبي بكر ويكون ذلك جارياً مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر .
وأما قوله : ( لا يبلغ عني إلا رجل مني ) فذلك لأن المتعارف بينالعرب أنه إذا عقد السيد الكبير منهم لقوم حلفاً أو عاهد عهداً لم يحل ذلك العهد إلا هو أو رجل من ذوي قرابته كأخ أو عم .
فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما يعرف فينافي نقص العهد فأزيلت علتهم بتولية ذلك علياً .
وقيل : لما أحضر أبا بكر لتولية أمر الموسك أحضر علياً لهذا التبليغ تطبيباً للقلوب ورعاية للجوانب .
ولنرجع إلى التفسير .
قال ابن الأنباري : في الكلام إضمار التقدير : فقل لهم سيحا .
ويكون ذكل رجوعاً من الغيبة إلى الحضور كقوله ) وسقاهم ربهم شراباً طهوراً إن هذا كان لكم جزاء ) [ الدهر : 21 ، 22 ( واختلفوا في الأِهر الأربعة .
فعن الزهري أن براءة نزلت في شوال والمراد شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم .
وقيل : هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر .
وكانت حرماً لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم ، أو سميت حرماً على التغليب لأنذا الحجة والمحرم منها .
وقيل : ابتداء المدّة من عشر ذي القعدة إلى(3/429)
" صفحة رقم 430 "
عشر من ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة .
قال المفسرون : هذا تأجيل من الله للمشركين فمن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطت إلى أربعة ومن كانت مدته أقل رفعت إليها .
والمقصود من هذا التأجيل أن يتفكروا في أنفسهم ويحتاطوا في الأمر ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا إحد أمور ثلاثة : الإسلام أو قبول الجزية أو السيف. فيصر ذلك حاملاً لهم على قبول الإسلام ظاهراً وإلى هذا المعنى أشار بقوله ) واعلموا أنكم غير الله ( أي اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ولطف ليتوب منتاب ، وفيه ضرب من التهديد كأنه قيل : افعلوا في هذه المدة كل ما أمكنكم من إعداد اللآلات والأدوات فإنكم لا تفوتون الله وهو مخزيكم أي مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب .
وقوله ( مخزي الكافرين ( من باب الالتفاف من الحضور إلى الغيبة .
ومن وضع الظاهر موضع المضمر ليكون فيه إشارةإلى أن سبب الإخزاء هو الكفر .
ثم أراد أن يعلم جميع الناس البراءة المذكورة فقال ) وأذان ( وارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين ، ثم الجملة معطوفة على مثلها .
وخطىء الزجاج في قوله ( إنه معطوف على براءة ) لأنه لو عطف عليها لكان هو أيضاً مخبراً عنه بالخبر الأوّل وهو ) إلى الذين عاهدتهم ( لكنه غير مقصود بل المقصود الإخبار عنه بقوله ) إلى الناس ( والأذان اسم بمعنى الإيذان الإعلام كالأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء ومنه أذان الصلاة .
أمر الله تعالى بهذا الإعلام ) يوم الحج الأكبر ( وهو الجمع الأعظم الذي حضر فيه المؤمن والمشرك والعاهد الناكث وغي الناكث ليصل الخبر إلى جميع الأطراف ويشتهر ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يريد أن يحج في السنة الآتية فأمر بإظهار هذه البراءة لئلا يحضر الموقف غير .
المؤمنين الموحدين وقيل : يوم الحج الأكبر يوم عرفة لأن فيه أعظم أعمال الحج وهو الوقوف بعرفة ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الحج عرفة ) وهو قول عمر وسعيد بن المسيب وابن الزبير وعطاء وطاوس ومجاهد وإحدى الروايتين عن علي عليه السلام وابن عباس ورواية المسوّر بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه سلم أنه قال : خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشية عرفة فقال ( أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر ) .
وقال ابن عباس في رواية عطاء : هو يوم النحر .
ووافقه قول الشعبي والنخعي والسدي والمغيرة بن شعبة وسيعد بن جبير .
وذلك أن معظم أفعال الحج من الطواف والحلق والرمي والنحر يقع فيه .
ومثله ما روي عن علي رضي الله عنه أن رجلاً أخذ بلجام دابته فقال : ما يوم الحج الأكبر ؟ فقال : يومك هذا خلّ عن دابتي يعني يوم النحر .
وعن ابن(3/430)
" صفحة رقم 431 "
عمر أن رسول الله صلى عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في الوداع فقال : هذا يوم الحج الأكبر .
قال ابن جريج عن مجاهد : ويم الحج الأكبر أيام منى كلها وهو قول سفيان الثوري .
وكان يقول : يوم الحج الأكبر أيامه كلها كيوم سفين ويوم الجمل يراد به الحين والزمان ، لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أياماً كثيرة .
وعلى هذا فقد وصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر .
وقيل : الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد .
عن مجاهد أيضاً : هذا وقد حذفت الباء التي هي صلة الأذان تخفيفاً والتقدير ) أن الله بريء من المشركين ( وقوله ( ورسوله ( بالرفع مبتدأ محذوف الخبر أي ورسوله أيضاً كذلك ، أو بالمنفصل للفصل .
وقرئ بالجر على الجوار أو على أن الواو للقسم كقوله سبحانه ) لعمرك أنهم لفي سكرتهم يعمهون ) [ الحجر : 72 ] والفرق بين قوله ) براءة من الله ( وبين قوله ) إن الله يرى ( أن المقصود من الكلام الأول هو الإخبار بثبوت البراءة ، والمقصود من هذا الثاني إعلام جميع الناس بما حصل وثبت .
وأيضاً المراد ثانياً البراءة من العهد ، وبالثاني البراءة التي هي نقيض المولاة ، ولهذا لم يصف المشركين ثايناً بوصف معين كالمعاهدة تنبيهاً على أن الموجب لهذه البراءة وهو كفرهم وشركهم ولهذا أتبعه قوله ) فإن تبتم ( أي عن الشرك ) فهو خير لكم ( وفيه ترغيب في التوبة والإقلاع الموجب لزوال البراءة ) وإن توليتم ( أعرضتم عن التوبة أو بقيتم على التولي والإعراض عن الإيمان والوفاء ) فاعلموا أنكم غير ( فائتين أخذ الله وعقابه .
قال بعض العلماء : قوله سبحانه ) فاعلموا أنكم غير معجزي الله ( ليس بتكرار لأن الأول للمكان والثاني للزمان .
) وبشر ( يا محمد أو يا من له أهلية الخطاب .
وفيه من التهكم والتهديد ما فيه كيلا يظن أن العذاب الدنيا لو فات وزال خصلوا من العذاب بل العذاب الشديد معدّ لهم يوم القيامة .
أما قوله ) إلا الذين ( قد قال الزجاج : إن الاستثناء يعود إلى قوله ) براءة ( والتقدير : براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلا الذين لم ينقضوا العهد .
وقال في الكشاف : وجهه أن يكون مستثنى من قوله ) فيسحوا في الأرض ( لأن الكلام خطاب للمسلمين والتقدير : فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم .
وقيل : استثناء من قوله ) إلى الذين عاهدتم ( ومعنى ) لم ينقصوكم شيئاً ( لم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط .
ومعنى ) لم يظاهروا ( لم يعاونوا أي لم يقدموا على المحاربة بأنفسهمولم يهيجوا أقواماً آخرين .
وقرئ ) ينقضوكم ( بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم .
ومعنى ) فأتموا إليهم ( أدوه إليهم تاماً كاملاً .
قال ابن عباس : بقي لحي من كنانة من(3/431)
" صفحة رقم 432 "
عهدهم تسعة أِهر فأتم إيهم عهدهم .
ثم ختم الآية بقوله ) إن الله يحب المتقين ( يعني أن قضية التقوى أن لا يسوى بين القبيلين ولا يجعل الوفي كالغادر ، ومن جملة الغادرين بنو بكر عدواً على خزاعة عيبة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنشد :
لا هم إني ناشد محمدا
حلف أبينا وأبيك الأتلدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ذمامك المؤكدا
هم بيتونا بالحطيم هجدا
وقتلونا ركعاً وسجدا
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا نصرت إن لم أنصركم ) ومعنى ناشد محمداً أذكر له الحلف والعهد لأنه كان بين أبيه عبد المطلب وبين خزاعة حلف قديم .
والأتلد الأقدام .
ثم بين حكم انقضاء أجل الناكثين فقال ) فإذا انسلخ الأشهر الحرم ( أي التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا .
وانسلاخ الشهر تكامله جزءاً فجزاءاً إلى أن ينقضي كانسلاخ الجلد عما يحويه ، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه فكلاهما ظرف ) فاقلوا المشركين ( يعني الناقضين ) حيث وجدتموهم ( من حل أ وحرم وفي أي وقت كان .
) وخذوهم ( وأسروهم والأخيذ الأسير ) واحصروهم ( امنعوهم من التصرف في البلاد وقيدوهم .
وقال ابن عباس : حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام .
) واقعدوا لهم في كل مرصد ( أي في كل ممر ومجاز ترقبوهم هناك .
وانتصابه على الظرف كما مر في قوله ) لأقعدنّ لهم صراطك المستقي ) [ الأعراف : 16 ] فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ( إن حصلوا على شروطها ) فخلوا سبيلهم ( المراد من التخلية الكف عنهم وإطلاقهم من الأسر والحصر عن البيت الحرام ، أو عن التصرف في مهماتهم ) إن الله غفور رحيم ( يغفر لهم ما سلف لهم من الكفر والغدر .
قال الشافعي : إنه تعالى أباح دماء الكفار بجميع الطرق والأحوال ثم حرمها عند التوبة عن الكفر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فما لم يوجد أحد هذه الأمور لم يوجد هذا المجموع ، فوجب أن تبقى إباحة الدم على الأصل .
فتارك الصلاة يقتل ، ولعل أبا بكر استدل بمثل ذلك على جواز قتال مانعي الزكاة .
وحمل أكثر الأئمة الإقامة والإيتاء ههنا على اعتقاد وجوبهما والإقرار بذلك وإن كان له وجه عدول عن الظاهر .
وعن الحسن أن أسيراً نادى بحيث يسمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد ثلاثاً .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( عرف الحق لأهله فأرسلوه ) .
قال بعض العلماء : ذكر التوبة ههنا عبارة عن تطهير القوة النظرية عن الجهل ، وذكرالصلاة والزكاة عبارة عن تطهير القوة العملية عما لا ينبغي ، ولا(3/432)
" صفحة رقم 433 "
ريب أن كمال السعادة منوط بهذا المعنى جعلنا الله من أهلها .
لما أوجب الله سبحانه بعد انسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين دل ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم وأن ما ذكره الرسول قبل ذلك من أنواع الدلائل والبينات كفي في إزاحة علتهم فينتج ذلك أن أحداً من المشركين لو طلب الدليل والحجة يلتفت إليه بل يطالب إما بالإسلام أو بالجزية أوبالقتل ، فأزال الله تعالى بكمال رأفته هذه الشبهة فقال ) وإن أحد من المشركين استجارك ( الآية .
قال لعماء العربية : ارتفع ) أحد ( بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره .
وإن استجارك أحد استجارك .
كرهوا الجمع بين المفسر والمفسر فحذفوا المفسر .
ولغرض بناء الكلام على الإبهام ثم التفسير من حيث إنّ ( إن ) من مظان وقوع الفعل بعده .
وأيضاً ذكر الفاعل ههنا أهم لما بينا أن ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم المشرك فقدم ليدل على مزيد العناية بصون دمه عن الإهدار .
يقال : استجرت فلاناً أي طلب منه أن يكون جاراً لي أي محامياً وحافظاً من أن يظلمني ظالم ، ومنه يقالك أجاره الله من العذاب أي أنفقذه .
والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين بعد انسلاخ الأشهر لا عهد بينك وبينه .
فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن فأمنه ) حتى يسمع كلام الله ( سماع تدب روتأمل ) ثم أبلغه ( داغلره التي يأمن فيها إن لم يسلم ثم قاتله إن شئت فيها ، وفيه أن المقصود من شرع القتل قبول الدين والإقرار بالتوحيد وأن النظر في دين الله من أعلى المقامات فإن الكافر الذي دمه مهدر لما أظهر من نفسه كونه طالباً للنظر والاستدلال زال ذلك الإهدار ووجب على الرسول أن يبلغه مأمنه ، أما زمان مهلةالنظر فليس في الآية ما يدل على ذلك ولعله مفوّض إلى اجتهاد الإمام ، فمتى ظهر على ذلك المشرك علامات كونه طالباً للحق باحثاً عن وجه الاستدلال أمهل وترك ، ومتى ظهر عليه كونه معرضاً عن الحق دافعاً للزمان بالأكاذيب لم يلتف إليه وأبلغ المؤمن .
ويشبه أن يقال : المدة أربعة أشهر وهو الصحيح من مذهب الشافعي .
والمذكور في الآية كونه طالباً لسماع القرآن إلا أنه الحق به كونه طالباً لسماع الدلائل والجواب الشبهات لأنه تعالى علل وجوب الإجارة بكوننه غير عالم حيث قال في آخر الآية ) ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ( فكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجارته .
وفي سماع كلام الله وجوه : قيل أراد جميع القرآن لأن تمام الدلائل والبينات فيه .
وقيل : سماع سورة براءة لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين والأولى حمله على كل الدلائل ، وإنما خص القرآن بالذكر لأنه الكتاب الحاوي لمعظم الدلائل .
واعلم أن الأمان قد يكون عاماً يتعلق بأهل إقليم أو بلدة أو ناحية وهو عقد المهادنة ويختص بالإمام وقد مر في تفسير قوله تعالى ) وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ((3/433)
" صفحة رقم 434 "
وقد يكون خاصاً يتعلق بأفراد الكفار وهذا يصح من الولاة ومن آحاد المسلمين أيضاً وهذا مقصود الآية وإنه ثابت غير منسوخ .
روي عن سعيد بن جبير أن رجلاً من المشركين جاء إلى علي رضي الله عنه فقال : أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل ؟ قال : ( لا ) .
واستدل بالآية .
وعن السدي والضحاك هو منسوخ بقوله ) فاقتلوا المشركين ( وشرط الأمان الإسلام والتكليف فيصح من العبد والمرأة والفاسق .
روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يسعى بذمتهم أدناهم ) وعن أم هانئ قالت : أجرت رجلين من أحمائي فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أمنا من أمنت ) .
ويعتبر أن الإسلام والتكليف الاختيار فلا يصح أمان المكره على عقد الأمان ، وينعقد الأمان بكل لفظ مفيد للغرض صريحاً كقوله : أجرتك أو لا تخف ، وكناية كقوله : أنت على ما تحب أو كن كيف شئت ، ومثله الكتابة والرسالة والإشارة المفهمة .
روي عن عمرأنه قال : والذي نفسي بيده لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى مشرك فنزل على ذلك ثم قتلته .
هذا إذا دخل الكافر بلا سبب أما إذا دخل لسفارة فلا يتعرض له ، وكذا إذا دخل لسماع الدلائل وقصد التجارة لا يفيد الأمان إلا إذا رأى الإمام مصلحة في دخول التجار .
وحكم الأمان إذا انعقد عصمة المؤمن من القتل والسبي فإن قتله قاتل ضمن بما يضمن له الذمي ، ولا يتعدى الأمان إلى ما خلفه في دار الحرب من أهل ومال ، وأما الذي معه منهما فإن وقع التعرض لأمانه اتبع الشرط وإلا فالأرجح أن لا يتعدى الأمان إلى ذلك .
وقد بقي في الآية مسألة أصولية هي أن المعتزلة استدلوا بالآية على أن كلام الله تعالى هو هذه الحروف المسموعة ويتبع ذلك أن يكون كلامه محدثاً لأن دخول هذه الحروف في الوجود على التعاقب .
وأجيب بأن هذه المسموعة ليس كلام الله بالاتفاق فيجب ارتكاب التجوز ألبتة ، ونحن نحمله على أنها هي الدالة على الكلام النفسي فلهذا أطلق عليها أنها كلام الله كما أن الجبائي قال : إن كلام الله شيء مغاير لهذه الحرونف والأصوات وهو باقٍ مع قراءة كل قارىء .
وزعم بعض الناس حين رأوا أنه تعالى جعل كلامه مسموعاً أن هذه الحروف والأصوات قديمة ليلزم قدم كلامه تعالى وفيه ما فيه ، ثم أكد المعاني المذكورة من أول السورة إلى هنهنا فقال على سبيل الاستنكار والاستبعاد ) كيف يكون للمشركين عهد ( المرفوع اسم كان وفي خبره(3/434)
" صفحة رقم 435 "
ثلاثة أوجه : الأول ) كيف ( وقدم للاستفهام ، الثاني ) للمشركين ( وعند على هذين ظرف للعهد أو ليكون أو للجار أو هو وصف للعهد .
الثالث الخبر ) عند الله ( و ) للمشركين ( تبيين أو متعلق ب ) يكون ( و ) كيف ( حال من العهد يعني محال أن يثبت لهؤلاء عهد وهم أضداد لكم يضمرون الغدر في كل عهد ، فلا تطعموا ف يالوفاء منهم ولا تتوانوا في قتلهم .
ثم استثن منهم المعاهدين عند المسجد الحرام الذينلم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة ثم بيّن حكمهم فقال ) فما استقاموا لكم ( في ( ما ) وجهان : أحدهما أن تكون زمانية وهي المصدرية على التحقيق أي استقيموا لهم على مثله .
) إن الله يحب المتقين ( فيه إشارة إلى أن الوفاء بالعهد ولاستقامة عليه من أعمال المتقين .
ثم كرر الاستبعاد فقال ) كيف ( وحذف الفعل لكونه معلوماً أي كيف يكون لهم عهد ) و ( حالهم أنهم ) إن يظهروا عليكم ( أي يغلبوكم ، ويظفروا بكم وذلك أن الغلبة من الكمال عند الشخص وكل من تصور في نفسه كمالاً فإنه يريد أن يظهر ذلك لغيره فأطلب الظهور على الغلبة لكونه من لوازمها ) لا يراقبوا ( لا يراعوا ) فيكم ( ولا ينتظروا بكم ) إلا ولا ذمة ( قال في الصحاح : الأل العهد والقرابة .
ووجه ذلك في الكشاف بأن اشتقاقه من الأل هو الجؤار والأنين لنهم إذاتحالفوا رفعوا به أصواتهم ، وسميت به القرابة لأنها تقعد بين الرجلين ما لا يعقده الميثاق .
وفي الصحاح أيضاً أن الأل بالكسر من أسماء الله عزّ وجلّ .
وفي الكشاف أنه قرئ ( إيلا ) بمعناه .
وقيل : جبرئيل وجبرئلّ من ذلك .
وقيل : منه اشتق الأل بمعنى القرابة كما اشتقت الرحمن من الرحمن .
قال الزجاج : الأل عندي على ما توجبه اللغة يدور على معنى الحدّة من ذلك الألة الحربة ، وأذن مؤللة محدّدة .
ومعنى العهد والقرابة غي رخارج من ذلك ، والذمة العهد وجمعها ذمم وذمام وهو كل أمر لزمك وكان بحيث لو ضيعته لزمك مذمة .
وقال أبو عبيدة : الذمة ما يتذمم منه أي ما يجتنب فيه الذم .
قال في الكشاف ) يرضونكم ( كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرر لاستبعاد الثبات منهم على العهد وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل .
ثم قال سبحانه ) وأكثرهم فاسقون ( عن ابن عباس : لا يبعد أن يكون بعض هؤلاء الكفار قد أسلم وتاب فلهذا لم يحكم بالفسق على الكل .
والظاهر أنه أراد أن أكثرهم فساق في دينهم لا يتحرزون عن الكذب ونقض العهد الذي هو مذموم في جميع الأديان والنحل ) اشتروا ( استبدلوا ) بآيات الله ( بالقرآن أو بالإسلام ) ثمناً قليلاً ( هو اتباع الأهواء ) فصدوا عن سبيله ( فصرفوا عنه غيرهم وعدلوا هم(3/435)
" صفحة رقم 436 "
أنفسهم .
قال مجاهد أراد الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطمعهم .
وقيل : يبعد أن يراد طائفة من اليهود الذين أعونوا المشركين على نقض العهود ، فإن هذا اللفظ من القرآن كالأمر المختص باليهود ولأنه وصفهم بقوله ) لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ( ولو أراد المشركين كان تكراراً ) وأولئك هم المعتدون ( المتجاوزون حدود الله في دنيه وما يوجبه العهد والعقد .
ثم قال ) فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ( فإن كان هذا في اليهود وما ذكره قبل في الكفار فلا تكرار ، وإن كان كلاهما في الكفار فجزاء الأول تخلية سبيلهم وجزاء الثاني قوله ) فإخوانكم ( أي فهم إخوانكم ) في الدين ( فلم يكن من التكرار في شيء .
قال ابن عباس : حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة : ( ونفصل الأيات ( نبينها ) لقوم يعلمون ( لأنهم هم المنتفعون بالبيان .
وهذه جملة معترضة تفيد الحث على التأمل في أحكام المشركين وعلى المحافظة على مواردها ) وإن نكثوا ( يعني هؤلاء التائبين ) أيمانهم نبعد عهدهم ( أي من بعد إسلامهم حتى يكونوا مرتدين ، أو المراد نكث المشركين عهودهم ومواثيقهم .
والنكث نقض طاقات الخيط من بعد برامه .
) وطعنوا في دينكم ( ثلبوه وعابوه ) فقاتلوا أئمة الكفر ( هي جمع إمام وأصلها ( أأممة ) كمثال وأمثلة نقلت حركة الميم إلى الهمزة وأدغمت الميم في الميم ، وهو من وضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أن من كان بهذه المثابة من الغدر وقلة الوفاء وعدم الحياء فهو عريق في الكفر متقدم فيه لا يشق كافر غباره .
وقيل : خص سادتهم بالذكر لأن منسواهم يتبعهم لا محالة .
ثم أبدى غرض التقال بقوله ) لعلهم ينتهون ( ليعلم أن الباعث على قتالهم هو ردهم إلى طاعة معبودهم رحمة عليهم لا أمر نفساني وداعٍ شهواني ووسط بين الأمر بالقتال وبين الحامل عليه قوله ) إنهم لا أيمان لهم ( تنبيهاً على العلة الفاعلية للقتال ، أثبت لهم الأيمان أوّلاً في الظاهر حيث قال ) وإن نكثوا أيمانهم ( ثم نفاها عنهم في الحقيقة لأن إيمانهم ليست مما يعد أيماناً إذ لم يوفر بها .
وبهذا تمسك أبو حنيفة في أن يمين الكافر لا تكون يميناً ، وعند الشافعي يمينهم يمين لأنه تعالى وصفها بالنكث ولو لم تكن منعقدة لم يتصور نكثها .
ومن قرأ ) لا إيمان ( لهم بالكسر أي لا إسلام لهم أو لا يعطون الأمان بعد الردة والنكث فظاهر .
