" صفحة رقم 458 "
كل طرف بشيء لم تنبعث الدواعي إلى اقتحام الأخطار في هذه الأسفار وحمل الأمتعة إلى الأمصار في البراري والبحار ، فلا جرم ينتفع الحامل من حيث إنه يربح ، وينتفع المحمول إليه من حيث إنه يجد ما أعوزه .
وفي الآية دليل على إباحة ركوب السفينة وإباحة الانتفاع بالتجارة .
الخامسة : ( وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ( أما نزول المطر من السماء فقد مر تحقيق ذلك في تفسير قوله تعالى ) أو كصيب من السماء ) [ البقرة : 19 ] وأن المراد من السماء السحاب أو التقدير من جانب السماء .
وأما تنكير ) من ماء ( فلأن الغرض الوحدة الشخصية أو الصنفية يعني ماء هو سبب حياة الأرض لا المطر الذي قد لا ينبت شيئاً كما جاء في الحديث ( ليس السنة بالتي لا تمطر وإنما السنة التي تمطر ولا تنبت ) ولا ريب أن في إنزال ذلك الماء دلالات على الصانع ووحدانيته حيث جعله في غاية الصفاء واللطافة والعذوبة وصيره سبباً للأرزاق وأنزله بعد قنوط الناس منه وشدة احتياجهم إليه وأودع في نزوله حياة الأرض أي حسنها ونضارتها ورواءها وبهجتها وخضرتها بخروج أصناف النبات وضروب الأعشاب وألوان الأزهار وأنواع الأشجار والأثمار وجريان الجداول بينها والأنهار بحيث تروق الناظرين وتشوق السامعين .
فوقت الربيع في الأزمان
كسن الصبا في الأسنان
وموت الأرض من ترشيح الاستعارة ، فإنه لما عبر عن بهجتها ونضرتها وخضرتها بالحياة ، عبر عن جمودها وكمودتها وبقائها على الهيئة الأصلية بالموت كأنها جسد لا روح فيه .
فلا دواء عليه .
السادسة : ( وبث فيها من كل دابةْ ( وإنه معطوف على ) أنزل ( فيدخل تحت حكم الصلة ، ويصح عود الضمير ) فيها ( إلى الأرض لأن قوله ) فأحيا ( عطف على ) أنزل ( فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد .
فكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة ويجوز عطفه على ) أحيا ( أي فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابةْ ، لأن معاش الحيوان بل حياته يدور على الماء ) وجعلنا من الماء كل شيء حي ) [ الأنبياء : 30 ] .
واعلم أن الحيوان إما توليدي أو توالدي ، وكلا الصنفين يحتاج إلى صانع(1/458)
" صفحة رقم 459 "
فردٍ حكيمٍ .
يحكى أن شخصاً قال بحضرة عمر : إني أتعجب من أمر الشطرنج ورقعته صغيرة ولو لعب الإنسان به ألف مرة لم يتفق مرتان فقال عمر : ههنا ما هو أعجب منه ، وهو أن مقدار الوجه شبر في شبر ، ثم إن مواضع الأعضاء التي فيها من الحاجبين والعينين والأنف والفم لا يتغير ألبتة ومع ذلك لا ترى شخصين أبداً يشتبهان في الصورة .
فما أعظم تلك القدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرقعة الصغيرة هذه الاختلافات التي لا حد لها ، ولولا هذا الاختلاف لاشتبه الناس بعضهم ببعض وانقطع نظم معايشهم وحوائجهم .
ومن تأمل كتب التشريح وقرأ كتاب الحيوان وتتبع عجائب المخلوقات وقف من تراكيبها وخواصها على ما يقضي منه العجب ويفضي إلى الاعتراف بوحدانية الرب .
السابعة : تصريف الله تعالى الرياح مع دقتها ولطافتها وفي ذلك نفع عظيم لانتفاع الحيوان بتنشق الهواء البارد ، وبجريان السفن بهبوب الرياح ، ومن قبل تلقيح الأشجار وسوق السحاب إلى حيث يرسله الله تعالى ، ومن جهة تصحيح الأهوية الوبائية إلى غير ذلك من المنافع .
والمراد بتصريفها تقليبها في جهات العالم على حسب المصالح شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً أي صباً ودبوراً على كيفيات متخالفة حارّة وباردة وعاصفة ورخاء .
ومن قرأ الريح بالموحدة فليس فيها دلالة على العذاب في هذا المقام ، والذي جاء في الحديث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا هبت الريح قال : اللَّهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً .
فلا يدل إلا على أن مواضع الرحمة بالجمع أدل كما قال تعالى : ( ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ) [ الروم : 46 ] وقال ) وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) [ الذاريات : 41 ] وقد تختص اللفظة في القرآن بشيء فتكون أمارة له .
فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله ) وما يدريك ( مبهم غير معين قال ) وما يدريك لعل الساعة قريب ) [ الشورى : 17 ] وما كان من لفظ ( أدراك ) فإنه مفسر ) وما أدراك ما القارعة ) [ القارعة : 3 ] ( وما أدراك ما هيه ) [ القارعة : 10 ] .
الثامنة : السحاب المسخر بين السماء والأرض سمي سحاباً لانسحابه في الهواء .
ومعنى التسخير التذليل .
وذلك أن طبع الماء ثقيل يقتضي النزول فكان بقاؤه في جو الهواء على خلاف طبعه بقاسر ومخسر .
وأيضاً لو دام لعظم ضرره من حيث إنه يستر ضوء الشمس ويكثر الأنداء والأمطار ويتعذر التردد في الحوائج ، ولو انقطع لعظم ضرره لاستلزامه الجدب والإمحال ، فكان تقديره بالمقدار المعلوم والإتيان به في وقت الحاجة ودفعه عند زوالها بمدبر ومسخر لا محالة .
وفي نفس السحاب من عظمه وتراكمه وارتفاعه وانخفاضه وانبساطه وتخلخله وسده الأفق في لحظة وانقشاعه في أخرى واشتماله على(1/459)
" صفحة رقم 460 "
الرعد والبرق والسحمة والتطبيق إلى غير ذلك من العجائب دلالات واضحة على كمال حكمة موجده ومقدّره .
وأما قوله تعالى ) الآيات ( فيحتمل أن يكون راجعاً إلى الكل أي مجموع هذه الأشياء الثمانية آيات ، ويحتمل أن يكون راجعاً إلى كل واحد فإن كل واحد منها يدل على مدلولات كثيرة كما فصلنا .
وأيضاً فكل واحدة منها من حيث إنها موجودة فدل على وجود موجدها ، وكونه قادراً ومن حيث إنها وقعت على وجه الإحكام والإتقان تدل على علم الصانع ، ومن حيث حدوثها واختصاصها بوقتٍ دون وقت تدل على إرادته واختياره ، ومن حيث إنها وجدت على الاتساق والانتظام دلت على وحدانية الله تعالى ) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [ الأنبياء : 22 ] .
وأما قوله تعالى ) لقوم يعقلون ( فإنما خص الآيات بهم لأنهم الذين يتمكنون من النظر فيه والاستدلال به .
وفي الآية من الفوائد أن التقليد مذموم فيما إلى تحقيقه سبيل .
وفيها أن جميع المعارف ليست ضرورية وإلا لم يحتج إلى النظر في شيء منها ، وإنما خص الآيات الثمانية بالذكر مع أن سائر الأجسام والأعراض مستوية في الاستدلال بها على وجود الصانع بل كل ذرّة من الذرات ، لأنها جامعة بين كونها نعماً على المكلفين ، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثيراً في الخواطر .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ويلٌ لمن قرأ هذه الآية فمج بها ) أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها حبي الله ونعم الوكيل .
( البقرة : ( 165 - 167 ) ومن الناس من . . . .
" ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار "
( القراآت )
ولو ترى ( بتاء الخطاب : نافع وابن عامر وسهل ويعقوب .
الباقون : بالياء ) إذ يرون ( بضم الياء من الإراءة : ابن عامر ) إن القوة ( ) وإن الله ( بكسر الألف فيهما : يزيد وسهل ويعقوب ) إذ تبرأ ( بإدغام الذال في التاء وكذا ما أشبهه : هشام وسهل وأبو عمرو وحمزة وعلي وخلف .
) يريهم الله ( بكسر الهاء والميم : أبو عمرو وسهل .
وقرأ حمزة وعلي وخلف ويعقوب بضم الهاء والميم .
والباقون بكسر الهاء وضم الميم ) بخارجين ( بالإمالة : عباس وقتيبة لجوار من النار .
الوقوف : ( كحب الله ( ط ) حباً لله ( ط ) العذاب ( لا وكذلك ) وجميعاً ( لا من قرأ ( أن ) بالكسر فيهما ) شديد العذاب ( 5 ) الأسباب ( 5 ) تبرؤا منا ( ط ) عليهم ( ط ) ومن النار ( 5 .(1/460)
" صفحة رقم 461 "
التفسير : أنه سبحانه وتعالى لما قرر للتوحيد الدلائل الباهرة عقبها تقبيح ما يضاده ( فبضدها تتبين الأشياء ) والند المثل المناد كما سلف .
والمراد بالأنداد ههنا هي الأصنام التي اعتقد المشركون أنها تقربهم إلى الله زلفى ، ونذروا لها النذور وقربوا لأجلها القرابين ، وقيل : يعني السادة الذين كانوا يطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم محلين ما حرم الله ومحرّمين ما أحل .
عن السدى : واستدل على تفسيره بأن قوله ) يحبونهم ( فيه ضمير العقلاء ولأنه من المستبعد أن تكون محبتهم لها كمحبتهم لله تعالى مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع ولقوله ) إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ( وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ العقلاء أنداداً وأمثالاً لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون لله تعالى .
ويمكن تزييف الحجج بأن ضمير العقلاء جاز عوده إلى الأصنام بناء على اعتقاد الجهلة حيث نظموها في سلك المعبود الحق .
قال تعالى ) وإن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ) [ فاطر : 14 ] .
وأيضاً علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع ممنوع ولو علموا بذلك ما أشركوا وأيضاً التبري لا يمتنع من الأصنام بدليل قوله تعالى ) ويوم القيامة يكفرون بشرككم ) [ فاطر : 14 ] وقال أهل العرفان : كل شيء شغلت قلبك به سوى الله فقد جعلته في قلبك نداً لله تعالى ) أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) [ الجاثية : 23 ] ( يحبونهم ( يحبون عبادتهم أو التقرب إليهم والانقياد لهم ، أو يعظمونهم ويخضعون لهم كحب الله من إضافة المصدر إلى المفعول أي كما يحب الله على أنه مصدر من المبني المفعول .
وإنما استغنى عن ذكر من يحبه وهم المؤمنون لأنه غير ملتبس .
وقيل : كالحب اللازم عليهم لله وقيل : كحبهم الله أي يسوّون بينه وبينهم في محبتهم بناء على أنهم كانوا مقرّين بالله ) فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ) [ العنكبوت : 65 ] ( والذين آمنوا أشدُ حباً لله ( لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره في السراء ولا في الضراء ، ولا يجعلون وسائط بينهم وبينه بخلاف المشركين يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله .
ويعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره ، أو يأكلونه كما أكلت باهلة آلهتها من حيس وهو الأقط والسمن والتمر عام المجاعة وفيهم قال الشاعر :
أكلت حنيفة ربها
زمن التجعم والمجاعة
لم يحذروا من ربهم
سوء العواقب والتباعة
واعلم أن إطلاق محبة العبد لله تعالى قد ورد في القرآن والحديث كما في هذه الآية وكقوله ) يحبهم ويحبونه ) [ المائدة : 54 ] ويروى أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت .
وقد جاء لقبض روحه - هل رأيت خليلاً يميت خليله ؟ فأوحى الله إليه : هل رأيت(1/461)
" صفحة رقم 462 "
خليلاً يكره لقاء خليله .
فقال : يا ملك الموت الآن فاقبض .
وجاء أعرابي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله متى الساعة ؟ فقال ( ماذا أعددت لها ) فقال : ما أعددت كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المرء مع من أحبه ) .
ثم إن الأئمة اختلفوا في معناها فقال جمهور المتكلمين : إن المحبة نوع من أنواع الإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات ، ويستحيل تعلق المحبة بذات الله وصفاته ، فمعنى قولنا يحب الله يحب طاعة الله وخدمته أو يحب ثوابه وإحسانه .
وأما العارفون فيقولون : إنا نحب الله لذاته لا لغرض ، ولو كان كل شيء محبوباً لأجل شيء آخر دار أو تسلسل وإذا كنا نحب الرجل العالم لعلمه ، والرجل الشجاع لقوته وغلبته ، والرجل الزاهد لبراءة ساكته عن المثالب ، فالله تعالى أحق بالمحبة لأن كل كمال بالنسبة إلى كماله نقص ، والكمال مطلوب لذاته محبوب لنفسه .
وكلما كان الاطلاع على دقائق حكمة الله وقدرته وصنعه أكثر كان حبه له أتم ، وبحسب الترقي في درجات العرفان تزداد المحبة إلى أن يستولي سلطان الحب على قلب المؤمن فيشغله عن الالتفات لغيره ويفنى عن حظوظ نفسه ، فيه يسمع وبه يبصر وبه يمشي ويتكلم بلسان الحال ( ليس في جبتي سوى الله ) فلا يعصي الله طرفة عين ولا يشتغل بحظ نفسه لمحة بصر كما قيل :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
ويحب الله ويحب أولياءه ومقربيه ويناوئ أعداءه ومخالفيه ) أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [ المائدة : 54 ] .
لعين تغدى ألف عين ويتقى
ويكرم ألف للحبيب المكرم
) ولو يرى ( قرئ بالياء والتاء ( وأن ) ( وإن ) بالفتح والكسر فههنا أربعة تقديرات : الأول : لو يعلم الذين ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد إذا عاينوا العذاب يوم القيامة أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم وأن عذاب الله للظالمين شديد ، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم .
وحذف جواب ( لو ) دليل على فخامة شأن المحذوف ليذهب الوهم كل مذهب ويقدر من الفظاعة ما لا يكتنه كنهه كقولهم ( لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه ) بخلاف ما وقع التعبير عنه بلفظ معين .
الثاني : ولو ترى - يا محمد أو يا من يتأتى منه الرؤية - هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم وقت معاينتهم العذاب بمعاينتهم أن القدرة كلها لله وأنه(1/462)
" صفحة رقم 463 "
شديد العذاب ، لرأيت أمراً عظيماً .
فعلى هذا ( أن ) و ( إن ) مع معمولهما بدل من العذاب .
قال الفراء : الوجه فيه تكرير الرؤية أي يرون أن القوة لله جميعاً .
الثالث : بياء الغيبة وكسر ( إن ) و ( إن ) ومعناه كالأول ، والجملتان معترضتان .
أو المعنى لقيل : إن القوة لله .
والرابع : على هذا القياس .
ودخول ( لو ) وكذا ( إذا ) في المستقبل مع ( أن ) حقهما الدخول على الماضي نظم للمستقبل في سلك الماضي المقطوع به لصدوره عمن لا خلاف في إخباره .
وقيل : لأن الساعة قريب فكأنها قد وقعت وكذا الكلام في ) إذ تبرأ ( وأنه بدل من ) إذ يرون العذاب ( وقيل : هو معمول شديد .
والمراد بالذين اتبعوا القادة والرؤساء من مشركي الإنس .
عن قتادة والربيع وعطاء : أو شياطين الجن الذين صاروا متبوعين بالوسوسة عن السدي : وقيل الأوثان .
والتبري إما بالقول وهو أقرب ، وإما بظهور العجز والندم بحيث لا يغنون عن أنفسهم من عقاب الله شيئاً فكيف عن غيرهم ؟ ) ورأوا العذاب ( الواو للحال أي تبرؤا في حال رؤيتهم العذاب ) وتقطعت ( عطف على ) تبرأ ( ) بهم ( أي عنهم فإن ( تقطع ) في معنى ( زال أو وقع ) تقطع الأسباب ملتبسة بهم مثل ) لقد تقطع بينكم ) [ الأنعام : 94 ] بضم النون أو الباء للتعدية كأن أسباب الوصل صارت أسباب القطع ومصالحهم انقلبت عليهم مفاسد .
والسبب في اللغة الحبل ثم استعير لكل ما يتوصل به .
قالوا : ولا يدعى الحبل سبباً حتى ينزل ويصعد به .
والمراد ههنا الوصل التي كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد ومن الأنساب والمحاب والأتباع والأشياع والعهود والعقود ) لو أن لنا كرة ( تمنّ ولذلك أجيب بالغاء كأنه قيل : ليت لنا كرة رجعة إلى الدنيا وإلى حال التكليف والمتبوعون مفتقرون إلى اتباعنا ونصرتنا حتى نتبرأ منهم بعدم النصرة والإعانة كما فعلوا هم اليوم ) كذلك ( مثل ذلك الإراء الفظيع ) يريهم الله أعمالهم حسرات ( هو ثالث مفعول ( أرى ) أو مثل ذلك التبرؤ يريهم أعمالهم حسرات ، فإن ذلك التبرؤ نوع إراءة .
والمراد بالأعمال قيل الطاعات لزمتهم فلم يقوموا بها وضيعوها .
عن السدي : وقيل المعاصي وأعمالهم الخبيثة يتحسرون لم عملوها .
عن الربيع وابن زيد : وقيل ثواب طاعاتهم التي أتوا بها فأحبطوه بالكفر .
عن الأصم : وقيل أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم .
والحسرة شدة الندم على ما فات حتى بقي النادم كالحسير من الدواب وهو الذي لا منفعة فيه .
والتركيب يدور على الكشف ومنه انحسر الطائر انكشف بذهاب ريشه. والحاصل أنهم لا يرون مكان أعمالهم إلا حسرات .
فيا أيها المغرور بالسلامة ما أعددت ليوم القيامة ، يوم الحسرة والندامة ، يوم يجعل الولدان شيباً ، يوم يدع المسرور كئيباً .
الدنيا دار تجارة فالويل لمن تزود منها الخسارة ) وما هم بخارجين من النار ( استدل الأشاعرة بالتقديم على التخصيص فقالوا : إن أصحاب الكبيرة من أهل القبلة(1/463)
" صفحة رقم 464 "
يخرجون من النار .
وزعم المعتزلة أن بناء الكلام على ( هم ) لتقوي الحكم وإفادة التأكيد كقوله تعالى ) وهم يخلقون ) [ الأعراف : 19 ] فإنه لا يدل على أن غير الأصنام غير مخلوق والله أعلم حسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى .
( البقرة : ( 168 - 171 ) يا أيها الناس . . . .
" يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون " ( القراآت ) خطوات ( ساكنة الطاء حيث كان : أبو عمرو وغير عباس ونافع وحمزة وخلف الهاشمي وأبو ربيعة عن البزي والقواس والحماد وأبو بكر غير البرجمي .
الباقون : بالضم .
) بل نتبع ( .
وبابه مثل ) هل ننبئكم ) [ الكهف : 103 ] و ) بل نقذف ) [ الأنبياء : 18 ] مدغماً حيث كان : علي وهشام .
الوقوف : ( طيباً ( ز والوصل أجوز لعطف الجملتين المتفقتين ) الشيطان ( ط ) مبين ( 5 ) ما لا تعلمون ( 5 ) آباءنا ( ط لابتداء الاستفهام ) ولا يهتدون ( 5 ) ونداء ( ط لحق المحذوف أي هم صم ) لا يعقلون ( 5 .
التفسير : قال الكلبي : نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة ، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي .
والآية مسوقة لتقرير طرف من جهالات المشركين المتخذين من دون الله أنداداً .
وحلالاً مفعول كلوا أو حال مما في الأرض وهو المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه من الحل الذي يقابل العقد .
ومنه حل بالمكان إذا نزل ، وحل عقد الرحال ، وحل الدين وجب لانحلال العقدة بانقضاء المدة ، والحلة لأنها تحل عن الطي للبس .
وتحلة القسم لأن عقدة اليمين تنحل به .
ثم الحرام قد يكون حراماً في جنسه كالميتة والدم ، وقد يكون حراماً لعرض كملك الغير إذا لم يأذن في أكله ، فالحلال هو الخالي عن القيدين ، والطيب إن أريد به ما يقرب من الحلال لأن الحرام يوصف بالخبيث ) قل لا يستوي الخبيث والطيب ) [ المائدة : 100 ] فالوصف لتأكيد المدح مثل ) نفخة واحدة ) [ الحاقة : 13 ] أي الطاهر من كل شبهة .
ويمكن أن يراد بالطيب اللذيذ ، أو يراد بالحلال ما يكون بجنسه حلالاً وبالطيب ما لا يتعلق به حق الغير .
والخطوة بالضم ما بين قدمي الخاطي كالغرفة بالضم اسم لما يغترف والفعلة بالضم والسكون إذا كانت اسماً تجمع في الصحيح بسكون العين وضمها .(1/464)
" صفحة رقم 465 "
يقال : اتبع خطواته ووطئ على عقبه إذا اقتدى به واستن بسنته ) مبين ( ظاهر العداوة لا خفاء به ) قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) [ ص : 82 ] ( أقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) [ الأعراف : 16 - 17 ] ( إنما يأمركم بالسوء والفحشاء ( السوء متناول جميع المعاصي من أفعال الجوارح وأفعال القلوب ، والفحشاء هي التي جاوزت الحد في القبح فلهذا قد تحقق الأول بما لم يجب فيه الحد والثاني بما يجب فيه الحد ) وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( وهذا أقبح الكل لأن وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم الكبائر فهذه الآية كالتفسير لقوله ) ولا تتبعوا خطوات الشيطان ( والصغائر والكبائر والكفر والجهل كلها من مأمورات الشيطان ، بل لا يأمر الشيطان إلا بهذه الأمور بدليل ( إنما ) وهي للحصر وقد يدعو الشيطان غلى الخير ظاهراً وغرضه أن يجرّه إلى الشر آخراً مثل أن يجرّه من الأفضل إلى الفاضل فيتمكن بعد ذلك أن يجرّه إلى الشر .
ومثل أن يجره من الفاضل السهل إلى الأفضل الأشق ليصير ازدياد المشقة سبباً لتنفره عن الطاعة .
ويدخل في قوله ) وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( جميع المذاهب الباطلة والعقائد الفاسدة وقول الرجل هذا حلال وهذا حرام بغير علم بل يتناول مقلد الحق لأنه وإن كان مقلداً للحق لكنه قال ما لا يعلم فصار مستحقاً للذم من جهة أنه قادر على تحصيل العلم بالحق ، ثم إنه قنع بالظن والتخمين .
ومعنى أمر الشيطان وسوسته وقد سلف في شرح الاستعاذة ، وفي التعبير عن وسوسته بالأمر رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم أو قبولكم وساوسه .
وإذا كان الآمر المطاع مرجوماً مذموماً فكيف حال المأمور المطيع ؟ وفي هذا معتبر للبصراء ومزدجر للعقلاء أعاذنا الله بحوله وأيده من مكر الشيطان وكيده .
) وإذا قيل لهم ( أي للمتخذين من دون الله أنداداً أو للناس .
والالتفات إلى الغيبة للنداء على ضلالتهم كأنه يقول للعقلاء : انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون : وعن ابن عباس : نزلت في اليهود حين دعاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الإسلام فقالوا : نتبع ما ألفينا أي وجدنا عليه آباءنا ، فإنهم كانوا خيراً منا واعلم .
وقد يعود الضمير إلى المعلوم كما يعود إلى المذكور ، وعلى هذا فالآية مستأنفة .
وإنما خص هذا الموضع بقوله ) ألفينا ( لأن ( ألفيت ) يتعدى إلى مفعولين ألبتة فكان نصاً في ذلك فورد في الموضع الأول على الأصل .
واقتصر في المائدة ولقمان على لفظ ( وجدنا ) المشترك بين المتعدي إلى واحد والمتعدي إلى اثنين اكتفاء بما ورد في الأول مع تغيير العبارة عارضوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة بالتقليد فما أغفلهم وأنفسهم فلا جرم أجاب الله تعالى بقوله ) أو لو كان ( الواو للعطف لا للحال على ما وقع في الكشاف ، والهمزة للرد(1/465)
" صفحة رقم 466 "
والتعجب وفعل الاستفهام ، محذوف وكذا جواب الشرط ، أيتبعونهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون للثواب ، أيتبعونهم أيضاً ؟ وتقرير الجواب أ ، يقال للمقلد : أعرفت أن المقلد محق أم لا .
فإن لم تعرف فكيف قلدته مع احتمال كونه مبطلاً ، وإن عرفت فإما بتقليد آخر ويستلزم التسلسل ، أو بالعقل فذلك كافٍ في معرفة الحق والتقليد ضائع .
وأيضاً علم المقلد إن حصل بالتقليد تسلسل ، وإن حصل بالدليل فإنما يتبعه المقلد إذا علم ذلك الدليل أيضاً وإلا كان مخالفاً فظهر. .. .. .
فقال وضلال ) ومثل الذين كفروا ( فيه للعلماء طريقان : أحدهما تصحيح المعنى بإضمار إما في المشبه أي مثل من يدعو الحق كمثل الذي ينعق يقال : نعق الراعي بالضأن إذا صاح بها .
وأما نغق الغراب فبالغين المعجمة شبه الداعي إلى الحق براعي الغنم والكفرة بالغنم ووجه التشبيه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تعلم المراد ، وهؤلاء الكفار يسمعون صوت الرسول وألفاظه وما كانوا ينتفعون بها فكأنهم لا يفهمون معانيها .
وإما بإضمار في المشبه به أي مثل الذين كفروا كبهائم الذي ينعق الطريق .
الثاني : التصحيح بغير إضمار أي مثلهم في دعائهم الأصنام كمثل الناعق بما لا يسمع ، لكن قوله ) لا دعاء ونداء ( لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع شيئاً .
أو مثلهم في دعائهم آلهتهم كمثل الناعق في دعائه عند الجبل فإنه لا يسمع إلا صدى صوته .
فإذا قال : يا زيد .
يسمع من الصدى يا زيد ، فكذلك هؤلاء الكفار إذا دعوا الأوثان لا يسمعون إلا ما تلفظوا به من الدعاء والنداء .
أو مثلهم في قلة عقلهم حيث عبدوا الأوثان كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم .
فكما أن الكلام مع البهائم دليل سخافة العقل فكذلك عبادتهم لها أي ومثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم كمثل الذي يتكلم مع البهائم ، فكما أن ذلك عبث ضائع فكذا تقليدهم واتباعهم ) صم ( عن استماع الحق والانتفاع به ) بكم ( عن إجابة الداعي إلى سبيل الخير ) عمي ( عن النظر في الدلائل ) فهم لا يعقلون ( العقل المسموع ولا المطبوع وذلك أن طريق الاكتساب الاستعانة بالحواس ولهذا قيل : من فقد حساً فقد علماً .
فلما فقدوا فائدة الحواس فكأنهم عدموها خلقة ، قال شابور بن أردشير : العقل نوعان : مطبوع ومسموع .
فلا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه فإن أحدهما بمنزلة العين والآخر بمثابة الشمس ولا يكمل الإبصار إلا بتعاونهما .
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن لكل شيء دعامة ودعامة عمل المرء عقله ) فبقدر عقله تكون عبادته لربه .
أما سمعتم قول الله عز وجلّ حكاية عن الفجار ؟ ) لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ) [ الملك : 10 ] وقال : ( ما اكتسب المرء مثل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويرده عن ردى ) .
التأويل : الذين كفروا لم يسمعوا إذ خاطبهم الحق بقوله ) ألست بربكم ) [ الأعراف :(1/466)
" صفحة رقم 467 "
72 ] إلا دعاء ونداء لأنهم كانوا في الصف الأخير من الأرواح المجندة في أربعة صفوف : الأول للأنبياء ، والثاني للأولياء ، والثالث للمؤمنين ، والرابع للكافرين فما شاهدوا شيئاً من أنوار الحق ولكنهم قالوا بالتقليد بلى فبقوا على التقليد ) بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ( .
( البقرة : ( 172 - 176 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد "
( القراآت )
الميتة ( بتشديد الياء : يزيد .
الباقون : بالسكون ؛ ) فمن اضطر ( بكسر النون وضم الطاء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وكسر الطاء : يزيد .
الباقون : بضمهما .
الوقوف : ( تعبدون ( 5 ) لغير الله ( ج الشرط مع فاء التعقيب ) عليه ( ط ) رحيم ( 5 ) قليلاً ( لا لأن ما بعده خبر ( إن ) ) تزكيهم ( ج والوصل أولى لاتصال بعض جزائهم بالبعض ) أليم ( 5 ) بالمغفرة ( ج للابتداء بالتعجب أو الاستفهام والوجه الوصل للمبالغة في الإنكار .
) على النار ( 5 ) بالحق ( ط للابتداء بأن ) بعيد ( ربع الجزء .
التفسير : إنه سبحانه تكلم من أول السورة إلى ههنا في دلائل التوحيد والنبوة واستقصى شرح أهل النفاق والشقاق من المشركين وأهل الكتاب ، وذيل كلاً من ذلك بما يناسبه ، ومن ههنا شرع في بيان الأحكام الشرعية .
الحكم الأول : إباحة الأكل للمؤمنين بعد ما عمم للناس كلهم ، وهذا بالنظر غلى الأصل .
وقد يصير واجباً العارض كما لو أشرف على الهلاك بسبب المجاعة ، وقد يكون مندوباً كموافقة الضيف واستدل بقوله ) من طيبات ما رزقناكم ( على أن الرزق قد يكون حراماً فإن الطيب هو الحلال .
ولو كان الرزق حلالاً ألبتة لم يبق في ذكر الطيب فائدة إذ يصير المعنى كلوا من حلالات ما أحللنا لكم وأجيب بالمنع من أن معنى الطيب ما ذكر بل المعنى كلوا من متلذذات ما رزقناكم ، ولعل أقواماً ظنوا أن التوسع في الأكل الحلال والاستكثار من الملاذ ممنوع منه فرفع الحرج .
) واشكروا لله ( الذي رزقكموها ) إن كنتم إياه تعبدون ( إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم فإن الشكر رأس العبادة ، والتركيب يدور على الكشف والإظهار ومنه كشر إذا كشف عن ثغره ، فنشر النعم وحصرها باللسان من الشكر .
وباطن الشكر أن يستعين بالنعم على الطاعة دون المعصية وقال بعضهم :(1/467)
" صفحة رقم 468 "
أوليتني نعماً أبوح بشكرها
وكفيتني كل الأمور بأسرها
فلأشكرنك ما حييت فإن أمت
فلتشكرنك أعظمي في قبرها
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله تعالى إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري ) ولما أجمل في الآية ما يباح أكله ذيل بحصر ما هو محرّم ليبقى ما عدا ذلك على أصل الإباحة فقيل ) إنما حرم عليكم الميتة والدم ( يتناول ما مات حتف أنفه وما لم تدرك ذكاته على الوجه الشرعي .
وإذا كانت محرمة وجب الحكم بنجاستها إجماعاً ، ولأن تحريم ما ليس بمحرم ولا فيه ضر وظاهر يدل على النجاسة .
وليس في الآية إجمال عند الأكثرين ، لأن المفهوم من تحريم الميتة ليس تحريم أعيانها وإنما المفهوم في العرف حرمة التصرف في هذه الأجسام كما لو قيل : فلان يملك جارية .
فهم منه عرفاً أنه يملك التصرف فيها .
وعلى هذا فالآية تدل على حرمة جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل المخصص كالسمك والجراد لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أحلت لنا ميتتان ودمان .
أما الميتتان فالجراد والنون .
وأما الدمان فالطحال والكبد ) .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) في صفة البحر ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) وهذا عام لجميع الحيوانات التي لا تعيش إلا في الماء وإن لم تكن على صورة السمكة المشهورة .
ولا فرق أيضاً بين ما يؤكل نظيره في البر كالبقر والشاة وبين ما لا يؤكل كخنزير الماء وكلبه على أصح القولين للشافعي .
وقد زعم بعض الناس كصاحب الكشاف أن السمك والجراد يخرج بنفسه لأن الميتة لا تتناولهما عرفاً وعادة ، ولهذا من حلف لا يأكل لحماً فأكل سمكاً لم يحنث ، وإن أكل لحماً في الحقيقة لقوله تعالى ) لتأكلوا منه لحماً طرياً ) [ النحل : 14 ] وشبهوه بما لو حلف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث وإن عدّ الكافر من الدواب لقوله تعالى ) إن شر الدواب عند الله الذين كفروا ) [ الأنفال : 55 ] وفيه نظر .
لأن عدم التناول عرفاً إنما هو بعد تخصيص الشارع فلا يمكن أن يجعل دليلاً على عمومه .
وكالجنين الذي يوجد ميتاً عند ذبح الأم عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد وهو المروي عن علي رضي الله عنه وابن مسعود وابن عمر لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ذكاة الجنين ذكاة أمه ) وقال أبو حنيفة : لا يؤكل إلا أن يخرج حياً فيذبح وحمل الحديث(1/468)
" صفحة رقم 469 "
على الإضمار أي ذكاة الجنين كذكاة أمه وردّ بأن الإضمار خلاف الأصل ، وبأنه إذا خرج لا يسمى جنيناً ، وبأنه لا يبقى للخبر حينئذ فائدة ، لأن ذلك معلوم ، ولما روي عن أبي سعيد أنه ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن الجنين يخرج ميتاً قال : ( إن شئتم فكلوه فإن ذكاته ذكاة أمه ) وكشعر الميتة وصوفها فإنهما عند أبي حنيفة ظاهران لقوله تعالى في معرض الامتنان ) ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين ) [ النحل : 80 ] ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) في شاة ميمونة ( إنما حرم من الميتة أكلها ) ولأنهم كانوا يلبسون جلود الثعالب ، ولأن الشعر ، وا لصوف لا حياة فيه لأن حكم الحياة الإدراك والشعور .
ومن ههنا ذهب مالك إلى تحريم العظام دون الشعور ، وعند الشافعي الشعر والعظم ونحوهما كالقرن والظفر والسن كلها نجسة لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أبين من حي فهو ميت ) ولأن الحياة عندنا عبارة عن كونه متعرض للفساد والتعفن ، وهذا المعنى يعم الشعر واللحم .
وأما الإهاب فللفقهاء فيه مذاهب سبعة .
فأوسع الناس قولاً الزهري .
جوز استعمال الجلود بأسرها قبل الدباغ ، ثم داود قال : تطهر كلها بالدباغ لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) ولأن الدباغ يعيد الجلد إلى ما كان عليه حال الحياة من عدم التعفن والفساد .
ثم مالك يطهر ظاهر كلها دون باطنها .
ثم أبو حنيفة يطهر كلها إلا جلد الخنزير لدسومته والآدمي لكرامته .
ثم الشافعي يطهر الكل إلا جلد الكلب والخنزير .
ثم الأوزاعي وأبو ثور يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط .
ثم أحمد بن حنبل والشيعة لا يطهر شيء منها بالدباغ لإطلاق الآية ولقول عبد الله بن حكيم : أتانا كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب .
واختلف في أنه هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازي والبهيمة ؟ فمنهم من منع منه حتى قال بعضهم : إذا أقدم البازي من عند نفسه على أكل الميتة وجب علينا منعه .
وجوز الشافعي استعمال نجس العين كجلد الكلب والخنزير للضرورة كمفاجأة قتال مع فقدان غيره ، وكدفع الحر والبرد المهلكين ، ولأجل تجليل الكلب وإن لم يكن ضرورة ، وكذا استعمال جلد الميتة قبل الدباغ لتجليل الدابة والكلب ، وكذا استعمال النجس العين كودك الميتة والخنزير والزبل للاستصباح(1/469)
" صفحة رقم 470 "
وتسميد الأرض لعموم الحاجة القريبة من الضرورة ، وقد نقله الأثبات عن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وسئل عليه السلام عن الفأرة تقع في السمن فقال ( استصبحوا به ولا تأكلوه ) .
والدخان وإن كان نجساً لكنه قليل معفو عنه .
وعند أبي حنيفة : إذا مات في الماء القليل ما ليس له نفس سائلة أي دم كالذباب والبعوض والخنفساء والعقرب وبنات وردان لم يفسد الماء قل أو كثر لأن رطوبة هذه الحيوانات تشبه رطوبة النبات فهي حية وميتة على هيئة واحدة .
وعند الشافعي فيه قولان : وعامة الأصحاب عدّوا دود الطعام من جملة ما ليس له نفس سائلة وقالوا : لا ينجس الطعام الذي تولد منه بموته فيه بلا خلاف .
وإن وقع في ماء أو في مائع آخر فقولان .
ثم الذباب والبعوض ونحوهما وإن حكم بطهارة ميتتهما فهي محرمة لأنها مستقذرة مندرجة تحت عموم اسم الميتة .
وفي جواز أكل دود الطعام والفواكه والماء وجهان ، والأظهر تحرمها عند الانفراد ، ومع هذه الأشياء يمكن أن يسامح به .
وسأل عبد الله بن المبارك أبا حنيفة عن طائر وقع في قدر مطبوخ فمات فقال أبو حنيفة لأصحابه : ما ترون فيها ؟ فذكروا له عن ابن عباس أن اللحم يؤكل بعد ما يغسل فيهراق المرق .
فقال أبو حنيفة : بهذا نقول على شريطة إن كان وقع فيها في حال سكونها : فكما في هذه الرواية ، وإن وقع فيها في حال غليانها لم يؤكل اللحم ولا المرق .
قال ابن المبارك : ولم ذلك ؟ قال : لأنه إذا سقط فيها في حال غليانها فمات فقد داخلت الميتة اللحم ، وإذا وقع فيها في حال سكونها فمات فقد وسخت الميتة اللحم .
فاستحسنه ابن المبارك .
وعند أبي حنيفة : ذبح ما لا يؤكل لحمه يستعقب الطهارة .
وعند الشافعي لا يستعقبها كما لا يستعقب حل الأكل ، وكما لو ذبح المجوسي مأكول اللحم .
ولبن الشاة الميتة وأنفحتها طاهران عند أبي حنيفة دون الشافعي ومالك ، لا لأن الآية لا تتناولهما فإن اللبن لا يوصف بأنه ميتة ، بل لتنجسهما بمجاورة الميتة .
وبيض مأكول اللحم إذا مات ووجد ذلك في جوفه فإن كان متصلباً فطاهر بعد أن يغسل وإلاّ فلا .
أما الدم فعند الشافعي جميعه محرم سواء كان مسفوحاً أو غير مسفوح لإطلاق الآية إلا الكبد والطحال للخبر عند من يقول بتناول الآية إياهما ، وعند من يقول بذلك لا تخصيص .
وقال أبو حنيفة : دم السمك ليس بمحرم ، وأما لحم الخنزير فأجمعت الأمة على أن الخنزير بجميع أجزائه محرم ، وتخصيص اللحم بالذكر لأن معظم الانتفاع متعلق به .
أما شعر الخنزير فغير داخل في الظاهر وإن أجمعوا على تحريمه وتنجيسه .
واختلفوا في أنه هل يجوز الانتفاع به للخرز ؟ فأبو حنيفة ومحمد يجوز ، والشافعي لا يجوز .
واحتج أبو حنيفة بأنا نرى المسلمين يقرون الأساكفة على استعماله من غير نكير ، ولأن الحاجة ماسة إليه .
وأما ما(1/470)
" صفحة رقم 471 "
أهل به لغير الله فمعناه رفع به الصوت للصنم وذلك قول أهل الجاهلية باسم اللات والعزى .
وأهل المعتمر إذا رفع صوته بالتلبية .
قال العلماء : لو أن مسلماً ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتداً ، وذبيحته ذبيحة مرتد .
وقدم به في هذه السورة وأخر في المائدة والأنعام والنحل لأن تقدم الباء هو الأصل لأنه يجري في إفادة التعدية مجرى الهمزة والتضعيف ، فكان الموضع الأول هو اللائق بهذا الأصل ، وفي سائر المواضع قدم ما هو المستنكر وهو الذبح لغير الله ، ولهذا لم يذكر في سائر الآية قوله ) فلا إثم عليه ( اكتفاء بما ذكر في الموضع الأول .
ويستثنى مما أهل به لغير الله ذبائح أهل الكتاب إذا سمي عليها باسم المسيح مثلاً لإطلاق قوله تعالى ) وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) [ المائدة : 5 ] ولأن النصراني إذا سمي الله تعالى فإنما يريد به المسيح وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب .
وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه : إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير الله فوجب أن يحرم .
وإذا ذبحوا على اسم الله فظاهر اللفظ يقتضي الحل ولا عبرة بما لو أراد به المسيح .
وعن علي كرم الله وجهه : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا ، وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون .
واعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن يكون سوى هذه الأشياء محرماً ، لكنا نعلم أن في الشرع أشياء أخر سواها من المحرمات ، فكلمة إنما متروكة العمل بظاهرها والله أعلم ) فمن اضطر ( افتعل من الضر وهو الضيق أي ألجئ .
استثنى من التحريم حالة الضرورة ولها سببان : أحدهما الجوع الشديد وأن لا يجد مأكولاً حلالاً يسد به الرمق فعند ذلك يكون مضطراً إلى أكل المحرم .
الثاني : إذا أكرهه على تناوله مكره فيحل له تناول ما أكره عليه .
والاضطرار ليس من أفعال المكلف حتى يقال إنه لا إثم عليه فيه ، فلا بد من إضمار وهو الأكل .
أي فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه ، وإنما حذف للعلم به .
( وغير ) ههنا بمعنى ( لا ) النافية كأنه قيل : فمن اضطر باغياً ولا عادياً .
والبغي في اللغة الظلم والخروج عن الإنصاف .
بغي الجرح ورم وترامي إلى فساد .
وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء فهو بغي .
والعدوان الظلم الصراح وتجاوز الحد .
وللأئمة في الآية قولان : أحدهما وإليه ذهب أبو حنيفة تخصيص البغي والعدوان بالأكل ، وعلى هذا فالمعنى غير باغ بأن يجد حلالاً تكرهه النفس ، فعد إلى أكل الحرام للذته ) ولا عاد ( أي متجاوز قدر الرخصة ، أو غير باغ أي طالب للذة ولا عاد متجاوز سداً لجوعه ، عن الحسن وقتادة والربيع ومجاهد وابن زيد : أو غير باغ على مضطر آخر بالاستئثار عليه ، ولا عاد في سد الجوعة .(1/471)
" صفحة رقم 472 "
والثاني وإليه ذهب الشافعي والإمامية : غير باغٍ على إمام المسلمين ، ولا عادٍ بالمعصية طريق المحقين .
ويتفرع على الاختلاف أن العاصي بسفره هل يترخص أم لا ؟ فعند أبي حنيفة يترخص لأنه مضطر وغير باغٍ ولا عادٍ في الأكل .
وعند الشافعي لا يترخص لأنه موصوف بالعدوان ويؤيده الآية الأخرى ) فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثم ) [ المائدة : 3 ] وأيضاً غير باغٍ ولا عادٍ حالان من الاضطرار ، فلا بد أن يكون وصف الاضطرار باقياً في لحالين وليس كذلك ، لأنه حال الأكل لا يبقى وصف الاضطرار .
وأيضاً الإنسان نفور بطبعه عن تناول الميتة والدم فلا حاجة إلى نهيه عن التعدي في الأكل .
وأيضاً إنه نفي ماهية البغي والعدوان ، وإنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها ويتحقق حينئذٍ نفي العدوان في السفر كما هو مقصودنا .
وأما تخصيص البغي بالأكل كما ذهبتم إليه فترجيح من غير دليل .
حجة أبي حنيفة قوله تعالى في آية أخرى ) وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) [ الأنعام : 119 ] وهذا الشخص مضطر فوجب أن يترخص .
وأيضاً قال تعالى ) ولا تقتلوا أنفسكم ) [ النساء : 29 ] ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) [ البقرة : 195 ] والامتناع عن الأكل سعي في قتل النفس ، فيحرم كما لو ترك دفع أسباب الهلاك عن نفسه إذا صال عليه جمل أو فيل أو حية .
وأيضاً الضرورة تبيح تناول طعام الغير من دون الرضا بل على سبيل القهر ، وهذا التناول محرم لولا الاضطرار فكذا ههنا .
أجاب الشافعي : بأنه يمكنه الوصول إلى استباحة هذه الرخص بالتوبة ، فإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه .
ثم إن الرخصة إعانة على السفر وإذا كان السفر معصية فالرخصة إعانة على المعصية ، والسعي في تحصيل المعصية محظور ، فالجمع غير ممكن ثم اتفق الإمامان على أن المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه إلا إذا عجز عن السير ويهلك فيتناول المشبع .
وقال عبد الله بن الحسن العنبري : يأكل منها ما يسد جوعته .
وعن مالك : يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد غنى عنها طرحها .
والأول أقرب ، لأن سبب الرخصة إذا كان الإلجاء فمتى ارتفع الإلجاء ارتفعت الرخصة ، كما لو وجد الحلال لم يحل له تناول الميتة ، وكما أن الجوعة في الابتداء لا تبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضرراً بتركه .
وهذه الرخصة لجميع المحرمات عند الأكثرين ، وبعضهم خصصها بما سوى لحم الخنزير ، والشافعي منع عن شرب الخمر لشدة العطش دون إساغة اللقمة .
وفي التداوي بها وجهان ، وبسائر المحرمات يجوز ولا يجب الامتناع إلى أن يشرف على الموت فإن الأكل حينئذٍ لا ينفع ، بل لو انتهى إلى تلك الحالة له التناول .
وحدوث مرض مخوف في جنسه كخوف الموت ، وهكذا إن كان يخاف منه لطوله وتماديه .
ولا يشترط في جميع(1/472)
" صفحة رقم 473 "
ذلك إلا غلبة الظن دون التيقن .
ومعنى قوله ) فلا إثم عليه ( رفع الحرج والضيق كما مر في قوله ) فلا جناح عليه أن يطوّف بهما ) [ البقرة : 158 ] ورفع الحرج قدر مشترك بين الواجب والمندوب والمباح فلا ينافي وجوب الأكل في حالة الاضطرار .
ومعنى قوله ) أن الله غفور رحيم ( أن المقتضي للحرمة قائم إلا أنه زالت الحرمة لوجود العارض ، فلما كان تناوله تناول ما حصل فيه المقتضى للحرمة ذكر بعده المغفرة ، ثم ذكر أنه رحيم يعني لأجل الرحمة أبحت لكم ذلك ، أو لعل المضطر يزيد على تناول قدر الحاجة فهو سبحانه غفور بأن يغفر ذنبه في تناول الزيادة ، رحيم حيث أباح تناول قدر الحاجة .
أو أنه لما بين هذه الأحكام فالمكلفون بالنسبة إليها إما أن يعصوا فذكر أنه غفور لهم إذا تابوا ، أو يطيعوا فهو رحيم حيث وفقهم للطاعة .
) إن الذين يكتمون ( عن ابن عباس : نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم - كعب بن الأشرف وحي بن أخطب ونحوهما - كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضول ، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم ، فلما بعث من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم فعمدوا إلى صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فغيروها ثم أخرجوها إليهم وقالوا : هذا نعت نبي آخر الزمان لا يشبه نعت هذا النبي الذي بمكة .
فإذا نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفاً لصفة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلا يتبعونه ) ويشترون به ( أي بالككتمان لدلالة الفعل عليه ، أو بالمنزل .
وقد سبق معنى الاشتراء والثمن القليل ) في بطونهم ( حال أي ملء بطونهم .
أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه ) إلا النار ( لأنه إذا أكل ما يلتبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار كقولهم ( أكل الدم ) أي الدية التي هي بدل منه : قال :
أكلت دماً إن لم أرعك بضرة
بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
وذلك أنهم كانوا يستنكفون عن أخذ الدية وبعيدة مهوى القرط كناية عن طول العنق .
ويمكن أن يقال : إنهم يأكلون في الآخرة النار لأكلهم في الدنيا الحرام ) ولا يكلمهم الله ( بما يحبون لأنهم كتموا كلامه في الدنيا بل بنحو ) اخسؤا فيها ولا تكلمون ) [ المؤمنون : 108 ] أو لا يكلمهم الله أصلاً لغضبه عليهم كما هو ديدن الملوك من الإعراض عند السخط والإقبال عند الرضا ) ولا يزكيهم ( بالإثناء عليهم أو بقبول أعمالهم ) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ( بيان لتماديهم في الخسارة فإن أحسن الأشياء في الدنيا الاهتداء والعلم ، وأقبحها الضلال والجهل .
وفي الآخرة أنفع الأشياء المغفرة ، وأضرها العذاب فهم في خسران الدارين لاستبدالهم في الدنيا أقبح الأمور بأحسنها ، وفي(1/473)
" صفحة رقم 474 "
الآخرة أضر الأشياء بأنفعها .
) فما أصبرهم على النار ( تعجب من حالهم في تلبسهم بمواجب النار من غير مبالاة منهم ، فإن الراضي بموجب الشيء لا بد أن يكون راضياً بمعلوله ولازمه إذا علم ذلك اللزوم كما تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان ( ما أصبرك على القيد والسجن ) وهذا التعجب منهم في حال التكليف واشترائهم الضلالة بالهدى .
وعن الأصم : أن المراد أنه إذا قيل لهم ) اخسؤا فيها ولا تكلمون ) [ المؤمنون : 108 ] فهم يسكتون ويصبرون على النار لليأس من الخلاص .
وضعف بأنه خلاف الظاهر وبأن أهل النار قد يقع منهم الجزع والاستغاثة .
وقيل : إن ( ما ) في ) ما أصبرهم ( للاستفهام لمعنى التوبيخ معناه أي شيء صبرهم عليها حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل ؟ وهذا أصل معنى فعل التعجب والتعجب استعظام الشيء مع خفاء سبب حصول عظم ذلك الشيء هذا هو الأصل ، ثم قد يستعمل لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب كما في حق الله تعالى ) ذلك ( الوعيد الشديد أو ذلك الكتمان وسوء معاملتهم إنما هو بسبب ) إن الله نزل الكتاب ( يعني جنس الكتب السماوية أو القرآن ) بالحق ( بالصدق أو ببيان الحق وقد نزل في جملة ما نزل أن هؤلاء الرؤساء من أهل الكتاب لا يؤمنون ولا يكون منهم إلا الإصرار على الكفر فإنه تعالى ختم على قلوبهم ) وإن الذين اختلفوا في الكتاب ( جنسه فقالوا في البعض حق وفي البعض باطل وهم أهل الكتاب ) لفي شقاق ( خلاف ) بعيد ( عن الحق ، أو الذين اختلفوا في القرآن فقال بعضهم شعر ، وبعضهم سحر ، وبعضهم أساطير الأولين ، أو الذين اختلفوا في التوراة والإنجيل فقدح كل منهما في الآخر ، أو ذكر كل منهما للآيات الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تأويلاً آخر فاسداً ، أو حرفوا كلاً منهما على وجه آخر لأجل عداوتك هم فيما بينهم في شقاقٍ بعيدٍ ومنازعةٍ شديدةٍ .
فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتفاقهم على العداوة ، فإنه ليس فيما بينهم مؤالفة وموافقة .
وعن أبي مسلم : اختلفوا في الكتاب أي توارده مثل ) إن في اختلاف الليل والنهار ( أي تعاقبهما .
واعلم أن الآية وإن نزلت في أهل الكتاب ، يشبه أن تكون عامة في كل من كتم شيئاً من باب الدين فيكون حكماً ثانياً للمسلمين ، ويصلح أن يتمسك بها القاطعون بوعيد أصحاب الكبائر .
وكان السبب في تعقيب هذا الحكم الحكم الأول أن أهل الكتاب قد حرموا بعض ما أحل الله كلحوم الإبل وألبانها وأحلوا بعض الشحوم ، فسيقت الآية تعريضاً بصنعهم وتصريحاً بجزائهم وجزاء أضرابهم والله أعلم .
التأويل : الميتة جيفة الدنيا والدم وهي الشهوات النفسانية ( إن الشيطان يجري من ابن(1/474)
" صفحة رقم 475 "
آدم مجرى الدم ) وقال أيضاً ( صلى الله عليه وسلم ) ( سدوا مجاري الشيطان بالجوع ) ولحم الخنزير مادة الشره والحرص ، وما أهل به لغير الله كل ما يتقرب به إلى الله رياء وسمعة والله تعالى أعلم .
( البقرة : ( 177 ) ليس البر أن . . . .
" ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون "
( القراآت )
ليس البر ( بنصب الراء : حمزة وحفص الخراز عنه مخير .
الباقون : بالرفع ) ولكن ( خفيفاً ) البر ( رفعاً وكذلك فيما بعد : نافع وابن عامر .
الباقون : بالتشديد والنصب .
الوقوف : ( والنبيَّن ( ج لطول الكلام واختلاف المعنى لأن ما قبله أصول الإيمان وما بعده فروع : ( وفي الرقاب ( ج للطول مع انتهاء شرع المكارم وابتداء اللوازم ) الزكاة ( ج ) عاهدوا ( ج للعدول عن النسق إلى المدح والتقدير : هم الموفون أعني الصابرين ) اليأس ( ط ) صدقوا ( ط ) المتقون ( 5 .
التفسير : هذا حكم آخر من أحكام الإسلام .
عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلاً سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن البر فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قال : وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ثم مات على ذلك وجبت له الجنة .
وقيل : كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة فقيل : ليس البر العظيم الذي يجب أن تذهلوا لشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة ، ولكن البر الذي يجب صرف الهمة إليه بر من آمن وقام بهذه الأعمال ، وعلى هذا فالخطاب عام .
وقيل : الخطاب لأهل الكتاب لأن المشرق قبلة النصارى ، والمغرب قبلة اليهود ، وأنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حولت إلى الكعبة .
وزعم كل من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته ، فرد عليهم بأن ما أنتم عليه خارج من البر .
أما أولاً فلأنه منسوخ ، وأما ثانياً فلأنه على تقدير صحته شرط من شرائط أعمال البر لأن من جملتها الصلاة واستقبال القبلة شرط فيها ، ولن يكون شرط جزء الشيء تمام حقيقة ذلك الشيء ، وذلك أن البر اسم جامع للطاعات وأعمال الخير(1/475)
" صفحة رقم 476 "
المقربة إلى الله ومنه بر الوالدين وهو استرضاؤهما بكل ما أمكن .
والتركيب يدل على الاتساع ومنه البر خلاف البحر .
قيل : إن قراءة رفع البر أولى ليكون الاسم مقدماً على الخبر على الأصل .
وقيل : بالنصب أولى لأن ( أن ) مع صلتها تشبه المضمر في أنها لا توصف ، والمضمر أدخل في الاختصاص من المظهر فهو أولى بأن يكون اسماً ) ولكن البر من آمن ( على تقدير حذف المضاف أي بر من آمن .
وقيل : التقدير هكذا ولكن ذا البر من آمن .
وقيل : البر بمعنى البار مثل رجل صوم أي صائم .
وعن المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت ) ولكن البر ( بفتح الباء .
قال في التفسير الكبير : إنه تعالى اعتبر في تحقيق ماهية البر أموراً : الأول : الإيمان بأمور خمسة : أولها الإيمان بالله ، ولن يحصل العلم بالله إلا عند العلم بذاته المخصوصة والعلم بما يجب ويجوز ويستحيل عليه ، ولن يحصل العلم بهذه الأمور إلا عند العلم بالدلائل الدالة عليها فيدخل فيها العلم بحدوث العالم .
والعلم بالأصول التي عليها يتفرع حدوث العالم ويدخل في العلم بما يجب له من الصفات العلم بوجوبه وقدمه وبقائه وكونه عالماً بكل المعلومات ، قادراً على كل الممكنات ، حياً مريداً سميعاً بصيراً متكلماً ، ويدخل في العلم بما يستحيل عليه العلم بكونه منزهاً عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية .
ويدخل في العلم بما يجوز عليه اقتداره على الخلق والإيجاد وبعثه الرسل .
وثانيها الإيمان باليوم الآخر ويتفرع على كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات قادراً على كل الممكنات .
وثالثها الإيمان بالملائكة ورابعها الإيمان بالكتب السماوية .
وخامسها الإيمان بالنبيين .
وسبب هذا الترتيب أن للمكلف مبدأ وسطاً ونهايةً ، ومعرفة المبتدأ والمنتهي هو المقصود بالذات أعني الإيمان بالله واليوم الآخر ، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة وهي منوطة بالوحي الذي يأتي به الملك ، فثبت أن كل ما يلزم المكلف التصديق به داخل في الآية .
الثاني : إيتاء المال على حبه أي على حب المال .
عن أبي هريرة أنه قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أي الصدقة خير ؟ قال : ( أن تتصدق وأنت صحيح حريص ، تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا ) .
عن أبي الدرداء أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( مثل الذي تصدق عند الموت مثل الذي يهدي بعد ما يشبع ) والسبب(1/476)
" صفحة رقم 477 "
أنه عند الصحة يحصل ظن الحاجة إلى المال ، وعند ظن الموت يحصل الاستغناء ، وبذل الشيء عند الاحتياج أدل على الطاعة من بذله عند الاستغناء عنه .
وأيضاً الإعطاء عند الصحة أدل على كونه متيقناً بالوعد والوعيد من إعطائه حال المرض والموت .
وأيضاً الهبة عند الموت تشبه الهبة عند الخوف من الفوت .
وقيل : الضمير يرجع إلى الإيتاء أي يعطي ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله .
وقيل : يرجع إلى الله أي يعطي المال على حب الله وطلب مرضاته .
ثم ذكر سبحانه وتعالى ممن يؤتون المال أصنافاً ستة : أولهم القرابة ، وثانيهم اليتامى ، وثالثهم المساكين وقد مر ما يتعلق بكل منهم في تفسير قوله تعالى ) وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) [ البقرة : 83 ] وإنما قدم ذوي القربى لأنهم أحق قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذي رحمك اثنتان ) لأنها صدقة وصلة ولتأكد استحقاقه نال رتبة الوارثة ويحجر بسببه على المالك في الوصية حتى لا يمكن من الوصية إلا في الثلث .
وأطلق ذوي القربى واليتامى والمراد الفقراء منهم لعد الإلباس ، وتقديم اليتامى على المساكين لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا هو كاسب منقطع الحيلة من كل الوجوه .
ورابع الأصناف ابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله .
جعل ابناً للسبيل لملازمته له كما يقال لطير الماء ( ابن الماء ) وللشجاع ( أخو الحرب ) وللناس ( بنو الزمان ) .
وقيل : هو الضيف لأن السبيل يرعف به .
وخامسهم السائلون وهم المستطعمون ويدخل فيه المسلم والكافر وقريب منه قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( للسائل حق وإن جاء على فرس ) وسادسهم المكاتبون وأشار إليه بقوله ) وفي الرقاب ( أي في معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم .
وقيل : في ابتياع الرقاب وإعتاقها .
وقيل : في فك الأسارى .
والرقاب جمع الرقبة وهو مؤخر أصل العنق .
واشتقاقها من المراقبة وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم ، ولهذا يقال للمملوك رقبة كأنه يراقب العذاب ولا يقال له عنق .
الثالث والرابع : قوله ) وأقام الصلاة وآتى الزكاة ( وقد سلف مباحثهما .
ثم إن الأئمة حيث ذكر الله تعالى ، إيتاء المال في الوجوه المذكورة ، ثم قفاه بإيتاء الزكاة .
ومن حق المعطوف عليه ، غلب على ظنونهم أن في المال حقاً سوى الزكاة .
وكيف لا وقد اكتنف الإيتاء فرضان وهما الإيمان وإقامة الصلاة ؟ وأيضاً قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعان وجاره طاوٍ إلى جنبه ) .
ولا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة .
وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ، ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهراً .
وما روي عن علي عليه السلام أن الزكاة نسخت كل حق كأنه أراد الحقوق المقدّرة بدليل أنه يلزم التصدق عند الضرورة والنفقة على الأقارب وعلى المملوك .(1/477)
" صفحة رقم 478 "
الخامس : قوله ) الموفون بعهدهم إذا عاهدوا ( وهو مرفوع على المدح أي هم الموفون ، أو عطف على ) من آمن ( والمراد بالعهد ما أخذه الله من العهود على عباده بقولهم وعلى ألسنة رسله إليهم بالقيام بحدوده والعمل بطاعته ، فقبل العباد ذلك حيث آمنوا بالأنبياء والكتب .
ويندرج فيه ما يلتزمه المكلف ابتداء من تلقاء نفسه مما يكون بينه وبين الله كالنذور والأيمان ، أو بينه وبين رسول الله كبيعة الرضوان بايعوه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أن لا يقولوا إلا بالحق أينما كانوا لا يخافون في الله لومة لائمٍ ، أو بينه وبين الناس واجباً كعقود المعاوضات ، أو مندوباً كالمواعيد ، فلهذا قال المفسرون ههنا : هم الذين إذا واعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا ، وإذا اؤتمنوا أدّوا ، وإذا قالوا صدقوا .
السادس : ( والصابرين في البأساء والضراء ( وهو نصب على المدح والاختصاص إظهاراً لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال .
قال أبو علي الفارسي : إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها ، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القبول ، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان ، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً أو جملةً واحدة .
وذكر المحققون في إفادة اختلاف الحركة المدح والذم أن أصل المدح والذم من كلام السامع ، وذلك أن الرجل إذا أخبر غيره فقال له : قام زيد .
فربما أثنى السامع على زيد وقال : ذكرت والله الظريف وذكرت العاقل .
أو هو - والله - الطريف ، أو هو العاقل .
فأراد المتكلم أن يمدحه بمثل ما مدحه به السامع فجرى الإعراب على ذلك أي أريد الظريف أو العاقل ) والبأساء ( الفقر والشدة ) والضراء ( المرض والزمانة .
وهما فعلاء من البؤس والضر لا أفعل لهما لأنهما ليسا بنعتين ) وحين البأس ( القتال في سبيل الله والجهاد .
وأصل البأس الشدة ) أولئك الذين صدقوا ( في إيمانهم وجدّوا في الدين ) وأولئك هم المتقون ( ونظير هاتين الجملتين في القطع للاستئناف قوله ) أولئك على هدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون ) [ البقرة : 5 ] كأنه قيل : ما للمستقلين بهذه الصفاتت وصفوا بالبر الذي هو أصل كل خير ؟ فأجيب بأن أولئك الموصوفين لهم قدم صدقٍ في الإسلام ، وهم المتسمون بسمة التقوى .
وكل منهم منطو على جميع الخيرات ومتضمن لكل المأمورات والمنهيات ، فلهذا اتصفوا بتلك الصفات .
وذكر الواحدي ههنا أن الواوان في هذه الأوصاف للجمع .
فمن شرائط البر(1/478)
" صفحة رقم 479 "
وتمام شرط البار أن يجتمع فيه هذه الأوصاف ، ومن قام بواحدة منها لم يستحق الوصف بالبر فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده من جملة من قام بالبر وكذا الصابر في البأساء ، بل لا يكون قائماً بالبر إلا عند استجماع هذه الخصال حتى قال بعضهم : إن البر من خواص الأنبياء .
والحق أنه ليس بمستبعد أن يوجد في الأمة موصوف بالبر إلا أن كمال البر لا يكون إلا في النبي ولا سيما نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
ثم إن أهل الكتاب كما أخلوا بجميع أوصاف البر أخلوا بالإيمان بالله ) وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ) [ التوبة : 30 ] ( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) [ المائدة : 64 ] وذهبت اليهود إلى التجسيم ، والنصارى إلى الحلول والاتحاد ، وأنكروا المعاد الجسماني وقالوا ) لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ) [ البقرة : 111 ] ( لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ) [ البقرة : 8 ] وقالوا : إن جبريل عدوّنا وكفروا بالكتب السماوية ) أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) [ البقرة : 85 ] وقتلوا النبيين وطعنوا في نبوة المرسلين ، واتسموا بسمة الشح حتى اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ، ونقضوا العهود ) أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريقٌ منهم ) [ البقرة : 100 ] ولم يصبروا في اللأواء ) لن نصبر على طعامٍ واحد ) [ البقرة : 61 ] ولا حين البأس ) فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ) [ المائدة : 24 ] فالعجب كل العجب منهم حيث ادّعوا البر ولا شيء ولا واحد من أجزاء البر فيهم ، وهذا غاية القحة ونهاية العناد والله بصير بالعباد .
التأويل : ليس البر بركم بتولية وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر الحقيقي هو بري معكم بتولية وجوه أرواحكم بجذبات المحبة قبل الحضرة الربوبية المحبوبية لتؤمنوا بدلالة نور بري بي وببر حبي لكم تحبوني ، والملائكة يحبونكم ببر حبي لكم .
وبر حبي لكم ليس بمحدث كبركم معي بل هو بر قديم في الكتاب القديم ، وبنور هذه المحبة تحبون أهل محبتي وهم النبيون .
فالجنسية علة الضم .
) وآتى المال على حبه ( أي ما حصل للعبد من بر الحب وما مال إلى سره من عواطف ا لحق ينفقه على حب حبيبه بأداء حقوق الشريعة والطريقة بالمعاملات القالبية والقلبية ) ذوي القربى ( وهم الروح والقلب والسر ذوو قرابة الحق ) واليتامى ( المتولدات من النفس الحيوانية الأمارة بالسوء إذا ماتت النفس عن صفاتها بسطوات تجلي صفات الحق ) والمساكين ( هم الأعضاء والجوارح ) وابن السبيل ( القوى البشرية والحواس الخمس فإنهم في التردد والسفر إلى عوالم المعقولات والمخيلات والمحسوسات والموهومات ) والسائلين ( الدواعي الحيوانية والروحانية ) وفي الرقاب ( في فك رقبة السر عن أسر تعلقات الكونين .
فحينئذٍ أقام صلاة(1/479)
" صفحة رقم 480 "
المحاضرة مع الله بالله وآتى زكاة مواهب الحق إلى أهل استحقاقها من الخلق وهم الموفون بعهدهم إذا عاهدوا مع الله بالتوحيد والعبودية الخالصة يوم الميثاق ، والصابرين في بأساء مراعاة الحقوق وضراء مخالفات الحظوظ وفناء الوجود عند لقاء الشهود وحين بأس سطوات تجلي صفات الجلال ) أولئك الذين صدقوا ( ببذل الوجود ) وأولئك هم المتقون ( من شرك الأنانية والله أعلم .
( البقرة : ( 178 - 179 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون " ( الوقوف : ( في القتلى ( ط ) بالأنثى ( ط لأن العفو إعطاء الدية صلحاً فكان خارجاً عن أصل موجب القتل مستأنفاً ) بإحسان ( ط ) رحمة ( ط لأن الاعتداء خارج عن أصل الموجب وفرعه فكان مستأنفاً ) أليم ( 5 ) تتقون ( 5 .
التفسير : هذا حكم آخر ، وسببه أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط ، والنصارى يوجبون العفو فقط .
فأما العرب فتارة كانوا يوجبون القتل وأخرى يوجبون الدية ، لكنهم كانوا يظهرون التعدي في كل واحد من الحكمين .
فإذا وقع القتل بين قبيلتين كان يقول الشريف للخسيس لنقتلن بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، وبالرجل منا الرجلين منهم ، وكانوا يجعلون جراحاتهم ضعف جراحات خصومهم ، وربما زادوا على ذلك على ما يروى أن رجلاً قتل رجلاً من الأشراف ثم اجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول فقالوا : ماذا تريد ؟ قال : إحدى ثلاث .
قالوا : وما هي ؟ قال : تحيون ولدي ، أو تملؤن داري من نجوم السماء ، أو تدفعون إليّ جملة قومكم حتى أقتلهم ، ثم لا أرى أني أخذت عوضاً .
وكانوا يجعلون دية الشريف اضعاف دية الخسيس فبعث الله محمداً بالعدل وسوّى بين عباده في القصاص .
وقيل : نزلت في واقعة قتل حمزة .
ومعنى كتب فرض وأوجب كقوله ) كتب عليكم الصيام ) [ البقرة : 183 ] ولفظة ( على ) أيضاً تفيد الوجوب كقوله ) ولله على الناس حج البيت ( والقصاص أن تفعل بالإنسان مثل ما فعل من قولك ( اقتص فلان أثر فلان ) إذا فعل مثل فعله .
ومنه القصة لأن الحكاية تساوي المحكي والمقص لتعادل جانبيه .
وقوله ( في القتلى ( أي بسبب قتل القتلى كقوله ( في النفس المؤمنة مائة(1/480)
" صفحة رقم 481 "
إبل ) أي بسببها .
فظاهر الآية يدل على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب جميع القتلى إلا أنهم أجمعوا على أن غير القاتل خارج عن هذا العموم .
وأما القاتل فقد دخله التخصيص أيضاً في صور كما إذا قتل الوالد ولده ، والسيد عبده ، والمسلم حربياً أو معاهداً ، أو مسلم مسلماً خطأ إلا أن العام الذي دخله التخصيص يبقى حجة فيما عداه .
فإن قيل : لو جب القصاص لوجب إما على القاتل وليس عليه أن يقتل نفسه بل يحرم عليه ذلك ، وإما على ولي الدم وهو مخير بين الفعل والترك ، بل هو مندوب إلى الترك .
) والعافين عن الناس ) [ الأعراف : 134 ] وإما على أجنبي وليس ذلك بالاتفاق .
وأيضاً القصاص عبارة عن التسوية ، ووجوب رعاية المساواة على تقدير القتل لا يوجب نفس القتل .
قلنا عن الأول إن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام أو من يجري مجرى الإمام ، لأنه متى حصلت شرائط وجوب القود فإنه لا يحل للإمام أن يترك القود وهو من جملة المؤمنين فالتقدير : يا أيها الأئمة كتب عليكم استيفاء القصاص إن أرادوا لي الدم أستيفاء .
ويحتمل أن يكون خطاباً مع القاتل لأنه كتب عليه تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص .
وذلك أن القاتل ليس له أن يمتنع ههنا وليس له أن ينكر ، بل للزاني والسارق الهرب من الحدود ، ولهما أيضاً أن يستترا بستر الله فلا يعترفا ، فكان أمر القتل أشنع ، وفيه حق الآدمي أكثر .
وعن الثاني أن ظاهر الآية يقتضي إيجاب التسوية في القتل ، والتسوية في القتل صفة للقتل ، وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذات .
فالآية تفيد إيجاب القتل .
ثم اختلفوا في كيفية المماثلة التي تجب رعايتها فقال الشافعي : إن كان قتله بقطع اليد قطعت يد القاتل ، فإن مات عنه في تلك المرة وإلا حزت رقبته .
وكذلك إن أحرق الأول بالنار أحرق الثاني ، فإن مات في تلك المرة وإلا حزت رقبته .
روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ) ورضخ يهودي رأس جارية بالحجارة فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يفعل به مثله .
ولأنه لا يجوز أن يقال : كتبت التسوية في القتلى إلا في كيفية القتل ، وحيث لم يستثن دخل .
وأيضاً الحكم بالعموم يوجب التخصيص في بعض الصور كما لو قتله بالسحر فلا يقتل السحر لأنه محرم بل بالسيف .
وكما لو قتل صغيراً باللواط فإنه يقتل بالسيف على الأصح .
ولو لم يحكم بالعموم لزم الإجمال ، والتخصيص أهون منه .
وأيضاً لو لم تفد الآية إلا إيجاب التسوية في أمر من الأمور فلا شيئين إلا وهما متساويان في بعض الأمور ، فلا يستفاد من الآية شيء ألبتة .
وقال أبو حنيفة : المراد بالمماثلة تماثل(1/481)
" صفحة رقم 482 "
النفس ويتعين السيف لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ا قود إلا بالسيف ) واتفقوا على أن القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة له من الله .
أما إذا تاب فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة للدلائل الدالة على قبول التوبة ) وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ) [ الشورى : 25 ] فما الحكمة في وجوب قتله ؟ أجاب أصحابنا بأنه تعالى يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل .
وقالت المعتزلة : إنما شرع ليكون لطفاً .
وكيف يتصور هذا اللطف ولا تكليف بعد القتل ؟ قالوا : فيه منفعة للقاتل من حيث إنه إذا علم أنه لا بد وأن يقتل صار ذلك داعياً له إلى الخير وترك الإصرار والتمرد ، ومنفعة لولي المقتول من حيث التشفي ، ومنفعة لسائر المكلفين من حيث الانزجار عن القتل .
قوله عز من قائل ) الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ( الباء للبدل نحو ( بعث هذا بذاك ) أي الحر مقتول بدل الحر .
ثم فيه قولان : الأول ويروى عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعطاء وعكرمة ، أن لا يكون القصاص مشروعاً إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين ، لأن الألف واللام تفيد العموم أي كل حر يقتل بحر .