قال العلماء : إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعناً ظاهراً جاز قتله لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة .
ثم شرع في ذكر سائر الأسباب المحرّضة على القتال فقال ) ألا تقاتلون ( قال أهل المعاني : إذا قلت : ألا تفعل كذا .
فإنما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده .
وإذا قلت : ألست تفعل تقول فى ذلك في فعل تحقيق وجوده .
والفرق أن ( لا ) ينفي بها(3/436)
" صفحة رقم 437 "
المستقبل فإذا دخلت عليه الألف صار تحضيضاً على فعل ما يستقبل و ( ليس ) مستعمل في نفي الحال فإذا دخلت عليه الألف صار لتحقيق الحال .
قال ابن إسحق والسدي والكلبي : نزلت في كفار مكة نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة وهموا بإخراج الرسول من مكة حتى هاجر أو من المدينة .
يريد اليهود هموا بإخراجه منها ونكثوا عهده وظاهروا أبا سفيان عليه ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الأحزاب .
وقيل : همت قريش يوم الحديبية بأن يدخلوه ( صلى الله عليه وسلم ) مكة ثم يخرجوه قبل أن يتم حجه استخفافاً به ( صلى الله عليه وسلم ) ، وعلى هذا أريد بالهم العزم على الفعل وإن لم يوجد ) وهم بدؤكم أول مرّة ( بالتقال يعني يوم بدر لأنهم حين سلم العير قالوا : لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه .
أو المراد أنهم قاتلوا حلفاءه من خزاعه ، أو المراد أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) جاءهم أولاً بالكتاب المنير وتحداهم به فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى املقاتلة والبادئ أظلم .
والحاصل أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وغخراج الرسول البدء للقتال حقيق بأن لا تترك مقاتلته وأن يوبخ من فرط فيها .
ثم زاد في التوبيخ فقال فيه ) أتخشونهم ( تقريراً للخشية منهم وتقوية لداعية القتال كما إذا قلت للرجل : أتخشى خصمك لأنه يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفاً من خصمه .
ثم بيّن ما يجب أن يكون الأمر عليه قائلاً ) فالله أحق من أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ( يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا الله ، لأن قدرته أتم وعقابه أشدّ بل لا قدرة إلا له ولا يكون إلا ما يريد .
وفي الفاء نوع من التعليل لأن الاستفهام في معنى النهي كأنه قيل : لا تخشوهم لأن الله أحق بالخشية وأحرى بالطاعة ، وفيه نوع مجازاة كأنه قيل : إن صح أنكم مؤمنون فلا تخشوا إلا الله .
ثم زاد في تأكيد الأمر بالقتال فقال ) قاتلوهم ( ورتب عليه خمس نتائج : الأولى : قوله ) يعذبهم الله بأيديكم ( أي القتل والأسر واغتنام الأموال ، وهذا لا ينافي ) وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) [ الأنفال : 33 ] لأنه أراد هناك عذاب الاستئصال .
قالت الأشارعة : في الآية دلالة على أن الذي يدخل في الوجود من الأفعال كلها من الله يظهرها على أيدي العباد .
واعترض الجبائي بأنه لو كان كذلك لجاز أن يقال : كذب الله أنبياءه على لسان الكفرة .
وأجيب بأن الأمر كذلك عندنا إلا أنا لا نقوله رعاية للأدب كما لا يقال يا خالق الخنافس والحشرات .
وكما أنكم لا تقولون يا مسهل أسباب الزنا واللواط ويا دافع الموانع عنها .
الثانية : ( ويخزهم ( قيل : هو الأسر وقيل : المراد ما نزل بهم من الذل والهوان حين شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين وهو قريب من الأول .
أو هو هو .
وقيل : هو عذاب الآخرة .
والثالثة : ( وينصركم عليهم ( أورد عليه أن النصر يستتبعه إزاء الخصم فأي حاجة إلى إفراده بالذكر ؟ والجواب(3/437)
" صفحة رقم 438 "
أن المغايرة كافية في إفراد كل من المتلازمين بالذكر على أنه من المحتمل أن يحصل لهم الخزي من جهة المؤمنين إلا أن المؤمنين يحصل لهم آفة لسبب آخر ، فلما وعدهم النصر على الإطلاق زال ذلك الاحتمال .
الرابعة : ( ويشف صدور قوم مؤمنين ( هم خزاعة .
وعن ابن عباس : بطون من اليمن وسبأ ، قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديداً فبعثوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يشكون إليه فقالك أبشروا فإن الفرج قريب .
الخامسة : ( ويذهب غيظ قلوبهم ( قيل : شفاء الصدر وإذهاب غيظ القلب كلاهما بمعنى فيكون تكراراً .
والجواب أن القب أخص من الصدر كقوله :
يا دار ميَّة بالعلياء فالسند
أو شفاء الصدر إشارة إلى الوعد بالتفح ، ولا ريب أن الانتظار شاق وإن كان مع الثقة بالموعود فإذهاب غيظ القلب إشارة إلى الفتح وقد حصل الله لهم هذه المواعيد كلها وكان ذلك دليلاً على صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإعجازه .
ثم قال ) ويتوب الله على من يشاء ( وهو ابتداء كلام للأخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره وقد وقع ، فقد أٍلم ناس منهم وحسن إسلامهم .
وقرىء ) ويتوب ( بالنصب بإضمار ( أن ) ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى كقوله ) فأصدق وأكن ) [ المنافقون : 10 ] أما أن التوبة كيف تقع دزاء للمقاتلة فذلك من قبل الكفرة واضح فإن القتال كان شاقاً على بعضهم فإذا أقدم عليه صار ذلك العمل جارياً مجرى التوبة عن تلك الكراهة .
وأيضاً أن حصول النصر والظف رإنعام عظيم والعبد إذاشاهد توالي النعم لم يبعد أن يصير ذلك داعياً له إلى أن يتوب عن جيم عالذنوب وقد تصير كثرة المال والجاه سبباً لتحصيل اللذات بالطريق الحلال فينتهي عن الحرام .
وأيضاً الإنسان حريص على ما منع فإذا انفتحت عليه أبواب الخيرات الدنيوية فربما يصير ذلك سبباً لانقباضه عن الدنيا وإعراضه عنها وهذا هو أحد الوجوه التي ذكروها في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان ) رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ) [ ص : 35 ] يعني بعد حصول هذا الملك لا ينبغي للنفس الاشتغال بالدنيا ) والله عليم ( بكل ما يجري في ملكه وملكوته ) حكيم ( مصيب في أفعاله وأقواله وأحكامه المذكورة مشاكلة لتلك الأحوال .
واستبعده الحسن لأن هذه السورة نزلت بعد فتح مكة بسنة .
ثم بين أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال وإنما المقصود أن يؤتى به انقياداً لأمر الله ولتكاليفه ليظهر المخلص من المنافق فقال ) أم حسبتم ( الآية .
وقد مرّ وجه إعرابه في آل عمران عند قوله ) أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولم يعلم الله(3/438)
" صفحة رقم 439 "
الذين جاهدوا ) [ آل عمران : 142 ] .
وقوله ( ولم يتخذوا ( معطوف على ) جاهدوا ( داخل في حيز الصلة .
والوليجة لبطانة يعني الحبيب الخالص ( فعلية ) من ولج كالدخيلة من دخل ، أو هو الرجل يكون في القوم وليس منهم .
قال الواحدي : يقال هو وليجتي وهم وليجتي يستوي فيه الواحد والجمع .
ومعنى الآية لاتحسبوا أن تتركوا على ما أنتم عليه وسلم يظهر بعد معلوم الله من تميز المجاهدين المنافقين من المجاهدين الخلص الذين جاهدوا لوجه الله ولم يتخذوا حبيباً من الذين يضادون رسول الله والمؤمنين .
ثم ختم الآية بقوله ) والله خبير بما تعملون ( ليلعموا أنه لم يزل عالماً بالأشياء لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فيجدّوا في استقامة السيرة ويجتهدوا في نقاء السريرة .
التأويل : ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم ( من النفوس المشركة التي اتخذت الهوى وصنم الدنيا معبوداً فهادنها الروح والقلب في أوان الطفولية لاستكمال القالب وتربيته ) فسيحوا ( في أرض البشرية ) أربعة أشهر ( هي مدة كمال الأوصاف الناسوتية ) يوم الحج الأكبر ( يوم الوصول إلى كعبة الجمال والحج الأصغر الوصول إلى كعبة القلب إن زيادرة كعبة الوصال حرام على مشركي الصفات الناسوتية ) فإن تبتم ( عن الناسوتية بإفنائها في اللاهوتية ) فهو خير لكم ( من قيامكم بالناسوت ) وإن توليتم ( ركنتم إلى غير الله ) فاعلموا أنكم غير معجزي الله ( عن التصرف فيكم .
أما لأهل السعادة فبالجذبات الأزلية ، وأما لأهل الشقاوة فبأليم عذاب القطيعة ) إلا الذين عاهدتهم ( أيها القلوب والأرواح من مشركي النفوس على التوافق في العبودية ) ثم لم ينقصوكم ( شيئاً من وظائف الشريعة ) ولم يظاهروا عليكم أحداً ( من الشيطان والدنيا ) فأتموا إليهم عهدهم ( بالمداراة والرفق إلى أوان طلوع قمر العناية ونجم الجذبة والهداية .
) فإذا انسلخ الأشهر الحرم ( استكملت مدة التربية تمام الأوصاف الأربعة ) فاقتلوا ( النفوس المشركة بسيف النهي عن الشهوات ) حيث وجتموهم ( في الطاعة بأن تكلفوها إياها وفي المعصية بأن تزجروها عنها ) وخذوهم ( بآداب الطريقة ) واحصروهم ( احبسوهم في حصار الحقيقة ) واقعدوا لهم كل مرصد ( راقبوهم في الأحوال كلها ) فإن تابوا ( رجعوا إلى طلب الحق ) وأقاموا الصلاة ( أدّوا حق العبودية ) وآتوا الزكاة ( تزكت عن الأخلاق الذميمة ) فخوا سبيلهم ( اتركوا التشديد عليهم بالرياضات ليعلموا بالشريعة بعد الوصول إلى الحقيقة فإن النهاية هي الرجوع إلى البداية ) وإن أحد ( من مشركي صفات النفس ) استجارك ( يا قلب لترك ما هو المخصوص به من الصفات الذميمة ) فأجره حتى يسمع(3/439)
" صفحة رقم 440 "
كلام الله ( حتى يلهم بإلهام ) ثم أبلغه مأمنه ( وهو وارد الجذبة الإلهية ، وإن الجذبة إذا تعلقت بصفة من صفات النفس تنجذب النفس بجميع صفاتها ) ذلك بأنهم قوم لا يلمون ( الله وأسراره فلا يميلون إليه ويعلمون الدنيا وشهواتها فيركنون إليها .
) كيف يكون ( لمشركي النفوس ثبات على العهد وقد جبلت ميالة غلى السفليات وغايتها بعد إصلاح حالها أن تميل إلى نعيم الجنات ) إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ( وهو مقام الوصول المحرم على أهل الدنيا وهو مقام أهل الله وخاصته ، الذين تنورت نفوسهم بأنوار الجمال والجلال فيثبتها الله على العهد بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) فما استقاموا لكم ( على الصراط المستقيم ) فاستقيموا لهم ( بشرحها في متس رياض الشريعة ) ولا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ( لا يحفظون حقوق الجنسية فإن الأرواح والقلوب والنفوس مزدوجة في عالمي الأمر والخلق ) يرضكونكم ( الأعمال الظاهرة ) وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ( فيما يعملون خارجون عن الصدق والإخلاص ) اشتروا ( بدلالات توصلهم إلى الله ) ثمناً قليلاً ( من متاع الدنيا ومصالحها ) فصدّوا عن سبيله ( قطعوا طريق الحق على الأرواح والقلوب ) فإخوانكم في الدين ( رفقاؤكم في طلب الحق فارعوا حقوقهم فإن لنفسك عليك حقاً .
) لقوم يعلمون ( أن السير إلى الله من أعظم المقامات وأهم المهمات ) وطعنوا في دينكم ( أنكروا مذهب السلوك ) أئمة الكفر ( النفوس ) وهموا بإخراج الرسول ( يعني الواردات الغيبية بانسداد رومة القلب ) أول مرّة ( في أوان الطفولية .
) أتخشونهم ( في فوات حظوظهم ) فالله أحق أن تخشوه ( بفوات حقوقها .
) ويذهب غيظ قلوبهم ( يعني وحشة الأرواح والقلوب وكدورتها ) ويتوب الله على من يشاء ( بالرجوع إلى الحق قبل التمادي في الباطل من غير حاجة إلى رياضة شديدة ) والله عليم ( باستعدادات النفوس ) حكيم ( فيما يدبر لكل منها .
) أم حسبتم ( أيها النفوس الأمارة ) أن تتركوا ( بلا رياضة ) وليجة ( أولياء من الشيطان والدنيا والهوى .
( التوبة : ( 17 - 28 ) ما كان للمشركين . . . .
" ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات(3/440)
" صفحة رقم 441 "
لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم "
( القراآت )
مسجد الله ( ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب .
الباقون : على الجمع ) يبشرهم ( خفيفاً : حمزة ) وعشيراتكم ( على الجمع : أبو بكر وحماد وجبلة ) وضاقت ( ونحو ممالة : حمزة ) رحبت ثم ( مظهراً : أبو جعفر ونافع وابن كثير وخلف ويعقوب وعاصم غير الأعشى .
الوقوف : ( بالكفر ( ط ) أعمالهم ( ج لعطف المختلفين ) خالدون ( ه ) المهتدين ( ه ) في سبيل الله ( ط ) عند الله ( ط ) الظالمين ( ه لئلا يشتبه بالوصف ) وأنفسهم ( لا لأن ما بعده خبر ( الذين ) ) عند الله ( ط ) الفائزون ( ه ) مقيم ( ه لا لأن ما بعده حال ) أبداً ( ط ) عظيم ( ه ) على الإيمان ( ط ) الظالمون ( ه ) بأمره ( ط ) الفاسقين ( ه ) كثيرة ( لا لعطف الظرف على الظرف ) حنين ( لا لأن ( إذ ) ظرف ) نصركم ( .
) مدبيرين ( ه ج للآية والعطف .
) كفروا ( ط ) الكافرين ( ه ) من يشاء ( ط ) رحيم ( ه ) هذا ( ج ) إن شاء ( ط ) حكيم ( ه .
التفسير : إنه سبحانه بدأ السورة بذكر البراءة من المشركين وبالغ في إيجاب ذلك بتعداد فضائحهم وقبائحهم ، ثم أراد يحكي شبهاتهم التي كانوا يحتجون في أن هذا البراءة غير جائز مع الجواب عنها .
قال المفسرون : لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه(3/441)
" صفحة رقم 442 "
المسلمون فعيروه بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ علي رضي الله عنه له القول فقال العبّاس : ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا ؟ فقال علي عليه السلام ألكم محاسن ؟ فقال : نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني فأنزل الله تعالى رداً عليهم ) ما كان للمشركين ( ما صح لهم وما استقام ) أن يعمروا مسجد الله ( يعني المسجد الحرام .
ومن قرأ على الجمع فإما أن يراد جميع المساجد فيشمل المسجد الحرام أيضاً الذي هو أشرفها وهذا آكد لأن طريقه طريق الكناية كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله كنت أنفي لقراءةه القرآن من تصريحك بذلك ، أو يراد المسجد الحرام وجمع لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد ، أو لأن بقعة منه مسجد .
قال الفراء : العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم : فلان كثير الدرهم ، وبالعكس كقولهم : فلان يجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا ملكاً واحداً .
وعمارة المسجد إما لزومه وإما كثرة إتيانه للصلاة والاعتكاف ، ولا شك أنه ليس للمشرك ذلك وإما مرمته وتعهده ، وليس للمشرك هذا أيضاً لأنه يجري مجرى الإنعام على المسلمين ولا ينبغي أن يكون للكافر منه على أهل الإسلام ، ولأن دخوله المسجد يؤدي إلى تلوث المسجد إما لكونه نجساً في الحكم ، وإما لأنه قلما يحترز من النجاسات .
وما روي أنه صلى الله عليه وآله أنزل وفد ثقيف في المسجد وهم كفار وشدّ ثمامة بن أثال الحنفي على سارية من سواري المسجد محمول على تعظيم شأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه أراد أن يكون ذلك بمحضر منه وهو في المسجد .
وقوله ( شاهدين على أنفسهم ( حال من الواو في ) يعمروا ( والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين : عمارة معابد الله مع الكفر به .
وفي تفسير هذه الشهادة أقوال أصحها أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان وتكذيب النبي والقرن ولهذا قال السدي : هي أن النصراني إذا قيل له ما أنت ؟ قال : نصراني .
واليهودي يقول : يهودي ، وعابد الوثن يقول : أنا عباد الوثن .
وقيل : هي قولهم في طوافهم ( لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ) .
وعن ابن عباس أنه قال : المراد أنهم يشهدون على محمد بالكفر .
وإنما جاز هذا التفسير لقوله تعالى ) لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) [ التوبة : 128 ] ثم بيّن تعالى ما هو الحق في هذا الباب فقال لا يفيد مع الكفر طاعة لأن الكفر يوجب عقاب الأبد ولهذا قال ) وفي النار هم خالدون ( ولإفادة هذا التركيب الحصر احتجت الأشاعرة به على خلاص صاحب الكبيرة .
ثم وصف من له استئهال عمارة المسجد فقال ) إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ( لأن(3/442)
" صفحة رقم 443 "
المرء ما لم يعرف المبدأ والمعاد لا يصح منه التوجه إليه .
وإنما طوى ذكر الرسول تنبيهاً على أنه واسطة والتوجه الحقيقي من الله وإلى الله ولهذا ورد في الحديث : ( المصلي يناجي ربه ) .
وقيل : إن المشركين كانوا يقولون إن محمداً أدّعى رسالة الله طلباً للرياسة والملك فلنفي هذه التهمة ترك ذكره ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل : دل عليه بقوله ) وأقام الصلاة وآتى الزكاة ( لأنهما معلومتان من أفعاله ( صلى الله عليه وسلم ) ولما في الصلاة من التشهد وقبلها الأذان والإقامة .
ثم إن إقامة الصلاة لا ريب أن فيها عمارة المسجد والحضور فيه ، وأما إيتاء الزكاة فإنما كان سببباً للعمارة لأنه يحضر المسجد طوائف الفقراء والمساكين لأخذ الزكاة ، ولأن إيتاء الزكاة واجب وبناء المسجد وإصلاحه نفل والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لم يشتغل بالنافلة ، فلو لم يكن مؤدياً للزكاة فالظاهر أنه لم يشتغل بعمارة المسجد .
ثم قال ) ولم يخش إلا الله ( ليعلم أنه لو أتى المسجد وبناه رياء وسمعة لم يكن عامراً له .
فعلى المؤمن أن يختار في جميع الأحوال رضوان الله على غيره فإن ذلك لو ضره في العاجل فسينفعه في الآجل وفي إدخال كلمة ( إنما ) في صدر الآية تنبيه على أن من لم يكن موصوفاً بالصفات المذكورة لم يكن من أهل عمارة المسجد ، وأن المسجد يجب صونه عن غيره العبادة .
فقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش ) وقال صلى الله عليه وآله : قال الله تعالى : ( إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زوّاري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بتيه ثم زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره ) ومن عمارة المساجد تعظيمها والدرس فيها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح .
فعن أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه ) .
وفي قوله ) فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ( حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم فإن الموصوفين بالصفات المذكورة إذا كان اهتداؤهم المستعقب لصلاح حالهم في الدارين دائراً بين عسى ولعل فما ظنك باهتداء المشركين ومغبتهم ؟ وفيه أن المؤمن يجب أن لا يغتر بالله عزّ وجلّ .
هذا وقد مر أن بعض الأمة ذهبوا إلى أن ( عسى ) من الله الكريم واجب .
وقال بعضهم : إن الرجاء راجع إلى العباد .
ثم إنه قال ) أجعلتم سقاية الحاج ( ومعناه هبوا أن عمارة المسجد وسقي الحجيج يوجب لكم نوعاً من الفضيلة إلا أن هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد شيء(3/443)
" صفحة رقم 444 "
نزر .
قال المفسرون : إنها نزلت في مناظرة جرت بين فريقين إلا أنهم اختلفوا فقيل : ( كافر ) و ( مؤمن ) لقوله ) كن آمن ( وقصة ما مر أن العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر قال : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لفقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج .
وروي أن المشركين قالوا لليهود : نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه ؟ فقالت اليهود لهم : أنتم أفضل. وقيل : إن كلا الفريقين مؤمن لقوله ) أولئك أعظم درجة ( وهذا يقتضي أن يكون للمفضول أيضاً درجة .
وقصته ما روى عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رجل : لا أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أسقي الحاج .
وقال الآخر : ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمر المسجد الحرام .
وقال آأخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم : فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك يوم الجمعة ولكني إذا صليت دخلت فاستفتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله الآي .
ويروى عن الحسن والشعبي أن طلحة قال : أنا صاحب البيت بيدي مفاتحة ولو أشاء بت فيه .
وقال العباس : وذلك بعد إسلامه أنه صاحب السقاية والقائم عليها .
وقال عليّ رضي الله عنه : ما أدري ما تقولان لقد صليت ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فنزلت .
وعن ابن سيرين : قال عليّ رضي الله عنه للعباس بعد إن كان أسلم : ألا تهاجر ألا تلحق بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ ففقال : ألست في أفضل من الهجر ، ألست أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام ؟ فنزلت هذه الآية .
فقال العباس : ما أراني إلا ترك سقايتنا .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً ) .
والسقاية والعمارة مصدران من سقي وعمر ، ولا بد من تقدير مضاف أي أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن ، أو أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كخصال من آمن ؟ ثم كان لسائل أن يسأل ما بال أحد الفريقين لا يشبه بالآخر فلا جرم قال مستأنفاً ) لا يستوون عند الله ( ثم صرح بالمفضول فقال ) والله لا يهدي القوم الظالمين ( أي المشركين ) إن الشرك لظلم عظيم ( وأي ظلم أشنع من وضع أخس الموجودات وهو الأصنام مقام أشرفها وهو الله سبحانه .
وإنما لم يهدهم الله لعدم قابلية وقع في استعدادهم الفطري .
وذلك لكونهم مظاهر القهر فافهم .
ثم صرح بالفريق الفاضل فقال ) الذين آمنوا ( الآية. ثم من قال إن الفريقين المتناظرين كافر ومؤمن أورد عليه أن قوله ) أعظم درجة ( وجب أن يكون للمفضول أيضاً درجة ولكنه ليس للكافر درجة. وأجيب بأن هذا وارد على حسب ما كانوا يقدرونه لأنفسهم من الدرجة والفضيلة نظيره(3/444)
" صفحة رقم 445 "
قوله ) أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم ( أو المراد أنهم أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بالهجرة ولا الجهاد وإن كان مؤمناً فضلاً عن الكافر. أو المراد ترجيح الإيمان والهجرة والجهاد على السقاية والعمارة. ولا شك أنهما من أعمال والخير وموجبان للثواب لولا الكفر. وفي قوله ) عند الله ( تشريف عظيم لقوله ) ومن عندهلا يستكبرون عن عبادته ( وكذا في قوله ) وأولئك هم الفائزون ( لدلالته على انحصار الفوز فيهم. ثم فسر الفوز بقوله ) يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات ( التنكير فيها يفيد أنها وراء وصف الواصف ، قال المتكلمون : الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فالتبشير بالرحمة والورضوان إشارة إلى غاية التعظيم ونهاية الإجلال والجنات إشارة إلى حصول المنافع العظيمة. وقوله ( لهم بها نعمي ( إشارة إلى خلوص تلك المنافع عن شوائب الكدورات. ثم عبر عن دوامها بثلاثة ألفاظ مؤكدات أولها ) مقيم ( وثانيها ) خالدين ( وثالثها ) أبداً ( وقال أهل التحقيق : الفرح بالنعمة قد يكونن من حيث إنها نعمة وقد يكون من حيث إن المنعم خصه بها كالسلطان إذا أعطى بعض الحاضرين تفاحة مثلاً ، ثم النعمة قد تكون حسية وقد تكون عقلية فقوله ) يبشرهم ربهم ( إشارة إلى أعلى المراتب وهو مقام العارفين الذين نظرهم على مجرد سماع البشارة لا على المبشر به. وقوله ( برحمة منه ورضوان ( أشارة المرتبة الوسطى وهم العاكفون على عتبة اللذات الروحانية العقلية. وقوله ( جنات ( إلى آخره إشارة إلى المرتبة السفلى وهم الواقفون عند ساحات مواقع اللذات الحسيات. وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن الذين رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها يبشركم بخيرات دائمة وسعادات باقية لا حصل لها. ويجوز أن تكون الرحمة إشارة إلى رضا العبد بقضائه فيسهل عليه الغموم والآفات ، والرضوان إشارة إلى رضاه عن العبد فيكون كقوله ) ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) [ الفجر : 28 ] ثم أكد المعاني المذكورة بقوله ) الله عنده أجر عظيم ( وفي تصدير الجملة الاسمية بأن وفي لفظ ( عند ) وتقديمه وتنكير ( أجر ) ووصفه بالعظم مبالغات لا تخفى. قال الكلبي : لما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الناس بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه ولأخيه ولقرابته إنا قد أمرنا بالهجرة فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه ، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده فيقولون : ننشدك الله أن لا تدعنا إلى غير شيء فنضيع فيرق فيجلس معهم ويدع فنزل فيهم ) يا أسها الذين آمنوا لا تتخذوا ( الآيتين. وذكروا في وجه النظم أن هذه الآية جواب عن شبهة أخرى قالوها وهي أنه كيف يمكن دعوى البراءة من الكفارة وبينهم وبين المسلمين قرابات ومواصلات ومعاملات ؟ فذكر الله تعالى أن الانقطاع(3/445)
" صفحة رقم 446 "
عن الآباء والأبناء والإخوان واجب بسبب الكفر. ومعنى استحبوا اختاروا وهو في الأصل طلب المحبة. ثم إن النهي كان يحتمل أن يكون نهي تنزيه لا تحريم فلإزالة الوهم ختم الآية بقوله ) ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ( قال ابن عباس : يريد أنه يكون مشركاً مثلهم لأن الرضا بالشرك شرك. وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله حتى يحب في الله أبعد الناس ويبغض في الله أقرب الناس ). وعن ابن عباس : هي في المهاجرين خاصة كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم. . فقالوا : يا رسول الله إن نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهب تجارتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا ضائعين فنزلت ) قل إن كان آباؤكم ( الآية. فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه وأبوه وأخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ثم رخص لهم بعد ذلك. وقيل : نزلت في أهله الأدنون وهم الذين يعاشرونه. ومن قرأ على الوحدة فلأن العشيرة اسم جمع. ومن قرأ على الجمع فلأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة. قال الأخفش : لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات وإنما يجمعونها على عشائر القرآن حجة عليه. والاتقراب الاكتساب والتركيب يدور على الدنو والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه. والترتيب المذكور في الآية غاية الحسن لأن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة القريبة ثم البعيدة ، ثم إنه يتوسل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال المكتسبة ثم إلى التجارات المثمرة ، وفي آخر المراتب الرغبة في الأوطان التي بنيت للسكنى ، فبيّن تعالى أنه يجب تحمل هذه المضار في الدنيا ليبقى الدين سليماً ، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى عندهم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله ) فتربصوا ( انتظروا بما تحبون ) حتى يأتي الله بأمره ( عن الحسن هو عقوبة عاجلة أو آجلة. وقيل : يعني القتال. وعن ابن عباس : هو فتح مكة وفيه بعد لما روي أن هذه السورة نزلت بعد فتح مكة ) والله لا يهدي القوم لافسقين ( الخارجين عن طاعة الله إلى معصيته ولا يخفى ما فيه من التهديد. ثم لما أوجب ترك مصالح الدنيا لأجل الدين أراد أن يبين أن كل من أعرض عن الدنيا لأجل مصالح دينه فإن الله تعالى يراعي مصالح دنياه فيفوز بسعادة الدارين وضرب لنا مثلاً فقال ) لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ( قال الواحدي : النصر المعونة على الأعداء(3/446)
" صفحة رقم 447 "
خاصة ، والمواطن جمع موطن وهو كل موضع أقام به الإنسان لأمر. ومواطن الحرب مقاماتها ومواقعها. وامتناعها من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع ولا هاء كمساجد. والمواطن الكثيرة غزوات الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهي على ما في الصحاح تسع عشرة منها : غزوة بدر وقريظة والنضير واحد وغزوة الخندق وذات الرقاع وغزوة بني المصلطق وغزوة أنمار وغزوة ذي قرد وخيبر والحديبية والفتح. ) ويوم حنين ( أي يوم حنين. واستبعد صاحب الكشاف عطف الزمان على المكان فقال : معناه في أيام موةاطن كثيرة ويوم حنين ، وجوّز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين رضي الله عنه قال علي : أن الواجب أن يكون يوم ) حنين ( منصوباً بالفعل مضمر لا بهذا الظاهر أي ونصركم يوم حينين لأن قوله ) إذ أعجبتكم كثرتكم ( بدل من ) يوم حنين ( فلو جعلت ناصبه هذاالظاهر لم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع المواطن ولم يكونوا كثيراً في جميعها ، وجوّز أن يكون ( إذ ) منصوباً بإضمار ( اذكر ). قلت : ولعله لا حاجة إلى هذه التكلفات فلا استبعاد في عطف الزمان والمكان ، وما جعل بدلاً عن الزمان لا يلزم أن يكون بدلاً عن المكان حتى يكون الفعل الأوّل مقيداً بهما جميعاً. وحنين وداً بين مكة والطائف. قال المفسرون : لما فتح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان خرج متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف. واختلفوا في عدد عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حينئذ فعن عطاء عن ابن عباس كانوا ستة عشر ألفاً. وقال قتادة : كانوا اثني عشر ألفاً وعشرة الآف من الذين حضروا مكة وألفان من الطلقاء الأسارى الذين أعتقهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وقال الكلبي : كانوا عشرة آلاف. وبالجملة كانوا عدداً كثيرين وكانت هوازن وثقيف أربعة آلاف ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة. فهذه الكلمة ساءت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهي المراد من قوله ) إذ أعجبتكم ( وقيل : قالها أبو بكر. وقيل : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو بعيد لأنه كان في جميع الأحوال متوكلاً على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها. ثم قال ) فلم تغن عنكم شيئاً ( والإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة أي لم تعطكم كثرة شيئاً يدفع حاجتكم ولم تفدكم ) وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ( ( ما ) مصدرية والباء بمعنى ( مع ) والرحب السعة والجار والمجرور في موضع الحال أي متلبسة برحبها كقولك : دخلت عليه بثياب السفر ، والمعنى أنكم لشدة ما لحقكم من الرعب لم تجدوا في الأرض ذات الطول والعرض موضعاً يصلح لهربكم إليه وكأنها ضاقت عليكم ) ثم وليتم مدبرين ( أي انهزمتهم انهزاماً. قال البراء بن عازب : كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفا وأكببنا على(3/447)
" صفحة رقم 448 "
الغنائم فاستقبلونا بالساهم فانكشف المسلمون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحرث ، والذي لا إله إلا الله ما ولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دبره قط ، ولقد رأيته وأبو سفيان أخذ بالركاب والعباس آخذ بلجام الدابة وهو يقول : أنا النبيّ لا كذب انا ابن عبد المطلب وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي وكانت بغلته شهباء ثم قال للعباس : ناد المهاجرين والأنصار وكان العباس رجلاً صيتاً فنادى يا ألأصحاب الشجرة فرجعوا ونزلت الملائكة عليهم ثياب بيض وهم على خيول بلق ، وأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيده كفاً من الحصباء فرماهم بها وقال : شاهت الوجوه ، فما زال جدهم مدبراً وحدهم كليلاً ولم يبق منهم أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب فانهزموا وذلك قوله سبحانه ) ثم أنزل الله سكينته ( رحمته التي سكنوا بها وآمنوا ) على رسوله وعلى المؤمنين ( الذين كانوا انهزموا وعلى الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه سلم حين وقع الهرب. ) وأنزل الله جنوداً لم تروها ( يعني الملائكة ستة عشر ألفاً أو ثمانية آلاف أو خمسة آلاف على اختلاف الروايات. وعن سعيد بن المسيب قال : حدّثني رجل كان من المشركين يوم حنين : قال لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فملا انتهينا إلى صاحب البلغة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسان فقالوا : شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا وركبوا أكتافنا. واختلفوا في قتال الملائكة فقيل : قاتلوا. وقيل : ما قاتلوا إلا يوم بدر وإنما نزلوا في هذا اليوم لتكثير السواد ولإلقاء الخواط الحسنة في قلوب المؤمنين. ثم قال ) وعذب الذين كفروا ( أي بالقتل والأسر وأخذ الأموال وسبي الذراري. واحتجت الأشارة بإنزال السكينة وهي داعية السكون والثبات وبقوله ) وعذب ( على أن الدواعي والأفعال كلها بخلق الله تعالى. التغريب بقوله ) وذلك جزاء الكافرين ( واعمل أن الحنفية تمسكوا في مسألة الجلد مع وكون الجلد كافياً يمنع أن يكون غيره مشروعاً معه. وأجابت الشافعية بأنه قال تعالى في غير كافٍ لأن العذاب الآجل باقٍ. أما قوله ) ثم يتوب الله من بعد ذلك ( أي يسلم ناس منهم. روي أن ناساً جاؤوا تائبين فأسلموا وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبرهم وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أمخوالنا. قيل سبي يومئذ آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى. فقال : إن عندي ما ترون العساكر الفقراء وإن خير القول أصدقه ،(3/448)
" صفحة رقم 449 "
اختاروا وإما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم. قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً. فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إن هؤلاء جاؤوا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً. فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه. قالوا : رضينا وسلمنا فقال : إني لا أدري لعل فيكم منلا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا. فرفعت إليه ( صلى الله عليه وسلم ) العرفاء أن قد رضوا. ثم إنه سبحانه أجاب عن شبهة أخرى لهم وذلك أن علياً عليه السلام حين قرأ عليهم براءة فنبذ إليهم عهدهم قال أناس : يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات فقال تعالى ) يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ( قال في الكشاف : هو مصدر كالقذر ومعناه ذو ونجس. وقال الليث : إنه صفة يستوي فيه الواحد وغيره : رجل الوصف. واختلف في تفسير كون المشرك نجساً فعن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وعن الحسن من صافح مشركاً توضأ وهو قول الهادي من أئمة الزيدية. وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم واحتج القاضي على ذلك بما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) شرب من أوانيهم وبأنه لو كان نجس العين لما تبدلت النجاسة بسبب الإسلام ، وأوّلوا الآية بأ نمعناها أنهم لا يغتسلوا عن الجنابة ولا يتوضؤون عن الحدث ، أو أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب الاجتناب والاحتراز عنهم ، أو أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء ) فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ( وهي السنة التاسعة من الهجرة الت يوقع النداء فيها بالبراءة من المشركين واختلفوا في هذا النهي فعن أبي حنيفة وأصحابه أن المراد أن لا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلونه في الجاهلية ، والدليل عليه قول علي عليه السلام في النداء : ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك. وقال الشافعي : المراد المنع من الدخول فيه وهو ظاهر النصر. وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع من الدخول فيه. وقيل : المراد أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه ويعزلوا عن ذلك. وعن عطاء أن المراد بالمسجد راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه لقوله ) وإن خفتم عيلة ( أي فقراً بسبب منع المشركين وموضع التجارات ليس هو عين المسجد بل الحرم كله. ومن قال إن المراد منعهم من الحج قال إنهم إذا لم يحضروا الموسم لم يحصل للمسلمين ما كان لهم في قدومهم عليهم من الأرفاق والمكاسب فلهذا خافوا الفقر ، ثم وعدهم الله إزالة الفقر بقوله ) فسوف يغنيكم الله من فضله ( أي من تفضله بوجه آخر قال عكرمة : أنزل الله عليهم(3/449)
" صفحة رقم 450 "
المطر فكثر خيرهم. وعن الحسن : جعل الله لهم أخذ الجزية بدلاً عن ذلك. وقيل أغناهم من الفيء. وعن مقاتل : أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش وحملوا الطعام إلى مكة فكان ذلك أعود عليهم. واعلم أن هذا إخبار بالغيب وقد وقع فكان معجزاً. ومعنى ) إن شاء ( تعليم وإرشاد وأن لا يغتر المسلمون بذلك فيتركوا التضرع إلى الله واللجأ إليه ، وليعلم أن حصول ذلك لا يكون في كل الأوقات لأغراض ومقاصد لا يعلمها إلا ضابط الأمور ورابط الأسباب ، ولهذا ختم الآية بقوله ) إن الله عليم ( أي بأحوالكم ) حكيم ( لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب. التأويل : ما كان لمشركي النفوس الأمارة ) أن يعمروا مساجد الله ( وهي القلوب وهم مصرون على ما جبلوا عليه من التمرد وتعبد الهوى. ) حبط أعمالهم ( التي صدرت عنهم رياء وسمعة ) إنما يعمر ( القلوب ) من آمن بالله واليوم الآخر ( صدق بأن المقصود والمعبود هو الله ، وعمل لنيل السعادات الأخروية وأدام المناجاة مع الله بصدق الطلب ، وزكى نفسه عن الأخلاق الذميمة ولم يخف فوات الخطوط الدنيوية وإنما يخاف فوات الحقوق الإليهة. ) سقاية الحج ( خدمة هذه الطائفة للأغراض الفاسدة ) وعمارة المسجد الحرام ( الأعمال الموجبة لعمارة القلوب إذا كانت مشوبة بالرياء والهوى ) لا يستوون عند الله ( الطالبون والباطلون ) والله لا يهدي القوم الظالمين ( الذين يضعون الأعمال الصلاحة في غير موضعها ) الذين آمنوا ( أي القلوب المؤمنة ) وهاجروا ( أي الأرواح المهاجرة إلى القوالب ) وجاهدوا في سبيل الله ( الجهاد الأكبر ) بأموالهم وأنفسهم ( ببذل الموجود والوجود جميعاً ) يبشرهم ربهم ( بعد الخلاص عن حبس الوجود بتجلي صفات لطفه وجنات الشواهد والكشوف ) إن الله عنده أجر عظيم ( أي من وصل إلى مقام العندية فالله يعظم أجره ) لا تتخذا آباءكم ( الآيتان. فيهما إشارة إلى أن آثر محبة المخلوق على محبة الخالق فقد أبطل الاستعداد الفطري لقبول الفيض الإلهي. ) ويوم حينين ( أ ] حين حنت قلوبكم شوقاً إلى لقاء ربها وحسبتم أنكم تبغلونه بكثرة الطاعات ، وضاقت عليكم أرض الوجود ثم أعرضتم عن الطلب إذ احتجبتم بحجب العجب مدبرين إلى عالم الطبيعة الحيوانية ) ثم أنزل الله سكينته ( هي واردات ترد على الأرواح والقلوب فتسكن إلى ربها على رسول الروح وعلى القلوب المؤمنة ) وأنزل جنوداً ( من المواهب الربانية وعذب النفوس المتمردة باستعمالها في أحكام الشريعة وآداب العلاج بجذبة ) ارجعي ( ، ) إنما المشركون ( النفوس العابدة للدنيا والشيطان والهوى(3/450)
" صفحة رقم 451 "
) فلا يقربوا ( القلب بعد عامهم هذا ( وهو حالة البلوغ وجريان قلم التكليف على الإنسان ، نهى القلوب حينئذ عن اتباع النفوس وأمرها بقتالها ومنها عن طوافها لئلا تنجس كعبة القلب بنجاسة شرك النفس وأوصافها الذميمة ) وإن خفتم عيلة ( حظوظاً يستلذ بها عن اتباع النفس ) فسوف يغنيكم الله ( بعد انقطاع تصرفات النفس عن القلب بالواردات الربانية والكشوف الروحانية ) إن الله عليم ( بمستحقي فضله ) حكيم ( فيما دبر من قتال النفوس. ( التوبة : ( 29 - 37 ) قاتلوا الذين لا . . . .
" قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين "
( القراآت )
عزيز ابن ( بالتنوين مكسورة للسكانين : عاصم وعلي وسهل ويعقوب. الباقون : بغير تنوين ) يضاهئون ( بالهمز. عاصم. الآخرون ) يضاهون ( بحذف(3/451)
" صفحة رقم 452 "
الهمزة. ) أن يطفوا ( و ) ليواطوا ( بحذف الهمزة وفيهما. يريد وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة ) اثناعشر ( بسكون العين : يزيد والخزاز ) إنما النسي ( بالتشديد : ورش من طريق النجاري وحمزة في الوقف. الباقون : بباء بعدها همزة. ) يضل ( بضم الياء وفتح الضاد : علي وحمزة غير الغجلي وحفص وخلف لنفسه. ) يضل ( بضم الياء وكسر الضاد : العجلي وأوقية ورويس. الباقون ) يضل ( بفتح الياء وكسر الضاد. الوقوف : ( صاغرون ( ه ) المسيح ابن الله ( ط ) بأفواههم ( ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف ) من قبل ( ط ) قاتلهم الله ( ج ) يؤفكون ( ه ) ابن مريم ( ج لاحتمال الجملة بعده أن تكون حالاً واستئنافاً. ) واحداً ( ج لأنما بعده يصلح ابتداء ووصفاً ) إلا هو ( ط ) يشركون ( ه ) الكافرون ( ه ) كله ( لا تلعلق ( لو ) بما قبله ) المشركون ( ه ) عن سبيل الله ( ط ) في سبيل الله ( لا لتعلق الفاء ) ألليم ( ه لا أي في يوم. ) وظهورهم ( ط ) تكنزون ( ه ) حرم ( ط ) يقاتلونكم كافة ( ط ) المتقين ( ه ) فيحلوا ما حرم الله ( ط ) أعمالهم ( ط ) الكافرين ( ه. التفسير : إنه سبحانه لما ذكر شبهات المشركين وأجاب عنهها بأجوبة صحيحة أراد أن يبين أحكام أهل الكتاب والمقصود تميزهم منالمشركين في الحكم لأن الواجب في المشركين القتال إلى الإسلام ، والواجب في أهل الكتاب القتال إلى الإسلام أو الجزية واعلم أنه تعالى ذكر صفات أربع وأمر بقتال من اتصف بها ثم بين الموصوفين بها بقوله ) من الذين أوتوا الكتاب ( فدل ذلك على أن أهل الكتاب متصفون بتلك الصفات ؛ فالصفة الأولى أنهم ) لا يؤمنون بالله ( فدل ذلك على أن أهل الكتاب متصفون بتلك الصفات ؛ فالصفة إيمانهم بالله كلا أيمان لأنهممشبهة وحلولية. واعترض ثانياً بأن كل من نازع في صفة من صفات الله وكان منكراً لله لزم أن يكون أكثر المتكلمين كذلك فالأعشري من أهل السنة أثبت البقاء صفة ، والقاضي أنكره ، وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة ، والباقون أنكروه ، والقاضي أثبت لله إدراك الطعوم وإدراك الروائح والحرارة والبرودة والأستاذ أبو إسحق أنكره ، والقاضي أثبت للصفات سبعة أحوال معللة بغير الصفات وغيره أنكره ، وعبد الله ابن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمراً ولا نهياً ولا خبراً ثم صار كذلك عند الإنزال ، والآخرون أنكروه ، وقوم من قدماء الأشاعرة أثبتوا لله خمس كلمات : الأمر والنهي والاستخبار والخبر والنداء. والمشهور أن كلام الله واحد. واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور لله ؟. وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق فأكثر من أن تحصى ههنا. وأجيب بأن المجسم خالف في الذات لأنه يقول إن الإله جسم والبرهان دل على(3/452)
" صفحة رقم 453 "
أن إله العالم ليس بجسم ولا جسامين. وأما الخلاف في المسائل المذكورة فراجع إلى الصفة فظهر الفرق. نعم إنا نكفر الحلولية والحروفية القائلين بأن كلام الله تعالى حل في كل لسان وفي كل جسم كتب فيه القرآن كما نكفر النصارى القائلين بأن أقنوم الكلمة حلت في عيسى. الصفة الثانية : أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر لأن اليهود والنصارى ينكرون المعاد الجسماني. والقرآن دل على أن أهل الجنة يأكلون ويشربون وباللذات يتمتعون ، وأما السعادات الروحانية فمتفق عليها. الصفة الثالثة : ( ولا يحرّمون ما حرم الله ورسوله ( أي لا يحرّمون ما حرم الله في القرآن ، والرسول في سنته كالخمر والخنزير ونحوهما. وقال أبو روق : أي لا يعملون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام توافق مشتهاهم. الصفة الرابعة : ( ولا يدينون دين الحق ( أي لا يعتقدون صحة دين الإسلام الذي هو الحق. يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذ بذلك دينه ومعتقده. وقيل : الحق هو الله. ثم ذكر غاية القتال فقال ) حتى يعطوا الجزية ( فعله من جزى يجزي إذا قضى ما عليه. قال الواحدي : هي ما يعطى المعاد على عهده. وقال في الكشاف : سميت جزية لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه ، أو لأنهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل. ومعنى ) عن يد ( إن أريد بها يد المعطي أي عن يد مؤاتية غير ممتنعة يقال : أعطى بيده إذا انقاد وأصحب ، أو المراد حتى يعطوها عن يد إلى نقداً غير نسيئة ولا مبعوثاً على يد أحد ، وإن أريد بها يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية أي بسببها كقوله : ينهون عن أكل وعن شرب أي يتناهون السمن بسببهما. أو المراد عن إنعام عليهم فإن قبول الجزية منهم بدلاً عن أرواحهم نعمة عظيمة عليهم. قيل : إن من اليهود موحدة فما وجه إيجاب الجزية عليهم ؟ والجواب أنه إذا ثبت وجوب الجزية على بعضهم لزم القول في حق الكل لعسر الامتياز ولوجود الصفات الباقية فيهم. أما مقدار الجزية فعن أنس : قسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على كل محتلم ديناراً ، وقسم عمر على فقرائهم في المدينة انثي عشر درهماً ، وعلى الأوساط أربعة وعشرين ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين. فذهب الشافعي إلى أن أقل الجزية دينار لا يزاد على الدنيار إلا بالتراضي. وذهب أبو حنيفة إلى قسم عمر. والمجوس سبيلهم سبيل أهل الكتاب لقوله : ( صلى الله عليه وسلم ) : ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) ويروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ الجزية من مجوس هجر وذلك أن لهم شبهة كتاب. ومعنى ذلك أن كتبهم وهي الصحف التي أنزلت على إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) (3/453)
" صفحة رقم 454 "
قد رفعت إلى السماء لأحداث أحدثوها. وليس المقصود من أخذ الجزية تقرير الكفرة على كفرهم بدينار واحد حتى يصير موجباً لطلعن ، وإنم االغرض حقن دمائهم وإمهالهم مدة لعلهم يتفكرون في كتابهم فيعرفون صدق محمد وما دعاهم إليه. وأيضاً فيه حرمة أنبيائهم وحرمة كتابهم وحرمة آبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل. وأما قوله ) وهم صاغرون ( فمعناه أنه لا بد أخذ الجزية من إلحاق الذل والصغار بهم. والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عزّ الإسلام وذلك الكفر ويمسع الدلائل فالظاهر أن مجموع ذلك يحمله على الانتقال إلى الإسلام. وفسروا الصغار في الآي ةبأخذ الجزية على سبيل الإهانة بأن يكون الذمي قائماً والمسلم الذي يأخذ الجزية قاعداً ويأمره بأن يخرج يده جيبه ويحني ظهره ويطأطىء رأسه فيصب ما معه في كفة الميزان ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمتيه. وهذه الهيئة مستحبة على الأصح لا واجبة. وقيل : الصغار هو نفس أخذ الجزية. والجزية تسقط بالإسلام عند أبي حنيفة دون الشافعي. وإنها تؤخذ عند أبي حنيفة في أوّل السنة وعند الشافعي في آخرها. ولا تؤخذ من فقير لا كسب له ولا من امرأة زخنثى ولا صبي ولا مجنون وعبد ولا من سيده سببه ، وتضرب على الزمن والعسيف والشيخ الفاني والراهب والأعمى على الأصح من قولي الشافعي ، لأن الجزية بمنزلة الكراء يستوي فيه المعذورون وغيرهم. قال الشافعي في أحد قوليه. العاجز عن الكسب يعقد له الذمة بالجزية فإذا تم الحول أخذنا إن أيسر وإلا فهي في ذمته إلى أن يوسر وهكذا في كل حول. ولا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه الذي فوضه إليه لأنه من الأمور الكلية. وكيفية العقد أن يقول : أقررتكم وأذنت لكم في الإقامة في دار الإسلام على أن تبذلوا كذا وتنقادوا لأحكام الإسلام التي يراها الإمام. ولا يقرأ أهل الكتاب بالجزية في أرض الحجاز لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أخرجوا اليهود من الحجاز ) قال الشافعي : هو مكة والمدينة ومخالفيهما أي قراهما. وما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أوصى بأن يخرجوا اليهود والنصارى منجزيرة العرب فمحمول على أنه أراد الحجاز جمعاً بين الحديثين. وقد بقي في الآية نكته ذكرها بعض العلماء في أن المسلم لا يقتل بالذمي قال : لأن قوله ) قاتلوا ( مشتمل على إباحة دمهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم فلما قال ) حتى يعطوا الجزية ( علمنا أن المجموع انتفى عند إعطاء الجزية ، ولكن انتفاء المجموع يكفي فيه انتفاء أحد جزأيه وأحد الجزأين - وهو وجوب قتلهم - مرتفع بلا تفاق فيبقى الآخر وهو عدم وجو بالقصاص بقتلهم بعد أداء الجزية كما كان. ولقائل أن يقول : لا نزاع في الاحتمال ولكن ما الدليل على عدم وجوب القصاص وأنت صدد إثباته ؟ .(3/454)
" صفحة رقم 455 "
ولما حكم في الآية المتقدمة أن أهل الكتاب لا يؤمنون بالله شرع في إثبات تلك الدعوى فقال ) وقالت اليهود عزير ابن الله ( الآية. العلم مبتدأ والابن خبره ومن أسقط التنوين من عزير فلأنه اسم أعجمي زائد على ثلاثة أحرف فيمتنع من الصرف كعازر. وقيل : منصرف لكونه عربياً وكان الوجه كسر التنوين كقراءة عاصم ولكنه أسقط التنوين للساكنين على مذهب بعضهم. أو لأن الابن وقع وصفاً والخبر محذوف وهو معبودنا. وطعن في هذا الوجه عبد القاهر باستلزامه احتمال توجه الذم غلى الخبر دون الوصف. وحينئذ يحصل تسليم كونه ابناً لله ومعلوم أن ذلك كفر. وهذا قول ناس من اليهود بالمدينة. وما هو بقول كلهم إلا أنه جاء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد. يقال : فلان يركب الخيول أو يجالس الملوك. ولعله لم يركب أو لم يجالس إلا واحداً. عن ابن عباس : جاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا ذلك. وعنه أيضاً أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فأنساهم الله التوراة ونسخها من صدورهم ، فتضرع عزير إل الله تعالى وابتهل إليه فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه ، فمال جربوه وجدوه صادقاً فيه فقالوا : هذا ابن الله. وقال عبيد بن عمير : إنما قال هذا القول رجل من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء. وقيل : لعل هذا المذهب كان فشاياً فيهم ثم انقطع ، ولا عبرة بإنكار اليهود قول الله أصدق. وقال في الكشاف : الدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب. وأما النصارى فلا شك أنهم يقولون ذلك وقد حكى الواحدي في سبب لك أن أتباع عيسى كانوا على الحق بعد رفع عيسى إلى السماء حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع ، يقال له بولس. قتل جمعاً من أًحاب عيسى ثم قال لليهود : إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار وإني أحتال فأضلهم ، فعرقب فرسه وأظهر الندامة بما كان يصنع ووضع على رأسه التراب وقال : نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تنتصر وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة. ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلاً اسمه نسطور وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال : ما كان عيسى إنساناً ولا جسماً ولكنه الله. وعلم رجلاً آخر - يقال له يعقوب - ذلك ثم دعا وقال لكل واحد منهم : أنت خليفتي فادع الناس إلى نحلتك ، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وإني غداً أصبح نفس مرضاة عيسى ، ثم دخل المذبح فذبح نفسه. هذا هو(3/455)
" صفحة رقم 456 "
السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى. الأقرب أن لفظ الابن قد وقع في الإنجيل على سبيل التشريف حيث قال : إنك أنت الابن الوحي كما وقع لفظ الخليل في حق إبراهيم عليه السلام. وقال المسيح عليه السلام للحواريين : أبحوةا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا على من يؤذيكم لكي تكنوا أبناء أبيكم الذي في السماء الذي أشرق شمسه على الصالحين والفجر. ثم إن القوم لأجل عداوة اليهود ولأجل أن يقابلونا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بلغو فاسد في الطرف الآخر حملوا لفظ الابن على البنوة الحقيقية والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. ثم قال سبحانه ) ذلك قولهم بأفواههم ( وفائدة هذا التخصيص - وكل قول فإنما يقال بالفم - أنه قول لا يعضده برهان بل البرهان دال على نقيضه لاستحالة إثبات الولد لمن هومبرأ عن الحاجة والشهوة والمضاجعة واتخاذ الصاحبة ، فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي لا تجاوز الحناجر ولا يؤثر معناها في القلب بل لا معنى لها حتى تؤثره ، نظيره قوله ) وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ) [ النور : 15 ] أو نقول : إن الإنسان قد يختار مذهباً ولكن لا يصرح به ولا يذكره بلسانه ، أما إذا نطق به فذلك هو الغاية في اختياره وإذا ساعده عليه دليل كان نهاية في الحسن والتأثيرز فالمارد بالقول المذهب وأنهم يصرحون به لا يخفونه ألبته ، أو أنه مذهب لا يساعده دليل فلا تأثير له في القلوب. ويحتمل أن يراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت في الأفواه والألسنة ) يضاهنون ( من قرأ بغير همز فظاهر لأنه من ضاهى يضاهي منقوصاً أي شاكل ، ومن قرأ بالهمز فلمجيء ضاهأت من قولهم امرأة ضهيأ على وزن ( فعيل ) وهي التي شاكلت الرجال في أنها لا تحيض ومن جعل ضهيأ على ( فعلأ ) بزيادة الهمة كما في ( غرقئ ) لقشرة البيض السفلى لمجيء ضهياء ممدوداً بمعناه فلا ثبت في هذا الثاني عنده. ولا بد منتقدير مضاف أي يضاهي قولهم قول الذين ، حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً لفقد الجار. والمعنى أن قول هؤلاء المعاصرين للنبي من أهل الكتاب يشبه قول قدمائهم أي القائين الملائكة بنات الله. وقيل : الضمير في ) يضاهئون ( للنصارى فقط أي يشاكل قول النصارى ( المسيح ابن الله ) قول اليهود ( عزير ابن الله ) لأن اليهود أقدم منهم. ثم قال على عادة محاورات العرب معجباً ومستفهماً على سبيل الإنكار ) قاتلهم الله انى يؤفكون ( كيف يصرفون عن الحق أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا تعجباً من شناعة قولهم كما يقال القوم ركبوا شنعاء : قاتلهم الله ما أعجب فعلهم ، ولمن ضل عن الطريق أي تذهب ؟. ثم وصفهم(3/456)
" صفحة رقم 457 "
بضرب آخر منالإشراك فقال ) اتخذا أحبارهم ورهبانهم ( قال أهل المعاني : الحبر العالم لاذي يعبر عما يريد بأحسن بيان ، والراهي الذي ظهرت أثار الرهبة من قلبه على وجهه ولباسه ، ولكن في عرف الاستعمال اختص الأحبار بعلماء اليهود من ولد هارون. والرهبان بعلماء النصارى منأصحاب الصوامع. واختلفوا في معنى اتخاذهم إياهم أرباباً بعد الاتفاق على أنه ليس المراد أنهم جعلوهم آلهة العالم فقال أكثر المفسرينك المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم. نقل أن عدب بن حاتم كان نصرانياً فانتهى إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يقرأ سورة براءة ، فلما وصل إلى هذه الآية قال عدي : إنا لسنا نعبدهم فقالك أليس تحرذمون ما أحلّ الله وتحلون ما حرم الله ؟ فقلت : بلى. فقال : فتلك عبادتهم. قال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل ؟ فقال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف قول الأحبار والرهبان فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم الله. قال العلماء : إنما لم يلزم تكفير الفاسق بطاعة الشيطان خلاف ما عليه الخوارج لأن الفاسق وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه يلعنه ويستخف به بخلاف أولئك الاتباع المعظمين لمتوبعهم. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى : قد شاهدت جماعة نمقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في مسائل كانت تلك الآيات مخالفة لمذهبهم فيها فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وكانوا ينظرون إليّ كالمتعجب يعني كيف الآيات مع أن الرواية عن سفلنا. وردت بخلافها ، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا سارياً في عرف الأكثرين. وقلت : ولعلهم توقفوا لحسن ظنهم بالسلف لأنهم ربما وقفوا من تلك الآية على ما لم يقف عليه الخف. وقيل في تفسير هذه الربوبية : إن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم فقد يميل طبعهم إلى الحلول والاتحاد ، وقد يساعدهم الشيخ في ذلك إذا كان مزوّراً طالباً للدنيا وقد يرضى بسجودهم له تعظيماً وإجلالاً مع أن السجود عبادة لا تليق إلا بالله. وإذا كان هذا مشاهداً في هذه الأمة فكيف بالأمم السالفة ؟ وأما المسيح فحين جعلوه ابناً لله فقد أهلوه للعبادة والإلهية ، ولعل السبب في إفراد المسيخ بالذكر أن قولهم فيه أشنع من قولهم في الأحبار والرهبان ، أو لأن القول بإلهية المسيح مخصوص بأحد الفريقين. فلو قيل اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أرباباً لأوهم اشتراك الفريقين في اتخاذ المسيح رباً ) وما أمروا ( الضمير للمتخذين. والذي أمرهم بذلك أدلة العقل والكتب السماوية ، وفي القرآن حكاية عن المسيح ) أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ) [ المائدة : 72 ] ويجوز أن يكون الضمير للأحبار والرهبان أي وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلا بأن يكونوا مربوبين. ثم نزه نفسه عن مقالة(3/457)
" صفحة رقم 458 "
الظالمين فقال ) سبحانه عما يشركون ( ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أفعال أهل الكتاب وهو سعيهم في أبطال أمر محمد وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة نبوّته فقال ) يريدون أن يطفئوا نور الله ( أي دينه بالدليل المشبه بالنور لاشتراكهما في الاهتداء بهما. وذلك أن دين محمد مؤيد بالمعجزات الباهرة التي بمثلها ثبتت نبوّة موسى وعيسى ولا سيما بالقرآن ، وحاصل شرعه تعظيم الله وتنزيهه عما لا يليق به والانقياد لطاعته وصف النفس عن الأمرو الفانية والترغيب في السعادات الباقية ، ثم إنهم بكلماتهم الركيكة وشبهاتهم السخيفة أرادوا إبطال هذه الدلائل فكانوا كمن يريد إبطال نور الشمس الذي هو أشد الأنوار المحسوسة بسبب أن ينفخ فيه. ولا ريب أن ذلك سعي باطل كيد زاهر ولهذا قال ) ويأبى الله إلا أن يتمنوره ( أي لم يرد الله إلا ذلك إلا أن الإباء يفيد زيادة على عدم الإرادة وهي المنع والامتناع قال : وإن أرادوا ظلمنا أبينا امتدح بذلك ولا يجوز أن يمتدح بأنه يكره الظلم لأن ذلك يستوي فيه القوي والضعيف. وفيه وعد بمزيد النصرة والقوة وإعلاء الدرجة. ثم أكد ذلك المعنى بقوله ) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ( أي بكثرة الدلائل والمعجزات ) ودين الحق ( لاشتماله على أمور تظهر لكل أحد كونه موصوفاً بالصواب ومطابقاً للحكمة ومؤدياً إلى صلاح الدنيا والآخرة. ثم بيّن غاية أمره وتمام حكمه فقال ) فليظهره على الدين كله ( أي ليجعل الرسول أو دين الحق غالباً على أهل الأديان كلهم أو على كل دين. عن أبي هريرة أنه قال هذا وعد من الله بأن يجعل الإسلام ظاهراً على جميع الأديان. وتمام هذا إنما يظهر عند خروج المهدي ونزول عيسى وقال السدي : ذلك عند خروج المهدي عليه السلام لا يبقى أحد إلا دخل الإسلام وأدّى الخراج. قلت : قد دخل في عصرنا من الملوك الكفرة ومن أشياعهم في الإسلام ما لا يعدّ ولا يحصى ، وازدياد ذلك كل يوم دليل ظاهر على أن الكل سيدخلون في الإسلام. وقد جاء في الحديث : ( زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتى ما زوي لي منها ) وقيل : ليظهر الإٍلام على غيره في جزيرة العرب. وهذا تخصيص أوجبه ضيق العطن. وقيل : ليظهر الرسول على جميع شرائط الدين حتى لا يخفى عليه شيء من مدارك الأحكام. وقيل ليظهره بالحجة والبرهان لأن غلبة الكفار في(3/458)
" صفحة رقم 459 "
بعض الأقطار ظاهرة. ولقائل أن يقول : إن المسلمين في تلك البلاد وإن قلوا غالبون على الكفار وإن كثروا بدليل أنهم لا يمنعونهم من إظهار شعائر الإسلام والتزام أحكامه ، قوله ) هو الذي أرسل ( فيه مدح منه تعالى لنفسه من جهة أنه هو القادر على إبداء مثل هذا الأمر العظيم ومن جهة أنه هو الغالب على إيصاله إلى حيث شاء وأراد منغير معاند ولا منازع ، ومن جهة أنه هو المعطي لمثل هذه النعمة التي لا يوازيها نعمة وهي نعمة الهدى والإسلام. وقوله ( ولو كره الكافرون ( وفي الآية الثانية ) ولو كره المشركون ( إما متساويا الدلالة تنبيهاً على أن اليهود والنصارى أيضاً مشركون ، وإما تخصيص بعد تعميم ، ولعله رغم لأنف مشركي قريش ثم لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق أراد أن يصفهم بالطمع والحرص فقال ) يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً منالأحبار والرهبان ( الآية. وفيه تنبيه على أن مقصودهم من إظهار تلك الربوبية والتجبر تحصيل حطام الدنيا. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله. ولعمري أن من تأمل في أحوال أهل الناقوس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلى في شأنهم وشرح أحوالهم ، فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه من الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك ويتحمل الذل والدناءة في تحصيله. وفي قوله ) كثيراً ( دلالة على أن هذه الطريقة طريقة بعضهم لا كلهم ، فإن العالم لا يخلوا عن المحق وإطباق الكل على الباطل وإثبات ذلك كالممتنع ، وهذا يوهم أنه كما أن إجماع هذه الأمة على الباطل لا ما هو أعظم مقاصده. وأيضاً من أكل شيئاً فقد ضمه إلى نفسه ومنعه عن الوصول إلى غيره كما لو أخذه ، ولهذا فإن من أخذ أموال الناس فإذا طولب بردها قال أكلتها وما بقيت فلا قدرة لي على ردّها. وفي تفسير الباطل وجوه : منها أنهم كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع وفي إخفاء نعت محمد وتأويل الدلائل الدالة على نبوّته. ومنها أنهم كانوا يدذعون عند عوامهم الحمقى أنه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الأكاذيب. ومنها أنهم قالوا لا طريق إلى تقوية دينهم إلا إذا كان أولئك الفقهاء أقوياء عظماء أصحاب الجاه والحشمة والأموال كما يفعله المزوّرون في زماننا هذا. أما قوله ) ويصدّون عن سبيل الله ( فمعناه يبالغون في المنع من متابعة محمد كيلا يبطل جاههم وحشمتهم عند العوام لو أقروا بدينه .(3/459)