فلو كان قتل حر بعبد مشروعاً لكان ذلك الحر مقتولاً بعير حر وهو يناقض الآية .
ولأن هذا القول خرج مخرج البيان لقوله ) كتب عليكم القصاص ( وإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد إهمال للتسوية فلا يكون مشروعاً وهو يناقض الآية ، وإلى هذا ذهب الشافعي ومالك وقالا : لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر وهو فوقه أولى ، وكذا القول في قتل الأنثى بالذكر .
وأما قتل الذكر بالأنثى فليس فيه إلا الإجماع ، وكأن سنده أن الذكورة والأنوثة فضيلتان كالعلم والجهل والشرف والخسة ، فكما أنه لم يفرق بين العالم والجاهل فكذلك بين الذكر والأنثى ، ويروى عن عمرو بن حزم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كتب إلى أهل اليمن ( أن الذكر يقتل الأنثى ) .
القول الثاني ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والنوري وهذا مذهب أبي حنيفة ، أن الحر بالحر لا يفيد الحصر ألبتة بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على حال سائر الأقسام .
لأن قوله ) والأنثى بالأنثى ( يقتضي قصاص الحرة بالمرأة الرقيقة ، فلو كان قوله ) الحر بالحر والعبد بالعبد ( مانعاً من ذلك تناقض .
وأيضاً قوله ) كتب عليكم القصاص ( جملة مستقلة وقوله ( الحر بالحر ( تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر ، فلا يمنع من ثبوت الحكم في سائر الجزئيات .
ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى ) النفس بالنفس ( وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( المسلمون(1/482)
" صفحة رقم 483 "
تتكافأ دماؤهم ) وقد يقتل الجماعة بواحد فدل على أن التفاضل غير معتبر في الأنفس ثم إنهم قالوا : الفائدة في تخصيص هذه الجزئيات بالذكر ما ذكرنا في سبب النزول أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل فمنعوا عن ذلك .
وأيضاً نقل عن علي رضي الله عنه والحسن البصري أن الغرض أن هذه الصورة هي التي يكتفى فيها بالقصاص .
أما في سائر الصور وهي ما إذا كان القصاص واقعاً بين الحر والعبد وبين الذكر والأنثى فهناك لا يكتفي بالقصاص ، بل لا بد من التراجع .
فأيما حر قتل عبداً فقود به ، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه بشرط أن يسقطوا قيمة العبد من دية الحر ويؤدوا إلى أولياء الحر بقية ديته ، وإن قتل عبد حراً فهو به فإن شاء أولياء الحر قتلوا وأسقطوا قيمة العبد من دية الحر وأدوا بعد ذلك إلى أولياء الحر بقية ديته ، وإن شاءوا أخذوا كل الدية وتركوا قتل العبد .
وإن قتل رجل امرأة فهو بها قود ، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا بعد ذلك نصف ديته إلى أوليائه ، وإن شاءوا تركوا قتله وأخذوا ديتها .
وإذا قتلت امرأة رجلاً فهي به قود ، فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإن شاءوا تركوها وأخذوا كل الدية ، فعلى هذا الغرض من الآية أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرين والعبدين والذكرين والأنثيين ، فأما عند اختلاف الجنس فالاكتفاء بالقصاص غير مشروع .
قوله تعالى ) فمن عفي له من أخيه شيء ( المعنى فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو كقولك ( سير بزيد بعض السير وطائفة من السير ) ولا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به لأن عفا لا يتعدى إلى مفعول به إلا بواسطة .
فإن قيل : إن ( عفا ) يتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله ) فمن عفى له ( فالجواب أنه يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه .
قال تعالى ) عفا الله عنك ) [ التوبة : 23 ] فإذا تعدى إلى الذنب وإلى الجاني معاً قيل ( عفوت لفلان عما جنى ) كما تقول ( غفرت له ذنبه ) وتجاوزت له عنه .
فمعنى الآية فمن عفى له عن جنابته .
فاستغنى عن ذكر الجناية .
فإنما قيل شيء من العفو ليعلم أنه إذا عفي له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم يجب إلا الدية .
وأخوه هو ولي المقتول وإنما قيل له أخوه لأنه لابسه من قبل أنه ولي الدم ومطالبه به كما تقول للرجل ( قل لصاحبك كذا ) إذا كان بينهما أدنى تعلق .
أو ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على(1/483)
" صفحة رقم 484 "
صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام .
وقد يستدل بهذا على أن الفاسق مؤمن لأنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وبين ولي الدم ، ولا شك أن هذه الأخوة بسبب الدين ) إنما المؤمنون إخوة ) [ الحجرات : 10 ] مع أن قتل العمد العدوان بالإجماع من الكبائر .
وأيضاً إنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل ، والعفو إنما يليق عن المؤمن .
ويحتمل أن يجاب بأن القاتل قبل إقدامه على القتل كان مؤمناً فلعله تعالى سماه مؤمناً بهذا التأويل ، وبأن القاتل قد يتوب وعند ذلك يكون مؤمناً .
ثم إنه تعالى أدخل غير التائب فيه على سبيل التغليب .
وأيضاً لعل الآية نازلة قبل أن يقتل أحد أحداً .
ولا شك أن المؤمنين أخوة قبل الإقدام على القتل .
وأيضاً الظاهر أن الفاسق يتوب ، وعلى هذا التقدير يكون ولي المقتول أخاً له .
وأيضاً يجوز أن يكون قد جعله أخاً له في النسب كقوله تعالى ) وإلى عاد أخاهم هوداً ) [ هود : 50 ] ( فاتباع بالمعروف ( أي فليكن اتباع ، أو فالأمر ، أو فحكمه اتباع .
أو فعلية اتباع فقيل : على العافي اتباع بالمعروف بأن يشدد في المطالبة بل يجري فيها على العادة المألوفة ، فإن كان معسراً فالنظرة وإن كان واجداً لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق ، وإن كان واجداً بغير المال الواجب فالإمهال إلى أن يستدل وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات ) و ( إلى المعفو عنه ) أداء إليه بإحسان ( بأن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود ، ولا يقدم ما ليس بواجب عليه ، وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل من غير مطل وبخس ، هذا قول ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد .
وقيل : هما على المعفو عنه فإنه يتبع عفو العافي بمعروف ويؤدي ذلك المعروف إليه بإحسان ) ذلك ( قيل : إشارة إلى الاتباع والأداء .
وعن ابن عباس : وهو الأقرب إنه إشارة إلى الحكم بسرع القصاص والدية والعفو ، فإن هذه الأمة خيرت بينهن توسعة وتيسيراً ، ولم يكن لليهود إلا القصاص وللنصارى إلا العفو وإثبات الخيرة فضل من الله ورحمة في حقنا ، لأن ولي الدم قد تكون الدية آثر عنده من القود إذا كان محتجاً إلى المال ، وقد يكون القود آثر عنده إذا كان راغباً في التشفي ودفع شر القاتل عن نفسه .
وقد يؤثر ثواب الآخرة فيعفو عن القصاص وعن بدله جميعاً وهو الدية .
) فمن اعتدى بعد ذلك ( التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل مع قتل القاتل أو دونه أو قتل بعد أخذ الدية والعفو فقد كان لولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقلوله الدية ثم يظفر به فيقتله ) فله عذاب أليم ( نوع من العذاب الأليم في الآخرة .
وعن قتادة : العذاب الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل من الدية كما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا أعافي أحداً قتل بعد أخذه الدية ) وهو مذهب الحسن وسعيد بن جبير وضعفه غيرهم .
ولما كانت الآية(1/484)
" صفحة رقم 485 "
مشتملة على إيلام العبد الضعيف وأنه لا يليق بكمال رحمته عقبها بقوله ) ولكم في القصاص حياة ( .
قال المفسرون : القصاص إزالة الحياة ، وإزالة الشيء لا تكون نفس ذلك الشيء فالمراد لكم في شرع القصاص حياة وأيّ حياة .
وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل .
وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ، ويحتمل أن يقال : نفس القصاص سبب لنوع من الحياة وهي الحاصلة بالارتداع عن القتل ، لأن القاتل إذا قيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل ولم يقتل فكان القصاص سبب حياة نفسين .
وقرأ أبو الجوزاء ) ولكم في القصص حياة ( أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص .
وقيل : القصص القرآن أي لكم في القرآن حياة للقلوب .
وهذا وقد اتفق علماء البيان على أن قوله سبحانه ) ولكم في القصاص حياة ( بلغ في الإيجاز نهاية الإعجاز ، وذلك أن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة كقولهم ( قتل البعض أحياء للجميع ) وأكبروا القتل وأوجز ذلك قولهم ( القتل أنفى للقتل ) .
والترجيح مع ذلك للآية من وجوه : الأول أن قولهم لا يصح على العموم لأن القتل ظلماً ليس أنفى للقتل قصاصاً بل أدعى له .
ولو خصص فقيل ( القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً ) طال .
والآية تفيد هذا المعنى من غير تقدير وتكلف .
الثاني : أن القتل قصاصاً لا ينفي القتل ظلماً من حيث إنه قتل بل من حيث إنه قصاص .
وهذه الحيثية معتبرة في الآية لا في كلامهم .
الثالث : أن الحياة هي الغرض الأصلي ونفي القتل إنما يراد لحصول الحياة .
فالتنصيص علىالمقصود الأصلي أولى .
الرابع : التكرار من غير ضرورة مستهجن وأنه في كلامهم لا في الآية .
الخامس : أن الحروف الملفوظة التي يعتمد عليها في اعتبار الوجازة لا المكتوبة هي في الآية عشرة ، وفي كلامهم أربعة عشر .
السادس : أن الأغلب في كلامهم أسباب خفاف وذلك مما يخل بسلاسة التركيب ، والآية مع غاية وجازتها فيها السبب والوتد والفاصلة .
السابع : ظاهر قولهم يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال ، وفي الآية جعل نوع من القتل وهو القصاص سبباً لنوع من الحياة ولا استبعاد فيه لظهور التغاير .
الثامن : المطابقة مرعية في الآية لمكان التضاد بين لفظي القصاص وحياة بخلاف كلامهم .
التاسع : اشتمال الآية على لفظ يصلح للتفاؤل وهو الحياة ، بخلاف كلامهم فإنه يشتمل على نفي ا كتنفه قتلان وأنه لكما يليق بهم .
العاشر : اشتمال الآية على اسمين وأداة ، واشتمال كلامهم على ثلاثة أسماء وأداة .
وإن اعتبرت أداة التعريف ففي الآية واحدة وفي كلامهم ثنتان ، وإن اعتبر التنوين في الآية تقاصت الأدوات وتبقى زيادة الأسماء بحالها ، على أن أفعل التفضيل إذا لم يكن فيه اللام والإضافة يستعمل بمن .
فتقدير كلامهم ( القتل أنفى(1/485)
" صفحة رقم 486 "
للقتل من كل شيء ) فأين الوجازة ) يا أولي الألباب ( يا ذوي العقول وأولو جمع لا واحد له من لفظه ، وواحده ذو بمعنى صاحب .
وأولات للإناث واحدتها ذات بمعنى صاحبة قال تعالى ) وأولات الأحمال ) [ الطلاق : 4 ] وإعراب أولو كإعراب جمع المذكر السالم .
وزادوا في ( أولي ) واواً فرقاً بينها وبين ( إلى ) وأجرى ( أولو ) عليه .
واللب العقل ، ولب النخلة قلبها ، وخالص كل شيء لبه .
خاطب العقلاء الذين يتفكرون في العواقب ويعرفون جهات الخوف فلا يرضون بإتلاف أنفسهم لإتلاف غيرهم إلا في سبيل الله ) لعلكم تتقون ( يتعلق بمحذوف أي أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس لتكونوا على بصيرة في إقامته ، راجين أن تعملوا عمل أهل التقوى في الحكم به .
وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة ، أو لعلكم تتقون نفس القتل الخوف القصاص .
عن الحسن والأصم : وقد بقي على الآية بحث ، وهو أنه سئل إذا صح أن المقتول إن لم يقتل فهو يموت لأن المقدر من عمره ذلك القدر ، وكذا إذا هم إنسان بقتل آخر فارتدع خوفاً عن القصاص فإن ذلك الآخر يموت وإن لم يقتله ذلك الإنسان لأن كل وقت صح وقوع قتله صح وقوع موته ، فكيف يفيد شرع القصاص حياة ؟ والجواب أنه تعالى قد جعل لكل شيء سبباً يدور مسببه معه وجوداً وعدماً .
وشرعية القصاص مما جعلها تعالى سبباً لحياة من أراد حياته بعد أن تصور الهامّ قتله ، وذلك بأن تذكر القصاص فارتدع عما هم به .
ففائدة شرع القصاص هي فائدة سائر الأسباب والوسائط ومنكر فائدتها .
وكلا الإنكارين مذموم وصاحبهما عند العقلاء ملوم والله أعلم .
التأويل : كما كتب القصاص في قتلاكم كتب على نفسه الرحمة في قتلاه وقال : من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته ) الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ( أي من كان متوجهاً إليه تعالى بالكلية كان فيضه تعالى متصلاً به بالكلية ، ومن كان في رق غيره من المكوّنات لم يتصل به فيضه غاية الاتصال ، ومن كان ناقصاً في دعوى محبته لم يكن مستحقاً لكمال محبته ) فمن عفي له ( من الأحباء والأصفياء ) شيء ( من أنواع البلاء والابتلاء الذي هو موكل بالأنبياء والأولياء فإنه معروف من معارفه .
فالواجب على العبد أداء شكره إلى الله بإحسان .
) فمن اعتدى بعد ذلك ( الوفاء بملابسة الجفاء وألقى جلباب الحياء ) فله عذاب أليم ( فإن الكفر مرتعه وخيم ) ولكم في القصاص حياة ( الدارين والتقاء برب الثقلين ) يا أولي الألباب ( الذين بدلوا قشر الروح الإنساني عند شهود الجلال الصمداني ) لعلكم تتقون ( شرك وجودكم .
( البقرة : ( 180 - 182 ) كتب عليكم إذا . . . .
" كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على(1/486)
" صفحة رقم 487 "
المتقين فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم "
( القراآت )
خاف ( بالإمالة حيث كان : حمزة .
) موصٍ ( بالتشديد : يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وجبلة الباقون : بالتخفيف من الإيصاء .
الوقوف : ( خيراً ( ج لأن قوله ) الوصية ( مفعول ) كتب ( وإنما لم يؤنث الفعل لتقدمه ولاعتراض ظرف وشرط بينهما ، أو ( الوصية ) مبتدأ ( وللوالدين ) خبره ، ومفعول ( كتب ) محذوف أي كتب عليكم أن توصوا .
ثم بين لمن الوصية والوصل أولى لئلا يحتاج إلى الحذف .
) بالمعروف ( ح لأن التقدير حق ذلك حقاً أو كتب الوصية حقاً .
) المتقين ( ط وإن كان بعدها فاء التعقيب لأنه حكم آخر ) يبدلونه ( ط عليم كذلك ) عليه ( ط ) رحيم ( ( 5 ) .
التفسير : وهذا حكم آخر .
قوله ) كتب عليكم ( يقتضي الوجوب كما مر .
والمراد من حضور الموت ليس معاينة الموت لأنه في ذلك الوقت يكونه عاجزاً عن الإيصاء والأكثرون قالوا : المراد ظهور أمارة الموت وهو المرض المخوف كما يقال لمن قارب البلد : إنه وصل .
وعن الأصم : المراد فرض عليكم في حال الصحة الوصية بأن تقولوا إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا ، وزيف بأنه ترك للظاهر .
ولا شك أن الخي رقد ورد في القرآن بمعنى المال ) وما تنفقوا من خير ) [ البقرة : 272 ] ( وإنه لحب الخير لشديد ) [ العاديات : 8 ] ( من خير فقير ) [ القصص : 24 ] لكن الأئمة اختلفوا في المراد بالخير ههنا بعد اتفاقهم على أنه المال .
فعن الزهري : أنه المال مطلقاً قليلاً كان أو كثيراً بدليل قوله ) من خير فقير ) [ القصص : 24 ] ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ) [ الزلزلة : 7 ] وأنه تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر قال تعالى ) وللنساء نصيبٌ مما ترك الولدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً ) [ النساء : 7 ] فكذا الوصية ، ولأن كل ما ينتفع به فهو خير .
والأكثرون على أن لفظ الخير في الآية مختص بالمال الكثير كما لو قيل ( فلان ذو مال ) يفهم منه أن ماله قد جاوز حد أهل الحاجة وإن كان اسم المال يقع في الحقيقة على ما يتموله الإنسان من قليلٍ أو كثير .
وكما إذا قيل ( فلان في نعمة من الله تعالى ) فإنه يراد تكثير النعمة وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله وهو باب من المجاز مشهور ينفون الاسم عن الشيء لنقصه ومن قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) ولو كانت الوصية واجبة في كل ما يترك لم يكن لقوله ) إن ترك خيراً ( فائدة لندرة من يموت فاقداً أقل ما يتمول .
ثم القائلون بهذا اختلفوا في أن المسمى(1/487)
" صفحة رقم 488 "
بالخير في الآية مقدر بمقدار معين أم لا .
فمنهم من قال : إنه غير مقدّر ويختلف ذلك باختلاف حال الرجل .
فقد يوصف المرء لمقدار من المال بأنه غنيّ ولا يوصف غيره بالغنى لذلك المقدار لأجل كثرة العيال وتوسع النفقة ، فيكون التعيين في كل صورة موكولاً إلى الاجتهاد ، وهذا لا ينافي أصل الإيجاب .
ومنهم من قال : إنه مقدر .
ثم اختلفوا فعن علي كرم الله وجهه : أنه دخل على مولى في مرض الموت وله سبعمائة درهم فقال : ألا أوصي ؟ قال : لا قال الله تعالى ) إن ترك خيراً ( وليس لك كثير مال .
وعن عائشة أن رجلاً قال لها : إني أريد أن أوصي .
قالت : كم مالك ؟ قال : ثلاثة آلاف .
قالت : كم عيالك ؟ قال أربعة .
قالت : قال الله تعالى ) إن ترك خيراً ( وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل .
وعن ابن عباس : أنه إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي ، فإذا بلغ ثمانمائة درهم أوصى .
وعن قتادة : ألف درهم .
وعن النخعي من ألف إلى خمسمائة درهم .
قال أبو البقاء : جواب الشرط عند الأخفش الوصية بحذف الفاء أي فالوصية للوالدين على الابتداء والخبر واحتج بقول الشاعر :
من يفعل الحسنات الله يشكرها
وقال غيره : جواب الشرط في المعنى ما تقدم من كتب الوصية كما تقول ( لك كذا إن فعلت ) ويجوز أن يكون جواب الشرط معنى الإيصاء لا معنى الكتب بناء على رفع الوصية بكتب وهو الوجه .
وقيل : المرفوع بكتب الجار والمجرور وهو ) عليكم ( وليس بشيء وأما إذا فهو ظرف لمعنى الوصية ولا يحتاج إلى جواب .
والأقربين قيل هم الأولاد عن ابن زيد .
وقيل من عدا الولد عن ابن عباس ومجاهد .
وقيل : جميع القرابات .
وقيل : غير الوارث .
وقوله ( بالمعروف ( أمر بأن يسلك في الوصية الطريقة الجميلة .
فلو حرم الفقير ووصى للغني لم يكن معروفاً ، ولو أوصى لأولاد الجد البعيد مع حضور الإخوة لم يكن ما يأتيه معروفاً .
) وحقاً ( مصدر مؤكد أي حق ذلك حقاً على المتقين على الذين آثر والتقوى وجعلوها مذهباً لهم وسيرة .
واعلم أن الأئمة القائلين بوجوب هذه الوصية اختلفوا في أنها منسوخة أم لا .
أما أبو مسلم فإنه اختار عدم نسخها وقال : معناها كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم ) [ النساء : 11 ] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى الله به لهم عليهم وأن لا(1/488)
" صفحة رقم 489 "
ينقص من أنصبائهم ، أو لا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء مع ثبوت الوصية .
فالميراث عطية من الله تعالى والوصية عطية ممن حضره الموت ، فالوارث يجمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين ، ولو قدرنا حصول المنافاة فهذه الآية توجب الوصية للوالدين والأقربين .
ثم آية الميراث تخرج القريب الوارث ويبقى القريب الذي لا يكون وارثاً داخلاً في الآية .
وذلك أن من الوالدين من لا يرث بسبب اختلاف الدين والرق والقتل ، ومن الأقارب من يسقط في حال ويثبت في حال ، ومنهم من يسقط في كل حال إذا كانوا ذوي رحم .
فآية الميراث مخصصة لهذه الآية لا ناسخة لها .
وأكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء على أن الآية منسوخة قالوا : نسخت بآية المواريث أو بالإجماع أو بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن الله أعطى كل ذي حقٍ حقه ألا لا وصية لوارث ) وهذا وإن كان خبر واحد إلا أن الأمة تلقته بالقبول حتى التحق بالمتواتر فيجوز نسخ القرآن به عند الجمهور .
ومن أئمة الأمة من قال : هي منسوخة في حق من يرث ، ثابتة فيمن لا يرث وهو مذهب ابن عباس والحسن البصري ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد حتى قال الضحاك : من مات من غير أن يوصي لأقربائه فقد ختم عمله بمعصية .
وقال طاوس : إن أوصى للأجانب وترك الأقارب نزع منهم ورد إلى الأقارب .
قالوا : الآية دلت على وجوب الوصية للقريب ترك العمل به في حق القريب الوارث ، إما بآية المواريث أو بقوله ( لا وصية لوارث ) أو بإجماع الأمة .
فبقيت الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثاً .
وأيضاً قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من حق امرئٍ مسلم له شيء يوصي فيه ) وفي رواية ( له شيء يريد أن يوصي به أن يبيت ليلتين ) وفي رواية ( ثلاث ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده ) لكن الوصية لغير الأقارب غير واجبة بالإجماع فوجب أن تختص بالأقارب .
وهؤلاء القائلون بأن الآية صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثاً اختلفوا في موضعين : الأول : نقل عن ابن مسعود أنه جعل هذه الوصية للأفقر فالأفقر من الأقرباء .
وقال الحسن البصري والأغنياء سواء .
الثاني : عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن معلى أنهم(1/489)
" صفحة رقم 490 "
قالوا فيمن يوصي لغير قرابته وله قرابة لا ترثه : يجعل ثلثي الثلث لذوي القرابة ، وثلث الثلث لمن أوصى له .
وعن طاوس : أن الأقارب إن كانوا محتاجين انتزغت الوصية من الأجانب وردت إلى الأقارب ) فمن بدله ( فمن غير الإيصاء أو ما قاله الميت وأوصى به عن وجهه إن كان موافقاً للشرع ) بعد ما سمعه ( وتحققه فلا معنى للسماع لو لم يقع العلم به والمبدل إما الوصي بأن يغير الوصية في الكتابة ، أو في قسمة الحقوق ، وإما الشاهد بأن يغير شهادته أو يكتمها غيرهما بأن يمنع من وصول ذلك المال إلى مستحقه ، وقيل : المنهي عن التغيير هو الموصي ، نهي عن تغيير الوصية عن الموضع الذي بيّن الله تعالى الوصية فيه .
فإنهم كانوا يوصون في الجاهلية للأبعدين طلباً للفخر والشرف ، ويتركون الأقارب في الضر والفقر ، فأمرهم بالوصية للأقربين وأوعدهم على تركها .
) فإنما إثمه ( ما إثم الإيصاء المغير أو إثم التبديل إلا على الذين يبدلونه ، فإن أحداً لا يؤاخذ بذنب غيره .
ومنه يعلم أن الطفل لا يعذب بكفر أبيه ، وأن الإنسان إذا أمر الوارث بقضاء دينه فإن الميت لا يعذب بتقصير ذلك الوارث ، وأن الميت لا يعذب بنياحة غيره عليه ) إن الله سميعٌ عليم ( يسمع الوصية على حدها ويعلمها على صفتها فلا تخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها ، وفي ذلك وعيد للمبدّل وأيّ وعيد .
ثم إنه سبحانه لما أطلق الإيعاد على التبديل أتبعه قوله ) فمن خاف ( ليعلم أن التغيير من الباطل إلى الحق على طريق الإصلاح مستحسن شرعاً كما هو حسن عقلاً ، وللخوف ههنا تفسيران : أحدهما : الخشية فيسأل أنه إنما يصح في أمر منتظر مظنون والوصية وقعت وعلمت .
وأجيب بأن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريق الحق مع ضرب من الجهالة ، أو مع التأويل أو شاهد فيه إثماً أي تعمداً بأن يزيد غير المستحق ، أو ينقص المستحق أو يعدل عن المستحق .
فعند ظهور أمارات ذلك وقبل تحقق الوصية يأخذ في الإصلاح بينهم أي بين أهل الوصية ، لأن قوله ) من موصٍ ( يدل على سائر ملابساته .
فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة : أريد أن أوصي للأباعد دون الأقارب ، أو أن أزيد فلاناً مع أنه غير مستحق للزيادة ، أو أنقص فلاناً مع أنه مستحق للزيادة ، فعند ذلك يصير السامع خائفاً من جنف أو إثم لا قاطعاً به ، وأيضاً الجائز أن لا يستمر الموصي على وصيته فإن له الفسخ ما دام في حياته ، فمن أين يحصل الثقة بما فعل وقد يعدل عن الحق في آخر الأمر ، وبتقدير أن تستقر الوصية ومات الوصي على ذلك لم يبعد أن يقع بين الورثة والموصى لهم تنازع فيما نسب إلى الموصي ، وقد يعزى حينئذٍ إلى الجنف أو الإثم فيحتاج إلى الإصلاح بينهم بإجرائهم على قانون الشرع .
والتفسير الثاني إن ) خاف ((1/490)
" صفحة رقم 491 "
بمعنى علم .
وقد يستعمل الخوف والخشية مقام العلم ، لأن الخوف منشؤه ظن مخصوص ، وبين العلم والظن مشابهة من وجوه كثيرة ، فصح إطلاق أحدهما على الآخر استعمالاً شائعاً من ذلك قولهم ( أخاف أن ترسل السماء ) يريدون التوقع .
والظن الغالب الجاري مجرى العلم .
فمعنى الآية أن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمداً فلا حرج على من علم ذلك أن يرده إلى الصلاح بعد موته وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع .
وفي الآية دليل علىجواز الإصلاح بين المتنازعين إذا خاف المصلح إفضاء المنازعة إلى محذور شرعاً .
والغرض من قوله ) فلا إثم عليه ( رفع الحرج حتى لا ينافي الوجوب .
وفيه مع ذلك نكتة هي أن الإصلاح بين القوم يحتاج إلى الإكثار من القول وذلك قد يفضي إلى الإسهاب والتكلم ببعض ما لا ينبغي فبين تعالى أنه لا مؤاخذة على المصلح من هذا الجنس إذا كان غرضه الأصلي صحيحاً ولهذا أتبعه قوله ) أن الله غفورٌ رحيم ( وأيضاً كأنه قيل : أنا الذي أغفر الذنوب ثم أرحم المذنب ، فلأن أوصل رحمتي إليك أيها المصلح مع تحمل أعباء الإصلاح أولى .
أو المراد أن الموصي الذي أقدم على الجنف أو الإثم متى أصلح خلل وصيته فإن الله يغفر له ويرحمه بفضله .
وبهذا التأويل يجوز أن يرجع الضمير في قوله ) فلا إثم عليه ( إلى الموصي .
واعلم أن أكثر الأئمة وإن ذهبوا إلى أن وجوب الوصية منسوخ بآية المواريث إلا أنهم اتفقوا على أنها الآن جائزة في الثلث لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) عاد سعد ابن أبي وقاص فقال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال : لا .
قال : فبشطره ؟ قال : لا قال : فبالثلث ؟ قال : الثلث والثلث كثير .
لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس .
فأفاد الحديث المنع من الزيادة واستحباب النقصان عن الثلث إن كانت الورثة فقراء .
والوصية أوسع مجالاً من الإرث ، فإذا أراد الوصية فالأفضل أن يقدم من لا يرث من أقاربه لأن الله أعطى الأقربين الميراث ويقدم منهم المحارم ثم يقدم بالرضاع ثم بالمصاهرة ثم بالولاء ثم بالجوار كما في الصدقات المنجزة .
فإن أوصى للورثة بعضهم جاز لكن بالإجازة من سائر الورثة كما لو زاد على الثلث للأجنبي ، فإن الزائد يحتاج إلى إجازة الورثة .
التأويل : كتب على الأغنياء الوصية بالمال وعلى الولياء الوصية بالحال ، والأغنياء يوصون في آخر أعمارهم بالثلث والأولياء يخرجون في مبادئ أحوالهم عن الكل .
والمعنى إذا حضر قلب أحدكم مع الله وأمات نفسه عن الصفات الحيوانية ، فعليه أن يوصي للوالدين .
وهما الروح العلوي والبدن السفلي ، فإن النفس تولدت من ازدواجهما ،(1/491)
" صفحة رقم 492 "
وللأقربين - وهم القلب - والسر بترك كل مشرب يظهر لهم من المشارب الروحانية والجسمانية بالمعروف من غير إسراف يفضي غلى الإتلاف معرضاً عن الشهوات مجتنباً عن الرسوم والعادات كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( بعثت لرفع العادات وترك الشهوات بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ومن مكارم الأخلاق أن يجعل المشارب مشرباً واحداً والمذاهب مذهباً واحداً .
وكل له سؤل وجين ومذهب
ووصلكم سؤلي وديني هواكم
وأنتم من الدنيا مرادي وهمتي
مناي مناكم واختياري رضاكم
) حقاً على المتقين ( من الشرك الخفي ولهذا لم يقل على المسلمين أو المؤمنين لأنهم أهل الظواهر والمتقون هم أهل البواطن كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( التقوى ههنا ) وأشار إلى صدره .
وأحكام الظواهر يحتمل النسخ وأحكام البواطن وهي الحكم والحقائق لا تحتمل النسخ .
فحكم الوصية في حق المتقين غير منسوخ أبداً ) فمن بدله ( فمن غير من الروح والقلبوالسر والوصية الصادرة من نفسه الميتة ) فإنما إثمه ( عليهم .
وسبب هذا التوكيد أن السر والقلب والروح كلهم من العالم الروحاني ، وصفاتهم حميدة باقية فترك مشاربها والخروج عنها صعب جداً ) فمن خاف ( تفرس ) من موصٍ جنفاً ( في ترك المشارب بأن يبالغ في المجاهدات لنيل المشاهدات ) أو إثماً ( تجاوزاً عن حد الشرع في رفع الطبع ) فأصلح ( بينهم بين الروح والبدن والقلب والسر ولكن بنظر شيخ كامل ومرب عارف ، فلا حرج على المصلح والله الموفق .
( البقرة : ( 183 - 187 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون وإذا سألك عبادي عني فإني(1/492)
" صفحة رقم 493 "
قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون "
( القراآت )
فديةٌ طعام ( مضافاً ) مساكين ( بالجمع : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان .
وروى الحلواني والداري عن هشام والنجاري ) فديةٌ ( بالتنوين ) طعام ( بالرفع مضافاً إلى مساكين بالجمع .
الباقون : مثل هذا إلا أن ) مسكين ( مفرد مجرور ) فمن تطوع ( بتشديد الطاء والواو وبياء الغيبة وجزم العين : حمزة وعلي وخلف .
الباقون : بلفظ الماضي من باب التفعل ) القرآن ( غير مهموز حيث كان : ابن كثير وعباس وحمزة في الوقف فإذا كان بمعنى القراءة فإن عباساً فيه مخير إن شاء همز وإن شاء لم يهمز كقوله تعالى ) وقرآن الفجر أن قرآن الفجر ) [ الإسراء : 78 ] ( ولا تعجل بالقرآن ) [ طه : 114 ] ( إن علينا جمعه وقرآنه ) [ القيامة : 17 ] ( فاتبع قرآنه ) [ القيامة : 18 ] الباقون بالهمز ) اليسر والعسر ( حيث كانا مثقلين : يزيد إلا قوله ) فالجاريات يسرا ) [ الذاريات : 3 ] ( ولتكملوا العدة ( من التكميل : أبو بكر وحماد وعباس ورويس .
والباقون : من الإكمال .
) الداعي إذا دعاني ( بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل .
وافق أبو جعفر ونافع غير قالون وأبو عمرو بالياء في الوصل .
والباقون بغير ياء فيها في الحالين ) في لعلهم ( بفتح الياء : ورش .
الباقون : بالسكون .
الوقوف : ( تتقون ( لا لأن ( أياماً ) ظرف ( الصيام ) أو الاتقاء ) معدودات ( ط لأن المرض والسفر عارضان فكانا خارجين عن أصل الوضع ) أخر ( ط لأن خبر الجار منتظر وهو ( فدية ) فلا تعلق له بما قبله ) مسكين ( ط لأن التطوع خارج عن موجب الأصل ) خير له ( ط لأن التقدير والصوم خيرٌ لكم .
) تعلمون ( 5 ) والفرقان ( ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب ) فليصمه ( ط للابتداء بشرط آخر ) أخر ( ط ) العسر ( ز قد يجوز ) تشكرون ( 5 ) قريب ( ط لأن قوله ( أجيب مستأنف ) دعان ( ص للفاء ) يرشدون ( 5 ) لهن ( ط ) عنكم ( ج لعطف الجملتين المختلفتين ) لكم ( ص لذلك ) إلى الليل ( ج وإن اتفقت الجملتان لأن حكم الصوم والاعتكاف مختلفان ولكل واحد شأن ) في المساجد ( ط لأن ) تلك ( مبتدأ ) فلا تقربوها ( ط لأن كذلك صفة مصدر محذوف أي يبين الله بياناً كبيان ما تقدم ) يتقون ( 5 .(1/493)
" صفحة رقم 494 "
التفسير : هذا حكم آخر .
والصيام مصدر صام كالقيام والعياذ .
وهو في اللغة الإمساك عن الشيء .
قال الخليل : الصوم قيام بلا عمل .
وصام الفرس صوماً أي قام على غير اعتلاف .
وقال أبو عبيدة : كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم .
وإنه في الشرع عبارة عن الإمساك عن أشياء مخصوصة تسمى المفطرات كالأكل والشرب والوقاع في زمان مخصوص هو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس .
ولا بد في صحته من النية وأن يقع في غير يومي العيد بالاتفاق ، وفي غير أيام التشريق عند الأكثرين .
ويوافقه الجديد من قول الشافعي ) ومن غير يوم الشك بلا ورد ونذر وقضاء وكفارة ( .
ولا بد للصائم من الإسلام والنقاء عن الحيض والنفاس ، ومن العقل كل اليوم ، ومن انتفاء الإغماء في جزء من اليوم .
وقوله سبحانه ) كما كتب على الذين من قبلكم ( أي على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم .
قال علي كرم الله وجهه : أوّلهم آدم يعني أن الصوم عبادة أصلية قديمة ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم لم يفرضها عليكم وحدكم .
) لعلكم تتقون ( بالمحافظة عليها لقدمها ، أو المعاصي لأن في الصوم ظلفاً للنفس عن المناهي ومواقعة السوء ، أو لعلكم تنتظمون في سلك أهل التقوى فإن الصوم شعارهم .
وقيل : معناه صومكم كصومهم في عدد الأيام وهو رمضان ، كتب على النصارى فأصابهم موتان فزادوا عشراً قبله وعشراً بعده .
وقيل : كان يقع في البرد الشديد والحر الشديد فشق عليهم فجعلوه بين الشتاء والربيع وزادوا عشرين كفارة .
ومعنى معدودات مؤقتات بعدد معلوم أو قلائل مثل ) دراهم معدودة ) [ يوسف : 20 ] وأصله أن المال القليل يعدّ عدّاً ، والكثير يحثى حثياً كأنه قال : إني رحمتكم فلم أفرض عليكم صيام الدهر كله ولا أكثره ولكن أياماً معدودة قليلة ، وعلى هذا يحتمل أن يكون وجه الشبه بين الفرضين مجرد تعليق الصوم بمدة غير متطاولة وإن اختلفت المدتان .
ثم إن الأئمة اختلفوا في هذه الأيام على قولين : الأول : أنها غير رمضان .
فعن عطاء : ثلاثة ايام من كل شهر .
وعن قتادة : هي مع صوم عاشوراء .
ثم اختلفوا أيضاً فقيل : كان تطوّعاً ثم فرض وقيل بل كان واجباً .
واتفقوا أنه نسخ بصوم رمضان واستدلوا على قولهم إنها غير صوم رمضان بما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن صوم رمضان نسخ كل صوم ) فدل على أن صوماً آخر كان واجباً .
وأيضاً ذكر حكم المريض والمسافر في هذه الآية وفي التي تتلوها ، فلو اتحد الصومان كان تكريراً محضاً .
وأيضاً ذكر في هذه الآية التخيير بين الصوم والفدية وصوم رمضان واجب على التعيين فيختلفان .
والثاني : وهو اختيار أبي مسلم والحسن وأكثر المحققين أنها شهر رمضان أجمل أولاً ذكر الصيام ، ثم بينه بعض البيان بقوله ) أياماً معدودات ( ثم كمل البيان بقوله(1/494)
" صفحة رقم 495 "
) شهر رمضان ( وهذا ترتيب في غاية الحسن من غير زيادة ولا نقصان .
وأجيب عن استدلالهم الأول بأنه ليس في الخبر أنه نسخ عنه وعن أمته كل صوم فلم لا يجوز أن يراد به نسخ كل صوم وجب الشرائع المتقدمة .
سلمنا أن المراد به صوم ثبت في شرعه ولكن لم لا يجوز أن يكون ناسخاً لصيام وجب بغير هذه الآية .
وعن الثاني أن صوم رمضان كان واجباً مخيراً ، وفي الآية الثانية جعل واجباً على التعيين ، فأعيد حكم المريض والمسافر ليعلم أن حالهما ثانياً في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالهما أولاً .
وعن الثالث أن الاختلاف مسلم لكن في التخيير والتعيين ، أما في نفس الصوم فلا .
وههنا سؤال وهو أن قوله ) فمن شهد منكم الشهر فليصمه ( كيف كان ناسخاً للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ ؟ والجواب أن الاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول ، بل المقدم في التلاوة يمكن أن يكون ناسخاً والمتأخر منسوخاً كآية الاعتداد بالحول .
وهكذا نجد في القرآن آية مكية متأخرة في التلاوة عن الآية المدنية وذلك كثير .
قال القفال : انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف ، فبين أولاً أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمم السالفة ، فإن الأمور الشاقة إذا عمت خفت .
ثم بين ثانياً وجه الحكمة في إيجاب الصوم وحصول التقوى .
ثم بين ثالثاً أنه مختص بأيام قلائل لا بكلها ولا بأكثرها .
ثم بين رابعاً أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن ليعلم شرفه فتوطن النفس له .
ثم ذكر خامساً إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى زمن الرفاهية والصحة وهي هيئة يكون بها بدن الإنسان في مزاجه وتركيبه بحيث يصدر عنها الأفعال كلها سليمة والمرض زوالها .
واختلف الأئمة في المرض والسفر المبيحين للإفطار على أقوال : أحدها أن أيّ مريض كان ، وأيّ مسافر كان ، فله أن يترخص تنزيلاً للفظ المطلق على أقل أحواله ، وهذا قول الحسن وابن سيرين .
يروى أنه دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع أصبعه .
وعن داود : الرخصة حاصلة في كل سفرٍ ولو كان فرسخاً .
وثانيها أنه المرض الذي لو صام لوقع في مشقة وجهد وكذا السفر وهو قول الأصم .
وحاصله تنزيل اللفظ على أكمل أحواله .
وثالثها وهو قول الشافعي وأكثر الفقهاء أنه الذي يؤدي إلى ضرر في النفس أو زيادة في العلة إذ لا فرق في العقل بين ما يخاف منه وبين ما يؤدي إلى ما يخاف منه كالمحموم إذا خاف أنه لو صام اشتد حماه ، والأرمد يخاف أن يشتد وجع عينه .
قالوا : وكيف يمكن أن يقال : كل مرض مرخص مع علمنا بأن في الأمراض ما ينفعه الصوم ؟ فالمراد إذن منه ما يؤثر الصوم في تقويته تأثيراً يعتد به والتأثير اليسير لا عبرة به .
المرض المرخص لا يفرق فيه بين أن يعرف كونه كذلك بنفسه أو(1/495)
" صفحة رقم 496 "
يخبره بذلك طبيب حاذق بشرط كونه مسلماً بالغاً عدلاً .
وأصل السفر من الكشف لأنه يكشف عن أحوال الرجال وأخلاقهم .
وعن الأزهري : سمي مسافراً لكشف قناع الكن عن وجهه وبروزه للأرض الفضاء .
قال الأوزاعي : السفر المبيح مسافة يوم .
وعند الشافعي مقدر بستة عشر فرسخاً ولا يحسب منه مسافة الإياب .
كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو الذي قدر أميال البادية ، كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة .
وإلى هذه ذهب مالك وأحمد وإسحق ، وذلك أن تعب اليوم الواحد يسهل تحمله بخلاف ما إذا تكرر في يومين فحينئذٍ يناسب الرخصة ، ولما روى الشافعي عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان ) قال أهل اللغة : كل بريد أربعة فراسخ .
وروى الشافعي أيضاً أن عطاء قال لابن عباس : أقصر غلى عرفة ؟ فقال : لا فقال : إلى مرّ الظهران ؟ فقال : لا .
ولكن اقصر غلى جدّة وعسفان والطائف .
قال مالك : بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد .
وقال أبو حنيفة والثوري : رخصة السفر لا تحصل غلا في ثلاث مراحل ، أربعة وعشرين فرسخاً قياساً على المسح .
والإجماع على الرخصة في هذا المدة والخلاف فيما دون ذلك فيبقى المختلف فيه على أصل وجوب الصوم .
وأجيب بأن قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يمسح المقيم يوماً وليلة ) لا يدل على أنه لا تحصل الإقامة في أقل من يوم وليلة ، لأنه لو نوى الإقامة في موضع الإقامة ساعة يصير مقيماً .
وكذا قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( والمسافر ثلاثة أيام ) لا يوجب أن لا يحصل السفر في أقل من ثلاثة أيام .
وأيضاً الترجيح للإفطار لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) في قصر الصلاة ( هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) وإنما قيل ( أو على سفرٍ ) دون أن يقول مسافراً كما قال ) مريضاً ( لأن السفر يتعلق بقصده واختياره حتى لو عزم على الإقامة في منزل من المنازل لم يبق على قصد السفر ، فلا يصح الإفطار وإن كان مسافراً وهذا بخلاف المرض فإنه صفة قائمة به إن حصلت حصلت وإلا فلا .
وعدّة فعلة من العدّ بمعنى المعدود كالطحن بمعنى المطحون ، وعدة المرأة من هذا .
وإنما قيل ) فعدّة ( على التنكير ولم يقل ( فعدتها ) أي فعدة الأيام المعدودات للعلم بأنه لا يؤثر عدد على عددها وأنه لا يأتي إلا بمثل ذلك العدد ظاهراً ، فأغنى ذلك عن(1/496)
" صفحة رقم 497 "
التعريف بالإضافة .
والمعنى فعليه صوم عدّة .
وقرئ بالنصب أي فليصم عدّة .
وأخر جمع أخرى تأنيث آخر ، وإنه غير مصروف للصفة والعدل من أخر من كذا .
واعلم أن قوماً من علماء الصحابة ذهبوا إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ويصوما عدة من أيام أخر وهو قول ابن عباس وابن عمر حتى قالا : لو صام في السفر قضى في الحضر .
واختاره داود بن علي الأصفهاني وهو مذهب الإمامية لأن قوله تعالى ) فعدّة ( أي فعليه عدّة مشعر بالوجوب عليه .
ولأن قوله ) يريد بكم اليسر ( ينبئ عن إرادته الإفطار ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس من البر الصيام في السفر ) وفي الرواية بدل لام التعريف ميم التعريف .
وقوله ( الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ) وذهب أكثر الفقهاء إلى أن هذا الإفطار رخصة فإن شاء أفطر وإن شاء صام لما يجيء من قوله تعالى ) وإن تصوموا خيرٌ لكم ( ولما روى أبو داود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله هل أصوم في السفر فقال ( صم إن شئت وأفطر إن شئت ) .
قالوا وفي الآية إضمار التقدير : فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر كقوله تعالى ) أو به أذى من رأسه ففديةٌ ) [ البقرة : 196 ] أي فحلق فعليه فدية .
ثم اختلف هؤلاء فعن الشافعي وأبو حنيفة ومالك والثوري وأبي يوسف ومحمد : أن الصوم أفضل .
وقالت طائفةٌ : الأفضل الفطر وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحق .
وقيل : أفضل الأمرين أيسرهماعلى المرء .
واختلف أيضاً في القضاء فعامة العلماء على التخيير .
وعن أبي عبيدة بن الجراح : أن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن ينشق عليكم في قضائه إن شئت فواتر وإن شئت ففرّق .
وعن علي كرم الله وجهه وابن عمر والشعبي وغيرهم : أنه يقضي كما فات متتابعاً ويؤيده قراءة أبي ) فعدة من أيامٍ أخر متتابعات ( قوله سبحانه ) وعلى الذين يطيقونه ( فيه ثلاثة أقوال : الأول : وهو قول أكثر المفسرين : أن المعنى وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم لكونهم مقيمين صحيحين إن أفطروا فدية هي طعام مسكين .
والفدية في معنى الجزاء وهو عبارة عن البدل القائم عن الشيء وأنه ههنا عند أهل العراق - ومنهم أبو حنيفة - نصف صاع من بر أو صاع من غيره .
وعند أهل الحجاز - ومنهم الشافعي - مدّ من(1/497)
" صفحة رقم 498 "
غالب قوت البلد لكل يوم ويصرف إلى الفقير والمسكين .
قالوا : كان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوه فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية .
عن سلمة بن الأكوع : لما نزلت ) وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ( كان من أراد أن يفطر يفطر ويفتدي حتى نزلت ) فمن شهد منكم الشهر فليصمه ( فنسختها .
من قرأ بإضافة الفدية إلى طعام فالإضافة فيه كهي في قولك ( خاتم حديد ) ومن قرأ ( مساكين ) على الجمع فلأن الذين يطيقونه جمع فكل واحد منهم يلزمه طعام مسكين لكل يوم .
والاعتبار بمدّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو مائة وثلاثة وسبعون درهماً وثلث الدرهم .
الثاني : أن هذا راجع إلى المسافر والمريض .
وذلك أن المريض والمسافر منهما من لا يطيق أصلاً وإليه الإشارة بقوله ) فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيامٍ أخر ( ومنهما من يطيق الصوم مع الكلفة وهو المراد بقوله ) وعلى الذين يطيقونه ( قالوا : هذا أولى ليلزم النسخ أقل ، فإن نسخ التخيير بين الصوم والفدية عن المريض المطيق أقل من نسخ التخيير عنه وعن الصحيح المقيم .
الثالث : أنه نزل في الشيخ الهرم .
عن السدي : وعلى هذا لا تكون الآية منسوخة ويؤيده القراءة الشاذة ) يطوّقونه ( تفعيل من الطوق إما بمعنى الطاقة أو القلادة أي يكلفونه ، أو يقلدونه .
والتركيب يستعمل فيمن يقدر على شيء مع ضرب من المشقة والكلفة وبعضهم أضاف غلى الشيخ الهرم الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما وولديهما .
واتفقوا على أنا لشيخ إذا أفطر فعليه الفدية ، وأما الحامل والمرضع إذا أفطرتا فقال الشافعي : عليهما القضاء والفدية لحق الوقت .
وقال أبو حنيفة : لا يجب إلا القضاء كيلا يلزم الجمع بين البدلين .
) فمن تطوّع خيراً ( بأن يطعم مسكينين أو أكثر أو يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب ، أو صام مع الفدية عن الزهري .
) فهو ( أي التطوع ) خير له وأن تصوموا ( أيها المطيقون أو المطوقون وتحملتهم متاعب الصيام ) خيرٌ لكم ( من الفدية وتطوّع الخير .
ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر أيضاً عند من يرى أن الصوم لهما أفضل ) إن كنتم تعلمون ( أن الصوم أشق عليكم وأن أجركم على قدر نصبكم ، أو تعلمون بالله فتخشونه فتمتثلون أمره ) إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ فاطر : 28 ] أو تعلمون ما في الصوم من الفوائد الدنيوية والأخروية .
عن علي كرم الله وجهه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يقول الله عز وجلّ الصوم لي وأنا أجزى به وللصائم فرحتان حين يفطر وحين يلقى ربه .
والذي(1/498)
" صفحة رقم 499 "
نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم ) وعن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه .
ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) وعنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) وفضيلة الصوم ومنافعه أكثر من أن تحصى ولو لم يكن فيه إلا التشبه بالملائكة والارتقاء من حضيض حظوظ النفس البهيمية إلى ذروة التشبه بالروحانيات المجرّدة لكفى به فضلاً ومنقبة .
هذا صوم الشريعة ، فأما صوم الطريقة فالإمساك عما حرم الله عز وجلّ والإفطار بما أباح وأحل ، وصوم الحقيقة الإمساك عن الأكوان والإفطار بمشاهدة الرحمن .
صمت عن غيره فلما تجلى
كأن بي شاغلٌ عن الإفطار
وتشوّقت مدة ثم لما
زارني جَلّ عن مدى الأنظار
قوله عز من قائل ) شهر رمضان ( الشهر مأخوذ من الشهرة .
عن مجاهد : رمضان اسم الله تعالى .
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا جاء شهر رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله ) وعلى هذا شهر رمضان أي شهر الله .(1/499)
" صفحة رقم 500 "
والأكثرون على أنه اسم علم للشهر كرجب وشعبان ومنع الصرف للعلمية والألف والنون .
ثم اختلف في اشتقاقه فعن الخليل : أنه من الرمض بتسكين الميم وهو مطر يأتي وقت الخريف ويطهر وجه الأرض عن الغبار ، سمي الشهر بذلك لأنه يطهر الأبدان عن أوضار الأوزار .
وقيل : من الرمض بمعنى شدة الحر من وقع الشمس والأرض رمضاء .
وفي الكشاف : الرمضان مصدر رمض غذا احترق من الرمضاء ، سمي بذلك إما لارتماضهم فيه من حر الجوع كما سموه ناتقاً لأنه كان ينتقهم أي يزعجهم لشدته عليهم ، أو لأن الذنوب ترمض فيه أي تحترق .
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ) إنما سمي رمضان لأنه يرمض ذنوب عباده ( وكأن هذا من قولهم ( رمضت النصل ) جعلته بين حجرين أملسين ثم دققته ليرق .
وعن الأزهري : أنهم كانوا يرمضون أسلحتهم فيه ليقضوا منها أوطارهم في شوّال قبل دخول الأشهر الحرم .
وقيل : إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي بذلك .
وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء ، وإضافة الشهر إليه إضافة العام إلى الخاص ، ولو لم يتلفظ بالشهر جاز كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من صام رمضان إيماناً ( الحديث .
لأن التسمية وقعت برمضان فقط .
وارتفاعه على أنه مبتدأ خبره ) الذي أنزل فيه القرآن ( أو على أنه بدل من الصيام في قوله ) كتب عليكم الصيام ( أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان .
وعلى هذين الوجهين يكون الموصول مع صلته صفة لشهر رمضان .
قال أبو علي : وهذا أولى ليكون أيضاً في الأمر بصوم الشهر وإلا كان خبراً عن إنزال القرآن فيه .
وقرئ بالنصب على صوموا شهر رمضان أو على الإبدال من ) أياماً ( أو على مفعول ) وأن تصوموا ( وفي هذا الوجه نظر من قبل الفصل بين ) أن تصوموا ( ومعموله بالخبر .
وفائدة وصف الشهر بإنزال القرآن فيه التنبيه على علة تخصيصه بالصوم فيه .
وذلك أنه لما خص بأعظم آيات الربوبية ناسب أن يخص بأشق سمات العبودية فبقدرٍ هضم النفس يترقى العبد في مدارج الأنس ويصل إلى معارج القدس وتنخرق له الحجب الناسوتية ويطلع على الحكم اللاهوتية ويفهم معاني القرآن ويتبدل له العلم بالعيان وكان حينئذٍ من العجائب ما كان .
وفي إنزال القرآن في رمضان أقوال .
فعن سفيان بن عيينة أنزل في فضله القرآن كما تقول أنزل في علي عليه السلام كذا .
وقال ابن الأنباري : أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن كما تقول : أنزل الله في الزكاة كذا أي في إيجابها ، وأنزل(1/500)
" صفحة رقم 501 "
في الخمر كذا أي في تحريمها .
والقولان متقاربان ، أو هما واحد فإنه لم ينزل سوى قوله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ( الآيات .
واختيار الجمهور أن الله تعالى أنزل القرآن في رمضان .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين ) ثم إنه لا شك أن القرآن قد نزل منجماً مفرقاً على حسب المصالح والوقائع ، فأوّلت الآية بأن المراد أنه ابتدئ فيه إنزاله وذلك ليلة القدر .
ومبادئ الملل والدول هي التي يؤرخ بها لشرفها وانضباطها .
وهذا قول محمد بن إسحاق .
أو أنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل إلى الأرض نجوماً ، وليس يبعد أن يكون للملائكة الذين هم سكان سماء الدنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم ، وفيه مصلحة للرسول من حيث توقع الوحي عن أقرب الجهات .
ولعل فيه مصلحة لجبريل المأمور بالإنزال والتأدية ولا سيما على رأي الفلاسفة الذين جبريل عندهم هو العقل الفعال الأخير الذي يدير عالم الكون والفساد وخاصة نوع الإنسان .
وعلى هذا القول يحتمل أن يقال : إن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر ، ثم نزله على محمدٍ ( صلى الله عليه وسلم ) منجماً إلى آخر عمره .
ويحتمل أن يقال : إنه سبحانه كان ينزل إلى السماء الدنيا ليلة القدر كل سنة ما يحتاجون إليه في تلك السنة وكذلك أبداً إلى أن تم إنزاله .
وعلى هذا يكون تعين رمضان الذي أنزل إليه في تلك السنة وكذلك أبداً إلى أن تم إنزاله .
وعلى هذا يكون تعين رمضان الذي أنزل فيه القرآن نوعياً لا شخصياً ) هدى للناس وبيناتٍ ( منصوبان على الحالية أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات من جملة ما يهدي إلى الحق ويفرق بينه وبين الباطل من الكتب السماوية وذلك أن الهدى قسمان : جلي مكشوف وخفي مشتبه ، فوصفه أولاً بجنس الهداية ثم قال : إنه من نوع البين الواضح .
ويحتمل أن يقال : القرآن هدى من نفسه ومع ذلك ففيه أيضاً بينات من هدى الكتب المتقدمة ، فيكون المراد بالهدى والفرقان والتوراة والإنجيل ، أو يقال : الهدى الأول أصول الدين ، والثاني فروعه ، فيزول التكرار .
نقل الواحدي عن الأخفش والمازني أن الفاء في ) فمن شهد ( زائدة إذ لا معنى للعطف والجزاء ههنا وهذا وهم لظهور كونها للجزاء كأنه قيل : لما علمتم ختصاص هذا الشهر بفضيلة إنزال القرآن فيه فأنتم أيضاً خصوه بهذه العبادة ، ومعنى شهد أي حضر .
ثم قيل : إن مفعوله محذوف ) والشهر ( منصوب على الظرف وكذلك الهاء في ) فليصمه ( ولا يكون مفعولاً به كقولك ( شهدت الجمعة ) لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان الشهر .
فالمعنى فمن شهد منكم في الشهر المذكور المعلوم البلد أو المقام فليصم في الشهر .(1/501)
" صفحة رقم 502 "
وصاحب هذا القول ارتكب الإضمار حذراً من لزوم التخصيص في حق المسافر إلا أنه يلزمه ما فر منه أية سلك لأن الصبي والمجنون والمريض كل منهم شهد البلد مع أنه لا يجب عليه الصوم .
أما إذا قيل : إن الشهر مفعول به مثل ( شهدت عصر فلان وأدركت زمانه ) فلا يلزم منه إلا أحد الأمرين وهو التخصيص بقوله ) ومن كان مريضاً أو على سفرٍ فعدّة من أيامٍ أخر ( فيكون أولى من الأول لأن الإضمار والتخصيص إذا تعارضا فالتخصيص أولى ، فكيف إذا وقع الإضمار والتخصيص في جانب والتخصيص وحده في جانب ؟ هذا ما قاله الإمام فخر الدين الرازي معترضاً به على صاحب الكشاف وغيره .
( قلت ) : الإنصاف أن الترجيح مع صاحب الكشاف لأن لزوم الإضمار في الآية ممنوع ، وذلك أن ) شهد ( ههنا متروك المفعول كقولهم ( فلان يعطى ويمنع ) ومعنى من شهد من كان على حالة الحضر سواء كان في البلد أو في منزل من المنازل ونوى الإقامة .
وأما التخصيص فمشترك على القولين إلا أنه على قول صاحب الكشاف أقل لعدم دخول المسافر فيه ، فيكون أولى .
فإن قيل : فعلى هذا يكون قوله بعيد ذلك ) أو على سفرٍ ( تكراراً قلنا : إنما أعيد ليترتب عليه حكم القضاء كما للمريض .
وأيضاً لا يلزم من إيجاب الصوم على الحاضر عدم إيجابه على المسافر ، ولو سلم فبالمفهوم أوّلاً وبالمنطوق ثانياً ، فأين التكرار ؟ وإنما وضع المظهر وهو الشهر مقام المضمر حيث لم يقل فمن شهده اعتناء بشأنه واعتلاء لمكانه وتمكيناً في القلوب وتعظيماً في النفوس كقوله :
أن يسأل الحق يعطى الحق سائله .
وههنا بحث وهو أن قوله ) فمن شهد منكم الشهر فليصمه ( جملة شرطية ، وما لم يوجد الشرط بتمامه لم يترتب عليه الجزاء ، والشهر عبارة عن زمان مخصوص من أوله إلى آخره ، فظاهر الآية يقتضي أن الصوم لا يجب عليه إلا عند شهود الجزء الأخير وهو محال لأنه يقتضي إيقاع الفعل في الزمان المنقضي .
وأجيب بأن المراد من الشهر جزء من أجزائه وهذا مجاز مشهور ، والمعنى من شهد جزءاً من أجزاء الشهر فليصم كل الشهر .
ثم إن كان هذا الجزء من أول الشهر كما لو شهد هلال رمضان فهذا موافق لما نقل عن علي كرم الله وجهه : أن من دخل عليه الشهر وهو مقيم ثم سافر وجب أن يصوم الكل .
وأما سائر المجتهدين فيقولون : هذا عام يدخل فيه الحاضر والمسافر إلا أن قوله ) ومن كان مريضاً أو على سفرٍ ( يخصصه ، وإن كان في أثناء الشهر فيوافق قول أبي حنيفة : إن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر لزمه قضاء ما مضى .
قلت : لا حاجة إلى ارتكاب التجوز المذكور وهو إطلاق لفظ الشهر على جزء من أجزائه ، ولا يلزم منه المحال المذكور إذ(1/502)
" صفحة رقم 503 "
المراد من شهد الشهر أجمع فليكن بحيث قد وجد منه الصوم في جميع أيامه ، أو المراد من عزم على كونه مقيماً في الشهر فليصمه .
ويعلم منه أنه إن كان حاضراً في بعضه يتعلق إيجاب الصوم بذلك البعض فقط بدليل قوله ) ومن كان مريضاً أو على سفرٍ ( فإنه لما علم الوجوب للحاضر في كله والرخصة للمسافر في كله علم الحكمان جميعاً للحاضر في بعضه والمسافر في البعض الآخر ، فكل يوم مستقل بنفسه فيما يقتضيه ، والصوم فيه عبادة مستقلة ، وكأن ما نقل عن علي كرم الله وجهه أمر إلزامي رعاية لحرمة الشهر كما لو أدركت الحائض من أول الوقت قدر ما يسع تلك الصلاة ، وفي قول قدر ركعة ، وفي قول قدر تكبيرة ، لزمها قضاؤها إذا طهرت .
وأما أن شهر رمضان بم يثبت حتى يعتبر الشهود فيه فقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاستكملوا العدة ) يعني عدة شعبان ثلاثين يوماً .
ومهما شهد عند القاضي عدل واحد أنه رأى الهلال ثبت لما روي عن عمر أنه رأى الهلال وحده فشهد عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأمر الناس بالصوم .
ولما روي أن علياً عليه السلام شهد عنده رجل على رؤية هلال رمضان فصام وقال : صيام يوم من شعبان أحب إليّ من أن أفطر يوماً من رمضان ، وللاحتياط في أمر العبادة .
ولا يثبت الهلال في سائر الشهور إلا برؤية عدلين ، وعند أبي حنيفة : يثبت هلال رمضان في الغيم بواحد وفي الصحو تعتبر الاستفاضة .
وإذا رؤي في موضع شمل الحكم لمن هو على ما دون مسافة القصر منه ولا يجب الصوم بذلك على من عداهم .
) يريد الله بكم اليسر ( معناه في اللغة السهولة ومنه اليسار للغني لأنه يتسهل به الأمور وتتسنى المقاصد واليد اليسرى لبقائها على اليسر ، أو لأن الأمور تسهل بمعاونتها اليمنى والعسر نقيضه .
وفي الصحاح : قال عيسى بن عمر : كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وأوسطه ساكن فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه .
أوجب الصوم على سبيل السهولة لأنه ما أوجب إلا في مدة قليلة من السنة ، ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض والمسافر وههنا يتحقق صدق قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) .
ومن كمال رأفته تعالى أنه نفى الحرج أولاً ضمناً بقوله ) يريد الله بكم اليسر ( ثم نفاه صريحاً بقوله ) ولا يريد بكم العسر ( والظاهر أن الألف واللام في اليسر والعسر يفيد العموم ، فيمكن أن يستدل به على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق .
والمعتزلة تمسكوا بالآية أنه قد يقع من العبد ما لا يريد الله تعالى ، فإن(1/503)
" صفحة رقم 504 "
المريض لو حمل نفسه على الصوم حتى أجهده فقد ما لم يرد الله منه إذ كان لا يريد العسر .
وأجيب بأنا نحمل اللفظ على أنه تعالى لا يأمره بالعسر وإن كان قدير يدمنه العسر فإن الأمر عندنا قد يثبت بدون الإرادة .
فكما أنه يجوز أن يأمر ولا يريد جاز أن يريد ولا يأمر .
قوله ) ولتكملوا ( أجمعوا على أن الفعل المعلل محذوف فيه .
فعن الفراء : التقدير ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون .
شرع جملة ما ذكره وهو الأمر بصوم العدة وتعليم كيفية القضاء والرخصة في غباحة الفطر .
وهذا نوع من اللف لطيف المسلك .
فقوله ) لتكملوا ( علة الأمر بمراعاة العدة ) ولتكبروا ( علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر .
) ولعلكم تشكرون ( أي إرادة أن تشكروا علة الترخيص والتيسير .
وعن الزجاج : أن المحذوف فعل أمر مقدر قبله كأنه قيل : لتعلموا ما تعملون ولتكملوا .
والفرق أن حذف النون في الأول للنصب وفي هذا للجزم .
ولا يخفى أن قوله ) ولعلكم تشكرون ( يبقى في هذا الوجه غير مرتبط بما قبله إلا أن يقال : إنه في قوة ( ولتشكروا ) .
وفيه أيضاً بعد ويحتمل أن يقال ) ولتكملوا ( معطوف على اليسر كأنه قيل : يريد الله بكم اليسر ويريد بكم لتكملوا كقوله ) يريدون ليطفؤا ) [ الصف : 8 ] وإنما قيل ) ولتكملوا العدة ( ولم يقل ( ولتكملوا الشهر ) ليشمل عدة أيام الشهر وعدة أيام القضاء جميعاً .
وعدى فعل التكبير بعلى لتضمين معنى الحمد أي ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم .
والمراد بالتكبير قيل : إنه تعظيم الله تعالى والثناء عليه شكراً على ما وفق لهذه الطاعة .
وتمام هذا التكبير إنما يكون بالقول والاعتقاد والعمل .
فالقول أن يقر بصفاته العلى وأسمائه الحسنى وينزهه عما يليق به من ند وصاحبة وولد وتشبيه بالخلق ، وكل ذلك لا يعتدّ به إلا مع الإعتقاد القلبي .
وأما العمل فالتعبد بالأوامر والتبعد عن النواهي .
وهذا لا يختص بوقت استكمال عدة رمضان ، ولكنه شامل لجميع الأحيان .
وقيل : هو تكبير الفطر وإنه مشروع في العيدين لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعاً صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى .
وأوّل وقته في العيدين جميعاً غروب الشمس ليلة العيد .
وعن أحمد ومالك أنه لا تكبير ليلة العيد وإنما يكبر في يومه .
لنا قوله تعالى ) ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ( قال الشافعي : سمعت من أرضى به من أهل العلم بالقرآن يقول ) ولتكملوا العدة ( أي عدة صوم رمضان ) ولتكبروا الله ( عند إكمالها ، وإكمالها بغروب الشمس آخر يوم من رمضان وأما آخر التكبير فأصح الأقوال أنهم يكبرون إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد ، لأن الكلام مباح إلى تلك الغاية والتكبير أولى ما يقع به الاشتغال .
والمسنون في صيغته أن يكبر ثلاثاً نسقاً وبه قال مالك .(1/504)
" صفحة رقم 505 "
وقال أحمد وأبو حنيفة : يكبر مرتين .
لنا الرواية عن جابر وابن عباس .
وأيضاً فإنه تكبير موضوع شعاراً للعيد فكان وتراً كتكبير الصلاة .
قال الشافعي : وما زاد من ذكر الله فحسن .
واستحسن في ( الأم ) أن تكون زيادته ما نقل عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنه قاله على الصفا وهو : ( الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ، لا غله إلا الله ولا نعبد إلا غياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون .
لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده فلا شيء بعده لا غله إلا الله والله أكبر ) قال في الشامل : والذي يقوله الناس لا بأس به أيضاً وهو : الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، والله أكبر والله أكبر ولله الحمد .
يرفع الناس أصواتهم بالتكبير ليلتي العيد في المنازل والمساجد والطرق والأسواق سفراً كانوا أو حاضرين في اليومين في طريق المصلي وبالمصلى إلى الغاية المذكورة سواء كان يصلي المكبر مع الإمام أو لا يصلي .
ويستثني من ذلك الحاج فلا يكبر ليلة الأضحى .
واختلف في أن التكبير في أي العيدين أوكد ، ففي القديم ليلة النحر لإجماع السلف عليها ، وفي الجديد ليلة الفطر لورود النص فيها .
قوله سبحانه ) وإذا سألك عبادي عني ( وجه اتصاله بما قبله هو أنه لما أمر العباد بالتكبير الذي هو الذكر وبالشكر نبههم على أنه مطلع على ذكرهم وشكرهم فيسمع نداءهم ويجيب دعاءهم ولا يخيب رجاءهم ، أو أنه أمرهم بالثناء ثم رغبهم في الدعاء تعليماً للمسألة وتنبيهاً على حسن الطلب ، وسبب نزوله ما روي أن أعرابياً قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ وقيل : كان في غزاة وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً ) .
وعن قتادة أن الصحابة قالوا : يا نبي الله كيف ندعو ربنا فنزلت .
وعن عطاء أنهم سألوا في أي ساعة ندعو فنزلت .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهود أهل المدينة قالوا : يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا ؟ فنزلت .
وعن الحسن : سألت الصحابة فقالوا أين ربنا فنزلت .
وقيل : فرض عليهم الصيام كما كتب على الذين من قبلهم أي إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم فشق ذلك على بعضهم حتى عصوا ربهم في ذلك التكليف ، ثم ندموا وسألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن توبتهم فنزلت مبشرة بقبول توبتهم .
ونسخ ذلك التشديد بسبب دعائهم وتضرعهم ، وبهذا الوجه تصير الآية مناسبة لما قبلها ولما بعدها .
ثم إن سؤالهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الله إما أن يكون عن ذاته بأن يكون السائل ممن يجوّز التشبيه فيسأل عن القرب والبعد بحسب الذات ، وإما أن يكون عن صفاته بأنه هل يسمع دعاءنا ، أو عن أفعاله بأنه إذا سمع دعاءنا فهل يجيبنا إلى مطلوبنا ، أو كيف أذن في الدعاء وهل أذن في أن ندعوه بجميع(1/505)
" صفحة رقم 506 "
الأسماء ، أو ما أذن إلا بأن ندعوه بأسماء معينة ، وهل أذن أن ندعوه كيف شئنا ، أو ما أذن إلا بأن ندعوه على وجه معين كما قال تعالى ) ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) [ الإسراء : 110 ] وكل هذه الوجوه محتملة لأن قوله ) فإني قريب ( يدل على أن السؤال كان عن الذات وقوله ( أجيب دعوة الداع ( دليل على أن السؤال عن الصفة لأن الإجابة بعد السماع وإطلاق قوله ) إذا دعان ( يرشد إلى الإذن في الدعاء على أي نحو أراد ما لم يتجاوز قانون الأدب عرفاً كقوله تعالى ) ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) [ الأعراف : 180 ] قال العلماء : ليس القرب ههنا بالمكان ، لأنه لو كان في المكان كان مشاراً إليه بالحس ومنقسماً إذ يمتنع أن يكون في الصغر والحقارة كالجوهر الفرد .
وكل منقسم مفتقر في تحققه غلى أجزائه .
وكل مفتقر ممكن .
وأيضاً لو كان في المكان ، فإما أن يكون غير متناه من جميع الجوانب وهو محال فإن كل بعد متناه ببرهان تناهي الأبعاد أو من جانب واحد فكذلك مع أن كونه بحيث يقتضي جانب منه عدم التناهي ، وجانب منه التناهي يوجب كونه مركباً من أجزاء مختلفة الطبائع ، أو يكون متناهياً من جميع الجوانب وهو باطل بالاتفاق .
وأيضاً هذه الآية من أقوى الدلائل على أن القرب ليس بالجهة لأنه لو كان في المكان لما كان قريباً من الكل بل لو كان قريباً من حملة العرش يكون بعيداً عن غيرهم ، ولو كان قريباً من المشرقي كان بعيداً عن المغربي .
قالوا : فثبت أن المراد بالقرب قربه بالتدبير والحفظ والكلاءة .
قال في الكشاف : هو تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بحال من قرب مكانه .
فإذا دعى أسرعت تلبيته ونحوه ) ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) [ ق : 16 ] وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هو بينكم وبين أعناق رواحلكم ) وقد أشار بعض المحققين إلى أن اتصاف ماهيات الممكنات بوجودها لما كان بإيجاد الصانع فهو كالمتوسط بين ماهياتها ووجوداتها ، فيكون أقرب إلى ماهية كل ممكن من وجود تلك الماهية إليها بل ماهية كل شيء إنما صارت هي هي بجعل الصانع حتى ماهية الوجود فبه صار الجوهر جوهراً والسواد سواداً والعقل عقلاً والنفس نفساً .
فالصانع أقرب غلى كل ماهية من تلك الماهيات إلى نفسها ( قلت ) استصحاب المكان لا يوجب الافتقار إلى المكان .
ولئن سلم أن كل مفتقر إلى المكان ينقسم ، فانقسام كل مستصحب للمكان ممنوع ، وبراهين تناهي الأبعاد مختلة زيفناها في مواضعها .
فلا ذرة من ذرات العالم إلا ونور الأنوار محيط بها قاهر عليها قريب منها ، أقرب من وجودها إليها ،(1/506)
" صفحة رقم 507 "
لا بمجرد العلم فقط ولا بمعنى الصنع والإيجاد فقط بل بضرب آخر لا يكشف المقال عنه غير الخيال ، مع أ ، التعبير عن بعض ذلك يوجب شنعة الجهال .
شعر :
رمزت إليه حذار الرقيب
وكتمان سر الحبيب حبيب
إذا ما تلاشيت في نوره
يقول لي ادع فإني قريب
فإن سألوه عليه السلام : أين ربنا ؟ صح الجواب بأني قريب ، وإن سألوه : هل يسمع ربنا دعاءنا ؟ صح الجواب بأني قريب ، وإن سألوه كيف ندعوه أبرفع الصوت أم بإخفائه ؟ صح أن يجاب إني قريب ، وإن سألوه : هل يعطينا ربنا مطلوبنا بالدعاء صحّ في الجواب فإني قريب ، وإن سألوه إذا أذنبنا ثم تبنا فهل يقبل الله توبتنا ؟ صَحَّ أن يجاب إني قريب أي بالنظر إليهم والتجاوز عنهم .