" صفحة رقم 460 "
ثم قال سبحانه ) والذين يكنزون ( الكنز هو المال المدفعون وقد كنزه يكنزه. والتركيب يدل على الجمع ومنه ناقة كناز مكتنزة اللحم ، واكتنز الشيء اجتمع. قيل : المراد بقوله ) والذين يكنزون ( الأحبار والرهبان لما وصفهم بالحرص الشديد ، أراد أن يصفهم بالامتناع من أخراج الواجبات عن أموالهم. وقيل : المقصود مانعوا الزكاة من المسلمين. ووجه النظم أنه لما كان حال من أمسك مال نفسه بالباطل كذلك فما ظنك بحال من سعى في أخذ مال غيره بالباطل والخديعة ؟ عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر فقلت له : ما أنزلك هذه البلاد ؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب. وقلت : نزلت فينا وفيهم فصار ذلك سبباً للوحشة. فكتب إلي عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة ، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل ، فذكرت ذلك لعثمان فقال : إن شئت تنحيت فكنت قريباً. قلت : إني والله لا أدع ما كنت أقول. وعن الأحنف قال : لما قدمت المدينة رأيت أبا ذر يقول : بشر الكانزين برضف يحميى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه. فلما سمع القوم ذلك تركوه فاتبعته وقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. فقال : ما عسى يصنع بي قريش. واختلف علماء الصحابة في هذا الكنز المذموم فقال الأكثرون : هو المال الذي لم تؤد زكاته. عن عمر بن الخطاب : مال أديت زكاته فليس بكنز. وقال ابن عمر : كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكل مال لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض. وقال جابر : إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز. وعن ابن عباس : قوله ) ولا ينفقونها في سبيل الله ( يريد الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم. قال القاضي : ويندرج فيه سائر الحقوق من الكفارات والديون ونفقة الحج والجهاد والإنفاق على الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات. وقال الأقلون : كل مال كثير فهو مذموم سواء أديت زكاته أو لم تؤد. وحجة الأولين قوله تعالى ) لها ما كسبت ) [ البقرة : 286 ] ( ولا يسألكم أموالكم ( ) محمد : 36 ] وقوله عليه السلام : ( كل امرىء أحق بكسبه ) ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ما ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً ، وما بلغ أن يزكى ولم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً ) وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جمع من الأغنياء كعثمان بن(3/460)
" صفحة رقم 461 "
عفان وعبد الرحمن بن عوف وكان يعدّهم من أكابر المؤمنين ، وقد ندب إلى إخراج الثلث أو الأقل في المرض ولو كان جمع المال محرماً لكان يأمر المريض أن يتصدق بالكل قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( تباً للذهب تباً للفضة قالها ثلاثاً ) فقالوا له ( صلى الله عليه وسلم ) : أي مال نتخذ ؟ قال : ( لساناً ذاكراً وقلباً خاشعاً وزوجة تعين أحدكم على دينه ). وقوله : ( من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها ) وتوفي رجل فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : كية. وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال : كيتان. وعن عليّ رضي الله عنه : كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد. ومن المعقول أن الله تعالى خلق الأموال لدفع الحاجات فإذا حصل للمرء منه ما زاد على قدر حاجته ومنع منه الغير كان مانعاً من ظهور حكمة الله ودافعاً لوجوه الإحسان إلى عبيده. وقد رام طائفة من العلماء الجمع بين القولين فقالوا : كان هذا قبل أن تفرض الزكاة ، فأما بعد فرض الزكاة فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالاً من حيث أذن له فيه ويؤدي عنه ما أوجب عليه ثم يعاقبه. وقال أهل التحقيق : النهي عن جمع المال محمول على التقوى لأن تزايد المال لا حد له يقف هنالك فيناجز إلى تضييع العمر تارة ف تحصيله وأخرى في حفظه ، لأنه كلما ازداد المال ازدادت لذته بذلك فيشتد حرصه ولا ينقطع ألبتة ، وقد يفضي إلى الطغيان والخذلان كقوله تعالى ) إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) [ العلق : 6 ، 7 ] ولو لم يكن في الفقر سوى الانكسار وقلة التعلق وفراغ البال لكفى بها منقبة وفخراً ، وكل ما يلهيك عن الله ولم يكن في سبيل الله فعدمه خير من وجوده. وأما ظاهر التفوى فهو أن صاحب المال الكثير لا عتب عليه إذا أدّى منه حقوقه. هذا ومن حمل الآية على وعيد مانعي الزكاة في النقود قاس الزكاة في المواشي عليه. وقد ورد أيضاً في الحديث : ( ما من صاحب إبل أو بقر أو غنم ) وهو مشهور. ولا ريب أن الأصل المعتبر في الأموال هو النقدان ، وسائر الأمتعة إنما تحصيل بهما وتدور عليهما. يوجب الزكاة فيه خصص عموم الآية بما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا زكاة في الحلي المباح ) ولم يصححه أبو عيسى الترمذي. وبتقدير أن يصح حملوه على اللآلىء لقوله تعالى .(3/461)
" صفحة رقم 462 "
) وتستخرجون حلية تلبسونها ) [ فاطر : 12 ] ولقائل أن يقول : لو حملنا الحلي في الحديث على اللآلىء لم تبق لقيد المباح فائدة. ثم إنه تعالى ذكر شيئين الذهب والفضة ثم قال ) ولا ينفقونها ( فقيل : الضمير عائد إلى المعنى وهو الكنوز أو الأموال ، أو لأن كل واحد منهما جملة واحدة وافية وعدة كثيرة ودراهم ودنانير فهو كقوله ) وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) [ الحجرات : 9 ] وقيل : إلى اللفظ أي ولا ينفقون الفضة. وحذف الذهب إما لأنه داخل في الفضة من حيث كونهما جوهرين ثمينين نفيسين مقصودين بالكنز فأغنى ذكر أحدهما عن الآخر كقوله ) وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ) [ الجمعة : 11 ] ( ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً ) [ النساء : 112 ] وإما لأن التقدير والذهب كذلك كما أن معنى قوله : فإني وقيار بها لغريب وقيار كذلك. ثم قال ) فبشرهم بعذاب أليم ( تهكماً مثل قولهم : تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم. ولو قيل : البشارة وهي الخبر الذي يؤثر في القلب فيتغير بسببه لون بشرة الوجه سواء كان من الفرح أو من الغم كان حقيقة ) يوم يحمى عليها ( معناه أن النار تحمى عليها أي يوقد عليها نار ذات حمى وحر شديد من قوله ) نار حامية ) [ القارعة : 11 ] ولو قيل يوم تحمى أي الكنوز كقولك : أحميت الحديد لم يفد هذا المعنى وإنما ذكر الفعل مع أن الإحماء للنار لأنه مسند إلى الجار والمجرور بعد حذف النار كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير. فإن لم تذكر القصة قلت : رفع إلى الأمير. ) فتكى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ( ذكر العلماء في تخصيص هذه الأعضاء بالكي وجوهاً منها. إن حصول الأموال يقصد به فرح القلب يظهر أثره في الوجه وشبع ينتفخ بسببه الجنبان وليس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورها فعورضوا بنقيض المقصود. ومنها أن هذه الأعضاء يعظم تألمها لكونها مجوّفة ولما في داخلها من الأعضاء الشريقة. ومنها أنهم يكوون على الجهات الأربع ، أما من قدام فعلى الجبهة ، وأما من خلف فعلى الظهر ، وأما من اليمين واليسار فعلى الجنبين. ومنها أ ، المراد وقوع الكي على كل الأعضاء لأنها إما في غاية النظافة ومثاله الجبهة ، وإما في غاية الصلابة ومثاله الظهر ، وإما متوسطة ومثاله الجنبان. ومنها أن الجمال في الوجه والقوة في الظهر والجنبين والإنسان إنما يطلب المال للجمال والقوة فعورض بإزالتهما. ومنها قول أبي بكر الوراق : خصت بالذكر لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جنبيه ، وإذا قعد بجنبه تباعد وتجافى عنه وولى ظهره. وأنا أقول : يحتلم أن يراد بالجباه قدام الشخص حث لم يقدم لنفسه خير ، أو بالظهور جهة الخلف(3/462)
" صفحة رقم 463 "
حيث خلف ما أعقبه الحسرات وبالجنوب اليمين والشمال حيث لم يصرف المال في مرضاة الله وأنفقه في معصيته وسخطه وهذا بالتأويل أليق. ثم الذي جعل كياً هو كل ماله أو قدر الزكاة الظاهر أنه الكل لأنه لما لم يخرج منه الحق كان ذلك الجزء شائعاً في كل ماله فناسب أن يعذب بكل الأجزاء ثم قال ) هذا ما كنزتم ( والتقدير فيقال لهم هذا ما كنزتم ) لأنفسكم ( وفيه توبيخ وإشعار بأنهم عورضوا بنقيض ما قصدوا وأكد ذلك بقوله ) فذوقوا ما كنتم تكنزون ( ما مصدرية أو موصولة والمعنى اعرفوا وبال كونكم كانزين ، أو ذوقوا وبال المال الذي كنتم تكنزونه. ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أعمال اليهود والنصارى والمشركين فقال ) إن عدّة الشهور ( الآيتان وذلك أنه تعالى لما حكم في كل وقت بحكم خاص فإذا غيروا تلك الأوقات بسبب النسيء والكبيسة كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم الله بحسب الهوى فكان ذلك زيادة في كفرهم. واعلم أن المعالم الشرعية كلها منوطة بالشهور القمرية الهلالية لقوله سبحانه ) قل هي مواقيت للناس والحج ) [ البقرة : 189 ] والسنة القمرية. عبارة عن اثني عشر شهراً قمرياً بدليل قوله تعالى ) إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ( قال أبو علي الفارسي : لا يجوز أن يتعلق قوله ) في كتاب الله ( و ) يوم خلق ( الثاني بدل من الأول وهو من عند. والتقدير إن عدّة الشهور عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض. وفائدة الإبدالات تقدير الكلام في الأذهان لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله وثابت في عمله في أول ما خلق الله العالم. ويجوز أن يكون ) في كتاب الله ( صفة أثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله وعلى هذا لا يجوز أن يراد بالكتاب كتاب نالكتب لأن ) يوم ( متعلق به ولا تتعلق الظروف بأسماء الأعيان. لا يقال : غلامك يوم الجمعة بل الكتاب يكون مصدراً بمعنى المفعول أي فيما أثبته في ذلك اليوم اللهم إلا إذا قدر الكلام هكذا. إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً مكتوباً في كتاب الله يوم خلق. قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ. وقيل : القرآن. ) منها أربعة حرم ( ثلاثة سرد أي مسرودة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو وجب ) ذلك الدين القيم ( يعني أن تحريم الأشهر الحرم الدين المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل وقد توارثته العرب منهما ، وكانوا يعظمونها ويحرّمون القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه تركه ) فلا تظلموا فيهن ( أي في الأشهر الأربعة ) أنفسكم ( بأن تجعلوا حرامها حلالاً. عن عطاء قال : تالله ما يحل للناس أن يغزو في الحرم ولا في(3/463)
" صفحة رقم 464 "
الأشهر الحرام إلا أن يقاتلوا وما نسخت. وعن الحسن مثله لأنه فسر الدين القيم بأنه الثابت الدائم الذي لا يزول. وعن عطاء الخراساني : أحلت القتال في الأشهر الحرم ) براءة من الله ورسوله ( وقيل : معناه لا تأثموا فيهن بياناً لعظم حرمتهن كما عظم أشهر الحج بقوله ) فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ) [ البقرة : 197 ] والسبب فيه أن لبعض الأوقات أثراً في زيادة الثواب أو العقاب كالأمكنة ، وكانت الحكماء يختارون لإجابة الدعاء أوقاتاً مخصوصة. وفيه فائدة أخرى هي أن الإنسان جبل مطبوعاً على الظلم والفساد ، ومنعه من ذلك على الإطلاق شاق عليه فخص بعض الأزمنة والأمكنة بطاعة ليسهل عليه الإتيان بها فيهما ولا يمتنع عن ذلك. ثم لو اقتصر على ذلك فهو أمر مطلوب في نفسه وإن جره ذلك إلى الاستدامة والاستقامة بحسب الإلفة والاعتياد أو لاعتقاده أن الإقدام على ضد ذلك يبطل مساعيه السالفة فذلك هو المطلوب الكلي. ولا ريب أن تخصيص ذلك من الشارع أقرب إلى اتحاد الآراء وتطابق الكلمة. وقيل : الضمير في قوله ) فيهن ( عائد إلى ) اثنا عشر ( والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مدة عمره ، أو المراد المنع من النسيء على ما يجيء. قال الفراء : الأولى رجوع الضمير إلى الأربعة لقربها ولما ذكرنا أن لهذه الأشهر مزيد شرف ، فناسب أن تخص بالمنع من الظلم ، ولأن الكثرة تختار ضمير الواحدة. قال حسان : لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ويقال : لثلاث خلون من شهر كذا ولإحدى عشرة ليلة خلت. ثم قال عز من قائل ) وقاتلوا المشركين ( وظاهر الآية يدل على إباحة القتال في جميع الأشهر لأن الأمر الوارد عقيب الحرمة يدل على الإباحة. ومعنى ) كافة ( جميعاً لأنهم إذا اجتمعوا تزاحموا فكف بعضهم بعضاً. ونصبه على المصدر عند بعضهم لأنه مثل العاقبة والعافية. وقال الزجاج : نصبه على الحال. ولا يجوز أن يثنى ويجمع ويعرف باللام كقولك : قاموا معاً وقاموا جميعاً. وفي وجه التشبيه في قوله ) كما يقاتلونكم كافة ( قولان : فعن ابن عباس : قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال كما أنهم يستحلون قتال جميعكم. وقيل : قاتلوهم بأجمعكم غير متفرقين في مقاتلة الأعداء ومقابلتهم. فعلى الأول يكون ) كافة ( حالاً من المفعول وعلى الثاني يكون حالاً من الفاعل وفي قوله ) واعلموا أن الله مع المتقين ( حث لهم على التقوى وعلى الجهاد بضمان النصر والمعونة. ثم فسر الظلم المنهى عنه في الآية. المتقدمة وأكد النهي عنه بقوله ) إنما النسيء ( وهو مصدر نساً إذا أخر كالنذير والنكير. وقال(3/464)
" صفحة رقم 465 "
قطرب : أصله الزيادة من قوله : نسأت المرأة إذا حبلت لزيادة الولد فيها. وردّ بأنه يقال لها ذلك فيؤول لتأخر حيضها. وقيل : هو معنى منسوء كقتيل بمعنى مقتول. واعترض بأن المؤخر هو الشهر المعنى إلى أن الشهر زيادة في الكفر وهذا الحمل غير صحيح. ويمكن أن يجاب بأن المراد أن العمل الذي بسببه يصير الشهر الحرام مؤخراً زيادة في الكفر. احتج الجبائي ههنا بأن الكفر يقبل الزيادة فكذا الإيمان. وأيضاً أطلق الكفر على هذا العمل فتركه يكون إيماناً فلا يكون الإيمان مجرد الإعتقاد والإقرار. وأجيب بأن الزيادة راجعة إلى الكمال وإنما سمي هذا العمل كفراً لأنه يؤول إلى اعتقاد تحليل ما هو حرام وبالعكس. وفي قوله ) يضل به الذين كفروا ( بحث مشهور بين المعتزلة وغيرهم أن إسناد الإضلال إلى الله تعالى بالمجاز أو بالحقيقة وقد مر مراراً. قوله ) يحلونه عاماً ( الضمير فيه عائد إلى النسئ. قال الواحدي : أي يحلون التأخير عاماً وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا فيه في الشهر الحرام. ويحرّمون التأخير عاماً آخر وهو الذي يتركون فيه الشهر الحرام على تحريمه. قال المفسرون : إنهم كانوا أصحاب حروب وغرات وكان يشق عليهم مكث ثلاثة أشهر متوالية من غير قتل وغارة ، فإذا اتفق لهم في شهر منها أو في المحرم حر وغارة أخروا تحريم ذلك الشهر إلى الشهر آخر. قال الواحدي وأكثر العلماء : على أن هذا التأخير كان من المحرم إلى صفر. ويروى أنه حدث ذلك ي كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة ، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعاً في قومه وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته : إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه. ثم يقوم في القابل فقول : إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرّموه. والأكثرون على أنهم كانوا يحرمون من جملة شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله ) ليواطئوا عدّة ما حرم الله ( أي ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوا ولم يعلموا أنهم خالفوا ترك القتال ووجوب التخصيص وذلك قوله تعالى ) فيحلوا ما حرم الله ( أي من القتال وترك الاختصاص. قال أهل اللغة : يقال تواطأ القوم على كذا إذا اجتمعوا عليه كأن واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه. والإيطاء في الشعر من هذا وهو أن يأتي في القصيدة بقافيتين لفظهما ومعناهما واحد. قال ابن عباس : إنهم ما أحلوا شهراً من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهراً آخر من الحلال ، ولم يحرموا شهراً من الحلال إلا أحلوا مكانه شهراً آخر من الحرام لأجل أن تكون عدة الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله تعال ىفهذا هو المراد بالمواطأة. وللآية تفسيراً آخر وهو أن يكون المراد بالنسيء كبس بعض السنين القمرية بشهر حتى يلتحق بالسنة الشمسية ، وذلك أن السنة القمرية أعني اثني عشر شهراً قمرياً هي ثلثمائة وأربعة وخمسون يوماً وخمسة وسدس من(3/465)
" صفحة رقم 466 "
يوم على ما عرف من علم النجوم وعمل الزيجات ، والسنة الشمسية وهي عبارة عن عود الشمس من آية نقطة تفرض من الفلك إليها بحركتها الخاصة ثلثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم إلا كسراً قليلاً ، فالسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بعشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة وخمس ساعة تقريباً ، وبسبب هذا النقصان تنتقل الشهرو القمرية من فصل إلى فصل فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرة وفي الصيف أخرى ، وكذا في الربيع والخريف ، فكان يشق الأمر عليهم إذ ربما كان وقت الحج غير موافق لحضور التجار من الأطراف فكان يختل أٍباب تجاراتهم ومعايشهم فلهذا السبب أقدموا على عمل الكبيسة بحيث يقع الحج دائماً عند اعتدال الهواء ، وإدراك الثمار والغلات وذلك بقرب حلول الشمس نقطة الاعتدال الخريفي ، فكبسوا تسع عشر سنة قمرية بسبعة أشهر قمرية حتى صارت تسع عشرة سنة شمسية فزادوا في السنة الثانية شهراً ثم في الخامسة ثم في السابعة ثم في العاشرة ثم في الثالثة عشرة ثم في السادسة عشرة ثم في الثامنة عشرة ، وذلك ترتيب بهر يحوج عند المنجمين ، وقد تعلموا هذه الصفة من اليهود والنصارى فأنهم يفعلون هكذا لأجل أعيادهم ، فالشهر الزائد هو الكبس وسمي بالنسيء لأنه المؤخر والزائد مؤخر عن مكانه ، وهذا التفسير يطابق ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) خطب في حجة الوداع وكان في جملة ما خطب به : ( ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض والسنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ) والمعنى رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه وعاد الحج في ذي الحجة وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية. وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة لزم العتب عليهم في هذا التفسير لأنهم إذا حكموا على بعض السنين بأنها ثلاثة عشر شهراً كان مخالفاً لحكم الله بأن عدّة الشهور اثنا عشر شهراً أي لا أزيد ولا أنقص وإليه الإشارة بقوله ) ذلك الدين القيم ( على هذا التفسير. ويلزمهم أيضاً ما لزمهم في التفسير الأول من تغيير الأشهر الحرم عن أماكنها ، فيجوز أن تكون الإشارة إلى المجموع. ومعنى قوله ) يحلونه عاماً ( أي يحلون النسيء في عام الكبس ويحرمونه عاماً أي في غير سنة الكبس. ومعنى قوله ) ليواطؤا عدّة ما حرم الله ( ما روي أنه كان يقوم في الموسم منهم خطيب ويقول : أنا أنسىء لكم في هذه السنة شهراً وكذا أفعل في كل سنين أقبلت حتى يأتي حجكم وقت الإدراك فينسىء المحرم ويجعله كبيساً. ثم إنه متى انتهت النوبة إلى(3/466)
" صفحة رقم 467 "
الشهر الحرام فتكرر حرم عليهم واحداً برأيه وعلى وفق مصلحتهم ، وأحل الآخر وباقي في الآية قد مر في تفسير مثله مراراً والله تعالى أعلم. التأويل : ( قاتلوا ( النفوس ) الذين لا يؤمنون بالله ( بتعبده ) ولا باليوم الآخر ( أي لا يعملون للآخرة ) ولا يحرمون ما حرم الله ( من حب الدنيا فإنها رأس كل خطيئة ) وحرم ( ) رسوله ( على نفسه ) ولا يدينون دين الحق ( أي لا يطلبون الحق ) من الذين أوتوا الكتاب ( من النفوس الملهمة بالواردات الربانية ) حتى يعطوا الجزية ( وهي معاملتها على خلاف طبعها ) عن يد ( عن حكم صاحب قوة وهو الشارع ) وقالت يهود النفس أن عزير ( القلب ) ابن الله ( وذلك إذا انعكس عن مرآه القلب آثار أنوار الواردات إلى النفس المظلمة فتنورت ، كما أن اليهود لما سمعت التوراة والعلوم التي هم عنها بمعزل من عزير قالوا إنه ابن الله ) وقالت نصارى ( القلوب إن مسيح الروح ابن الله ، وذلك أن الروح ربما يتجلى للقلب في صفة الربوبية والخلافة مقترناً بصفة إبداع الحق وبتشريف إضافة ) ونفخت فيه من روحي ) [ الحجر : 29 ] ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ( وهم النوس الكافرة الذين ) اتخذوا أحبارهم ( أي قلوبهم ) ورهبانهم ( أي أرواحهم ) أرباباً ( والمسيح ابن مريم وهو الخفي وذلك أن الخفي هو أول مظهر للفيض الإلهي الذي منه التربية ثم الروح نظرها إلى أن ترى التربية من القلب ، ثم يرتقي نظرها إلى أن ترى الكل من الحق فإن رؤية ذلك من شأن القلب كقوله ) ما كذب الفؤاد ما رأى ) [ النجم : 11 ] ( يريدون ( أي النفوس ) أن يطفئوا نور الله ( الذي رش على الأرواح في بدء الخلق ) بأفواههم ( أي بأفواه استيفاء الشهوات واللذات الجسمانيات ) هو الذي أرسل رسوله ( وهو النور المرشش بالهداية إل ىالله وطلب الحق ) ليظهره ( في طلب الحق على طلب غيره ) إن كثيراً ( من أحبار القلوب ورهبان الأرواح ) ليأكلون ( أي يتمتعون بحظوظ النفس وهواها ) والذين يكنزون الذهب والفضة ( حرصاً وطمعاً في الاستمتاع بحظوظ النفوس ) ولا ينفقونها في سبيل الله ( ليقطعوا مسافة البعد عن الله بقدمى تلك الدنيا وقمع الهوى ) يحمى عليها في نار جهنم ( الحرص ) فتكوى بها ( جباه القلوب والأرواح لأنهم امتنعوا بذلك عن التوجه إلى الحق وجنوبهم ( حيث لا تتجافى جنوبهم عن مضاجع المكونات ) وظهروهم ( حيث لم يقضوا حق الواضع والخشوع فيقال لهم ) هذا ( الذي أصابكم من ألم الحرمان وعذاب القطيعة بسبب ) ما كنزتم ( ) فذوقوا ( الآن ألم كي نار الحرص لأنكم لم تذوقوه في الدنيا حيث كنتم في منام الغفلة ) منها أربعة حرم ( فيه إشارة إلى الطالب المضطر إلى(3/467)
" صفحة رقم 468 "
تحصيل قوت نفسه وعياله يجب أن يجعل أوقات عمره ثلاثاً لطلب المعاش وترتيب مصالح الدنيا ، وثلثاً للطاعات التي نتفع بها في الآخرة ، وثلثاً من ذكل حرام أن يقع في خاطره غير المولى. ومن استغنى عن الموانع فيحرم عليه صرف لحظة في غير طلب الحق وإلى هذا المعنى أشار بقوله ) ذلك الدين القيم ( وفيه تنبيه على أن من لم يكن هكذا كان في سلوكه اعوجاج. ثم ذكر أن من شأن النفوس المشركة أنها إن أقبلت على طاعت أخرتها عن وقتها وهو النسيء الموجب لازدياد كفرها لأنها قد خالفت الشرع من حيث تركها الطاعة باختيارها ، ومن حيث إنها اعتقدت أن ذلك التأخير مما لا بأس به. ( التوبة : ( 38 - 49 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين "
( القراآت )
وكلمة الله ( بالنصب : يعقوب. الباقون : بالرفع .(3/468)
" صفحة رقم 469 "
الوقوف : ( إلى الأرض ( ط ) من الآخرة ( ط ) قليل ( ه ) شيئا ( ط ) قدير ( ه ) معنا ( ج لعطف ) أنزل ( على ) نصره ( مع عوارض الظروف. ) السفلى ( ط إلا لمن قرأ ) وكلمة ( بالنصب ) العليا ( ط ) حكيم ( ه ) في سبيل الله ( ط ) تعلمون ( ه ) الشقة ( ط ) معكم ( ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال. ) أنفسهم ( ج لواو الابتداء والحال. ) لكاذبون ( ه ) عنك ( ج لحق الاستفهام مع اتصال الكلام معنى. ) الكاذبين ( ه ) وأنفسهم ( ط ) بالمتقين ( ه ) يتردّدون ( ه ) القاعدين ( ه ) الفتنة ( ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال ) لهم ( ط ) بالظالمين ( ) كارهون ( ه ) ولا تفتني ( ط ) سقطوا ( ط ) بالكافرين ( ه. التفسير : لما شرح الله معايب هؤلاء الكفار عاد إلى الترغيب في قتالهم. عن ابن عباس أنها نزلت في غزوة تبوك سنة عشر ؛ وذلك أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما رجع من الطائف أقام بالمدينة أياماً فأمر بجهاد الروم فاستثقله الناس لكون الزمان زمان صيف وللقحط ولبعد المسافة ولمزيد احتياج إلاستعداد ولشدة الحر وللخوف من عسكر الروم ولوجود أسباب الرفاهية بالمدينة لكون الوقت وقت إدراك الثمار وحصلو الغلات. روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما خرج في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك ليتسعد الناس تمام العدة. أصل النفر الخروج إلى مكان لأمر هاج عليه واسم ذلك القوم الذين يخرجون النفير. وأصل ) أثاقلتم ( تثاقلتم كما قلنا في ) فادّارأتم ) [ البقرة : 72 ] ومعناه تبأطاتم. وإنما عدّي بإلى لتضمين معنى الميل والإخلاد كقوله ) أخلد إلى الأرض ) [ الأعراف : 176 ] أي مال إلى الدنيا وشهواتها. وقيل : المراد لتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها. ومعنى الاستفهام في ) مالكم ( الإنكار. وقرىء ) أثاقلتم ( على الاستفهام للإنكار أيضاً فيكون جواب ( إذا ) فعلاً آخر مدلولاً عيه بأثقالتم كنحو ملتم ، وذلك أن جواب ( إذا ) عامل في ( إذا ) ، والاستفهام لا يعمل فيها قبله. ويجوز على هذه أن يكون ( إذا ) لمجرد الظرفية والعامل فيه ما في ) مالكم ( من معنى الفعل كأنه قيل : ما تصنعون إذا قيل لكم و ( من ) في ) من الآخرة ( للبدل كقوله ) لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ( كأنه قيل : قد ذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلى القتال وبينا أنواع فضائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم ، ولو لم يكن فيه إلا طاعة المعبود المستلزمة لثواب الآخرة لكفى به باعثاً. ) فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة ( أي في جنبها وفي مقابلها. ) إلا قليل ( ويجوز أن يراد بالقلة العدم إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي. والظاهر أن هذا التثاقل لم يصدر من جميع المخاطبين لاستحالة إطباق(3/469)
" صفحة رقم 470 "
هذه الأمة على المعصية والضلالة إلا أنه طالما أعطى للأكثر حكم الكل وأطلق لفظ الكل على الإغلب ، ثم لما رغبهم في الجهاد بعرض الثواب عليهم رغبتهم فيه بعرض العقاب فقال ) إلا تنفروا ( ورتب عليه ثلاث خصال : الأولى قوله ) يعذبكم عذاباً أليماً ( قيل : هو عذاب الدنيا. عن استنفرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر. وقال الحسن : الله أعلم بالعذاب الذي كان ينزل عليهم. وقيل : هو عذاب الآخرة فإن الأليم لا يليق إلا به. وقيل : إنه تهديد بالعذاب المطلق الشامل للدارين. الثانية قوله ) ويستبدل قوماً غيركم ( يعني قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع. قيل : هم أهل اليمن. عن أبي روق. وقيل : أبناء فارس عن سعيد بن جبير. وقيل : يحتمل أن يراد بهم الملائك " . وقال الأصم : معناه أنه يخرجه من بين أظهركم وهي المدينة والأصح إبقاء الآية على الإطلاق. الثالثة قوله ) ولا تضروه شيئاً ( قال الحسن : الضمير لله وفيه أنه غني عنهم في نصرة دنيه بل في كل شيء. وقال آخرون. الضمير للرسول لأن الله وعده أن يعصمه ووعد الله كائن لا محالة. وفي قوله ) والله على كل شيء قدير ( تنبيه على أنه قادر على نصرة رسوله بأي وجه أراد ، وقادر على إيقاع العذاب بكل من يخالف أمره كائناً من كان. عن الحسن وعكرمة أن الآية منسوخة بقوله ) ما كان المؤمنون لينفروا كافة ) [ التوبة : 122 ] والصحيح أنها خطاب لمن استنفرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فمل ينفروا فلا نسخ. قال الجبائي : في الآية دلالة على إبطال مذهب المرجئة من أن أهل القبلة لا وعيد لهم. وقال القاضي : فيها دلالة على وجوب الجهاد سواء كان مع الرسول أولا لقوله تعالى ) مالكم إذا قيل لكم ( ولم ينص على القائل هو الرسول. ومن قال إن الضمير في قوله ) لا يضروه ( عائد إلى الرسول فجوابه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها. ثم رغبهم في الجهاد بطريق آخر فقال ) إلا تنصروه فقد نصره الله ( وهذا كالتفسير لما تقدم والمعنى إن لم تشتغلوا بنصره فإن الله سينصره بدليل أن الله نصره وقواه حال ما لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد. وفيه أنه لما أوجب له النصرة وقتئذّ فلن يخذله بعد ذلك. وقوله ( إذ أخرجه الذين كفروا ( أي ألجؤه غلى أن خرج ظرف لنصره ، و ) ثاني اثنين ( نصب على الحال ومعناه أحد اثنين لأنه إذا حضر اثنان فكل واحد منهما ثانٍ للآخر وواحد منهما. وقوله ( إذ هما في الغار ( بدل من إذ أخرجه و ) إذ يقول ( بدل ثان والغار نقب عظيم ف يالجبل والمراد به ههنا نقب في أعلى ثور وهو بجل في يمين مكة على مسيرة ساعة. واعلم أنا قد ذكرنا في سورة الأنفال أن قريشاً ومن بمكة تعاقدوا على قتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل ) وإذ يمكر بك الذين كفروا ) [ الأنفال : 30 ] فأمره(3/470)
" صفحة رقم 471 "
الله تعالى أن يخرج هو وأبو بكر الصديق إلى الغار. فخرج وأمر علياً أن يضطجع على فراشه فلما وصلا إلى الغار دخل أبو بكر يلتمس ما في الغار فقال له الرسول : مالك ؟ فقال : بأبي أنت وأمي ، الغيران مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك ، فخرق عمامته وسد الحجرة وبقي حجر واحد فوضع عقبه عليه كيلا يخرج منه ما يؤذي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) . فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عليه السلام : ( لا تحزن أن الله معنا ( وقيل : طلع المشركون فوق الغار فاشفق أبو بكر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ما ظنك باثنين الله ثالثهما وقيل : لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله ، والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : اللهم أعم أبصارهم. فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون له قد أخذ الله أبصارهم عنه. استدل أهل السنة بالآية على أفضلية أبي بكر وغاية اتحاده ونهاية صحبته وموافقة باطنه ظاهره وإلا لم يعتمد الرسول عليه في مثل تلك الحالة ، وأنه كان ثاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الغار وفي العلم لقوله ( ما صب في صدري شيء إلا وصببته في صدر أبي بكر ). وفي الدعوة إلى الله لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) عرض الإيمان أولاً على أبي بكر فآمن ، ثم عرض أبو بكر الإيمان على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة أخرى من أجلة الصحابة ، وكان لا يفارق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الغزوات وفي أداء الجماعات وفي المجالس والمحافل ، وقد أقامه في مرضه مقامه في الإمامة ، ولما توفي دفن بجنب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان ثاني اثنين من أول أمره إلى آخره ، ولو قدرنا أنه توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك السفر لزم أن لا يقوم بأمره ولا يكون وصيه إلا أبو بكر. وأن لا يبلغ ما حدث في لك الطريق من الوحي بوالتنزيل إلا أبو بكر. وقوله ( لا تحزن ( نهى عن الحزون مطلقاً والنهي يقتضي الدوام والتكرار فهو لا يحزن قبل الموت وعنده وبعده. ولا شك أن من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين لقوله ) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) [ النحل : 128 ] قال الحسين بن فضيل : من أنرك صحبة غير أبي بكر من الصحابة فإنه يكون كذباً مبتدعاً ، ومن أنكر صحبة أبي بكر فإنه يكون كافراً لأنه خالف قول الله تعالى ) إذ يقول لصاحبه ( أجابت الشيعة بأن كونه ثاني اثنين ليس أعظم من كون الله رابعاً لكل ثلاثة في ومؤمن. وكون المصاحبة موجبة للتشريف معارض بقوله تعالى للكافر ) قال له صاحبه(3/471)
" صفحة رقم 472 "
وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك ) [ الكهف : 37 ] وكما حتمل أن يقال إنه عليه السلام استخلصه لنفسه في هذا السفر لأجل الثقة ، احتمل أن يكون ذلك لأجل إنه خاف أن يدل الكفار عليه أو يوقفهم على أسراه لو تركه. ثم إن جزنه لو كان حقاً لم ينه عنه على فراشه أعظم من ذلك فيه من خطر النفس. أجاب أهل السنة بأن كون الله رابعاً لكل ثلاثة أمر مشترك ، وكونه ثاني اثنين تشريف زائد اختص الله أبا بكر به على أن المعية هنالك بالعمل والتدبير وههنا بالصحبة والمرافقة ، فأين إحداهما من الأخرى ؟ والصحبة في قوله ) قال له صاحبه ( مقرونة بما تقتضي الإهانة والإذلال وهو قوله ) أكفرت ( وفي الآية مقرونة بما يوجب التعظيم والإجلال وهو قوله ) ولا تحزن إن الله معنا ( قالوا : والعجب أن الشيعة إذا حلفوا قالوا : وحق خمسة سادسهم جبريل. واستنكروا أن يقال : وحق اثنين الله ثالثهما. والاحتمال الذي ذكروه مدفعوع بما روي أن أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة للرسول وأن عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام مدة مكثهما في الغار وذلك ثلاثة أيام وقيل بضعة عشر يوماً. وروي أن جبريل عليه السلام أتاه وهو جائع فقال ؛ هذه أسماء قد أتتك بحيسة ففرح بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبر به أبا بكر ، ولو كان أبو بكر قاصداً له لصاح. بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار ، ولقال ابنه وابنته نحن نعرف مكان محمد. وكون خزنه معصية معارض بقوله تعالى لموسى ) لا تخف إنك أنت الأعلى ) [ طه : 68 ] وقوله الملائكة لإبراهيم ) لا تخف وبشروه ) [ الذاريات : 28 ] ثم إنا لا ننكر أن اضطجاع علي رضي الله عنه على فراش الرسول طاعة وفضيلة إلا أن صحبة أبي بكر أعظم لأن الحاضر أعلى حالاً من الغائب ، ولأن علياً رضي الله عنه ما تحمل المحنة إلا ليلة وأبو بكر مكث في الغار أياماً ، وإنما اختار علياً للنوم على فراشه لأنه كان صغيراً لم يظهر عنه بعد دعوة بالدليل والحجة ولا جهاد بالسيف والسنان بخلاف أبي بكر فإنه قد دعا حينئذ جماعة إلى الدين وكان يذب عن الرسول بالنفس والمال ، فكان غضب الكفار على أبي بكر أشد من غضبهم على عليّ رضي الله عنه ولهذا لم يقصدوا علياً بضرب ولا ألم لما عرفوا أن المضطجع هو. ثم زعم أهل اسنة أن الضمير في قوله ) فأنزل الله سكينته عليه ( عائد إلى أبي بكر لا إلى الرسول لأنه أقرب المذكورين فإن التقدير : غذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر ولأن الخوف كان حاصلاً لأبي بكر والرسول كان آمناً ساكن القلب بما وعده الله من النصر ، ولو كان خائفاً لم يكنه إزالة الخوف عن غيره بقوله ) لا تحزن ( ولناسب أن يقال : فأنزل الله سكينته(3/472)
" صفحة رقم 473 "
عليه فقال لصاحبه لا تحزن. اعترض بأن قوله ) وأيده ( عطف على ) فأنزل ( فواجب أن يتحد الضميران في حكم العود. وأجيب بأن قوله ) وأيده ( معطوف على قوله ) فق نصره ( والتقدير : إلا تنصروه فقد نصره في واقعة الغار وأيده في واقعة بدر والأحزاب : وحنين بالملائكة ، والظاهر أن الحزن لا يبعد أن يكون شاملاً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أيضاً من حيث البشرية كقوله ) وزلزلوا ) [ البقرة : 214 ] ويكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير : فأنزل الله سكينته عليه إذ يقول ، أو يكون ) فأنزل ( معطوفاً على نصره. والمراد بالسكينة ما ألقي في قلبه من الأمنة التي سكن عندها قلبه وعلم أنه منصور لا محالة كقوله في قصة حنين ) ثم أنزل الله سكينته على رسوله ) [ التوبة : 26 ] وقوله ( وجعل ( يعني يوم بدر وسائر الوقائع ) كلمة الذين كفروا ( وهي دعوتهم غلى الكفر وعبادة الأصنام ) السفلى وكلمة الله ( وهي دعوته إلى الإسلام أو كلمة التويحد لا إله إلا الله ) هي العليا ( وفي توسيط كلمة الفصل - أعني هي - تأكيد فضل كلمة الله في العلو وأنها المختصة بالعلاء دون سائر الكلم. قال الفراء : لا أحب قراءة نصب الكلمة لأن الأجود حينئذ أن يقال : وكلمته هي العليا. ألا ترى أنك تقول : أعتق أبوك غلامه ولا تقول أعتق أبوك غلام أبيك ؟ قلت : وفي الرفع أيضاً الاستئناف وما في الجملة الاسمية من الثبات ) والله عزيز حكيم ( قاهر غالب لا فعل له إلا الصواب. ثم لما توعد من لا ينفر مع الرسول وضرب له من الأمثال ما وصف عقبه بالأمر الجزم فقال ) انفروا خفافاً وثقالاً ( قال المفسرون : أي خفافاً في النفور لنشاطكم وثقالاً عنه لمشقته عليكم ، أو خفافاً لقلة عيالكم وثقالاً لكثرتهم ، أو خفافاً من السلام وثقالاً منه ، أو ركباناً ومشاة ، أو شباناً وشيوخاً ، أو مهازيل وسماناً ، أو صحاحاً ، ومراضاً ، والصحيح التعميم ، وأن المراد انفرا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد معها أو على ضدها. قال الأكثرون : ظاهر هذا الأمر يقتضي تناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين ويؤيده ما روي عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أعليّ أن أنفر ؟ قال : ما أنت إلا خفيف أو ثقيل فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه فنزل قوله ) ليس على الأعمى حرج ) [ النور : 61 ] وقال مجاهد : إن إبا أيوب شهد بدراً مع الرسول الله ولم يتخلف عن غزوات المسلمين ويقول : قال الله ) انفروا خفافاً وثقالاً ( فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً. وعن صفوان بن عمرو قال : كنت والياً على حمص فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت : يا عم لقد أعذر الله إليك. فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً إلا أنه(3/473)
" صفحة رقم 474 "
من يحبه الله يبتليه. وعن الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل : إنك عليل صاحب ضرر. فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل فإن لم تمكني الحر بكثرت السواد وحفظت المتاع. وعن أنس قال : قرأ أبو طلحة هذه الآية فقال : ما أسمع الله عذر أحداً فخرج مجاهداً إلى الشأم حتى مات. وقال السدي : جاء المقداد بن الأسود إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان عظيماً سميناً وشكا إليه وسأله أن يأذن له فنزل فيه ) انفروا خفافاً وثقالاً ( فاشتد شأنها على الناس فنسخها الله بقوله ) ليس على الضعفاء ولا على المرضى ) [ التوبة : 91 ] الآية ؟ وقيل : لا حاجة إلا التزام النسخ لأن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك بالاتفاق ، ولا شك أنه ( صلى الله عليه وسلم ) خلف من النساء والرجال أقواماً فذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان ولكنه من فروض الكفايات. فمن أمره الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يخرج لزمه ذلك ومن أمره أن يبقى لزمه أن يبقى. ولقائل أن يقول : لا نزاع في هذا إنما النزاع في الضعفاء والمرضى. ثم قال ) وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ( وفي إيجاب للجهاد بهما إن أمكن ، أو بالنفس إن لم يكن مال زائد على أسباب الجهادن أو بالمال بأن يستنيب من يغزو وعنه إن لم تكن له نفس سليمة صالحة للجهاد وهذا قول كثير من العلماء. ) ذلكم خير لكم ( يعني أنه خير في نفسه أو أنه خير من القعود لما فيه من الراحة والدعة والنعيم العاجل. وإنما قال ) إن كنتم تعلمون ( لأن ما يحصل من الخيرات في الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن وعد الله حق. ثم نزل في التخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين ) لو كان عرضاً قريباً ( قال الزجاج : أي لو كان المدعو إليه فحذف لدلالة ما تقدم عليه. والعرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومنه قولهم : الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ، والمراد بالقرب سهولة مأخذه ) وسفراً قاصداً ( أي وسطاً بين القرب والبعد وكل متوسط بين الإفراط والتفريط فهو قاصد أي ذو قصد لأن كل أحد يقصده. والشقة المسافة الشاقة الشاطة ، ووصف المسافة وسطاً ) لاتبعوك ( طمعاً في الفوز بتلك المنافع ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة. ثم أخبر أنه سيجدهم إذا رجع من الجهاد يحلفون بالله إما ابتداء على طريق إقامة العذر وإما عندما يعاتبهم بسبب التخلف وقد وقع كما أخب فكان معجزاً. و ) بالله ( متعلق ب ) سيحلفون ( أو هو من جملة كلام المتخلفين والقول مقدر في الوجهين أي سيحلفون بالله قائلين ) لو استطعنا ( وقوله ( لخرجنا ( سادّ مسدّ جوابي القسم ولو جميعاً. قيل : في الآية دلالة على أن قوله ) انفروا ( خطاب(3/474)
" صفحة رقم 475 "
للمستطيعين وإلا لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذراً في التخلف. قال الجبائي : فيها دليل على أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لما كذبهم الله تعالى ، فإن لم من يخرج إلى القتال لم يكن مستطيعاً للقتال عند عند من يجعل الاستطاعة مع الفعل. وقال الكعبي : زائداً عليه فإن قيل : لم لا يجوز أن يراد أنهم ما كان لهم زاد ولا راحلة ولا يراد نفس القدرة ؟ قلنا إن من لا راحلة له يعذر في ترك الخروج فمن لاقدرة له أولى. وأيضاً الظاهر من الاستطاعة قوة البدن وإذا أريد به المال فلأنه يعين على ما يفعله الإنسان بقوة البدن. وأجيب بأن المعتزلة سلموا أن القدرة على الفعل لا تتقدم الفعل إلا بوقت واحد فإن الإنسان الجالس في مكان لا يكون قادراً في هذا الزمان على أن يفعل فلاً في مكان بعيد عنه وإنما يقدر على فعله في المكان الملاصق لمكانه. فالقوم الذين تخلفوا ما كانا قادرين على القتال عندنا وعندهم فيلزمهم ما ألزموه علينا فوجب المصير إلى تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فيسقط السؤال. ولقائل أن يقول : إنهم وإن كانوا غير قادرين على القتال إلا أنهم كانوا قادرين على الاشتغال بأسباب القتال فيعود السؤال. قال في الكشاف ) يهلكون ( بدل من ) سيحلفون ( أو حال أيو يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب ، أو حال من ضمير ) خرجنا ( أي لخرجنا معكم وإن ألقينا أنفسنا في التهلكة. وإنما جاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم. حلف بالله ليفعلن أو لأفعلن فالغيبة على الإخبار والتكلم على الحكاية. قلت : وفي الوجه الأخير نظر للزوم بناء أول الكلام على التكلم وآخره على الغيبة ، ولعل الصحيح حينئذ أن لو قيل : لخرجنا معكم نهلك أنفسنا والله تعالى أعلم. ثم بين أن ذلك التخلف من بعض كان بإن الرسول ولهذا توجه عليه العتاب بقوله ) عفا الله عنك ( فإن العفو يستدعي سباقة الذنب. وبقوله ) لم أذنت لهم ( فإنه استفهام في معنى الإنكار وبيان لما كنى عنه بالعفو. قال قتادة وعمرو بن ميمون : شيئان فعلهما الرسول لم يؤمر بهما : إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى. فعاتبه الله بطريقة الملاطفة كما تسمعون. والذي عليه المحققون أنه محمول على ترك الأولى. وقوله ( عفا الله عنك ( إنما جاء على عادة العرب في التعظيم والتوقير فيقدمون أمثال ذلك بين يدي الكلام يقولون : عفا الله عنك وما صنعت في أمري ، رضي الله عنك ما جوابك عن كلامي ، وعافاك الله ألا عرفت حقي. وبعد حصول العفو من الله تعالى يستحيل أن يكون قوله ) لم أذنت لهم ( وارداً على سبيل الذم والإنكار بل يحمل على ترك الأكمل والأولى لا سيما في الآية دلالة على جواز الاجتهاد لأنه عليه السلام إذن لهم من تلقاء نفسه من غير أن(3/475)
" صفحة رقم 476 "