واعلم أن الدعاء مصدر دعوت أدعو وقد يكون اسماً .
تقول : سمعت دعاءً كما تقول سمعت صوتاً .
وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية والاستمداد والمعونة .
قال بعض الظاهريين : لا فائدة في الدعاء لأن المطلوب به إن كان معلوم الوقوع عند الله كان واجب الوقوع وإلا فلا .
ولأن الأقدار سابقة والأقضية جارية وقد جف القلم بما هو كائن ، فالدعاء لا يزيد فيها شيئاً ولا ينقص ، ولأن المقصود إن كان من صالح العبد فالجواد لطق لا يبخل به ، وإن لم يكن من مصالحه لم يجز طلبه ، ولأن أجل مقامات الصدّيقين الرضا بالقضاء وإهمال حظوظ النفس .
والاشتغال بالدعاء ينافي ذلك ، ولأن الدعاء شبيه بالأمر أو النهي وذلك خارج عن الأدب ، ولهذا ورد في الكلام القدسي ( من شغله قراءة القرآن عن مسألتي أعطيه أفضل ما أعطي السائلين ) وقال جمهور العقلاء : إن الدعاء من أعظم مقامات العبودية وإنه من شعار الصالحين ودأب الأنبياء والمرسلين .
والقرآن ناطق بصحته عن الصديقين ، والأحاديث مشحونة بالأدعية المأثورة بحيث لا مساغ للإنكار ولا مجال للعناد .
والسبب العقلي فيه أن كيفية علم الله وقضائه وقدره غائبة عن العقول ، والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد معلقاً بين الرجاء والخوف اللذين بهما تتم العبودية .
وبهذا الطريق صححنا القول بالتكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله وجريان قضائه وقدره في الكل .
وما روي عن جابر أنه جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن ففيم العمل اليوم ، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل ؟ قال : بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير .
قال : ففيم العمل ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له .
وكل عامل بعمله(1/507)
" صفحة رقم 508 "
منبه على ما قلنا ، فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) علقهم بين الأمرين ، رهبهم بسابق القدر ثم رغبهم في العمل ولم يترك أحد الأمرين للآخر فقال : كل ميسر لما خلق له .
يريد أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق به القدر قبل وجوده إلا أنك تحب أن تعرف الفرق بين الميسر والمسخر كيلا تغرق في لجة القضاء والقدر ، وكذا القول في باب الرزق والكسب .
والحاصل أن الأسباب والوسائط والروابط معتبرة في جميع أمور هذا العالم .
ومن جملة الوسائل في قضاء الأوطار الدعاء والالتماس كما في الشاهد .
فلعل الله تعالى قد جعل دعاء العبد سبباً لبعض مناجحه .
فإذا كان كذلك فلا بد أن يدعو حتى يصل إلى مطلوبه ، ولم يكن شيء من ذلك خارجاً عن قانون القضاء السابق وناسخاً للكتاب المسطور .
ومن فوائد الدعاء إظهار شعار الذل والانكسار ، والإقرار بسمة العجز والافتقار ، وتصحيح نسبة العبودية ، والانغماس في غمرات النقصان الإمكاني ، والإفلاس عن ذروة الترفع ، والاستغناء إلى حضيض الاستكانة ، والحاجة والفاقة ، ولهذا ورد ( من لم يسأل الله يغضب عليه ) فإذا كان الداعي عارفاً بالله تعالى وعالماً بأنه لا يفعل إلا ما وافق مشيئته وسبق به قضاؤه وقدره ، ودعا على النمط المذكور من غير أن يكون في دعائه حظ من حظوظ النفس الأمارة ، راجياً فيما عند الله من الخير ، خائفاً من الإقدام على موقف المسألة والمناجاة ، وأن تكون استجابته صورة الاستدراج ، كان دعاؤه خليقاً بالإجابة وجديراً بالقبول وأن تعود بركته عليه قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من رجلٍ يدعو الله بدعاء إلا استجيب له .
فإما أن يعجل له في الدنيا ، وإما أن يدخر له في الآخرة وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل ( قالوا يا رسول الله وكيف يستعجل ؟ قال : ( يقول دعوت ربي فما استجاب لي ( وأما هيئة الداعي فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ ( وعن ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم ( وأما شرائط الدعاء فمنها بعد ما مر من الإخلاص وغيره(1/508)
" صفحة رقم 509 "
تزكية البدن وإصلاحه بلقمة الحلال .
وذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الرجل يطيل السفر يمد يده إلى السماء أشعث أغبر يقول : يا رب يا رب .
ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ؟ وذكر المحققون أن الدعاء مفتاح باب السماء ، وأسنانه لقمة الحلال .
وأما وقت الدعاء ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له ( وعن أبي أمامة قال : يا رسول الله أيّ الدعاء أسمع ؟ قال : جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات .
وعن أنس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) الدعاء بين الآذان والإقامة لا يرد ( وزاد في رواية قال : فماذا نقول يا رسول الله ؟ قال ) سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة ( .
وعن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد فأكثروا الدعاء ( وعنه أنه قال ) من سره أن يستجيب الله له دعاءه عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء ( وعنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ثلاثة لا ترد دعوتهم : الصائم حين يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ( وأما كيفية الدعاء فعن فضالة بن عبيد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمع رجلاً يدعو في صلاته فلم يصلّ على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره ) إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم ليدع بعد ما شاء ( .
وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد حتى يصلى عليّ فلا تجعلوني كغمر الراكب صلوا عليّ أول الدعاء وأوسطه وآخره ( .
ومن لطائف الآية أنه تعالى قال ) فإني قريب ( دون أن يقول ( فقل إني قريب ) كما قال في سائر الأسئلة والأجوبة .
وذلك في مواضع من كتابه ) ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر(1/509)
" صفحة رقم 510 "
ربي ) [ الإسراء : 85 ] ( ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً ) [ طه : 105 ] ( يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي ) [ الأعراف : 187 ] وهذه الأسئلة أصولية .
) يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين ) [ البقرة : 215 ] ( ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ) [ البقرة : 220 ] ( ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى ) [ البقرة : 222 ] ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ) [ النساء : 127 ] ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) [ النساء : 176 ] ( يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) [ الأنفال : 1 ] ( ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي ) [ يونس : 53 ] ( ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً ) [ الكهف : 83 ] فكأنه سبحانه يقول : عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء ، أما في الدعاء فلا واسطة بيني وبينك .
وأيضاً في مقام السؤال قال : ( عبادي ( وهذا يدل على أن العبد له ، وفي مقام الإجابة قال ) فإني قريب ( وهذا يدل على أنه للعبد .
وأيضاً لم يقل ( العبد مني قريب ) بل قال ) إني قريب ( منه إشارة إلى أنه ما للتراب ورب الأرباب وإنما يصل من حضيض الإمكان الذاتي إلى ذروة الوجود والبقاء بفضل الواجب وفيضه ) فليستجيبوا لي ( أجاب واستجاب بمعنى يقال : أجاب واستجاب له أي فليمتثلوا أمري إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة ) وليؤمنوا بي ( وليستقيموا وليعزموا على الاستجابة ، وليؤمنوا كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم إرادة أن يكونوا من الراشدين المهتدين إلى مصالح دينهم ودنياهم ، فإن طاعة الله تعالى هي المستتبعة للخيرات عاجلاً وآجلاً ) من عمل صالحاً من ذكرٍ وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) [ النحل : 97 ] وفي ضده ) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ونحشره يوم القيامة أعمى ) [ طه : 124 ] وحاصل الكلام : أنا أجيب دعاءكم مع أني غني عنكم على الإطلاق فكونوا أنتم مجيبين دعوتي مع افتقاركم إليّ من جميع الوجوه .
وفيه نكتة وهي أنه تعالى لم يقل أجب دعائي حتى أجيب دعاءك لئلا يصير المذنب محروماً عن هذا الإكرام بل قال : أنا أجيب دعاءك على جميع أحوالك فكن أنت مجيباً لدعائي وهذا يدل على أن نعمه تعالى شاملة ورحمته كاملة تعم المطيعين والمذنبين والكاملين والناقصين .
وقيل : الدعاء في الآية هو العبادة لما روي عن النعمان بن بشير أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الدعاء هو العبادة ) وقرأ ) ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي(1/510)
" صفحة رقم 511 "
سيدخلون جهنم داخرين ) [ غافر : 60 ] وعلى هذا فالإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب كقوله تعالى ) ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ) [ الشورى : 26 ] وقيل : المراد من الدعاء التوبة .
وذلك أن التائب يدعو الله عند التوبة ، فإجابة الدعوة على هذا التفسير عبارة عن قبول التوبة .
قوله عز وجل : ( أحل لكم ( الآية جمهور المفسرين على أنها ناسخة لما عليه الناس في أول الإسلام .
روي عن ابن عباس أنه لما نزلت ) كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ( كانوا إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب وصاموا إلى القابلة ، فاختان رجل فجامع امرأته وقد صلى العشاء ولم يفطر ، فأراد الله أن يجعل ذلك تيسيراً لمن بقي ورخصة ومنفعة .
وعن البراء قال : كان أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ويومه حتى يمسي .
وقال : إن قيس بن صرمة الأنصاري ، أو صرمة بن قيس ، أو قيس بن عمرو - على اختلاف الروايات - كان صائماً .
فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : أعندك طعام ؟ قالت : لا ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عينه فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبة لك ، فلما انتصف النهار غشي عليه .
فذكر ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت ) أحل لكم ( ففرحوا بها فرحاً شديداً ، وأبو مسلم خالف الجمهور بناء على مذهبه من أنه لم يقع في القرآن نسخ ألبتة .
احتج الجمهور بوجوه منها .
أنه تعالى شبه إيجاب الصوم على هذه الأمة بإيجابه على من قبلهم ، فيلزم منه حرمة الأكل والشرب والوقاع بعد النوم في شرعنا كما كانت في شرعهم .
وإذا كانت الحرمة ثابتة فهذه الآية رافعة لها ناسخة لحكمها .
ومنع أبو مسلم من أن مقتضى التشبيه حصول المشابهة في كل الأمور ، فلعلهم إنما كانوا يمتنعون من الأكل والشرب والوقاع اعتقاداً منهم ببقاء تلك الحرمة في شرعنا كما هي في شرع من قبلنا مع جواز كونها مباحة في نفس الأمر .
ومع قيام هذا الاحتمال فلا جزم بالنسخ ومنها قوله تعالى ) علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ( ولو كان ذلك حلالاً لم ينسبوا إلى الخيانة ، قيل : إن عمر رضي الله عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة ، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه .
فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة وأخبره بما فعل .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما كنت جديراً بذلك يا عمر ) .
فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء فنزلت .
قال أبو مسلم : أصل الخيانة النقص .
وخان واختان وتخوّن بمعنى واحد مثل كسب واكتسب وتكسب .
والمعنى علم الله أنكم كنتم تنقصون أنفسكم حظها من اللذات لا من الثواب والخير .
ومنها قوله ) فتاب عليكم وعفا عنكم ((1/511)
" صفحة رقم 512 "
والتوبة والعفو يكونان بعد المعصية وارتكاب ما هو محرم .
قال أبو مسلم : التوبة من العباد الرجوع إلى الله بالعبادة ، ومن الله الرجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان .
والعفو التسهيل والتوسعة والتخفيف .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهماً درهم ) وقال ( أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله ) والمراد التخفيف بتأخير الصلاة إلى آخر الوقت .
ويقال : أتاني هذا المال عفواً أي سهلاً .
فالمعنى عاد عليكم بالرحمة وسع عليكم بإباحة هذه الأشياء المحرمة على الذين من قبلكم .
وأما الروايات فأخبار آحاد لا يوجب شيء منها حمل القرآن على النسخ .
ولنشتغل بتفسير الألفاظ فنقول : ليلة الصيام قال الواحدي : أراد ليالي الصوم ، فوضع الواحد موضع الجمع .
ويمكن أن يقال : أضاف الليلة غلى هذه الحقيقة فتتناول الكل من غير تكلف .
والرفث الجماع .
والرفث أيضاً الفحش من القول وكلام النساء في الجماع .
وقيل لابن عباس .
حين أنشد :
وهن يمشين بنا هميسا
إن تصدق الطير ننك لميسا
أترفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما واجه به النساء .
هميساً أي مشياً ليناً ، ولميس اسم امرأة أي أن يصدق الفأل ننكها .
وقال أبو علي : معناه الفرج .
ويقال : جامع الرجل أو ناك .
فإذا أردت الكناية عن هذه العبارة قلت : رفث الرجل .
وإنما كني عنه ههنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح ولم يعبر عنه بالإفضاء أو الغشيان أو المس ونحوها كما في مواضع آخر ) وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) [ النساء : 21 ] ( فلما تغشاها ) [ الأعراف : 189 ] ( باشروهن ) [ البقرة : 187 ] ( من قبل أن تمسوهن ) [ البقرة : 237 ] ( أو لمستم النساء ) [ النساء : 43 ] وفي قوله : ( دخلتم بهن ) [ النساء : 23 ] ( فأتوا حرثكم ) [ البقرة : 223 ] ( فما استمعتم به منهن ) [ النساء : 24 ] ( ولا تقربوهنّ ) [ البقرة : 222 ] حتى استهجان لما وجد منهم قبل الإباحة ، أو البيان كما سماه اختياناً لأنفسهم .
قال الأخفش إنما عدي الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء في قوله ) وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) [ النساء : 21 ] ( هن لباس لكم ( وجه التشبيه أنهما يعتنقان فينضم جسد أحدهما إلى جسد صاحبه ويشتمل عليه كالثوب .
قال الربيع : هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن .
وقال ابن زيد : كل منهما يستر صاحبه عن الأبصار عند الجماع .
قال الجعدي :
إذا ما الضجيع ثنى عطفها
تثنت فكانت عليه لباساً
أو سميا لباساً لستر كل منهما صاحبه عما لا يحل كما في الخبر ( من تزوّج فقد أحرز(1/512)
" صفحة رقم 513 "
ثلثي دينه ) أو المراد تستره بها عن جميع المفاسد التي تقع في البيت لو لم تكن المرأة حاضرة كما يتستر الإنسان بلباسه عن الحر والبرد وكثير من المضار .
وعن الأصم : أن كل واحد منهما كاللباس الساتر للآخر في ذلك المحظور الذي كانوا يفعلونه ، وزيف بأن هذه القرينة واردة في معرض الإنعام لا في مقام الذم .
ووحد اللباس إما لأنه جنس وإما لأنه مصدر ( لابس ) وضع موضع الصفة .
وموقع قوله ) هنّ لباس لكم ( استئناف لأنه كالبيان لسبب الإحلال ، فإن مثل هذه المخالطة والملابسة توجب قلة الصبر عنهن .
ومعنى ) علم الله ( ظهر معلومه أو هو عالم ، ولم يذكر في الآية أن الخيانة فيماذا إلا أن الذي تقدم هو ذكر الجماع والذي تأخر هو مثله بدليل ) فالآن باشروهن ( فتعين أن يكون المراد به الخيانة في الجماع .
ومن المعلوم أن كل واحد منهم لم يختن فالخطاب لبعضهم ، وكل من عصى الله ورسوله فقد خان نفسه لأنه جلب إليها العقاب ونقص حظها من الثواب .
وقيل : إن الآية لا تدل على وقوع الخيانة منهم ، وإنما المراد علم الله أنكم بحيث لو دام هذا التكليف تختانون أنفسكم فضعفكم وقلة صبركم ، فوسع الأمر عليكم حتى لا تقعوا في الخيانة .
) فتاب عليكم ( من الفاء الفصيحة أي فتبتم فقبل توبتكم .
وعلى قول أبي مسلم لا إضمار .
) فالآن باشروهن ( تأكيد لقوله ) أحل لكم ( وفيه ضرب من البيان لأن حل الرفث في ليلة الصيام لا يوجب حله في جميع أجزائها حتى الصباح .
والجمهور على أن المراد بالمباشرة ههنا الجماع ، سمي بهذا الاسم لتلاصق البشرتين فيه .
ومنه ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا يباشر الرجل الرجل والمرأة المرأة ) وإنما قلنا إنا لمراد بها الجماع لأن السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم ، ولأن الرفث أريد به ذلك إلا أن إباحة الجماع تتضمن إباحة ما دونه فصح ما نقل عن الأصم أن المراد بها الجماع وغيره ورجع النزاع لفظياً .
وأما المباشرة في قوله ) ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ( فلا يعود النزاع فيها إلى اللفظ ، لأن المنع من الجماع لا يدل على المنع مما دونه من الاستمتاعات .
) وابتغوا ما كتب الله لكم ( جعل أو قضى أو كتب في اللوح من الولد أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن للغرض الأصلي من النكاح وهو التناسل .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( تناكحوا تكثروا ) وقيل : هو نهي عن العزل فقد وردت الأخبار في كراهية ذلك .
وعن الشافعي : لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها ، ولا بأس أن يعزل عن الأمة .
وعن علي كرم الله وجهه : أنه كان يكره العزل .
وقيل : اطلبوا المحل الذي حلله الله لكم كقوله تعالى(1/513)
" صفحة رقم 514 "
) فأتوهنّ من حيث أمركم الله ) [ البقرة : 222 ] وقيل : وابتغوا هذه المباشرة التي كتب الله لكم بعد أن كانت محرمة عليكم ، وعن أبي مسلم : وابتغوا المباشرة التي كان الله كتبها لكم ، وإن كنتم تظنون أنها محرّمة عليكم .
وقيل : يعني لا تباشروهن إلا في الأوقات والأحوال التي أذن الله لكم في مباشرتهن دون أوقات الحيض والنفاس والعدّة والردة .
وقيل : أي لا تبتغوا المباشرة إلا من الزوجة والمملوكة وهو الذي كتب في القرآن من قوله ) إلا على أزواجهم أن ما ملكت أيمانهم ) [ المؤمنون : 6 ] وعن معاذ بن جبل وابن عباس في رواية أبي الجوزاء : اطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب إن أصبتموها .
واستبعده بعضهم وليس ببعيد ، فإن توزع الفكر بسبب الشهوة المشوّشة قد يمنع عن الإخلاص في العبودية ولا يتفرغ المكلف حينئذ لطلب ليلة القدر التي هي حاصل صوم رمضان فقال سبحانه ) فالآن باشروهن ( لتفرغوا لطلب الغاية من صيامكم والله أعلم بمراده ، عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت ) وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ( عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي ، وجعلت أنظر إليهما من الليل ولا يستبين لي ، فإذا تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت .
فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته فضحك وقال : إنك لعريض القفا إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل .
وكنى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك عن بلاهة عديّ وقلة فطنته ، وفي الصحيحين أيضاً عن سهل بن سعد : نزلت ولم ينزل ) من الفجر ( فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا سزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله عز وجل بعد ) من الفجر ( فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار .
واعلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع بالاتفاق إلا عند من يجوّز تكليف ما لا يطاق ، وأما تأخيره عن وقت الخطاب فجائز عند الأكثرين .
ولما كان من مستعملات العرب إطلاق الخيط الأبيض على أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود ، والخيط الأسود على ما يمتد معه من غبس الليل قال أبو دواد :
فلما أضاءت لنا سدفة
ولاح من الصبح خيط أنارا
والسدفة الضياء المخلوط بالظلام ، اقتصر على الاستعارة أوّلاً ، ثم لما اشتبه الأمر على بعض من لا دراية له باللغة العربية نزل من الفجر بياناً للخيط الأبيض واستغنى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما يستتبع بيان الآخر .
وخرج الكلام من الاستعارة إلى التشبيه البليغ كما أن قولك ( رأيت أسداً ) مجاز ، فإذا زدت ( من فلانٍ ) رجع تشبهاً .
فالاستعارة وإن كانت أبلغ من التشبيه وأدخل في(1/514)
" صفحة رقم 515 "
الفصاحة من حيث إنها استعارة كما بين في موضعه إلا أن رفع الاشتباه عن المكلفين أهم وأولى .
فالفصاحة في هذا المقام ترك الاستعارة ، وليس هذا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة على الإطلاق ، لأن المحتاجين ههنا إلى البيان ساقطون عن درجة الاعتبار لأن فهم المعنى من اللفظ إنما يعتبر بالنسبة إلى العارف بقوانين العرب واستعمالاتهم لا بالإضافة إلى الأغبياء منهم .
نعم التفهيم يعم البليد والذكي والله المستعان .
ولا يسبقنّ إلى الوهم أن المشبه بالخيط الأبيض هو الصبح الكاذب المستطيل لأنه يناقض ما ورد في الخبر ( لا يغرنكم الفجر المستطيل فكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير ) وإنما المشبه هو الفجر الصادق ، وهو أيضاً يبدو دقيقاً ولكن يرتفع مستطيراً أي منتشراً في الأفق لا مستطيلاً .
ويمكن أن يقال : الفصل المشترك بين ما انفجر من الضياء .
أي انشق وبين ما هو مظلم بعد يشبه خيطين اتصلا عرضاً .
فالذي انتهى إليه الضياء خيط أبيض ، والذي ابتدأ منه الظلام خيط أسود .
وقد سبق تقرير الصبح في تفسير قوله تعالى ) واختلاف الليل والنهار ) [ البقرة : 164 ] فليتذكر .
قيل : ويجوز أن تكون ( من ) في قوله تعالى ) من الفجر ( للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوّله : ولا شك أن ( حتى ) لانتهاء الغاية فدلت الآية على أن حل المباشرة والأكل والشرب ينتهي عند طلوع الصبح .
فاستدل بهذا على جواز صوم من يصبح جنباً .
وبقوله ) ثم أتموا الصيام إلى الليل ( على أن الصوم ينتهي عند غروب الشمس ، لأن ما بعد ( إلى ) لا يدخل فيما قبلها وخاصة إذا لم يكن من جنسه ، بل على حرمة الوصال .
ويؤيده ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد غربت الشمس وأفطر الصائم ( فيجب على المكلف أن يتناول في هذا الوقت شيئاً .
وكيف لا وقد صح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه نهى عن الوصال فقيل : يا رسول الله إنك تواصل .
فقال ( إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ) .
أي من طعام الجنة ، أو إني على ثقة بأني لو احتجت أطعمني من الجنة ، أو إني أعطيت قوة من طعم وشرب .
والتحقيق أن استغراقه في مطالعة جلال الله يشغله عن الالتفات إلى ما سواه ، فإذا تناول شيئاً قليلاً ولو قطرة من الماء فبعد ذلك كان بالخيار في الاستيفاء إلا أن يخاف التقصير في الصوم المستأنف أو في سائر العبادات فيلزم حينئذ أن يتناول بمقدار الحاجة ، وقد يتشبث الحنفي بالآية على جواز النية في نهار صوم رمضان لأن مدة الإمساك هو(1/515)
" صفحة رقم 516 "
النهار فقط فيجب قصد الإمساك فيه فقط ، ومقتضى هذا الدليل صحة الفرض بنيته بعد الزوال إلا أنا نقول : الأقل ملحق بالأغلب ، فأبطلنا الصوم بنيته بعد الزوال وصححناه بنيته قبله .
حجة الشافعي قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ) ويروى ( من لم ينو ) وإنما جوز في النفل أن ينوي قبل الزوال لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدخل على بعض أزواجه فيقول : هل من غداء ؟ فإن قالوا لا قال : إني صائم ، وأيضاً الحنفي : يجب إتمام الصوم النفل لقوله ) ثم أتموا ( والأمر للوجوب .
وقال الشافعي : قد ورد هذا عقيب الفرض فيتخصص به وأعلم أنه سبحانه خصص بالذكر من المفطرات الرفث والأكل والشرب لأن النفس تميل إليها .
وهاهنا مفطرات أخر استنبطت من الآية أو استفيدت من السنة فمنها الاستمناء لأن الإيلاج من غير إنزال مبطل .
فالإنزال بنوع شهوة أولى ، وكذا الإنزال باللمس أو القبلة دون الفكر أو النظر بشهوة لأن هذا يشبه الاحتلام ، وعند مالك الإنزال بالنظر مفطر ، وعند أحمد إن كرر النظر حتى أنزل أفطر .
ومنها الاتقاء لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من ذرعه القيء وهو صائم فلا قضاء عليه ومن استقاء فليقض ) ومنها دخول الشيء جوفه من منفذ مفتوح سواء كان فيه قوة محيلة تحيل الواصل إليه من غذاء أو دواء أولا ، فالحلق جوف وكذا باطن الدماغ والبطن والأمعاء والمثانة لما روي عن ابن عباس أن الفطر مما دخل والوضوء مما خرج ، فالحقنة مبطلة للصوم وكذا السعوط إذا وصل إلى الدماغ .
ولا بأس بالاكتحال ، وليست العين من الأجواف فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) اكتحل في رمضان وهو صائم .
وعن مالك وأحمد إنه إذا وجد في الحلق طعماً أفطر .
والتقطير في الأذن إذا وصل غلى الباطن كالسعوط وكذا في الإحليل وإن لم يصل عليه إلى المثانة .
ولا بأس بالفصد والحجامة لكن يكره خيفة الضعف .
احتجم ( صلى الله عليه وسلم ) وهو صائم محرم في حجة الوداع .
وقال أحمد : يفسد الصوم بالحجامة .
ولو جهن رأسه أو بطنه فوصل إلى جوفه بتشرب المسام لم يضر كالاغتسال والانغماس عند الشافعي ، ولا بد أن يكون الواصل عن قصد منه فلو طارت ذبابة إلى حلقه أو وصل غبار الطريق أو غربلة الدقيق إلى جوفه لم يفطر .
ولو فتح فاه عمداً لما في الحفظ من العسر .
ولو ضبطت المرأة ووطئت أو وجيء بالسكين أو أوجر بغير اختياره فلا إفطار .
وكذا لو كان مغمى عليه فأوجر معالجة ولو أكره حتى أكل بنفسه أفطر لأنه أتى بضد الصوم ، ولا أثر لدفع الضرر كما لو أكل أو شرب لدفع(1/516)
" صفحة رقم 517 "
الجوع أو العطش .
وعند أحمد لا يفطر .
وابتلاع الريق الصرف الطاهر من الفم لا يفطر ، والنخامة إن لم تحصل في حد الظاهر من الفم لم تضر وإن حصلت فيه بانصبابها من الدماغ إلى الثقبة النافذة منه إلى أقصى الفم فوق الحلقوم ، فإن قدر على مجه ولم يمج حتى جرى بنفسه بطل صومه لتقصيره وإلا فلا ، وإذا تمضمض فسبق الماء إلى جوفه أو استنشق فوصل الماء إلى دماغه لم يفطر على الأصح إن لم يبالغ وبه قال أحمد .
وعند أبي حنيفة ومالك يفطر وإن بالغ أفطر وفاقاً .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) للقيط بن صبرة : ( بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ) ولو بقي طعام في خلل أسنانه فابتلعه عمداً أفطر خلافاً لأبي حنيفة فيما إذا كان يسيراً ، وربما قدره بالحمصة .
وإن جرى به الريق من غير قصد منه لم يفطر على الأصح .
ولا بد أيضاً في وصول العين من ذكر الصوم ، فإذا أكل ناسياً ، فإن قل لم يفطر لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه ) وخالف مالك .
وإن كثر أفطر .
ولو جامع ناسياً للصوم فالأصح أنه لا يبطل كما في الأكل .
ولو أكل على ظن أن الصبح لم يطلع بعد ، أو أن الشمس قد غربت وكان غالطاً لم يجزئه صومه على الأشهر لأنه تحقق خلاف ما ظنه واليقين مقدم على الظن .
ثم إن كان الصوم واجباً قضى ، وإن كان تطوعاً فلا قضاء .
والأحوط في آخر النهار أن لا يأكل إلا بعد تيقن غروب الشمس لأن الأصل بقاء النهار ولو اجتهد وغلب على ظنه دخول الليل بورد أو غيره ، فالأصح جواز الأكل ، وقد أفطر الناس في زمان عمر ثم انكشف ا لسحاب وظهرت الشمس .
وأما في أول النهار فيجوز الأكل بالظن والاجتهاد إلى طلوع الفجر لأن الأصل بقاء الليل ، فإن قيل : إن أول الفجر كيف يدرك ويحس ومتى عرف المترصد الطلوع كان الطلوع الحقيقي مقدماً عليه ؟ فيجاب إما بأن المسألة موضوعة على التقدير كدأب الفقهاء في أمثالها وإما بأنا نتعبد بما يطلع عليه .
ولا معنى للصبح إلا بظهور الضوء للناظر وما قبله لا حكم له كالزوال عند زيادة الظل ، وإذا كان الشخص عارفاً بالأوقات ومنازل القمر ، وكان بحيث لا حائل بينه وبين مطلع الفجر وترصد فمتى أدرك فهو أول الصبح المعتبر ، وحينئذ يحرم المفطرات وعن الأعمش أنه يحل الأكل والشرب والوقاع إلى طلوع الشمس قياساً لأول النهار على آخره .
وجعل الخيط الأبيض وقت الطلوع(1/517)
" صفحة رقم 518 "
والخيط الأسود ما اتصل به من آخر الليل .
ومن الناس من قال : لا يجوز الإفطار إلا عند غروب الحمرة ، كما أنه لا يجوز الأكل إلا إلى طلوع الفجر .
وهذه المذاهب قد انقرضت ، والفقهاء أجمعوا على بطلانها .
يحكى عن الأعمش أنه دخل عليه أبو حنيفة يعوده فقال له الأعمش : إنك لثقيل على قلبي وأنت في بيتك فكيف إذا زرتني ؟ فسكت عنه أبو حنيفة ، فلما خرج قيل له : لم سكت عنه ؟ قال : ماذا أقول في رجل ما صام ولا صلى في دهره عنى أنه كان يأكل بعد الفجر الثاني قبل طلوع الشمس فلا صوم له ، وكان لا يغتسل من الإكسال فلا صلاة له .
واعلم أن في الآية ترتيباً عجيباً ونسقاً أنيقاً وذلك أن الرفث لما كان من أشنع الأمور التي يجب الإمساك عنها في رمضان حتى قال بعض الناس إنه كان حراماً في رمضان ليلاً ونهاراً وفيه قد وقعت الخيانة كما مر في الإخبار .
قدم إباحته أولاً ثم بين السبب في إباحته ، ثم وبخ المختانون في شأنه وعقب التوبيخ بالعفو وقبول التوبة ، ثم أعيد ذكر إباحته ليترتب عليه الغرض الأصلي من الرفث وهو طلب النسل ، وليعطف عليه إباحة الأكل والشرب جميع ذلك إلى آخر جزء من أجزاء الليل ، ثم لما بين مدة الإفطار وما أبيح فيها بين مدة الصوم الذي هو المقصود الأصلي تلك المدة هي ما بقي من مدةا لإفطار إلى تمام أربع وعشرين ساعة هي مجموع اليوم بليلته ، أعني من أول الفجر الصادق إلى غروب الشمس ، ثم لما كان زمان الاعتكاف مستثنى من ذلك لأنه فهم من الآية أن الإمساك عن الرفث كان مختصاً بنهار رمضان لا بليلته ولا بسائر أيام السنة ولياليها عقب إباحة الرفث فيما سوى نهار رمضان بخطره في حال الاعتكاف فقيل ) ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد ( قال الشافعي : الاعتكاف حبس المرء نفسه على شيء براً كان أو إثماً .
قال تعالى ) يعكفون على أصنام لهم ) [ الأعراف : 138 ] والاعتكاف الشرعي : المكث في بيت الله تعالى تقربا إليه .
وهو من الشرائع القديمة .
قال تعالى ) وطهر بيتي للطائفين والعاكفين ) [ البقرة : 125 ] وللأئمة خلاف في المراد من المباشرة ههنا .
فعن الشافعي : في أصح قوله ووافقه أبو حنيفة وأحمد : إنها الجماع والمقدمات المفضية إلى الإنزال .
لأن الأصل في لفظ المباشرة ملاقاة البشرتين .
فالمنع من هذه الحقيقة ما دام في المعتكف وحين يخرج لحاجة ولم تتم مدة الاعتكاف منع عن القبلة والعناق وكل ما فيه تلاصق البشرتين .
خالفنا الدليل فيما إذا لم ينزل من هذه الأمور لتبين عدم الشهوة فيها ، وقد علم أن اللمس بغير شهوة جائزة لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدني رأسه من عائشة لترجل رأسه وهو ( صلى الله عليه وسلم ) معتكف ، فيبقى ما فيه الشهوة على أصل المنع .
احتج من قال إنها لا تبطل الاعتكاف بأن هذه الأمور لا تبطل الصوم والحج فلا تفسد الاعتكاف ، لأنه ليس أعلى درجة منهما .
وأجيب بأن النص مقدم على(1/518)
" صفحة رقم 519 "
القياس .
واتفقوا على أن شرط الاعتكاف الجلوس في المسجد لأنه مميز عن سائر البقاع من حيث إنه بنى لإقامة الطاعات .
ثم اختلفوا فعن علي رضي الله عنه أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام لقوله تعالى ) طهر بيتي للطائفين والعاكفين ) [ البقرة : 125 ] أي لجميع العاكفين .
وعن عطاء فيه وفي مسجد المدينة لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ) وعن حذيفة فيهما وفي مسجد بيت المقدس لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ) الزهري : لا يصح إلا في الجامع .
أبو حنيفة : لا يصح إلا في مسجد له إمام راتب ومؤذن راتب .
الشافعي : يجوز في جميع المساجد لإطلاق قوله ) في المساجد ( إلا أن الجامع أولى حتى لا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة .
ولا خلاف أن الاعتكاف مع الصوم أفضل وهل يجوز بغير صوم ؟ الشافعي : نعم لأنه بغير الصوم عاكف وأنه تعالى منع العاكف من المباشرة ولو كان اعتكافه باطلاً لما كان ممنوعاً .
وأيضاً لو كان الاعتكاف موجباً للصوم لم يصح الاعتكاف في رمضان لأن ذمته مشغولة بالصوم الواجب لشهود الشهر فلا يمكنه الاشتغال بالصوم الذي يوجبه الاعتكاف ، لكنهم أجمعوا على صحة الاعتكاف في رمضان .
وأيضاً لو تلازما لخرج المعتكف عن اعتكافه بالليل كما يخرج عن الصوم لكنه لا يخرج .
وأيضاً روي أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أوف بنذرك ) .
ومعلوم أنه لا يجوز الصوم في الليلة .
أبو حنيفة : لا يجوز لأنه يجب الصيام في الاعتكاف بالنذر فيجب بغير نذر أيضاً كعكسه في الصلاة حال الاعتكاف ، وهو أن الصلاة لما لم تجب في النذر بالإجماع لم تجب في غير النذر ، أيضاً وفرق بأن الصوم والاعتكاف متقاربان ، فكل منهما كف وإمساك ، والصلاة أفعال مباشرة لا مناسبة بينها وبين الاعتكاف فلا يجعل أحدهما وصفاً للآخر ، ولهذا قلنا : إنه لو نذر أن يعتكف صائماً أو يصوم معتكفاً لزمه كلاهما ، والجمع بينهما .
ولو نذر أن يعتكف مصلياً أو يصلي معتكفاً لزمه كلاهما دون الجمع بينهما .
ويتفرع على المذهبين أنه يجوز أن ينذر(1/519)
" صفحة رقم 520 "
اعتكاف ساعة عند الشافعي ، وأما عند أبي حنيفة فلا يجوز أقل من يوم بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر ويخرج بعد غروب الشمس .
قال الشافعي : وأحب أن يعتكف يوماً وإنما قال ذلك للخروج عن الخلاف .
) تلك حدود الله ( إشارة إلى جميع ما تقدم من أول آية الصيام إلى ههنا لا إلى عدم المباشرة في الاعتكاف وحده ، لأنه حد واحد أللهم إلا أن يراد أمثال تلك الجملة .
وحد الشيء مقطعه ومنتهاه ، وحد الدار ما يمنع غيرها أن يدخل فيها ، والحد الكلام الجامع لمانع فحدود الله ما منع من مخالفتها بعد أن قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة .
وإنما قال ههنا ) فلا تقربوها ( وفي موضع آخر ) فلا تعتدوها ) [ البقرة : 229 ] لأن العامل بشرائع الله أوامر ونواهي منصرف في حيز الحق ، فإذا تعداه وقع في حيز الباطل .
فالنهي عن التعدي هو المقصود إلا أن الأحوط أن لا يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل كيلا يذهل فيقع في الباطل .
عن النعمان بن بشير : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا ولكل ملك حمى وحمى الله محارمه ) .
وقيل : لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله ) ولا تقربوا مال اليتيم ) [ الإسراء : 34 ] وقيل : الأحكام المذكورة بعضها أمر وأكثرها نهي ، فغلب جانب التحريم أي لا تقربوا تلك الأشياء التي منعتم عنها .
وأما في الأوامر فقال ) فلا تعتدوها ) [ البقرة : 229 ] أي اثبتوا عليها ولا تتخطوها ، ) كذلك ( أي كما بين ما أمركم به وما نهاكم عنه في هذا المقام ) يبين ( سائر أدلته على دينه وشرعه إرادة أن يتصف الناس بالتقوى جعلنا الله تعالى من المتقين بفضله ورحمته .
التأويل : ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) الضمير عائد إلى الحق .
على كل عضو في الظاهر صوم ، وعلى كل صفة في الباطن صوم .
فصوم اللسان عن الكذب والنميمة ، وصوم العين عن محل الريبة ، وصوم السمع عن استماع الملاهي ، وعلى هذا فقس(1/520)
" صفحة رقم 521 "
البواقي .
وصوم النفس عن التمني والشهوات ، وصوم القلب عن حب الدنيا وزخارفها ، وصوم الروح عن نعيم الآخرة ولذاتها ، وصوم السر عن شهود غير الله ) كما كتب على الذين من قبلكم ( أي على بسائطكم وأجزائكم فإنها كانت صائمة عن المشارب كلها ، فلما تعلق الروح بالقلب صارت أجزاء القالب مستدعية للحظوظ الحيوانية والروحانية ) لعلكم تتقون ( مشارب المركبات وتطهرون عن دنس الحظوظ الحيوانيات والروحانيات ، فحين يأفل كوكب استدعاء الحظوظ الفانية تطلع شمس حقوق الملاقاة الروحانية الباقية كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ) ) فمن كان منكم مريضاً ( أي وقع له فترة في السلوك لمرض غلبات صفات النفس وكسل الطبيعة ) أو على سفر ( حصل له وقفة للعجز عن القيام بأعباء أحكام الحقيقة ، فليمهل حتى تدركه العناية ويعالج سقمه بمعاجين الإلطاف وأشربة الإعطاف فيتداركه في أيام سلامة القلب .
) وعلى الذين يطيقونه ( على من كان له قوة في صدق الطلب ) طعام مسكين ( فالطعام كل مشرب غير مشرب ألطاف الحق ، والمسكين من يكون مشربه غير ما عند الله ويقنع به ، فيدفع تلك المشارب إلى أهاليها ويخرج عما سوى الله ، ويواصل الصوم ولا يفطر إلا على طعام مواهب الحق وشراب مشاربه وهو معنى ( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ) ) فمن تطوع خيراً ( فمن زاد في الفداء أي كلما فطم من مشرب وسقى من مشرب آخر .
وروي فدى ذلك المشرب أيضاً أي تركه إلى أن يصير مشربه ترك المشارب كلها وداوم الصوم كقوله تعالى ) وأن تصوموا خير لكم ( فينزل فيه حقائق القرآن وهذا معنى قوله ) شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ( فيكون على مأدبة الله لا بمعنى أنه يأكل من المأدبة فإنه دائم الصوم ، ولكن المأدبة تأكله حتى تفنيه عن وجوده وتبقيه بشهوده فيكون خلقه القرآن وحينئذ يفرق بين الوجود الحقيقي والوجود المجازي كما قال ) وبينات من الهدى والفرقان ( فيقال يا محمد له أصبت فالزم وهو معنى قوله ) فمن شهد منكم الشهر فليصمه ( قال أبو يزيد : ناداني ربي وقال : أنا بدك اللازم فالزم بدك .
رمضان يرمض ذنوب قوم ، ورمضان الحقيقي يحرق وجود قوم .
رمضان اسم من أسماء الله أي من حضر مع الله فليمسك عن غير الله ) يريد الله بكم اليسر ( وهو مقام الوصول ) ولا يريد بكم العسر ( وهو ما في الطريق من الرياضة والمجاهدة كالطبيب يسقي دواء مراً ، فمراده حصول(1/521)
" صفحة رقم 522 "
الصحة لا إذاقة مرارة الدواء .
وأيضاً ( كل ميسر لما خلق له ) لو لم يرد بنا اليسر لم يجعلنا طالبين لليسر ( شعر ) :
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه
من فيض جودك ما علمتني الطلبا
) ولتكملوا ( عدة أنواع الغاية بجذبات ) يريد الله بكم اليسر ( ) ولتكبروا الله ( ولتعظموه ) على ما هداكم ( إلى عالم الوصال بتجلي صفات الجمال ) ولعلكم تشكرون ( نعمة الوصال بتنزيه ذي الجلال عن إدراك عقول أهل الكمال وإحاطة الوهم والخيال .
قوله سبحانه ) أحل لكم ليلة الصيام ( اعلم أن في الإنسان تلوناً في الأحوال .
فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في ضياء نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية وهو حالة السكر ، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردوداً إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذه حالة الصحو ، فخصه الله تعالى بنهار كشف الأستار وطلوع شموس الأسرار ليصوموا فيه عما سواه ، وبليلة إسبال أستار الرحمة ليسكنوا فيها ويستريحوا بها كما منّ الله تعالى بقوله ) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً ) [ القصص : 72 ] الآيتين .
ومعنى الرفث إلى النساء التمتع بالحظوظ الدنيوية التي تتصرف النفس فيها تصرف الرجال في النساء ) هن لباس لكم ( أي الصفات والحظوظ الإنسانية ستر لكم يحميكم عن حرارة شموس الجلال لكيلا تحرقكم سطوات التجلي ) وأنتم لباس لهن ( تسترون معايب الدنيا بالأموال الصالحة واستعمال الأموال على قوانين الشرع والعقل ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) ) فالآن باشروهن ( بقدر الحاجة الضرورية ) وابتغوا ( بقوة هذه المباشرة ) ما كتب الله لكم ( من المقامات العلية ) وكلوا واشربوا ( في ليالي الصحو ) حتى يتبين لكم ( آثار أنوار المحو فالأحوال تنقسم إلى بسط وقبض ، وزيادة ونقص ، وجذب وحجب ، وجمع وفرق ، وأخذ ورد ، وكشف وستر ، وسكر وصحو ، وإثبات ومحو ، وتمكين وتكوين ، كما قيل :
كأن شيئاً لم يزل إذا أتى
كان شيئاً لم يكن إذا مضى
) في المساجد ( أي في مقامات القربة والأنس .
وفيه إشارة إلى أنه يجب أن يكون الاشتغال بالضروريات من حيث الصورة وتكون الأسرار والأرواح مع الحق ، وهذا مقام أهل التمكين ) فلا تقربوها ( بالخروج عنها يا أهل الكشوف والعكوف وبالدخول فيها يا أهل الكسوف والخسوف حسبي الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير .
( البقرة : ( 188 - 189 ) ولا تأكلوا أموالكم . . . .
" ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم(1/522)
" صفحة رقم 523 "
تعلمون يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون "
( القراآت )
البيوت ( بضم الباء : أبو جعفر ونافع غير قالون وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص والمفضل والبرجمي وهشام غير لاحلواني .
الباقون : بكسر الباء .
الوقوف : ( تعلموا ( 5 ) عن الأهلة ( ط لابتداء حكم آخر مع النفي ) من اتقى ( ج و ) الحج ( ط ج لعطف الجملتين المختلفتين ) أبوابها ( ص لعطف المتفقتين ) تفلحون ( 5 .
التفسير : لما كان الصوم منتهياً إلى الإفطار والإفطار يتضمن الأكل ، ناسب أن يردف حكم الصيام بحكم ما يصلح للأكل وما لا يصلح له .
ولما كان الصوم والفطر منوطين برؤية الهلال عقباً بذكر السؤال عن حال الأهلة .
قال الإمام الغزالي في الإحياء : المال يحرم إما لمعنى في عينه أو لخلل في جهة اكتسابه ، والأول إما أن يكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوان ، أما المعادن والنبات فلا يحرم شيء منهما إلا ما يزيل الحياة وهي السموم ، أو ا لصحة وهي الأدوية في غير وقتها ، أو العقل كالخمر والبنج وسائر المسكرات .
وأما حدثنا الحيوان فينقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل .
وما يحل فإنما يحل إذا ذبح ذبحاً شرعياً ، وإذا ذبح فلا يحل جميع أجزائه بل يحرم منه الدم والفرث وكل ذلك مذكور في كتب الفقه .
والثاني وهو ما يحرم لخلل في جهة إثبات اليد عليه نقول فيه أخذ المال إما أن يكون باختيار المتملك أو بغير اختياره كالإرث .
والذي باختياره إما أن لا يكون مأخوذاً من مالك كالمعادن ، وإما أن يكون مأخوذاً من مالك وذلك إما أن يؤخذ قهراً أو بالتراضي .
والمأخوذ قهراً إما أن يكون لسقوط عصمة المالك كالغنائم ، أولاً لاستحقاق الأخذ كزكوات الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم .
والمأخوذ تراضياً إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصداق والأجرة ، وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية ، فهذه أقسام ستة : الأول : ما لا يؤخذ من مالك كنيل المعادن وإحياء الموات والاصطياد والاحتطاب والاستقاء من الأنهار والاحتشاش ، فهذا حلال بشرط أن لا يكون المأخوذ مختصاً بذي حرمة من الآدميين .
الثاني : المأخوذ قهراً ممن لا حرمة له وهو الفيء والغنيمة وسائر أموال الكفار المحاربين وذلك حلال للمسلمين إذا أخرجوا منه الخمس فقسموه بين المستحقين بالعدل ولم يأخذوه من كافر له حرمة وأمان وعهده .(1/523)
" صفحة رقم 524 "
الثالث : المأخوذ قهراً بالاستحقاق عند امتناع من عليه فيؤخذ دون رضاه وذلك حلال إذا تم سبب الاستحقاق وتم وصف المستحق واقتصر على المستحق .
الرابع : ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة وذلك حلال إذا روعي شرط العوضين وشرط العاقدين وشرط لفظي الإيجاب والقبول مع ما يعتد الشرع به من اجتناب الشروط المفسدة .
ما يؤخذ بالرضا من غير عوض كما في الهبة والوصية والصدقة إذا روعي شرط المعقود عليه وشرط العاقدين وشرط العقد ولم يؤد إلى ضرر بوارث أو غيره .
السادس : ما يحصل بغير اختياره كالميراث وهو حلال إذا كان المورث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه حلال ، ثم كان ذلك بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا وتعديل القسمة بين الورثة وإفراز الزكاة والحج والكفارة إن كانت واجبة .
فهذه مجامع مداخل الحلال وما سوى ذلك فحرام لا يجوز أكله .
وكذا إن كان من هذه الجهات وصرفه إلى غير المصارف الشرعية كالخمر والزمر والزنا واللواط والميسر والسرف المحرم ، وكل هذه الوجوه داخلة تحت قوله سبحانه ) ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( أي بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى ولم يشرعه ) بينكم ( أي في المعاملات الجارية بينكم والتصرفات الواقعة بينكم .
وليس المراد منه الأكل خاصة بل غير الأكل من التصرف كالأكل في هذا الباب إلا أنه خص الأكل بالذكر لأنه المقصود الأعظم من المال .
وقد يقال لمن أنفق ماله إنه أكله .
والإدلاء أصله من أدليت دلوي أرسلتها في البئر للاستقاء ، فإذا استخرجتها قلت دلوتها .
ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء .
ومنه يقال للمحتج أدلى بحجته كأنه يرسلها ليصير إلى مراده .
وفلان يدلي إلى الميت بقرابة ورحم إذا كان منتسباً إليه فيطلب الميراث بتلك النسبة طلب المستقي الماء بالدلو .
قوله ) وتدلوا ( داخل في حكم النهي أي ولا تدلوا بها إلى الحكام أي لا ترشوها إليهم ، أو لا تلقوا أمرها والحكومة فيها إليهم لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالإثم بشهادة الزور أو باليمين الكاذبة أو بالصلح مع العلم بأن المقضى له ظالم .
والفرق بين الوجهين أن الحكام على الأول حكام السوء الذين يقبلون الرشا التي هي رشا الحاجة ، فبها يصير المقصود البعيد قريباً ، وإذا أخذها حاكم السوء مضى في الحكم من غير ثبت كمضي الدلو في الإرسال .
وعلى الثاني قد يكون الحاكم عادلاً ولكن قد يشتبه عليه الحق كما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال للخصمين : ( إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه .
فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئاً فإنما(1/524)
" صفحة رقم 525 "
أقضي له قطعة من نار ) فبكيا وقال كل واجد منهما : حقي لصاحبي .
فقال : اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه .
( فتوخيا ) أي اقصدا الحق فميا تصنعانه من القسمة واقترعا وليأخذ كل منكما ما تخرجه القسمة بالقرعة ثم تحاللا : ( وأنتم تعلمون ( أنكم على الباطل وارتكاب المعاصي مع العلم بقبحها أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق .
روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ألا يكون على حالة واحدة ؟ ) يسئلونك عن الأهلة ( وقيل : إن السائلين هم اليهود .
ثم إن الله تعالى لم يجبهم بأنه إنما يرى كذلك لأنه يستفيد النور من الشمس وأنه مظلم في ذاته ويفصل أبداً بين المضيء والمظلم منه دائرة لاستداره المنير والمستني ، ويفصل بين المرئي وغير المرئي من القمر أيضاً دائرة .
والدائرتان تتطابقان في الاجتماع بحيث لا يظهر شيء من المستنير وتكون القطعة المظلمة مما يلي البصر وهذه الحالة هي المحاق .
وكذا في الاستقبال لكن القطعة المضيئة هي التي تلي البصر والقمر في هذه الحالة يسمى بدراً .
وفي سائر الأوضاع يتقاطعان .
أما في التربيعين فعلى زوايا قوائم تقريباً ، وفي غير التربيعين على زوايا حادة ومنفرجة ، وعلى التقديرين تنقسم كرة القمر بهما إلى أربع قطع : اثنتان مضيئتان وهما اللتان تليان الشمس ، والباقيتان مظلمتان .
ويقع في مخروط البصر إحدى الأوليين وإحدى الأخريين ، لكنه يحس بالمضيئة دون المظلمة .
والقطع الأربع في التربيعين متساويات تقريباً ، وفي غيرهما تختلف المتجاورتان وتتساوى المتقابلتان .
والقطعة المرئية من المتجاورتين الواقعتين في مخروط البصر في الربعين الأول والأخير من الشهر أصغرهما ، لأن زاوية تلك القطعة أصغر اللتين يليان الإبصار أعني أنها حادة وتسمى القطعة المرئية الصغيرة أول ما يبدو إلى ليلتين هلالاً ويجمع على أهلة ، لأنه يتعدد اعتباراً .
وفي الربعين الباقيين من الشهر القطعة المضيئة المرئية أعظم المتجاورتين الموصوفتين لأن زاويتها أعظم المذكورتين أعني أنها منفرجة ، وإنما لم يجابوا بذلك لأن المكلف لا يهمه معرفة هذه التصورات في باب العمل ، وإنما الذي يعود عليه من فوائده وحكمه في باب التكليف معرفة المواقيت وهي المعالم التي يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدد نسائهم وأيام حيضهن ومدد حملهن ومعالم للحج يعرف بها وقته .
والميقات من الوقت كالميزان من الوزن ، ولعمري إنه لو منع مانع من أن ضبط هذه الأمور لا يتسهل ولا يتسنى إلا بوقوع الاختلاف في تشكلات(1/525)
" صفحة رقم 526 "
القمر حيث سمى عوده من كل تشكل إلى مثله ولا سيما من الهلالية إلى مثلها شهراً وبذلك قدر السنون ، وضبطت الأوقات والفصول فلن يمكنه جحود فائدته على تقدير وجود ، ولو لم يكن في الإظهار رسمة الحدوث والإمكان والزوال والنقصان في الفلكيات حتى لا يظن بها وجوب الوجود ، أو الاشتراك في القدم مع مفيض الخير والجود ، أو امتناع الخرق والالتئام كما ذهب إلى كل من ذلك طائفة من اللئام لكفى به تنبيهاً وعناية وإرشاداً وهداية إلى افتقار الفلكيات إلى فاعل مختار ومدبر قهار جاعل الظلم والأنوار ، ومصير الأهلة والأقمار ، وفي إفراد الحج بالذكر مع أن الأهلة مواقيت عبادات أخر كالصوم والزكاة إشارة إلى أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى له ، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر إلى شهر آخر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء .
ويمكن أن يقال : توقف الصوم على الهلال قد علم من قوله ) شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) [ البقرة : 184 ] والزكاة تتعلق بالحول .
والأصل في تقدير السنين لعودة الشمس من نقطة كأول الحمل مثلاً إلى مثلها بحركتها الخاصة ، والأيمان والجهاد لا يتعلقان بوقت معين ، والصلاة تتعلق باليوم بليلته ، فلم يبق من الأركان المتعلقة بالشهر سوى الحج فتعين ذكره في هذه الآية والله أعلم .
قوله تعالى عز من قائل ) وليس البر بأن تأتوا البيوت ( عن البراء قال : نزلت هذه الآية فينا .
كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت فجاء رجل من الأنصارفدخل من قبل بابه فكأنه عُير بذلك فنزلت وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله الآية .
والحاصل أن ناساً من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب فإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء .
فقيل لهم : ليس البر بتحرجكم من دخول الباب تشديداً لأمر الإحرام ) ولكن البر بر من اتقى ( ولكن ذا البر من اتقى مخالفة الله .
وقيل : إن الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر مبن صعصعة سموا حمساً لتشددهم في دينهم والحماسة الشدة .
كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيوتهم ألبتة ، ولم يجلسوا تحت سقف البيت ، ولم يستظلوا الوبر ، ولم يأكلوا السمن والأقط .
وعن الحسن والأصم : كان الرجل في الجاهلية إذا هم فتعسر عليه مطلوبه لم يدخل بيته من بابه بل يِأتيه من خلفه ، ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً فنهاهم الله تعالى عن ذلك لأنهم كانوا يفعلونه تطيراً .
وأما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله بناء على الأسباب المروية في نزوله وعليه أكثر المفسرين ، فهو أنهم لما سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلة قيل لهم : اتركوا(1/526)
" صفحة رقم 527 "
السؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم وارجعوا إلى ما البحث عنه أهم ، ولا تعتقدوا أن جميع ما سنح لكم هو على شاكلة الصواب : وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم تحسبونها براً وليست من البر في شيء ، أو أنه تعالى لما ذكر الحكمة في الأهلة وهي جعلها مواقيت الناس والحج وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبروها في الحج ، فلا جرم تكلم الله تعالى فيه استطراداً ، أو اتفق وقوع القصتين في وقت واحد فنزلت الآية فيهما معاً في وقت واحد .
وقيل : إنه تمثيل لتعكيسهم في سؤالهم ، فإن الطريق المستقيم هو الاستدلال بالمعلوم على المظنون ، فأما أ ، يستدل بالمظنون على المعلوم فذاك عكس الواجب ، ولما ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً مختاراً حكيماً ، وثبت أن الحكيم لا يفعل إلا الصواب البريء عن العبث والسفه ، فإذا رأينا اختلاف حال القمر وجب أن نعلم أن فيه حكمة ومصلحة ، وهذا استدلال بالمعلوم على المجهول .
فأما أن يستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله غير حكيم فهو استدلال بالمجهول على المعلوم ، فكأنه تعالى يقول : لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق أو قارتم الشك ، فقد أتيتم الأمر من ورائه وهذا ليس من البر ولا من كمال العقل ، إنما البر أن تأتوا الأمور من وجوهها التي يجب أن تؤتى منها ، وهذا باب مشهور في الكناية قال الأعشى :
وكأس شربت على رغبة
وأخرى تداويت منها بها
لكي يعلم الناس أني أمرؤ
أتيت المعيشة من بابها
وعن أبي مسلم : أن هذا إشارة إلى ما كانوا يفعلونه من النسيء وكان يقع الحج في غير وقته ، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثلاً لمخالفتهم الواجب في الحج وشهوره .
ثم إنه تعالى أمرهم بالتقوى التي تتضمن الإتيان بجميع الواجبات والاجتناب عن الفواحش والمنكرات إرادة أن يظفروا بالمطالب الدينية والدنيوية والله ولي التوفيق .
التأويل : ( بالباطل ( أي بهوى النفس والحرص والإسراف ) وتدلوا بها إلى الحكام ( يعني النفوس الأمارة بالسوء ) من أموال الناس ( من الأموال التي خلقت للاستعانة بها على العبودية .
الأهلة للزاهدين مواقيت أورادهم وللصديقين مواقيت مراقباتهم .
والحج إشارة إلى ما يرد بحكم الوقت عليهم من غير اختيارهم ، فمن كان وقته الصحو كان قيامه بالشريعة ، ومن كان وقته المحو فالغالب عليه أحكام الحقيقة ، فإن تجلى لهم بوصف الجلال طاشوا ، وإن تجلى لهم بوصف الجمال عاشوا ، فليس للمحبين وقت إلا أوقات محبوبهم كما ليس لهم وصف إلا أوصاف محبوبهم والله تعالى أعلم .(1/527)
" صفحة رقم 528 "
( البقرة : ( 190 - 195 ) وقاتلوا في سبيل . . . .
" وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين " ( الوقوف : ( ولا تعتدوا ( ط ) المعتدين ( 5 ) من القتل ( ج للعارض بين الجملتين المتفقتين ) فيه ( ج للابتداء بالشرط مع الفاء ) فاقتلوهم ( ط ) الكافرين ( 5 ) رحيم ( 5 ) الدين لله ( ط لتبدل الحكم ) الظالمين ( 5 ) قصاص ( ط لأن الاعتداء خارج عن أصل الموجب وفرعه ) ما اعتدى عليكم ( ص لعطف الجملتين المتفقتين ) المتقين ( 5 ) التهلكة ( ج لاختلاف المعنى أي لا تقتحموا في الحرب فوق ما يطاق ) وأحسنوا ( ج لاحتمال تقدير الفاء واللام ) المحسنين ( 5 .
التفسير : لما أمر في الآية المتقدمة بالتقوى ، أمر في هذه الآية بأشق أقسامها على النفس وهو المقاتلة في سبيل الله .
عن أبي موسى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عمن يقاتل في سبيل الله فقال : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولا يقاتل رياء ولا سمعة ) ) الذين يقاتلونكم ( الذين يناجزونكم القتال دون المحاجزين أعني الذين هم بصدد القتال بالفعل دون التاركين .
قيل : وعلى هذا يكون منسوخاً بقوله : ( وقاتلوا المشركين كافة ) [ التوبة : 36 ] ومنع بأن الأمر بقتال من يقاتل لا يدل على المنع من قتال من لا يقاتل .
وكذا ما روي عن الربيع بن أنس : هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقاتل من قاتل ويكف عمن كف .
أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء أي المستعدين للقتال سوى من جنح للسلم ، أو الكفرة كلهم لأنهم جميعاً مضادون للمسلمين قاصدون لمقاتلتهم مستحلون لها فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا .
وقيل في سبب نزول الآية إنه ( صلى الله عليه وسلم ) خرج مع أصحابه لإرادة الحج ، فلما نزل بالحديبية وهو موضع كثير الشجر والماء صدهم المشركون عن دخول البيت فأقام شهراً لا يقدر على ذلك ، فصالحوه على أن يرجع ذلك العام ويعود إليهم في(1/528)
" صفحة رقم 529 "
العام القابل ويتركوا له مكة ثلاثة أيام حتى يطوف وينحر الهدى ويفعل ما يشاء ، فرضي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك وصالحهم عليه وعاد إلى المدينة .
وتجهز في السنة القابلة ثم خاف أصحابه من قريش أن لا يفوا بالوعد ويصدوهم عن المسجد الحرام وأن يقاتلوهم .
وكانوا كارهين لقتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم .
فأنزل الله هذه الآيات وبيّن له كيفية المقاتلة إن احتاجوا إليها فقال : ( وقاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا ( بابتداء القتال .
وإنما كان ذلك في أول الأمر لقلة المسلمين ولكون الصلاح في استعمال الرفق واللين ، فلما قوي الإسلام وكثر الجمع وأقام من أقام منهم على الشرك بعد ظهور المعجزات وتكررها عليهم حصل اليأس من إسلامهم ، فأمروا بالقتال على الإطلاق .
أو لا تعتدوا بقتال من نهيتم عن قتاله من غير المستعدين كالنساء والشيوخ والصبيان والذين بينكم وبينهم عهد ، أو بالمثلة ، أو المفاجأة من غير دعوة إلى الإسلام .
وهذه المعاني الثلاثة بإزاء التفاسير الثلاثة في ) الذين يقاتلونكم ( .
) إن الله لا يحب المعتدين ( المتجاوزين عما شرع الله لهم .
في الصحاح : ثقفته أي صادفته .
وفي الكشاف ، الثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة ، ومنه رجل ثقف أي سريع الأخذ لأقرانه قال :
فإما تثقفوني فاقتلوني
فمن أثقف فليس إلى خلود
أمر في الآية الأولى بالجهاد بشرط إقدام الكفار على القتال ، وفي هذه الآية زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا .
واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام ، وسمي حراماً لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما منع من فعله وأصل الحرمة المنع ) من حيث أخرجوكم ( أي من الموضع الذي أخرجوكم وهو مكة ، وقد فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمن لم يسلم منهم يوم الفتح .
أو أخرجوهم من منازلهم كما أخرجوكم من منازلكم ، وقد أجلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المشركين من المدينة بل قال : ( ا يجمع دينان في جزيرة العرب ) والمراد بالإخراج تكليفهم الخروج قهراً أو تخويفهم وتشديد الأمر عليهم حتى اضطروا إلى الخروج ) والفتنة ( عن ابن عباس أنها الكفر بالله لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم والهرج وفيه الفتنة .
وأيضاً الكفر ذنب يستحق العقاب الدائم بالاتفاق والقتل ليس كذلك والكفر يخرج به صاحبه عن الأمة دون القتل .
روي أن صحابياً قتل رجلاً من الكفار في الشهر الحرام فعابه المؤمنون على ذلك فنزلت .
أن لا تستعظموا الإقدام على القتل في(1/529)
" صفحة رقم 530 "
الشهر الحرام ، فإن إقدام الكفار على الكفر في الشهر الحرام أعظم من ذلك .
وقيل الفتنة أصلها عرض الذهب على النار للخلاص من الغش ، ثم صار اسماً لكل محنة .
والمعنى إن إقدام الكفار على تخويف المؤمنين وعلى تشديد الأمر عليهم حتى صاروا ملجئين إلى ترك الأهل والأوطان هرباً من إضلالهم في الدين وإبقاء على مهجهم وحرمهم ، أشد من القتل الذي أوجبته عليكم جزاء عن تلك الفتنة لأنه يقتضي التخلص ، من غموم الدنيا وآفاتها .
لقتل بحد السيف أهون موقعاً
على النفس من قتل بحد فراق
وقيل : الفتنة العذاب الدائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم ، فكأنه قيل : اقتلوهم حيث ثقفتموهم ، واعلموا أن وراء ذلك من عذاب الله ما هو أشد منه قال عز من قائل : ( يوم هم على النار يفتنون ) [ الذاريات : 13 ] وقيل : فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام لأنه سعي في المنع عن الطاعة التي ما خلق الجن والإنس إلا لها ، أشد من قتلكم إياهم في الحرم .
وقيل : ارتداد المؤمن أشد من أن يقتل محقاً .
فالمعنى وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولو أتى ذلك على أنفسكم فإنكم إن قتلتم وأنتم على الحق كان ذلك أولى بكم من أن ترتدوا على أدباركم أو تتكاسلوا عن طاعة معبودكم .
يروى أن الأعمش قال لحمزة : أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولاً فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره ؟ فقال حمزة : إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا قتلنا ، وإذا ضرب منهم واحد قالوا ضربنا ، وذلك أن وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم .
) فإن انتهوا ( قيل : أي عن القتال لأن المقصود من الإذن في القتال منع المقاتلة عن ابن عباس .
وقيل : أي عن الشرك بدليل قوله : ( فإن الله غفور رحيم ( الدال على أنه يغفر لهم ويرحهم والكافر لا ينال غفران الله ورحمته بترك القتال بل بترك الكفر ، عن الحسن .
قلت : إن أريد بالقتال استحلالهم قتل المسلمين تلازم القولان ، والانتهاء عن الكفر ظاهره التلفظ بكلمة الإسلام وأنه مؤثر في حقن الدم وعصمة المال ، وباطنه هو التشبث بأركان الإسلام جميعاً ويؤثر في استحقاق الرحمة والغفران .
وقد يستدل بقوله : ( والفتنة أشد من القتل ( على أن التوبة عن قتل العمد بل من كل ذنب .
مقبولة لأن الشرك أعظم الذنوب ، فإذا قبل الله تعالى توبة الكافر فقبول توبة القاتل أولى .
وأيضاً الكافر القاتل مقبول التوبة بالاتفاق إذا أسلم ، فالقاتل غير الكافر أولى .
ويمكن أن يجاب بأن حق الله تعالى مبني على المساهلة فظهر الفرق .
وأيضاً الإيمان يجب ما قبله ، فلا يلزم من عدم مؤاخذة الكافر بقتله إذا أسلم أن لا يؤاخذ المسلم بقتله ، ولهذا يجب قضاء الصلوات الفائتة على المسلم إذا تاب عن ترك الصلاة ، ولا يجب على الكافر إذا أسلم .(1/530)
" صفحة رقم 531 "
قوله تعالى : ( وقاتلوهم ( وقيل : إنه ناسخ لقوله : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ( وهو وهم لأن البداءة بالمقاتلة عند المسجد الحرام نفت حرمته .
غاية ما في الباب أن هذه الآية عامة وما قبلها مخصصة إياها وهذا جائز ، فإن القرآن ليس على ترتيب النزول ، ولو كان على الترتيب أيضاً فلا يضرنا لجواز نزول الخاص قبل العام عندنا وذلك أن الخاص قاطع في دلالته تقدم أو تأخر ، والعام دلالته على ما يدل عليه الخاص غير مقطوع بها فلا بد من التخصيص جمعاً بينهما ) حتى لا تكون فتنة ( قيل : أي شرك وكفر .
وعلى هذا فالآية محمولة على الأغلب .
فإن قتالهم لا يزيل الكفر رأساً ، وإنما الغالب الإزالة لأن من قتل منهم فقد زال كفره ومن لم يقتل كان خائفاً من الثبات على كفره .
والحاصل قاتلوهم حتى تكون كلمة الله هي العليا وهو المراد أيضاً من قوله : ( ويكون الدين لله ( أي ليس للشيطان فيه نصيب لوضوح شأنه وسطوع برهانه كما قال تعالى : ( ليظهره على الدين كله ) [ الصف : 9 ] ولا يعبأ بالمخالف لقلة شوكته وسقوطه عن درجة الاعتداد به ، أو محمولة على قصد إزالة الكفر فترتب هذا العزم على القتال كلي لا يتخلف عنه .
وقيل : فتنتهم أنهم كانوا يضربون أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويؤذونهم حتى ذهب بعضهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، أي قاتلوهم حتى تظهروا عليهم ولا يفتنوكم عن دينكم .
وعن أبي مسلم : معناه قاتلوهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدأوا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون عنده من أنواع المضار .
ولا يخفى أن قوله : ( ويكون الدين لله ( يرجح القول الأول ليكون المعنى : وقاتلوهم حتى يزول الكفر ويظهر الإسلام ) فإن انتهوا ( عن الأمر الذي وجب قتالهم لأجله وهو إما الكفر أو القتال ) فلا عدوان إلاّ على الظالمين ( أي فلا تعدوا على المنتهين فيكون مجموع قوله ) إلاّ على الظالمين ( قائماً مقام على المنتهين .
لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم ، فنهوا عنه بدليل انحصاره في غير المنتهين .
أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين .
وعلى الوجهين سمي جزاء الظلم ظلماً للمشاكلة كما يجيء في قوله تعالى : ( فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ( أو أريد إنكم إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيتسلط عليكم من يعدو عليكم .
قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة سنة ست من الهجرة وصدّوهم عن البيت .
فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذاك في ذي القعدة سنة سبع ) الشهر الحرام بالشهر الحرام ( أي هذا الشهر بذاك الشهر ، وهتكه بهتكه .
فلما لم تمنعكم حرمته عن الكفر والأفعال القبيحة فكيف تمنعنا عن القتال معكم دفعاً لشروركم وإصلاحاً لفسادكم ؟ والحرمة ما لا يحل انتهاكه ، والقصاص المساواة أي وكل حرمة يجري فيها القصاص من هتك حرمة أيّ حرمة(1/531)
" صفحة رقم 532 "
كانت ، اقتص منه بأن يهتك له حرمة .
والحرمات الشهر الحرام والبيت الحرام والإحرام ، فلما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست فقد وفقتكم حتى قضيتموها على رغمهم في سنة سبع ، وإن أقدموا على مقاتلتكم فقد أذنت لكم في قتالهم فافعلوا بهم مثل ما فعلوا ولا تبالوا .
ثم أكد ذلك بقوله : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله ( حين تنتصرون ممن اعتدى عليكم حتى لا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم ) واعلموا أن الله مع المتقين ( بالنصر والتأييد والتقوية والتسديد ، فإن الاستصحاب بالعلم أو بالمكان إن جاز شامل للمتقين وغيرهم .
قوله عز من قائل ) وأنفقوا ( وجه اتصاله بما قبله أنه تعالى لما أمر بالقتال وأنه يفتقر إلى العدد والعدد قد يكون ذو المال عاجزاً عن القتال ، وقد يكون القوي على القتال عديم المال فلهذا أمر الله الأغنياء بالإنفاق في سبيله إعداداً للرجال وتجهيزاً للأبطال ويروى أنه لما نزل ) الشهر الحرام بالشهر الحرام ( قال رجل من الحاضرين : والله يا رسول الله ما لنا زاد وليس أحد يطعمنا .
فأمر ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن لا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة ولو بمشقص يحمل في سبيل الله فيلكوا فنزلت هذه الآية على وفق قول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
والإنفاق صرف المال في وجوه المصالح .
فلا يقال للمضيع : إنه منفق وإنما يقال : مبذر .
وسبيل الله دينه فيشمل الإنفاق فيه الإنفاق في الحج والعمرة والجهاد والتجهيز والإنفاق في صلة الرحم وفي الصدقات أو على العيال أو في الزكاة والكفارات أو في عمارة بقاع الخير وغير ذلك .
الأقرب في هذه الآية .
وقد تقدم ذكر القتال .
أن يراد به الإنفاق في الجهاد ، ولكنه تعالى عبر عنه بقوله ) في سبيل الله ( ليكون كالتنبيه على السبب في وجوب هذا الإنفاق .
فالمال مال الله فيجب إنفاقه في سبيل الله ، ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز نفسه ونشط وهان عليه ما دعي إليه .
والباء في ) بأيديكم ( مزيدة مثلها في ( أعطى بيده للمنقاد ) والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة أيديكم أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم .
وقيل : الأيدي الأنفس كقوله : ( فبما كسبت أيديكم ) [ الشورى : 30 ] ( بما قدمت يداك ) [ الأنفال : 51 ] أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة .
وقيل : بل ههنا حذف أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة كما يقال ( أهلك فلان نفسه بيده ) إذا تسبب لهلاكها .
عن أبي عبيدة والزجاج : إن التهلكة والهلاك والهلك واحد .
لم يوجد مصدر على تفعلة بضم العين سوى هذا ، إلا ما حكاه سيبويه من قولهم ( التضرة ) ( والتسرة ) ونحوها في الأعيان ( التنضبة ) لشجر و ( التتفلة ) لولد الثعلب .
ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة بالكسر كالتجربة والتبصرة على أنها مصدر من هلك مشدد العين ، فأبدلت من الكسرة ضمة كما جاء الجوار في الجوار .