يكون من الله في ذلك إذن وإلا لم يعاتب أو منع وإلا كان عاصياً بل كافراً لقوله ) ومن لم يحكم بما أنزل الله ) [ المائدة : 47 ] ولا ريب أنه لا يكون بمجرد التشهي فيكون بالاجتهاد ثم إنه لم يمنع من الاجتهاد مطلقاً وإنما منع إلى غاية هي قوله ) حتى يتبين لك الذي صدقوا وتعمل الكاذبين ( ولا يمكن أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي وإلا كان ترك ذلك كبيرة فتعين أن يحمل التبين على استعلام الحال بطريق الاجتهاد ليكون الخطأ واقعاً في الاجتهاد لا في النص ويدخل تحت قوله ( ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ) وفي الآية دلالة على وجوب الاحتراز عن العجلة وترك الاغترار بظواهر الأمور. قال قتادة. عاتبه الله كما تسمعون ثم رخص له في سورة النور في قوله ) فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ) [ الآية : 62 ]. قال أبو مسلم : يحتمل أن يريد بقوله ) لم أذنت لهم ( الإذن في الخروج لا في القعود ، فقد يكون الخروج غير صواب لكونهم عيناً للمنافقين على المسلمين ، وإذا كان هذا محتملاً فلا تتعين الآية لرخصة الإذن في القعود. وقال القاضي : هذا بعيد لأن سياق الآية يدل على أن الكلام في القاعدين وفي بيان حالهم. ثم ذكر أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا لأن الاستئذان من علامات النفاق فقال رلا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا ( أي في أن يجاهدوا ، وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون : لا نستأذن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الجهاد وكانوا بحيث لو أمرهم بالقعود شق عليهم ذلك. ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أمره الرسول صلىالله عليه وسلم بأن يبقى في المدينة شق عليه ذلك ولم يرض إلى أن قال له الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ). وقيل : إن حرف النفي مضمر كإضمار الجار والتقدير في أن لا يجاهد والآن سياق الآية يدل على ذم من يستأذن في القعود. وعلى هذا يمكن أن يقال : معناه كراهة أن يجاهدوا وفي قوله ) والله عليم بالمتقين ( رمز إلى أنهم من جملة المتقين وأن لهم ثوابهم. ثم بين الذين من شأنهم الاستئذان فقال ) إنما يستأذنك ( الآية. وفيه أن الشاك في أمر الدين وفي أصوله لا في بعض مسائلة غير مؤمن بالله تعالى ، وفيه أن محل الريب واليقين هو القلب وأن الإيمان ليس مجرد الإقرار باللسان وإلا لم يصح نفيه عن المنافقين. ومعنى قوله ) فهم في ريبهم يترددون ( أن الشاك متردد بين النفي والإثبات غير حاكم بأحد الطريفين. وتقريره أن الإعتقاد إما أن يكون جازماً(3/476)
" صفحة رقم 477 "
أولاً ، فالجازم إن كان غير مطابق فهو الجهل وإن كان مطابقاً فإما بضرورة أو نظر فهو العلم أولاً وهو اعتقاد المقلد وغير الجازم إن كان أحد الطرفين راجحاً عنده فالراجع هو الظن والمرجوح هو الوهم ، وإن تساوى الطرفان فهو الريب والشك فلهذا كان الحيرة والتردد من شأن صاحبه كما أن الثبات والاستقرار ديدن المستبصر. قال المفسرون : إن المستأذنين هم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً. ثم نعى على المنافقين سوء فعالهم فقال ) ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ( قال ابن عباس : يريد من الماء والزاد والراحلة لأن سفرهم بعيد والزمان شديد ، فتركهم العدّة دليل على أنهم أرادوا التخلف. قال العلماء : وفيه إشارة إلى أنهم كانوما مياسير قادريت على تحصيل الأهبة والعدّة. ) ولكن كره الله انبعاثهم ( أي انطلاقهم ) فثبطهم ( والتثبيط رد الإنسان عن الفعل الذي هم به. ومعنى الاستدراك أن قوله ) ولو أرادوا الخروج ( يعطي معنى نفي الخروج وكأنه قيل : ما خرجوا ولكن تنبطوا لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك كما تقول : ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ. ومثل هذا يسمى في علم البديع صنعة الاستدراك. وقد يقال : تأكيد الذم بما يشبه المدح. ولو قيل مثل هذا في المنع لقيل تأكيد المدح بما يشبه الذم. وههنا سؤال وهو أن خروجهم مع الرسول إن كان مفسدة فلم عاتب الله رسوله في إذنه لهم بالقعود ، وإن كان مصلحة فلم كره الله انبعاثهم ؟ والجواب أنه كان مفسدة لقوله عقيب ذلك ) لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ( وحديث العتاب ظاهر عند من لا يجوز الاجتهاد على الأنبياء لتمكنهم من استعلام الصواب بطريق الوحي ، وكذا على قول أبي مسلم. ومما يوهم أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أذن لهم في الخروج قوله تعالى في هذه السورة ) فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ) [ التوبة : 83 ] وقوله في سورة الفتح ) سيقول لك المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم ( إلى قوله ) قل لن تتبعونا ) [ الفتح : 15 ] وأما عندنا فإنما لم يستحسن الله من السرول ( صلى الله عليه وسلم ) إذنه لهم بالقعود وإن كان قعودهم مصلحة لأنه أذن لهم قبل إتما التفحص وإكمال التدبر ولأنه لو لم ذأن لهم فهم كانوا يعقدون من تلقاء أنفسهم فكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ولا تبقى حاجة إلى إظهار نفاقهم بوجوه أخر دالة على هتك أستارهم وكشف أسرارهم. قال المعتزرة البصرة : في الآية دلالة على أنه تعالى موصوف بصفة الكراهة كما أنه موصوف بصفة الإرادة. قالت الأشاعرة : معنى كقره الله أنه أراد عدم ذلك الشي. وزيف بأن العدم يا يصلح أن يكون متعلق الإرادة لأن العدم مستمر فتعلق الإرادة به يكون تحصيلاً للحاصل. ويمكن أن يجاب بأن الإرادة صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن(3/477)
" صفحة رقم 478 "
على الآخر سواء في ذلك طرف الوجود وطرف العدم ، وطرف العدم غير حاصل إلا بإرادة العدم فكيف يكون تعلق الإرادة به تحصيلاً للحاصل ؟ وأيضاً عدم الشيء المخصوص ليس عدماً محضاً. أما قوله ) وقيل اقعدوا ( فيحتمل أن يكون قد جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود ، ويحتمل أن يراد به قول الشيطان بطريق الوسوسة ، أو قول بعضهم لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف ، أو هو قول الرسول كأنه غضب عيهم حين استأذنوه فقال على سبيل الزجر ) اقعدوا مع القاعدين ( فاغتنموا هذه اللفظة وقالوا قد أذن لنا فلهذا عوتب بقوله ) لم أذنت لهم ( أي لم ذكرت هذه الفظة التي أمكنهم أن يتوسلوةا بها إلى تحصيل غرضهم. ومعنى قوله ) مع القاعدين ( ذم لهم وتعجيز وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم الجثوم في البيوت. ) رضوا ربأن يكونوا مع الخوالف ( قال المفسرون : لما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي عسكره على ذي حدة - أسفل من ثنية الوداع - ولم يكن بأقل العسكرين ، فلما سار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب فأنزل الله يعزي نبيه ) لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ( فيكون استثناء متصلاً من أعم العام ، وحمله على الاستثناء المنقطع بناء على أن التقدير ما زادوكم خيراً إلا خبالاً ضعيف. والخبال في اللغة الفساد ومنه المخبل للمعتوه ، وللمفسرين عبارات ؛ قال الكلبي : إلا شراً. وقال سلمان إلا مكراً. وقال الضحاك : إلا غدراً. وقيل : إلا خبثاً. وقيل : هو الاضطراب في الرأي وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لآخرين حتىلا يختلفوا وتتفرق كلمتهم. قالت المعتزلة : دلت الآية على أنه كره انبعاثهم لاشتماله على هذا الخبال والشر. وفيه دليل على أنه تعالى لا يريد إلا الخير والصلاح. ولقائل : أن يقول إثبات حكم كلي بحكم جزئي غير معقول. واعلم أنه سبحانه عد من مفاسد خروجهم ثلاثة : الأول : قوله ) ما زادوكم إلا خبالاً ( الثاني : ( ولا أوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ( قال في الكشاف : زيد ألف في الكتابة لأ نالفتحة كانت تكتب ألفاً قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفاً أخرى ونحوه ) أو لأذبحنه ) [ الآية : 21 ] في النمل ) ولا أتوها ) [ الآية : 14 ] في الأحزاب ، ولا رابع لها في القرآن. وفي الإيضاع قولان لأهل اللغة ؛ فقال أكثرهم : هو متعد يقال : وضع البعير إذا عدا ، وأوضعه الراكب إذا حمله على العدو. وعلى هذا يكون في الآية حذف والتقدير : ولأوضعوا ركائبهم. وقال الأخفش وأبو عبيد : إنه جاء لازماً ويقال : أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً. ومنه ما روي أن(3/478)
" صفحة رقم 479 "
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أفاض من عرفة وعليه السكينة وأوضع في وادي محسر أي أسرع. قال الواحدي : والآية تشهد للأخفش وأبي عبيد. وعلى القولين المراد في الآية السعي بين المسلمين بالتضريب والنميمة والمبالغة في الأول أكثر لأن الراكب أسرع من الماشي. ومعنى ) خلالكم ( أي فميا بينكم. والخلل الفرجة فيما بين الشيئين. و ) يبغونكم الفتنة ( أي يبغون لكم. قال الأصمعي : يقال ابغني كذا وابغ لي أي اطلبه لأجلي. ومعنى الفتنة هنا افتراق الكلمة والتشويش في المقاصد فعند ذلك يحصل الانهزام أسرع ما يكون. فالحاصل من النوع الأول اختلاف الآراء ، ومن الثاني المشي بالنميمة لتسهيل ذل كالغرض. وأما النوع الثالث فذلك قوله ) وفيكم سماعون لهم ( قال مجاهد وابن زيد : أي عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم. وقال قتادة : فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم وإذا تعاضد الفاعل والقابل وقع الأُر على أكمل الوجوه لا محالة. واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم ؟ وأجيب بأن ذلك إنما يقع لمن قرب عهده بالإسلام أو لمن جبل على الجبن والفشل أو لمن حسن ظنه ببعض المنافقين لقرابة أو هيبة ، وقلما يخلو الأقوياء من ضعيف سخيف أو أهل الحق من مبطل منافق ولهذا ختم الآية بقوله ) والله عليم بالظالمين ( الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم وغيرهم بإلقاء الفتنة فيمنا بينهم. ثم سلى نبيه بتوهين كيد أهل النفاق قديماً وحديثاً فقال ) لقد ابتغوا الفتنة من قبل ( أي من قبل وقعة توبك. قال ابن جريج : هو أن اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) . وقيل : المراد ما فعله عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع أصحابه. ومعنى الفتنة السعي في تشتيت شمل المسلمين والاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة فسلمهم الله منه ) وقلبوا لك الأمور ( حرفوها ودبروا كل الحيل والمكايد. ومنه فلان حوّل قلب إذا كان دائراً حول مصايد المكايد ) حتى جاء الحق ( الذي هو القرآن ) وظهر أمر الله ( غلب دينه وشرعه ) وهم كارهون ( رد الله مكرهم في نحرهم وأتى بضد مقصودهم. ولما كان الأمر كذلك في المضاي فكذا يكون الحال في المستقبل لقوله ) ويأبى الله إلا أن يتم نوره ) [ التوبة : 32 ] ( ومنه من يقول ائذن لي ( في القعود ) ولا تفتني ( ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت. واحتمل أن يكون قد ذكره على سبيل السخرية أو على سبيل الجد بأن كان يغلب على ظن ذلك المنافق صدق محمد وإن كان غير جازم به بعد. وقيل : لا تفتني أي لا تلقني في التهلكة فإني إن(3/479)
" صفحة رقم 480 "
خرجت معك هلك مالي وعيالي. وقيل : قال الجد بن قيس ؛ قد علمت الأنصار أني مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم ، ولكني أعينك بما لي فاتركني ، فأرض عنه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : قد أذنت لك فنزلت الآية. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لبني سلمة - وكان الجد منهم - من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : جد بن قيس غير أنه بخيل جبان. فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : وأي داء أدوى من البخل ؟ بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد الشعر البراء ابن معرور. ) ألا في الفتنة سقطوا ( أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة النفاق والتمرد عن قبول التكليف المستتبع لشقاء الدارين ولهذا ختم الآية بقوله ) وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ( أما في الدنيا فلإحاطة أسبابها بهم من النعي عليهم بالنفاق وإفشاء الأسرار وهتك الأستار وتحقير المقدار ، وأما في الآخرة فلمآل حالهم إلى الدرك الأسفل من النار. التأويل : ( أيها الأرواح والقلوب المؤمنة ما مصيبتكم وبلواكم إذ قيل كم بالإلهام الرباني أخرجوا من الدنيا وما فيها في طلب والسير إليه ، أثاقلتم إلى أرض الدنيا وشهواتها. ) إلا تنفرا ( من سجن الدنيا وقيود شهواتها ) يعذبكم عذاباً أليماً ( باستيلاء ظلمات الصفات النفسانية وغلبات الأوصاف السبعية والشيطانية وبألم البعد عن لحضرة الربانية ) ويستبدل قوماً غيركم ( من الأرواح والقلوب العاشقة الصادقة بل من العقول الكاملة المفارقة ) إلا تنصروه ( والرسول الوارد الرباني ) فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ( أي النفوس الأمارة الكافرة من أرض القبول. ) ثاني اثنين ( ثاني النفس الملهمة ) إذ هما في ( غار العدم. ) وكلمة الله هي العليا ( بجعل النفس المطمئنة بجذب ) ارجعي ( ) الفجر : 28 ] واصلة إلى مقام النعديه ) انفروا ( أيها الطلاب ) خفافاً ( مجردين من علائق الأهل والأولاد والأموال ) وثقالاً ( متلبسين بها ، أو ) خفافاً ( مجذوبين بالعناية ) وثقالاً ( سالكين بالهداية ) وجاهدوا ( بقدمي بذلك الأموال والأنفس. وقدّم إنفاق المال لأن بذل النفس مع بقاء صفاتها الذميمة غير معتبر ، ومن صفاتها الذميمة الحرص على الدنيا والبخل بها ذلكم خير لكم لأن الحصل من المال ومن النفس الوزر والوبال. والحاصل من الطلب الوصول والوصال ) لو كان ( مطلوبك يا محمد ) عرضاً قريباً ( هو الدنيا ونعيمها ) وسفراً قاصداً ( هو تتبع شهوات النفس وهواها ) لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة ( لأنها الخروج من الدنيا والعقبى. ) وسيحلفون ( يعني أرباب النفوس ) لخرجنا معكم ( يا أهل القلوب. ) عفا الله عنك ( قدم العفو على العتاب تحقيقاً لقوله ) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ( ) الفتح : 2 ] ( فهم في ريبهم يترددون ( بين أوصافهم(3/480)
" صفحة رقم 481 "
الذميمة النفسانية والحيوانية بلا داعية لخروج إلى الأنوار الروحانية ) لأعدا له عدة ( وهي متابعة الأنبياء ) فثبطهم ( حبسهم في سجن البشرية ) ما زادوكم إلاَّ خبالاً ( فيه إشارة إلى أن قعود أهل الطبيعة في حبس البشرية صلاح لأرباب القلوب وأصحاب السلوك لأنهم لو خرجوا لا عن نية صادقة وعزيمة صالحة ما زادوهم إلا تشويشاً وتفرقة لأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم. ) لقد ابتغوا الفتنة من قبل ( يعني أن صفات النفس قبل البلوغ كانت تستخد الروح في شهواتها ) حتى جاء الحق ( وهو العقل القابل لأوامر الشرع ) وظهر أمر الله ( وهو التكليف ) ومنهم ( أي من صفات النفس ) من يقول ( وهو الهوى ) ائذن لي ( في القعود عن الارتقاء في مدارج المعارف والمشارع ) ولا تفتني ( يا روح بتكليفي ما ليس من شأني. وذلك أن الهوى مركب المحبة تستعمله الروح في تصاعده إلى ذروة الكمال والولصال. ) ألا في الفتنة سقطوا ( أي إن فتنة الهبوط هي الفتنة بالحقيقة ) وإن جهنم ( البعد والقطيعة من لوازم كفار النفس وصفاتها أعاذنا الله منها. ( التوبة : ( 50 - 59 ) إن تصبك حسنة . . . .
" إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون "
( القراآت )
هل تربِّصون ( بإظهار اللام وتشديد التاء : البزي وابن فليح ، وقرأه حمزة وعلي وهشام مدغماً حتى لا يجتمع ساكنان. الباقون : بإظهار اللام وتخفيف التاء ) أن تقبل ( بالياء التحتانية : حمزة وعلي وخلف. الباقون : بالفوقانية ) مدخلاً ( بضم الميم(3/481)
" صفحة رقم 482 "
وسكون الدال : سهل ويعقوب. الباقون : بالدال المشددة المتفوحة. ) يلزمك ( بضم الميم : سهل ويعقوب. الآخرون : بكسرها سوى عباس فإنه مخير. الوقوف : ( تسؤهم ( ج لابتداء شرط آخر مع واو العطف ) فرحون ( ه ) لنا ( ج للابتداء لفظاً مع الاتحاد معنى ) هو مولانا ( ط لابتداء إخبار من الله أو الحكاية عنهم. ) المؤمنون ( ه ) الحسنيين ( ط للاستئناف بعد تمام الاستفهام ) بأيدينا ( ط والوصال أصح لأن الفاء جواب ) نتربص ( ) متربصون ( ه ) منكم ( ط. ) فاسقين ( ه ) كارهون ( ه ) ولا أولادهم ( ط ) كافرون ( ه ) لمنكم ( ط ) يفرقون ( ه ) يجمحون ( ه ) في الصدقات ( ط للشرط مع الفاء ) يسخطون ( ه ) ورسوله ( لا إلى قوله ) راغبون ( لأن الكل يتعلق ب ( لو ) وجواب ( لو ) بعد التمام محذوف أي لكان خيراً لهم. التفسير : هذا نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين. عن ابن عباس : الحسنة في قوم بدر والمصيبة في يوم أحد. والأولى حمله على العموم إذ معلوم من حال المنافقين أنهم كانوا في كل حسنة وعند كل مصيبة بالوصف الذي ذكر الله تعالى. ومعنى ) أخذنا أمرنا ( أي أمرنا الذي نحن موسومون به من التيقظ والتحرر وحسن الرأي والتدبير. و ) من قبل ( أي من قبل ما وقع ) وتولوا ( أي عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم أو أعرضوا عن الرسول ) وهم فرحون ( مسرورون ثم أمر نبيه صللى الله عليه وسلم بأن يقول في جوابهم ) لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ( قيل : أي في اللوح المحفوظ من خير أو شر أو خوف أو رجاء أو شدة أو رخاء. وفائدته أنه إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع - لأن خلاف معلوم الله ومقدوره محال - زالت عنه مناعة النفس وهانت عليه المصائب. وقيل : أي في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدوّ وإظهار دين الله على كل الأديان فيكون المقصود أن أحوال المسلمين وإن كانت مختلفة في الغم والسرور والمحنة إلا أن العاقبة والدولة تكون لهم والظفر يقع في جانبهم فلا معنى لفرح المنافقين في الحال. وقال الزجاج : معناه لن يصبنا إلا ما اختصنا الله به من الصنرة عليكم أو الشهادة ، وعلى هذا القول يقع ما في الآية الثانية كالمكر ) هو مولانا ( لا يتولى أمورنا إلا هو يفعل بنا ما يريد من أسباب التهاني والتعازي ، لا اعتراض لأحد عليه. ) وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( فيه تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يعلق الرجاء إلا برب الأرباب فإنه يتعلقون بالوسائط والأسباب. ثم أمره بجواب ثانيٍ فقال ) قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ( التربص التمسك بما ينتظر به مجيء حينه ومنه تربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره. والحسنى تأنيث الأحسن وهي صفة الحالة أو الخصلة أو العاقبة يعني النصرة أو الشهادة. وفي(3/482)
" صفحة رقم 483 "
الأولى إحراز الغنيمة والظفر بالأعداء ، وفي الثانية إبقاء الذكر والفوز بنعيم الآخرة. ) ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده ( قارعة مثل قارعة عاد وثمود وقيل : عذا الله يشمل عذاب الدارين ( أو بأيدينا ( يعني القتل بأن يظهر نفاقكم ويأمر بقتلكم كالكافر الحربي ) فتربصوا ( أمر للتهديد نحو ) ذق أنك أنت العزيز الكريم ) [ الدخان : 49 ] ثم ذكر أنهم إن أتوا بشيء من صورة البر لم يكن له قدر عند الله ولا ينتفعون به في الآخرة ، والغرض أن أسباب الذل والهوان مجتمعة عليهم في الدنيا والأخرى. عن ابن عباس نزلت في الجد بن قيس حين قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به. ولا يبعد أن يكون السبب خاصاً والحكم عاماً. و ) أنفقوا ( لفظه أمر ومعناه خبر كقوله فيما يجيء ) استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) [ التوبة : 80 ] ومعناه أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم واستغفروا لهم ، أو لا تستغفر لهم وانظر هل ترى اختلافاً بين حال الاستغفار وتركه ؟ ومثله قول كثير لعزة : أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة كأنه يقول : امتحني لطف محلك عندي وعامليني بالإساءة والإحسان وانظري هل تجدين مني تفاوتاً في الحالين. وإنما يجوز إقامة الخبر والطلب أحدهما مقام الآخر إذا دل الكلام عليه فيعدل عن الأصل لإفادة المبالغة. وانتصب ) طوعاً أو كرهاً ( على الحال ومعناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله أو ملزمين من جهتهما. وسمي الإلزام كراهاً لأنهم منافقون فكان إلزام الله إياهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه. ويحتمل أن يراد طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو ملزمين من جهتهم ، وذلك أن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملونهم على الإنفاق إذا رأوا فيه مصلحة. ومعنى ) لن يتقبل منكم ( أن الرسول لا يقبله منكم ، أو أنه لا يقع قبولاً عند الله. ثم علل عدم القبول بقوله ) إنكم كنتم قوماً فاسقين ( قال الجبائي : فيه دليل على أن الفسق يحبط الطاعات. وأجيب بأن الفسق ههنا بمعنى الكفر ولا يلزم منه كون الفسق المطلق كذلك. وإنما قلنا إن الفسق بمعنى الكفر لقوله سبحانه ) وما منعهم أن تقبل منهم ( الآية علل منع القبول بأمور ثلاثة : أولها : الكفر بالله وبرسوله. وثانيها ) ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ( قال المفسرون : معناه أنه إن كان في جماعة صلى وإن كان وحده لم يصل ، وفيه أنه يصلي للناس لا لله ، وفيه أنه غير معتقد للصلاة ووجوبها فلهذا لزم منه الكفر. وثالثها : ( ولا ينفقون إلا وهم كارهون ( ولك أنهم لا ينفقون رغبة في ثواب الله وإنما ينفقون لأجل المصالح الدنيوية ، فهم في حكم الكارهين وإن أنفقوا مختارين يعدون الغنفاق مغرماً ومنعه مغنماً خلاف قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أدوا زكاة أموالكم(3/483)
" صفحة رقم 484 "