وليس الغرض(1/532)
" صفحة رقم 533 "
من هذا التكلف على ما ظن تصحيح لفظ القرآن كيلا تنخرم فصاحته فإنه أجل من أن يحتاج في تصحيحه إلى الاستشهاد بكلام الفصحاء من البشر ، وكيف لا وهو حجة على غيره وليس لغيره أن يكون حجة عليه .
وإنما الغرض الضبط والتسهيل ما أمكن فتنبه .
وللمفسرين في هذا الإلقاء خلاف فمنهم من قال إنه راجع إلى الإنفاق .
وروى البخاري في صحيحه عن حذيفة قال : نزلت هذه الآية في النفقة .
وذلك أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم فيستولي العدو عليهم ويهلكهم ، أو ينفقوا كل مالهم فيحتاجوا ويجتاحوا فيكون نهياً عن التقتير والإسراف وعنهما جميعاً ) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ) [ الفرقان : 67 ] أو المعنى : أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إن أنفقنا نهلك ذلاً وفقراً .
نهوا عن أن يحكموا على أنفسهم بالهلاك للإنفاق ، أو أنفقوا ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط منا أ ، أذى أو رياء وسمعة مثل ) ولا تبطلوا أعمالكم ) [ محمد : 33 ] ومنهم من قال : إنه راجع إلى غير الإنفاق أي لا تخلوا بالجهاد فتتعرضوا للهلاك الذي هو سخط الله وعذاب النار ، أو لا تقحموا في الحرب حيث لا ترجون النفع ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل كما روي عن البراء بن عازب أنه قال في هذه الآية : هو الرجل يستقتل بين الصفين .
وإنما يجب أن يتقحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل .
روى الشافعي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر الجنة فقال له رجل من الأنصار : أرأيت يا رسول الله إن قُتلتُ صابراً محتسباً ؟ قال ( لك الجنة ) .
فانغمس في جماعة العدو فقتلوه .
وأن رجلاً من ألأنصار ألقى درعاً كان عليه حين ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الجنة .
ثم انغمس في العدو فقتلوه بين يدي الرسول .
وروي أن رجلاً من الأنصار تخلف من أصحاب بئر معونة فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه .
فقال لبعض من معه : سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ففعل ذلك .
فذكروا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال فيه قولاً حسناً .
وروى أسلم أبو عمران قال : كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفاً عظيماً من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : أيها الناس ، إنكم تؤوّلون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار .
لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سراً دون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه .
فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها .
فأنزل الله تعالى على نبيه يرد علينا ما قلنا ، فكانت التهلكة الإقامة في الأموال(1/533)
" صفحة رقم 534 "
وإصلاحها وترك الغزو ، فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم .
وقيل : إن الآية من تمام ما قبلها أي إن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فإن الحرمات قصاص ، ولا تحملنكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم فتهلكوا بترككم القتال .
وعن النعمان بن بشير : كانا لرجل يذنب فيقول : لا يغفر لي فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وذلك أنه يرى أنه لا ينفعه معه عمل فيترك العبودية ويصر على الذنب فنهى عن القنوط من رحمة الله ) وأحسنوا ( في الإنفاق بأن يكون مقروناً بطلاقة الوجه أو على قضية العدالة بين التقتير والإسراف أو في فرائض الله عن الحسن ) إن الله يحب المحسنين ( إذ الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
وهذا مقام القرب ، والقرب يقتضي الإرادة الذاتية وهذا رمز والله ولي كل خير .
التأويل : ( وقاتلوا ( من يمنعكم عن السير في سبيل الله أو أراد أن يقطع عليكم طريقة من شياطين الإنس والجن حتى نفوسكم التي هي أعدى عدوكم ) ولا تعتدوا ( لا تتجاوزوا عن حد الشرع فتجاهدوا بالطبع ، ولكن كونوا ثابتين على قدم الاستقامة بقدر الاستطاعة من غير إفراط وتفريط ، ) واقتلوا ( كفار النفس بسيف الرياضة حيث ظفرتم بهم ، ومجاهدتها مخالفة هواها .
) وأخرجوهم ( من صفات النفس ) كما أخرجوكم ( من جمعية القلب وحضوره ) والفتنة ( أي المحنة التي ترد على القلب من طوارق صفات النفس الحاجبة عن الله ) أشد من ( قتل النفس بمخالفة هواها ) ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ( لا تلتفتوا إلى النفس وصفاتها إذا كنتم آمنين مطمئنين في مقامات القلب والروح حتى يزاحموكم في الحضور وداعية الهوى ؛ فإن نازعوكم في الجمعية والحضور ) فاقتلوهم ( بسيف الصدق واقطعوا مادة تلك الدواعي عن نفوسكم بكل ما أمكن لئلا يبقى لكم علاقة تصدكم عن الله ) فإن انتهوا ( بأن قنعت بما لا بد لها فلا تغلوا في مجاهدتها .
) الشهر الحرام ( أي ما يفوتكم من الأوقات والأوراد بتواني النفس ونزاعها وغلبات صفاتها فتداركوه الشهر بالشهر واليوم باليوم ) فمن اعتدى ( فكل صفة غلبت واستولت فعالجوها بضدها البخل بالسخاء ، والغضب بالحلم ، والحرص بالزهد ، والشهوة بالعقة ، ) واتقوا الله ( في الإفراط والتفريط ) ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ( بالتفريط في الحقوق والإفراط في الحظوظ أو بموافقة النفوس ومخالفة النصوص ، أو بالركوب إلى الفتور بالحسبان والغرور والله المستعان على ما يصفون .
( البقرة : ( 196 ) وأتموا الحج والعمرة . . . .
" وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم(1/534)
" صفحة رقم 535 "
يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب "
( القراآت )
من رأسه ( وكذلك ( البأس ) و ( الكأس ) كلها بغير همزة أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى وحمزة في الوقف .
الوقوف : ( لله ( ط لأن عارض الإحصار خارج عن موجب الأصل ) من الهدى ( ج لعطف المختلفتين ) محله ( ط لابتداء حكم كفارة الضرورة ) أو نسك ( ج لأن ( إذا ) للشرط مع الفاء وجوابه محذوف أي فإذا أمنتم من خوف العدو وضعف المرض فامضوا .
أمنتم وقف لحق الحذف ولابتداء الشرط في حكم آخر وهو التمتع ) من الهدى ( ج ) رجعتم ( ط ) كاملة ( ط ) الحرام ( ط ) العقاب ( 5 .
التفسير : الحج في اللغة القصد كما مر في قوله ) فمن حج البيت أو اعتمر ) [ البقرة : 158 ] وفي الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة .
وهي على ثلاثة أقسام : أركان وأبعاض وهيئات .
لأن كل عمل يفرض فيه فإما أن يتوقف التحلل عليه وهو الركن ، أو لا يتوقف .
فإما أن يجبر بالدم وهو البعض ، أو لا يجبر وهو الهيئة .
والأركان عند الشافعي خمسة : الإحرام والوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وحلق الرأس أو تقصيره .
وخالف أبو حنيفة في السعي ، ولا مدخل للجبران في الأركان .
وأما الأبعاض أعني الواجبات المجبورة بالدم ، فالإحرام من الميقات والرمي وفاقاً وفي الوقوف بعرفة إلى أن تغرب الشمس وفي المبيت بمزدلفة والمبيت بمنى ، وفي طواف الوداع خلاف .
وأما الهيئات فالاغتسال وطواف القدوم والرمي والاضطباع في الطواف وفي السعي واستلام الركن وتقبيله والسعي في موضع السعي والمشي في موضع المشي والخطب والأذكار والأدعية إلى غير ذلك .
وبالجملة ما سوى الأركان والأبعاض ولا دم في تركها .
وأما في العمرة فما سوى الوقوف من أركان الحج أركان فيها .
ثم إن قوله عز من قائل : ( وأتموا ( أمر بالإتمام .
وهل هذا الأمر مطلق أو مشروط ؟ فالشافعي على أنه مطلق والمعنى : افعلوا الحج والعمرة على نعت التمام والكمال .
وأبو حنيفة على أنه مشروط والمعنى : من شرح فيه فيتمه كما إذا كبر بالصلاة تطوعاً لزمه الإتمام .
وفائدة الخلاف تظهر في العمرة فإنها تصير واجبة على المعنى الأول دون الثاني .
حجة الشافعي أن الإتمام قد يراد به فعل الشيء تاماً كاملاً كقوله ) وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) [ البقرة : 124 ] أي أدّاهن على التمام والكمال .
وقوله ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) [ البقرة : 187 ](1/535)
" صفحة رقم 536 "
أي افعلوا الصيام تاماً إلى الليل وهذا أولى من تقدير أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه ، لأن الأصل عدم إضمار هذا الشرط ، ولأن المفسرين أجمعوا على أن هذه أول آية نزلت في الحج ، فحملها على الإيجاب ليكون تأسيساً أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع ، فإنها تكون حينئذ تبعاً ، ولأنه قرئ ) وأقيموا الحج والعمرة ( والشاذ يصلح للترجيح وإن لم يصلح للقطع كخبر الواحد ، ولأن الوجوب المطلق يستلزم الإتمام ، والإتمام بشرط الشروع لا يستلزم أصل الوجوب .
فتأويلنا أكثر فائدة ، فيكون أولى .
وأيضاً أنه أحوط .
واعتمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل الحج ، ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب .
وقال تعالى ) يوم الحج الأكبر ) [ التوبة : 3 ] وفيه دليل على وجود حج أصغر وما ذاك إلا العمرة بالاتفاق .
لكن الحج واجب على الإطلاق لقوله ) ولله على الناس حج البيت ) [ آل عمران : 97 ] فيدخل فيه الأكبر والأصغر .
حجة أبي حنيفة قصة الأعرابي الذي سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة والزكاة والحج والصوم فقال الأعرابي : لا أزيد على هذا ولا أنقص .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أفلح الأعرابي إن صدق ) .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( بني الإسلام على خمس ) الحديث .
ولم يذكر العمرة .
وأجيب بأن العمرة حج أصغر فتدخل في مطلق الحج قالوا : روي عن جابر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا ؟ فقال ( لا ، وأن تعتمر خير لك ) .
وعن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( الحج جهاد والعمرة تطوع ) وأجيب بأنها أخبار آحاد فلا تعارض القرآن .
وأيضاً لعل العمرة ، ما كانت واجبة حينما ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تلك الأحاديث ، ثم نزل بعدها ) وأتموا الحج ( وذلك في السنة السابعة من الهجرة .
وأيضاً إنها معارضة بأخبار تدل على وجوبها .
روى النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين أنه سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : إن أبي شيخ كبير أدرك الإسلام ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( حج عن أبيك واعتمر أمر بهما والأمر للوجوب ) .
وروي عن ابن عباس أنه قال : إن العمرة لقرينة الحج ، وحمله على أنهما يقترنان في الذكر تكلف .
وعن عمر أن رجلاً قال له : إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعاً فقال : هديت لسنة نبيك وحمله على أن الوجوب مستفاد من الإهلال بهما لا يخلو من تعسف .
قالوا : قرأ علي وابن مسعود والشعبي ) والعمرة لله ( بالرفع .
فكأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحج في(1/536)
" صفحة رقم 537 "
الوجوب .
وأجيب بأن الشاذة لا تعارض المتواترة ، وبأنها ضعيفة من حيث العربية لعطف الاسمية على الفعلية ، والخبرية على الطلبية ، وبأن كون العمرة عبادة لله لا ينافي وجوبها .
واعلم أن لأداء النسكين وجوهاً ثلاثة : الإفراد والتمتع والقِران فالإفراد أن يحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر من أدنى الحل ، أو يعتمر قبل أشهر الحج ثم يحج في تلك السنة .
والقِران أن يحرم بالحج والعمرة معاً في أشهر الحج بأن ينويهما بقلبه معاً ، وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم قبل الطواف أدخل الحج عليها يصير قارناً .
والتمتع هو أ ، يحرم بالعمرة من ميقات بلده في أشهر الحج ويأتي بأعمالها ، ثم يحج في هذه السنة من مكة .
سمي تمتعاً لاستمتاعه بمحظورات الإحرام بينهما بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج ، وأنه أيضاً يربح ميقاتاً لأنه لو أحرم بالحج من ميقات بلده لكان يحتاج بعد فراغه من الحج إلى أن يخرج إلى أدنى الحل فيحرم بالعمرة منه ، وإذا تمتع استغنى عن الخروج لأنه يحرم بالحج من جوف مكة .
ولا خلاف بين أئمة الأمة في جواز هذه الوجوه ، وإنما الخلاف في الأفضلية فقال الشافعي : أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القِران .
وقال في اختلاف الحديث : التمتع أفضل من الإفراد وبه قال مالك .
والإمامية قالوا : لا يجوز لغير حاضري المسجد الحرام العدول عن التمتع إلا لضرورة .
وقال أبو حنيفة ، القِران أفضل ثم الإفراد ثم التمتع .
وهو قول المزني وأبي إسحاق المروزي .
وقال أبو يوسف ومحمد : القِران أفضل ثم التمتع ثم الإفراد .
حجة الشافعي في أفضلية الإفراد قوله ) وأتموا الحج والعمرة لله ( وذلك أن العطف يقتضي المغايرة وأنها تحصل عند الإفراد ، فأما عند القِران فالموجود شيء واحد هو حج وعمرة معاً .
وأيضاً الأعمال عند الإفراد أكثر فيكون الثواب أكثر وذلك هو الفضل .
وما روي عن أنس أنه قال : كنت واقفاً عند جران ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان لعابها يسيل على كتفي فسمعته يقول : لبيك بعمرة وحجة معاً .
معارض بما روى مسلم في صحيحه عن عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أفرد بالحج ، وهكذا روى جابر وابن عمر .
وقد رجح الشافعي رواية عائشة وجابر وابن عمر على رواية أنس بأنهم أعلم وأقرب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأقدم صحبة ، أن أنساً كان صغيراً في ذلك الوقت قليل العلم .
حجة القائلين بأفضلية القِران : أن في القِران مسارعة إلى النسكين ، وفي الإفراد ترك المسارعة إلى أحدهما ، فيكون أفضل لقوله ) وسارعوا ) [ آل عمران : 133 ] وأجيب بأنا لا نقول الحجة المفردة بلا عمرة أفضل من الحجة المقرونة ، لكنا نقول : من أتى بالحج في وقته ثم بالعمرة في وقتها ، فمجموع هذين الأمرين أفضل من الإتيان بالحجة المقرونة ، واختلف في تفسير الإتمام في قوله تعالى ) وأتموا ( .
فعن علي رضي الله عنه وابن عباس(1/537)
" صفحة رقم 538 "
وابن مسعود : أن إتمامهما أن تحرم من دويرة أهلك .
وقال أبو مسلم : المعنى أن من نوى الحج والعمرة لله وجب عليه الإتمام قال : ويدل على صحة هذا التأويل أن الآية نزلت بعد أن منع الكفار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في السنة الماضية عن الحج والعمرة .
فالله تعالى أمر رسوله في هذه الآية بأن لا يرجع حتى يتم الفرض .
ويعلم منه أن تطوع الحج والعمرة كفرضهما في وجوب الإتمام .
وقال الأصم : المراد إتمام الآداب المعتبرة فيهما وهي عسرة على ما ذكر في الإحياء الأول : في المال ، فينبغي أن يبدأ بالتوبة ورد المظالم وقضاء الديون وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع ، ويرد ما عنده من الودائع ويستصحب من المال الطيب الحلال ما يكفيه لذهابه وإيابه من غير تقتير ، بل على وجه يمكنه معه التوسع في الزاد والرفق بالفقراء ، ويتصدق بشيء قبل خروجه ويشتري لنفسه دابة قوية على الحمل أو يكتريها .
الثاني : الإخوان والرفقاء المقيمون يودعهم ويلتمس أدعيتهم فإن الله تعالى جعل في دعائهم خيراً .
والسنة في الوداع أن يقول : أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك .
الثالث : إذا هم بالخروج صلى ركعتين يقرأ في الأولى بعد ( الفاتحة ) ، ) قل يا أيها الكافرون ( وفي الثانية ( الإخلاص ) وبعد الفراغ يتضرع إلى الله تعالى بالإخلاص .
الرابع : إذا حصل على باب الدار قال : بسم الله ، توكلت على الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وكلما كانت الدعوات أكبر كان أولى .
الخامس : إذا ركب قال : بسم الله وبالله والله أكبر ، توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ) سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) [ الزخرف : 13 ] السادس : في النزول .
والسنة أن يكون أكثر سيره بالليل ولا ينزل حتى يحمى النهار ، وإذا نزل صلى ركعتين ودعا الله كثيراً .
السابع : إن قصده عدوّ أو سبع بالليل أو بالنهار فليقرأ آية الكرسي ) وشهد الله ) [ آل عمران : 18 ] و ( الإخلاص ) و ( المعوذتين ) ثم يقول : تحصنت بالله العظيم واستعنت بالحي الذي لا يموت .
الثامن : مهما علا نشزاً من الأرض في الطريق يستحب أن يكبر ثلاثاً .
التاسع : أن لا يكون هذا السفر مشوباً بشيء من الأغراض العاجلة كالتجارة وغيرها .
العاشر : أن يصون لسانه عن الرفث والفسوق والجدال ، ثم بعد الإتيان بهذه المقدمات يأتي بجميع أركان الحج على الوجه الأصح الأقرب إلى موافقة الكتاب والسنة ، ويكون غرضه في كل هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى ليكون مؤتمراً لقوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ( اقتداء بإبراهيم عليه السلام حين ابتلي .
بكلمات فأتمهن .
وقيل : المراد من قوله : ( وأتموا ( أفردوا كل واحد منهما بسفره ويؤيد هذا تأويل من قال الإفراد أفضل .
وأقرب هذه الأقوال ما يرجع حاصله إلى معنى ائتوا بالحج والعمرة تأمين كاملين بمناسكهما(1/538)
" صفحة رقم 539 "
وشرائطهما وآدابهما لوجه الله بدليل قوله ) فإن أحصرتم ( قال أحمد بن يحيى أصل الحصر والإحصار الحبس ومنه الحصير للملك لأنه كالمحبوس في الحجاب .
والحصير معروف سمي به لانضمام بعض أجزائه إلى بعض .
فكأن كلاً منها محبوس مع غيره ، والحصير المحبس أيضاً .
والأكثرون على أن لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو .
يقال : حصره العدو إذا منعه عن مراده وضيق عليه .
وعن أبي عبيدة وابن السكيت والزجاج وغيرهم : أن لفظ الإحصار مختص بالمرض ونحوه من خوف وعجز قال تعالى ) الذين أحصروا في سبيل الله ) [ البقرة : 273 ] وقيل : الإحصار مختص بمنع العدو .
ومنه ما يروى عن ابن عمر وابن عباس : لا حصر غلا حصر العدو .
وفائدة الخلاف في الآية تظهر في مسألة فقهية وهي أنهم اتفقوا على أن حكم الإحصار عند حبس العدو ثابت .
وهل يثبت بسبب المرض وسائر الموانع ؟ قال أبو حنيفة : يثبت .
وقال الشافعي ومالك وأحمد : لا يثبت ، بل يصبر حتى يبرأ .
نعم لو شرط أنه إذا مرض تحلل صح الشرط لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مر بضباعة بنت الزبير فقال ( أما تريدين الحج ) فقالت : إني شاكية .
فقال ( حجي واشترطي أن تحلي حيث حبست ) .
وفي حكم المرض كل غرض صحيح كضلال الطريق ونفاد الزاد ، حجة أبي حنيفة ظاهر كلام أكثر أهل اللغة ، وما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل ) وحجة الشافعي قول ابن عمر وابن عباس وطائفة من أهل اللغة .
وأيضاً الهمزة في ) أحصر ( ليس للتعدية لمساواته حصر في اقتضاء المفعول فتكون للوجود ، أو لصيرورته ذا كذا فيؤوّل المعنى إلى أنكم إن وجدتم أو صرتم محصورين فلا يبقى النزاع ، وأيضاً المانع إنما يتحقق عند وجود المقتضي ، والمريض لا قدرة له على الفعل فلا مانع بالنسبة إليه ، فثبت أن لفظ الإحصار حقيقة في العدو دون المرض .
وأيضاً لفظ المانع على المرض غير معقول لأنه عرض لا يبقى زمانين .
وأيضاً لو كان المريض داخلاً في المحصر لكان في قوله ) فمن كان منكم مريضاً ( نوع تكرار ولزم عطف الشيء على نفسه .
واعتذر عن هذا بأن المريض إنما خص بالذكر لأن له حكماً خاصاً وهو حلق الرأس ، فصار تقدير الآية إن منعتم لمرض تحللتم بدم ، وإن تأذى رأسكم بمرض حلقتم وكفَّرتم ، وأيضاً فإذا أمنتم يناسب الخوف من العدو إذ يقال في المرض شفي وعوفي لا أمن .
ولو قيل : إن خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها قلنا : لا يلزم من عدم القدح وجود المناسبة .(1/539)
" صفحة رقم 540 "
وقيل : إنه منع المرض خاصة وهو باطل بالدلائل المذكورة وزيادة وهي أن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول الآية أن الكفار أحصروا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحديبية .
والأئمة وإن اختلفوا في أن الآية هل تتناول غير سبب النزول أم لا ، إلا أنهم اتفقوا على أن خروج ذلك السبب غير جائز .
ثم في الآية إضماران ، والتقدير : فتحللتم أو أردتم التحلل فعليكم ما استيسر ، أو فاهدوا ما استيسر أي ما تيسر مثل استعظم وتعظم واستكبر وتكبر .
أما الإضمار الأول فلأن نفس الإحصار لا يوجب هدياً وإنما الموجب هو التحلل أو نية التحلل .
وأما الإضمار الثاني فلأن قوله : ( ما استيسر ( إما مرفوع على الابتداء وخبره محذوف ، أو منصوب على المفعولية وناصبه محذوف .
والهدي جمع هدية كما يقال في جدية السرج وهي شيء محشو تحت دفتي السرج جدي .
وقرئ من الهدي جمع هدية كمطية ومطيّ ، وهذه لغة تميم .
ومعنى الهدي ما يهدى إلى بيت الله تقرباً إليه بمنزلة الهدية .
عن علي وابن عباس والحسن وقتادة رضي الله عنهم : أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدونها شاة فعليه ما تيسر له من هذه الأجناس ، والمحصر المحرم إذا أراد التحلل وذبح ، وجب أن ينوي التحلل .
ألبتة قبل الذبح ، وأكثر الفقهاء على أن حكم العمرة في الإحصار حكم الحج ، وعن ابن سيرين : أنه لا إحصار فيها لأنها غير موقتة .
ورد بأن قوله تعالى : ( فإن أحصرتم ( مذكور عقيب الحج والعمرة فكان عائداً إليهما ، وبأنه ( صلى الله عليه وسلم ) تحلل بالإحصار عام الحديبية وكان معتمراً .
وما حد الإحصار ؟ قالت العلماء : لو منعوا ولم يتمكنوا من المسير إلا ببذل مال فلهم أن يتحللوا ولا يبذلوا المال وإن قل إذ لا يجب احتمال الظلم في أداء الحج بل بكره البذل إن كان الطالبون كفاراً ، والأكثرون على إنه لا يحب القتال على الحجيج وإن كان العدو كفاراً وكان في مقابلة كل مسلم أقل من مشركين ولو قاتلوا فلهم لبس الدروع والمغافر ، لكنهم يفدون كما لو لبسوا المخيط لدفع حر أو برد ، لا فرق على الأصح في جواز التحلل بين أن يمنعوا من المضي دون الرجوع أو يمنعوا من جميع الجوانب ، لأنهم يستفيدون بالتحليل الأمن من العدو المواجه .
ولو صد عن طريق وهناك طريق آخر ووجدوا شرائط الاستطاعة فيه لزمهم سلوكه ولم يكن لهم التحلل في الحال ، وإذا سلكوه ففاتهم الحج لحزونته أو لطوله تحلّلوا بعمل عمرة ولا يلزمهم القضاء على الأظهر من قولي الشافعي ، لأنهم بذلوا مجهودهم فصاروا كالمصدودين مطلقاً ، نعم لو استوى الطريقان من كل وجه وجب القضاء لأن الموجود فوات محض .
وفي قوله تعالى : ( ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله ( حذف لأن الرجل لا يتحلل ببلوغ الهدي محله ،(1/540)
" صفحة رقم 541 "
بل لا يحصل التحلل إلا بالنحر .
فالتقدير : حتى يبلغ الهدي محله وينحر .
وإنما جاز تذكير الهدي لأن كل ما يفرق بين واحده وبينه بالتاء وعدمه جاز تذكيره وتأنيثه .
قال تعالى : ( أعجاز نخل منقعر ) [ القمر : 20 وفي موضع آخر : ( أعجاز نحل خاوية ) [ الحاقة : 7 ] والمحل اسم للزمان الذي يحصل فيه الحل ، ومنه محل الدين لوقت وجوب قضائه أو اسم للمكان .
قال الشافعي : يجوز إراقة دم الإحصار في الحرم بل حيث حبس .
وقال أبو حنيفة : لا يجوز ذلك إلا في الحرم يبعث به ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار .
حجة الشافعي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أحصر بالحديبية فنحر هناك .
وأجيب بأن محصره طرف الحديبية الذي هو أسفل مكة وهو من الحرم .
وعن الزهري : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نحر هدية في الحرم وقال الواقدي : الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة .
ورد بقوله تعالى ) هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله ) [ الفتح : 25 ] فإن هذه الآية صريحة في أنهم نحروا الهدي في غير الحرم .
وأيضاً قوله ) فإن أحصرتم ( يتناول كل من كان محصراً سواء كان في الحل أو في الحرم .
وقوله : ( فما استيسر ( يدل على وجوب النحر فيجب أن يكون المحصر قادراً على إراقة الدم حيث أحصر .
وأيضاً التحلل موقوف على النحر فلو توقف النحر على وصوله إلى الحرم لم يحصل التحلل في الحال وهذا يناقض ما هو المقصود من شرع الحكم وهو تخليص النفس من العدو في الحال .
وأيضاً لو كان الموصل إلى الحرم هو المحصر فكيف يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخوف ؟ وإن كان غيره فقد لا يجد ذلك الغير فماذا يفعل ؟ حجة أبي حنيفة أن المحل عبارة عن مكان الحل .
وقوله ( حتى يبلغ الهدي محله ( يدل على أنه غير بالغ في الحال إلى ذلك المكان .
وأيضاً هب أن لفظ المحل يشمل الزمان والمكان إلا أن قوله تعالى : ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) [ الحج : 33 ] وقوله ( هدياً بالغ الكعبة ) [ المائدة : 95 ] يزيل احتمال الزمان والبيت نفسه لا يراق فيه الدماء ، فتعين أن يكون هو الحرم ، وأجيب بأن كل ما وجب على المحرم في ماله من فدية وجزاء وهدي لا يجزئ إلا في الحرم لمساكين أهله إلا إذا عطب الهدي فيذبح في طريقه ويخلى بينه وبين المساكين ، وإلا إذا أحصر فإنه ينحر هديه حيث حبس بالدلائل المذكورة .
قالوا : الهدية لا تكون هدية إلا إذا بعثها إلى دال المهدي إليه ، فالهدي كذلك .
وردّ بأن هذا تمسك بالاسم وهو محمول على الأفضل عند القدرة .
والمحصر إذا كان عادماً للهدي فهل له بدل ينتقل إليه ؟ للشافعي فيه قولان : أحدهما لا بدل له ويكون الهدي في ذمته أبداً وبه قال أبو حنيفة لأنه تعالى أوجب له الهدي وما أثبت له بدلاً ، وعلى هذا فماذا يفعل ؟ فيه قولان : أصحهما أنه يتحلل في الحال كما لو صام بدله كيلا تعظم المشقة ، والآخر وإليه ميل أبي حنيفة أنه(1/541)
" صفحة رقم 542 "
يقيم على إحرامه حتى يجده .
والقول الثاني أن له بدلاً وهذا أصح وبه قال أحمد قياساً على سائر الدماء الواجبة على المحرم ، وعلى هذا فما ذلك البدل ؟ الأصح الطعام لأن قيمة الهدي أقرب إليه من الصيام ، وإذا لم يرد النص إلا بالهدي فالرجوع إلى الأقرب أولى .
ثم الصيام عن كل مدٍّ يوماً .
وفي قول صوم المتمتع عشرة أيام .
وقيل : صوم الأذى ثلاثة أيام .
وبالجملة فالآية دلت على أن المحصرين لا ينبغي لهم أن يحلوا فيحلقوا رؤوسهم إلا بعد تقديم ما استيسر من الهدي كما أنه أمرهم أن لا يناجوا الرسول إلا بعد تقديم الصدقة ومعنى ) حتى يبلغ الهدي محله ( حتى تنحروا هديكم حيث حبستم ، أو حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه أي الحرم .
ولكن الأفضل في الحج منى وفي العمرة المروة .
ولا بد من نية التحلل عند الذبح لأن الذبح قد يكون للتحلل وقد يكون لغيره ، فلا بد من قصد صارف فإن كان مصدوداً عن البيت دون أطراف الحرم فهل له أن يذبح في الحل ؟ أصح الوجهين عند الشافعي أن له ذلك ، وإذا أحصر فتحلل نظر إن كان نسكه تطوعاً فلا قضاء عليه وبه قال مالك وأحمد لأن المصدودين مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا ألفاً وأربعمائة ، والذين اعتمروا معه في ع مرة القضاء كانوا نفراً يسيراً ولم يأمر الباقين بالقضاء ، وقال أبو حنيفة : عليه القضاء .
وإن لم يكن نسكه تطوعاً نظر إن لم يكن مستقراً عليه كحجة الإسلام فيما بعد السنة الأولى من سني الإمكان وكالنذر والقضاء فهو باقٍ في ذمته كما لو شرع في صلاة ولم يتمها تبقى في ذمته ، ومهما أحصر بمرض ونحوه .
وقد صححناه بالآية فحكم الهدي ما مر في الإحصار بالعدوّ وإن صححناه بأن كان قد شرط التحلل به إذا مرض فهل يلزمه الهدي للتحلل ؟ فإن كان قد شرط التحلل بالهدي فنعم ، وإن كان قد شرط التحلل بلا هدي فلا وكذا إن أطلق على الأظهر لمكان الشرط .
قوله عز من قائل : ( فمن كان منكم مريضاً ( قيل : إنه مختص بالمحصر .
وذلك أنه قبل بلوغ الهدي محله ربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر فالله تعالى أذن له في إزالة ذلك المؤذي بشرط بذل الفدية .
والأكثرون على أنه كلام مستأنف في كل محرم لحقه مرض في بدنه فاحتاج إلى علاج أو أذى في رأسه فاضطر إلى الحلق .
والنسك العبادة وقرئ بالتخفيف ، وقيل : جمع نسيكة وهي الذبيحة .
قال ابن الأعرابي : النسك سبائك الفضة ، كل سبيكة منها نسيكة ، ثم قيل : للمتعبد ( ناسك ) لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث .
ثم قيل للذبيحة نسك لأنها من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله ، واتفقوا في النسك على أن أقله شاة كما في الأضاحي ، وأما(1/542)
" صفحة رقم 543 "
الصيام والإطعام فليس في الآية ما يدل على كميتهما وكيفيتهما وبماذا يحصل بيانه ؟ فيه قولان : أحدهما وعليه أكثر الفقهاء .
ومنهم الشافعي وأبو حنيفة أن بيانه في حديث كعب بن عجرة قال : حملت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والقمل يتناثر على وجهي فقال : ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة ؟ فقلت : لا .
قال صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك .
فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة وثانيهما عن ابن عباس والحسن الصيام كصيام المتمتع عشرة أيام والإطعام مثل ذلك في القدر .
قال العلماء المرض قد يحوج إلى اللباس أو إلى الطيب أو إلى الدهن وفي كل منها نوع استمتاع فألحقوا فدية نحو هذه المحظورات بفدية الحلق لاشتراك الجميع في الترفه .
والحاصل أنه يدخل فيه كل محظورات الإحرام سوى الجماع ففيه بدنة ثم بقرة ثم سبع شياه ثم طعام بقيمة البدنة ثم صيام بعدد الأمداد كما يجيء في قوله تعالى ) فلا رفث ) [ البقرة : 197 ] وسوى الصيد ففيه الجزاء على ما يجيء تفصيله في المائدة .
وفي هذه الآية أيضاً إضماران أي فحلق فعليه فدية ) فإذا أمنتم ( إن كان معناه الأمن بعد الخوف قبل التحلل فجواب الشرط وهو فامضوا محذوف .
وإن كان معناه إذا لم تحصروا وكنتم في حال أمن وسعة فقوله ) فمن تمتع ( الشرط مع الجزاء جواب الشرط الأول ولا وقف على ) أمنتم ( ومعنى التمتع التلذذ .
وأصله الطول حبل مانع أي طويل .
وكل من ط الت صحبته مع الشيء فهو متمتع به .
وقد عرفت معنى التمتع بالعمرة إلى الحج وهو أن يقدم مكة فيعتمر في أشهر الحج ثم يقيم حلالاً بمكة حتى ينشئ منها الحج فيحج من عامه ذلك .
والتمتع بهذا الوجه صحيح لا كراهة فيه .
وما يروى أن عمر خطب وقال : متعتان على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج ، ذكر الأئمة أن تلك المتعة هي أن يجمع بين الإحرامين ثم يفسخ الحج إلى العمرة ويتمتع بها إلى الحج .
وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أذن لأصحابه في ذلك ثم نسخ .
وعن أبي ذر أنه قال : ما كانت متعة الحج إلا لنا خاصة .
يعني الركب الذين كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وكان السبب فيه أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ويعدّونها من أفجر الفجور ، فلما اراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إبطال ذلك الإعتقاد عليهم بالغ فيه بأن نقلهم في أشهر الحج من الحج إلى العمرة .
وهذا سبب لا يشاركهم فيه غيرهم ، فلهذا المعنى كان نسخ الحج في أشهر الحج خاصاً بهم .
ومعنى التمتع بالعمرة إلى الحج أنه يتمتع بمحظورات الإحرام بسبب إتيانه بالعمرة إلى أوان الحج ، وقيل : استمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج انتفاعه بالتقرب بها إلى الله قبل الانتفاع بتقربه بالحج ولوجوب الدم على المتمتع شروط منها : أن لا يكون من حاضري المسجد(1/543)
" صفحة رقم 544 "
الحرام لقوله تعالى ) ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ( ويجيء تمام الكلام فيه عما قريب ومنها أن يحرم بالعمرة من الميقات فإن جاوزه مريداً النسك ثم أحرم بها فإن كان الباقي أقل من مسافة القصر فليس عليه دم التمتع ولكن يلزمه دم الإساءة ، وإن كان الباقي مسافة القصر فعليه دمان .
ومنها أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ، فلو أحرم وفرغ من أعمالها قبل أشهر الحج ثم حج لم يلزمه الهدي لأنه أشبه الإفراد ، ولو أحرم بها قبل أشهر الحج وأتى بجميع أفعالها في أشهره فاصح قولي الشافعي أنه لا يلزمه الدم ، وبه قال أحمد لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج لتقدم أحد أركان العمرة .
ولو سبق الإحرام مع بعض الأعمال قبل أشهر الحج فعدم وجود الدم أولى .
وعن مالك أنه مهما حصل التحلل في أشهر الحج وجب الدم .
وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر أعمال العمرة في الأشهر كان متمتعاً .
ومنها أن يقع الحج والعمرة في سنة واحدة ، فلو اعتمر ثم حج في السنة القابلة فلا دم عليه سواء أقام بمكة إلى أن حج أو رجع وعاد لأن الدم إنما يجب إذا زاحم بالعمرة حجة في وقتها وترك الإحرام بحجة من الميقات مع حصوله في وقت الإمكان ولم يوجد .
وعن سعيد بن المسيب قال : كان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعتمرون في أشهر الحج وإذا لم يحجوا في عامهم ذلك لم يهدوا .
ومنها أن يحرم بالحج من جوف مكة بعد الفراغ من العمرة ، فإن عاد إلى ميقاته الذي أنشأ العمرة منه وأحرم بالحج فلا دم عليه لأنه لم يربح ميقاتاً .
وفي اشتراط نية التمتع وجهان : أصحهما لا تشترط كما لا تشترط نية القرآن ، وهذا لأن الدم منوط بربح أحد السفرين .
ولا يختلف ذلك بالنية وعدمها ويخالف اشتراط نية الجمع بين الصلاتين من حيث إن أشهر الحج كما هي وقت الحج فهي وقت العمرة بخلاف وقت الصلاة .
ثم إن دم التمتع دم جبران الإساءة حتى لا يجوز له أن يأكل منه ، أو دم نسك حتى يجوز أن يأكل .
ذهب أبو حنيفة إلى الثاني ومال الشافعي إلى الأول لما روي أن عثمان كان ينهى عن المتعة فقال له علي رضي الله عنه : أعمدت إلى رخصة أثبتها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للغريب للحاجة فأبطلتها ؟ فسمى المتعة رخصة ، وهذا دليل النقص .
وأيضاً التمتع تلذذ وأنه ينافي العبادة لأنها مشقة وتكليف .
وأيضاً إنه تعالى أوجب الهدي على المتمتع بلا توقيت ، ولو كان نسكاً كان موقتاً .
وأيضاً للصوم فيه مدخل ودم النسك لا يبدل بالصوم ، والكلام في مراتب هذا الهدي كما مرّ وينبغي أن يكون الإبل ثنياً وهو الطاعن في السنة السادسة ، وكذا البقر وهو الطاعن في السنة الثالثة ، ويجزئ كل من الإبل والبقر عن سبعة شركاء .
ولو اقتصر على الغنم فليكن ثني المعز وهو الذي دخل في السنة الثالثة ، أو جذع الضأن وهو أيضاً في السنة الثانية ، يستوي في(1/544)
" صفحة رقم 545 "
هذا الباب الذكر والأنثى ويستحب أن يذبح يوم النحر ، ولو ذبح بعدما أحرم بالحج جاز لأن التمتع قد تحقق فترتب عليه الهدي جبراً له .
وكذا قبل الإحرام بالحج وبعد التحلل من العمرة على الأصح ، لأنه حق مالي تعلق بسببين وهما الفراغ من العمرة والشروع في الحج .
فإذا وجد أحدهما بأن إخراجه كالزكاة والكفارة .
وعند أبي حنيفة لا يجوز بناء على أنه نسك كدم الأضحية فيختص بيوم النحر وبه قال مالك وأحمد .
فمن لم يجد الهدي وقيس عليه ما إذا لم يجد ما يشتريه به أو بيع بثمن غال ، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج .
قال الشافعي : أي بعد الإحرام بالحج لأنه تعالى جعل الحج ظرفاً للصوم ، ولا يصلح سائر أفعال الحج ظرفاً له فلا أقل من الإحرام .
وأيضاً ما قبل الإحرام بالحج ليس وقتاً للهدي الذي هو أصل فكذا لبدله ، وقال أبو حنيفة ، أي في وقت الحج وهو أشهره فجاز أن يصوم بعد الإحرام بالعمرة .
وبمثله قال أحمد في رواية ، وفي أخرى قال : يجوز بعد التحلل من العمرة ، ولا يجوز أن يصوم شيئاً منها في يوم النحر ولا في أيام التشريق كما مر في الصوم .
والمستحب أن يصوم الأيام الثلاثة قبل يوم عرفة ، فإن الأحب للحاج يوم عرفة أن يكون مفطراً كيلا يضعف عن الدعاء وأعمال الحج ، ولم يصمه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعرفة بل يروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة .
ويحكى عن أبي حنيفة أن الشخص إن كان بحيث لا يضعف فالأولى أن يصوم حيازة للفضيلتين .
ويعلم مما ذكرنا أنه يستحب أن يحرم بالحج قبل يوم عرفة بثلاثة أيام ليصوم فيها ، وأما الواجد للهدي فالمستحب له أن يحرم يوم التروية بعد الزوال متوجهاً إلى منى لما روي عن جابر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا توجهتم إلى منى فأهلوا بالحج ) وإذا فاته صوم الأيام الثلاثة في الحج لزمه القضاء عند الشافعي لأنه صوم واجب فلا يسقط بفوات وقته كصوم رمضان ، وإذا قضاها لم يلزمه دم خلافاً لأحمد .
وعند أبي حنيفة يسقط الصوم بالفوات ويستقر الهدي في ذمته ) وسبعة إذا رجعتم ( للشافعي في المراد من الرجوع قولان : أصحهما الرجوع إلى الأهل والوطن لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال للمتمتعين ( من كان معه هدي فليهد ومن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم ) والثاني أن المراد منه الفراغ من أعمال الحج وبهذه قال أبو حنيفة وأحمد كأنه بالفراغ رجع عما كان مقبلاً عليه من الأعمال .
وعلى الأصح لو توطن مكة بعد فراغه من الحج صام بها ، وإن لم يتوطنها لم يجز صومه بها ولا في الطريق على الأصح لأنه تقديم العبادة البدنية على وقتها .
ثم إذا لم يصم الثلاثة في الحج حتى فرغ ورجع لزمه صوم العشرة عند الشافعي .
وهل يجب التفريق في القضاء بين الثلاثة(1/545)
" صفحة رقم 546 "
والسبعة ؟ الأصح عند إمام الحرمين وطائفة وبه قال أحمد أنه لا يجب لأن التفريق في الأداء يتعلق بالوقت فلا يبقى حكمه في القضاء كالتفريق في الصلوات المؤداة .
والأصح عند أكثر أصحاب الشافعي وجوب التفريق كما في الأداء .
ويفارق تفريق الصلوات فإن ذلك التفريق يتعلق بالوقت ، وهذا يتعلق بالفعل وهو الحج .
والرجوع وما قدر ما يقع به التفريق أصح الأقوال التفريق بأربعة أيام ، ومدة إمكان مسيره إلى أهله على العادة الغالبة بناء على أصلين سبقا أحدهما : أن المتمتع ليس له صوم أيام التشريق ، والثاني أن المراد بالرجوع الرجوع إلى أهله ) تلك عشرة كاملة ( طعن فيه بعض الملحدين أن هذا من إيضاح الواضحات .
فمن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة وأيضاً قوله ) كاملة ( يوهم أن ههنا عشرة غير كاملة وهو محال ، فذكر العلماء من فوائده أن الواو في قوله ) وسبعة ( ليس نصاً قاطعاً في الجمع بل قد يكون للإباحة بمعنى أو كما في قوله ) مثنى وثلاث ورباع ) [ فاطر : 1 ] وكما في قولك ( جالس الحسن وابن سيرين ) لو جالسهما جميعاً أو واحداً منهما كان متمثلاً ففلكت نفياً لتوهم الإباحة .
وأيضاً ففائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً وعلى هذا مدار علم السياقة وكفى به إفادة .
وأيضاً المعتاد أن البدل أضعف حالاً من المبدل كالتيمم من الوضوء ، فلعل المراد أن هذا البدل كامل في كونه قائماً مقام المبدل وهما في الفضيلة سواء ، وذكر العشرة لصحة التوصل به إلى هذا الوصف إذ لو اقتصر على تلك جاز أن يعود إلى الثلاثة أو إلى السبعة .
وأيضاً قوله ) تلك عشرة كاملة ( يدفع التخصيص الذي يتطرق إلى كثير من العمومات في الشرع ويصرف الكلام إلى التنصيص .
وأيضاً إن مراتب الأعداد ثلاث : الآحاد والعشرات والمئات .
وهذه من وساطها فكأنه قال : إنما أوجبت هذا العدد لكونه موصوفاً بصفة التوسط والكمال .
وأيضاً التوكيد طريقة مسلوكة في كلام العرب يعرف منه كون المذكور مما يعقد به الهمم ، ففيه زيادة توصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها وأيضاً هذا الخطاب مع العرب ولم يكونوا أهل حساب فبين الله تعالى بذلك بياناً قاطعاً كما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال في الشهر هكذا وهكذا وهكذا ثم أشار بيده ثلاث مرات وأمسك إبهامه في الثالثة تنبيهاً بالإشارة الأولى على الثلاثين ، وبالثانية على التسعة والعشرين .
وأيضاً فيه إزالة الاشتباه والتصحيف الذي يمكن أن يتولد من تشابه سبعة وتسعة في الخط .
وأيضاً يحتمل أن يراد كاملة في الإجزاء حتى لا يتوهم أنها بسبب التفريق غير مجزئة كما لا يجزئ في كفارات الظهار والقتل ووقاع رمضان إلا الصوم المتتابع .
وأيضاً يحتمل أن يكون خبراً في معنى الأمر أي فلتكن تلك الصيامات كاملة لتسد الخلل ويكون الحج(1/546)
" صفحة رقم 547 "
المأمور به تاماً كاملاً كما قال ) وأتموا الحج والعمرة لله ( .
واعلم أن الصوم مضاف إلى الله تعالى في قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكاية عن الله تعالى ( ) الصوم لي وأنا أجزي به ( والحج أيضاً مضاف إليه تعالى في الآية ) وأتموا الحج والعمرة لله ( وكما دل النقل على هذا الاختصاص فالعقل أيضاً يدل على ذلك .
أما الصوم فلأنه عبادة لا يطلع علهيا إلا الله سبحانه وهو مع ذلك شاق على النفس جداً ، وأما الحج فلأنه عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجوه الحكمة فيها وهو مع ذلك شاق جداً لأنه يوجب مفارقة الأهل والولد ويقتضي التباعد عن أكثر اللذات والاستمتاعات ، فكل منهما لا يؤتى به إلا لمحض ابتغاء مرضاة الله تعالى .
ثم إن هذا الصوم بعضه واقع في زمان الحج فيكون جمعاً بين مشقتين ، وبعضه واقع بعد الفراغ من الحج وهو انتقال من مشقة إلى مشقة ، والأجر على قدر النصب ، فلا جرم وصفه الله تعالى بالكمال في باب العبادة والتنكير في اللفظ أيضاً يؤيد ذلك زادنا الله اطلاعاً على لطائف قرآنه العظيم ) ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ( اختلف العلماء في أن المشار إليه ماذا ؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه : إنه إشارة إلى التمتع وما ترتب عليه لأنه ليس البعض أولى من البعض فيعود إلى كل ما تقدم فلا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام .
وقال الشافعي : بل عودة إلى الأقرب أولى وهو الحكم بوجوب الهدي على المتمتع .
وأيضاً قوله ) فمن تمتع ( عام يشمل الحرمي والميقاتي والآفاقي .
وأيضاً إنه تعالى شرع القرآن والمتعة إبانة لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحج ، والنسخ يثبت في حق الناس كافة .
ويتفرع على مذهب أبي حنيفة أن من تمتع أو قرن من حاضري المسجد الحرام كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه .
وعلى مذهب الشافعي أن يصح تمتعهم وقرانهم ولا يجب عليهم شيء ، فإن لزوم الهدي على الآفاقي بسبب أنه أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فيلزمه جبر الخلل بدم .
والمكي لا يجب عليه أن يحرم من الميقات فلا خلل في حجة تمتع أو قرن أو أفرد ، فلا يلزمه الهدي ولا بدله .
ثم اختلفوا في حاضري المسجد الحرام فعن مالك أنهم أهل مكة وأهل ذي طوى .
وعن طاوس هم أهل الحرم .
وعن الشافعي هم الذين يكونون على أقل من مسافة القصر من مكة ، فإن(1/547)
" صفحة رقم 548 "
كانوا على مسافة القصر فليسوا من الحاضرين ، وبه قال أحمد .
وعن أبي حنيفة أنهم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة .
والمواقيت : ذو الحليفة على عشر مراحل من مكة وعلى ميل من المدينة ، والجحفة لأهل الشام ومصر والمغرب على خمسين فرسخاً من مكة ، ويلملم من صوب اليمن وقرن لنجد الحجاز ، وذات عرق من صوب المشرق والعراق وخراسان وكل هذه الثلاثة من مكة على مرحلتين .
فهذه هي المذاهب وأوفقها للآية .
مذهب مالك لأن أهل مكة هم الذين يحضرون المسجد الحرام .
إلا أن الشافعي قال : قد يطلق المسجد الحرام على الحرم قال تعالى ) سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام ) [ الإسراء : 1 ] ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسري به من الحرم لا من المسجد .
وقد يقال : حضر فلان فلاناً إذا دنا منه .
ومن كان مسكنه دون مسافة القصر فهو قريب نازل منزلة المقيم في نفس مكة .
وفي مذهب أبي حنيفة بعد ، فإن يؤديّ إلى إخراج القريب من الحاضرين وإدخال البعيد لتفاوت مسافات المواقيت ، ثم إن مسافة القصر مرعية من نفس مكة أو من الحرم الأعرف هو الثاني لما قلنا إن المسجد الحرام يراد به جميع الحرم .
قال الفراء : ذلك لمن لم يكن معناه ذلك الفرض الذي هو الدم أو الصوم لازم على من لم يكن من أهل مكة كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اشتراطي لهم الولاء ) أي عليهم وذكر حضور الأهل والمراد حضور الحرم لأن الغالب على الرجل أنه يسكن حيث أهله ساكنون ) واتقوا الله ( في محافظة حدوده وما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره ) واعلموا أن الله شديد العقاب ( لمن تهاون بحدوده .
قال أبو مسلم : العقاب والمعاقبة سيان ، واشتقاقهما من العاقبة كأنه يراد عاقبة فعله السيء كقول القائل ( لتذوقن فعلك ) .
التأويل : حج الخواص حج رب البيت وشهوده وهذه سيرة إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) كما قال ) إني ذاهب إلى ربي ) [ الصافات : 99 ] ولكنه أحصر في السماء السابعة فلا جرم أهدى بإسماعيل ، ولما أسري بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكان ذهابه بالله ما أحصره شيء فقيل له ) وأتموا الحج والعمرة لله ( وجرى ما جرى ) فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 9 ، 10 ] ثم قال لأمته : اسعوا في إتمام صورة الحج بقدر استطاعتكم ، وفي الحقيقة بأن تخرجوا وجودكم ) فإن أحصرتم ( بأعداء النفس والهوى أو لملال القلب أو لكلال الروح أو باستجلاء الأحوال أو بتمني الآمال ) فما استيسر من الهدي ( أعلاها الروح وأوسطها القلب وأدناها النفس يهدي ما كان الإحصار به .
) ولا تحلقوا ( لا تشتغلوا بغير الله حتى تبلغوا المقصد ، فإن عرض مرض في الإرادة أو يعلوه أذى من المزاحمات من غير فترة من نفسه فلم يجد بداً من الإناخة بفناء الرخص ، فليجتهد أن يتداركه بالفدية فقد(1/548)
" صفحة رقم 549 "
قيل : من أقبل على الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله ، والصيام هو الإمساك عن المشارب والصدقة الخروج عن المعلوم ، والنسم ذبح النفس في مقاساته الشدائد ) فإذا أمنتم ( الإحصار وأقبل الجد الصاعد والزمان المساعد ) فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ( واستراح في الطلب ) فما استيسر من الهدي ( من ترك مشارب الروح والقلب والنفس ) فمن لم يجد لم يستطع ( ترك تلك المشارب لعلو شأنها وعظم مكانها فعليه الإمساك عن مشارب القوى الثلاث المدركة للمعاني والمتصرفة فيها وهي الوهم والحافظة والمتخيلة ، هذا إذا كان في عالم المعنى ، فإذا رجع إلى عالم الصورة أمسك عن القوى السبع مشار بها وهي الحس المشترك والخيال ، لأن الأولى مدركة الصور ، والثانية معينتها على الحفظ وبعدهما الحواس الخمس الظاهرة ) تلك عشرة كاملة ( هي الحواس الظاهرة والباطنة ) ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ( لأن الحاضر في مقام القرب والأنس لا يخاطب ولا يعاتب وإنما يلزم العتب ، والطلب للسالك والسائر ، فإذا وصل فقد استراح .
) واتقوا ( أن تسكنوا في فترة أو وقفة أو تركنوا إلى مشرب من هذه المشارب ) واعلموا أن الله شديد العقاب ( للغافلين عن هذا الخطاب القانعين بذل الحجاب .
( البقرة : ( 197 - 203 ) الحج أشهر معلومات . . . .
" الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون "
( القراآت )
فلا رفث ولا فسوق ( بالرفع فيهما : أبو عمرو ويعقوب وابن كثير ويزيد .
وزاد يزيد ) ولا جدال ( بالرفع .
الباقون : بفتح الثلاثة وكذلك يروي القطعي عن أبي زيد من طريق الحسن الهاشمي ، ) واتقون ( بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل .
وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل بالياء .
) ومن تأخر ( روى هبة الله بن(1/549)
" صفحة رقم 550 "
جعفر عن الأصفهاني عن ورش والشموني وحمزة في الوقف بالتليين .
الوقوف : ( معلومات ( ط ) في الحج ( ط ) يعلمه الله ( ط ) التقوى ( ز للعارض بين الجملتين المتفقتين ) الألباب ( 5 ) من ربكم ( ط لأن ( إذا ) أجيبت بالفاء فكانت شرطاً في ابتداء حكم آخر ) الحرام ( ص لعطف المتفقتين ) هداكم ( ج لأن الواو تصلح حالاً واستئنافاً .
) الضالين ( 5 ) واستغفروا الله ( ج ) رحيم ( 5 ) ذكراً ( ط ) من خلاق ( 5 ) النار ( 5 ) مما كسبوا ( ط ) الحساب ( 5 نصف الجزء .
) معدودات ( ط لأن الشرط في بيان حكم آخر ) عليه ( الأولى ط لابتداء شرط آخر مع العطف ) عليه ( الثانية لا لتعليق اللام .
) اتقي ( ط لاختلاف النظم ) تحشرون ( 5 .
التفسير : من المعلوم أن الحج ليس نفس الأشهر ، فالتقدير أشهر الحج أو وقته أشهر معلومات كقولك ( البلد شهران ) .
أو الحج حج أشهر معلومات أي لا حج إلا فيها خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية من النسيء .
وقيل : يمكن أن يقال : جعل الحج نفس الأشهر كما في قولهم ( ليل قائم ونهار صائم ) واتفق المفسرون على أن شوّالاً وذا القعدة من أشهر الحج .
واختلفوا في ذي الحجة فعن عروة بن الزبير ومالك كله لأن أقل الجمع ثلاثة ، وقد يفعل الإنسان بعد النحر ما يتصل بالحج من رمي الجمار ونحوه .
والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى أيام بعد الشهر ، من هنا ذهب عروة إلى جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر .
وعن أبي حنيفة : عشر ذي الحجة وهو قول ابن عباس وابن عمرو النخعي والشعبي ومجاهد والحسن قالوا : لفظ الجمع يشترك فيما وراء الواحد بدليل قوله تعالى ) فقد صغت قلوبكما ) [ التحريم : 4 ] ونزل بعض الشهر منزلة كله كما يقال ( رأيتك سنة كذا ) وإنما رآه في ساعة منها .
ورمي الجمار يفعله الإنسان وقد حل بالحلق والطواف والنحر من إحرامه فكأنه ليس من أعمال الحج .
والحائض إذا طاف بعده فهو في حكم القضاء .
وإنما قلنا إن يوم النحر من أشهر الحج لأنه وقت لركن من أركان الحج وهو طواف الزيارة .
ومن المفسرين من زعم أن يوم الحج الأكبر يوم النحر .
وعن الشافعي : التسعة الأولى من ذي الحجة من ليلة النحر ، لأن الحج يفوت بطلوع يوم النحر ولا تفوت العبادة مع بقاء وقتها .
قيل : إنه تعالى جعل كل الأهلة مواقيت للحج في قوله ) قل هي مواقيت للناس والحج ) [ البقرة : 189 ] وفي هذه الآية جعل وقت الحج أشهر معلومات .
وأجيب بأن تلك الآية عامة وهذه خاصة والخاص مقدم على العام .
وأقول : الميقات علامة الوقت فلولا الأهلة لم يعلم مدخل كل شهر على التعيين .
فجميع الأهلة في الإعلام سواء بالنسبة إلى وقت مفروض ، فلا منافاة بين كون جميع الأهلة(1/550)
" صفحة رقم 551 "
علامات الحج من حيث إنها تؤذن بما بقي من السنة إلى أوان الحج ، وبين كون الأشهر المعلومات وقتاً للحج ، ومعنى قوله ) معلومات ( أن الحج إنما يكون في السنة مرة واحدة في أشهر معينة من شهورها ليس كالعمرة التي يؤتى بها في السنة مراراً ، وأحالهم في معرفة تلك الأشهر على ما كانوا علموه قبل نزول هذا الشرع .
وعلى هذا فهذا الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه وإنما جاء موافقاً مقرراً له .
أو المراد أنها معلومات ببيان الرسول ، أو المراد أنها مؤقتة بأوقات معينة لا يجوز تقديمها وتأخيرها كما يفعله أصحاب النسيء .
ثم إن الشافعي استدل بالآية على أنه لا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج ، وبه قال أحمد وإسحق .
وأيضاً الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح قياساً على الصلاة .
وأيضاً الخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها أقيمت مقام ركعتين من الظهر حكماً ، فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة أولى .
وأيضاً الإحرام لا يبقى صحيحاً لأداء الحج إذا ذهب وقت الحج قبل الأداء ، فلأن لا ينعقد صحيحاً لأداء الحج قبل الوقت أولى لأن البقاء أسهل من الابتداء .
وعن أبي حنيفة ومالك والثوري : جواز الإحرام في جميع السنة لقوله تعالى ) قل هي مواقيت للناس والحج ) [ البقرة : 189 ] والجواب ما مر .
قالوا : الإحرام التزام الحج فجاز تقدمه قبل الوقت كالنذر .
والجواب الفرق بين النذر والإحرام ، فإن الوقت معتبر للأداء ولا اتصال للنذر بالأداء بدليل أن الأداء لا يتصور إلا بعقد مبتدأ ، وأما الإحرام مع كونه التزاماً فهو أيضاً شروع في الأداء وعقد عليه فلا جرم افتقر إلى الوقت .
قالوا : اشتهر عن أكابر الصحابة أنهم قالوا : من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله .
وقد تبعد داره بعداً شديداً يحتاج إلى أن يحرم قبل شوال .
والجواب أن النص لا يعارضه الأثر على أنه يمكن تخصيص الأثر في حق من لا يكون داره سحيقاً ) فمن فرض فيهن الحج ( فمن ألزم نفسه في هذه الشهور أن يحج .
وبماذا يحصل هذا الإلزام المسمى بالإحرام لأنه يحرم عليه حينئذ أشياء كانت حلالاً له .
قال الشافعي : إنه ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية .
نعم إنها سنة عند النية وبه قال أحمد ومالك لقوله تعالى ) فمن فرض ( وفرض الحج على النية أدل منه على التلبية أو سوق الهدي .
وفرض الحج موجب لانعقاد الحج بدليل قوله ) فلا رفث ( فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج .
وأيضاً قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لكل امرئ ما نوى ) وأيضاً إنه عبادة ليس في آخرها ولا في أثنائها نطق واجب ، فكذلك في ابتدائها كالطهارة والصوم .
وعند أبي حنيفة : التلبية شرط انعقاد الإحرام لإطباق الناس على الاعتناء به عند الإحرام إلا أن سوق الهدي وتقليده والتوجه معه يقوم مقام التلبية .
وعن ابن عمر أنه قال :(1/551)
" صفحة رقم 552 "
إذا قلد أو أشعر فقد أحرم .
وعن ابن عباس : إذا قلد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحج فقد أحرم .
وروى أبو منصور الماوردي في تفسيره عن عائشة أنها قالت : لا يحرم إلا من هل أو لبى .
وأيضاً إن الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا يشرع فيها بنفس النية كالصلاة .
وصورة التلبية ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ) ولا تكره الزيادة على هذا .
روي عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها .
لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك لبيك والرغبى إليك والعمل .
فإن رأى شيئاً يعجبه قال : لبيك إن العيش عيش الآخرة .
ثبت ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وفي بعض الروايات أنه قال في تلبيته : لبيك حقاً تعبداً ورقاً .
قال الشافعي في أصح قوليه : الأفضل أن ينوي ويلبي حين تنبعث به راحلته إن كان راكباً ، وحين يتوجه إلى الطريق إن كان ماشياً لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يهل حتى انبعثت به دابته ، قال إمام الحرمين : ليس المراد من انبعاث الدابة ثورانها ، بل المراد استواؤها في صوب مكة .
فإذا استوت به راحلته متوجهاً إلى الطريق نوى : اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني ولبى .
وإن كان يريد القران نوى الحج والعمرة ، وإن كان يريد العمرة نوى العمرة ولبى .
والقول الثاني وبه قال أحمد ومالك وأبو حنيفة أن الأفضل أن ينوي ويلبي كما تحلل من الصلاة أي من ركعتي الإحرام وهو قاعد .
ثم يأخذ في السير لرواية ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم ، وتكثير التلبية في دوام إلا حرام مستحب قائماً كان أو قاعداً راكباً أو ماشياً حتى في حالة الجنابة والحيض لأنه ذكر لا إعجاز فيه فأشبه التسبيح ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) لعائشة رضي الله عنها حين حاضت ( افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ) .
قوله عز من قائل ) فلا رفث ولا فسوق ولا جدال ( من قرأ بفتح الثلاثة أو برفعها فلا إشكال ، ومن قرأ برفع الأولين وفتح الأخير فقيل : لأن الأولين محمولان على معنى النهي كأنه قيل : فلا يكونن رفث ولا فسوق ، ثم أخبر بانتفاء الجدال أي لا شك ولا خلاف في الحج .
وذلك أن قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام ، وسائر العرب يقفون بعرفة ، وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء ، فرد إلى وقت واحد ، ورد الوقوف إلى عرفة فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج ، وربما يستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كهيئته يوم ولدته أمه ) وإنه لم يذكر الجدال .
وقيل : الاهتمام بنفي الجدال(1/552)
" صفحة رقم 553 "
أشد من الاهتمام بنفي الرفث والفسوق فلذلك قرئ كذلك .
أما الأوّل فلأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة ، والجدال مشتمل على ذلك لأن المجادل يشتهي تمشية قوله ، والفسوق عبارة عن مخالفة أمر الله ، والمجادل لا ينقاد للحق .
وكثيراً ما يقدم على الإيذاء والإيحاش المؤدي إلى العداوة والبغضاء ، فدل على أن الجدال مشتمل على جميع أنواع القبح .
وأما أن القراءة تفيد ذلك فلأن الفتح يقتضي نفي الماهية ، وانتفاؤها يوجب انتفاء جميع أفرادها .
وأما الرفع فلا يوجب انتفاء جميع أفراد الماهية بل يجوّز ، فيكون الفتح أدل على عموم النفي .
أما تفسير الرفث فعن ابن عباس هو الجماع ، وله في العمرة والحج نتائج منها .
فساد النسك يروى ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وغيرهم من الصحابة ، واتفق الفقهاء عليه بعدهم ، وإنما يفسد الحج بالجماع إذا وقع قبل التحللين لقوّة الإحرام .
ولا فرق بين أن يقع قبل الوقوف بعرفة أو بعده خلافاً لأبي حنيفة حيث قال : لا يفسد بالجماع بعد الوقوف ولكن يلزمه الفدية .
وأما الجماع بين التحللين فلا أثر له في الفساد على الصحيح .
وعن مالك وأحمد أنه يفسد ما بقي شيء من إحرامه ، وتفسد العمرة أيضاً بالجماع قبل حصول التحلل .
ووقت التحلل عنها بعد الفراغ من الحلق بناء على أنه نسك وهو الأصح ، فتفسد العمرة بالجماع قبل الحلق ، واعلم أن للعمرة تحللاً واحداً وذلك إذا طاف وسعى وحلق ، وللحج تحللان وذلك أنه إذا أتى باثنين من الرمي والنحر والحلق والطواف أعني الرمي والحلق ، أو الرمي والطواف ، أو الحلق والطواف ، حصل التحلل الأول وهو إباحة جميع المحظورات من التطيب والقلم ولبس المخيط وقتل الصيد وعقد النكاح إلا الجماع فإنه لا يحل إلى الإتيان بالأمر الثالث ، فإذا أتى به حل الجماع أيضاً وهو المراد بالتحلل الثاني قال الأئمة : الحج يطول زمانه وتكثر أعماله بخلاف العمرة فأبيح بعض محظوراته دفعة وبعضها أخرى .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب واللباس وكل شيء إلا النساء ) واللواط وإتيان البهيمة في الإفساد كالوطء في الفرج وبه قال أحمد خلافاً لأبي حنيفة فيهما ولمالك في إتيان البهيمة ، ثم سائر العبادات لا حرمة لها بعد الفساد ويصير الشخص بالفساد خارجاً منها ، لكن الحج والعمرة وإن فسدا يجب امضي فيهما وذلك بإتمام ما كان يفعله لولا عروض الفساد روي عن عمر وعلي وابن عباس وغيرهم من أفسد حجه مضى في فاسده وقضى من قابل .
ومن نتائج الفساد الكفارة يستوي فيها الحج والعمرة .
وخصالها خمس على الترتيب بدنة إن وجدها لأن(1/553)
" صفحة رقم 554 "
الصحابة نصوا على البدنة وإلا فبقرة وإلا فسبع من الغنم وإلا قومت البدنة دراهم والدراهم طعاماً فإن لم يجد الطعام صام عن كل مد يوماً .
ومن النتائج القضاء باتفاق لما روينا عن كبار الصحابة وقضى من قابل ، سواء كان المقضي عنه فرضاً أو تطوعاً فإن القضاء واجب ، وأصح الوجهين في القضاء أنه على الفور لا على التراخي ، لأنه لزم وتضيق بالشروع ويدل عليه ظاهر قول الصحابة و ( قضى من قابل ) .
وكذا الكلام فيمن ترك الصوم أو الصلاة بعدوان على الأشبه ، لأن جواز التأخير نوع ترفيه وتخفيف والمعدي لا يستحق ذلك .
ولو كانت المرأة محرمة نظر إن جامعها وهي نائمة أو مكرهة لم يفسد حجها وإلا فسد ، ولكن لا يجب على أصح القولين إلا بدنة واحدة عنهما جميعاً .
وإذا أفسد حجه بالجماع ثم جامع ثانياً فإن لم يفد عن الأول لزم بدنة أخرى .
وإن فدى لم يلزم إلا شاة .
وعن الحسن : الرفث كل ما يتعلق بالجماع ، فليس للمحرم التقبيل بالشهوة ولا المباشرة فيما دون الفرج .
فلو باشر شيئاً منها عمداً فالفدية .
روي عن علي وابن عباس أنهما أوجبا بالقبلة شاة وإن كان ناسياً لم يلزمه شيء ولا يفسد شيء من مقدمات الجماع الحد ولا يوجب البدنة بحال سواء أنزل أو لم ينزل ، وبه قال أبو حنيفة ، وعند مالك يفسد الحج إذا أنزل وهو أظهر الروايتين ع ن أحمد .
وقيل : الرفث لاللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها .
والرفث باليد اللمس والغمز ، والرفث بالفرج الجماع .
وقيل : الرفث هو قول الخنا والفحش لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم ) وعن أبي عبيدة : الرفث الإفحاش وعنه الرفث اللغو في الكلام .
وأما الفسوق فهو الخروج عن الطاعة وحدود الشريعة فيشمل كل المعاصي قال تعالى ) ففسق عن أمر ربه ) [ الكهف : 50 ] وقيل : هو التنابز بالألقاب والسباب قال تعالى ) ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ( وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) وقيل الإيذاء والإيحاش ) ولا يضارّ كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ) [ البقرة : 282 ] وعن ابن زيد : هو الذبح للأصنام ) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وأنه لفسق ) [ الأنعام : 121 ] وقيل : الرفث هو الجماع ومقدماته مع الحليلة والفسوق ذلك مع(1/554)
" صفحة رقم 555 "
الأجنبية .
وأما الجدال فإنه فعال من المجادلة وأصله من الجدل والفتل كأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه .
واختلف المفسرون فيه .
فعن الحسن : هو الجدال الذي يفضي غلى السباب والتكذيب والتجهيل ، وإنه واجب الاجتناب في كل حال إلا أنه مع الرفقاء وفي الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة ، وقال محمد بن كعب القرظي : إن قريشاً كانوا إذا اجتمعوا بمنى قال بعضهم : حجنا أتم .
وقال آخرون : بل حجنا أتم .
وقال آخرون : بل حجنا أتم .
فنهاهم الله عن ذلك .
وقال مالك في الموطأ : الجدال في الحج أن قريشاً كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بفزح وإنه جبل هناك ، وكان غيرهم يقفون بعرفات ، وكل من الفريقين يقول : نحن أصوب .
وقال القاسم بن محمد : كانوا يجعلون الشهور على العدد فيختلفون في يوم النحر بسبب ذلك .
فبعضهم يقول هذا يوم عيد ، ويقول آخرون بل غداً فكأنه قيل لهم : قد بينا لكم أن الأهلة هي مواقيت الحج فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه .
قال القفال : ويدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فشق ذلك عليهم وقالوا : نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) فتركوا الجدال حينئذ .
وقال عبد الرحمن بن زيد : جدالهم في الحج اختلافهم في أن أيهم المصيب مقام إبراهيم .
وقيل : إنه النسيء نهوا عن ذلك فإن الزمان قد عاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال القاضي أبو بكر الباقلاني : لو حمل النفي في الألفاظ الثلاثة على الخبر وجب أن يحمل الرفث على الجماع ، والفسوق على الزنا ، والجدال على الشك في الحج ، ليصح خبر الله تعالى بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج المعتبر .
وإن حملنا الكلام على النهي صح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش ، وبالفسوق جميع أنواعه ، وبالجدال جميع أصنافه ، فعلى هذا يكون في الآية بعث على الأخلاق الحميدة والآداب الحسنة .
وبالحقيقة لا رفث نهي عن طاعة القوّة الشهوية التي توجب الانهماك في الفجور ، ولا فسوق إشارة إلى قهر القوّة الغضبية الداعية إلى التمرد والاستعلاء ، ولا جدال رمز إلى تسخير القوّة الوهمية التي تحمل الإنسان على الخلاف في ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحكامه ، فمنه تنشأ الآراء المتخالفة والأهواء المتصادمة والعقائد الفاسدة والمذاهب الباطلة .
واعلم أن الجدال ليس منهياً عنه بجميع أقسامه وإنما المذموم منه هو الذي منشأه صرف العصبية ومخض المراء لتنفيذ الآراء الزائفة وتحصيل الأعراض الزائلة والأغراض الفارغة ، وأما الذب عن الدين القويم والدعاء إلى الصراط المستقيم وإلزام الخصم الألد وإفحام المعاند اللجوج بمقدمات(1/555)
" صفحة رقم 556 "
مشهورة وآراء محمودة حتى يستقر الحق في مركزه ويضمحل صولة الباطل ويركد ريحه فمأمور به في قوله عز من قائل ) وجادلهم بالتي هي أحسن ) [ النحل : 125 ] وإنه إحدى شعب البيان وقد يكون أنجع من قاطعة البرهان ) وما تفعلوا من خير يعلمه الله ( لم يتعرض لمقابل الخير وإن كان عالماً به أيضاً لنكتة هي أني إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته ، وإذا علمت منك ضده أخفيته وسترته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك هكذا في الدنيا فكيف تكون في العقبى ؟ وفيه ترغيب للمطيعين وإيذان بأنهم من المحسنين ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) والعبد الصالح إذا علم اطلاع مولاه على سرائره وخفاياه اجتهد في أداء ما أمره به ، واحترز عن ارتكاب ما نهاه عنه ، ومن غاية عنايته حثهم على الخير بعدما نهاهم عن الشر ليستعملوا مكان الرفث التفث ، وبدل الفسوق رعاية الحقوق ، ومقام الجدال والشقاق الوفاق مع الرفاق تتميماً لمكارم الأخلاق وتنبيهاً على شرف النفس وطيب الأعراق بدليل قوله ) وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ( أي اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإن ذلك خير الزاد .
وليس السفر من الدنيا أهون من السفر في الدنيا ، وهذا لا بد له من زاد فكذا ذلك .
بل يزداد فإن زاد الدنيا يخلصك عن عذاب منقطع موهوم ، وزاد الآخرة ينجيك من عذاب أبديّ معلوم .
زاد الدنيا يوصلك إلى متاع الغرور ، وزاد الآخرة يبلغك دار السرور .
وزاد الدنيا سبب حصول حظوظ النفس ، وزاد الآخرة سبب الوصول إلى عتبة الجلال والقدس .
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
وقيل : نزلت في ناس من اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون : نحن متوكلون .
ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموهم وغصبوهم فأمرهم الله سبحانه أن يتزوّدوا ما يتبلغون به فإن خر الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم .
وفيه دليل على أن القادر على استصحاب الزاد في السفر ، إذا لم يستصحب عصى الله في ذلك ، ففيه إبطال حكمة الله تعالى ورفع الوسائط والروابط التي عليها تدور المناجح وبها تنتظم المصالح .
روي أن بعض العارفين زهد فبلغ من زهده أن فارق الناس وخرج من الأمصار وقال : لا أسأل أحداً شيئاً حتى يأتيني رزقي .
فأخذ يسيح فأقام في سفح جبل سبعاً لم يأته شيء(1/556)
" صفحة رقم 557 "
حتى كاد يتلف .
فقال : يا رب إن أحببتني فأتني برزقي الذي قسمت لي وإلا فاقبضني إليك .
فألهمه الله تعالى في قلبه : وعزتي وجلالي لا أرزقك حتى تدخل الأمصار وتقيم بين الناس فدخل المدينة وأقام بين ظهراني الناس فجاء هذا بطعام وهذا بشراب فأكل وشرب فأوجس في نفسه من ذلك ، فسمع أردت أن تبطل حكمته بزهدك في الدنيا ، أما علمت أنه يرزق العباد بأيدي العباد أحب إليه من أن يرزقهم بيد القدرة .
وقيل : في الآية حذف أي تزودوا لعاجل سفركم وللآجل فإن خير الزاد التقوى واتقون وخافوا عقابي .
وفيه تنبيه على كمال عظمته كقوله ( أنا أبو النجم وشعري شعري ) ) يا أولي الألباب ( يعني أن قضية العقل تقوى الله ومن لم يتقه فلا لب له في التحقيق .
ولما منع الناس عن الجدال اختلج في قلب المكلف شبهة أن التجارة لكونها مفضية في الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها يجب أ ، تكون منهية .
وأيضاً أنها كانت محرمة في الجاهلية وقت الحج وأنه أمر غير مستحسن ظاهراً لأن المشتغل بخدمة الله تعالى يجب أن لا يتلوث بالأطماع الدنيوية .
وأيضاً كان من الممكن أن تقاس التجارة على سائر المباحات من الطيب والمباشرة ولاصطياد في كونها محظورة بالإحرام فلدفع هذه الشبهة نزلت ) ليس عليكم جناح أن تبتغوا ( أي في أن تطلبوا ) فضلاً من ربكم ( عطاء منه وتفضلاً أو زيادة في الرزق بسبب التجارة والربح بها كقوله ) وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ) [ المزمل : 20 ] عن أبي مسلم : أنه حمل الآية على ما بعد الحج .
قال : والتقدير واتقون في كل أفعال الحج ، ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح أن تبتغوا كقوله ) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) [ الجمعة : 10 ] وزيف بأن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لا على موضع الشبهة ، ومحل الاشتباه هو التجارة في زمان الحج ، وأما بعد الفراغ فالحل معلوم ، وقياس الحج على الصلاة فاسد ، فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها ، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في خلالها .
وأيضاً الفاء في قوله ) فإذا أفضتم ( ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك يدل على أن المراد وقوع التجارة في زمان الحج ويؤيده قراءة ابن عباس ) فضلاً من ربكم في مواسم الحج ( وقال ابن عباس في سبب نزول الآية كانوا يتأثمون أن يتجروا أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في الكف عن البيع والشراء فلم يقم لهم سوق ، ويسمون من يخرج للتجارة الداج ويقولون : هؤلاء الداج وليسوا بالحاج ومعنى الداج الأعوان والمكارون من الدجيج وهو الدبيب في السير .
قال ابن السكيت : لا يطلق الدجلج إلا إذا كان جماعة ولا يقال ذلك للواحد .
وقيل : كانت(1/557)
" صفحة رقم 558 "
عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يتجرون فيها في أيام الموسم ، وكانت معايشهم منها .
فلما جاء الإسلام تأثموا فرفع عنهم الحرج .
ومن العلوم أنه إنما يباح ما لم يشغل عن العبادة .
وعن ابن عمر أن رجلاً قال له : إنا قوم نكرى في هذا الوجه يعني في طريق الحج ، وإن قوماً يزعمون أن لا حج لنا .
فقال : سأل رجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عما سألت عنه فلم يرد عليه حتى نزل ) ليس عليكم جناح ( فدعا به فقال : أنتم حجاج .
وعن عمر أنه قيل له : هل كنتم تكرهون التجارة في الحج ؟ فقال : وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج ؟ وعن جعفر الصادق رضي الله عنه : أن ابتغاء الفضل ههنا طلب أعمال أخر زائدة على أعمال الحج موجبة لفضل الله تعالى ورحمته كإعانة الضعيف وإغاثة الملهوف وإطعام الجائع وإرواء العطشان .
واعلم أن الفضل ورد في القرآن بمعان ، منها ما يتعلق بالمصالح الدنيوية من المال والجاه والغذاء واللباس وهو المسمى بالرزق ) فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) [ الجمعة : 10 ] ومنها ما يتعلق بالمصالح الأخروية وهو الفضل والثواب والجنة والرحمة ) تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ) [ الفتح : 29 ] ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان ) [ النساء : 83 ] ومنها ما يتعلق بمواهب القربة ) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) [ الحديد : 21 ] ( وكان فضل الله عليك عظيماً ) [ النساء : 113 ] ورفع الجناح قد يستعمل في الواجب والمندوب مثل ما يستعمل في المباح كما مر في قوله ) فلا جناح عليه أن يطوّف بهما ) [ البقرة : 158 ] .
) فإذا أفضتم ( أي دفعتم بكثرة ومنه إفاضة الماء وهو صبه بكثرة .
التقدير : أفضتم أنفسكم .
فترك ذكر المفعول كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا وصبوا .
وعرفات جمع عرفة وكلاهما علم للموقف كأن كل قطعة من تلك الأرض عرفة فسمي مجموع تلك القطعة بعرفات كما قيل في باب الصفة ( ثوب أخلاق ) و ( برمة أعشار ) ثم سئل : هلا منعت الصرف وفيها سببان التعريف والتأنيث ؟ فقيل : إنه لم يبق علماً بعدما جمع ثم جعل علماً لمجموع القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في الصرف .
وقيل : إن هذا التنوين تنوين المقابلة في نحو ( مسلمات ) ومن ذهب إلى أن تنوين المقابلة لا وجود له كجار الله وكثير من المتأخرين .
وأن هذا التنوين تنوين الصرف .
قالوا : إنما لم يسقط لأن التأنيث في نحو ( مسلمات وعرفات ) ضعيف .
فإن التاء التي هي لمحض التأنيث سقطت ، والباقية علامة لجمع المؤنث ، وزيف بأن عرفات مؤنث .
وإن قلنا إنه لا علامة تأنيث فيها لا متمحضة للتأنيث ولا مشتركة لأنه لا يعود الضمير إليها إلا مؤنثاً تقول ( هذه عرفات مباركاً فيها ) ولا يجوز ( مباركاً فيه ) إلا بتأويل بعيد كما في قوله ( ولا أرض أبقل إبقالها ) فتأنيثها لا يقصر(1/558)
" صفحة رقم 559 "
عن تأنيث مصر الذي هو بتأويل البقعة .
وقال بعض المتأخرين : الأولى أن يقال : إن التنوين للصرف وإنما لم يسقط في نحو ( عرفات ) لأنه لو سقط لتبعه الكسر في السقوط وتبع النصب وهو خلاف ما عليه الجمع السالم ، إذ الكسر فيه متبوع لا تابع فهو فيه كالتنوين في غير المنصرف للضرورة لم يحذفا لمانع .
هذا مع أنه جوز المبرد والزجاج ههنا مع العلمية حذف التنوين وإبقاء الكسر كبيت امرئ القيس في رواية .
تنورتها من أذرعات وأهلها
بيثرب أدنى دارها نظر عالي
وبعضهم يفتح التاء في مثله مع حذف التنوين كسائر ما لا ينصرف .
فعلى هذين الوجهين التنوين للظرف بلا خلاف ، والأشهر بقاء التنوين في مثله مع العلمية .
وقيل : التنوين عوض من منع الفتحة .
واعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية ، واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة .
وعرفة وعرفات هي الموضع المخصوص .
فقيل : التروية التفكر .
وسببه أن آدم عليه السلام لما أمر ببناء البيت فبناء تفكر فقال : يا رب إن لكل عامل أجراً فما أجري على هذا العمل ؟ قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك .
قال يا رب زدني قال : أغفر لأولادك إذا طافوا به .
قال : زدني ، فقال : أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك .
قال : حسبي يا رب حسبي .
وقيل : إن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح متفكراً هل هذا من الله أو من الشيطان ، فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال : عرفت يا رب أنه من عندك .
وقيل : إن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروّون في الأدعية التي يذكرونها في الغد بعرفات .
وقيل : التروية الإرواء فإن أهل مكة كانوا يجمعون الماء للحجيج الذي يقصدونهم من الآفاق فيتسعون في الماء بعدما تعبوا في الطريق من قلة الماء ، أو لأنهم يتزوّدون الماء إلى عرفة ، أو لأن المذنبين كالعطاش وردوا بحار الرحمة فشربوا منها حتى رووا .
أما يوم عرفة فقيل : إنه من المعرفة لأن آدم وحوّاء عليهما السلام التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه ، عن ابن عباس أو لأن جبريل عليه السلام علم آدم مناسك الحج فلما وقف بعرفات قال له : أعرفت ؟ قال : نعم .
أو لأن إبراهيم عليه السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة .
عن علي عليه السلام وابن عباس وعطاء والسدي .
أو لأن جبريل عرف بها إبراهيم المناسك وقد مر في قوله ) وأرنا مناسكنا ) [ البقرة : 128 ] أو لأن إبراهيم وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ورجع إلى الشام ولم يتلاقيا سنين ثم التقيا يوماً بعرفات ، وقد سبقت القصة في بناء البيت في قوله ) وإذ يرفع(1/559)
" صفحة رقم 560 "
إبراهيم القواعد ) [ البقرة : 127 ] ولما ذكرنا آنفاً من مقام إبراهيم أو لأن الحاج يتعارفون فيه إذا وقفوا ، أو لأنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة .
وقيل : اشتقاقها من الاعتراف لأن الناس يعترفون هنالك للحق بالربوبية والجلال ، ولأنفسهم بالفقر واختلاف الحال .
يقال : إن آدم عليه السلام وحوّاء لما وقفا بعرفات قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ، فقال الله سبحانه : الآن عرفتما أنفسكما .
وقيل : من العرف وهو الرائحة الطيبة لأن المذنبين يكتسبون بالمغفرة روائح طيبة عند الله مقام ضدها .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ) وقد يسمى يوم عرفة يوم إياس الكفار من الإسلام ويوم إكمال الدين ويوم إتمام النعمة ويوم الرضوان أخذاً من قوله تعالى في المائدة ) اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) [ المائدة : 3 ] عن عمر وابن عباس : نزلت هذه الآية عشية يوم عرفة وكان يوم الجمعة والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه السلام في حجة الوداع وقد اضمحل الكفر وهدم منار الجاهلية .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو يعلم الناس مالهم في هذه الآية لقرت أعينهم ) .
قال يهودي لعمر : لو أن هذه الآية أنزلت علينا لتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال عمر : أما نحن فجعلناه عيدين .
وكان ذلك يوم عرفة ويوم جمعة يوم صلة الواصلين ) اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) [ المائدة : 3 ] يوم قطيعة القاطعين ) إن الله بريء من المشركين ورسوله ) [ التوبة : 3 ] يوم إقالة عثرة النادمين وقبول توبة التائبين ) ربنا ظلمنا أنفسنا ) [ الأعراف : 23 ] يوم وفد الوافدين في الخبر ( الحاج وفد الله والحاج وزّار الله وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره ) يوم الحج الأكبر ) وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ) [ التوبة : 3 ] يوم خص صومه بكثرة الثواب قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( صوم يوم التروية كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين ) وقال ( من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه ، ومن صام يوم عرفة أعطاه الله مثل ثواب ع يسى بن مريم ) أقسم الله تعالى به في قوله عز من قائل ) والشفع والوتر ) [ الفجر : 3 ] عن ابن عباس : الشفع يوم التروية وعرفة ، والوتر يوم النحر يوم خص بكثرة الرحمة وسعة المغفرة .
وعن عائشة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو يتجلى ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء اشهدوا(1/560)
" صفحة رقم 561 "
ملائكتي أني قد غفرت لهم ) ولا ضير أن نشير ههنا إلى أعمال الحج إشارة خفيفة .
اعلم أنه مندخل مكة محرماً في ذي الحجة أو قبله فإن كان مفرداً أو قارناً طاف طواف القدوم وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات ، وإن كان متمتعاً طاف وسعى وحلق وتحلل من عمرته وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفات ، وحينئذ يحرم من جوف مكة بالحج ويخرج ، وكذلك من أراد الحج من أهل مكة .
والسنة للإمام أن يخطب بمكة ا ليوم السابع من ذي الحجة بعدما صلى الظهر خطبة واحدة يأمر الناس فيها بالذهاب غداً بعد أن يصلوا الصبح إلى منى ، ويعلمهم تلك الأعمال .
ثم إن القوم يذهبون يوم التروية إلى منى بحيث يوافون الظهر بمنى ويصلون بها مع الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح من يوم عرفة ، ثم إذا طلعت الشمس على ثبير توجهوا إلى عرفات ، فإذا دنوا منها فالسنة أن لا يدخلوها بل تضرب قبة الإمام بنمرة .
روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مكث حتى طلعت الشمس ثم ركب وأمر بقبة من شعر أن تضرب له بنمرة فنزل بها .
فإذا زالت الشمس حطب الإمام خطبتين يبين لهم مناسك الحج ويحرضهم على إكثار الدعاء والتهليل بالموقف ، وبعد الفراغ من الخطبة الأولى جلس ثم قام وافتتح الخطبة الثانية والمؤذنون يأخذون في الأذان معه .
ويخفف بحيث يكون فراغه منها مع فراغ المؤذنين من الأذان ، ثم ينزل فيقيم المؤذنون فيصلي بهم الظهر ، ثم يقيمون في الحال فيصلي .
بهم العصر ، وهذا الجمع متفق عليه .
ثم بعد الفراغ من الصلاة يتوجهون إلى عرفات فيقفون عند الصخرات لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقف هناك ، وإذا وقفوا استقبلوا القبلة ويذكرون الله تعالى ويدعونه إلى غروب الشمس .
والوقوف ركن لا يدرك الحج إلا به ، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الحج عرفة ) فمن فاته عرفة فقد فاته الحج .
وقد يستدل بالآية أيضاً على ذلك لأنها دلت على ذكر الله عند المشعر الحرام عقيب الإفاضة من عرفات .
والإفاضة من عرفات لا تتصور إلا بعد الحصول بعرفات .
وجمهور الفقهاء على أن الوقوف بالمشعر الحرام ليس بركن لأنه تعالى أمر بالذكر عنده ، فالوقوف به تبع لا أصل بخلاف الوقوف بعرفة لأنه جعله أصلاً حيث لم يقل فإذا أفضتم عن الذكر بعرفات .
ووقت الوقوف يدخل بزوال الشمس يوم عرفة ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر وذلك نصف يوم وليلة كاملة ، وإذا حضر الحاج هناك في هذا الوقت لحظة واحدة من ليل أو نهار كفى .
وقال أحمد : وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر .
وإذا غربت الشمس دفع الإمام من عرفات وأخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة .
قيل : سمي بها لأنهم يقربون فيها من منى والازدلاف القرب .
وقيل : لأن الناس يجتمعون بها ، والازدلاف الاجتماع .
وقيل :(1/561)
" صفحة رقم 562 "
لأنهم يزدلفون إلى الله أي يتقربون بالوقوف فيها .
ويقال : للمزدلفة جمعم لأنه يجمع فيها بين صلاتي المغرب والعشاء عن قتادة : وقيل : لأن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أي دنا منها .
ثم إذا أتى الإمام المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء بإقامتين .
ثم يبيتون بها فإن لم يبت بها فعليه دم شاة .
فإذا طلع الفجر صلوا الصبح بغلس .
والتغليس بالفجر ههنا أشد استحباباً منه في غيرها وهو متفق عليه .
فإذا صلوا الصبح أخذوا منها الحصى للرمي ، يأخذ كل إنسان سبعين حصاة ثم يذهبون إلى المشعر الحرام ، وهو جبل يقول له قزح فيرقى فوقه إن أمكنه أو وقف بالقرب منه إن أمكنه ، ويحمد الله ويهلله ويكبره ، ولا يزال كذلك حتى يسفر جداً ، ثم يدفع قبل طلع الشمس .
ويكفي المرور كما في عرفة ثم يذهبون منه إلى وادي محسر ، فإذا بلغوا بطن محسر فمن كان راكباً يحرك دابته ، ومن كان ماشيا يسعى سعياً شديداً قدر رمية حجر .
فإذا أتى منى رمى جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات ويقطع التلبية إذا رمى ، ثم بعدما رمى جمرة العقبة ذبح الهدي إن كان معه هدي وذلك سنة لو تركه لا شيء عليه لأنه ربما لا يكون معه هدي .
ثم بعدما ذبح الهدي يحلق رأسه أو يقصر ، ثم بعد الحلق أتى مكة ويطوف بالبيت طواف الإفاضة وهو الركن ويصلي ركعتي الطواف ويسعى بين الصفا والمروة ، ثم بعد ذلك يعود إلى منى في بقية يوم النحر ، وعليهم البيتوتة بمنى ليالي التشريق لأجل الرمي .
واعلم أن من مكة إلى منى فرسخين ، ومن منى إلى عرفات فرسخين ، ومزدلفة متوسطة بين منى وعرفات منها إلى كل واحد منهما فرسخ ، ولا يقفون بها في سيرهم من منى إلى عرفات .
والحاصل أن أعمال الحج يوم النحر إلى أن يعود إلى منى أربعة : رمي جمرة العقبة والذبح والحلق والتقصير والطواف طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة أيضاً لأنهم يأتون من منى زائرين للبيت ويعودون في الحال .
والترتيب في الأعمال الأربعة على النسق المذكور مسنون وليس بواجب .
أما أنه مسنون فلأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فعلها ، وأما أنه ليس بواجب فلما روي عن عبد الله بن عمرو قال : وقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمنى للناس يسألونه فجاء رجل فقال : يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي .
قال ( ارم ولا حرج ) .
وأتاه آخر فقال : إني ذبحت قبل أن أرمي قال ( ارم ولا حرج ) .
وأتاه آخر فقال : إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي فقال : ارم ولا حرج ، فما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال ( افعل ولا حرج ) .
وعن مالك وأحمد وأبي حنيفة أن الترتيب بينها واجب ولو تركه فعليه دم على تفصيل ليس ههنا موضع بيانه .
ثم إن أهل الجاهلية كانوا قد غيروا مناسك الحج من سنة إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) .
وذلك أن الحمس كانوا لا يقفون بعرفات ويقولون : لا نخرج من الحرم ولا(1/562)
" صفحة رقم 563 "
نتركه في وقت الطاعة ، وكان غيرهم يقفون بعرفة والذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل أن تغرب الشمس ، والذين يقفون بمزدلفة إذا طلعت الشمس ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير أي نسرع للنحر .
وقيل : أي ندفع من مزدلفة فندخل في غور الأرض .
وثبير جبل هناك فأمر الله تعالى نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) بمخالفة القوم في الدفعتين فأمره بأن يفيض من عرفات بعد غروب الشمس .
وبأن يفيض من المزدلفة قبل طلوع الشمس ، فإن السنة أيضاً من قبيل الوحي .
قال الواحدي : المشعر الحرام هو المزدلفة سماه الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده .
وقال في الكشاف : المشعر الحرام قزح وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة ، أي : يوقد هناك النار في الجاهلية ، قال : وقيل المشعر الحرام ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر ، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام .
قال : والصحيح أنه الجبل لما روى جابر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما صلى الفجر - يعني بالمزدلفة - بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ولم يزل واقفاً حتى أسفر .
وقال : عند المشعر الحرام معناه ما يلي المشعر الحرام قريباً منه وذلك للفضل كالقرب من جبل الرحمة وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر ، أو جعلت أعقاب المزدلفة لكونها في حكم المشعر ومتصلة به عند المشعر .
والمشعر المعلم لأنه معلم لعبادته ووصف بالحرام لحرمته .
وأما الذكر المأمور به هناك فقيل : هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء .
والصلاة تسمى ذكراً قال تعالى ) وأقم الصلاة لذكري ) [ طه : 14 ] والدليل عليه أن ) فاذكروا ( أمر فهو للوجوب ولا ذكر يجب هناك إلا هذا ، والجمهور على أن المراد ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل .
عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال : لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون ) كما هداكم ( ( ما ) مصدرية أو كافة .
أطلق الأمر بالذكر أوّلاً ثم قيده ثانياً .
والمعنى : اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة كي تكونوا شاكرين والهداية إما كل أنواع الهدايات أو الهداية إلى سنة إبراهيم في مناسك الحج ، أو اذكروا كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه بحسب الرأي والقياس ، فإن أسماء الله تعالى توقيفية أو الذكر الأول محمول على الذكر باللسان ، والثاني على الذكر بالقلب .
أو المعنى اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته ، أو المراد بتثنية الأمر تكريره وتكثيره كقوله ) يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً ) [ الأحزاب : 41 ] وعلى هذا فيكون قوله ) كما هداكم ( متعلقاً بالأمرين جميعاً ، أو الذكر الأول مقيد بأنه عند المشعر الحرام والثاني مطلق يدل على وجوب ذكره في كل مكان وعلى كل حال .
فالأول إقامة للوظيفة الشرعية والثاني ارتقاء إلى معارج(1/563)
" صفحة رقم 564 "
الحقيقة وهو أن ينقطع القلب عن المشعر الحرام بل عن كل ما سواه من حلال وحرام .
أو المراد بالأول الجمع بين الصلاتين هناك وبالثاني التسبيح والتحميد ) وإن كنتم من قبله ( من قبل الهدى ، أو من قبل الرسول ، أو من قبل إنزال الكتاب الذي بين فيه معالم دينكم ) لمن الضالين ( الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه .
( وإن ) هي المحففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ) ثم أفيضوا ( في هذه الإفاضة قولان : أحدهما أنه الإفاضة من عرفات وعلى هذا فالأكثرون قالوا : إنه أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس لأنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويتعللون بأن الحرم أشرف من غيره ، فالوقوف به أولى .
وبأنهم أهل الله وقطان حرمه فلا يليق بحالهم أن يساووا الناس بالوقوف في الموقف ترفعاً وكراً .
روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما جعل أبا بكر أميراً في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات .
فلما ذهب مر على الحمس وتركهم فقالوا له : إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك ؟ فلا تذهب .
فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها وأمر سائر الناس بالوقوف بها .
والحاصل ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس الواقفون بعرفات لا من المزدلفة .
ومعنى ( ثم ) التفاوت بين الإفاضتين وأن الإفاضة المأمور بها صواب والأخرى خطأ كما تقول ( أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم ) تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى كريم والإحسان إلى غيره ، وبهذا التحقيق لا يلزم عطف الشيء على نفسه .
وصيرورة المعنى : فإذا أفضتم من عرفات فأفيضوا من عرفات ، ولا أن يقدر تقديم هذه الآية على ما قبلها في الوضع .
ومن القائلين بأن المراد الإفاضة من عرفات من قال إنه أمر الناس جميعاً .
وقوله ( من حيث أفاض الناس ( المراد به إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام فإن من سنتهما ذلك .
وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس ويخالف الحمس .
وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً مقتدى به .
) إن إبراهيم كان أمة ) [ النحل : 120 ] ( الذين قال لهم الناس ) [ آل عمران : 173 ] يعني نعيم بن مسعود ) إن الناس ( يعني أبا سفيان .
ووجه ثالث وهو أن يكون قوله ) من حيث أفاض الناس ( عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفات وأن ما عداه مبتدع كما يقال ( هذا مما فعله الناس قديماً ) .
القول الثاني عن الضحاك أن المراد الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر ، وقوله ( من حيث أفاض الناس ( يعني إبراهيم وإسماعيل ومتبعيهما فإن طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس فأمرهم الله تعالى بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة(1/564)
" صفحة رقم 565 "
إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام .
وأورد على هذا القول أن استعمال ( حيث ) للزمان قليل ، ويمكن أن يجاب بأن القرآن أولى ما يحتج به .
وعن الزهري : أن الناس في هذه الآية آدم عليه السلام واحتج بقراءة سعيد بن جبير ) من حيث أفاض الناس ( بكسر السين اكتفاء من الياء بالكسرة من قوله ) ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ) [ طه : 115 ] والمعنى ، أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تتركوه .
) واستغفروا الله ( من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم ، وليكن الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب وهي أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم أن لا يقصر فيما بعده ابتغاء لمرضاة الله لا للمنافع العاجلة .
والاتغفار بالحقيقة يجب على كل مكلف وإن لم يعلم من ظاهر حاله خطيئة فإن النقص لازم الإمكان ، والقصور من خصائص الإنسان وكيف لا وقد قالت الملائكة وإنهم أرفع حالاً ما عبدناك حق عبادتك .
وصورة الاستغفار على ما روى البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك وأبوء بذنبي فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) ولو اقتصر على قوله ( أستغفر الله ) كفى .
ولو زاد فقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وأنت التواب الرحيم .
أو قال : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ذا الجلال والإكرام .
من كل ذنب أذنبته ومعصية ارتكبتها ، وأتوب إليه من الذنب الذي أعلم ومن الذي لا أعلم كان حسناً .
) إن الله غفور رحيم ( بناءان للمبالغة كما مر مراراً .
واختلف أهل العلم في المغفرة الموعودة في هذه الآية .
فمن قائل إنها عند الدفع من عرفات إلى جمع بناء على القول الأول في الإفاضة ، ومن قائل إنها عند الدفع من جمع إلى منى بناء على القول الآخر .
قوله عز من قائل ) فإذا قضيتم مناسككم ( أي فرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحج ، أو من أعمال مناسككم إذ المناسك جمع المنسك .
وأنه يحتمل أن يكون مصدراً وأن يكون اسم مكان .
وعن مجاهد أن قضاء المناسك هو إراقة الدماء .
عن ابن عباس : أن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم بعد أيام التشريق يقفون بين مسجد منى وبين الجبل ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ويتناشدون فيها الأشعار وغرضهم الشهرة والترفع بمآثر سلفهم .
فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن(1/565)
" صفحة رقم 566 "
يكون ذكرهم لربهم لا لآبائهم .
ثم الفاء في قوله ) فاذكروا الله ( تدل على أن الفراغ من المناسك يوجب هذا الذكر فلهذا قيل : هو الذكر على الذبيحة ، وقيل : هو التكبيرات بعد الصلاة في أيام النحر والتشريق وقيل : هو الإقبال على الدعاء والاستغفار بعد الفراغ من الحج كالأدعية المأثورة عقيب الصلوات المكتوبة .
وقيل : معناه فإذا قضيتم مناسككم وأزلتم آثار البشرية وقهرتم القوى الطبيعية وأمطتم الأذى من طريق السلوك ، فاشتغلوا بعد ذلك بتنوير القلب بذكر الله فإن التخلية ليست مقصودة بالذات ، وإنما الغرض منها التخلية بمواجب السعادات الباقيات ، فالأولى نفي والثاني إثبات .
ومعنى ) كذكركم آباءكم ( توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء ، وأقيموا الثناء على الله مقام تعداد مفاخر الآباء فإنه إن كان كذباً أوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في العقبى ، وإن كان صدقاً استتبع العجب والتباهي ، وإن كانوا يذكرون الآباء ليتوسلوا بذلك إلى إجابة الدعاء فالإقبال بالكلية على مولي النعماء أولى مع أن حسنات آبائهم محبطة لسبب إشراكهم .
وعن الضحاك والربيع : اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم وذلك قول الصبي في صغره مواظباً على ذكر أبيه وأمه ، فاكتفي بالآباء عن الأمهات كقوله ) سرابيل تقيكم الحر ) [ النحل : 81 ] وقال أبو مسلم : جرى ذكر الآباء مثلاً لدوام الذكر .
والمعنى : كما أن الرجل لا ينسى ذكر أبيه فكذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر الله .
وقال ابن الأنباري : العرب أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء فقال تعالى : عظموا الله كتعظيمكم آباءكم .
وقد نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحلف بالآباء وقال ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ) وقيل : اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آرائكم بالوحدانية فإن الواحد منكم لو نسب إلى والدين تأذى منه واستنكف .
وقيل : كما أن الطفل يرجع إلى أبيه في طلب المهمات وكفاية الملمات فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك .
وعن ابن عباس معنى الآية أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء .
وقوله ( أو أشد ذكراً ( إما في موضع جر عطفاً على ما أضيف إليه الذكر في قوله ) كذكركم ( كما تقول ( كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكراً .
وإما في موضع نصف عطفاً على ) آباءكم ( بمعنى أو أشد ذكراً من آبائكم على أن ) ذكراً ( من فعل المذكور وهو الآباء لا فعل الذاكر وهو الأبناء ، فإن الذكر بل كل فعل معتدٍ له اعتبارات اعتبار(1/566)
" صفحة رقم 567 "
وقوعه على المفعول ، واعتبار صدوره عن الفاعل .
وذلك الفعل بأحد الاعتبارين مغاير له بالاعتبار الآخر .
وإنما لزم اعتبار الفعل ههنا من جهة وقوعه على المفعول لأنّ الآباء المفضل عليهم المذكورون لا الذاكرون .
ويحتمل أن يقال : المعنى فاذكروا الله ذكراً مثل ذكركم آباءكم أو أشد ذكراً .
ولكن برد عليه أن أفعل إنما يضاف إلى ما بعده إذا كان من جنس ما قبله كقولك : ( وجهك أحسن وجه ( أي أحسن الوجوه .
فإذا نصب ما بعده كان غير الذي قبله كقوله ) زيد أفره عبداً ( .
فالفراهة للعبد لا لزيد .
والمذكور قبل ) أشد ( ههنا هو الذكر والذكر لا يذكر حتى يقال ) اشد ذكراً إنما قياسه أن يقال : الذكر أشد ذكر جراً إضافة .
وفيه وجه نصبه على ما قال أبو علي أن يجعل الذكر ذاكراً مجازاً .
ويجوز نسبة الذكر إلى الذكر بأن يسمع إنسان الذكر فيذكر ، فكأن الذكر قد ذكر لحدوثه بسببه وعلى جميع الوجوه .
فمعنى ( أو ) ههنا ليس هو التشكيك وإنما المراد به النقل عن الشيء إلى ما هو أقرب وأولى كقول رجل لغيره ( افعل هذا إلى شهر أو أسرع منه ) .
وإنما أمر الله تعالى أن يكون ذكره أشد لأن مفاخر آبائهم متناهية وصفاته الكمالية غير متناهية ، وتلك مشكوكة وهذه متيقنة ، وغاية الأول تضييع وحرمان ، ولازم الثاني نور وبرهان .
ثم إنه تعالى بعدما أمر بالعبادة تصفية للنفس وتخلية لها عن ظلمات الكبر والضلال وأمر عقيب ذلك بتنوير الباطن بنور الجلال والجمال بكثرة الاشتغال بذكر الكبير المتعال ، نبه على حسن طلب مزيد الإنعام والإفضال فذكر أن الناس فريقان : منهم من قصر دعاءه على طلب اللذات العاجلة ، ومنهم من أضاف إلى ذلك الطلب نعيم الآخرة وأهمل القسم الثالث وهو أن يكون دعاؤه مقصوراً على طلب الآخرة تنبيهاً على أن ذلك غير مشروع ومن حقه أن لا يوجد ، فإن الإنسان خلق ضعيفاً لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بعذاب النار .
فالأولى به أن يستعيذ بربه من آفات الدنيا الآخرة .
عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل على رجل يعوده وقد أنهكه المرض فقال له : ما كنت تدعو الله به ؟ قال : كنت أقول : اللهم إذا كنت تعاقبني به في الآخرة فعجلنيه في الدنيا فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا قلت : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) فدعا له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فشفي .
والإنصاف أنه سبحانه لو سلط الألم على عرق واحد في البدن أو على منبت شعرة واحدة عجز الإنسان عن الصبر عليه ، وقد يفضي ذلك به إلى الجزع ويعوقه عن اكتساب الكمالات ، ويحمله على إهمال وظائف الطاعات ، ومن ذا الذي يستغني عن إمداد الله إياه في دنياه وعقباه ؟ ثم المقصرون في الدعاء على طلب الدنيا من هم ؟ عن ابن عباس : أنهم المشركون كانوا يقولون إذا وقفوا : اللهم ارزقنا إبلاً وبقراً وغنماً وإماء وعبيداً .
وذلك(1/567)
" صفحة رقم 568 "
لأنكارهم البعث والمعاد .
وعن أنس : كانوا يقولون : اسقنا المطر وأعطنا على عدوّنا الظفر ، ويحكى عن أبي علي الدقاق أنه قال : أهل النار يستغيثون ثم يقولون : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله في الدنيا .
طلب المأكول والمشروب وفي النار طلب المأكول والمشروب ، فلما غلبتهم شهواتهم افتضحوا في الدنيا والآخرة وقال الآخرون .
يحتمل أن يكونوا مسلمين وعوقبوا لأنهم سألوا الله في أعظم المواقف وأشرف المشاهد أخس البضائع وأدون المطالب المشبه تارة بكنيف وأخرى بأحقر من جناح بعوضة ، معرضين عن العيش الباقي والنعيم المقيم .
وقوله ( ربنا آتنا في الدنيا ( متروك المفعول الثاني لأنه كالمعلوم ، ويحتمل أن يكون من قولهم ( فلان معط ) أي موجد الإعطاء ، معناه اجعل إعطاءنا في الدنيا خاصة .
واعلم أن مطامح النفس في الدنيا إحدى ثلاث خصال : روحانية هي تكميل القوة النظرية بالعلم وتتميم القوّة العملية بتحصيل الأخلاق الفاضلة ، وبدنية هي الصحة والجمال ، وخارجية هي الجاه والمال .
وكل من لا يؤمن بالبعث فإنه لا يطلب فضيلة روحانية ولا جسمانية إلا لأجل الدنيا .
فيطلب العلم لأجل الترفع على الأقران ويكتسب الأخلاق لتدبير الأمور المنزلية والمدنية .
فلما قال عز من قائل ) وماله في الآخرة من خلاق ( أي طلب نصيب حذف مفعول ) آتنا ( لأن كل من ليس له في الآخرة طلب ، ولا لهمه إلى اقتناء السعادات الباقيات نزاع وطموح ، فمطلوبه عبث وسفه ووبال وضلال أي شيء فرضت علماً وعملاً روحانياً أو جسمانياً .
اللهم اجعلنا ممن لا ينظر في أي شيء بنظر إلا إليك ، ولا يرغب في كل ما يرغب إلا لأجل ما لديك إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين .
ثم إنه سبحانه لم يذكر في هذه الآية أن هذا الفريق مجابة دعوتهم أولاً .
فقال طائفة من العلماء : إنهم ليسوا بأهل للإجابة ، لأن كون الإنسان مجاب الدعوة صفة مدح ولا يليق إلا بأولياء الله والمرتضين من عباده وقال آخرون قد يكون الإنسان مجاباً لا كرامة واجتباء بل مكراً واستدراجاً ويؤيده قوله سبحانه ) من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب ) [ الشورى : 20 ] وعلى هذا يصح أن يقال في الآية إضمار أي يقول : ربنا آتنا في الدنيا فيؤتيه الله في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق .
لأن همته مقصورة على الدنيا .
والحسنتان في دعاء الصالحين .
أما في الدنيا فالصحة والأمن والكفاية والولد الصالح والزوجة الصالحة والنصرة على الأعداء ، وقد سمى الله تعالى الخصب والسعة في الرزق وما أشبه ذلك حسنة ) أن تصبك حسنة تسؤهم ) [ التوبة : 50 ] ( قل هل تربصون بنا إلا الحسنيين ) [ التوبة : 52 ] قيل : إما النصرة وإما الشهادة .
وأما في الآخرة فالفوز(1/568)
" صفحة رقم 569 "
بالثواب والخلاص من العقاب ، ولأن دفع الضرر أهم من جلب النفع .
صرح بذلكفي قوله ) وقنا عذاب النار ( وهذه بالجملة كلمة جامعة لجميع خيرات الدنيا والآخرة .
روى حماد بن سلمة عن ثابت أنهم قالوا لأنس : ادع لنا فقال : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
قالوا : زدنا فأعادها قالوا : زدنا قال : فما تريدون سألت لكم خير الدنيا والآخرة .
وعن علي رضي الله عنه الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة ، وفي الآخرة الحوراء .
وعذاب النار امرأة السوء .
وقيل : الحسنة في الدنيا العمل النافع وهو الإيمان والطاعة ، وفي الآخرة التنعم بذكر الله والإنس به وبرؤيته .
قلت : لا تلذذ في الدنيا والآخرة إلا بهذا .
الجسم مني للجليس مجالس
وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وعن قتادة الحسنتان طلب العافية في الدارين .
وعن الحسن : هي في الدنيا فهم كتاب الله ، وفي الآخرة الجنة .
ومنشأ البحث مجيء الحسنة منكرة في حيز الإثبات ، فكل من المفسرين حمل اللفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة عقلاً أو شرعاً .
ويمكن أن يقال : التنوين للتعظيم أي حسنة وأي حسنة أو يريد حسنة توافق حال الداعي وحكمة المدعو ، وفيه من حسن الطلب ورعاية الطلب ورعاية الأدب ما ليس في التصريح به فإنه لا يكون إلا ما يشاء أو يريد حسنة ما وإن كانت قليلة ، فإن النظر إلى المنعم لا إلى الإنعام .
قليل منك يكفيني ولكن قليلك لا يقال له قليل .
) أولئك ( الداعون الحسنتين ) لهم نصيب ( وأي نصيب ) مما كسبوا ( من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة .
فمن للابتداء .
ويحتمل التعليل أي من أجل ما كسبوا كقوله ) مما خطيئاتهم أغرقوا ) [ نوح : 25 ] والكسب ما يناله المرء بعمله ومنه يقال للأرباح ( إنها كسب فلان ) أولهم نصيب مما جعوا به يعطيهم بحسب مصالحهم في الدنيا واستحقاقهم في الآخرة وسمي الدعاء كسباً لأنه من الأعمال والأعمال موصوفة بالكسب ) وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) [ الشورى : 30 ] ويجوز أن يكون ) أولئك ( للفريقين جميعاً وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا .
) والله سريع الحساب ( السرعة نقيض البطء .
والحساب مصدر كالمحاسبة وهو العدّ قال الزجاج : هو مأخوذ من قوله ( حسبك كذا ) أي كفاك .
وذلك أن فيه كفاية وليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان .
ومعنى كون الله محاسباً لخلقه قيل : إنه يعلمهم ما لهم وعليهم بأن يخلق العلم الضروري في قلوبهم بمقادير أعمالهم وكمياتها وكيفياتها ، أو بمقادير ما لهم من الثواب والعقاب .
ووجه هذا المجاز أن الحساب سبب لحصول علم الإنسان بماله وعليه ، فإطلاق الحساب(1/569)
" صفحة رقم 570 "
على هذا الإعلام إطلاق اسم السبب على المسبب .
عن ابن عباس أنه قال : لا حساب على الخلق بل يقفون بين يدي الله يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم فيقال لهم : هذه سيئاتكم قد تجاوزت عنها ، ثم يعطون حسناتهم ويقال : هذه حسناتكم قد ضعفتها لكم .
وقيل : المحاسبة المجازاة ) وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً ) [ الطلاق : 8 ] ووجه المجاز أن الحساب سبب للأخذ والإعطاء .
وقيل : إنه تعالى يكلم العباد في أحوال أعمالهم وكيفية ما لها من الثواب والعقاب .
فمن قال : إن كلامه ليس بحرف ولا صوت قال : إنه تعالى يخلق في أذن المكلف سمعاً يسمع به كلامه القديم كما يخلق في عينه رؤية يرى بها ذاته القديمة .
ومن قال : إنه صوت قال : إنه تعالى يخلق كلاماً يسمعه كل مكلف .
إما بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كل واحد منهم وفي جسم يقرب من أذنه بحيث لا يبلغ قوة ذلك الصوت مبلغاً يمنع الغير من فهم ما كلف به ، فهذا هو المراد من كونه محاسباً لخلقه ، ومعنى كونه سريع الحساب أو قدرته تعالى متعلقة بجميع الممكنات من غير أن يفتقر في أحداث شيء إلى فكر وروية ومدة وعدّة ، ولذلك ورد ي الخبر أنه يحاسب الخلق في مقدار حلب شاة ، وروي في لمحة .
أو أنه سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم لأنه قادر على أ ، يعطي مطالب جميع الخلائق في لحظة واحدة كما ورد في الدعاء المأثور ( يا من لا يشغله سمع عن سمع ) ، أو أن وقت جزائه وحسابه سريع يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد كقوله تعالى ) اقترب للناس حسابهم ) [ الأنبياء : 1 ] وقوله تعالى ) واذكروا الله ( أي بالتكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار يكبر مع كل حصاة .
وفيه دليل على وجوب الرمي لأن الأمر بالتكبير أمر بالذي يتوقف التكبير على حضوره ، وإنما اختير هذا النسق لأنهم ما كانوا منكرين للرمي وإنما كانوا يتركون ذكر الله تعالى عنده ) في أيام معدودات ( هي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر : أولها يوم القر لأن الناس تستقر فيه بمنى .
والثاني يوم النفر الأول لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى .
والثالث يوم النفر الثاني .
عن عبد الرحمن بن معمر الديلي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمر منادياً ينادي الحج عرفة .
من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج وأيام منى ثلاثة من تعجل في يومين فلا إثم عليه واعلم أن التكبير المشروع في غير الصلاة وخطبة العيدين نوعان : مرسل ومقيد .
فالمرسل هو الذي لا يتقيد ببعض الأحوال بل يؤتى به في المنازل والمساجد والطرق ليلاً ونهاراً كما مر في تفسير قوله تعالى ) ولتكبروا الله على ما هداكم ) [ البقرة : 185 ] وذكرنا صورة التكبير هناك أيضاً .
ولا فرق في التكبير المرسل بين عيد الفطر والأضحى .
وأما التكبير المقيد فأظهر الوجهين(1/570)
" صفحة رقم 571 "
أنه لا يستحب في عيد الفطر لم ينقلوا ذلك عن قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا أصحابه ، وإنما يستحب في الأضحى .
وتقييده هو أن يؤتى به في أدبار الصلوات خاصة .
واختلفوا في ابتدائه وانتهائه فقيل : من طهر يوم النحر إلى ما بعد طلوع الصبح من آخر أيام التشريق ، فيكون التكبيرات على هذا في خمس عشرة صلاة وهو قول ابن عباس وابن عمر وبه قال مالك والشافعي في أشهر أقواله ، وحجتهم أن الناس فيه تبع للحجاج وهم يبتدؤن التكبير عقيب الظهر يوم النحر إلى مضي خمس عشرة صلاة .
فيكون آخرها صلاة الصبح من آخر أيام منى وذكرهم قبل ذلك التلبية .
والقول الثاني للشافعي أنه يبتدأ به من صلاة المغرب ليلة النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق ، فيكون التكبير في أعقاب ثماني عشرة صلاة .
والقول الثالث أنه يبتدأ من صلاة الفجر يوم عرفة ويقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر ، فتكون التكبيرات بعد ثماني صلوات ، وهو قول علقمة والأسود والنخعي وأبي حنيفة .
واعترض عليه بأن هذه التكبيرات تنسب إلى أيام التشريق ، فوجب أن يؤتى بها فيها .
وإن انضم معها زمن آخر فلا أقل من أن تكون هي أغلب .
والقول الرابع يبتدأ به من صلاة الفجر يوم عرفة ويقطع بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق ، فيكبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة ، وهو قول أكابر الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وقول الثوري وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق والمزني من الفقهاء لما روى جابر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا وقال ( الله أكبر ) .
ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق ، ولأن هذا هو الأحوط فتكثير التكبير خير من تقليله .
وعلى هذا القول إنما تكون التكبيرات مضافة إلى أيام التشريق لأنها أكثر تلك المدة .
قال الجوهري : تشريق اللحم تقديده ، ومنه أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها في الشمس .
وقيل : هو من قولهم ( أشرق ثبير كيما نغير ) .
وقيل : سميت بذلك لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس .
وأما رمي أيام التشريق فإنه يجب أن يرمي كل يوم بين الزوال والغروب بكل جمرة من الجمرات الثلاث بالترتيب مبتدئاً من الجمرة الأولى من جانب المزدلفة ومختتماً برمي جمرة العقبة وهي التي تلي مكة رميات سبعاً في سبع دفعات لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كذلك رماها .
وقال : خذوا عني مناسككم .
فجملة ما يرمي في الحج سبعون حصاة ، يرمي إلى جمرة العقبة يوم النحر سبع حصيات ، وإحدى وعشرون في كل يوم من أيام التشريق إلى الجمرات الثلاث إلى كل واحدة سبع تواتر النقل به قولاً وفعلاً ، ويكبر مع كل حصاة .
وعلى الحجيج أن يبتوا بمنى الليلتين الأوليين من ليالي التشريق ، فإذا رموا اليوم الثاني فمن أراد منهم أن ينفر قبل غروب الشمس فله ذلك ويسقط عنه مبيت الليلة الثالثة والرمي(1/571)
" صفحة رقم 572 "
من الغد وذلك قوله تعالى ) فمن تعجل ( أي عجل أو استعجل ) في يومين فلا إثم عليه ( ومن لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه أن يبيت الليلة الثالثة ويرمي يومها ، وبه قال أحمد ومالك والشافعي .
وعند أبي حنيفة يسوغ النفر ما لم يطلع الفجر ، فإذا طلع لزم التأخر إلى تمام الأيام الثلاثة وذلك قوله تعالى ) ومن تأخر فلا إثم عليه لمن التقى ( قال في الكشاف : تعجل واستعجل يجيئات متعديين مثل تعجل الذهاب واستعجله ، ويجيئان مطاوعين بمعنى عجل وهذا أوفق لقوله ) ومن تأخر ( والرمي في اليوم الثالث يجوز تقديمه على الزوال عند أبي حنيفة .
وعند الشافعي لا يجوز كسائر الأيام .
وقد سئل ههنا أن المتأخر قد استوفى ما عليه من العمل فكيف ورد في حقه ) فلا إثم عليه ( وهذا إنما يقال في حق المقصر الذي يظن أنه قد رهقه آثام فيما أقدم عليه .
فأجيب بأن الرخصة قد تكون عزيمة كالقصر عند أبي حنيفة والشيعة لا يجوز في السفر غيره ، فلمكان هذا الاحتمال رفع الحرج في الستعجال والتأخر دلالة على أن الحاج مخير بين الأمرين ، أو بأن أهل الجاهلية كانوا فريقين : منهم من يجعل المتعجل آثماً ، ومنهم من يجعل المتأخر آثماً مخالفاً لسنة الحج ، فبيّن الله تعالى أن لا إثم على واحد منهما .
وقيل : إن المعنى في إزالة الإثم عن المتأخر إنما هو لمن زاد على مقام الثلاثة .
فكأنه قيل : إن أيام منى التي ينبغي المقام بها فيها ثلاثة ، فمن نقص فلا إثم عليه ، ومن زاد على الثلاثة ولم ينفر مع عامة الناس فلا شيء عليه .
وقيل : إن الآية سيقت لبيان أن الحج مكفر للذنوب والآثام لا لبيان أن التعجل وتركه سيان كما أن الإنسان إذا تناول الترياق فالطبيب يقول له : الآن إذا تناولت السم فلا بأس ، وإن لم تتناول فلا بأس ، يريد أن الترياق دواء كامل في دفع المضار لا أن تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى واحداً .
وقيل : إن جوار البيت مكروه عند كثير من العلماء لأن ذلك قد يفضي إلى نقص حشمة البيت ووقعه في قلبه وعينه فأمكن أن يختلج في قلب أحد أن التعجيل أفضل بناء على هذا المعنى ، ولما في التعجل من المسارعة إلى طواف الزيارة ، فبيّن تعالى أنه لا حرج في واحد منهما .
وقال الواحدي : هذا من باب رعاية المقابلة والمشاكلة مثل ) وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] بل ههنا أولى لأن المندوب يصدق عليه أنه لا إثم على صاحبه فيه ، وجزاء السيئة ليس بسيئة أصلاً .
وأما قوله تعالى ) لمن اتقى ( أي ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي كيلا يتخالج في قلبه إثم منهما فإن ذا التقوى متحرز من كل ما يريبه .
وقيل : معناه أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقياً قبل حجة كقوله ) إنما يتقبل الله من المتقين ) [ المائدة : 27 ] أو لمن كان متقياً عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج .
وقوله(1/572)
" صفحة رقم 573 "
) واتقوا الله ( أي فيما يستقبل فيه حث على ملازمة التقوى فيما بقي من عمره وتنبيه على مجانبة الاغترار بالحج السابق كما أن قوله ) واعلموا أنكم إليه تحشرون ( توكيد للأمر بالتقوى وبعث على التشدد فيه لأن الحشر - وهو اسم يقع على ابتداء - خروج الناس من الأجداث إلى انتهاء الموقف يوجب تصوره ، لزوم سيرة الاتقاء عن ترك الواجبات وفعل المحظورات .
والمراد من قوله ) إليه ( أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ إلا إليه ، ولا مستعان إلا هو ) يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله ) [ الانفطار : 19 ] .
التأويل : ( الحج أشهر معلومات ( هي مدة الحياة الفانية ، وقيل إلى أربعين سنة ، ولهذا قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد .
نعم لو صدق طلبه قبل ا لأربعين وما أمكنه الوصول فقريب أن يحصل مقصوده بعد الأربعين ، ومن فاته الطلب في نفوان شبابه إلى أن بلغ الأربعين فحري منه عليه الحيف إذ ضيع اللبن في الصيف ، لكنه يصلح للعبادة التي أجرها الجنة .
) فلا رفث ( لا يميل إلى الدنيا وزينتها وليهجرها كالمحرم بعد الاغتسال بماء الإنابة بتزر بإزار التواضع والانكسار ، ويتردى برداء التذلل والافتقار .
) ولا فسوق ( ولا خروج من الأوامر والنواهي بل لا يخرج من حكم الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت ) ولا جدال في الحج ( لا نزاع للسالك الصادق في طلب الوصول لا بالفروع ولا بالأصول فلا في مالها مع أحد يخاصم ولا في جاهها لأحد يزاحم ، فمن نازعه في شيء من ذلك يسلمها إليه ويسلم عليه ) وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) [ الفرقان : 63 ] وتزودوا لكل سالك زاد .
فزاد أولي القشور كعك وسويق وهم الذين مقصدهم البيت ومقصودهم الجنة ، وزاد أولي الألباب التقوى وهم من مقصدهم ومقصودهم رب البيت .
وتقوى أهل القشور مجانبة الزلات ومواظبة الطاعات ، وتقوى أولي الألباب مجانبة الصفات بالصفات والذات بالذات .
فلما كان مقصودهم خير المقاصد كان زادهم خير الزاد ) أن تبتغوا فضلاً ( مقام ابتغاء الفضل بمعنى الرحمة بترك الموجود وبذل المجهود وهو في سيره إلى عرفات ، ومقام ابتغائه بمعنى مواهب القربة ببذل الوجود عند الوقوف بعرفات ، لأن الحج عرفة وعرفة المعرفة ومقام ابتغائه بمعنى الرزق هو قبل سيره إلى عرفات .
وقال جمع من المحققين : إنه بعد استكمال الحج الحقيقي لأنه لقوة عرفانه بالله لا تضره الدنيا بل يكون تصرفه فيها بالله في الله لله ) عند المشعر الحرام ( يعني القلب الذي حرام عليه الاطمئنان بغير ذكر الله ) واذكروه كما هداكم ( أي كما هدى قلوبكم يهدي نفوسكم كيلا تقع في خطر حب الدنيا .
) وإن كنتم من ( قبل الوقوف بعرفات المعرفة ) لمن الضالين ( في طلب الدنيا وحظوظ النفس ) من حيث أفاض الناس ( يعنى محمداً وسائر الأنبياء والأولياء أي(1/573)
" صفحة رقم 574 "
لتكن الإفاضة من عرفات المعرفة لأجل أداء الحقوق بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) واستغفروا الله ( لأجل إزالة غين المخالطة مع الخلق كقوله ) إذا جاء نصر الله ( إلى قوله ) واستغفره ) [ النصر : 1 - 3 ] أي إذا وجدت هذا لا تخلو عن خط ما فاستغفره ) فإذا قضيتم ( مناسك الوصال وبلغتم مبلغ الرجال فلا تأمنوا مكر الله وواظبوا على الذكر ) كذكركم آباءكم ( في صغركم للافتقار وفي كبركم للافتخار ) أو أشد ذكراً ( لأنه يمكن الاستغناء من الأب ولا يمكن الاستغناء من الله ) والله سريع الحساب ( لأن أثر الطاعة وأثر المعصية تظهر في الحال على القلب ) في أيام معدودات ( هي أيام البداية والوسط والنهاية ) فمن تعجل في يومين ( وقف على الوسط ليكون من أهل الجنة ) فلا إثم عليه ومن تأخر ( إلى أن يصل يوم النهاية حتى يكون من أهل الله فذاك لمن اتقى الرجوع والوقوف ، والله ولي التوفيق وهو حسبي .
( البقرة : ( 204 - 210 ) ومن الناس من . . . .
" ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور "
( القراآت )
مرضاة ( بالإمالة والوقف بالهاء : علي .
وكذلك يقف على ) هيهات ( هيهاه وعلى ) حدائق ذات ( ذاه وعلى ) أفرأيتم اللات ( اللاه وعلى ) ولات حين ( ولاه ، وعلى ) مريم ابنة ( ابنه .
وافق أبو عمر وفي ) ولات حين ( بالهاء ) لسلم ( بفتح السين .
أبو جعفر ونافع وابن كثير وعلي .
الباقون : بالكسر .
) والملائكة ( بالجر : يزيد عطفاً على ( ظلل ) أو على ( الغمام ) أو للجوار وإن كان فاعل ( يأتهم ) .
الباقون : بالرفع ) ترجع الأمور ( حيث كان بفتح التاء وكسر الجيم : حمزة وعلي وخلف وابن عامر وسهل ويعقوب .
الباقون : بضم التاء وفتح الجيم .
الوقوف : ( فلبه ( لا لأن الواو للحال ) الخصام ( 5 ) والنسل ( ط ) الفساد ( ط ) جهنم ( ط ) المهاد ( 5 ) مرضات الله ( ط ) بالعباد ( 5 ) كافة ( ص لعطف الجملتين المتفقتين ) الشيطان ( ط مع احتمال الجواز ) مبين ( 5 ) حكيم ( 5 ) وقضي الأمر ( ط ) الأمور ( 5(1/574)
" صفحة رقم 575 "
التفسير : لما آل أمر بيان الحج إلى تعديد فرق الناس بحسب أغراضهم في الدعاء ، ناسب أن يعطف على ذلك تقسيم آخر يعرف منه مطامح أنظار الناس على الإطلاق ليعرف أرباب النفاق .
من أصحاب الوفاق .
عن السدي : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وهو حليف بني زهرة .
أقبل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة فأظهر له الإسلام وزعم أنه يحبه وقال : والله يعلم أني لصادق .
فلما خرج من عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فأحرق الزرع وعقر الحمر .
وقيل : إنه أشار على بني زهرة بالرجوع يوم بدر وقال لهم : إن محمداً ابن أختكم فإن يك كاذباً كفاكموه سائر الناس ، وإن يك صادقاً كنتم أسعد الناس به .
فقالوا : نعم الرأي ما رأيت .
ثم خنس بثلثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسمى بهذا السبب أخنس - وكان اسمه أبي بن شريق - فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأعجبه .
وعن ابن عباس والضحاك : أن كفار قريش بعثوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك فبعث إليهم جماعة ، فلما كانوا ببعض الطريق ركب من الكفار سبعون راكباً فأحاطوا بهم فقتلوهم وصلبوهم ففيهم نزلت .
وقوله بعد ذلك ) ومن الناس من يشري ( إشارة إلى هؤلاء الشهداء .
واختيار المحققين من المفسرين أنه لا يمتنع أن تكون الآية نازلة في الرجل ثم تكون عامة في أمثاله .
فهذه الآية عامة في المنافقين ، فإن ألسنتهم تحلو لي وقلوبهم أمر من الصبر .
والضمير في ) يعجبك قوله ( يعود إلى ( من ) ويحتمل أن يكون جمعاً ولكنه أفرد نظراً إلى اللفظ .
ومعنى يعجبك يروقك ويعظم في قلبك و ) في الحياة الدنيا ( إما أن يتعلق بقوله أي يعجبك ما يقوله في باب الدنيا طلباً للمصالح العاجلة فقط كالأمان من القتل والأخذ من المغانم ، وإما أن يتعلق بيعجبك لأن قوله وحلو كلامه إنما يعجب السامع في الدنيا ولا يعجبه في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الهيبة والحيرة ، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام .
والخطاب إما للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو لكل سامع .
) ويشهد الله على ما في قلبه ( يحتمل أن يكون ذلك الاستشهاد بالحلف ، وأن يكون بقوله ( شهد الله على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام ) .
) وهو ألد الخصام ( الألد الشديد الخصومة ، واللديدان جانبا الوادي .
كأن كلاً من المتخاصمين في جانب .
ومنه اللدود وهو ما يصب من الأدوية في أحد شقي الفم .
وإضافة الألد بمعنى ( في ) كقولهم ( ثبت الغدر ) و ( قتيل الصف ) أو جعل الخصام ألد على المبالغة نحو ( جد جده ) .
والخصام جمع خصم كصعاب في صعب .
والمعنى : هو أشد الخصوم خصومة .
والحاصل إنه جدل بالباطل شديد الفسوق في معصية الله عالم اللسان جاهل العمل ، وإذا تولى عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق سعى في الأرض ليفسد فيها كما فعل بأولئك المسلمين من إحراق الزروع(1/575)
" صفحة رقم 576 "
وعقر المواشي .
وأصل السعي المشي بسرعة ، وقد يستعار لإيقاع الفتنة والتخريب بين الناس .
وقيل : لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة ، فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم ، وعلى هذا فيقع قوله ) ويهلك الحرث والنسل ( تفصيلاً لما أجمله قوله ) ليفسد ( وقيل : إفساده هو إلقاء الشبه في عقائد المسلمين ، وعلى هذا فيكون إهلاك الحرث والنسل بمعنى آخر .
وهذا تفسير مناسب لأن كمال الإنسان بالعلم والعمل ونقصه بضدهما ، فيكون الإفساد إشارة إلى نقص قوّته النظرية والإهلاك عبارة عن فعل المنكرات وفيه نقصان قوّته العملية .
وقيل : ( وإذا توّلى ( أي إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل .
وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل .
فالحرث الزرع ، والنسل الولد .
ونسلت الناقة بولد كثير ، والتركيب يدل على الخروج .
وقيل : إهلاك الحرث قتل النسوان ) نساؤكم حرث لكم ) [ البقرة : 223 ] وإهلاك النسل إفناء الصبيان ) والله لا يحب الفساد ( قالت المعتزلة : معناه لا يريد الفساد .
وفيه دليل على أنه يريد القبائح وإذا لم يردها لم يخلقها لأن الخلق لا يمكن إلا بالإرادة .
ومنع من أن المحبة نفس الإرادة ، بل المحبة عبارة عن مدح الشيء وذكره بالتعظيم .
ثم الدليل الدال على أن لا مرجح لأحد جانبي كل ممكن على الآخر إلا الله وإلا انسد باب إثبات الصانع يدل على أن الكل بإرادته ومشيئته ، وقد مر تحقيق ذلك فيما سلف .
واعلم أنه سبحانه حكى عن المنافق جملة من الأفعال الذميمة .
أولها حسن كلامه في طلب الدنيا ، وثانيها استشهاده بالله كذباً وبهتاناً ، وثالثها لحاجة في إبطال الحق وإثبات الباطل ، ورابعها سعيه في الأرض للإفساد ، وخامسها سعيه في إهلاك الحرث والنسل .
فوقع قوله ) والله لا يحب الفساد ( جمله معترضة .
ثم ذكر خصلة سادسة أشنع من الكل دالة على جهله المركب وخروجه عن أن يرجى منه خير وذلك قوله ) وإذا قيل له اتق الله ( في ارتكاب شيء من هذه المنهيات .
والقائل إما الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قولاً خاصاً أو عاماً لجميع المكلفين فيدخل المنافق فيه ، وإما كل واعظ وناصح ) أخذته العزة بالإثم ( من قولهم ( أخذت فلاناً بأن يفعل كذا ) أي ألزمته ذلك وحملته عليه أي أخذته الغلبة والاستيلاء والأنفة وحمية الجاهلية أن يعمل الإثم ، وذلك الإثم هو ترك الالتفات إلى هذا الوعظ وعدم الإصغاء إليه ، أو من قوله ( أخذته الحمى ) أي لزمته ، و ( أخذه الكبر ) أي اعتراه ذلك والمعنى لزمته العزة الحاصلة بسبب الإثم الذي في قلبه ، وذلك الإثم هو الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل ) فحسبه جهنم ( كافية هي جزاء له يستوي فيه الواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث لأنه مصدر .
ورفعه على الخبرية أو على الابتداء إذا كان ما بعده(1/576)
" صفحة رقم 577 "
معرفة ، أو على الابتداء فقط إن كان نكرة مثل ( حسبك درهم ) .
وعلى هذا تكون الإضافة معنوية ألبتة ، وعلى تقدير كونه خبر الوقوع المعرفة بعده تكون الإضافة لفظية أي فحسب وكافٍ له .
قال يونس وأكثر النحويين : جهنم اسم للنار التي يعذب الله بها في الآخرة وهي أعجمية وفيها العلمية والتأنيث .
وقال آخرون : إنه اسم عربي سميت نار الآخرة بها لبعد قعرها .
حكي عن رؤبة أنه قال : ركية جهنام بكسر الجيم والهاء أي بعيدة القعر .
وقيل : اشتقاقها من الجهومة وهي الغلظ .
ومنه رجل جهم الوجه أي غليظه .
سميت بذلك لغلظ أمرها في العذاب والعقاب .
) ولبئس المهاد ( أي ما يمهد لأجله فإن المعذب في النار يلقى على النار كما يوضع الشخص على الفراش .
ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى التمهيد والتوطئة .
قوله تعالى : ( ومن الناس من يشري ( الآية .
قال سعيد بن المسيب : أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتشل ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال : والله لا تصلون إليّ أو أرمي بكل سهم معي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي .
وإن شئتم دللتكم على مال دفنته بمكة وخليتم سبيلي ففعلوا .
فلما قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نزلت ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ربح البيع أبا يحيى وتلا الآية ) .
وقيل : أخذ المشركون صهيباً فعذبوه فقال لهم صهيب : إني شيخ كبير لا يضركم ، أمنكم كنت أم من غيركم .
فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني ؟ ففعلوا ذلك .
وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال ، فقال له أبو بكر : ربح بيعك أبا يحيى .
قال صهيب : وبيعك .
أفلا تخبرني ما ذاك ؟ فقال : نزلت فيك كذا قرأ الآية .
عن الحسن : نزلت في أن المسلم أتى الكافر فقاتل حتى قتل .
وقيل : نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
سمع عمر بن الخطاب إنساناً يقرأ هذه الآية فقال عمر : إنا لله قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل .
وقيل : نزلت في علي رضي الله عنه بات على فراش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة خروجه إلى الغار .
ويروى أنه لما نام على فراشة قام جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل ينادي بخ بخ .
من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ونزلت الآية .
ثم إن الآية تدل على أن ههنا مبايعة ، فأكثر المفسرين على أن العامل هو البائع .
ومعنى يشري يبيع ) وشروه بثمن بخس ) [ يوسف : 20 ] والله هو المشتري ) إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ) [ التوبة : 111 ] وعمل المكلف وهو بذل نفسه في طاعة الله من الصلاة والصيام والحج والجهاد هو الثمن والجنة هي المثمن .
وقيل : يحتمل أن يراد بالشراء ههنا الاشتراء وذلك أن من أقدم(1/577)
" صفحة رقم 578 "
على الكفر والمعاصي .
فكأن نفسه خرجت عن ملكه وصارت حقاً للنار ، وإذا أقدم على الطاعة صار كأنه اشترى نفسه من النار فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دراهم معدودة ويشتري بها نفسه ، والمؤمن يبذل أنفاساً معدودة ويشتري بها نفسه ، لكن المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم .
فكذا المكلف لا ينجو عن ربقة العبودية ما دام بقي له نفس واحد في الدنيا ، وهذا كقول عيسى عليه السلام ) وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً ) [ مريم : 31 ] وقوله عز من قائل لنبيه ) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [ الحجر : 99 ] و ) ابتغاء مرضات الله ( أي طلب رضوانه نصب على العلة الغائية .
وفيه دليل على أن كل مشقة يتحملها الإنسان يجب أن تكون على وفق الشرع ومطلوباً بها جانب الحق وإلا كان عمله ضلالاً وكده وبالاً .
) والله رؤف بالعباد ( فمن رأفته جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل ، وجوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس ) إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) [ النحل : 106 ] ومن رأفته أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها ، ومن رأفته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط عقابه وأعطاه ثوابه ، ومن رأفته أن النفس له والمال له ثم إنه يشتري ملكه بملكه فضلاً منه وامتناناً ورحمة وإحساناً .
قوله سبحانه ) يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ( أصل السلم بالكسر ، والفتح الاستسلام والطاعة .
ويطلق أيضاً على الصلح وترك الحرب والمنازعة .
وهو أيضاً راجع إلى هذا وإنه يذكر ويؤنث .
واختلف في المخاطبين فقيل : أمر للمسلمين بما يضاد حال المنافقين أي يا أيها الذين آمنوا بالألسنة والقلوب دوموا على الإسلام فيما تستأنفونه من أيامكم ولا تخرجوا منه ولا من شيء من شرائعه .
) ولا تتبعوا خطوات الشيطان ( لا تلتفتوا إلى الشبهات التي يلقيها إليكم أهل الغواية ، والكائن في الدار إذا علم أن له في المستقبل خروجاً منها لا يمتنع أن يؤمر بدخولها في المستقبل حالاً بعد حال .
ومعلوم أن المؤمنين قد يخرجون عن خصال الإيمان بالنوم والسهو وغيرهما من الأحوال ، فلا يبعد أن يأمرهم الله بالدخول في الإسلام فيما يستأنف من الزمان .
أو أمرهم بأن يكونوا مجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه .
ولا تتبعوا آثار الشيطان بالإقبال على الدنيا والجبن والخور في أمر الدين مثل ) ولا تنازعوا فتفشلوا ) [ الأنفال : 46 ] أو يكون المراد بالدخول في السلم ترك الذنوب والمعاصي ، فإن من مذهبنا أن الإيمان باقٍ مع الذنب والعصيان ، أو يكون المراد الرضا بالقضاء والتلقي لجميع المكاره بالبشر والطلاقة كما ورد في الخبر ( الرضا بالقضاء باب الله الأعظم ) أو يكون المراد ترك الانتقام وسلوك طريق العفو والإغماض ) وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) [ الفرقان : 63 ] وقوله : ( كافة ( يصلح أن يكون حالاً من المأمورين أي ادخلوا بأجمعكم في السلم ولا تتفرقوا ولا تختلفوا وأن يكون حالاً من السلم على أنها(1/578)
" صفحة رقم 579 "
مؤنث كالحرب أي ادخلوا في شرائع الإسلام كلها وأصل الكف المنع فسمي الجميع كافة لأن الاجتماع بمنع التفرق والشذوذ .
ورجل مكفوف أي كف بصره من أن ينظر .
وكفة القميص لأنها تمنع الثوب من الانتشار .
والكف طرف اليد لأنه يكف بها عن سائر البدن .
وقيل : الخطاب للمنافقين والتقدير : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام ولا تتبعوا آثار تزيين الشيطان وتسويله بالإقامة على النفاق .
وقيل : نزلت في مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه حين أرادوا أن يقيموا على بعض شرائع موسى كتعظيم السبت وقراءة التوراة واستأذنوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك ، فأمروا أن يدخلوا في شرائع الإسلام كافة ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة لثبوت نسخها بالكلية ، فإن التمسك بها بعد تبين نسخها من اتباع آثار الشيطان ، وقيل : السلم الإسلام ، والخطاب لأهل الكتاب ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالكتاب المتقدم كملوا طاعتكم بالإيمان بجميع أنبيائه وكتبه ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بالشبهات التي يتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة ) إنه لكم عدوّ مبين ( عن أبي مسلم أن المبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره ، ولا يخفى أنه أعرب عن عداوته لآدم ونسله .
وقيل : مبين من الإبانة القطع وذلك أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه ورضوانه .
قوله ) فإن زللتم ( المخاطبون ههنا هم المخاطبون في قوله ) ادخلوا ( فيجيء الخلاف ههنا بحسب الخلاف هناك .
والمعنى العام : فإن دحضت أقدامكم وانحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به ) من بعد ما جاءتكم البينات ( الدلائل العقلية والسمعية على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق ) فاعلموا أن الله عزيز ( غالب لا يعجزه الانتقام منكم وهذه نهاية في الوعيد كما لو قال الوالد لولده : إن عصيتني فأنت عارف بي وبشدّة سطوتي .
كان أبلغ في الزجر من التصريح بضرب من ضروب العذاب .
وكما أن قوله ) عزيز ( يشتمل على الوعيد البليغ فقوله ) حكيم ( يشتمل على الوعد الحسن .
فإن اللائق بالحكمة تمييز المحسن من المسيء وأن لا يسّوي بينهما في الثواب والعقاب .
روي أن قارئاً قرأ غفور رحيم فسمعه أعرابي فأنكره ولم يقرأ القرآن وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا .
الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه يكون إغراء عليه .
قوله ) هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ( الآية معنى النظر ههنا الانتظار .
وأما إتيان الله فقد أجمع المفسرون على أنه سبحانه منزه عن المجيء والذهاب لأن هذا من شأن المحدثات والمركبات وأنه تعالى أزلي فرد في ذاته وصفاته فذكروا في الآية وجهين : الأول : وهو مذهب السلف الصالح السكوت في مثل هذه الألفاظ عن التأويل وتفويضه إلى مراد الله تعالى كما يروى عن ابن عباس أنه قال : نزل القرآن على أربعة(1/579)
" صفحة رقم 580 "
أوجه : وجه لا يعذر أحد بجهالته ، ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه ، ووجه يعرف من قبل العربية فقط ، ووجه لا يعلمه إلا الله .
الثاني : وهو قول جمهور المتكلمين : أنه لا بد من التأويل على سبيل التفصيل .
فقيل : جعل مجيء الآيات مجيئاً له تفخيماً لها كما يقال ( جاء الملك ) إذا جاء جيش عظيم من جهته .
وقيل : المراد إتيان أمره وبأسه فحذف المضاف بدليل قوله في موضع آخر ) أو يأتي أمر ربك ) [ النحل : 33 ] ( فجاءهم بأسنا ( وأيضاً اللام في قوله ) وقضى الأمر ( تدل على معهود سابق وما ذاك إلا الذي أضمرناه .
لا يقال أمر الله عندكم صفة قديمة فالإتيان عليها معهود سابق وما ذاك إلا الذي أضمرناه .
لا يقال أمر الله عندكم صفة قديمة فالإتيان عليها محال .
وعند المعتزلة أصوات فتكون أعراضاً .
فالإتيان عليها أيضاً محال لأنا نقول : الأمر قد يطلق على الفعل ) وما أمر فرعون برشيد ) [ هود : 94 ] وحينئذ فالمراد ما يليق بتلك المواقف من الأهوال وإظهار الآيات المهيبة .
وإن حملنا الأمر على ضد النهي فلا يبعد أن منادياً ينادي يوم القيامة ألا إن الله يأمركم بكذا .
ومعنى كونه في ظلل من الغمام أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في آن واحد ، أو يكون المراد حصول أصوات مقطعة مخصوصة في تلك الغمامات تدل على حكم الله تعالى على أحد بما يليق به من السعادة والشقاوة ، أو أنه تعالى يخلق نقوشاً منظومة في ظلل من الغمام لشدة بياضها .
وسواد تلك الكتابة يعرف بها حال أهل الموقف في الوعد والوعيد ، وتكون فائدة الظلل أنه تعالى جعلها أمارة لما يريد إنزاله بالقوم ليعلموا أن الأمر قد حضر .
وقيل : المأتي به محذوف والمعنى إلا أن يأتيهم الله ببأسه أو بنقمته الدالة عليه بقوله ) عزيز ( .
وفائدة الحذف كونه أبلغ في الوعيد لانقسام خواطرهم وذهاب فكرتهم في كل وجه .
وقيل : إن ( في ) بمعنى الباء أي يأتسهم الله بظلل من الغمام ، والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة .
وقيل : الغرض من ذكر إتيان الله تصوير غاية الهيبة ونهاية الفزع كقوله تعالى ) والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه ) [ الزمر : 67 ] ولا قبض ولا طي ولا يمين وإنما الغرض تصوير عظمة شأنه .
وقيل : بناء على أن الخطاب في ادخلوا وزللتم لليهود المراد أنهم لا يقبلون دين الحق إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، وذلك أن اليهود كانوا على اعتقاد التشبيه ويجوّزون المجيء والذهاب على الله تعالى ويقولون : إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام ، فطلبوا مثل ذلك في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
فعلى هذا يكون الكلام حكاية عن معتقد اليهود ولا يبقى إشكال فإن الآية لا تدل إلا على أن قوماً ينتظرون إتيان الله وليس فيها دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أم مبطلون .
والظلل جمع ظلة وهي ما أظلك(1/580)
" صفحة رقم 581 "
والغمام لا يكون كذلك إلا إذا كان مجتمعاً ومتراكماً .
فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة ، كل قطعة منها تكون في غاية الكثافة والعظم ، فكل قطعة ظلة والجمع ظلل .
والاستفهام ههنا في معنى النفي أي ما ينتظرون إلا أن يأتيهم عذاب الله في ظلل من الغمام ، وفيه تفظيع شأن العذاب وتهويله لأن الغمام مظنة الرحمة ، وإذا نزل منه العذاب كان أشنع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم ، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يتوقع الخير ؟ أو نمول الغمام علامة لظهور الأهوال في القيامة قال : ( يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيراً ) [ الفرقان : 25 ، 26 ] واستعير لتتالي العذاب تتابع القطر وإتيان الملائكة ليقوموا بما أمروا به من تعذيب وتخريب ولا حاجة إلى التأويل لأن إتيانهم ممكن .
) وقضي الأمر ( فرغ من أمر إهلاكهم وتدميرهم أو عما كانوا يوعدون به ، فلا تقال لهم عثرة ولا تصرف عنهم عقوبة ولا ينفع في دفع ما نزل بهم حيلة .
والتقدير : إلا أن يأتيهم الله ويقضي الأمر ، فوضع الماضي موضع المستقبل .
إما للتنبيه في قرب العذاب أو اساعة ( كل ما هو آت قريب ) ، وإما لأن إخبار الله تعالى كالواقع المقطوع به وقيل : الأمر المذكور ههنا هو فصل القضاء بين الخلائق وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزله من الجنة والنار .
وعن معاذ بن جبل وقضاء الأمر مصدر مرقوع عطفاً على لفظي الله والملائكة .
) وإلى الله ترجع الأمور ( وذلك أنه ملك في الدنيا عباده كثيراً من أمور خلقه ، أما إذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم بين العباد سواه وهذا كقولهم ( رجع أمرنا إلى الأمير ) إذا كان هو يختص بالنظر فيه .
فعلى المكلف أن يدخل في السلم كما أمر ويحترز عن اتباع آثار الشيطان كما نهى .
ثم إن الأمور ترجع إليه جل جلاله ، وهو تعالى يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة .
فهذا معنى القراءتين في ) ترجع ( وأيضاً قراءة ضم التاء وفتح الجيم على مذهب العرب في قولهم ( فلان معجب بنفسه ) ويقول الرجل لغيره : إلى أين ذهب بك ؟ وإن لم يكن أحد يذهب به .
أو المراد أن العباد يردّون أمورهم إلى خالقهم ويعترفون برجوعها إليه .
أما المؤمنون فبالمقال ، وأما الكافرون فبشهادة الحال ) ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدوّ والآصال ) [ الرعد : 15 ] .
التأويل : النفس الأمارة تظهر الأشياء المموهة والأقوال المزخرفة وترى أنها أولى الأولياء ، ولكنها أعدى الأعداء وتسعى في تخريب أرض القلب وإبطال حرث الصدق في طلب السعادة إهلاك نسل ما يتولد من الأخلاق الحميدة وتشمخ بأنفها عن قبول الحق(1/581)
" صفحة رقم 582 "
فحسبه جهنم الميعاد ) ومن الناس من يشري ( هذا شأن الأولياء باعوا أنفسهم خالصاً لوجه الله لا لأجل الجنة ) ادخلوا في السلم كافة ( أي بجميع الأجزاء والأعضاء الظاهرة والباطنة .
ودخول القلب في الإسلام يكون بدخول الإيمان في القلب ، ودخول الروح في الإسلام يكون بتخلقه بأخلاق الله وتسليم الأحكام والأقضية لله ، ودخول السر في الإسلام بفنائه في الله وبقائه بالله ، وهذا مقام يضيق عن إعلانه نطاق النطق ولا يسع إظهاره ظروف الحروف .
وإن قميصاً خيط من نسج تسعة
وعشرين حرفاً من معانيه قاصر
الله ولي التوفيق وهو حسبي .
( البقرة : ( 211 - 214 ) سل بني إسرائيل . . . .
" سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب "
( القراآت )
ليحكم ( بضم الياء وفتح الكاف : يزيد .
وكذلك في آل عمران والنور في موضعين .
الباقون بفتح الياء وضم الكاف ) يقول ( برفع اللام : نافع .
الباقون : بالنصب .
الوقوف : ( بينة ( ط لانتهاء الاستفهام إلى الشرط مع تقدير حذف أي فبدّلوا ومن يبدل الخ ) العقاب ( 5 ) من الذين آمنوا ( لأن و ( الذين ) مبتدأ و ( فوقهم ) خبره .
ولو وصل صار ( فوقهم ) ظرفاً ليسخرون أو حالاً لفاعل ( يسخرون ) وقبحه ظاهر .
) يوم القيامة ( ط ) حساب ( 5 ) ومنذرين ( ص لعطف المتفقتين ) فيما اختلفوا فيه ( ط ) بينهم ( ج لعطف المختلفتين ) بإذنه ( ط ) مستقيم ( 5 ) من قبلكم ( ط للفصل بين الاستفهام والإخبار لأن قوله ( ولما يأتكم ) عطف على ( أم حسبتم ) تقديره أحسبتم ولم يأتكم .
) متى نصر الله ( ط ) قريب ( 5 .
التفسير : أنه سبحانه لما أمر بالسلم ونهى عن مقابلها ثم قال : ( فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات ) [ البقرة : 209 ] أي فإن أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين(1/582)
" صفحة رقم 583 "
للتهديد .
ثم بين ذلك التهديد بقوله ) فأعلموا أن الله عزيز حكيم ) [ البقرة : 209 ] ثم ثنى ذلك التهديد بقوله ) هل ينظرون ) [ البقرة : 210 ] الآية ثم ثلث التهديد بقوله ) سل بني إسرائيل ( والخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو لكل أحد .
وهذا السؤال سؤال تقريع كما يسأل الكفرة يوم القيامة ، وإلا فكثرة الآيات التي أوتوها معلومة بإعلام الله تعالى .
والمراد سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى ، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون كي يعتبروا ويتعظوا .
و ( كم ) تحتمل الاستفهامية والخبرية ، و ) من آية ( مميزها ، وقد فصل بين المميز وبينها بالفعل .
فإن كانت استفهامية فالتقدير : سلهم عن عدد إيتائنا الآيات إياهم حتى يخبروك عن كميتها .
وإن كانت خبرية فالمعنى : سلهم عن أنا كثيراً من الآيات آتيناهم .
والآيات الواضحات إما معجزات موسى عليه السلام كفرق البحر وتظليل الغمام وتكليم الله إياه والعصا واليد ونحوها وهي تسع ) ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ) [ الإسراء : 101 ] وإما الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام فمنهم من آمن وأقر ومنهم من جحد وبدل ) ومن يبدل نعمة الله ( قيل : إنها الآيات والدلائل الدالة على صحة دين الإسلام وهي أجل أقسام النعم ، لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة .
ثم إن قلنا : الآيات معجزات موسى فتبديلها أن الله تعالى أظهرها لتكون أسباب هدايتهم فجعلوها أسباب ضلالتهم كقوله ) فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) [ التوبة : 125 ] وإن قلنا : الآية البينة هي ما في التوراة والإنجيل من الدلائل على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فتبديلها تحريفها وإدخال الشبه فيها .
وقيل : المراد بنعمة الله ما آتاهم أسباب الصحة والأمن والكفاية ، فتبديلها أنهم لم يجعلوها واسطة الطاعة والقيام بما عليهم من التكاليف ، بل استعملوها في غير ما أوتيت هي لأجله .
وعلى هذا فقوله ) من بعد ما جاءته ( معناه ظاهر ، وأما على القول الأول وهو أن المراد من النعمة لآيات فمعنى مجيئها التمكن من معرفتها أو عرفانها كقوله ) ثم يحرفونه من بعدما عقلوه ) [ البقرة : 75 ] لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها فكأنها غائبة .
) فإن الله شديد العقاب ( قال الواحدي : الرابطة محذوفة أي له .
والتحقيق أن ترك هذا الإضمار أولى فإنه إذا علم كونه تعالى موصوفاً بهذا الوصف لزم من ذلك أنه يعاقب المبدل إن شاء ، ولكن لا يلزم من كونه شديد العقاب للمبدّل كونه متصفاً بذلك وصفاً ذاتياً .
ثم قال الواحدي .
والعقاب عذاب يعقب الجرم .
ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كان التبديل سيرتهم فقال : ( زين للذين كفروا ( الآية .
والغرض تعريف المؤمنين ضعف عقول الكفار في ترجيح الفاني من زينة الدنيا على الباقي من نعيم الآخرة ، والتذكير في زين إما لأن الحياة والإحياء واحد ،(1/583)
" صفحة رقم 584 "
أو للفصل مع أن التأنيث ليس بحقيقي .
عن ابن عباس أن الآية نزلت في أبي جهل وأضرابه من كبار قريش .
وقيل : رؤساء اليهود وعلمائهم .
وعن مقاتل : نزلت في المنافقين .
ولا مانع من نزولها في جميعهم لأن كلهم وهم في التنعم والراحة كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين والمهاجرين .
ثم المزين من هو ؟ فعن المعتزلة أنهم غواة الجن والإنس قبحوا أمر الآخرة في أعين الكفار وأوهموا أن لا صحة لها فلا تنغصوا عيشكم في الدنيا كقول من قال :
أتترك لذة الصهباء نقداً
بما وعدوك من لبن وخمر ؟
قالوا : وأما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فباطل .
لأن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ، وإذا كان المزين هو الله تعالى فلا بد أن يكون صادقاً في ذلك الإخبار ، فيكون فاعله المستحسن له مصيباً .
وإن كان كافراً وإصابة الكافر كفر فهذا القول كفر ، وزيف بأن مزين الكفر لجميع الكفار لا بد أن يكون خارجاً منهم .
وقولهم : ( المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ) مردود ، وإنما المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالأوصاف الحسنة .
سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن الله تعالى يكون مخبراً عن حسنه من حيث إنه أخبر عما فيها من اللذات والراحات ؟ وهذا إخبار عما ليس بكذب والتصديق به ليس بكفر .
وقال أبو مسلم : الكفار زينوا لأنفسهم والعرب تقول : ( أين يذهب بك ) لا يريدون أن ذاهباً ذهب به ومنه قوله تعالى ) أنى يؤفكون ) [ المائدة : 75 ] ( أنى يصرفون ) [ غافر : 69 ] .
ولما كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً فالإنسان بالحقيقة هو الذي زين لنفسه .
والتحقيق أن المزين هو الله تعالى كما صرح بذلك في قوله ) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً ) [ الكهف : 7 ] وكيف لا وانتهاء جميع الحوادث إليه أظهر في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب والحلاوة ، وركب في الطبائع حب الشهوات والميل إلى الطيبات ، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل مع إمكان رد النفس عنها ليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح ويكفها عن الحرام ويتم غرض الابتلاء .
أو نقول : المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا ولم يمنعهم عن الإقبال عليها والحرص الشديد في طلبها .
وقيل : إن الله تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات وهو ضعيف ، لأن الله تعالى خص بهذا التزيين الكفار وتزيين المباحات لا يختص بالكفار .
وإن قيل : المراد من تزيين المباح للكافر أنه دائم السرور به .
وإن قلت : ذات يده لكونه معقود الهمة به لا عيش عنده إلا عيش الدنيا ، بخلاف(1/584)
" صفحة رقم 585 "
المؤمن فإن تمتعه من طيبات الدنيا وبهجتها وإن كثر ماله وجاهه مكدر بالخوف والوجل من الحساب في الآخرة .
قلنا : تزيين المباح في نظر الكافر بحيث يفضي به إلى الاشتغال عن الآخرة مستقبح .
أيضاً فالكلام فيه كالكلام في تزيين المحظور فيبقى الإشكال بحاله ولا مخلص إلا بإسناد الكل إليه تعالى بعد تذكر ما سلف لنا مراراً في حقيقة الجبر والقدر .
ولما أخبر الله تعالى عنهم بأنه زين لهم الحياة العاجلة أخبر عنهم بعد ذلك بفعل يديمونه فقال : ( ويسخرون من الذين آمنوا ( كابن مسعود وعمار وصهيب وغيرهم يقولون : هؤلاء المساكين تركوا طيبات الدنيا وتحملوا المتاعب لطلب الآخرة .
ولا يخفى أنه لو بطل حديث المعاد لكان لهذه السخرية وجه ، لكنه لو ثبت القول بالمعاد وصح كانت السخرية منقلبة عليهم لأنهم أعرضوا عن الملك الأبدي والنعيم المقيم بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة فلهذا قال سبحانه ) والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ( أما بالمكان فلأنهم في عليين وهم في سجين ، وأما بالرتبة والشرف فلأنهم في معارج الأنس وهم في هاوية الهوان .
ويحتمل أن يراد أنهم فوقهم بالحجة لأن حجج الكفار وشبههم كان تؤثر بوسوسة الشيطان ، وبمجرد استبعاد أمر المعاد وحجج المتقين يوم القيامة تستند إلى العيان وبمدد الرحمن ) ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم ) [ الأعراف : 44 ] أو يراد أن سخرية المؤمنين بالكافرين يوم القيامة لكونها حقة وباقية فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا لكونها باطلة ومنقضية .
وفي قوله ) والذين اتقوا ( دون أن يقول آمنوا كما قال : ( من الذين آمنوا ( بعث على التقوى وأن كرامة المؤمن منوطة بها .
) والله يرزق من يشاء بغير حساب ( بغير تقدير .
وذلك أن الكفار كانوا يستدلون بحصول الزخارف الدنيوية لهم على أنهم على الحق وبحرمان فقراء المؤمنين عنها على أنهم على الباطل ، فرد الله تعالى عليهم قولهم بأن ذلك متعلق بمحض المشيئة ، وقد يستتبع غاية هي الاستدراج في حق الكافر والابتلاء في حق المؤمن ، أو يرزق من يشاء من مؤمن وكافر بغير حساب يكون لأحد عليه ولا مطالبة ولا سؤال سائل ، فالأمر أمره والحكم حكمه ولا يسأل عما يفعل .
أو من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل ( إذا جاءه ما لم يكن قد قدره ما كان هذا في حسابي ) والمعنى أن الكفار وإن كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين فلعل الله تعالى يرزق المؤمنين من حيث لم يحتسبوا ، ولقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود ، ويسر لهم الفتوح حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر ، أو المراد أن ما يرزق العبد في الدنيا من الدنيا فلحرامها عذاب ولحلالها حساب ، وما يرزق العبد في الآخرة من النعيم المقيم فبغير عذاب وبغير حساب .
ويحتمل أن يخص الرزق في الآية بالمؤمنين في الآخرة ، وعلى هذا يكون معنى ) بغير(1/585)
" صفحة رقم 586 "
حساب ( أي رزقاً واسعاً وغذاء لا فناء له ولا انقطاع ولا حصر كقوله ) يرزقون فيها بغير حساب ) [ غافر : 40 ] أو يقال : إن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها تفضل كما قال ) فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ) [ النساء : 173 ] فالفضل بلا حساب إذ الحساب إنما يحتاج إليه إذا كان بحيث إذا أعطى شيئاً ينقص قدر الواجب عما كان والثواب ليس كذلك ، فإنه بعد انقضاء الأدوار والأعصار يكون الثواب المستحق بحكم الوعد والفضل باقياً .
فعلى هذا لا يتطرق الحساب ألبتة إلى الثواب .
أو أراد أن الذي يعطى لا نسبة له إلى ما في خزائن ملكه وقدرته ، فلا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي .
أو معنى بغير حساب بغير استحقاق ، وإنما يعطى بمجرد الفضل والإحسان .
أو معناه أنه يزيد على قدر الكفاية إلى عشرة بل سبعمائة من قولهم ( فلان ينفق بالحساب ) إذا كان لا يزيد على قدر الكفاية .
أو أنه لا يخاف نفاد ما عنده فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه .
قوله سبحانه ) كان الناس أمة واحدة ( الآية .
فيه إشارة إلى أن التباغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا وطيباتها لا يختص بهذا الزمان ، وإنما ذلك داء قديم في الإنسان .
ثم الأمة الواحدة كانوا على الحق أو على الباطل فيه للمفسرين أقوال : الأول : أنهم كانوا على الحق واختاره المحققون لوجوه منها : قوله تعالى ) ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ( وهذا يدل على أن النبيين عليهم السلام بعثوا حين الاختلاف وصيرورة بعضهم مبطلاً ، ولو كانوا قبل ذلك مجتمعين على الكفر لكان بعث الأنبياء إليهم حينئذ أولى .
ومنها النقل المتواتر إن آدم وأولاده كانوا مسلمين مطيعين لله تعالى إلى أن قتل قابيل هابيل حسداً وبغياً .
وعن ابن عباس أنه كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة من الحق .
ومنها أن وقت الطوفان لم يبق إلا أهل السفينة وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح ، فلعل الناس إشارة إليهم .
ومنها أن الدين الحق يتوقف على النظر ، والنظريات مستندة بالآخرة إلى مقدمات تعلم صحتها بضرورة العقل وإلى ترتيب .
كذلك فالعقل السليم لا يغلط لو لم يعرض له سبب من خارج ، فالصواب له بالذات والخطأ بالعرض وما بالذات أقدم مما بالعرض بحسب الاستحقاق وبحسب الزمان أيضاً .
فالأولى أن يقال : كان الناس على الحق ثم اختلفوا لأسباب خارجة كالبغي والحسد ويؤيده قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجسانه ) .(1/586)
" صفحة رقم 587 "
القول الثاني : وهو مروي عن ابن عباس والحسن وعطاء أنهم كانوا على الباطل لأن بعثة الأنبياء مترتبة على ذلك ، ولو كانوا على الحق لم يحتج إلى بعثتهم .
ولو قيل : إن تقدير الآية فاختلفوا فبعث الله كما قرأ به ابن مسعود ، فالأصل عدم الإضمار ، والقراءة الشاذة لا يعتد بها .
ومتى كان الناس متفقين على الكفر ؟ قالوا : من وفاة آدم إلى زمان نوح عليه السلام .
كانوا كفاراً بحكم الأغلب وإن كان فيهم بعض المسلمين كهابيل وشيث وإدريس عليهم السلام كما يقال : دار الكفر وإن كان فيها مسلمون .
القول الثالث : عن أبي مسلم والقاضي أبي بكر أنهم كانوا أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية وهي الاعتراف بوجود الصانع وصفاته والاشتغال بخدمته وشكر نعمته والاجتناب عن القبائح العقلية كالظلم والكذب والعبث .
واحتجا بأن لفظ النبيين جمع معرف فيفيد العموم ، والفاء توجب التعقيب فيعلم من ذلك أن تلك الواحدة متقدمة على جميع الشرائع ، فلا تكون الاستفادة من العقل ، ثم سأل القاضي نفسه فقال : أوليس أول الناس آدم وأنه كان نبياً مبعوثاً ؟ وأجاب بأنه يحتمل أن يكون مع أولاده متمسكين بالشرائع العقلية أولاً ، ثم إن الله تعالى بعثه إلى أولاده .
ويحتمل أن شريعته قد صارت مندرسة ثم رجع الناس إلى الشرائع العقلية .
القول الرابع : التوقف فلا دلالة في الآية على أنهم كانوا محقين أو مبطلين .
القول الخامس : أن المراد من الناس أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى عليه السلام ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد فبعث الله النبيين ومعهم الكتب كما بعث داود ومعه الزبور وعيسى ومعه الإنجيل ومحمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه الفرقان لتكون تلك الكتب حاكمة في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها .
وهذا القول يوافق قول من قال : إن الخطاب في ) يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم ( لأهل الكتب .
فيراد بالناس إذن ناس معهودون .
ثم إنه تعالى وصف النبيين بصفات ثلاث : الأولى : كونهم مبشرين ، والثانية : كونهم منذرين وقدمت البشارة على الإنذار لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة ، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض .
أو الأول لكونه مقصود الغذاء ، والثاني كتناول الدواء .
والأول لكونه مقصوداً بالذات مقدم على الثاني لأنه مقصود بالعرض .
الصفة الثالثة : قوله ) وأنزل معهم الكتاب بالحق ( وفي قوله ( معهم ) والضمير يعود إلى عامة النبيين دليل على أنه لا نبي إلا ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق والباطل ، طال ذلك الكتاب أم قصر ، ودوّن ذلك الكتاب أو لم يدوّن ، معجزاً كان أو غير معجز .
قيل : إنزال الكتاب قبل وصول الأمر والنهي إلى المكلفين ، ووصول الأمر والنهي إليهم قبل التبشير والإنذار ، فلم قدم التبشير والإنذار على إنزال الكتاب ؟(1/587)
" صفحة رقم 588 "
وأجيب بأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة بالله وترك الظلم وغيرهما ، وبأن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق .
وفي الفرق بين العجز والسحر إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقاً للعقاب والخوف إنما يقوى عند التبشير والإنذار فلهذا قدم ذكرهما على إنزال الكتاب .
قلت : فيه فائدة أخرى لفظية هي أن لا يقع فاصلة كثيرة بين الثالثة وبين الأولين ، أو بين الثالثة وبين ما رتب عليها من قوله ) ليحكم ( أي الكتاب لأنه أقرب .
ولا محذور في نسبة الحكم إليه تجوزاً كما لا محذور في كونه هدى وشفاء .
واللام للجنس ، أو أريد مع كل واحد كتابه .
وقيل : ليحكم الله لأنه الحاكم في الحقيقة لا الكتاب وقيل : ليحكم النبي المنزل عليه بين الناس ) فيما اختلفوا فيه ( أي في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق ، أو في كل ما اختلفوا فيه ولم يعرفوا وجه الصواب في ذلك بحسب حكم الله ) وما اختلف فيه ( في الحق ) إلا الذين أوتوه ( أي أعطوا الحق وأدّوه لمباشرة أسبابه القريبة التي هي مجيء البينات .
وقيل : الضمير للكتاب أي إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف .
كأنهم عارضوا الكتاب بنقيض ما أنزل لأجله ، أنزل لئلا يختلفوا فزادوا في الاختلاف .
وفيه دليل على أن الاختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء ، وإنزال الكتب كما مر في القول الأول .
وقال كثير من المفسرين : المراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى .
واختلافهم إما تكفير بعضهم بعضاً ، وإما تحريفهم أو تبديلهم ) من بعد ما جاءتهم البينات ( يحتمل أن يكون كالبيان لإيتاء الكتاب أي وما اختلف فيه من اختلف إلا من بعد مجيء البينات التي هي الكتب كقوله تعالى ) وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) [ البينة : 4 ] ويحتمل أن تكون هذه البينات مغايرة لإيتاء الكتاب ويعني بها الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى إثبات الأصول التي لا يمكن إثباتها بالدلائل السمعية ، وإذا حصلت الدلائل العقلية والسمعية لم يكن في العدول عذر ولا علة ، ولو حصل الإعراض كان سببه بغياً بينهم وحسداً وظلماً لحرصهم على الدنيا ولقلة الإنصاف وكثرة الاعتساف ، و ) من الحق ( بيان لما اختلفوا فيه أي فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف .
واللام بمعنى ( إلى ) أي هداهم إلى ما اختلفوا فيه كقوله تعالى ) ثم يعودون لما قالوا ) [ المجادلة : 3 ] أي إلى ما قالوه ) بإذنه ( قال الزجاج : بعلمه .
وقيل : بأمره فبالأمر يحصل التمييز بين الحق والباطل فتحصل الهداية .
وقيل : في الآية إضمار أي فهداهم فاهتدوا بإذنه إذ لا جائز أن يأذن لنفسه ) والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( هو الحق الموصل إلى كمال الدارين ، أو هو طلب الجنة .
ولما كان ذلك الحق أو الطلب لا(1/588)
" صفحة رقم 589 "
يتأتى إلا باحتمال شدائد التكليف وأعباء الإرشاد والتعليم قال سبحانه : ( أم حسبتم ( على طريقة الالتفات التي هي أبلغ تشجيعاً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين على الثبات والصبر مع المخالفين من أهل الكتاب والمشركين ، فإن من كان نظره أعلى في مراتب قرب المولى فبلاؤه أقوى وهو بالابتلاء أولى .
قال في الكشاف : ( أم ) منقطعة ومعنى الهمزة فيها التقرير وإنكار الحسبان واستبعاده .
وقال القفال رضي الله عنه : تقدير ا لآية : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه حين صبروا على استهزاء قومهم أفتسلكون سبيلهم أم تحسبون ) أن تدخلوا الجنة ( من غير سلوك سبيلهم ) ولما يأتكم ( فيه معنى التوقع .
وفيه دليل على أن الإيتاء متوقع منتظر .
عن ابن عباس : لما دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة اشتد الضرر عليهم لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين ، وأظهرت اليهود العداوة له فأنزل الله تعالى تطييباً لقلوبهم ) أم حسبتم ( وقال قتادة والسدي : نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والخوف وكان كما قال سبحانه ) وبلغت القلوب الحناجر ) [ الأحزاب : 10 ] وقيل : نزلت في حرب أحد لما قال عبد الله ابن أبي لأصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى متى تقتلون أنفسكم وتنصرون الباطل ؟ لو كان محمد نبياً ما سلط الله عليكم الأسر والقتل .
والمعنى أم حسبتم أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة بمجرد الإيمان بي والتصديق لرسولي دون أن تعبدوا الله بكل ما تعبدكم به وابتلاكم بالصبر عليه ، وأن ينالكم من أذى الكفار ، ومن احتمال الفقر والفاقة ومكابدة الضر والبؤس في المعيشة ومقاساة الأهوال في جهاد العدو كما نال ذلك من قبلكم من المؤمنين ؟ و ) مثل الذين خلوا ( حالهم التي هي مثل في الشدة و ) مستهم ( بيان للمثل وهو استئناف كأن قائلاً قال : كيف كان ذلك المثل ؟ فقيل : مستهم ) البأساء ( وهي عبارة عن تضييق جهات الخير والمنفعة عليه ) والضراء ( وهي إشارة إلى انفتاح أبواب الشر والآفة إليه ) وزلزلوا ( حركوا وأزعجوا بأنواع البلايا والرزايا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة وهي من زل الشيء عن مكانه ، والتضعيف في اللفظ للتضعيف في المعنى .
وقيل : معناه خوّفوا وليس ببعيد ، لأن الخائف لا يستقر بل يضطرب لقلقه ولهذا لا يقال ذلك إلا في الخوف المقيم المقعد .
ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك شيئاً هو الغاية في الدلالة على كمال الضر والبؤس والمحنة فقال : ( حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ( لأن الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك غاية في الشدة لا مطمح وراءها .
من قرأ ( يقول ) بالنصب فعلى إضمار أن ، ومعنى الاستقبال بالنظر إلى ما قبل ( حتى ) وإن لم يكن مستقبلاً عند الإخبار .
ومن رفع فعلى الحال الماضية المحكية كقولهم ( شربت(1/589)
" صفحة رقم 590 "
الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه ) ) ألا إن نصر الله قريب ( أي فقيل لهم ذلك إجابة إلى طلبتهم ، فكونوا أنتم معاشر المؤمنين كذلك في تحمل الأذى والمتاعب في طلب الحق ، فإن نصر الله قريب لأنه آتٍ وكل ما هو آتٍ قريب ، والحاصل أن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان ينالهم من المشركين والمنافقين أذى كثير ، ولما أذن لهم في القتال نالهم من الجراح وذهاب الأموال والأنفس ما لا يخفى فعزاهم تعالى في ذلك ، وبيَّن أن حال من قبلهم في طلب الدين كان ذلك ، والمصيبة إذا عمت طابت .
وذكر الله تعالى من قصة إبراهيم عليه السلام وإلقائه في النار ، ومن أمر أيوب عليه السلام وما ابتلاه به ، ومن أمر سائر الأنبياء في مصابرتهم على أنواع المكاره ما صار ذلك سلوة للمؤمنين .
روى خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا .
فقال ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء غلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ) .
وههنا سؤال ، وهو أنه كيف يليق بالرسول القاطع بصحة وعد الله ووعيده أن يقول على سبيل الاستبعاد : مت نصر الله ؟ والجواب أن كونه رسولاً لا يمنع من أن يتأذى من كيد الأعداء ، فإذا ضاق قلبه وقلت حيلته وكان قد سمع من الله تعالى أنه ينصره إلا أنه ما عين له ذلك الوقت قال : - عند ضيق قلبه - متى نصر الله ؟ حتى إنه إذا علم قرب الوقت زال همه وطاب وقته ، ولهذا أجيب بأن نصر الله قريب لا بأن نصر الله كائن .
وهذا الجواب يحتمل أن يكون من الله ، ويحتمل أن يكون قولاً لقوم منهم إذا رجعوا إلى أنفسهم وعلموا أن الله لا يخلف الميعاد .
وقيل : إنه تعالى أخبر عن الرسول والذين آمنوا أنهم قالوا قولاً ثم ذكروا كلامين : أحدهما متى نصر الله ، والثاني ألا إن نصر الله قريب .
فهذا الثاني قول الرسول ، والأول قول المؤمنين كقوله ) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) [ القصص : 73 ] والمعنى لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله بالنهار .
ثم في الآية دليل على أن كل من لحقه شدة يجب أن يعلم أنه سيظفر بزوالها لأنه إما أن يتخلص عنها وإما أن يموت ، وإذا مات فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ولا يضيع حقه وذلك من أعظم النصرة .
اللهم انصرنا من عندك فإنك نعم المولى ونعم النصير .
التأويل : إنه تعالى إذا فتح باب الملكوت على قلب عبد من خواصه يريد آياته وكراماته ، فإن اغتر بأحواله تعجب بكماله فيضل على حظوظ النفس ويبدل نعمة الله(1/590)
" صفحة رقم 591 "
بموافقتها ورضاها فإن الله شديد العقاب بأن يغير أحواله ويسلب عنه كماله .
) كان الناس أمة واحدة ( على الحق وعلى الفطرة يوم الميثاق ) وأنزل معهم الكتاب ( الذي جف به القلم للسعادة أو الشقاوة كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ما من نفس منفوسة غلا قد كتب مكانها من الجنة أو النار ( ) وما اختلف ( كل فريق إلا وقد أوتوا السعادة أو الشقاوة في حكم الله وقضائه ، ولكن ما حصلت السعادة والشقاوة للفريقين إلا من بعد البينات وهي معاملاتهم فبها يتبين السعيد من الشقي وبالعكس ، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع المآب .
( البقرة : ( 215 - 218 ) يسألونك ماذا ينفقون . . . .
" يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم " ( الوقوف : ( ينفقون ( ط ) السبيل ( ط للابتداء بالشرط ) عليم ( 5 ) كره لكم ( ج ) خير لكم ( ج لتفصيل الأحوال ) شر لكم ( ط ) لا تعلمون ( 5 ) قتال فيه ( ط ) كبير ] ط على أن قوله ( وصدّ ) مبتدأ وما بعده معطوف عليه ، وقوله ( أكبر عند الله ) خبره ، وقد يقال : ( وصد ) عطف على ( كبير ) أي القتال فيه كبير ، وسبب صد عن سبيل الله وكفر بالله تعالى وبنعمة المسجد الحرام ، أو صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام فيوقف ههنا ، ويجعل ( وإخراج أهله ) مبتدأ .
وقيل : ( وصد ) عطف الوقف على ( سبيل الله ) .
و ( كفر به ) مبتدأ .
والوجه هو الأول لانتظام المعنى أي القتال منا وإن كان كبيراً ولكن الصد والكفر والإخراج التي كانت منكم ) أكبر من القتل ( ط ) استطاعوا ( ط ) والآخرة ( ج لأن الجملتين وإن اتفقنا فتكرار ( أولئك ) ينبه على الابتداء مبالغة في تعظيم الأمر ) النار ( ج ) خالدون ( 5 ) في سبيل الله ( لا لأن ما بعده خبر ( إن ) ) رحمة الله ( ط ) رحيم ( 5 .
المستقبل على المستقبل .
) يتذكرون ( 5 .
التفسير : إنه سبحانه لما بالغ في وجوب الإعراض عن العاجل والإقبال على الآجل بكل ما يمكن من الدخول في السلم وبذل المهج والأموال والصبر على مواجب التكاليف والدعاء إلى الدين القويم انتظاراً لنصرة الله ، شرع بعد ذلك في بيان الأحكام وهو من هذه الآية(1/591)
" صفحة رقم 592 "
إلى قوله ) ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ) [ البقرة : 243 ] جرياً على سننه المرضى من خلط بيان التوحيد وذكر النصيحة والوعظ ببيان الأحكام ، ليكون كل منهما مؤكداً للآخر .
الحكم الأول : بيان مصرف الإنفاق ) يسئلونك ماذا ينفقون ( عن ابن عباس : نزلت الآية في رجل أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إن لي ديناراً فقال ( أنفقه على نفسك ) .
فقال : إن لي دينارين .
فقال ( أنفقهما على أهلك ) .
فقال : إن لي ثلاثة فقال ( أنفقها على خادمك ) .
فقال : إن لي أربعة قال ( أنفقها على والديك ) .
قال : إن لي خمسة قال ( أنفقها على قرابتك ) .
قال : إن لي ستة .
قال ( أنفقها في سبيل الله وهو أخسها أي أقلها ثواباً ) .
وعنه في رواية أبي صالح أنها نزلت في عمرو بن الجموح وهو الذي قتل يوم أحد وكان شيخاً كبيراً هرماً وعنده ملك عظيم فقال : ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها ؟ أما بحث ( ماذا ) فقد تقدم في قوله ) ماذا أراد الله بهذا مثلاً ) [ المدثر : 31 ] وأما أن القوم سألوا عما ينفقون لا عمن تصرف النفقة إليهم فكيف طابق قوله في الجواب ) قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين ( الآية .
فالوجه فيه أنه حصل في الآية ما يكون جواباً عن السؤال ، وضم إليه زيادة بها يكمل المقصود .
وذلك أن قوله ) ما أنفقتم من خير ( تضمن بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا إذا صرفت إلى جهة الاستحقاق .
وقال القفال : السؤال وإن كان وارداً بلفظ ( ما ) إلا أن المقصود هو الكيفية .
فمن المعلوم لهم أن الذي أمروا بإنفاقه مال يخرج قربة إلى الله تعالى ، وحينئذ يكون الجواب مطابقاً للسؤال كما طابق قوله ) إنها بقرة لا ذلول ) [ البقرة : 71 ] سؤالهم عن البقرة ما هي ، حيث كان من المعلوم أن البقرة بهيمة شأنها كذا وكذا ، فتوجه الطلب إلى تعيين الصفة لا الماهية .
وقيل : إنهم لما سألوا هذا السؤال أجيبوا بأن السؤال فاسد ، أنفق أي شيء كان ولكن بشرط كونه مالاً حلالاً ومصروفاً إلى مصبه ، كما لو سأل شخص صحيح المزاج طبيباً حاذقاً أي طعام آكل ؟ والطبيب يعلم أنه لا يضره أكل الطعام أي طعام كان ، فيقول له : كل في اليوم مرتين أي كل ما شئت .
لكن بهذا الشرط ، فكذا ههنا المعنى لينفق أي شيء أراد ، لكن بشرط وهو أن يراعي الترتيب في الإنفاق فيقدم الوالدين لأنهما كالسبب لوجوده وقد ربياه صغيراً ، ثم الأقربين لأن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء ، الترجيح لا بدّ له من مرحج والقرابة تصلح للترجيح لأنه أعرف بحاله .
والإطلاع على غنى الغني مما يحمل المرء على الإنفاق .
وأيضاً لو لم يعطه قريبه احتج إلى الرجوع إلى غيره وذلك عار وشنار .
وأيضاً قريب المرء كجزء منه والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير ، ثم اليتامى لعدم قدرتهم على الاكتساب(1/592)
" صفحة رقم 593 "
لصغرهم ، ثم المساكين الذين هم غير اليتامى ، وأبناء السبيل لأنهم بسبب الاشتراك في دار الإقامة من أنفسهم ، ثم أبناء السبيل المنقطعون عن بلدهم ومالهم ما يتبلغون به إلى أوطانهم ، ) وما تفعلوا من خير ( من إنفاق شيء من مال بناء على أن الخير هو المال أو من كل ما يتعلق بالبر والطاعة طلباً لجزيل الثواب وهرباً من أليم العقاب .
) فإن الله به عليم ( فيجازيكم أحسن الجزاء .
عن السدي : أن الآية منسوخة بفرض الزكاة .
وقال المحققون : ويروى عن الحسن أنها ثابتة ، فقد يكون الإنفاق على الفروع والأصول واجباً ، ويحتمل أن يكون المراد : من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة تطوعاً فليراع هذا الترتيب .
قوله تعالى : ( كتب عليكم القتال ( كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غير مأذون له في القتال مدة إقامته بمكة ، فلما هاجر أذن في قتال من يقاتله من المشركين ، ثم أذن في قتال المشركين عامة ، ثم فرض الله تعالى الجهاد .
قال بعض العلماء : إن هذه الآية تقتضي وجوب القتال على الكل فرض عين لا كفاية .
أما الوجوب فمستفاد من لفظ الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة ، وقوله ( كتب ( وأما العموم فلأن قوله ) عليكم ( لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد كما في قوله ) كتب عليكم القصاص ) [ البقرة : 178 ] و ) كتب عليكم الصيام ) [ البقرة : 183 ] وعن مكحول أنه كان يحلف عند البيت بالله أن الغزو واجب .
وعن ابن عمر وعطاء أن قوله ) كتب ( يقتضي الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة ، وقوله ( عليكم ( يقتضي تخصيص هذا الكتاب بالموجودين في ذلك الوقت .
والعموم في ) عليكم الصيام ( مستفاد من دليل منفصل هو الإجماع .
وذلك الدليل معقود ههنا بل الإجماع منعقد على أنه من فروض الكفاية إلا أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين الجهاد حينئذ على الكل .
) وهو كره لكم ( ليس المراد أن المؤمنين ساخطون لأوامر الله تعالى فإن ذلك ينافي الإسلام ، وإنما المراد كون القتال شاقاً على النفس وهكذا شأن سائر التكاليف ، وكيف لا والتكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة وأنها في القتال أكثر لأن الحياة أعظم ما يميل إليه الطباع فبذلها ليس بهين ؟
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وأيضاً كراهتهم للقتال قبل أن فرض لما فيه من الخوف من كثرة الأعداء وإنارة نوائر الفتن ، فبيّن تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خير لكم من تركه للمصالح التي نذكرها .
والكره الكراهة وضع المصدر موضع الوصف مبالغة ، ويجوز أن يكون بمعنى ( مفعول ) كالخبز بمعنى المخبوز أي هو مكروه لكم .
وقرئ بالفتح بمعنى المضموم كالضعف والضعف ، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز كأنهم أكرهوا عليه لشدة(1/593)
" صفحة رقم 594 "
كراهتهم له أو مشقته عليهم كقوله تعالى ) حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً ( وقال بعضهم : الكره بالضم ما كرهته مما لم تكره عليه ، وإذا كان بالإكراه فبالفتح .
) وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ( فربما كان الشيء شاقاً عليكم في الحال وهو سبب لمنافع الجليلة في الاستقبال وبالضد ، ولهذا حسن شرب الدواء المر في الحال لتوقع حصول الصحة في الاستقبال ، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتحصيل الربح في المال ، وكذا تحمل المتاعب في طلب العلم للفوز بالسعادة العظمى في الدنيا والعقبى .
العلم أوله مر مذاقته
لكنّ آخره أحلى من العسل
وههنا كذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل وصون المال عن الإنفاق ، ولكن فيه أنواع من المفاسد والمضار أدناها تسلط الكفار واستيلاؤهم على ديار المسلمين ، وربما يؤدي إلى أن استباحوا بيضة الإسلام واستناخوا بحريمهم واستأصلوهم عن آخرهم .
وأما منافع الجهاد فمنها الظفر بالغنائم ، ومنها الفرح العظيم بالاستيلاء على العدو .
وأما ما يتعلق بالدين فالثبات عليه والثواب في الآخرة .
وترغيب الناس في الإسلام وإعلاء كلمة الله ، وتوطين النفس للفراق عن دار البلاء والانقطاع عن عالم الحس قال الخليل : ( عسى ) من الله واجب في القرآن .
قال : ( فعسى الله أن يأتي بالفتح ) [ المائدة : 52 ] وقد وجد ) عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً ) [ يوسف : 83 ] وقد حصل .
والتحقيق أن معنى الرجاء فيه يعود إلى المكلف وإن كان المرجو حاله معلوماً لله تعالى كما بينا في ( لعل ) ) والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( وذلك أن علمه تعالى فعلي يعلم الأسباب وما يترتب عليها ، والحوادث وما نشأت هي منها ، يحيط علمه بالمبادئ والغايات ) ا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات ) [ سبأ : 3 ] وعلمكم انفعالي فلعلكم تعكسون التصورات فتظنون المبادئ غايات وبالعكس ، والمصالح مفاسد وبالضد .
وفيه ترغيب عظيم في أداء وظائف التكاليف .
وتخويف شديد عن تبعة العصيان والمرود ، فإن الإنسان إذا تصور قصور نفسه وكمال علم الله تعالى علم أنه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيره وصلاحه ، فيلزم نفسه امتثاله وإن كرهه طبعه فكأنه تعالى يقول : يا أيها العبد ، علمي أكمل من علمك فكن مشتغلاً بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك وهواك .
فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة ) إني أعلم ما لا تعلمون ) [ البقرة : 30 ] الحكم الثاني في قوله سبحانه ) يسئلونك عن الشهر الحرام ( أكثر المفسرين على أن هؤلاء السائلين هم المسلمون حيث اختلج في صدورهم أن يكون الأمر بالقتال مقيداً بغير(1/594)
" صفحة رقم 595 "
الشهر الحرام والمسجد الحرام ، فسألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هل يحل لهم القتال في هذا الزمان وهذا المكان أم لا ؟ ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث عبد الله بن جحش - وهو ابن عمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمة المدينة ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين : سعد بن أبي وقاص الزهري ، وعكاشة بن محصن الأسدي ، وعتبة بن غزوان السلمي ، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسهيل بن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، وواقد بن عبد الله ، وخالد بن بكير .
وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وقال : سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين .
فإذا نزلت منزلتين فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك ، ولا تستكرهن أحداً من أصحابك على السير معك .
فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه ( بسم الله الرحمن الرحيم .
أما بعد ، فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل على بطن نخلة فترصد بها عير قريش ، لعلك أن تأتينا منه بخبر ) فلما نظر عبد الله في الكتاب قال : سمع وطاعة .
ثم قال لأصحابه ذلك وقال : إنه قد نهاني أن أستكره أحداً منكم .
حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع قد أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه فاستأذنا أن يتخلفا في طلب بعيرهما فأذن لهما فتخلفا في طلبه .
ومضى عبد الله ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة - بين مكة والطائف - فبينما هم كذلك مرت بهم عيرٍ لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارة الطائف ، فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله المخزوميان .
فلما رأوا أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هابوهم فقال عبد الله بن جحش : إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منك فليتعرض لهم ، فإذا رأوه محلوقاً أمنوا وقالوا : قوم عمار .
فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم فقالوا : قوم عمار لا بأس عليكم فأمنوهم .
وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة ، وكانوا يرون أنه من جمادى وهي رجب .
فتشاور القوم فيهم وقالوا : لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم .
فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم ، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله فكان أول قتيل من المشركين .
واستأسر الحكم وعثمان فكان أول أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل فأعجزهم .
واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة ، فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام شهراً يأمن فيه الخائف ويذعر فيه الناس لمعايشهم .
سفك فيه الدماء وأخذ فيه الحرائب وعيّر بذلك أهل مكة من كان فيها من المسلمين .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لابن جحش وأصحابه ( ما أمرتكم بالقتال في الشهر(1/595)
" صفحة رقم 596 "
الحرام ، ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً .
فعظم ذلك على أصحاب السرية وظنوا أن قد هلكوا وسقطوا في أيديهم وقالوا : يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى وأكثر الناس في ذلك فنزلت ) يسئلونك عن الشهر الحرام ( فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) العير فعزل منها الخمس فكان أول خمس ، وقسم الباقي بين أصحاب السرية فكان أول غنيمة في الإسلام .
وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم فقال : بل نقفهما حتى يقدم سعد وعتبة ، وإن لم يقدما فتلناهما بهما .
فلما قدما فأداهما .
فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيداً ، وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافراً ، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعاً وقتله الله ، وطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية ) .
وقيل : إن هذا السؤال كان من الكفار ، سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن القتال في الشهر الحرام حتى لو أخبرهم بأنه حرام استحلوا قتاله فيه فنزلت ) يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه ( خفض على أنه بدل الاشتمال من الشهر .
وفي قراءة ابن مسعود ) عن قتال فيه ( بتكرير العامل .
وقرأ عكرمة ) قتل فيه قل قتال فيه كبير ( أي عظيم مستنكر كما يسمى الذنب العظيم كبيرة .
وإنما جاز وقوع قتال مبتدأ لكونه موصوفاً بالظرف .
فإن قيل : كيف نكّر القتال في قوله تعالى ) قل قتال ( ومن حق النكرة إذا تكررت أن يكون المذكور ثانياً معرفاً مشاراً به إلى الأول وإلا كان الثاني مغايراً للأول ؟ قلنا : لأن المراد بالقتال الأول الذي سألوا عنه القتال الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش .
فلو جيء بالثاني معرفاً لزم أن يكون ذلك من الكبائر ، مع أن الغرض منه كان نصرة الإسلام وإعلاء كلمته ، فاختير التنكير ليكون تنبيهاً على أن القتال المنهي عنه هو الذي فيه تقوية الكفر وهدم قواعد الدين لا الذي سألوا عنه .
ثم الجمهور اتفقوا على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ، وهل بقي ذلك الحكم أو نسخ ؟ عن ابن جريج أنه قال : حلف لي بالله عطاء أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا على سبيل الدفع .
وروى جابر قال : لم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى .
وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام ؟ قال : نعم .
قال أبو عبيد الله : والناس بالثغور اليوم جميعاً على هذا القول ، يرون الغزو مباحاً في الأشهر الحرم كلها ، ولم أر أحداً من علماء الشام والعراق ينكره عليهم .
وكذلك أحسب قول أهل الحجاز والحجة في إباحته .
قوله تعالى ) فاقتلوا(1/596)
" صفحة رقم 597 "
المشركين حيث وجدتموهم ) [ التوبة : 5 ] ويمكن أن يقال أن قوله ) قتال فيه كبير ( نكرة في حين الإثبات فيتناول فرداً واحداً لا كل الأفراد ، فلا يلزم منه تحريم القتال في الشهر الحرام مطلقاً ، فلا حاجة فيه إلى تقدير النسخ والله أعلم .
) وصدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ( من القتال في الأشهر الحرم فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنه ظن أنه في جمادى الآخرة ؟ واعلم أن قوله ) وصد ( قد مر وجوه إعرابه في الوقوف .
أما قوله : ( والمسجد الحرام ( فقيل : إنه معطوف على الهاء في ( به ) عند من يجوز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، كقراءة حمزة ) تساءلون به والأرحام ) [ النساء : 1 ] بالخفض .
والكفر بالمسجد الحرام منع الناس عن الصلاة فيه والطواف به وقيل : إنه معطوف على سبيل الله أي صد عن سبيل الله وصد عن المسجد الحرام .
واعترض بأنه يلزم الفصل بين صلة المصدر الذي هو الصد ، وبين المصدر بالأجنبي الذي هو قوله ) وكفر به ( وأجيب بأن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى ، فكأنه لا فصل وبأن التقديم لفرط العناية مثل ) ولم يكن له كفواً أحد ) [ الإخلاص : 4 ] وكان حق الكلام ( ولم يكن أحد كفواً له ) .
وقيل : والمسجد الحرام عطف على الشهر الحرام أي يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام عطف على الشهر الحرام أي يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام وهذا قول الفراء وأبي مسلم .
وقيل : الواو في ( والمسجد الحرام ) للقسم .
والصد عن سبيل الله هو المنع عن الإيمان بالله وبمحمد أو عن الهجرة .
وقيل : منعهم المسلمين عام الحديبية عن عمرة البيت وزيف بأن الآية نزلت قبل غزوة بدر كما مر في قصة ابن جحش .
وعام الحديبية كانت بعد غزوة بدر .
وأجيب بأن معلوم الله كالواقع .
والمراد بإخراج أهله ، إخراج المسلمين من مكة .
وإنما جعلهم أهلاً له إذ كانوا هم القائمين بحقوق المسجد ولهذا قال عز من قائل ) وكانوا أحق بها وأهلها ) [ الفتح : 26 ] وإنما كانت هذه الأمور أكبر لأن كل واحد منها كفر والكفر أعظم من القتال .
وأيضاً إنها أكبر من قتال في الشهر الحرام وهو قتال عبد الله بن جحش ، ولم يكن قاطعاً بأنه وقع في الشهر الحرام .
وأما الكفار فيعلمون بأن هذه الأمور تصدر عنهم في الشهر الحرام ) والفتنة ( أي الشرك ، أو إلقاء الشبهات في قلوب المؤمنين أو التعذيب كفعلهم ببلال وصهيب وعمار .
) أكبر من القتل ( لأن الفتنة تفضي إلى القتل في الدنيا وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة ، فيصح أن الفتنة أكبر من القتل ، فضلاً عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل ابن الحضرمي .
يروى أنه لما نزلت الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكة ( إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام ) ) ولا يزالون(1/597)
" صفحة رقم 598 "
يقاتلونكم ( إخبار عن استمرار الكفار على عداوة المسلمين ) حتى يردوكم عن دينكم ( كي يرودكم عنه كقولك ( أسلمت حتى أدخل النة ) بمعنى كي أدخل .
ويجوز أن يكون بمعنى ( إلى ) كقوله ) ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) [ البقرة : 120 ] وقوله ( إن استطاعوا ( استبعاد لاقتدارهم كقول الرجل لعدوّه وهو واثق بأنه لا يظفر به ( إن ظفرت بي فلا تبقِ عليّ ) ) ومن يرتدد ( ومن يرجع ) منكم عن دينه فيمت وهو كافر ( باق على الردة ) فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ( أما في الدنيا فلما يفوته من فوائد الإسلام العاجلة فيقتل عند الظفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصراً ولا ثناء حسناً وتبين زوجته منه ويحرم الميراث ، وأما في الآخرة فيكفي في تقريره قوله ) وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( واعلم أن الردة أغلظ أنواع الكفر حكماً ، وأنها تارة تحصل بالقول الذي هو كفر كجحد مجمع عليه ، وكسبّ نبي من الأنبياء .
وأخرى بالفعل الذي يوجب استهزاء صريحاً بالدين كالسجود للشمس والصنم وإلقاء المصحف في القاذورات .
وكذا لو اعتقد وجوب ما ليس بواجب .
ويشترط في صحة الردة التكليف ، فلا تصح ردة الصبي والمجنون .
وههنا بحث أصولي وهو أن جماعة من المتكلمين ذهبوا إلى أن شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة .
فالإيمان لا يكون إيماناً إلا إذا مات المؤمن عليه ، والكفر لا يكون كفراً إلا غذا مات الكافر عليه .
لأن من كان مؤمناً ثم ارتد - والعياذ بالله - فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيماناً في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي .
فإما أن يبقي الاستحقاقان وهو محال ، وإما أن يقال إن الطارئ يزيل السابق وهو أيضاً محال ، لأنهما متنافيان وليس أحدهما أولى بالتأثير من الآخر ، بل السابق بالدفع أولى من اللاحق بالرفع لأن الدفع أسهل من الرفع .
وأيضاً شرط طريان الطارئ زوال السابق .
فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارئ لزم الدور .
وبحث فروعي : وهو أن المسلم إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في الوقت فعند الشافعي : لا إعادة عليه لأن شرط حبوط العمل أن يموت على الردة لقوله تعالى عطفاً على الشرط ) فيمت وهو كافر ( وعند أبي حنيفة لزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج لما جاء في موضع آخر مطلقاً ) ولو أشركوا الحبط عنهم ما كانوا يعملون ) [ الأنعام : 88 ] والحبط في اللغة أن تأكل الإبل شيئاً يضرها فتعظم بطونها فتهلك .
وفي الحديث ( وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم ) سمي بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء بسبب ورود المفسد عليه .(1/598)
" صفحة رقم 599 "
ولا شك أن المراد من إحباط العمل ليس هو إبطال نفس العمل ، لأن العمل شيء كما وجد فني وزال وإعدام المعدوم محال .
فقال المثبتون للإحباط والتكفير : المعنى أن عقاب الردة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السابق .
إما بشرط الموازنة كما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة ، أو لا بشرط الموازنة كما هو مذهب أبي علي .
وقال المنكرون للإحباط : المراد بالإحباط الوارد في كتاب الله تعالى هو أن المرتد إذا أتى بالردة فتلك الردة عمل محبط لا يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق ثواباً ، فمعنى حبط عمله أنه أتى بعمل ليس فيه فائدة ، بل فيه مضرة عظيمة ، أو المراد أنه تبين أن أعماله السابقة لم تكن معتداً بها شرعاً .
وروي أن عبد الله بن جحش وأصحابه حين قتلوا ابن الحضرمي ظن قوم أنهم إن سلموا من الإثم لم يكن لهم أخر فنزلت ) إن الذين آمنوا ( الآية .
لأن عبد الله كان مؤمناً وكان مهاجراً وصار بسبب هذا القتال مجاهداً .
وقيل : إنه تعالى لما أوجب الجهاد بقوله ) كتب عليكم القتال ( وبين أن تركه سبب للوعيد ، أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال ) إن الذين آمنوا ( الآية ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد .
ومعنى هاجروا فارقوا أوطانهم وعشائرهم من الهجر الذي هو ضد الوصل .
والهجر الكلام القبيح لأنه مما ينبغي أن يهجر .
وجاز أن يكون المراد أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين وهو أيضاً هجرهم بهذا السبب فكان ذلك مهاجرة .
والمجاهدة من الجهد بالفتح الذي هو المشقة ، أو من الجهد بالضم الطاقة لأنه يبذل الجهد في قتال العدو عند فعل العدو مثل ذلك ، ويجوز أن يكون معناها ضم جهده إلى جهد أخيه في نصرة دين الله كالمساعدة ضم ساعده إلى ساعد أخيه لتحصيل القوة ) أولئك يرجون رحمة الله ( يحتمل أن يكون الرجاء بمعنى القطع واليقين ولكن في أصل الثواب ، والظن إنما دخل في كميته وكيفيته وفي وقته .
ويحتمل أن يراد المنافع التي يتوقعونها ، فإن عبد الله بن جحش ما كان قاطعاً بالثواب في عمله بل كان يظن ظناً ، وإنما جعل الوعد معلقاً بالرجاء ليعلم أن الثواب على الإيمان والعمل غير واجب ، وإنما ذلك بفضله ورحمته كما هو مذهبنا .
ولو وجب أيضاً صح لأنه متعلق بأن لا يكفر بعد ذلك وهذا الشرط مشكوك .
وأيضاً المذكور ههنا هو الإيمان والهجرة والجهاد .
ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال والتوفيق فيها مرجو من الله .
وأيضاً المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع هذه الخصال مستقصرين أنفسهم في نصرة دين الله ، فيقدمون عليه راجين رحمته خائفين عقابه ) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ) [ المؤمنون : 60 ] .
) والله غفور رحيم ( يحقق لهم رجاءهم إن شاء بعميم فضله وجسيم طوله .
عن(1/599)
" صفحة رقم 600 "
قتادة : هؤلاء خيار هذه الأمة .
ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وإنه من رجا طلب ومن خاف هرب .
وقال شاه الكرماني : علامة الرجاء حسن الطاعة .
وقيل : الرجاء رؤية الجلال بعين الجمال .
وقيل : قرب القلب من ملاطفة الرب .
روي عن لقمان أنه قال لابنه : خف الله تعالى خوفاً لا تأمن فيه مكره ، وأرجه رجاء أشد من خوفك .
قال : فكيف أستطيع ذلك وإنما لي قلب واحد ؟ قال : أما علمت أن المؤمن كذي قلبين يخاف بأحدهما ويرجو بالآخر ؟ وهذا لأنهما من حكم الإيمان وهما للمؤمن كالجناحين للطائر ، إذا استويا استوى الطير وتم في طيرانه .
ومن هنا قيل : لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا .
( البقرة : ( 219 - 221 ) يسألونك عن الخمر . . . .
" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون "
( القراآت )
إثم كبير ( بالثاء المثلثة : حمزة وعلي .
الباقون : بالباء .
) قل العفو ( بالرفع أبو عمرو .
الباقون : بالنصب .
) لأعنتكم ( بغير همز : روى أبو ربيعة عن أصحابه .
وعن حمزة وجهان في الوقف ترك الهمزة لبيان المذهب ، والهمز ليدل على أصل الكلمة .
الوقوف : ( والميسر ( ط ) للناس ( ز قد يجوز مع اتفاق الجملتين تنبيهاً على أن بيان الثانية أهم من الأولى ) من نفعهما ( ط ) ينفقون ( ط ) العفو ( ط ) يتفكرون ( لا لتعلق الجار .
) والآخرة ( ط ) اليتامى ( ط ) خير ( ط ) فإخوانكم ( ط ) المصلح ( ط ) لأعنتكم ( ط ) حكيم ( 5 ) يؤمنّ ( ط لأجل لام الابتداء بعده ) أعجبتكم ( ج لوقوع العارض وإن اتفقت الجملتان ) يؤمنوا ( ط ) أعجبكم ( ط ) إلى النار ( ج والوصل أجوز لأن مقصود الكلام بيان تفاوت الدعوتين مع اتفاق الجملتين ، ومن وقف أراد الفصل بين ذكر الحق والباطل ) بإذنه ( ج لأن جملة ( والله يدعو ) تقابل الجملة الأولى فلم يكن قوله ( ويبين آياته ) من تمامها إذ ليس في الجملة الأولى ذكر بيان ، ومن وصل فلعطف المستقبل على المستقبل ) يتذكرون ( ( 5 ) .(1/600)
" صفحة رقم 601 "
التفسير : الحكم الثالث : بيان حرمة الخمر والميسر .
قالوا : نزلت في الخمر أربع آيات نزلت بمكة ) ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً ) [ النحل : 67 ] فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من أصحابه قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزلت هذه الآية ، فشربها قوم وتركها آخرون .
ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناساً منهم فشربوا وسكروا ، فأمّ بعضهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون .
فنزلت ) ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) [ النساء : 43 ] فقلّ من يشربها .
ثم دعا عتبان بن مالك قوماً فيهم سعد ابن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء الأنصار ، فضربه أعرابي بلحي بعير فشجه موضحة ، فشكا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عمر : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً .
فنزلت ) إنما الخمر والميسر ( إلى قوله ) فهل أنتم منتهون ) [ المائدة : 90 ] فقال عمر : غنتهينا يا رب .
والحكمة في وقوع التحريم على هذا الوجه أن القوم قد ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيراً ، فلو منعوا دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فإن الفطام عن المألوف شديد ، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج والرفق .
واختلف العلماء في مفهوم الخمر فقال الشافعي : كل شراب مسكر فهو خمر .
وقال أبو حنيفة : الخمر ما غلى واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب .
احتج الشافعي بما روى أبو داود في سننه عن الشعبي عن ابن عمر عن عمر قال : نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير .
وهذا دليل على أن الخمر عندهم كل ما خامر العقل أي خالطه .
والتركيب يدل على الستر والتغطية ، ومنه خمار المرأة .
وكذا ما روي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن من العنب خمراً ، وإن من التمر خمراً ، وإن من العسل خمراً ، وإن من البر خمراً وإن من الشعير خمراً ) ، قال الخطابي : إنما جرى ذكر هذه الأشياء خصوصاً لكونها معهودة في ذلك الزمان ، وكل ما في معناها من ذرة أو سلت أو عصارة شجر فحكمها حكم هذه الخمسة .
كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في خبر الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها .
وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( كل مسكر خمر وكل خمر حرام ) فمراد الشارع أن كل(1/601)
" صفحة رقم 602 "
مسكر فهوخمر لغة أو شرعاً فيكون حقيقة لغوية أو شرعية كالصلاة ، ولئن منع ذلك فلا أقل من أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة وهو المراد .
وعن عائشة قالت : سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن البتع - وهو شراب يتخذ من العسل - فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل شراب مسكر فهو حرام ) وعن أم سلمة قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه سولم عن كل مسكر ومفتر .
قال : الخطابي : والمفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء .
وأيضاً الآيات الواردة في الخمر منها اثنتان بلفظ الخمر وغيرهما بلفظ المسكر مثل ) لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) [ النساء : 43 ] وفيه دليل على أن المراد بالخمر هو المسكر .
وكذا في قول عمر ومعاذ ( الخمر مذهبة للعقل ) .
فإنه يوجب أن كل ما كان مساوياً للخمر في هذا المعنى إما أن يكون خمراً وإما أن يكون مساوياً للخمر في علة التحريم .
وأيضاً قال تعالى ) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة ) [ المائدة : 90 ] ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر فيعلم منه أن حرمة الخمر معللة بالإسكار .
فإما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر ، وإما أن يلزم الحكم بالحرمة في كل مسكر .
حجة أبي حنيفة قوله تعالى ) تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً ) [ النحل : 67 ] منّ الله علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن ، والنبيذ سكر ورزق حسن ، فوجب أن يكون مباحاً لأن المنة لا تكون إلا بالمباح ، وأيضاً ما روي في الصحيحين عن جابر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) استسقى فقال رجل : يا رسول الله ، ألا أسقيك نبيذاً ؟ قال ( بلى ) .
فخرج يسعى فجاء بقدح فيه نبيذ فشرب .
واعلم أن المسكر حرام جنسه قل أم كثر نيئاً أو مطبوخاً لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) وعن عائشة قالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ) قال الخطابي : الفرق مكيال يسع ستة عشر رطلاً .
وفيه أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب .
وعن ابن عباس أنه جاء رجل فسأله عن العصير فقال : اشربه ما كان طرياً .
قال : إني أطبخه وفي نفسي منه شيء .
قال : أكنت شاربه قبل أن تطبخه ؟ قال : لا ، قال : إن النار لا تحل شيئاً وقد حرم .
وقال(1/602)
" صفحة رقم 603 "
أبو حنيفة : المطبوخ من عصير العنب إن ذهب أقل من ثلثيه فهو حرام لكن لا حد على شاربه إلا إذا سكر ، وإن ذهب ثلثاه فهو حلال إلا القدر المسكر فيحرم ويتعلق بشربه الحد .
يروى أن عمر بن الخطاب كتب إلى بعض عماله ( أما بعد فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان فإن له اثنين ولكن واحداً ) .
ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد فهو حرام ولكن لا حد فيه ما لم يسكر ، فإن طبخ فهو حلال إلا المقدار الذي يسكر فإن ذلك حرام ويحد به ، ولا يعتبر في النقيع ذهاب الثلثين .
ونبيذ الحنطة والشعير والعسل وغيرها حلال نيئاً كان أو مطبوخاً ، ولا يحرم منه إلا القدر المسكر .
وذكروا في حد السكران عبارات فعن الشافعي : أنه الذي اختلط كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم .
وقيل : الذي لا يفرق بين السماء والأرض وقيل : الذي يتمايل في مشيه ويهذي في كلامه .
والأقرب أن الرجوع فيه إلى العادة .
ثم إن قوله تعالى ) يسئلونك عن الخمر والميسر ( ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا ، فيحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل الانتفاع وحرمته ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة بل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان واقعاً عن الحل والحرمة أي يسألونك عما في تعاطيهما .
وأما كيفية دلالة الآية على الحرمة فهي أنها مشتملة على أن في الخمر إثماً والإثم حرام لقوله تعالى ) قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم ) [ الأعراف : 33 ] ومما يؤكد هذا أن السؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر وقد جعل الله تعالى الإثم لازماً لهذه الماهية فيلزمها الإثم على جميع التقادير من الشرب وغير ذلك من وجوه الانتفاع والاستعمال .
وصرح أيضاً بأن الإثم الحاصل منها أكبر من النفع المتوهم فيها عاجلاً ، وإنما لم يقنع كبار الصحابة بهذه الآية طلباً لما هو آكد في التحريم ثقة واطمئناناً كما التمس إبراهيم عليه السلام مشاهدة إحياء الموتى طلباً لمزيد الإيقان وركوناً إلى سكون النفس بالعيان .
فإن قيل : لما كان الإثم لازماً لماهية الخمر من حيث هي ، فلم لم تكن محرمة في سائر الشرائع ؟ قلت : كم من نقص في الأديان السالفة تممه شرع خاتم النبيين وأيضاً هذا لزوم شرعي ، ويمكن أن تختلف الشرائع بحسب اختلاف الأزمان ولا سيما إذا اعتبرت مصالح الإنسان .
والميسر القمار مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعليهما .
يقال : يسرته أي قمرته مشتق من اليسار لأنه يسلب يساره .
عن ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله .
أو من اليسر من التجزئة والاقتسام يقال : يسروا الشيء إذا اقتسموه .
فالجزور نفسه يسمى ميسراً لأنه يجزأ أجزاء والياسر الجازر .
ثم يقال(1/603)
" صفحة رقم 604 "
للقامر : ياسر لأنه بسبب ذلك الفعل يجزئ لحم الجزور .
وقال الواحدي : يسر الشيء أي وجب ، والياسر الواجب بسبب القداح .
وأما صفة الميسر على ما في الكشاف فهي : إنه كانت لهم عشرة أقداح - وهي الأزلام والأقلام - أساميها : الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد .
لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤنها عشرة أجزاء .
وقيل : ثمانية وعشرين .
لا نصيب لثلاثة وهي المنيح والسفيح والوغد ، وللفذ سهم ، والتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلى سبعة .
يجعلونها في الربابة - وهي خريطة - ويضعونها على يدي عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحاً منها .
فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم .
قال العلماء : وفي حكم الميسر سائر أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما .
روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إياكم وهاتين الكعبتين المشؤمتين فإنهما من ميسر العجم ) وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء : كل شيء فيه خطر فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز .
وروي أن علياً رضي الله عنه مر بقوم وهم يلعبون بالشطرنج فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ .
إلا أن الشافعي رخص في الشطرنج إذا خلا عن الرهان ، وكف اللسان عن الطغيان ، وحفظ الصلاة عن النسيان .
فإن الميسر ما يوجب دفع مال وأخذ مال وهذا ليس كذلك .
ويحكى اللعب به عن ابن الزبير وأبي هريرة وكثير من السلف .
وأما السبق في النصل والخف والحافر فجائز بالاتفاق لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر ) وذلك لما فيها من التأهب للجهاد ، والكلام في تفاصيلها وشروطها مذكور في كتب الفقه .
) قل فيهما إثم كبير ( أي إنهما من الكبائر .
ومن قرأ بالثاء فمعنى الكثرة أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة .
أما في الخمر فلأنها عدوّ العقل الذي هو ع قال الطبع وأشرف خصائص الإنسان ومقابل الأشرف يكون أخس الأشياء .
حكى بعض الأدباء أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضئ ويقول : الحمد لله الذي جعل الإسلام نوراً والماء طهوراً .
وعن العباس بن مرداس أنه قيل(1/604)
" صفحة رقم 605 "
له في الجاهلية : لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جرأتك ؟ فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي ، ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم ، ومن خواصها أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر كان الميل إليها أتم ، وقوة النفس عليها أقوى .
بخلاف سائر المعاصي كالزنا وغيره ، وكفى بقوله ) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر الميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ) [ المائدة : 90 ] وبقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الخمر أم الخبائث ) ذماً لها وتقريراً لإثم شاربها .
وقد لعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب الخمر عشرة .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كل مسكر حرام ) ( وإن على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : عرق أهل النار أو عصارة أهل النار ) وكذا الكلام في الميسر مع أن فيه أكل الأموال بالباطل .
وأما المنافع المذكورة فهي أنهم كانوا يغالون بها إذا جلبوها من النواحي ، وكان المشتري إذا ترك المماكسة في الثمن يعدّ ذلك فضيلة ومكرمة ، وكان يكثر أرباحهم بذلك السبب قال أبو محجن : أقومها زقاً يحق بذا كم يساق إلينا تجرها ونسوقها .
قال أبقراط : في الخمر عشر منافع .
خمس جسمانية وخمس نفسانية .
فالجسمانية أنها تجوّد الهضم وتدرّ البول وتحسن البشرة وتطيب النكهة وتزيد في الباه .
والنفسانية أنها تسر النفس وتقرب الأمل وتشجع النفس وتحسن الخلق وتزيل البخل .
ومن منافع الميسر التوسعة على ذوي الحاجات لأنهم كانوا يفرقونه على المساكين فيكتسبون به الثناء والمدح .
ولا ريب أن منافع الخمر والميسر لكونها مظنونة عاجلة أقل من إثمهما لكونه متيقن الحساب الدائم العذاب ، والعاقل لا يختار النفع القليل الزائل بعقاب أبدي لا نهاية له .
الحكم الرابع : ( ويسئلونك ماذا ينفقون ( وقد تقدم ذكر هذا السؤال وأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد هنا فأجيب بذكر الكمية .
وذلك أن الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق وينبهان على عظم ثوابه ، سألوا عن مقدار ما كلفوا به هل هو كل المال أو بعضه ؟ ومعنى العفو ما تيسر وسهل مما يكون فاضلاً عن الكفاية .
ويشبه أن يكون العفو عن الذنب راجعاً إلى التيسير والتسهيل .
ويقال للأرض السهلة : العفو .
ومن(1/605)
" صفحة رقم 606 "
قال إن العفو هو الزيادة ، فهو أن الغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله .
وحاصل الأمر يرجع إلى التوسط في الإنفاق والنهي عن التبذير والتقتير وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يحبس لأهله قوت سنة .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( خير الصدقة ما أبقت غنى ولا يلام على كفاف ) وللعلماء في هذا الإنفاق خلاف .
فعن أبي مسلم : أنه يجوز أن يكون العفو هو الزكوات ، ذكرها ههنا مجملة وتفصيلها في السنة ، وقيل : إنه تطوع ولو كان مفروضاً لبين مقداره ولم يفوّض إلى رأي المكلف .
وقيل : إن هذا كان قبل نزول آية الصدقات ، وكانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم وينفقون ما فضل ثم نسخ بالزكاة .
) كذلك يبين الله لكم الآيات ( أي كما بين لكم وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا يبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون إليه .
) لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ( فتأخذون بما هو أصلح لكم من سلوك سبيل العدالة للإنفاق وغيره ، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع .
ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله ) وإثمهما أكبر من نفعهما ( أي لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا حتى لا تختاروا الأدنى على الأعلى .
ويجوز أن يتعلق ب ( يبين ) أي يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون .
الحكم الخامس : ( ويسئلونك عن اليتامى ( عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت ) إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ) [ النساء : 10 ] عزلوا أموالهم عن أموالهم فنزلت .
وعنه عن ابن عباس قال : لما أنزل الله تعالى ) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ الأنعام : 152 ] وقوله ( إن الذين يأكلون ) [ النساء : 10 ] نطلق من كان عنده مال اليتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، وجعل يحبس له ما يفضل من طعامه حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت .
) قل إصلاح لهم خير ( وهو كلام جامع لمصالح اليتيم والولي .
أما لليتيم فلأنه يتضمن صلاح نفسه بالتقويم والتأديب ، وصلاح ماله بالتبقية والتثمير لئلا تأكله النفقة عليه والزكاة منه .
وأما الولي فلأن إحراز الثواب خير له من التحرز عن مال اليتيم حتى تختل مصالحه وتفسد معيشته ، وقيل : الخبر عائد إلى الولي يعني إصلاح أموالهم من غير عوض ولا أجرة خير للولي وأعظم أجراً ، وقيل : عائد إلى اليتيم أي مخالطتهم بالإصلاح خير لهم من التفرد عنهم والإعراض عن أمورهم ، والأصوب هو القول الأول ، فإن جهات المصالح مختلفة غير مضبوطة فينبغي أن يكون نظر المتكفل لأمور اليتيم على تحصيل الخير في الدنيا والآخرة(1/606)
" صفحة رقم 607 "
لنفسه ولليتيم في ماله ونفسه .
) وإن تخالطوهم فإخوانكم ( أي فهم إخوانكم في الإسلام ، والمخالطة جمع يتعذر فيه التمييز .
قيل : المراد وإن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والخدم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز كما يفعله المرء بمال ولده ومع إخوانه في الدين ، فإن هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة .
وقيل : المراد بهذه المخالطة أخذ مقدار أجرة المثل في ذلك العمل ، وسنشرح المذاهب في ذلك إن شاء الله تعالى إذا انتهينا إلى تفسير قوله تعالى ) ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف ) [ النساء : 6 ] وقيل : المراد أن يخالطوا أموال اليتامى بأموالهم وأنفسهم على سبيل الشركة بشرط رعاية جهات المصلحة والغبطة للصبي وحمل بعضهم المخالطة على المصاهرة واختاره أبو مسلم ، لأن هذا خلط اليتيم نفسه والشركة خلط لماله .
وأيضاً الشركة داخلة في قوله ) قل إصلاح لهم خير ( والخلط من جهة النكاح وتزويج البنات منهم لم يدخل في ذلك ، فحمل الكلام على هذا الخلط أقرب .
وأيضاً إنه تعالى قال بعد هذه الآية ) ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ ( فكان المعنى إن المخالطة المندوب إليها إنما هي في اليتامى الذين هم لكم إخوان في الإسلام لتتأكد الألفة بالمناكحة ، فإن كان اليتيم من المشركين فلا تفعلوا ذلك ) والله يعلم المفسد ( لأمورهم ) من المصلح ( لها ، أو يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في مالهم بالنكاح من المصلح فيجاوزيه على حسب غرضه ومقصده ، فأحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح ، وفيه تهديد عظيم فكأنه قال : أنا المتكفل بالحقيقة لأمر اليتيم ، وأنا المطالب لوليه إن قصر .
) ولو شاء الله لأعنتكم ( لحملكم على العنت وهو المشقة بأن ضيق عليكم طريق المخالطة معهم .
وعن ابن عباس : لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً .
وذلك أنهم كانوا في الجاهلية قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعاً في مالها ، أو يزوجها من ابن له كيلا يخرج مالها من يده .
وقد يستدل بالآية على أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يقدر عليه وعلى أنه تعالى قادر على خلاف العدل لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعانات ما جاز أن يقول ( ولو شاء لأعنت ) ولهذا قال : ( إن الله عزيز ( غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم ولكنه ) حكيم ( لا يكلف إلا ما يتسع فيه طاقتهم .
الحكم السادس : ( ولا تنكحوا المشركات ( أكثر المفسرين على أن هذه الآية ابتداء شرع وحكم آخر في بيان ما يحل ويحرم .
وعن أبي مسلم : أنه متعلق بقصة اليتامى ترغيباً في مخالطتهنّ دون مخالطة المشركات .
عن ابن عباس : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي - وكان حليفاً لبني هاشم - إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين ، وكان(1/607)
" صفحة رقم 608 "
يهوى امرأة في الجاهلية اسمها عناق .
فأتته وقالت : ألا نخلو ؟ فقال : ويحك إن الإسلام حال بيننا .
فقالت : فهل لك أن تتزوّج بي ؟ قال : نعم .
ولكن أرجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاستأمره فنزلت هذه الآية .
ثم العلماء اختلفوا في الآية في موضعين : الأوّل في لفظ النكاح فقال أكثر أصحاب الشافعي : إنه حقيقة في العقد لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ) ولا شك أن المتوقف على الولي والشاهد هو العقد لا الوطء .
ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) أيضاً ( ولدت من نكاح لا من سفاح ) ولقوله تعالى ) وأنكحوا الأيامى ) [ النور : 32 ] وقال الجمهور من أصحاب أبي حنيفة : إنه حقيقة في الوطء لقوله تعالى ) حتى تنكح زوجاً غيره ) [ البقرة : 230 ] والنكاح الذي ينتهي إليه الحرمة ليس هو العقد بل هو الوطء بدليل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ناكح اليد ملعون وناكح البهيمة ملعون ) ومن الناس من قال : النكاح عبارة عن الضم .
يقال : نكح المطر الأرض إذا وصل إليها ، ونكح النعاس عينيه .
والضم حاصل في العقد وفي الوطء ، فيحسن استعمال اللفظ فيهما جميعاً .
قال ابن جني : سألت أبا علي عن قولهم ( نكح المرأة ) فقال : فرقت العرب بالاستعمال فرقاً لطيفاً .
فإذا قالوا : نكح فلان فلانة ، أرادوا أنه تزوّجها وعقد عليها .
وإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته .
لم يريدوا غير المجامعة .
إلا أن المفسرين أجمعوا على أن المراد بالنكاح في هذه الآية هو العقد أي لا تعقدوا على المشركات .
الثاني لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب أم لا ؟ قال الأكثرون : نعم لقوله تعالى ) وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ( إلى قوله سبحانه ) عما يشركون ) [ التوبة : 31 ] ولقوله ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] فلو كان كفر اليهود والنصارى غير الشرك لاحتمل أن يغفر الله لهم وذلك باطل بالاتفاق .
وأيضاً النصارى قائلون بالتثليث وليس ذلك في الصفات ، فإن أكثر المسلمين أيضاً يثبتون لله تعالى صفات قديمة ، فإذن هو في الذات وهذا شرك محض .
وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمّر أميراً وقال ( إذا لقيت عدوّاً من المشركين فادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، وإن أبوا فادعهم إلى الجزية وعقد الذمة بالمشرك ) .
وقال أبو بكر الأصم : كل من جحد رسالته فهو مشرك من حيث إن تلك المعجزات التي(1/608)
" صفحة رقم 609 "
ظهرت على يده كانت خارجة عن حدّ البشر ، وهم أنكروها وأضافوها إلى الجن والشياطين ، فقد أثبتوا شريكاً لله سبحانه في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر .
واعترض عليه بأن اليهودي حيث لا يسلم أن ما ظهر على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هو من جنس ما لا يقدر العباد عليه ، لم يلزم أن يكون مشركاً بسبب إضافة ذلك إلى غير الله .
والجواب أنه لا اعتبار بإقراره ، وإنما الاعتبار بالدليل ، فإذا ثبت بالدليل أن ذلك المعجز خارج عن قدرة البشر ، فمن أضاف ذلك إلى غير الله كان مشركاً كما لو أسند خلق الحيوان والنبات إلى الأفلاك والكواكب .
احتج المخالف بأنه تعالى فصل بين أهل الكتاب والمشركين في الذكر حيث قال ) ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين ) [ البقرة : 105 ] ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ) [ البينة : 1 ] والعطف يقتضي التغاير .
وأجيب بأن كفر الوثني أغلظ وهذا القدر يكفي في العطف ، أو لعله خص أوّلاً ثم عمم .
هذا وقد سلف في تفسير قوله عز من قائل ) فلا تجعلوا لله أنداداً ) [ البقرة : 22 ] أن أكثر عبدة الأوثان مقرون بأن إله العالم واحد ، وأنه ليس له في الإلاهية بمعنى خلق العالم وتدبيره شريك ونظير ، فظهر أن وقوع اسم المشرك عليهم ليس بحسب اللغة بل بالشرع كالصلاة والزكاة .
وإذا كان كذلك فلا يبعد بل يجب اندراج كل كافر تحت هذا الاسم ، لا سيما وقد تواتر النقل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه يسم كل من كان كافراً بأنه مشرك .
التفريع إن قيل : المشركات تشمل الحربيات والكتابيات جميعاً فالآية منسوخة أو مخصصة بقوله ) والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) [ المائدة : 5 ] لأن سورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ شيء منها قط وهو قول ابن عباس والأوزاعي .
لا يقال : لعل المراد من آمن بعد أن كان من أهل الكتاب لأن قوله ) والمحصنات من المؤمنات ) [ المائدة : 5 ] يشمل من آمن منهنّ فيبقى قوله ) والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) [ المائدة : 5 ] ضائعاً ولإجماع الصحابة على جواز نكاح الكتابيات نقل أن حذيفة تزوّج بيهودية أو نصرانية فكتب إليه عمر أن خل سبيلها .
فكتب إليه : أتزعم أنها حرام ؟ فقال : لا ، ولكني أخاف .
وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( نتزوّج نساء أهل الكتاب ولا يتزوّجون نساءنا ) وعن عبد الرحمن بن عوف أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في المجوس : ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ) ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً لكان هذا الاستثناء خالياً عن الفائدة .
وإن قيل : إن المشركات تختص بالحربيات ، فالآية ثابتة وباقية على عمومها .
ومن الناس من زعم أن هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التزوج بالمشركات .
روي هذا عن الحسن وزيف بأن رفع مباح الأصل ليس(1/609)
" صفحة رقم 610 "
بنسخ لأن الناسخ والمنسوخ يجب أن يكونا حكمين شرعيين إلا أن يقال : إن تجويز نكاح المشركة قبل نزول الآية كان ثابتاً من قبل الشرع .
قوله ) حتى يؤمن ( اتفق الكل على أن المراد منه الإقرار بالشهادة والتزام أحكام الإسلام ، ولكن لا يدل هذا على أن الإيمان في عرف الشرع عبارة عن الإقرار فقط لما مر في تفسير قوله ) الذين يؤمنون بالغيب ) [ البقرة : 3 ] أنه لا بد في الإيمان الحقيقي من التصديق القلبي ، إلا أنه اكتفي ههنا بالإقرار اللساني لأنه هو أمارة الإيمان بالنسبة إلينا ، فلا اطلاع لنا على صميم القلب ، والسرير موكولة إلى علام الخفيات .
فإن وافق سره العلن كان مؤمناً حقاً وإلا كان منافقاً جداً ) ولأمة مؤمنة ( هذه اللام في إفادة التوكيد تشبه لام القسم .
والمراد بالأمة وكذا بالعبد في قوله ) ولعبد مؤمن ( أمة الله وعبده لأن الناس كلهم عبيداً لله وإماؤه أي ولا مرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة ) خير من مشركة ولو أعجبتكم ( للمبالغة والجواب محذوف أي ولو كانت المشركة تعجبكم بمالها وجمالها ونسبها ، فالمؤمنة خير منها لأن الإيمان يتعلق بالدين والمال ، والجمال والنسب يتعلق بالدنيا ، ورعاية الدين أولى من رعاية الدنيا إن لم يتيسر الجمع بينهما .
وقد تحصل المحبة والتآلف عند التوافق في الدين فتكمل منافع الدنيا أيضاً من حسن الصحبة والعشرة وحفظ الغيب وضبط الأموال والأولاد ، وأما عند اختلاف الدين فتنعكس هذه القضايا .
وقد يرى أضداد ما توقع منها ولهذا قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسنها ولجمالها ولدينها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك ) وقد ظن بعضهم أن المراد بالأمة ضد الحرة فقال : التقدير : ولأمة مؤمنة خير من حرة مشركة .
ولهذا ذهب بعض آخر إلى أن في الآية دلالة على أن القادر على طول الحرة يجوز له التزوّج بالأمة على ما هو مذهب أبي حنيفة ، لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يكون لا محالة واجداً لطول الحرة ا لمسلمة ، لأنه بسبب التفاوت في الإيمان والكفر لا يتفاوت قدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح ، فيلزم قطعاً أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة ) ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ( لا خلاف ههنا في أن المراد به الكل ، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر على اختلاف أقسام الكفر ) أولئك ( المشركات والمشركون ( ) يدعون إلى النار ( أي إلى ما يؤدي إليها ، فإن الزوجية مظنة الألفة والمحبة في الظاهر ، وقد تحمل المودة على الاتفاق في الدين(1/610)
" صفحة رقم 611 "
فلعل المؤمن يوافق الكافر ، والاحتراز عن مظنة الارتداد أهم من الطموح إلى إسلام المشرك .
فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال .
وقيل : المراد أنهم يدعون إلى ترك المحاربة والجهاد ، وفي ترك الجهاد استحقاق النار والعذاب .
وغرض هذا القائل أن يجعل هذا فرقاً بين الذمية وغيرها ، فإن الذمية لا تحمل زوجها على ترك الجهاد .
وقيل : إن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيصير الولد من أهل النار فهذا هو الدعوة إلى النار .
) والله يدعو إلى الجنة ( حيث أمر بالتزوج بالمسلمة حتى يكون الولد مسلماً من أهل الجنة ، أو المراد أن أولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنةن المغفرة وما يؤدي إليهما ، فهم الذين تحب موالاتهم ومصاهرتهم وأن يؤثروا على غيرهم ) بإذن ( بتوفيق الله وتيسيره للعمل الذي يستحق به الجنة والغفران وقرى الحسن ) والمغفرة ( بالرفع على الابتداء أي المغفرة كائنة بتيسيره ) ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ( معناه واضح .
وقد عرفت فيما مر أن التذكر محاولة استرجاع الصورة المحفوظة ، فكان الآيات تليه على ما هو مركوز في العقول من حقيقة دين الإسلام ) فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) [ الروم : 30 ] .
التأويل : إن خمر الظاهر كما يتخذ من أجناس مختلفة كالعنب والتمر والعسل والحنطة والشعير وغيرها ، فكذلك خمر الباطن من أجناس مختلفة كالغفلة والشهوة والهوى وحب الدنيا وأمثالها .
وهذه تسكر النفوس والعقول الإنسانية التي هي مناط التكليف فلهذا حرمت في عالم التكليف ، وأما ما يسكر القلوب والأرواح والأسرار فهو شراب الواردات في أقداح المشاهدات من ساقي تجلي الصفات إذا دارت الكؤوس انخمدت شهوات النفوس ، فتسكر القلوب بالمواجيد عن المواعيد ، والأرواح بالشهود عن الوجود ، والأسرار بمطالعة الجمال من ملاحظة الكمال ، وهذا شراب حلال لأنه فوق عالم التكليف ، وإنه يمزج الكثيف باللطيف ) فيه منافع للناس ( وملاذ لأهل القرب والاستئناس .
فصحوك من لفظي هو الوصل كله
وسكرك من لحظي يبيح لك الشربا
فما مل ساقيها وما مل شارب
عقار لحاظ كأسه يسكر اللبا
قوم أسكرهم وجود الشراب وقوم أسكرهم شهود الساقي .
فأسكر القوم دور كأس
وكان سكري من المدير
الكأس والشراب والساقي والمسقي ههنا واحد كما قيل :(1/611)
" صفحة رقم 612 "
رق الزجاج وراقت الخمر
فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر
وإثم الإعراض عن كؤوس الوصال في النهاية أكبر من نفع الطلب ألف سنة في البداية .
أما الميسر فإثمه كبير عند ا لأخيار وإنه بعيد عن خصال الأبرار ، ولكن نفعه عدم الالتفات إلى الكونين ، وبذل نفوس العالمين في فردانية نقش الكعبتين .
) وإثمهما أكبر من نفعهما ( لأن إثمهما للعوام ونفعهما للخواص ، والعوام أكثر من الخواص .
وبعبارة أخرى الإثم في الخمر الظاهر والميسر الظاهر ، والنفع في الخمر الباطن والميسر الباطن ، وأهل الظاهر أكثر من أهل الباطن والله أعلم .
( البقرة : ( 222 - 227 ) ويسألونك عن المحيض . . . .
" ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم "
( القراآت )
حتى يطهرن ( بالتشديد والأصل ( يتطهرن ) فأدغم التاء في الطاء : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص .
الباقون ) يطهرن ( بالتخفيف من الطهارة .
) أنى ( بالإمالة المفرطة : حمزة وعلي وخلف .
وقرأ العباس بالإمالة اللطيفة كل القرآن .
الباقون بالتفخيم ) لا يؤاخذكم ( وبابه وكل همزة تحركت وتحرك ما قبلها مثل ) يؤخر ( و ) يؤده ( وأشباه ذلك بغير همز : يزيد وورش والشموني وحمزة في الوقف .
الوقوف : ( عن المحيض ( ط ) أذى ( ط لأن لكونه أذى تأثيراً بليغاً في وجوب الاعتزال ) في المحيض ( لا للعطف .
) حتى يطهرن ( ج لأن ( إذا ) متضمنة الشرط للفاء في جوابه مع فاء التعقيب فيها ) أمركم الله ( ط ) المتطهرين ( 5 ) حرث لكم ( ص لأن الفاء كالجزاء أي إذا كن حرثاً فأتوهن وإلا فقد اختلف الجملتان ) شئتم ( ز قد يجوز لوقوع العارض .
) لأنفسكم ( ط ) ملاقوه ( ط ) المؤمنين ( 5 ) بين الناس ( ط ) عليم ( 5 ) قلوبكم ( ط ) حليم ( 5 ) رحيم ( 5 ) عليم ( 5 .
التفسير : الحكم السابع : ( ويسئلونك عن المحيض ( قيل : إنه تعالى جمع في هذا الموضع بين ستة أسئلة ، فذكر الثلاثة الأول بغير الواو والباقية بالواو .
والسبب أن سؤالهم(1/612)
" صفحة رقم 613 "
عن تلك الحوادث وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت بحرف العطف ، لأن كل واحد من تلك السؤالات سؤال مبتدأ ، وسألوا عن الوقائع الأخر في وقت واحد فجيء بحرف الجمع لذلك كأنه قيل : يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن كذا وعن كذا .
روي أن اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها ، والنصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض ، وكان أهل الجاهلية إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجالسوها على فرش ، ولم يشاكنوها في بيت .
فقال ناس من الأعراب يا رسول الله ، البرد شديد والثياب قليلة .
فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت ، وإن استأثرنا بها هلكت الحيض فنزلت الآية ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ، ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت ) يعني أن المراد من قوله تعالى ) فاعتزلوا النساء ( فاعتزلوا مجامعتهن .
واتفق المسلمون على حرمة الجماع في زمان الحيض ، واتفقوا على حل الاستمتاع بالمرأة بما فوق السرة وتحت الركبة ، واختلفوا فيما دون السرة وفوق الركبة .
فالشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف قالوا : يجب اعتزال ما اشتمل عليه الإزار بناء على أن المحيض مصدر كالمجيء والمبيت ، والتقدير : فاعتزلوا تمتع النساء في زمان الحيض .
ترك العمل بالآية فيما فوق السرة وتحت الركبة للإجماع فبقي الباقي على الحرمة .
وعن زيد بن أسلم أن رجلاً سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال ( لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها ) وقيل : ما سوى الفرج حلال ، لأن المراد بالمحيض موضع الحيض فالمعنى فاعتزلوا موضع الحيض من النساء ، نعم المحيض الأول مصدر فيصلح عود الضمير إليه في قوله ) قل هو أذى ( أي الحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه نفرة وكراهة على أنه يحتمل أن يكون بمعنى المكان والتقدير هو ذو أذى ، وإنما قدم قوله ) هو أذى ( لترتب الحكم وهو وجوب الاعتزال عليه .
وذلك أن دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم ، حتى لو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة .
فذلك الدم جار مجرى البول والغائط فكان أذى وقذراً .
ولا يرد عليه دم الاستحاضة حيث لا يوجب الاعتزال ، لأن ذاك دم صالح يسيل من عرق يتفجر في عنق الرحم ، ويؤيده ما روي في الصحيحين عن عائشة قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش فقالت : يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة ؟ فقال ( لا ، إنما ذلك عرق وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي ) .
ومعنى العرق أنه علة حدثت بها من تصدع العروق .
وأصل الحيض في اللغة السيل .
يقال : حاض السيل وفاض .
قال الأزهري : منه قيل الحوض لأن الماء يحيض إليه(1/613)
" صفحة رقم 614 "
أي يسيل .
والواو والياء من حيز واحد .
وقد ورد في الحديث لدم الحيض صفات منها السواد ويراد به أنه يعلوه حمرة متراكبة فيضرب من ذلك إلى السواد ، ومنها الثخانة ، ومنها المحتدم وهو المحرق من شدة حرارته ، ومنها أنه ذو دفعات أي يخرج برفق ولا يسيل سيلاً ، ومنها أن له رائحة كريهة ، ومنها أنه بحراني وهو الشديد الحمرة .
وقيل : ما يحصل فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر .
فمن الناس من قال : إن كان الدم موصوفاً بهذه الصفات فهو الحيض وإلا فلا ، وما اشتبه الأمر فيه فالأصل بقاء التكاليف ، وزوالها إنما كان بعارض الحيض .
فإذا كان غير معلوم الوجود بقيت التكاليف الواجبة على ما كانت .
ومنهم من قال : هذه الصفات قد تشتبه على المكلف فإيجاب التأمل في تلك الدماء وفي تلك الصفات يقتضي عسراً ومشقة ، فالشارع قدر وقتاً مضبوطاً متى حصلت الدماء فيه كان حكمها حكم الحيض ، ومتى حصلت خارج ذلك الوقت لم يكن حكمها حكم الحيض كيف كانت صفة تلك الدماء .
أما السن المحتمل للحيض فأصح الوجوه أنها تسع سنين فإن رأت الصبية دماً قبل استكمال التسع فهو دم فساد .
قال الشافعي : وأعجل من سمعت من النساء يحضن نساء تهامة يحضن لتسع سنين .
وقيل : إن أول وقت الإمكان يدخل بالطعن في السنة التاسعة .
وقيل : بمضي ستة أشهر من السنة التاسعة .
والاعتبار على الوجوه بالسنين القمرية تقريباً على الأظهر لا تحديداً ، حتى لو كان بين رؤية الدم وبين استكمال التسع على الوجه الأصح ما لا يسع حيضاً وطهراً ، كان ذلك الدم حيضاً وإلا فلا ، وأقل مدة الحيض عند الشافعي يوم وليلة ، وعند أبي حنيفة ثلاثة أيام ، وعن مالك لا حد لأقله .
وأما أكثر الحيض فهو خمسة عشر يوماً وليلة لقول علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه : ما زاد على خمسة عشر فهو استحاضة .
وعن عطاء : رأيت من تحيض يوماً ومن تحيض خمسة عشر يوماً .
وأما الطهر فأكثره لا حد له .
فقد لا ترى المرأة الدم في عمرها إلا مرة واحدة ، وأقله خمسة عشر يوماً ، وقال أحمد أقله ثلاثة عشر .
وقال مالك : ما أعلم بين الحيضتين وقتاً يعتمد عليه لنا الرجوع إلى الوجود ، وقد ثبت ذلك من عادات النساء ، وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي ) أشعر ذلك بأقل الطهر وأكثر الحيض .
وغالب عادات النساء في الحيض ست أو سبع ، وفي الطهر باقي الشهر .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) لحمنة بنت جحش : ( تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً كما تحيض النساء ويطهرن ) .
ومعنى : ( في علم الله ) ، أي مما(1/614)
" صفحة رقم 615 "
علمك الله من عاداتك أو من غالب عادات النساء .
ويحرم في الحيض عشرة أشياء : الصلاة والصوم والاعتكاف والمكث في المسجد والطواف ومس المصحف وقراءة القرآن والسجود والغشيان بنص القرآن والطلاق في حق بعضهن ثم إن أكثر فقهاء الأمصار على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا يحل مجامعتها إلا بعد أن تغتسل عن الحيض ، وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي والثوري .
والمشهور عن أبي حنيفة أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام لم يقربها زوجها حتى تغتسل ويمضي عليها وقت صلاة ، وإن رأته عشرة أيام جاز له أن يقربها قبل الاغتسال .
حجة الشافعي أن القراءة المتواترة حجة بالإجماع فإذا حصلت قراءتان متواترتان وجب الجمع بينهما ما أمكن .
فمن قرأ ( يطهرن ) بالتخفيف فانتهاء الحرمة عنده انقطاع الدم ، ومن قرأ ( يطهرن ) بالتثقيل فالنهاية تطهرها بالماء ، والجمع بين الأمرين ممكن بأن يكون النهاية حصول الشيئين .
ومعنى قوله ) ولا تقربوهن ( أي لا تجامعوهن وهذا كالتأكيد لقوله ) فاعتزلوا ( ويحتمل أن يكون ذلك نهياً عن المباشرة في موضع الدم وهذا نهي عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع .
وأيضاً قوله ) فإذا تطهرن فأتوهن ( تعليق للإتيان على التطهر بكلمة ( إذا ) ، فوجب أن لا يجوز الإتيان عند عدم التطهر .
والمراد بالتطهر الاغتسال ؛ لأن هذا الحكم عائد إلى ذات المرأة ، فوجب أن يحصل في كل بدنها لا في بعض من أبعاض بدنها .
وعن عطاء وطاوس هو أن تغسل الموضع وتتوضأ .
وقال بعضهم : غسل الموضع .
ثم القائلون بوجوب الاغتسال أجمعوا على أن التيمم يقوم مقامه عند إعواز الماء ) من حيث أمركم الله ( أي من المأتى الذي أمركم به وحلله لكم وهو القبل .
عن ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة .
وقال الأصم والزجاج : فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن وذلك بأن لا يكنّ صائمات ولا معتكفات ولا محرمات .
وعن محمد ابن احنفية : فأتوهن من قبل الحلال دون الفجور .
) إن الله يحب التوابين ( مما عسى أن يبدر عنهم من ارتكاب ما نهوا عنه من ذلك بمجامعة الحائض والطاهرة قبل الغسل وإتيان الدبر ) ويحب المتطهرين ( المتنزهين عن تلك الفواحش .
فالتائب هو الذي فعله ثم تركه ، والمتطهر هو الذي ما فعله تنزهاً عنه لأن الذنب كأنه نجاسة روحانية حكمية ) إنما المشركون نجس ) [ التوبة : 28 ] أو يحب التوابين الذين يطهرون أنفسهم بطهرة التوبة من كل ذنب ، ويحب المتطهرين من جميع الأقذار والأوزار .
الحكم الثامن ) نساؤكم حرث لكم ( وإنه جار مجرى البيان والتوضيح لقوله ) فأتوهن من حيث أمركم الله ( دلالة على أن الغرض الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة فينبغي أن يؤتى المأتي الذي هو مكان الحرث ، وعن جابر رضي(1/615)
" صفحة رقم 616 "
الله عنه قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت هذه الآية .
وعن ابن عباس : جاء عمر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله هلكت .
قال : وما أهلكك ؟ قال : حوّلت رحلي الليلة .
قال : فلم يرد عليَّ شيئاً .
فأوحى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية .
وتحويل الرحل قيل : ظاهره الكناية عن الإتيان في غير المحل المعتاد .
وقيل : إنه الإتيان في المحل المعتاد لكن من جهة ظهرها .
وعنه كانت الأنصار تنكر أن يأتي الرجل المرأة مجبية أي في قبلها من دبرها وكانوا أخذوا ذلك من اليهود وكانت قريش تفعل ذلك ولما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت ) نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ( أي مقبلات ومدبرات ومستكفيات بعد أن يتقى الدبر والحيضة ، وذلك أن قوله ) حرث لكم ( أي مزرع ومنبت للولد وهذا على سبيل التشبيه .
ففرج المرأة كالأرض ، والنطفة كالبذر ، والولد كالنبات ، وإنما وحد الحرث لأنه مصدر أقيم مقام المضاف أي هن مواضع حرث فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم ، لا تحظر عليكم جهة دون جهة ، بعد أن يكون المأتي واحداً وهو موضع الحرث أعني القبل دون الدبر ، هذا ما عليه أكثر العلماء ويؤيده قوله عز من قائل ) قل هو أذى فاعتزلوا ( جعل ثبوت الأذى علة للاعتزال ولا معنى للأذى ، إلا ما يتأذى الإنسان منه بنتن وتلوث وتنفر طبع ، والأذى في الدبر حاصل أبداً فالاعتزال عنه أولى بالوجوب .
فمعنى ) أنى شئتم ( كيف شئتم من قبلها قائمة أو باركة أو مضطجعة .
وقيل : ( أنى ) بمعنى ( متى ) أي فأتوا حرثكم أي وقت شئتم من أوقات الحل يعني إذا لم تكن أجنبية أو محرمة أو صائمة أو حائضاً .
وعن ابن عباس : المعنى إن شاء عزل وإن شاء لم يعزل .
وقيل : متى شئتم من ليل أو نهار والأصح الأول وعن مالك والشيعة تجويز إتيان النساء في أدبارهن ويحكى أن نافعاً نقل عن ابن عمر مثل ذلك واحتجوا بأن الحرث اسم المرأة لا الموضع المعين وبأن قوله ) أنى شئتم ( معناه من أين شئتم كقوله ) أنى لك هذا ) [ مريم : 37 ] أي من أين .
وكلمة ( أين ) تدل على تعدد الأمكنة فيلزم أن يكون المأتي بها متعدداً .
وبقوله ) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) [ المؤمنون : 6 ] ترك العمل بعمومه في حق الذكور لدلالة الإجماع فوجب أن يبقى معمولاً به في حق الإناث .
ولا يخفى ضعف هذه الحجج ولو سلم مساواتها دلائل الحرمة في القوة فالاجتناب أحوط ، وكيف لا وقد روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ملعون من أتى امرأة في دبرها ) ولو لم يكن فيه إلا فوات غرض التوالد والتناسل الذي به بقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف أنواع الكائنات لكفى به منقصة وذماً ، وإذا كان لزنا لكونه مزيلاً(1/616)
" صفحة رقم 617 "
للنسب محرماً ، وكذا الخمر لكونها رافعة للعقل ، والقتل لكونه مفنياً للشخص ، فلأن يحرم هذا الفعل لكونه متضمناً لفناء النوع أولى كاللواط وإتيان البهيمة والاستمناء ولهذا عقبه بقوله ) وقدموا لأنفسكم ( أي افعلوا ما تستوجبون به الجنة والكرامة كقول الرجل لغيره ( قدم لنفسك عملاً صالحاً ) وذلك أن الآية اشتملت على الإذن في أحد الموضعين والمنع عن الموضع الآخر فكأنه قيل : لا تكونوا في قيد قضاء الشهوة وإنما يجب أن تكونوا في ربقة الإخلاص وتقديم الطاعة ، ثم إنه أكد ذلك بقوله ) واتقوا الله ( ثم زاد التأكيد بقوله ) واعلموا أنكم ملاقوه ( وهذه التهديدات الثلاثة المتوالية لا تحسن إلا إذا كانت مسبوقة بالنهي عن مشتهي .
فقوله ) وقدموا لأنفسكم ( تحريض على فعل الطاعات ويندرج فيه ابتغاء لولد والتسمية عند الوقاع وغير ذلك من بآداب الخلوة ، وقوله ( واتقوا الله ( زجر عن المحظورات والمنكرات ، وقوله ( واعلموا أنكم ملاقوه ( تذكير ليوم البعث والحساب الذي لولاه لضاع فعل الطاعات وترك المنهيات وما أحسن هذا الترتيب ثم قال ) وبشر المؤمنين ( كيلا يخلو الوعيد من الوعد .
ولم يذكر المبشر به وهو الثواب والكرامة ونحوهما إما لأنه كالمعلوم من نحو قوله ) وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً ) [ الأحزاب : 47 ] ، ) وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات ) [ البقرة : 25 ] وإما لأن الغرض نفس البشارة مثل ( فلان يعطى ) .
الحكم التاسع : ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ( وهو نهي ع ن الجراءة على الله بكثرة الحلف ، فإن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة أي معرضاً له قال : فلا تجعلوني عرضة للوائم .
وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله ) ولا تطع كل حلاف مهين ) [ القلم : 10 ] ، والحكمة فيه أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك فلا يؤمن إقدامه على الأيمان الكاذبة .
وأيضاً كلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لله كان أكمل في العبودية ، ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يبتذله ويستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية .
وقوله ( أن تبروا ( علة النهي أي إرادة أن تبروا وتتقوا وتصّلحوا بين الناس لأن الخلاف مجترئ على الله غير معظم له فلا يكون براً متقياً ، فإذا ترك الحلف لاعتقاده أن الله أعظم وأجل من أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا اعتقد الناس في صدق لهجته وبعده من الأغراض الفاسدة فعدوه براً متخذاً من الإخلال بواجب حق الله فيدخلونه في وساطاتهم وإصلاح ذات بينهم .
ومعنى آخر وهو أن تكون العرضة ( فعلة ) بمعنى ( مفعول ) كالقبضة والغرفة فيكون اسماً للشيء الذي يوضع في عرض الطريق فيصير مانع الناس من السلوك ، ومنه ( عرض العود على الإناء ) وتقول(1/617)
" صفحة رقم 618 "
( فلان عرضة دون الخير ) .
وذلك أن الرجل كان يحلف على بعض الخيرات من صلة لرحم أو إصلاح أو إحسان أو عبادة ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني .
فيترك البر إرادة البر في يمينه فقيل : ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ( أي حاجزاً لما حلفتم عليه .
وسمي المحلوف عليه يميناً لتلبسه باليمين كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعبد الرحمن بن سمرة : ( إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك ) أي على شيء مما يحلف عليه .
فيكون قوله ) أن تبروا ( عطف بيان ) لأيمانكم ( أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى أو الإصلاح بين الناس ، وعلى هذا فاللام في ) لأيمانكم ( إما أن تتعلق بالفعل أي ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخاً وحاجزاً ، وإما أن تعلق ب ) عرضة ( لما فيها من معنى الاعتراض بمعنى لا تجعلوا شيئاً يعترض البر .
ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويتعلق ) أن تبروا ( بالعرضة أي لا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا ) والله سميع ( إن حلفتم به ) عليم ( بنياتكم إن تركتم الحلف إجلالاً لذكره ، واليمين في الأصل عبارة عن القوة فسمي الحلف بذلك لأن المقصود بها تقوية جانب البر على جانب الحنث .
اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ولهذا قيل : لما لا يعتد به ولا يخطر من أولاد الإبل في الدية ( لغو ) وهو في الأصل مصدر لغا يلغو .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قال يوم الجمعة لصاحبه صه والإمام يخطب فقد لغا ) واختلف الفقهاء في اللغو من اليمين فذهب الشافعي - وهو قول عائشة والشعبي وعكرمة - أنه قول العرب ( لا والله ) و ( بلى والله ) مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف .
فلو قيل لواحد منهم : سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام لا ننكر ذلك ولعله قال : لا والله ألف مرة .
ومذهب أبي حنيفة وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد والنخعي والزهري وسليمان بن يسار وقتادة والسدي ومكحول - أن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن .
وفائدة الخلاف أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل ( لا والله ) و ( بلى والله ) ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه ك ان ثم بان أنه لم يكن ، وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك .
حجة الشافعي أن الآية تدل على أن لغو اليمين كالمقابل المضاد لما يحصل بسبب كسب القلب ، لكن المراد من قوله ) بما كسبت قلوبكم ( هو الذي يقصده الإنسان على سبيل(1/618)
" صفحة رقم 619 "
الجد ويربط به قلبه فيكون اللغو ما تعوّده الناس في الكلام ( لا والله ) و ( بلى والله ) فأما إذا حلف على شيء أنه كان حاصلاً جداً ثم ظهر أنه لم يكن فقد قصد الإنسان بذلك اليمين المتصل تصديق قوله وربط قلبه بذلك فلم يكن لغواً ألبتة ، وأيضاً إنه سبحانه ذكر قبل هذه الآية النهي عن كثرة الحلف فذكر عقيب ذلك حال هؤلاء الذين يكثرون الحلف على سبيل الاعتياد في الكلام على سبيل القصد إلى الحلف ، وبيّن أنه لا مؤاخذة عليهم ولا كفارة لأن إيجاب الكفارة والمؤاخذة عليهم يفضي إما إلى أن يمنعوا عن الكلام أو يلزمهم في كل لحظة كفارة وكلاهما حرج في الدين ، فظهر أن تفسير اللغو بما ذكرنا هو المناسب ويؤده ما روت عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( لغو اليمين قول الرجل بين كلامه لا والله وبلى والله ) وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مر بقوم ينتضلون ومعه رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم فقال : أصبت والله ثم أخطأ فقال الذي مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : حنث الرجل يا رسول الله ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كل أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة ) وعن عائشة أنها قالت : أيمان اللغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة التي لا يعقد عليها القلب .
وأثر الصحابي في تفسير كلام الله حجة .
وقال أبو حنيفة : اليمين معنى لا لحقه الفسخ فلا يعتبر فيه القصد كالطلاق والعتاق .
وأيضاً إنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه ) أوجب الكفارة على الحانث مطلقاً من غير فصل بين المجد والهازل .
وقيل : إن يمين اللغو هو الحلف على ترك طاعة أو فعل معصية ، فبين الله تعالى أنه لا يؤاخذ بترك هذه الأيمان ) ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ( أي بإقامتكم على ذلك الذي حلفتم عليه من ترك الطاعة وفعل المعصية وعن الضحاك أن اللغو هي اليمين المكفرة كأنه قيل : لا يؤاخذكم الله بإثم الحلف غذا كفرتم .
وقيل : هي ما يقع سهواً ، والمراد بما كسبت قلوبكم هو العمد ، واختاره القاضي أبو بكر .
ثم إن الشافعي قال : معنى لا يؤاخذكم لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه ، ولكن يلزمكم الكفارة بما نوت قلوبكم وقصدت من الأيمان ولم يكن كسب اللسان وحده .
وقال أبو حنيفة : معناه لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم بالظن ، ولكن يعاقبكم بما اقترفته قلوبكم من إثم القصد أي الكذب في اليمين ، وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهو اليمين الغموس .
وقال مالك في الموطأ : أحسن ما سمعت في ذلك أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه فلا كفارة .
قال : والذي يحلف على شيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب ليرضي به أحداً أو يعتذر لمخلوق أو بقتطع به مالاً فهذا لا أعلم أن يكون فيه كفارة ، وإنما الكفارة على من حلف أن لا يفعل الشيء المباح الذي له فعله ثم يفعله ، أو أن يفعله ثم لا يفعله مثل : أن حلف ألا يبيع ثوبه بعشرة دراهم ثم يبيع بذلك ، أو يحلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه .
) والله(1/619)
" صفحة رقم 620 "
غفور رحيم ( حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم وأخر عقوبتكم بما كسبت قلوبكم لعلكم تتفكرون أو تتوبون عنها .
الحكم العاشر : ( للذين يؤلون من نسائهم ( يقال في اللغة : آلى يؤلي إيلاء وأئتلى ائتلاء وتألى تألياً .
والإلية والقسم واليمين والحلف كلها واحد .
وفي الحديث القدسي ( آليت أن أفعل ) خلاف المقدرين والإيلاء في الشرع هو الحلف على الامتناع من وطء لزوجة مطلقاً أو مدة تزيد على أربعة أشهر .
وكان الإيلاء طلاقاً في الجاهلية فغيّر الشرع حكمه .
قال سعيد بن المسيب .
كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحب أن يتزوجها غيره ، فيحلف أن لا يقربها وكان يتركها بذلك لا أيماً ولا ذات بعل ، والغرض منه مضارة المرأة .
ثم إن أهل الإسلام كانوا يفعلون ذلك أيضاً فأزال الله تعالى ذلك وأمهل الزوج مدة حتى يتروى ويتأمل .
فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها ، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها .
ثم المتعارف أن يقال : آليت على كذا وإنما عدي ههنا بمن لأنه أريد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر كما يقال : ( لي منك كذا ) أو ضمن في هذا القسم المصوص معنى البعد فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم أو يعتزلون مولين أو مقسمين .
والتربص التلبث والانتظار وإضافته إلى أربعة أشهر إضافة المصدر إلى الظرف كقوله ( بينهما يوم ) أي مسيرة في يوم ) فإن فاؤا ( فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها ) فإن الله غفور رحيم ( يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب الضرار بالإيلاء وهو الغالب ، وإن كان من الجائز كونه على رضا منهن إشفاقاً منهن على الولد من القتل أو لغير ذلك من الأسباب ) وإن عزموا الطلاق ( بان عقدوا القلب على حل رابطة النكاح ) فإن الله سميع عليم ( وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة التي هي مثل التوبة .
واعلم أن الإيلاء له أركان أربعة .
الحالف والمحلوف به والمحلوف عليه ومدة هي ظرف المحلوف عليه .
الركن الأول : الحالف وهو كل زوج يتصور منه الوقاع وكان تصرفه معتبراً في الشرع ، فيصح إيلاء الذمي لعموم قوله ) للذين يؤلون ( وبه قال أبو حنيفة .
وقال أبو يوسف ومحمد : لا يصح إيلاؤه بالله تعالى ويصح بالطلاق والعتاق ، وأيضاً لا فرق عندنا بين الحر والرقيق في الحد .
وعند أبي حنيفة يتنصف برق المرأة ، وعند مالك برق الرجل كما قالا في الطلاق لنا أن التخصيص خلاف الظاهر ، ولأن تقدير هذه المدة إن كان لأجل(1/620)
" صفحة رقم 621 "
معنى يرجع إلى الجبلة والطبع وهو قلة الصبر على مفارقة الزوج فيستوي فيه الحر والرقيق كالحيض ومدة الرضاع ومدة العنة .
ويصح الإيلاء في حالتي الرضا والغضب بعموم الآية .
وقال مالك : لا يصح إلا في حال الغضب .
وأيضاً يصح الإيلاء من المرأة سواء كانت في صلب النكاح أو كانت مطلقة طلقة رجعية ، لأن الرجعية يصدق عليه أنها من نسائه بدليل أنه لو قال : نسائي طوالق .
وقع الطلاق عليها فتدخل تحت ظاهر قوله ) يؤلون من نسائهم ( ولهذا لو قال لأجنبية : والله لا أجامعك لم يكن مولياً .
وإيلاء الخصي صحيح لأنه يجامع كما يجامع الفحل غير أنه لا ينزل .
ومن جُبّ جميع ذكره لم يصح إيلاؤه على الأظهر لأنه لا يتحقق منه قصد الإيلاء لامتناع الأمر في نفسه .
وكذا الأشل ومن بقي من ذكره بعد الجب ما دون قدر الحشفة .
فإن آلى ثم جب فالأصح ثبوت الخيار لها فإن لم تفسخ بقي الإيلاء على الأظهر لأن العجز عارض وقد قصد الإضرار في الابتداء وإذا كانت المرأة رتقاء أو قرناء فالحكم كما في الجب ولا يصح إيلاء الصبي والمجنون بحال .
الركن الثاني : المحلوف به وهو إما الله تعالى وصفاته أو غيره .
فإن حلف بالله كان مولياً ، ثم إن جامعها في مدة الإيلاء خرج عن الإيلاء .
وهل يجب عليه كفارة اليمين ؟ الجديد وقول أبي حنيفة أنه يجب عليه كفارة اليمين ، لأن الدلائل الدالة على وجوب الكفارة عند الحنث باليمين عامة ، وأي فرق بين أو يقول : والله لا أقربك ( ثم يقربها وبين أن يقول : ( والله لا أكلمك ( ثم يكلمها .
وإنما ترك ذكر الكفارة في الآية لأنها مبنية في سائر المواضع من القرآن وعلى لسان الرسول .
وقوله تعالى ) فإن الله غفور رحيم ( يدل على عدم العقاب وأنه لا ينافي الكفارة كالتائب عن الزنا أو القتال لا عقاب عليه ، ومع ذلك يجب عليه الحد والقصاص .
وأما إن كان الحلف في الإيلاء بغير الله كما إذا قال : إن وطئتك فللَّه علي عتق رقبة أو صدقة أو حج أو صوم أو صلاة .
فهل يكون مولياً ؟ الجديد وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة من العلماء أنه يكون مولياً لأن العتق والطلاق المعلقين بالوطء يحصلان لو وطئ فيكون ما يلزمه الوطء مانعاً له من الوطء ، ويكون هو بتعليقه بالوطء مضراً بها فيثبت لها المطالبة كما في اليمين بالله تعالى حتى يضيق الأمر عليه بعد مضي أربعة أشهر ليفيء أو يطلق .
ولا يخفى أنه لو كان المعلق به إلزام قربة في الذمة فعليه ما في نذر اللجاج .
وفيه أقوال أصحها أن عليه كفارة اليمين ، والثاني عليه الوفاء بما سمى ، والثالث التخيير بين كفارة اليمين وبين الوفاء .
الركن الثالث : المحلوف عليه وهو الجماع وهذا من صرائح ألفاظه ، وكذا النيك والوطء والإصابة ومن كناياتها المباضعة والملامسة والمباشرة فلا تعمل إلا بالنية .(1/621)
" صفحة رقم 622 "
الركن الرابع : المدة .
فعن ابن عباس أنه لا يكون مولياً حتى يحلف أن لا يطأها أبداً ، وعن الحسن وإسحاق أنه مول وإن حلف يوماً .
وهذان المذهبان في غاية البعد .
وعن أبي حنيفة والثوري أنه لا يكون مولياً حتى يحلف على أن لا يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد .
وعن مالك وأحمد والشافعي أنه لا يكون مولياً حتى تزيد المدة على أربعة أشهر .
فعند الشافعي إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر أجل لأربعة أشهر .
وهذه المدة تكون حقاً للزوج فإذا مضت طالبت المرأة الزوج بالفيئة أو الطلاق ، فإن امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه .
وعند أبي حنيفة إذا مضت أربعة أشهر يقع الطلاق بنفسه ، حجة الشافعي أن الفاء في قوله ) فإن فاؤا ( تقتضي كون ما بعدها من حكمي الفيئة والطلاق مشروعاً متراخياً عن انقضاء الأشهر الأربعة .
وأيضاً قوله ) وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ( صريح في أن وقوع الطلاق وإنما يكون بإيقاع الزوج ، وفي أن الزوج لا بد أن يصدر عنه شيء يكون مسموعاً وما ذاك إلا إيقاع الطلاق .
أجاب أبو حنيفة بأن قوله ) فإن فاؤا ( تفصيل للحكم المتقدم كما تقول : ( أنا نزيلكم هذا الشهر .
فإن حمدتكم أقمت عندكم إلى آخره وإلا لم أقم وأتحول ) وأيضاً الإيلاء طلاق في نفسه ، فالطلاق إشارة إليه .
وأيضاً الغالب أن العازم للطلاق والضرار وترك الفيئة لا يخلو من مقاولة ودمدمة وحديث نفس ، فذلك الذي يسمعه الله كما يسمع وسوسة الشيطان .
واستدل على صحة مذهبه في أن الفيئة لا بد أن تقع في الأشهر بقراءة عبد الله بن مسعود فإن ) فاؤا فيهن ( ورد بأنها شاذة فلا معول عليها والرجوع إلى الحق أولى الله حسبي .
التأويل : كما أن النساء محيضاً في الظاهر وهو سبب نقصان إيمانهن يمنعهن عن الصلاة والصيام فكذا للرجال محيض في الباطن وهو سبب نقصان إيمانهم يمنعهم عن حقيقة الصلاة وهي المناجاة ، وعن حقيقة الصوم وهي الإمساك عن مشتهيات النفوس .
وكما أ ، المحيض هو غلبة الدم فكذلك الهوى هو غلبة دواعي الصفات البشرية والحاجات الإنسانية ، فكلما غلب الهوى تكدر الصفا وحصل الأذى .
وقد قيل : قطرة من الهوى تكدر بحراً من الصفا .
ولذلك نودي من سرادقات الجلال : يا قلوب الرجال اعتزلوا نساء النفوس في محيض غلبات الهوى ) حتى يطهرن ( يفرغن من قضاء الحوائج الضرورية للإنسان من المأكول والمشروب والمنكوح ) فإذا تطهرن ( بماء التوبة والإنابة ورجعن إلى الحضرة في طلب القربة ) فأتوهن من حيث أمركم الله ( يعني عند ظهور شواهد الحق لزهوق باطل النفس واضمحلال هواها ) إن الله يحب التوابين ( عن أوصاف الوجود ) ويحب المتطهرين ( بأخلاق المعبود بل يحب التوابين عن بقاء الوجود ويحب المتطهرين(1/622)
" صفحة رقم 623 "
ببقاء الشهود ) نساؤكم حرث لكم ( الرجال البالغون الواصلون إلى عالم الحقيقة المتصرفون فيما سوى الله بتصرف الحقّ فهم رجال وما دون الله نساؤهم وهم الأنبياء والأولياء القائمون بالله الداعون إلى الله بإذنه .
فكما أن الدنيا مزرعة الآخرة لقوم ، فالدنيا والآخرة مزرعتهم ومحرثهم يحرثون فيها أنى شاءوا وكيف شاءوا ) وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) [ التكوير : 29 ] فقد فنيت مشيئتهم في مشيئته تعالى وبقيت قدرة تصرفهم بتقويته ) لا يؤاخذكم الله ( القلب كالأرض للزراعة ، والجوارح كآلات الحراثة ، والأعمال والأقوال كالبذر .
فالبذر ما لم يقع في الأرض المرتبة للزراعة لا ينبت وإن كان فيها آلة من آلات الحراثة .
أما إن كان لما يجري على الظواهر من الخبر أدنى أثر في القلب ولو كان مثقال ذرة فإن الله تعالى من كمال فضله وكرمه لا يضيعه بل يضاعفه ، وإن كان ما يجري عليه في الظاهر شراً فإن لم يكن له أثر في القلب كان لغواً ولا يؤاخذه ، وإن كان له أثر في القلب فهو بصدد المؤاخذة وإن شاء الله غفره .
) للذين يؤلون من نسائهم ( من وقع له من أهل القصد وقفة أو فترة في أثناء السلوك من ملالة النفس أو نفرة الطبع فعلى الشيخ والأصحاب أن لا يفارقوه في الحقيقة ويعاونوه بالهمم العلية ويتربصوا أربعةأشهر للرجوع لأن هذه مدة تعلق الروح بالجنين كما جاء في الحديث ( إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ) إلى آخره ) فإن فاؤا ( الفيئة إلى صدق الطلب ورعاية حق الصحبة ونفخ فيه روح الإرادة مرة أخرى لاحظوه بعين القبول ، فإن هذا ربيع لا يرعاه إلا المهزولون ، وربع لا يسكنه إلا المعزولون ، بل شراب لا يذوقه إلا العارفون ، وغناء لا يطرب عليه إلا العاشقون ) وإن عزموا الطلاق ( لعزمه على طلاق منكوحة المواصلة ) فإن الله سميع ( لمقالتهم ) عليم ( بحالتهم وهو حسبي .
( البقرة : ( 228 - 232 ) والمطلقات يتربصن بأنفسهن . . . .
" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها(1/623)
" صفحة رقم 624 "
فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون "
( القراآت )
أن يخافا ( بضم الياء : يزيد وحمزة ويعقوب الباقون بفتح الياء ) نبينها ( بالنون المفضل .
الباقون بياء الغيبة ) يفعل ذلك ( مدغماً حيث كان : أبو الحرث عن علي ) فقد ظلم ( مظهراً : ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير ورش وعاصم غير الأعشى .
الوقوف : ( قروء ( ط ) الآخر ( ط ) إصلاحاً ( ط ) بالمعروف ( ص لعطف المتفقتين ولا تمام المقصود في تفضيل الرجال ) درجة ( ط ) حكيم ( 5 ) مرتان ( ص لعطف المتفقتين ) بإحسان ( ط ) حدود الله ( الأول ط ) افتدت به ( ط ) تعتدوها ( ج ) الظالمون ( 5 ) غيره ( ص لأن الطلاق للزوج الثاني على خطر الوجود لا منتظر معهود فكان خارجاً من مقتضى الجملة الأولى ) أن يقيما حدود الله ( ط ) يعلمون ( 5 ) أو سرحوهن بمعروف ( ص لطول الكلام ) لتعتدوا ( ج ) نفسه ( ط ) هزوا ( ص لطول ما بعده ) يعظكم به ( ط ) بالمعروف ( ط ) الآخر ( ط ) وأطهر ( ط ) لا تعلمون ( 5 .
التفسير : الحكم الحادي عشر : الطلاق .
ويشتمل على أحكام أولها : وجوب العدة .
واعلم أن المطلقة وهي التي أوقع الطلاق عليها إما أ ، تكون أجنبية ولا يقع الطلاق عليها في عرف الشرع بالإجماع وإما أن تكون منكوحة وحينئذ إما أن لا تكون مدخولاً بها ولا عدة عليه لقوله تعالى ) إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها ) [ الأحزاب : 49 ] وإما أن تكون مدخولاً بها وحينئذ إن كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل قال تعالى : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) [ الطلاق : 4 ] وإن كانت حئلاً فإن امتنع الحيض في حقها إما للصغر المفرط أو الكبر المفرط فعدتها بالأشهر لا بالأقراء لقوله سبحانه ) واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) [ الطلاق : 4 ] وإن كان المحيض في حقها ممكناً فإن كانت رقيقة فعدتها قرآن ، وإن كانت حرة فعدتها ثلاثة أقراء لهذه الآية ، فظهر أن قوله ) والمطلقات ( لا يتناول إلا المنكوحة الحرة المدخول بها كالحائل من ذوات الحيض. لا يقال : العام إنما يحسن تخصيصه إذا كان الباقي أكثر من حيث إنه جرت العادة بإطلاق(1/624)
" صفحة رقم 625 "
لفظ الكل على الغالب لا المغلوب .
فيقال : الثوب أسود إذا كان الغالب عليه السواد لا البياض .
وههنا الباقي قسم واحد من الأقسام الخمسة فكيف يحسن إطلاق لفظ العام عليه ؟ لأنا نقول : أما الأجنبية فتخرج بعرف الشرع كما مر ، وأما غير المدخول بها فالقرينة تخرجها لأن المقصود من العدة براءة الرحم ، وكذا الحامل والآيسة لأن إيجاب الاعتداء بالأقراء إنما يكون حيث يحصل الأقراء ولا أقراء في حقهما .
وأما الرقيقة فتزويجها كالنادر فثبت أن اللفظ باقٍ على تناوله الأغلب .
وإنما لم يقل وليتربصن المطلقات بل أخرج الأمر في صورة الخبر إشعاراً بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله ، فكأنهن امتثلن فهو يخبر عن موجود .
وبناء الكلام على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد وتقوّ .
ولو قيل : ( وليتربصن المطلقات ) لم يكن بتلك الوكادة وفي ذكر الأنفس دون أن يقال ( يتربصن ثلاثة قروء ) تهييج لهن على التربص لأن فيه ما يستنكفن منه ، فإن أنفس النساء طوامح إلى الرجال ، نوازع إليهم ، فأمرن أن يقبضن أنفسهن .
والقروء جمع قرء بفتح القاف أو ضمها ، والراء ساكنة في الحالين .
وفي الصحاح بفتح القاف فقط .
ولا خلاف أن اسم القرء يقع على الطهر والحيض ، والمشهور أنه حقيقة فيهما .
وقيل : حقيقة في الحيض مجاز في الطهر .
وقيل بالعكس .
وقيل : إنه موضوع لمعنى واحد مشترك بينهما إما لأن القرء هو الاجتماع ثم في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم وفي وقت الطهر يجتمع الدم في البدن وهو قول الأصمعي والأخفش والفراء والكسائي ، وإما لأنه عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة وهو قول أبي عبيد ، وإما لأن القرء هو الوقت .
وقيل : ( هذا قارئ الرياح ) لوقت هبوبها .
ولا يخفى أن لكل من الطهر والحيض وقتاً معيناً وهذا قول أبي عمرو بن العلاء .
ثم إن الله تعالى أمر المطلقة بثلاثة أشياء تسمى أقراء ، لكن العلماء أجمعوا على أن الثلاثة يجب أن تكون من أحد الجنسين .
ثم اختلفوا فذهب الشافعي إلى أنها الأطهار ، ويروى ذلك عن ابن عمر وزيد وعائشة ومالك وربيعة وأحمد في رواية .
وقال عمر وعلي وابن مسعود : هي الحيض .
وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى .
وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر حتى لو طلها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قرءاً وإن حاضت عقيبه في الحال إذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها .
وعند أبي حنيفة ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر ، أو من الحيضة الرابعة إن كان في حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها .
ثم قال : إذا طهرت لأكثر الحيض تنقضي عدتها قبل الغسل ، وإن طهرت لأقل الحيض لم تنقض عدتها حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء أو يمضي عليها وقت صلاة حجة الشافعي قوله تعالى ) فطلقوهن لعدتهن ) [ الطلاق : 1 ] أي في زمان عدتهن .
وأجيب بأن معنى الآية(1/625)
" صفحة رقم 626 "
مستقبلات لعدتهن كما تقول : ( لثلاث بقين من الشهر ) أي مستقبلاً لثلاث .
وقيل : هذا يقوي استدلال الشافعي لأن قول القائل : ( لثلاث بقين من الشهر ) معناه لزمان يقع الشروع في الثلاث عقيبه .
فمعنى الآية طلقوهن بحيث يحصل الشروع في العدة عقيبه .
ولما كان الإذن حاصلاً بالتطليق في جميع زمان الطهر وجب أن يكون الطهر الحاصل عقيب زمان التطليق من العدة .
وروي عن عائشة أنها قالت : هل تدرون ما الأقراء ؟ الأقراء الأطهار .
ثم قال الشافعي : النساء بهذا أعلم .
وأيضاً التركيب يدل على الجمع .
وأكثر أحوال الرحم اجتماعاً واشتمالاً على الدم آخر الطهر ، إذ لو لم تمتلئ بذلك الفائض لما سالت إلى الخارج .
فمن أول الطهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره ، والآخر هو حال كمال الاجتماع فآخر الطهر هو القرء بالحقيقة .
وأيضاً الاعتداد بالأطهار أقل زماناً من الاعتداد بالحيض ، فيلزم المصير إليه لأن الأصل أن لا يكون لأحد على غيره حق الحبس والمنع .
ولما كانت المدة أقل كان أقرب إلى هذا الأصل وأوفق له .
وأيضاً الآية تدل على أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى أقراء خرجت عن العهدة فتكون متمكنة من الاعتداد بالأطهار التي مدتها أقل ، ومن الاعتداد بالحيض التي مدتها أكثر ، فيكون الاعتداد بالقدر الزائد على مدة الأطهار غير واجب .
حجة أبي حنيفة قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( دعي الصلاة أيام أقرائك ) وقوله ( طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان ) ولأن الغرض الأصلي من العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي يستبرأ به الأرحام ، ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة ، وفي تقليل مدة العدة تحليل بضعها للزوج الثاني .
فالتكثير أحوط ولأن إطلاق طهر كامل على بعض الطهر خلاف الظاهر ، وإذا تعارضت الوجوه ضعفت الترجيحات ويكون حكم الله تعالى في كل أحد ما أدى اجتهاده إليه .
وانتصاب ) ثلاث قروء ( على أنه مفعول به كقولهم ( المحتكر يتربص الغلاء ) أي يتربصن مضي ثلاثة قروء .
أو على الظرفية أي مدة ثلاثة قروء .
وإنما جاء المميز على جمع الكثرة دو القلة التي هي الأقراء للاتساع فإنهم يستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر ولهذا قال : ( بأنفسهن ( وما هي إلا نفوس كثيرة .
وأيضاً فلعل القروء أكثر استعمالاً فنزلا القليل بمنزلة المهمل فيكون مثل قولهم ( ثلاثة شسوع ) .
ثم إن أمر العدة لما(1/626)
" صفحة رقم 627 "
كان مبنياً على انقضاء القرء في حق ذوات الأقراء وعلى وضع الحمل في حق الحامل وكان الوصول إلى معرفة ذلك متعذراً على الرجال ، جعلت المرأة أمينة في العدة ، وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها ، وهو عند الشافعي اثنان وثلاثون يوماً وساعة .
لأنها إذا طلقت طاهراً فحاضت بعد ساعة ثم حاضت يوماً وليلة - وهو أقل الحيض - ثم طهرت خمسة عشر يوماً - وهو أقل الطهر - ثم حاضت مرة أخرى يوماً وليلة ، ثم طهرت خمسة عشر ثم رأت الدم ، فقد انقضت عدتها لحصول ثلاثة أطهار .
فمتى ادعت هذا أو أكثر منه قبل قولها ، وكذلك إذا كانت حاملاً فادعت سقوط الولد كان القول قولها لأنها على أصل أمانتها ولهذا قال سبحانه : ( ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ( فأكثر المفسرين قالوا : إن الكتمان راجع إلى الحبل والحيض معاً .
وذلك أن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما .
أما كتمان الحمل فإذا كتمت الحمل قصرت مدة عدتها فتتزوج بسرعة ، وربما كرهت مراجعة الزوج الأول ، وربما أحبت التزوج بروج آخر وأحبت أن تلصق ولدها بالزوج الثاني .
وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء ، فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول ، وقد تحب تقصير عدتها لتبطل رجعته ، فإذا حاضت أولاً فكتمته ثم أظهرت عند الحيضة الثانية أن ذلك أول حيضها فقد طولت العدة ، وهكذا إن كتمت الحيضة الثالثة .
وإذا كتمت أن حيضها باق فقد قطعت الرجعة على زوجها .
وقيل : المراد النهي عن كتمان الحبل فقط لأن المخلوق في الأرحام هو الحبل لا الحيض ، ولأن حمل المعنى على ما هو شريف أولى لقوله تعالى ) هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ) [ آل عمران : 6 ] وقيل : المراد النهي عن كتمان الحيض لأن الآية وردت عقيب ذكر الأقراء ولم يتقدم ذكر الحمل .
وقيل : يجوز أن يراد اللائي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك ، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه .
وفي قوله ) إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر ( تعظيم لفعلهن ، وإن من آمن بالله وبعقابه لا يجترئ على مثله من العظائم .
وفيه أن من جعل أميناً في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد .
الحكم الثاني للطلاق الحكم الثاني للطلاق : الرجعة وذلك قوله ) وبعولتهن أحق بردهن ( والبعل الزوج والجمع البعولة .
والتاء لتأكيد التأنيث في الجماعة كصقورة .
وليس هذا في كل جمع وإنما هو مقصور على السماع .
ويقال للمرأة أيضاً بعل وبعلة كما يقال زوج وزوجة والبعل : السيد المالك .
يقال : مَنْ بعل هذه الناقة ؟ أي مَنْ ربها وصاحبها ؟ ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قوله ( بعل حسن البعولة ) وعلى هذا فالمضاف محذوف أي أهل بعولتهن أحق بردهن برجعتهن .
قال(1/627)
" صفحة رقم 628 "
تعالى في موضع : ( ولئن رددت إلى ربي ) [ الكهف : 36 ] وفي موضع آخر ) ولئن رجعت ) [ فصلت : 50 ] فكأنه يردها من التربص إلى خلافه ، ومن الحرمة إلى الحل في ذلك أي في مدة التربص ، لأنه إذا انقضى ذلك الوقت بطل حق الرد والرجعة .
وإنما تكون البعولة أحق عند الله تعالى برجعتهن إن أرادوا إصلاحاً لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن لا الضرار وتطويل العدة كما في قوله ) ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ( فلو راجعها لقصد المضارة استوجب من الله العقاب ، وإن صحت رجعته شرعاً لأنا نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر .
فإن قيل : كيف جعلوه أحق بالرجعة كأن للنساء حقاً فيها ؟ فالجواب أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها فهذا هو المعنى بالأحقية أو نقول : إنهن إن كتمن ما في أرحامهن لأجل أن يتزوّج بهن آخر ، فإذا فعلن ذلك كان الزوج الأول أحق بردهن ، وإن ثبت للزوج الثاني حق في الظاهر ولهن من الحق على الرجال مثل الذي للرجال عليهن بالمعروف بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس فلا يكلفنهم ما ليس لهن ولا يكلفونهن ما ليس لهم .
والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب في كونهما من الحسنة لا في جنس الفعل .
فإذا غسلت ثيابه أو خبزت لا يجب عليه أن يفعل نحو ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال .
قال أبو هريرة : قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أي النساء خير ؟ قال : ( التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخونه في نفسها وماله بما يكره ) وفي حديث حجة الوداع ( ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ) وعن ابن عباس أنه قال : إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لقوله تعالى ) ولهن مثل الذي عليهن ( وقيل : معنى الآية ولهن على الزوج من إرادة الإصلاح عند المراجعة مثل ما عليهن من ترك الكتمان .
) وللرجال عليهن درجة ( زيادة في الحق وفضيلة وهي واحدة الدرجات الطبقات من المراتب .
أصلها من درج الرجل .
والضب يدرج دروجاً أي مشى ودرج أي مضى لسبيله .
ودرج القوم إذا انقرضوا .
وفي المثل ( أكذب من دبَّ ودرج ) أي أكذب الأحياء والأموات .
وقد فضل الله الرجال على النساء في أمور : في العقل وفي الدية وفي الميراث وفي نصيبه من المغنم ، وفي صلاحية الإمامة والقضاء والشهادة ، وفي أن له أن يتزوج عليها ويتسرى وليس لها ذلك ، وفي أن له أن(1/628)
" صفحة رقم 629 "
يطلقها وإذا طلقها راجعها شاءت المرأة أم أبت ولا قدرة للمرأة على التطليق ولا على الرجعة فإذن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان ) وفي خبر آخر ( اتقوا الله الضعيفين اليتيم والمرأة ) وذلك أن من كانت نعمة الله عليه أكثر كان صدور الذنب عنه أقبح ، واستحقاقه للزجر أشد ، وقيل : بل الغرض من الآية أن فوائد الزوجية هي السكن والازدواج والألفة والمودة واشتباك الأنساب واستكثار الأعوان والأحباب وحصول اللذة ، وكل ذلك مشترك بين الجانبين ، بل يمكن أن يقال : نصيب المرأة منها أوفر .
ثم إن الزوج اختص بأنواع من الكلفة وهي التزام المهر والنفقة والذب عنها والقيام بمصالحها ، فيكون وجوب الخدمة على المرأة أشد رعاية لهذه الحقوق الزائدة فيكون هذا كقوله تعالى ) الرجال قوامون على النساء بما فضل الله لعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) [ النساء : 34 ] وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو أمرت أحداً بالسجود لغير الله لأمرت المرأة بالسجود لزوجها ) ) والله عزيز حكيم ( غالب لا يمنع مصيب في أفعاله ، وأحكامه لا يتطرق إليها احتمال العبث والسفه والغلط والباطل .
الحكم الثالث للطلاق : هو الطلاق الذي يثبت فيه الرجعة .
وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يطلق امرأته ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدتها ، ولو طلقها ألف مرة كانت القدرة علىا لمراجعة ثابتة له .
فجاءت امرأة إلى عائشة فشكت أن زوجها يطلقها ويراجعها يضارها بذلك ، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل ) الطلاق مرتان ( فعلى هذا تكون الآية متعلقة بما قبلها .
والمعنى أن الطلاق الرجعي مرتان ولا رجعة بعد الثلاث .
وهذا تفسير من جوز الجمع بين الطلقات الثلاث وهو مذهب الشافعي وهو أليق بنظم الكلام لأنه تعالى بيّن في الآية الأولى أن حق الرجعة ثابت للزوج ولم يذكر أن ذلك الحق ثابت دائماً أو إلى غاية معينة فكان ذلك كالمجمل أن العام فيفتقر إلى مبين أو مخصص ، فذكر عقيبه أن الطلاق المعهود السابق الذي يثبت فيه للزوج حق الرجعة هو أن يوجد طلقتان فقط ، فإذا وصلت التطليقة إلى هذه الغاية بطل حق الرجعة .
والطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم .
وقيل : إن هذا كلام مبتدأ والمعنى : أن التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير(1/629)
" صفحة رقم 630 "
كقوله تعالى ) ثم ارجع البصر كرتين ) [ الملك : 4 ] أي كرة بعد كرة ، وقولهم ( لبيك وسعديك ) .
وهذا التفسير قول من قال : الجمع بين الثلاث حرام .
وزعم أبو زيد الدبوسي في الأسرار أن هذا هو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وحذيفة رضي الله عنهم ، ويؤكده العدول عن لفظ الأمر وهو ( طلقوا مرتين أو دفعتين ) إلى لفظ الخبر كما مر في قوله ) والمطلقات يتربصن ( ثم من هؤلاء من قال : لو طلقها ثنتين أو ثلاثاً لا يقع إلا واحدة وهذا هو الأقيس ، واختاره كثير من علماء أهل البيت لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة ، والقول بالوقوع سعي في إدخال تلك المفسدة في الوجود ومنهم من قال : - وهو اختيار أبي حنيفة - إنه وإن كان محرماً إلا أنه يقع ويكون بدعة ، والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهر لم يجامعها فيه .
وهذا منه بناء على أن النهي لا يدل على الفساد ، ومما يؤيد مذهب الشافعي حديث العجلاني الذي لاعن امرأته فطلقها بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم ينكر عليه ، ومما يؤكد مذهب أبي حنيفة حديث ابن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال له : إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً فتطلقها لكل قرء تطليقة .
وأما قول ) فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ( أي أمركم بعد الرجعة أو بعد معرفة كيفية التطليق أحد هذين .
فالتسريح الإرسال والإطلاق والإمساك نقيضه .
ومعنى الإمساك بالمعروف هو أن يراجعها لا على قصد المضارة بل على قصد الإصلاح ومعنى التسريح بإحسان قيل : هو أ ، يوقع عليها الطلقة الثالثة .
روي أنه لما نزل قوله تعالى ) الطلاق مرتان ( قيل له ( صلى الله عليه وسلم ) : فأين الثالثة ؟ فقال : هو قوله ) أو تسريح بإحسان ( وقيل : هو أن يترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة .
ويروى عن الضحاك والسدي وهو أقرب لولا الخبر الذي رويناه لأن الفاء في قوله ) فإن طلقها ( تقتضي وقوع هذه الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح .
فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة لكان قوله ) فإن طلقها ( طلقة رابعة وإنه غير جائز .
وأيضاً لو حملنا التسريح على ترك المراجعة كانت الآية متناولة لجميع الأقسام ، لأنه بعد الطلقة الثانية إما أن يراجعها وهو قوله ) فإمساك بمعروف ( أو لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي عدتها وتحصل البينونة وهو قوله ) أو تسريح بإحسان ( أو يطلقها وذلك قوله ) فإن طلقها ( فلو جعلنا التسريح طلاقاً لزم إهمال أحد الأقسام وتكرير بعضها .
وأما الحكمة في إثبات حق الرجعة فهي أن النعم مجهولة إذا فقدت عرفت ، فلو كانت الطلقة الواحدة مانعة عن الرجعة فربما ظهرت المحبة بعد المفارقة وعظمت المشقة .
ثم إن إكمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة فلهذا ثبت حق المراجعة بعد المفارقة مرتين ليجرب الإنسان أحوال قلبه ، فإن كان الأصلح له إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف ،(1/630)
" صفحة رقم 631 "
وإن كان الأصلح تسريحها سرحها على أحسن الوجوه وهو أن يؤدي حقوقها المالية ، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها ، وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رأفته بعبده .