طيبة بها نفوسكم ). قيل : الكفر بالله سبب مستقل في منع القبول فكيف ضم إليه الأمرين الآخرين ؟ والجواب أنها أمارات ويجوز توارد الأمارت المتعددة على شيء واحد. بوجه خر أطلق كفرهم أولاً ثم قيده بعدم اعتقادهم وجوب الصلاة والزكاة ، وبعبارة أخرى حكم عليهم بالكفر مطلقاً ثم خص من أنواع كفرهم هذين تفظيعاً لشأن تارك الصلاة والزكاة. قال في الكشاف : وقرأت في بعض الأخبرا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كره للمؤمن أن يقول كسلت كأنه ذهب إلى هذه الىية. وأن الكسل من صفات المنافقين. قال بعض العلماء : وجه الجمع بين قوله ) فَمَنْ يعمل مثقال ذرة خيراً يره ) [ الزلزلة : 7 ] وبين مضمون هذه الآية وهو أن شيئاً من أعمال البر لا يكون مقبولاً عند الله مع الكفر ، هو أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقاب. لقائل أن يقول : لو لم يكن مقبولاً وإلا لم يكن له في التخفيف أيضاً أثر. وقيل : في الآية دلالة على أن الصلاة لازمة للكفار وإلا لم يكن الإتيان بها على وجه الكسل مانعاً من تقبل طاعاتهم كما أن قيامهم وقعودهم وسائر تصرفاتهم على وجه الكسل ليس مانعاً من التقبل بالإنفاق. ثم لما قطع رجاء المنافقين عن منافع الآخرة أراد أن يبّين أن ما يظنونه منمنافع الدنيا فهو أيضاً في الحقيقة سبب لتعذيبهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم فقال محاطباً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو لكل أحد ) فلا تعجبك ( الآية. ونظيره ) ولا تمدذن عينيك ) [ طه : 131 ] وإنما قال ) فلا تعجبك ( بالفاء لأن ما قبله مستقبل يصلح للشرط أي إن يكن فيهم ما ذكرنا من الإتيان بالصلاة على وجه الكسل وغير ذلك فهذا جزاؤه ، وهذ بخلاف ما سيجيء في الآية الآخرى من هذه السورة. والإعجاب سورة المرء بالشيء مع نوع من الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه ، وأنه من البعيد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عنه ويحصله لغيره كقوله ) ما أظن أن تبيد هذه أبداً ) [ الكهف : 35 ] ولا شك أن هذه خصلة مذمومة من جهة استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله ، ومن جهة استبعاد إزالته في قدرة الله ، ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاث مهلكات : شح مطاع وهوى متيع وإعجاب المرء بنفسه ) والمقصود من الآية زجر الناس عن الانصباب إلى الدنيا والمنع من التهالك في حبها ، فإن المسكن الأصلي هو الآخرة لا الأولى. وقوله ( إنما يريد الله ليعذبهم ( إعراقه كما مر في قوله ) يريد الله ليبين لكم ) [ النساء : 26 ] قال مجاهد والسدي وقتادة : في الآية تقديم وتأخير والتقدير : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة كأنهم نظروا إلى أن المال والولد لا يكونان عذاباً بل هما من نعم الله تعالى على عباده ، وأورد عليه أنهما لا يكونان عذاباً في الآخرة أيضاً. فإن(3/484)
" صفحة رقم 485 "
تكلفوا وقالوا : أراد بذلك أنهما سبب العذاب فقد استغنوا عن التقديم والتأخير لأنهما قد يكونان سبباً للعذاب في الدنيا أيضاً. وبوجه أخر ، المال والولد وكذا الإعجاب بهما يكونان. في الدنيا لا محالة ، فأي فائدة في ذكرها ؟ واعلم أن الأموال والأولاد قد يكونان سبباً للتعذيب في الدنيا والآخرة ، وذلك أن كل ما كان حبه للشيء أشد كان خوفه عن فواته أكثر وحزنه على فواته أعظم. فصاحب المال أبداً إما في خوف فوات المال وإما في حزن فواته وإما يف تعب حفظه وتثميره. ثم إن الدنيا حلوه خضرة فإذا كثر ماله انصب بكليته إليه ويفضي إلى طغيانه وقساوة قلبه إلى أن ينسى حب الله وذكر الآخرة. ثم إنه إن حصول المال سبب لعذاب الدارين. إلا من يتصرف فيه بالحق ومثله يكون نادراً ، وكذا الكالم في الولد. وهذا المعنى وإن كان اماً للكل إلا أن المنافقين لهم وجوه اختصاص بالتعذيب. وذلك أن الرجل إذا كان مؤمناً باله واليوم الآخر علم أنه إنما خلق للآخرة لا للدنيا فيفتر حبه للأمور الدنيوية بخلاف المنافق الذي اعتقد أن لا سعادة إلا هذه الخيرات العاجلة. وأيضاً إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنهم كانوا مضطرين إلى بذل المال وبعث الأولاد إلى خدمته ، وكانا خائفين من افتضاجهم وإظهار نفاقهم وتعريض أولادهم وأموالهم للنهب والسبي ، وكثير منهم كان لهم أولاد أتقياء مخلصون كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة ، وكعب الله بن عبد الله بن أبيّ شهد بدراً وكان عند الله بمكان ، وهم خلق كثير كانوا يزيفون طريق آبائهم في النفاق ويقدحون فيهم ، والابن إذا صار هكذا تأذى الأب بسببه ولأجل هذه المعاني ذكر بعض العلماء أن التقدير : يريد الله أن يزيد في أموالهم ليعذبهم. أما قوله ) وتزهق أنفسهم ( أي تخرج ) وهم كافرون ( فقد قالت الأشاعرة : فيه دليل على أنه تعالى أراد منهم الكفر. وأورد الجبائي عليه أن المريض إذا قال للطبيب أريد أن تدخل علي في حالة مرضي لم يلزم منه كونه مريداً لمرض نفسه ، والجواب أن أمثال هذه موكولة إلى قرائن الحال ففي قول المريض لا ريب أن المطلوب هو دخول الطبيب ، وكون الدخول واقعاً في تلك الحالة من ضرورات كونه مريضاً وهو طبيبه. وفي الآية ليس المراد زهوق الروح فقط لأن المسلم والمنافق في ذلك سيان ، فالمراد وقوع الزهوق في حالة الكفر فيكون الكفر منهم مراداً بالضرورة. وقال في الكشاف : المراد الاستدراج(3/485)
" صفحة رقم 486 "
بالنعم كقوله ) إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ) [ آل عمران : 178 ] كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمه إلى أن يموتوا وهم كافرون مشغولون عن النظر للعاقبة. ومن قبائح أفعال المنافقين ما حكى الله سبحانه عنهم في قوله ) ويحلفون باله أنهم لمنكم ( أي على دينكم. ثم قال ) وما هم منكم ( أي ليسوا على دينكم. ) ولكنهم قوم يفرقون ( يخافون القتل فيظهرون الإيمان تقية. ثم أكد نفاقهم بقوله ) لو يجدون ملجأً ( مفراً فيتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم. فلا تظنون أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن من صميم القلب. والمغارات مغارة وهو الموضع الذي يغور الإنسان فيه أي ستتر. والمدخل بالتدشيد مفتعل من الدخول أدغمت التاء في الدال لقرب مخرجيهما. والتداخل ( تفعل ) من الإدخال ومعناه المسلك الذي يتحفظ بالدخول فيه. قال الكلبي وابن زيد : نفق كنفق اليربوع. والمراد أنهم لو وجدوا مكاناً على أحد هذه الوجوه مع أنها شر الأمكنة ) لولوا إليه ( يقال : ولي إليه بنفسه إذا انصرف وولي غيره إذا صرفه ) وهم يجمحون ( أي يسرعون إسراعاً لا يرد وجوهم شيء. ومنه الفرس الجموح لا يرده اللجام. والحاصل أنهم من شدة تأذيهم وتنفرهم من الرسول والمسلمين صاروا بهذه الحالة. قال بعض العلماء : إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء والأقرب حملها على المعاني المتغايرة ، فالملجأ الحصون ، والمغارات الكهوف في الجبال ، والمدخل السرب تحت الأرض كالآبار والله تعالى أعلم. ومن جملة قبائحهم قوله ) ومنهم من يلمزك ( الآية. قال الزجاج : لمزت الرجل ألمزه وألمزه بكسر الميم وضمها إذا عبته. وفرق الليث فقال : اللمز العيب في الحضور ، والهمز الغيب في الغيبة ، واعلم أن العيب في الصدقات يحتمل وجوهاً : الأول : في أخذها بأن يقال انتزاع كسب الإنسان من يده غير معقول لأن الله هو المتكفل بمصالح عبيده إن شاء أفقرهم وإن شاء إغناهم. الثاني : أن يقال : هي أنك تأخذ الزكوات إلا أن ما تأخذه كثير فوجب أن تقنع بأقل من ذلك. الثالث : هب أنك تأخذ هذا الكثير إلا أنك تصرفه إلى غير مصرفه فيكون العيب قد وقع في قصمة الصدقات وفي تفريقها وهذا هو الذي دلت الأخبار على أنهم أرادوه. عن أبي سعيد الخدري بينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقسم غنائم حنين قال له ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج : أعدل يا رسول الله. فقال : ( ويلك ومن يعدل إذ لم أعدل ) فنزلت. وعن الكلبي هو أبو الجواظ قال : ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم وهو يزعم أنه يعدل. فقال : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا أبا لك أما كان موسى راعياً ). أما كان داود راعياً فلما ذهب قال(3/486)
" صفحة رقم 487 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون ). وقيل : هم المؤلفة قلوبهم. ثم بيّن أن عيبهم ذلك وسخطهم لأجل نصيب نفسهم لا للدين فقال ) فإن أعطوا منها رضوا ( وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) استعظم قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون. ومعنى ) إذا هم يسخطو ( فهم يسخطون. وفائدته أن يعلم أن الشرط مفاجىء للجزاء ومتهجم عيه. ثم أرشدهم إلى ما صلاحهم في نفس الأمر فقال ) ولو أنهم رضوا ( الآية ورتبه على أربع مراتب : الأولى : الرضا بما آتاهم الله ورسوله لعلمهم بأنه تعالى حكيم يعلم عواقب الأمور ، فكل ما كان حكماً له وقضاء منه كان حقاً وصواباً ولا إعتراض عليه. الثانية : أن يظهر أثر ذلك الرضا على لسانهم وهو قولهم ) حسبنا الله ( كفاناً فضله وصنعه ، لغيرنا المال ولنا الرضا والتسليم وذكر الحبيب. الثالثة : أن نزل من هذه المرتبة العالية كان واثقاً بأن الله لا يهمله وسيعوضه من فضله في غنيمة أخرى. الرابعة الرغبة إلى الله بأنه المقصد الحقيقي والمقصود الأصلي من الإيمان والطاعة والمال والمنال. يروى أن عيسى عليه الصلاة والسلام مر بقوم يذكرون الله فقال : ما الذي يحملكم عليه ؟ قالوا : الخوف من عقاب الله. فقال : أصبتم. ومر على قوم آخرين يذكرون الله فقالك ما الذي حملكم عليه ؟ فقال : الرغبة في الثواب. فقال : أصبتم. ومر على قوم ثالث مشتغلين بالذكر فسأهلم فقالوا : لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته وتشريف اللسان بذكره. فقال : أنتم المحقون. التأويل : ( أن تصبك ( يا روح ) حسنة ( من عواطف الحق تحزن النفس وصفاتها فيهاتظفر الروح عليها ) وإن تصبك مصيبة ( من الموانع والقواطع أخذنا نصيبنا من المراتع الحيوانية لما خالفناه في السير في العالم الروحاني. ) قل ( يا روح ) لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ( لا علينا فإن الفترات والوقفات للتربية لا للرد. وانظر وقل ) هل تربصون بنا ( أيتها النفس وصفاتها ) إلا إحدى الحسنيين ( الإحسان والعواطف الربانية والوقفة والفترة الموجبة لحسن التربية ) بعذاب من عنده ( هو الابتلاء بالمصائب من الخوف والجوع وغيرهما ) أو بأيدينا ( بالمنع من المخالفات وبكثرة الرياضيات والمجاهدات ) طوعاً ( أو رياء ) وكرهاً ( أي نفاقاً ) لن يتقبل منكم ( لأن أعمال اللسان وغيره من الجوارح من غير عمل القلب ليست بمقبولة وإن كان عمل القلب بدون الجوارح مقبولاً لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نية المؤمن أبلغ من عمله ) وباقي الآيات إشارات إلى أن من أمارات النفاق عدم الرضا بقسمة الخلاق وحال المخلص بالعكس .(3/487)
" صفحة رقم 488 "
( التوبة : ( 60 - 69 ) إنما الصدقات للفقراء . . . .
" إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤوا إن الله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون "
( القراآت )
أذن خير ( كلاهما بالرفع والتنوين : الأعشى والمفضل. الباقون : بالإضافة. ) ورحمة ( بالجر : حمزة الآخرون : بالرفع ) ألم تعلموا ( بتاء الخطاب : جبلة عن المفضل الباقون : بياء الغيبة ) إن نعف ( ) نعذب ( كلاهما بالنون ونصب ) طائفة ( عاصم غير المفضل. الباقون : على البناء للمفعول بياء الغيبة في الأول ، وبتاء التأنيث في التالي. الوقوف : ( وابن السبيل ( ط أي فرض الله ) فريضة من الله ( ط ) حكيم ( ه ) هو أذن ( ط ) آمنوا منكم ( ط ) أليم ( ه ) ليرضوكم ( ط لاحتمال الواو الحال أو الاستئناف. ) مؤمنين ( ه ) خالداً فيها ( ط ) العظيم ( ه ) بما في قلوبهم ( ط ) استهزؤا ( ط لاحتمال الهمزة في ( إن ) للتعليل ) يحذرون ( ه ) ونلعب ( ط ) تستهزؤون ( ه ) بعد إيمانكم ( ط ) مجرمين ( ه ) من بعض ( ط ) كيلا تصير الجملة صفة لبعض المنافقين وهي صفة لكلهم(3/488)
" صفحة رقم 489 "
) أيديهم ( ط ) فنسيهم ( ط ) الفاسقون ( ه ) فيها ( ط ) حسبهم ( ط لاختلاف النظم مع اتحاد المقصود في إتمام الجزاء ) ولعنهم الله ( ج لذلك ) مقيم ( ه لا بناء على تعلق الكاف ) وأولاداً ( ط ) خاضوا ( ط ) والآخرة ( ج ) الخاسرون ( ه. التفسير : ( إن المنافقين لما لمزوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في قسمة الصدقات بيَّن لهم الله سبحانه مصرفها كيلا يبقى لهم طعن إذا وجدوا فعله موافقاً لحكم الله فقال ) إنما الصدقات ( الآية. وفي تصدير الكلام بإنما دلالة على أنه لا حق لأحد في الصدقات إلا لهؤلاء ، ويؤيده ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لرجل : ( إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق. وإلا فهو صداع في الرأس وداء في البطن ). ولنتكلم في تعريف هؤلا الأصناف. فالأول والثاني : الفقراء والمساكين ولا شك أن كلاً من الصنفين محتاجون لا يفي دخلهم بخرجهم إنما الكلام في أنهما متساوياً الدلالة أو أحدهما أسوأ حالاً. فعن أبي يوسف ومحمد والجبائي أنهما واحد حتى لو أوصى لزيد وللفقراء والمساكين بمال كان لزيد النصف لا الثلث. قال الجبائي : إنه تعالى ذكرهما باسمين ليؤكد أمرهم في الصدقات. والفائدة فيه أن أصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم. وعند الشافعي الفقير أسوأ حالاً لأنه تعالى أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعاً لحاجاتهم فالذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم ، ومما يدل على إشعار الفقر بالشدّة العظيمة قوله تعالى ) تظن أن يفعل بها فاقرة ( 25 ] جعل الفاقرة كناية عن أعظم أنوالاع الشر والدواهي. وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يتعوذ من الفقر ، وقد سأل المسكنة في قوله ( اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين ) فكأنه سأل توسط الحال ، ولهذا لما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ترك أشياء معلومة مع أنه تعالى أجاب دعاءه ظاهراً فأماته مسكيناً. وتقييده تعالى المسكين بقوله ) ذا متربة ) [ البلد : 16 ] يدل على أن المسكين قد لا يكون كذلك ، وقال تعالى ) أما السفينة فكانت لمساكين ) [ الكهف : 79 ] وكان ابن عباس يفسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئاً كأهل الصفة ، والمسكين بأنه الطوَّاف الذي يسأل الناس. والغالب أنه يحصل له منهم شيء وقريب منه قول من قال سمي مسكيناً لأنه الدائم السكون إلى الناس. ولما كان المسكين هو السائل لما قلنا فالمحرم في قوله سبحانه ) وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) [ الذاريات : 19 ] هو الفقير صاحب الحرمان. اتفق الناس على أن الفقير ضد الغني ولم يقل أحد أن الغنى والمسكنة ضدان فعل الترفع هو ضد التمسكن. وقال أبو حنيفة : المسكين أسوأ حالاً لقوله تعالى ) أو مسكيناً ذا متربة ) [ البلد : 16 ] وقد تقدم الكلام عليه ولأنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة ولا فاقة أعظم(3/489)
" صفحة رقم 490 "
من الجوع ونقل الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين هو الذي لا شيء له ، وقال يونس : قلت لأعرابي ، أفقير أنت ؟ قال : لا والله بل مسكين. وقيل : سمعي مسكيناً لأنه يسكن حيث يحضرلأجل أنه لا بيت له ولا منزل. وأجيب بأنه تعالى جعل الكفارة للمسكين ذي المتربة وهو الفقير بعينه وإنما النزاع في المسكين المطلق والروايات معارضة بأمثالها والله أعلم. الصنف الثالث : العاملون على الصدقات وهم السعادة الجبالة للصدقة. قال ابن عمر وابن الزبير والشافعي : يعطى هؤلاء أجور أمثالهم لأنها أجرة للعمل. وقال مجاهد والضحاك : يعطون الثمن من الصدقات لأنهم صنف من الثمانية ، والصحيح أن الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملاً على الصدقات لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبى أن يبعث أبا رافع عاملاً على الصدقات وقال : أما علمت أن مولى القوم منهم. وفائدة التعدية بعلى التسليط والولاية. يقال : فلان على بلدة كذا إذا كان والياً عليها. واختلفوا في أن الإمام هل له حق لأنه هو العامل في الحقيقة أو لا حق له لخروجه عن الأصناف ؟ والجمهور على أن اعامل يأخذ نصيبه وإن كان غنياً لأن ذلك أجرة عمله. وعن الحسن أنه لا يأخذ إلا مع الحاجة. الصنف الرابع : المؤلفة قلوبهم. عن ابن عباس هم قوم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم حنين وكانوا خمسة عشر رجلاً منهم أبو سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن أعطى كل رجل منهم مائة من الإبل. قال العلماء : لعل مراد ابن عباس إنه لا يمتنع في الجملة صرف الأموال إلى المؤلفة وإلا فلم يكن ما أعطاهم من الصدقات. ويروى أن أبا بكر الصديق أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصقاته وصدقات قومه أيام الردة. والذي استقر عليه رأى الأئمة أن المؤلفة ثلاثة أقسام : ضعيف النية في الإسلام ، وشريف بإعطائه يتوقع سلام نظرائه ، والمتألف على جهاد من يليهم من الكفار ومانعي الزكاة حيث يكون ذلك أهون للإمام من بعث جيش يعطى كل واحد ما رأى الإمام باجتهاده ، هذا كله إذا كانوا مسلمين ، فأما الكفار الذين يميلون إلى الإسلام فيرغبون فيه بإعطاء مال ، والذين يخاف شرهم فيتألفون لدفع الشر بمال فلا يعطون شيئاً من الزكاة ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعطيهم من خمس الخمس الآن لا يعطون أصلاً لقوة الإسلام والاستغناء عن تألفهم ولأنه ليس في الآية دلالة على أن المؤلفة يجوز أن يكونوا من الكفار فلا ينبغي أن يقال إن حكم الآية منسوخ ، الصنف الخامس قوله وفي الرقاب. قال الزجاج : تقديره وفي فك الرقاب ، وللأئمة في تفسيره أقوال ؛ فعن ابن عباس أنهم المكاتبون وهو مذهب الشافعي قال : إذا عجزوا عن أداء النجوم بأن يكون لهم شيء أو لا يفي ما في أيديهم(3/490)
" صفحة رقم 491 "
بنجومهم صرف إليهم أو إلى سيدهم فإذنهم ما يعينهم على العتق. وقال مالك وأحمد وإسحق : المراد أنه يشتري به عبيد فيعتقون. وعن أبي حنيفة وأصحابه. وهو قول سعيد بن جبير والنخعي ، أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب لأن قوله ) وفي الرقاب ( يقتضي أن يكون له فيه مدخل وذلك ينافي كونه تاماً فيه. وقال الزهري : سهم الرقاب نصفه للمكاتبين المسلمين ونصفه يشتري به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون. قال المفسرون : إنما عدل عن اللام إلى ( في ) لأن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفون فيه كما شاؤا ، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة. ففي الرقاب يوضع نصيبهم في تخليص رقابهم عن الرق أو الأسر ولا يدفع إليهم ، وفي الغارمين يصرف المال إلى قضاء ديونهم ، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاج إليه في الغزو ، وفي ابن السبيل كذلك يصرف إلا ما يبلغه(3/491)
" صفحة رقم 492 "
المقصد. وقال في الكشاف : إنما عدل للإيذان بأنهم أرسخ في استحاق التصديق عليهم ممن سبق لأن ( في ) للوعاء فنبه به على أنهم أحقاء بأن يجعلوا مصباً للصدقات. وتكرير ( في ) في قوله ) وفي سبيل الله وابن السبيل ( فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين الصنف السادس الغارمون قال الزجاج : أصل الغرم لزوم ما يستحق وسمي العشق غراماً لكونه أمراً شاقاً لازماً. وفلان مغرم بالنساء ، وسمي الدين غرماً لأنه شاق لازم. فالغارمون المديونون والدين إن حصل بسبب معصية لم يدخل في الآية لأن المعصية لا تستوجب الإعانة وإن حصل لا بالمعصية فهو مقصود الآية سواء حصل بسبب نفقات ضرورية أي لإصلاح ذات البين. وإن كان متمولاً أو للضمان إن أعسر هو والأصيل وكل داخل في الآية. روى الأصم في تفسيره أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم قضى بالغرة في جنين قالت العاقلة : لا نملك الغرة يا رسول الله ، فقال لحمد ابن مالك : لم قضى بالغرة في جنين قالت وكان حمد على الصدقة يمئذ. وإنما يعطى الغارم قدر دينه إن لم يقدر على شيء وإن الشافعي : يجوز له أن يأخذ من مال الصدقات وإن كان غنياً وهو مذهب مالك وأحمد وإسحق وأبي عبيد. وقال أبو حنيفة : لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجاً وظاهر لفظ الآية لا يوجب القصر على الغزا فلهذا نقل القفال عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقة إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن كلها في سبيل الله. الصنف الثامن ابن السبيل وهو المسافر لا لأجل معصية ، يعطى ما يبلغه المقصد أو موضع ماله إن كان له في الطريق مال. قال الشافعي : ويدخل في المسافر الشاخص من وطنه أو من بلد كان مقيماً به منشئاً للسفر والغريب المجتاز ببلدنا والله أعلم. ولنذكر طرفاً من أحكام هذه الأصناف : الحكم الأول : اتفقوا على دخول الزكاة الواجبة في قوله ) إنما الصدقات ( لقوله في موضع آخر ) خذ من أموالهم صدقة ) [ التوبة : 103 ] ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) واختلفوا في الصدقة المندوبة فمنهم من قال تدخل ، والفائدة أن تعلم أن مصارف جميع الصدقات ليست إلا هؤلاء الأصناف ، والأقرب اختصاص الآية بالواجبة لدخول لام التمليك في الأصناف ، والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة ولأن الآية تدل على الحصر في الأصناف الثمانية الصدقة المندوبة يجوز صرفها إلى وجوه أخر كالمساجد والمدارس وتجهيز الموتى ، ولأن الصدقات تنصرف إلى معهود سابق وهو الصدقات الواجبة في قوله ) ومنه من يلزمك في الصدقات (. الحكم الثاني : في الآية دلالة على أن الزكاة إنما يتولى أخذها الإمام أو نائبه لأنه تعالى جعل للعاملين سهماً منها. والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات ويتأكد هذا النص بقوله ) خذ من أموالهم صدقة ( فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة الأموال الباطنة بنفسه إنما يعرف بدليل آخر كقوله ) وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ) [ الذاريات : 19 ] وإذا كان حقاً لهما وجب أن يجوز دفعه إليهما ابتداء ، وإذا كان الإمام جائراً فالتفريق بنفسه أفضل. الحكم الثالث : مذهب أبي حنيفة أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء وأبي العالية والنخعي ، لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الثمانية فلا يلزم أن يكون كل جزء من أجزائها كصدقة زيد مثلاً موزعاً على كل واحد منهم ، ولأن الرجل الذي لا يملك إلا عشرين ديناراً فأخرج نصف دينار لو كلفناه أن يقسمه على أربعة وعشرين لدفع كل ثلاثة منها إلى ثلاثة من كل(3/492)