الحكم الرابع من أحكام الطلاق : بيان الخلع وذلك قوله ) ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً ( وسبب ارتباط هذا بما قبله أنه تعالى لما أمر بالتسريح مقروناً بإحسان بيَّن عقيبه أن من جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئاً مما أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها ، لأنه ملك بضعها واستمتع بها في مقابلة ما أعطاها إلا إذا فارقها على عوض ويدخل فيه النهي من أن يضيق عليها ليلجئها إلى الافتداء كما قال في سورة النساء ) ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) [ النساء : 19 ] والخطاب في قوله ) ولا يحل لكم ( للأزواج وفي قوله ) فإن خفتم ( للأئمة والحكام .
ويجوز أن يكون الخطاب الأول أيضاً للأئمة لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم الآخذون والمؤتون روي أن الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي .
وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حبيبة بنت سهل الأنصارية ، كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه أشد البغض وكان يحبها أشد الحب .
فأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت : فرق بيني وبينه ، والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضاً إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً .
فقال ثابت : مرها فلترد علي الحديقة التي أعطيتها ، فقال لها : ما تقولين ؟ قالت : نعم وأزيده .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا ، حديقته فقط ) .
ثم قال لثابت : خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها ففعل ، وكان ذلك أول خلع في الإسلام .
ومعنى قوله ) إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ( إلا أن يخاف الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية واختلفوا في مقدار ما يجوز به الخلع .
فعن الشعبي والزهري والحسن وعطاء وطاوس أنه لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهو قول علي كرم الله وجهه لقوله تعالى ) ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً ( ثم قال : لآفلا جناح عليهما ( أي فلا جناح على الرجل فيما أخذ ، ولا عليها فيما أعطت .
ومعنى ) فيما افتدت به ( فيما افتدت نفسها واختلعت به فوجب أن يكون هذا راجعاً إلى ما آتاها ، ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) لا حديقته فقط .
حين قالت جميلة : نعم وأزيده .
ولأن ذلك إجحاف بجانب المرأة وضرار بالمرأة بعدما استبيح من بضعها ولهذا قال سعيد بن المسيب : لا يأخذ إلا دون ما أعطاها حتى يكون الفضل له .
وأما سائر الفقهاء فإنهم قالوا : الخلع عقد معاوضة فينبغي أن لا يتقدر بمقدار معين .
فكما أن للمرأة عند النكاح(1/631)
" صفحة رقم 632 "
أن لا ترضى إلا بالصداق الكثير ، فكذلك للزوج أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الكثير لا سيما وقد أظهرت الاتخفاف بالزوج حيث أظهرت بغضه وكراهته ، ويتأكد هذا بما روي أن امرأة نشزت على زوجها فرفعت إلى عمر فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليال ثم دعاها فقال : كيف وجدت مبيتك ؟ قالت : ما بت منذ كنت عنده أقر ليعين منهن .
فقال عمر لزوجها : اخلعها ولو بقرطها أي حتى قرطها .
ولهذا قال قتادة يعني بمالها كله .
وقيل : هو من قولهم ( خذه ولو بقرطي مارية ) وذلك فيهما درّتان قيمتهما أربعون ألف دينار .
ويصح الخلع في حالتي الشقاق والوفاق عند أكثر المجتهدين لقوله تعالى ) فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً ) [ النساء : 4 ] فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن يحصل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذلت ، كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى .
وذهب الزهري والنخعي وداود إلى أنه لا يباح الخلع إلا عند الغضب والخوف من أن لا يقيما حدود الله كما في الآية ، وإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فالخلع فاسد .
والجمهور على أنه لا كراهة في الخلع إن جرى في حال الشقاق ، أو كانت تكره صحبته لسوء خلقه أو دينه كما في الآية ، أو وقع وتحرجت عن الإخلال ببعض حقوقه لما بها من الكراهة فافتدت ليطلقها ، أو ضربها الزوج تأديباً فافتدت ، أو منعها حقها من النفقة وغيرها فافتدت لتتخلص منه وإن كان الزوج يكره صحبتها فأساء العشرة ومنعها بعض حقها حتى ضجرت وافتدت ، فالخلع مكروه وإن كان نافذاً والزوج مأثوم بما فعل .
فالخلع المباح هو أن تكون المرأة بحيث تخاف الفتنة على نفسها والزوج يخاف أناه إذا لم تطعه اعتدى عليها .
ويجوز أن يكون الخوف بمعنى الظن كما سبق في قوله ) فمن خاف من موصٍ جنفاً ) [ البقرة : 182 ] ومن قرأ ) إلا أن يخافا ( على البناء للمفعول جعل ) ألا يقيما ( بدلاً من ألف الضمير بدل الاشتمال مثل ( خيف زيد تركه إقامة حدود الله ) ثم الفرقة الحاصلة على العوض إن كان بلفظ الطلاق فهو طلاق ، وإن لم يجر إلا لفظ الخلع فللشافعي فيه قولان : الجديد أنه طلاق ينتقص به العدد وإذا خلعها ثلاث مرات لم ينكحها إلا بمحلل ، ويروى هذا عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال أبو حنيفة ومالك واختاره المزني ووجه بأنها فرقة لا يملكها غير الزوج فيكون طلاقاً كما لو قال : أنت طالق على كذا .
ولأنه لو كان فسخاً لما صح بالزيادة على المهر المسمى كالإقالة في البيع .
وإذا خالعها ولم يذكر المهر وجب أن يرد عليها المهر كالإقالة فإن الثمن يجب رده وإن لم يذكراه .
والقديم أنه فسخ لا ينتقص به العدد ويجوز تحديد النكاح بعد الخلع من غير حصر .
ويروى هذا عن ابن عمر وابن عباس قالوا : لأنه لو كان طلاقاً(1/632)
" صفحة رقم 633 "
وقد قال عقيب ذلك ) فإن طلقها فلا تحل له من بعد ( لكان الطلاق أربعاً ، ولأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أذن لثابت في مخالعته امرأته ولم يستكشف عن الحال مع أن الطلاق في زمان الحيض وفي الطهر الذي حصل الجماع فيه حرام ، ولما روى عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه جعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عدتها حيضة ولو كانت مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد ) تلك ( أي المذكورات من أحكام الطلاق ) حدود الله فلا تعتدوها ( فلا تتجاوزوا عنها ) ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ( والظالم اسم ذم وتحقير .
فوقوع هذا الاسم عليه يكون جارياً مجرى الوعيد .
وكيف لا والظالم ملعون ) ألا لعنة الله على الظالمين ( ثم إنه ظلم من الإنسان على نفسه حيث أقدم على المعصية ، وظلم على الغير أيضاً بتقدير أن لا تتم المرأة عدته أو كتمت شيئاً مما خلق في رحمها ، أو ترك الرجل الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان ، أو أخذ من جملة ما آتاها شيئاً لا بسبب نشوز من جهة المرأة .
الحكم الخامس من أحكام الطلاق : بيان أن الطلقة الثالثة قاطعة لحق الرجعة وذلك قوله ) فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ( والسبب في إيقاع آية الخلع بين آية الرجعة وبين هذه بعد ما مر من مناسبتها للتسريح بإحسان ، هو أن الرجعة والخلع لا يصحان إلا قبل الطلقة الثالثة ، ومعنى الآية فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرتين فلا تحل له من بعد ذلك التطليق حتى تنكح أي تتزوج غيره .
والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كالتزوج فيقال : فلانة ناكح في بني فلان أي لها زوج منهم .
هذا عند من يفسر قوله ) الطلاق مرتان ( بالطلاق الرجعي .
وأما عند من يفسره بأن التطليق الشرعي هو الذي يوقع على التفريق .
فالمعنى عنده أنه إن طلقها الطلاق الموصوف بالتكرار في قوله ) الطلاق مرتان ( واستوفى نصابه ) فلا تحل له من بعد ( ذلك ) حتى تنكح زوجاً غيره ( .
ومذهب جمهور المجتهدين أن النكاح ههنا بمعنى الوطء ، لأن قوله ) زوجاً ( يدل على العقد .
وقد نقلنا هذا عن أبي علي فيما سلف في تفسير قوله ) ولا تنكحوا المشركات ) [ البقرة : 221 ] ويؤيد هذا ما روي عن عائشة أن امرأة رفاعة جاءت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني .
وإن ما معه مثل هدبة الثوب .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك .
كنى بالعسيلة عن لذة الجماع وإنما أنث لأن من العرب من يؤنث العسل .
ويروى أنها لبثت ما شاء الله ثم رجعت فقالت : إنه قد كان مسني فقال لها : كذبت في قولك الأول فلن(1/633)
" صفحة رقم 634 "
أصدقك في الآخر ، فلبثت حتى قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأتت أبا بكر فقالت : أرجع إلى زوجي الأول فقال : قد عهدت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال لك ما قال فلا ترجعي إليه .
فلما قبض أبو بكر قالت مثله لعمر فقال : إن أتيتني بعد مرتك هذه لأرجمنك فمنعها .
وأيضاً المقصود من توقيت حصول الحل على هذا الشرط زجر الزوج عن الطلاق لأن الغالب أن الزوج يستنكر أن يستفرش زوجته رجل آخر ولهذا قال بعض أهل العلم : إنما حرم الله على نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينكحن زوجاً غيره لما فيه من الغضاضة .
ومعلوم أن هذا الزجر إنما يحصل بتوقيف الحل على الدخول ، فأما مجرد العقد فليس فيه زيادة نفرة فلا يصلح جعله مانعاً وزاجراً .
ثم قال الشافعي : إذا طلق زوجته واحدة أو ثنتين ثم نكحت زوجاً آخر وأبانها ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد لم يكن له عليها إلا طلقة واحدة وهي التي بقيت من الطلقات ، لأن هذه طلقة ثالثة من حيث إنها وجدت بعد طلقتين ، والطلقة الثالثة توجب الحرمة الغليظة ، وقال أبو حنيفة : بل يملك عليها ثلاثاً كما لو نكحت زوجاً بعد الثلاث وإذا تزوج الغير بالمطلقة ثلاثاً على أنه إذا أحلها للأول بأن أصابها فلا نكاح بينهما فهذا متعة بأجل مجهول وهو باطل .
ولو تزوجها بشرط أن يطلقها إذا أحلها للأول فقولان : أحدهما لا يصح ، والثاني يصح ويبطل الشرط وبه قال أبو حنيفة .
ولو تزوجها مطلقاً مضمراً أنه إذا أحلها طلقها فالنكاح صحيح ويكره ذلك ويأثم به .
وقال مالك وأحمد والثوري : هذا النكاح باطل .
وحيث حكمنا بفساد النكاح فالوطء لا يقع به التحليل على الأصح .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لعن المحلل والمحلل له ) وعن عمر : لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما .
) فإن طلقها ( أي الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة ) فلا جناح عليهما ( على المرأة المطلقة والزوج الأول في ) أن يتراجعا ( بنكاح جديد إلى ما كانا عليه من النكاح فهذا تراجع لغوي وظاهر الآية يقتضي أن يحل للزوج الأول هذا التراجع عقيب ما يطلقها الزوج الثاني من غير عدة بدلالة فاء التعقيب في قوله ) فلا جناح عليهما ( ولهذا ذهب سعيد بن المسيب إلى أن النكاح ههنا بمعنى العقد ، وأن التحليل يحصل بمجرد العقد لأن الوطء لو كان معتبراً لكانت العدة واجبة .
والجواب أن الآية مخصوصة بقوله تعالى ) والمطلقات يتربصن ( ) إن ظنا أن يقيما حدود الله ( إن كان في ظنهما وفي عزيمتهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية ، ولم يقل إن علما ، ولا يجوز أن يفسر الظن ههنا(1/634)
" صفحة رقم 635 "
بالعلم لأن اليقين في الاستقبال مغيب عن الإنسان ، فإن لم يحصل هذا الظن وخافا عند المراجعة من نشوز منها أو إضرار منه فالرجوع مذموم إلا أنه يصح شرعاً .
من قرأ ) نبينها ( بالنون فمن طريقة الالتفات والنون للتعظيم ، ومن قرأ بالياء فظاهر وصيغة المضارع أريد بها ههنا الحال فلا إشكال .
وجوز بعضهم أن يكون المراد بها الاستقبال ، وذلك أن النصوص التي تقدمت أكثرها عامة يدخل فيها التخصيص وذلك يعرف بالسنة .
فكان المراد - والله أعلم - إن هذه الأحكام التي تقدمت هي حدود الله ، وسيبينها الله على لسان نبيه كمال البيان فهو كقوله تعالى ) وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ) [ النحل : 44 ] وإنما خص البيان بالعلماء لأنهم هم المنتفعون بذلك .
ثم إنه تعالى لما بين الأحكام المهمة للطلاق استأنف لحكمي الإمساك والتسريح ببيانين آخرين في آيتين متعاقبتين ، لأن جملة الأمر في الطلاق يؤل إلى أحد هذين : الأول قوله سبحانه ) وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن ( أي آخر عدتهن وشارفن منتهاها .
والأجل يقع على المدة كلها وعلى آخرها .
يقال لعمر الإنسان أجل ، وللموت الذي ينتهي به أجل ، ويتسع في البلوغ أيضاً يقال : بلغ البلد إذا شارفه وداناه ، ويقول الرجل لصاحبه : إذا بلغت مكة فاغتسل بذي طوى يريد به مشارفة البلوغ .
فهذا من باب المجاز الذي يطلق فيه اسم الكل على الأكثر ، ولأنه قد علم أن الإمساك بعد تقضي الأجل لا وجه له لأنها بعد تقضيه غير زوجة له وفي غير عدة منه فلا سبيل له عليها ) فأمسكوهن بمعروف ( راجعوها من غير توخي ضرار بالمراجعة ) أو سرحوهن بمعروف ( خلوها حتى تنقضي عدتها ونبين .
ولما أمر بعد الطلاق بأحد الأمرين ، استأنف حكم كل منهما فقدم حكم الإمساك على طريقة النهي لا الأمر ، لأن المأمور يمتثل بمرة واحدة فلعله يمسكها بمعروف في الحال لكن في قلبه أن يضارها في الاستقبال ، والمنهي لا يمتثل إلا إذا انتهى في كل الأوقات فيكون أدل على الدوام والثبات فقال : ( ولا تمسكوهن ضراراً ( مضارة وتشمل موجبات النفرة والعداوة كلها ، وروي أن الرجل كان يطلق المرأة ثم يدعها فإذا قارب انقضاء القرء الثالث راجعها ، وهكذا يفعل بها في العدة تسعة أشهر أو أكثر .
وقيل : الضرار سوء العشرة .
وقيل : تضييق النفقة وكانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأفعال رجاء أن تختلع المرأة منه بماله .
ومعنى قوله ) لتعتدوا ( أي لا تضاروهن ليكون عاقبة أمركم الاعتداء كقوله ) فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً ) [ القصص : 8 ] أو لا تضاروهن على قصد الاعتداء عليهن فتكونون متعمدين لتلك المعصية .
وقيل : لتلجؤهن إلى الافتداء ) ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ( بتعريضها لعقاب الله ، أو بتفويته عليها منافع الدنيا والدين .
أما الدنيا فلأنه إذا اشتهر بتلك المعاملة(1/635)
" صفحة رقم 636 "
لم يرغب في التزويج منه ولا في معاملته أحد ، وأما منافع الدين فالثواب الحاصل على حسن العشرة مع الأهل وعلى الانقياد لأحكام الله تعالى وتكاليفه ) ولا تتخذوا آيات الله هزواً ( فمن أقربائه يجب طاعة الله وطاعة رسوله ثم وصلت إليه هذه التكاليف المذكورة في أبواب العدة والرجعة والخلع وترك المضارة ولم يتشمر لأدائها كان كالمستهزئ بها .
أو المراد لا تتهاونوا بتكاليف الله كما يتهاون بما يكون من باب الهزء والعبث .
وعن أبي الدرداء : كان الرجل يطلق في الجاهلية ويعتق ويتزوج ويقول : كنت لاعباً .
فنزلت فقرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : الطلاق والنكاح والرجعة ) وروي ( الطلاق والعناق والنكاح ) وعن عطاء : المعنى أن المستغفر من الذنب إذا كان مصراً عليه أو على مثله كان كالمستهزئ بآيات الله .
ثم إنه تعالى لما رغبهم في أداء التكاليف بما ذكر من التهديد رغبهم أيضاً في أدائها بأن ذكرهم أقسام نعمه عليهم .
فبدأ أولاً بذكرها على الإجمال فقال : ( واذكروا نعمة الله عليكم ( وهذا يتناول كل نعمة لله على العبد في الدنيا والدين وقيل : المراد بها الإسلام ونبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم خصص نعم الدين بالذكر لشرفها فقال : ( وما أنزل عليكم ( عطفاً على النعمة ) من الكتاب والحكمة ( من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها ) يعظكم به ( في محل النصب حالاً مما أنزل أو من فاعل ( أنزل ) .
ويحتمل أن يكون ) ما أنزل ( الصلة والموصول مبتدأ ، وقوله ( يعظكم به ( خبراً ) واتقوا الله ( في أوامره ونواهيه ) واعلموا أن الله بكل شيءٍ عليم ( فيه وعد ووعيد وترغيب وترهيب الثاني : وهو حكم المرأة المطلقة بعد انقضاء العدة قوله عز من قائل ) وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن ( بلوغ الأجل ههنا على الحقيقة .
عن الشافعي : دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين ) فلا تعضلوهن ( لا تحبسوهن ولا تضيقوا عليهن .
وأصل العضل الضيق ومنه عضلت الدجاجة ، إذا نشب بيضها فلم يخرج ، وعضلت الأرض بالجيش إذا ضاقت بهم لكثرتهم ، وأعضل الدواء الأطباء إذا أعياهم ، والعضلة اللحمة المتجمعة المكتنزة في عصبة .
والخطاب للأزواج الذين يمنعون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلماً وقسراً ولحمية الجاهلية من أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهن إذا تراضوا - اي الرجال والنساء - تراضياً واقعاً بينهم بالمعروف بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط كالعقد الحلال والمهر الجائز والشهود والعدول .
وقيل : بمهر المثل وفرعوا عليه مسألة فقهية توافق(1/636)
" صفحة رقم 637 "
مذهب أبي حنيفة وهي : أنها إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها فالنكاح صحيح لكن للولي أن يعترض عليها بسبب النقصان عن المهر دفعاً للشين عن الأولياء ولأن نساء العشيرة يتضررن بذلك فقد يعتبر مهورهن بمهرها .
وزعم كثير من المفسرين أن الخطاب في قوله ) فلا تعضلوهن ( للأولياء لما روى البخاري في صحيحه أن معقل بن يسار قال : كانت لي أخت تخطب إلي وأمنعها من الناس .
فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقاً له رجعة ، ثم تركها حتى انقضت عدتها .
فلما خطبت إلي أتاني يخطبها مع الخطاب فقلت له : خطبت إلي فمنعتها الناس وآثرتك بها وزوجتك ثم طلقتها طلاقاً لك رجعة ، ثم تركتها حتى انقضت عدتها ، فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب ، والله لا أنكحتهكها أبداً .
قال : ففيَّ نزلت هذه الآية فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه .
وعن مجاهد والسدي أن جابر بن عبد الله كانت له بنت عم فطلقها زوجها وأراد رجعتها بعد العدة فأبى جابر فنزلت .
وأجيب بأن رعاية نظم كلام الله أولى من محافظة خبر الواحد ، ولا يخفى تفكك النظم لو قيل : ( وإذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء ) لأنه لا يبقى بين الشرط والجزاء مناسبة ، قالوا : ليس بعد انقضاء العدة قدرة للزوج على عضل المرأة .
والجواب أنه قد يقدر على الظلم وقد يجعد الطلاق أو يدعي أنه كان راجعها في العدة ، أو يدس إلى من يخطبها بالوعيد والتهديد ، أو ينسبها إلى أمور تنفر الناس عنها .
قالوا : ( أن ينكحن أزواجهن ( يدل على أن الأولياء كانوا يمنعونهن من العود إلى أولئك الذين كانوا أزواجاً لهن .
والجواب أن العرب قد تسمي الشيء بما يؤل إليه .
فالمراد من يردن أ ن يتزوّجنهم فيكونوا أزواجاً لهن .
وقيل : الوجه أن يكون خطاباً للناس أي لا يوجد فيما بينكم عضل ، لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين .
ثم إن الشافعي تمسك بالآية في أن النكاح لا يجوز إلا بولي ، لأنه لو جاز للمرأة أن تزوج نفسها أو توكل من يزوجها لما كان الولي قادراً على عضلها من النكاح ، وهذا مبني على أن الخطاب في ) لا تعضلوهن ( للأولياء وفيه ما فيه .
ولو سلم فلم يجوز أن يكون الاستبداد الشرعي حاصلاً لهن ، ولكن يمنعها الولي من بعض الجهات التي قلنا في الزوج .
وأيضاً فثبوت العضل في حق الولي ممتنع لأنه مهما عضل انعزل ، وإذا انعزل لا يبقى لعضله أثر .
وتمسك أبو حنيفة بقوله تعالى ) أن ينكحن أزواجهن ( على أن النكاح بغير ولي جائز ، وذلك أنه تعالى اضاف النكاح إليها إضافة الفعل إلى فاعله والتصرف إلى مباشره ، ونهى الولي عن منعها من ذلك .
ولو كان ذلك التصرف فاسداً لما نهى الولي عن منعها منه ، ويتأكد هذا النص بقوله ) حتى تنكح زوجاً غيره ( وأجيب بأن الفعل كما يضاف(1/637)
" صفحة رقم 638 "
إلى المباشر فقد يضاف أيضاً إلى المتسبب مثل ( بنى الأمير داراً ) وإنما ذهبنا إلى هذا وإن كان مجازاً لدلالة الحديث على بطلان هذا النكاح هذا .
وأما قوله ) ذلك يوعظ به ( فالخطاب فيه إما للرسول أو لكل أحد على الانفراد كما أن الخطاب في قوله في سورة الطلاق ) ذلكم يوعظ به من كان ) [ الطلاق : 2 ] للمكلفين مجموعين .
وقوله ( من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ( تخصيص لهم بالوعظ لأنهم هم المنتفعون بذلك .
ومن استدل بهذا على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة يكذبه التكاليف العامة كقوله ) ولله على الناس حج البيت ( وأيضاً لا يلزم من تخصيص العظة بالمؤمنين تخصيص التكليف بهم ) ذلكم أزكى لكم ( أي أنمى وهو إشارة إلى استحقاق الثواب الدائم ، وأطهر أي من أدناس الآثام ) والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( لأن علمه تعالى فعلي كامل وعلمنا انفعالي ناقص .
فقد تخفى المصلحة والعاقبة علينا ، أو تشتبه المصلحة بالمفسدة فلا صلاح للمكلف إلا في طاعة علام الغيوب ليجوز سعادة الدارين والله ولي التوفيق .
التأويل : إنه سبحانه من كمال الكرم والاصطناع إذا صدر من العبد أمارات النشوز والانقطاع أمهله إلى انقضاء عدة الجفاء ، فلعله يعود إلى إقامة شرائط الوفاء ، وتتحرك داعية في صميم قلبه من نتائج محبة ربه ، إذ لم يكن له أن يكتم ما خلق الله في رحم قلبه من المحبة .
وإن ابتلاه الله بمحنة الفرقة فيقرع بأصبع الندامة باب التوبة ، ويقوم على قدم الغرامة في طلب الرجعة والأوبة فيقال له من غاية الفضل والنوال : يا قارع الباب دع نفسك وتعال ، من طلب منا فلاحاً فليلزم عتبتنا مساء وصباحاً .
) وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً ولهن مثل الذي عليهن ( أي للعباد حق في ذمة الربوبية كما أن الله تعالى حقاً في ذمة عباده ، فإذا تقرب العبد إليه شبراً فالله أحق برعاية الحق فيقرب إليه ذراعاً .
والفضل له على الإطلاق لا بدرجة بل بدرجات غير متناهية ) والله عزيز ( أعز من أن يراعي العباد مع عجزهم كمال حقوقه ) حكيم ( لا تقتضي حكمته أن يطالبهم بما ليس في وسعهم بل يقبل منهم القليل ويوفيهم الثواب الجزيل ) الطلاق مرتان ( يعني أن أهل الصحبة لا يفارقون بجريمة ولا جريمتين كما في قصة موسى والخضر .
ثم في الثالثة إن سلكوا سبيل الهجران فلا يحل للإخوان أن يواصلوا الخوان حتى يصاحب الخائن صديقاً مثله ، فإن ندم بعد ذلك عن أفعاله وسام ذلك الصديق وأمثاله ورجع إلى صحبة أشكاله ) فلا جناح ( في التراجع ) إن ظنا ( فيه خيراً ولا يجوز لأحد من الإخوان أن يعضله من صحبة الأقران .
وفيه أن الله تعالى يتجاوز عن زلات العبد مرة بعد أخرى ، فإذا أصر العبد ابتلاه بالخذلان وجعله قرين الشيطان كما قال : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن ) [ الزخرف :(1/638)
" صفحة رقم 639 "
36 ] فإن طلق قرين الشيطان ورجع إلى باب الرحمن تداركه بالغفران والرضوان .
وأما قوله ) ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً ( فإشارة إلى أنه ليس لأهل الصحبة - وإن اتفقت المفارقة - أن يستردوا خواطرهم عن الرفقاء بالكلية ، فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه إلا أن يؤدي إلى مداهنة وإهمال حق من حقوق الدين ) فلا جناح عليهما فيها افتدت به ( كأن لم يكن بينهما صحبة ) فإن الله سميع ( بمقالتهم ) عليم ( بحالهم والله ولي التوفيق .
( البقرة : ( 233 - 237 ) والوالدات يرضعن أولادهن . . . .
" والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير "
( القراآت )
لا تضار ( بضم الراء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وقتيبة .
الباقون بفتح الراء ولا خلاف في قوله ) ولا يضار كاتبٌ ولا شهيد ) [ البقرة : 282 ] بالفتح ) ما أتيتم ( مقصوراً : ابن كثير .
الباقون بالمد ) يتوفون ( بفتح الياء وما بعده : المفضل .
الباقون بضم الياء ) النساء أو ( بهمزتين : عاصم وعلي وحمزة وخلف وابن عامر .
الباقون ) النساء ( وروى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة ) النساء أو ( .
) تماسوهن ( حيث وقعت : علي وحمزة وخلف .
الباقون ) تمسوهن ( ) قدره ( بالتحريك : يزيد وابن ذكوان وروح وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد .
الباقون بالإسكان .
الوقوف : ( الرضاعة ( ط ) بالمعروف ( ط ) وسعها ( ج لاستئناف اللفظ مع قرب المعنى ) مثل ذلك ( ج ) عليهما ( ط لابتداء الحكم في استرضاع الأجنبية ) بالمعروف ( ط ) بصير ( ه ) وعشراً ( ج ) بالمعروف ( ط ) خبير ( ه ) أنفسكم ( ط ) معروفاً ( ط(1/639)
" صفحة رقم 640 "
) أجله ( ط لابتداء الأمر ) فاحذروه ( ج للفصل بين موجبي الخوف والرجاء ولهذا كررت كلمة ( واعلموا ) تقديره غفور حليم فارجوه والوقف أليق ) حليم ( ه ) فريضة ( ج لعطف المختلفتين ) ومتعوهن ( ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى ، لأن الجملة الثانية لتقدير المأمور في الأولى ) قدره ( الثاني ج لأن ( متاعاً ) مصدر ( متعوهن ) والوقف لبيان أنه غير متصل بما يليه من الجملتين العارضتين ) بالمعروف ( ج لأن ( حقاً ) يصلح نعتاً للمتاع أي متاعاً حقاً ، ويصلح مصدر المحذوف أي حق ذلك حقاً .
) المحسنين ( ط ) النكاح ( ط ) للتقوى ( ط ) بينكم ( ه ) بصير ( ه .
التفسير : الحكم الثاني عشر : الإرضاع والوالدات .
قيل : هن المطلقات والمزوجات لأن ظاهر اللفظ مشعر بالعموم .
وقيل : المطلقات ولهذا ذكرت عقيب آية الطلاق .
وتحقيقه أنه إذا حصلت الفرقة استتبعت التباغض والتعاند المتضمن لإيذاء الولد ليتأذى الزوج ، وربما رغبت في التزوج بزوج آخر فيهمل أمر الطفل ، فندب الله تعالى الوالدات المطلقات إلى رعاية جانب الأطلاف والاهتمام بشأنهم .
وأيضاً إنه تعالى قال في الآية : ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ( ولو كانت الزوجية باقية لوجب ذلك للزوجية لا للرضاع ذكره السدي .
وقال الواحدي في البسيط : الأولى أن يحمل على المزوجات في حال بقاء النكاح ، لأن المطلقة لا تستحق النفقة وإنما تستحق الأجرة ، ثم إن النفقة والكسوة تجبان في مقابلة التمكين ، فإذا اشتغلت بالإرضاع والحضانة لم تتفرغ لخدمة الزوج ، فلعل متوهماً يتوهم أن مؤنتها قد سقطت بالخلل الواقع في الخدمة فأزيل ذلك الوهم بإيجاب الرزق والكسوة وإن اشتغلت بالإرضاع ويرضعن مثل يتربصن في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد ، وهذا الأمر على سبيل الندب بدليل قوله تعالى ) فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) [ الطلاق : 6 ] ولو وجب عليها الإرضاع لم تستحق الأجرة .
وإنما كان ندباً من حيث إن تربية الطفل بلبن الأم أصلح ، ولأن شفقتها أكثر ، ولا يجوز استئجار الأم عند أبي حنيفة ما دامت زوجة أو معتدة من نكاح ، وعند الشافعي يجوز ، فإذا انقضت عدتها جاز بالاتفاق .
وقد يفضي الأمر إلى الوجوب إذا لم يقبل الصبي إل ثدي أمه ، أو لم توجد له ظئر ، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار .
) حولين ( أي عامين ، والتركيب يدور على الانقلاب .
فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني ، و ) كاملين ( توكيد كقوله ) تلك عشرة كاملة ) [ البقرة : 196 ] فقد يقال : أقمت عند فلان حولين .
وإنما أقام حولاً وبعض الآخر .
وليس التحديد بالحولين تحديد إيجاب لقوله تعالى بعد ذلك ) لمن أراد أن يتم الرضاعة أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الإرضاع ، أو اللام متعلقة بيرضعن كما تقول :(1/640)
" صفحة رقم 641 "
أرضعت فلانة لفلان ولده أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة من الآباء ، لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه .
ثم المقصود من ذكر التحديد قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاعة ، فإن أراد أحدهما أن يفطمه قبل الحولين ولم يرض الآخر لم يكن له ذلك .
أما إذا اجتمعا على أن يفطما قبل تمام الحولين فلهما ذلك .
وأيضاً فللرضاع حكم خاص في الشريعة وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فيعلم من التحديد أن الإرضاع ما لم يقع في هذا الزمان لا يفيد هذا الحكم هذا هو مذهب الشافعي وبه قال علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري .
وعن أبي حنيفة أن مدة الرضاع ثلاثون شهراً .
وقرئ ) أن يتم الرضاعة ( برفع الفعل تشبيهاً لأن بما لتآخيهما في التأويل أي في المصدر لأن كلمة ( ما ) ستارة تقع مصدرية فلا تنصب .
وقرئ ) الرضاعة ( بكسر الراء .
) وعلى المولود له ( وعلى الذي يولد له وهو الوالد وله في عمل الرفع على الفاعلية لما عليهم في المغضوب عليهم .
وإنما قيل : ( المولود له ( دون الوالد ليعلم أن الوالدات إنما ولدت لهم ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات .
وفيه تنبيه على أن الولد إنما يلحق بالوالد لكونه مولوداً على فراشه ما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الولد للفراش ) وفيه أن نفع الأولاد عائد إلى الآباء فيجب عليهم رعاية مصالحه كما قيل : كله لك فكله عليك .
فعليهم رزقهن وكسوتهن إذا أرضعه ولدهم كالأظآر ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم تكن هذه المعاني مقصودة وذلك قوله ) واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولودٌ هو جاز عن والده شيئاً ) [ لقمان : 33 ] ( بالمعروف ( تفسيره ما يتلوه وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضار .
وأيضاً المعروف في هذا الباب قد يكون محدوداً بشرط وعقد ، وقد يكون غير محدود إلا من جهة العرف ، لأنه إذا قام بما يكفيها في طعامها وكسوتها فقد استغنى عن تقدير الأجرة ، إذ لو كان ذلك أقل من قدر الكفاية لحقها ضرر من الجوع والعري ، ويتعدى ذلك الضرر إلى الولد .
وفي الآية دليل على أن حق الأم أكثر من حق الأب لأنه ليس بين الأم والطفل واسطة ، وبين الأب وبينه واسطة ، فإنه يستأجر المرأة على الإرضاع والحضانة بالنفقة والكسوة .
والتكليف : الإلزام .
قيل : أصله من الكلف وهو الأثر على الوجه .
فمعنى تكلف(1/641)
" صفحة رقم 642 "
الأمر اجتهد أن يبين فيه أثره .
وكلفه ألزمه ما يظهر فيه أثره .
والوسع ما يسع الإنسان ولا يعجز عنه ولهذا قيل : الوسع فوق الطاقة .
من قرأ ) لا تضار ( بالرفع فعلى الإخبار في معنى النهي ، ويحتمل البناء للفاعل والمفعول على أن الأصل تضار بكسر الراء ، أو تضار بفتحها .
ومن قرأ بالفتح فعلى النهي صريحاً ، ويحتمل البناءين أيضاً .
وتبيين ذلك أنه قرئ ) لا تضارر ( و ) لا تضارر ( بالجزم وكسر الراء الأولى وفتحها .
ومعنى لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الزرق والكسوة وأن تشغل قلبه بسبب التفريط في شأن الولد ، وأن تقول بعد ما ألفها الصبي : اطلب له ظئراً ونحو ذلك ) ولا يضار مولودٌ له ( امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئاً مما وجب عليه من الرزق والكسوة ، أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه ، أو يكرهها على الإرضاع .
وهكذا إذا كان مبنياً للمفعول كان نهياً عن أن يلحق بها الضرر من قبل الزوج ، وعن أن يلحق الضرر بالزوج من قبلها بسبب الولد .
ويحتمل أن يكون تضار بمعنى تضر ، والباء من صلته أي لا تضر والدة بولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده أو تفرّط فيما ينبغي له ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ، ولا يضر الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يفرط في شأنها فتقصر هي في حق الولد .
وإنما قيل : ( بولدها ( و ) بولده ( لأن المرأة لما نهيت عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافاً لها عليه وأنه ليس بأجنبي منها فمن حقها أن تشفق عليه وكذلك الوالد .
قوله سبحانه ) وعلى الوارث مثل ذلك ( للعلماء فيه أقوال من حيث إنه تقدم ذكر الوالد والولد والوالدة واحتمل في الوارث أن يكون مضافاً إلى كل واحد من هؤلاء .
فعن ابن عباس أن المراد وارث الأب ، وقوله ( وعلى الوارث ( عطف على قوله ) وعلى المولود له رزقهن ( وما بينهما تفسير للمعروف .
فالمعنى وعلى وارث المولود مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة أي إن مات المولود ألزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشرط المذكور من العدل وتجنب الضرار .
وقيل : المراد وارث الولد الذي لو مات الصبي ورثه ، فيجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب ، وهذا قول الحسن وقتادة وأبي مسلم والقاضي .
ثم اختلفوا في أنه أيّ وارث هو ؟ فقيل : العصبات دون الأم والأخوة من الأم وهو قول عمر والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وإبراهيم .
وقيل : هو وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث ، عن قتادة وابن أبي ليلى .
وقيل : وعلى الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم من ابن العم والمولى عن أبي حنيفة وأصحابه .
وعند الشافعي لا نفقة فيما عدا الولاد أي الأب والابن .
وقيل : المراد من الوارث هو الصبي نفسه فإنه إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة(1/642)
" صفحة رقم 643 "
رضاعه في ماله إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه .
وقيل : المراد من الوارث الباقي من الأبوين كما في الدعاء المروي ( واجعله الوارث منا ) أي الباقي وهو قول سفيان وجماعة ) فإن أرادا فصالاً ( أي فطاماً وليس من باب المفاعلة وإنما هو ثلاثي على ( فعال ) كالعثار والإباق .
وذلك أن الولد ينفصل عن الاغتذاء بثدي أمه إلى غيره من الأقوات .
وعن أبي مسلم أنه يحتمل أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الولد والأم إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ، ولم يرجع ضرر إلى الولد وليكن الفصال صادراً ) عن تراضٍ منهما وتشاور ( مع أرباب التجارب وأصحاب الرأي ) فلا جناح عليهما ( في ذلك زادا على الحولين لضعف في تركيب الصبي ، أو نقصاً .
وهذه أيضاً توسعة بعد التحديد وذلك أن الأم قد تمل من الإرضاع فتحاول الفطام والأب أيضاً قد يمل إعطاء الأجرة على الإرضاع فيطلب الفطام دفعاً لذلك لكنهما قد يتوافقان على الإضرار بالولد لغرض النفس فلهذا اعتبرت المشاورة مع غيرهما ، وحينئذٍ يبعد موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد ، وإن اتفقوا على الفطام قبل الحولين وهذا غاية العناية من الرب بحال الطفل الضعيف ، ومع اجتماع الشروط لم يصرح بالإذن بل رفع الحرج فقط .
ولما بيّن حكم الأم وأنها أحق بالرضاع بيّن أنه يجوز العدول في هذا الباب عنها إلى غيرها فقال : ( وإن أردتم أن تسترضعوا ( أي المراضع أولادكم ) فلا جناح عليكم ( يقال : أرضعت المرأة الصبي واسترضعتها الصبي بزيادة السين مفعولاً ثانياً كما تقول : أنجا لحاجة واستنجته إياها .
فحذف أحد المفعولين للعلم به .
وعن الواحدي : التقدير أن تسترضعوا لأولادكم فحذف اللام للعلم به مثل ) وإذا كالوهم أو وزنوهم ( أي كالوا لهم أو وزنوا لهم .
ومن موانع الإرضاع للأم ما إذا تزوجت بزوجٍ آخر ، فقيامها بحق ذلك الزوج يمنعها عن الإرضاع .
ومنها أنه إذا طلقها الزوج الأول فقد تكره الإرضاع ليتزوج بها زوج آخر .
ومنها أن تأبى المرأة قبول الولد إيذاء للزوج المطلق .
ومنها أن تمرض أو ينقطع لبنها .
فعند أحد هذه الأمور إذا وجدنا مرضعة أخرى وقبل الطفل لبنها جاز العدول عن الأم إلى غيرها ، فإن لم نجد مرضعة أخرى أو وجدنا ولكن لا يقبل الطفل لبنها فالإرضاع واجب على الأم .
) إذا سلمتم ( إلى المراضع ) ما آتيتم ( ما آتيتموه المرأة أي ما أردتم إيتاءه مثل ) إذا قمتم إلى الصلاة ( قرأ ) ما أتيتم ( بالقصر فهو من أتى إليه إحساناً إذا فعله كقوله تعالى ) إنه كان وعده مأتياً ( أي مفعولاً .
وروى شيبّان عن عاصم ) ما أوتيتم ( أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ، وليس التسليم شرطاً للجواز والصحة وإنما هو ندب إلى الأولى .
وفيه حث على أن الذي يعطي المرضعة يجب أن يكون يداً بيد حتى يكون أهنأ وأطيب لنفسها لتحتاط في شأن الصبي ، ولهذا قيد التسليم(1/643)
" صفحة رقم 644 "
بأن يكون بالمعروف وهو أن يكونوا حينئذٍ مستبشري الوجوه ناطقين بالقول الجميل مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن قطعاً لمعاذيرهن .
ثم أكد الجميع بأن ختم الآية بنوع من التحذير فقال : ( واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير ( .
الحكم الثالث عشر : عدة الوفاة ) والذين يتوفون ( ومعناه يموتون ويقبضون قال : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) [ الزمر : 42 ] وأصل التوفي أخذ الشيء كاملاً وافياً .
ويبنى للمفعول ومعناه ما قلنا ، وللفاعل ومعناه استوفى أجله ورزقه وعليه قراءة علي رضي الله عنه ) يتوفون ( بفتح الياء .
والذي يحكى أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشي خلف جنازة فقال له رجل : من المتوفي - بكسر الفاء - ؟ فقال : الله .
وكان أحد الأسباب الباعثة لعليّ رضي الله عنه على أن أمره بأن يضع كتاباً في النحو .
فلعل السبب فيه أن ذلك الشخص لم يكن بليغاً وهذا المعنى من مستعملات البلغاء فلهذا لم يعتد بقوله ، وحمله على متعارف الأوساط ) ويذرون ( يتركون ولا يستعمل منه الماضي والمصدر استغناء عنهما بتصاريف ترك .
والأزواج ههنا النساء ) يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر ( مثل قوله ) يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) [ البقرة : 228 ] وقد مر .
) وعشراً ( أي يعتددن هذه المدة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام .
وإنما قيل : ( عشراً ( ذهاباً إلى الليالي والأيام داخلة معها .
قال في الكشاف : ولا نراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام .
وقيل في سبب التغليب : إن مبدأ الشهر من الليل ، والأوائل أقوى من الثواني .
وأيضاً هذه الأيام أيام الحزن ، وأيام المكروه خليقة أن تسمى ليالي استعارة ، أو المراد عشر مدد كل منها يوم بليلته .
وذهب الأوزاعي والأصم إلى ظاهر الآية وأنها إذا انقضت لها اربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج نقل عن الحسن وأبي العالية أنه تعالى إنما حد العدة بهذا القدر لأن الولد ينفخ فيه الروح في العشر بعد الأربعة .
قلت : ولعل هذا من الأمور التي لا يعقل معناها كأعداد الركعات ونصب الزكوات ، وإنما الله ورسوله أعلم بذلك .
وهذه العدة واجبة على كل امرأة مات زوجها إلا إذا كانت أمة فإن عدتها نصف عدة الحرة عند أكثر الفقهاء .
وعن الأصم أن عدتها عدة الحرائر تمسكاً بظاهر عموم الآية ، وقياساً على وضع الحمل وإلا إذا كانت المرأة حاملاً فإنها إذا وضعت الحمل حلت وإن كان بعد وفاة الزوج بساعة لقوله تعالى ) وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) [ الطلاق : 4 ] .
ولو زعم قائل أن ذلك في الطلاق فليعول على قصة سبيعة الأسلمية ، ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فقال لها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( حللت فانكحي من شئت ) .
وعن علي رضي الله عنه أنها تتربص أبعد الأجلين .
ولا فرق في عدة الوفاة بين الصغيرة والكبيرة وذات الأقراء وغيرها والمدخول بها وغيرها .
وقال ابن عباس : لا عدة عليها قبل الدخول .
ورد بعموم(1/644)
" صفحة رقم 645 "
الآية ، ولهذا أيضاً لم يفرق بين أن ترى المعتدة في المدة المذكورة دم الحيض على عادتها أو لا تراه خلافاً لمالك فإنه قال : لا تنقضي عدتها حتى ترعادتها من الحيض في تلك الأيام مثل التي كانت عادتها .
فإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهر مرة فعليها في عدة الوفاة أربع حيض ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة فعليها حيضتان ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل أربعة أشهر مرة يكفيها حيضة واحدة ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل خمسة أشهر مرة فههنا يكفيها الشهور ، ثم مذهب الشافعي أنها إن ارتابت استبرأت نفسها من الريبة ، كما أن ذات الأقراء لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط وتعتبر المدة بالهلال ما أمكن ، فإن مات الزوج في خلال شهر هلالي والباقي أكثر من عشرة أيام فتعد ما بقي وتحسب ثلاثة أشهر بعده بالأهلة وتكمل ذلك الباقي ثلاثين وتضم إليها عشرة أيام ، فإذا انتهت من اليوم الأخير إلى الوقت الذي مات فيه الزوج فقد انقضت العدة ، وإن كان الباقي دون عشرة أيام فتعده وتحسب أربعة أشهر بالأهلة وتكمل الباقي عشرة من الشهر السادس ، وإن كان الباقي عشرة أيام فتعتد بها وبأربعة أشهر بالأهلة بعدها ، وإن انطبق الموت على أول الهلال فتعتد بأربعة أشهر بالأهلة وبعشرة أيام من الشهر الخامس .
واختلفوا في أن هذه المدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة ؟ فعن بعضهم - ويوافقه جديد قول الشافعي - أنها ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة لما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه ) وأيضاً فالنكاح معلوم بيقين فلا يزال إلا بيقين .
وقال الأكثرون : السبب هو الموت .
فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغها خبر وفاة الزوج وجب أن تعتد بما انقضى ، والدليل عليه أن الصغيرة التي لا علم لها تكفي في انقضاء عدتها هذه المدة .
ثم المراد من تربصها بنفسها الامتناع عن النكاح بالإجماع ، والامتناع عن الخروج من المنزل إلا عند الضرورة والحاجة والإحداد ويعني به ترك التزين بثياب الزينة وترك التحلي والتطيب والتدهن والاكتحال بالإثمد ، ويحرم عليها أن تخضب بالحناء ونحو ذلك فيما يظهر من اليدين والرجلين والوجه .
ولا منع منه فيما تحت الثياب ولا منع من التزين في الفرش والبسط والستور وأثاث البيت ومن التنظيف بغسل الرأس والامتشاط وقلم الأظفار واستحداد ودخول الحمام وإزالة الأوساخ .
والعدة تنقضي إن تركت الإحداد ولكنّها تعصي لما روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ) وعن الحسن(1/645)
" صفحة رقم 646 "
والشعبي أنه غير واجب لأن الحديث يقتضي حل الإحداد لا وجوبه لكنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلى ولا تختضب ولا تكتحل ) والممشقة المصبوغة بالمشق وهو الطين الأحمر .
وقد يحتج بقوله ) والذين يتوفون منكم ( من قال : الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع وإلا لم يخص الخطاب في ) منكم ( بالمؤمنين .
والجواب إنما خصوا بالخطاب لأنهم هم العاملون بذلك كقوله تعالى ) إنما أنت منذر من يخشاها ) [ النازعات : 45 ] مع أنه منذر للكل ) ليكون للعالمين نذيراً ) [ الفرقان : 1 ] ( فإذا بلغن أجلهن ( إذا انقضت عدتهن ) فلا جناح عليكم ( أيها الأولياء لأنهم الذين يتولون العقد ، أو أيها الحكام وصلحاء المسلمين لأنهن إذا تزوجن في مدة العدة وجب على كل أحد منعهن عن ذلك ، فإن عجز استعان بالسلطان وذلك لأن المقصود من هذه العدة الأمن من اشتمال فرجها على ماء زوجها الأول .
وقيل : معناه لا جناح عليكم وعلى النساء فيما فعلن في أنفسهن من التعرض للخطاب بالتزين والتطيب ونحوهما مما تنفرد المرأة بفعله ، وفيه دليل على وجوب الإحداد بالمعروف بالوجه الذي يحسن عقلاً وشرعاً .
وقد يحمل أصحاب أبي حنيفة الفعل ههنا على التزويج فيستدلونه به على جواز النكاح بلا ولي .
بعد تسليم أن المراد من الفعل هو التزويج أن الفعل قد يسند إلى المسبب مثل ( بنى الأمير داراً ) وقد تقدم في قوله ) أن ينكحن أزواجهن ) [ البقرة : 232 ] ثم ختم الآية بالتهديد المشتمل على الوعيد فقال : ( والله بما يعملون خبير ( الحكم الرابع عشر : خطبة النساء وذلك قوله سبحانه ) ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء ( والتعريض ضد التصريح ومعناه أن تضمر كلامك كي يصلح للدلالة على المقصود وعلى غير المقصود إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح ، ولهذا قد يقال : إنه سوق الكلام لموصوف غير مذكور كما يقول المحتاج : جئتك لأنظر إلى وجهك الكريم .
ومنه قول الشاعر :
وحسبك بالتسليم مني تقاضياً
وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم حوله ولا يظهره ولهذا قيل : ( إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ) وهو قسم من أقسام الكناية .
والخطبة أصلها من الخطب(1/646)
" صفحة رقم 647 "
وهو الأمر والشأن خطب فلان فلانة أي سألها أمراً وشأناً في نفسها .
وكذا في الخطبة والخطاب فإن في كل منهما شأناً .
ثم النساء على ثلاثة أقسام : أحدها : أن تجوز خطبتها تعريضاً وتصريحاً وهي الخالية عن الزوج والعدة إلا إذا كان قد خطبها آخر وأجيب إليه ، وعليه يحمل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ) فإن وجد صريح الإباء أو لم يوجد صريح الإجابة ولا صريح الرد فالأصح أنه يجوز خطبتها لأن السكوت لا يدل على الرضا خلافاً لمالك .
وثانيها : ما لا يجوز خطبتها تعريضاً ولا تصريحاً وهي منكوحة الغير ، لأن خطبتها ربما صارت سبباً لتشويش الأمر على زوجها ، ولامتناع المرأة عن أداء حقوق الزوج إذا وجدت راغباً فيها ، وكذا الرجعية فإنها في حكم المنكوحة بدليل أنه يصح طلاقها وظهارها ولعانها وتعتد منه عدة الوفاة ويتوارثان .
وثالثها : ما يفصل في حقها بين التعريض والتصريح وهي المعتدة غير الرجعية سواء كانت معتدة عن وفاة ، أو عن طلقات ثلاث ، أو عن طلقة بائنة كالمختلعة ، أو عن فسخ .
وسبب ا لتحريم أنها مستوحشة بالطلاق فربما كذبت في انقضاء العدة بالأقراء مسارعة إلى مكافاة الزوج .
وأما المعتدة عن وفاة فظاهر الآية يدل على أنها في حقها لأنها ذكرت عقيب آية عدة المتوفى عنها زوجها ، ثم إنه خص التعريض بعدم الجناح فوجب أن يكون التصريح بخلافه ، ثم المعنى يؤكد ذلك وهو أن التصريح لا يحتمل غير النكاح ، فالغالب أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار عن انقضاء العدة قبل أوانها بخلاف التعريض فإنه يحتمل غير ذلك فلا يدعوها إلى الكذب .
قال الشافعي : والتعريض كثير كقوله ( رب راغب فيك ) أو ( من يجد مثلك ) أو ( لست بأيم ) و ( إذا حللت فأعلميني ) .
وعد آخرون من ألفاظ التعريض أو يقول لها : ( إنك لجميلة ) أو ( صالحة ) و ( من غرضي أن أتزوج ) و ( عسى الله أن ييسر لي امرأة صالحة ) ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه .
والتصريح أن يقول : إني أريد أن أنكحك أو أتزوجك أو أخطبك .
وعن أبي جعفر محمد بن علي أنها دخلت عليه امرأة وهي في العدة فقال : قد علمت قرابتي من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحق جدي عليّ وقدمي في الإسلام .
فقالت : غفر الله لك أتخطبني في عدتي وأنت يؤخذ عنك ؟ فقال : إنما أخبرتك بقرابتي من نبي الله .
قد دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (1/647)
" صفحة رقم 648 "
على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده .
فما كانت تلك خطبة ) أو أكننتم في أنفسكم ( أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم ، لا معرّضين ولا مصرحين .
أباح التعريض في الحال أولاً ثم أباح أن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك بعد انقضاء العدة ، ثم ذكر الوجه الذي لأجله أباح التعريض فقال : ( علم الله أنكم ستذكرونهن ( لأن شهوة النفس غذا حصلت في باب النكاح لم يكد المرء يصبر عن النطق بما ينبئ عن ذلك فأسقط الله تعالى عنه الحرج .
ثم قال : ( ولكن ( أي فاذكروهن ولكن ) لا تواعدوهن سراً ( والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء لأنه مما يسر .
ثم عبر به عن النكاح الذي هو العقد لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح ) إلا أن تقولوا قولاً معروفاً ( وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا .
والمعنى لا تواعدوهن مواعدة سرية إلا مواعدة الإحسان إليها والاهتمام بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء مؤكداً لذلك التعريض .
فالمواعدة المنهي عنها إما أن تكون المواعدة في السر بالنكاح فيكون منعاً من التصريح ، وإما المواعدة بذكر الجماع كقوله : إن نكحتك آنك الأربعة والخمسة .
وعن ابن عباس أو كقوله : دعيني أجامعك فإذا أتممت عدتك أظهرت نكاحك .
عن الحسن أو يكون ذلك نهياً عن مسارة الرجل المرأة الأجنبية لأن ذلك يورث نوع ريبة ، أو نهياً أن يواعدها أن لا تتزوج بأحد سواه .
ويحتمل أن يكون السر صفة للموعود به أي لا تواعدوهن بشيء يوصف بكونه سراً إلا بأن ) تعزموا عقدة النكاح ( من عزم الأمر وعزم عليه .
والعزم عقد القلب على فعل من الأفعال معناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح ، أو لا تعزموا عقدة النكاح أن تعقدوها ، وإذا نهى عن العزم فعن نفس الفعل أولى .
وقيل : معنى العزم القطع أي لا تحققوا ذلك ولا توجبوه ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل ) وروي ( لم يبيت الصيام ) وقيل : لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح مثل عزمت عليك أن تفعل كذا .
وأصل العقد الشد والعهود والأنكحة تسمى عقوداً تشبيهاً بالحبل الموثق بالعقد ) حتى يبلغ الكتاب أجله ( المراد منه المكتوب أي تبلغ العدة المفروضة آخرها وانقضت ، ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الفرض أي حتى يبلغ هذا التكليف نهايته .
وباقي الآية بيان موجبي الخوف والرجاء كما تقدم .(1/648)
" صفحة رقم 649 "
الحكم الخامس عشر : حكم المطلقة قبل الدخول وقبل فرض المهر وذلك قوله عز من قائل ) لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ( واعلم أن عقد النكاح يوجب بدلاً على كل حال ، وذلك البدل إما أن يكون مذكوراً أو غير مذكور .
فإن كان مذكوراً فإن حصل الدخول استقر كله وعدتها ثلاثة قروء كما سبق ، وإن لم يحصل الدخول سقط نصف المذكور بالطلاق كما يجيء في الآية التالية ، وإن لم يكن البدل مذكوراً فإن لم يحصل الدخول فحكمها في هذه الآية وهو أن لا مهر لها ويجب لها المتعة ، وإن حصل الدخول فحكمها غير مذكور في هذه الآيات إلا أنهم اتفقوا على أن الواجب فيها مهر المثل قياساً على الموطوءة بالشبهة ، بل أولى لوجود النكاح الصحيح .
وقد يستنبط حكمها من قوله تعالى ) فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ) [ النساء : 24 ] ويحتمل أن يقال : هذه الآية تدل على أنه لا مهر للتي لا تكون ممسوسة ولا مفروضاً لها ، فيعرف من ذلك وجود المهر للممسوسة غير المفروض لها وللمفروض لها غير الممسوسة .
وقد سلف حكم الممسوسة المفروض لها فتبين اشتمال القرآن على أحكام جميع الأقسام .
فإن قيل : ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح على المطلق مشروط بعدم المسيس وليس كذلك ، فإنه لا جناح عليه أيضاً بعد المسيس .
قلنا : لعل الآية وردت لبيان إباحة الطلاق على الإطلاق ، وهذا الإطلاق لا يصح إلا قبل المسيس إذ بعده يحتاج إلى أن يكون الطلاق في طهر لم يجامعها فيه ، أو لعل ( ما ) بمعنى ( التي ) لا للمدة .
والتقدير : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن .
ولا يلزم منه وجود الجناح في تطليق غيرهن ، أو المراد من الجناح في الآية لزوم المهر أي لا مهر عليكم ولا تبعة في تطليقهن ، فإن الجناح في اللغة الثقل يقال : جنحت السفينة إذا مالت بثقلها .
ومما يؤكد ذلك أنه نفي الجناح ممدوداً إلى غاية هي إما المسيس أو الفرض .
والجناح الذي ثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر فحصل القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر .
وأيضاً إن تطليق النساء قبل المسيس إما أن يكون قبل تقدير المهر أو بعده .
وفي القسم الثاني أوجب نصف المفروض كما يجيء فيجب أن يكون المنفي في القسم الأول مقابل المثبت في الثاني .
واتفقوا على أن المراد بالمسيس أو المماسة في الآية الجماع ، ولا يخفى حسن موقع هذه الكناية ، وفيه تأديب للعباد في اختيار أحسن الألفاظ للتخاطب والتفاهم .
والفرض في اللغة التقدير أي تقدروا مقدراً من المهر .
ومعنى ( أو ) ههنا أن رفع الجناح منوط بعدم المسيس ، أو بعدم الفرض على سبيل منع الخلوة فقط ، ولهذا صح اجتماعهما في هذا الحكم .
وقيل : إنها بمعنى الواو .
وقيل : بمعنى ( إلا أن )(1/649)
" صفحة رقم 650 "
وقيل : بمعنى ( حتى ) والكل تعسف .
ثم إنه تعالى لما بيّن أنها لا مهر لها قبل المسيس والتسمية ، ذكر أن لها المتعة فقال : ( ومتعوهن ( فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنها واجبة نظراً إلى الأمر ، وأنه للوجوب ظاهراً وهو قول شريح والشعبي والزهري .
وعن مالك : ويروى عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة أنهم كانوا لا يرونها واجبة لأنه تعالى قال في آخر الآية : ( حقاً على المحسنين ( فجعلها من باب الإحسان .
ورد بأن لفظ ( على ) منبئ عن الوجوب .
وكذا قوله ) حقاً ( وأصل المتعة والمتاع ما ينتفع به انتفاعاً منقضياً ولهذا قيل : الدنيا متاع .
ويسمى التلذذ تمتعاً لانقطاعه بسرعة .
) على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ( أوسع الرجل إذا كان في سعة من ماله ، وأقتر ضده من القترة وهي الغبار ، فكأنه التصق بالأرض لضيق ذات يده .
وقدره أي قدراً مكانه وطاقته فحذف المضاف ، أو قدره مقداره الذي يطيقه لأن ما يطيقه هو الذي يختص به .
والقدر والقدر لغتان في جميع معانيهما ، وفي الآية دليل على أن تقدير المتعة مفوض إلى الاجتهاد كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات وبيّن أن الموسع يخالف المقتر .
قال الشافعي : المستحب على الموسع خادم ، وعلى المتوسط ثلاثون درهماً ، وعلى المقتر مقنعة .
وعن ابن عباس أنه قال : أكثر المتعة خادم ، وأقلها مقنعة ، وأي قدر أدى جاز في جانبي الكثرة والقلة ، وا لنظر في اليسار والإعسار إلى العادة .
وقال أبو حنيفة : المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل ، لأن حال المرأة التي سمي لها المهر أحسن من حال التي لم يسم لها .
ثم لما لم يجب زيادة على نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول فهذه أولى .
) متاعاً ( تأكيد لمتعوهن أي تمتيعاً بالمعروف بالوجه الذي يحسن في الدين والمروءة ، وعلى قدر حال الزوج في الغنى والفقر ، وعلى ما يليق بالزوجة بحسب الشرف والوضاعة حق ذلك ) حقاً على المحسنين ( لأنهم الذين ينتفعون بهذا البيان ، أو من أراد أن يكون محسناً فهذا شأنه وطريقته ، أو على المحسنين غلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى .
الحكم السادس عشر : حكم المطلقة قبل الدخول وبعد فرض المهر وذلك قوله سبحانه ) وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ( الآية .
واعلم أن مذهب الشافعي أن الخلوة لا تقرر المهر .
وقال أبو حنيفة : الخلوة الصحيحة تقرر المهر وهي أن لا يكون هناك مانع حسي أو شرعي .
فالحسي نحو الرتق والقرن والمرض أو يكون معهما ثالث وإن كان نائماً .
والشرعي كالحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام المطلق فرضاً كان أو نفلاً .
وقوله ( وقد فرضتم ( في موضع الحال .
ومعنى قوله ) فنصف ما فرضتم ( فعليكم نصف ذلك ، أو فنصف ما فرضتم ساقط أو ثابت ) لا أن يعفون ( أي المطلقات(1/650)
" صفحة رقم 651 "
عن أزواجهن فتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئاً ؟ والفرق بين قولك ( النساء يعفون ) وبين ( الرجال يعفون ) هو أن الواو في الأول لام الفعل والنون ضمير جماعة النساء ولم يحذف منه شيء ، وإنما وزنه يفعلن والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل ، والواو في الثاني ضمير جماعة الذكور واللام محذوف ووزنه ( يعفون ) والنون علامة الرفع ، فقوله ) أو يعفو ( عطف على محل ) أن يعفون ( والذي بيده عقدة النكاح الولي وهو قول الشافعي ، ويروى عن الحسن ومجاهد وعلقمة .
وقيل : الزوج وهو مذهب أبي حنيفة ويروى عن علي وسعيد بن المسيب .
وكثير من الصحابة والتابعين قالوا : ليس للولي أن يهب مهر مولاته صغيرة كانت أو كبيرة .
وأيضاً الذي بيد الولي هو عقدة النكاح ، فإذا عقد حصلت العقدة أي المعقودة كالأكلة واللقمة ، ثم هذه العقدة بيد الزوج لا الولي وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق وقال : أنا أحق بالعفو .
حجة الأولين أن الصادر عن الزوج هو أن يعطها كل المهر وذلك يكون هبة والهبة لا تسمى عفواً ا للهم إلا أن يقال : كان الغالب عندهم أن يسوق إليها المهر عند التزوج فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها ، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها .
أو يقال : سماه عفواً على طريقة المشاكلة ، أو لأن العفو والتسهيل .
فعفو الرجل هو أن يبعث إليها كل الصداق على وجه السهولة .
حجة أخرى لو كان المراد به الزوج وقد قال أولاً : ( وإن طلقتموهن ( ناسب أن يقال : ( إلا أن يعفون ( أو تعفو على سبيل الخطاب أيضاً ، وأجيب بأن سبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة هو التنبيه على المعنى الذي لأجله يرغب في العفو .
والمعنى إلا أن يفعون أو يعفو الزوج الذي حبسها بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج ثم لم يكن منها سبب في الفراق ، وإن فارقها الزوج فلا جرم كان حقيقاً بأن لا ينقصها من مهرها ويكمل لها صداقها .
ثم قال الشافعي : إذا ثبت أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي ، فهم منه أن النكاح لا ينعقد بدون الولي ، وذلك للحصر المستفاد من تقديم ) بيده ( على ) عقدة النكاح ( فتبين أنه ليس في يد المرأة من ذلك شيء ) وأن تعفوا أقرب للتقوى ( قيل : اللام بمعنى ( إلى ) والتقدير : العفو أقرب إلى التقوى .
والخطاب للرجال والنساء جميعاً إلا أنه غ لب الذكور لأصالتهم وكمالهم ، وإنما كان عفواً لبعض عن البعض أقرب إلى حصول معنى الاتقاء لأن من سمح بترك حقه تقرباً إلى ربه فهو من أن يأخذ حق غيره أبعد ، ولأنه إذا استحق بذلك الصنع الثواب فقد اتقى العقاب واحترز عنه ) ولا تنسوا الفضل ( لا تتركوا التفضل والتسامح فيما بينكم ، وليس نهياً عن النسيان فإن ذلك غير مقدور ، بل المراد منه الترك .
وذلك أن الرجل إذا تزوج المرأة فقد يتعلق قلبها به فإذا طلقها قبل المسيس صار ذلك سبباً لتأذيها منه .
وأيضاً(1/651)
" صفحة رقم 652 "
إذا كلف الرجل أن يبذل لها مهرها من غير أن يكون قد انتفع بها صار ذلك سبباً لتأذيه منها ، فلا جرم ندب الله تعالى كلاً منهما إلى تطييب قلب الآخر ببذل كل المهر أو تركه وإلا فالتنصيف .
عن جبير بن مطعم أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه بنتاً له فتزوجها .
فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كملاً فقيل له : لم تزوجتها ؟ فقال : عرضها علي فكرهت رده .
قيل : فلم بعثت بالصداق ؟ قال : فأين الفضل ؟ ثم إنه تعالى ختم الآية بما يجري مجرى الوعد والوعيد على العادة المعلومة فقال : ( إن الله بما تعملون بصير ( .
( البقرة : ( 238 - 242 ) حافظوا على الصلوات . . . .
" حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون "
( القراآت )
وصية ( بالنصب : أبو عمر وابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب غير روبس .
الباقون بالرفع .
الوقوف : ( قانتين ( 5 ) أو ركباناً ( ج لأن ( إذا ) في معنى الشرط مع فاء التعقيب ) تعلمون ( 5 ) أزواجاً ( ج لانقطاع النظم ومكان الحذف لأن التقدير فعليهم وصية أو فليوصوا وصية ، والوصل أجوز لاتصال المعنى فإن وصية أو وصية قام مقام خبر المبتدأ .
) إخراج ( ج ) من معروف ( ط ) حكيم ( 5 ) بالمعروف ( ط ) المتقين ( 5 ) تعقلون ( .
التفسير : الحكم السابع عشر : الصلاة ، وذلك أنه سبحانه لما بين للمكلفين ما بين من معالم الدين وشعائر اليقين أعقبها بذكر الصلاة التي تفيد انكسار القلب من هيبة الله تعالى وزوال التمرد وحصول الانقياد لأوامره والانتهاء عن مناهيه تحصيلاً لسعادة الطرفين وتكميلاً لمصالح الدارين .
وقد أجمع المسلمون على أن الصلوات المكتوبة خمس ، وفي الآية إشارة إلى ذلك لأن الصلوات جمع فأقلها ثلاث ، والصلاة الوسطى تدل على شيء زائد والإلزام التكرار ، وذلك الزائد لو كان الرابع لم يكن للمجموع وسطى فلا أقل من خمسة .
والمراد بمحافظتها رعاية جميع شرائطها من طهارة البدن والثوب والمكان ، ومن ستر العورة واستقبال القبلة والإتيان بأركانها وأبعاضها وهيآتها والاحتراز عن مفسداتها من أعمال القلب وأعمال اللسان والجوارح .
ومعنى المفاعلة في المحافظة إما لأنها بين العبد(1/652)
" صفحة رقم 653 "
والرب كأنه قيل : احفظ الصلاة يحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة كقوله ) فاذكروني أذكركم ) [ البقرة : 152 ] وفي الحديث ( احفظ الله يحفظك ) وإما لأنها بين المصلي والصلاة فمن حفظ الصلاة حفظته الصلاة عن المناهي ) إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) [ العنكبوت : 45 ] وحفظته عن الفتن والمحن ) واستعينوا بالصبر والصلاة ) [ البقرة : 45 ] وكيف لا وفي الصلاة القراءة والقرآن شافع مشفع .
في الخبر ( تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان فتشهدان وتشفعان ) و ( إن سورة الملك تصرف عن المتهجد بها عذاب القبر وتجادل عنه في الحشر وتقف في الصراط عند قدميه وتقول للنار لا سبيل لك عليه ) وفي الصلاة الوسطى سبعة أقوال : الأول : أنه تعالى أمرنا بالمحافظة على الصلاة الوسطى ولم يبين لنا أنها أي الصلوات .
وما يروى من أخبار الآحاد لا معوّل عليها فيجب أن تؤدى كلها على نعت الكمال والتمام ، ولعل هذا هو الحكمة في إبهامها ، ولمثل ذلك أخفى الله تعالى ليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الإجابة في يوم الجمعة ، واسمه الأعظم في أسمائه ، ووقت الموت في الأوقات ليكون المكلف خائفاً عازاماً على التوبة في كل الأوقات ، وهذا القول اختاره جمع من العلماء ، عن محمد بن سيرين أن رجلاً سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال : حافظ على الصلوات كلها تصبها .
وعن الربيع : أرأيت لو علمتها بعينها أكنت محافظاً عليها ومضيعاً سائرهن ؟ قال السائل : لا .
قال الربيع : فإن حافظت عليهن فقد حافظت على الصلاة الوسطى .
القول الثاني : أن الوسطى مجموع الصلوات الخمس ، فإن الإيمان بضع وسبعون درجة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطرق .
والصلوات المكتوبات واسطة بين الطرفين .
القول الثالث : أنها صلاة الصبح وهو قول علي وعمر وابن عباس وابن عمر وجابر وأبي أمامة .
ومن التابعين قول طاوس وعطاء وعكرمة ومجاهد وهو مذهب الشافعي قالوا : إن هذه الصلاة تصلى في الغلس فبعضها في ظلمة الليل وآخرها في ضوء النهار .
وأيضاً إن في النهار صلاتين : الظهر والعصر ، وفي الليل صلاتين : المغرب والعشاء ، والصبح متوسط بينهما .
وأيضاً الظهر والعصر يجمعان في السفر وكذا المغرب والعشاء والفجر منفرد بينهما .
قال القفال : وتحقيق هذا يرجع إلى ما يقوله الناس : فلان متوسط إذا لم يمل إلى أحد(1/653)
" صفحة رقم 654 "
الخصمين وكان منفرداً بنفسه عنهما .
وقد أقسم الله تعالى بها في قوله ) والفجر وليالٍ عشر ) [ الفجر : 1 ، 2 ] وأيضاً قال تعالى : ( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً ) [ الإسراء : 28 ] واتفقوا على أن المراد منه صلاة الفجر فخصها في تلك الآية بالذكر للتأكيد وخص الصلاة الوسطى في هذه الآية بالذكر للتأكيد ، فيغلب على الظن أنهما واحد .
وأيضاً قرن هذه الصلاة بذكر القنوت في قوله ) وقوموا لله قانتين ( وليس في المفروضة صلاة صبح فيها القنوت إلا الصبح .
وأيضاً لا شك أنه تعالى أفردها بالذكر لأجل التأكيد والصبح أحوج الصلوات إلى ذلك ، ففيه ترك النوم اللذيذ واستعمال الماء البارد والخروج إلى المسجد في الوقت الموحش .
وأيضاً الإفراد بالذكر ينبئ عن الفضل ، ولا ريب في فضيلة صلاة الصبح ولهذا جاء ) والمستغفرين بالأسحار ) [ آل عمران : 17 ] وروي أن التكبيرة الأولى منها في الجماعة خير من الدنيا وما فيها .
وخصت بالأذان مرتين : أولاهما قبل الوقت إيقاظاً للناس حتى لا تفوتهم ألبتة ، وخص أذانها بالتثويب وهو أن يقول بعد الجيعلتين : الصلاة خير من النوم .
وإن الانسان إذا قام من منامه فكأنه صار موجوداً بعد العدم ، وعند ذلك يزول عن الخلائق ظلمة الليل وظلمة النوم والغفلة وظلمة الفجر والحيرة ، ويملأ العالم نوراً والأبدان حياة وعقلاً وقوةً وفهماً .
فهذا الوقت أليق الأوقات بأن يشتغل العبد بأداء العبودية وإظهار الخضوع والاستكانة لفاطر السموات والأرض وجاعل الظلمات والنور .
وعن علي عليه السلام أنه سئل عن الصلاة الوسطى فقال : كنا نرى أنها الفجر .
وعن ابن عباس أنه صلى الصبح ثم قال : هذه هي الصلاة الوسطى .
القول الرابع : أنها صلاة الظهر ويروى عن عمر وزيد وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، لأن الظهر كان شاقاً عليهم لوقوعه في وقت القيلولة وشدة الحر فصرف المبالغة إليه أولى .
وعن زيد بن ثابت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي بالهاجرة وكانت أثقل الصلوات على أصحابه ، وربما لم يكن وراءه إلا الصف والصفان فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لقد هممت أ ، أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم ) فنزلت هذه الآية .
وأيضاً ليس في المكتوبات صلاة وقعت وسط الليل والنهار إلا هذه ، وإنها صلاة بين صلاتين نهاريتين : الفجر والعصر وأنها صلاة بين البردين : برد الغداة وبرد العشي ، وإن أول إمامة جبرائيل كان في صلاة الظهر كما ورد في الأحاديث الصحاح ، وإن صلاة(1/654)
" صفحة رقم 655 "
الجمعة مع ما ورد في فضلها تنوب عن الظهر لا عن غيرها .
وعن عائشة أنها كانت تقرأ ) والصلاة الوسطى وصلاة العصر ( وكانت تقول : سمعت ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
فيغلب على الظن أن المعطوف عليه العصر هو الظهر الذي قبله .
وروي أن قوماً كانوا عند زيد بن ثابت فأرسلوا إلى أسامة بن زيد وسألوه عن الصلاة الوسطى فقال : هي صلاة الظهر ، كانت تقام في الهاجرة .
القول الخامس : أنها صلاة العصر ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم ، ومن الفقهاء النخعي وقتادة والضحاك وهو مروي عن أبي حنيفة أيضاً لما ورد من التأكيد فيه كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من فاته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ) وقد أقسم الله بها في قوله ) والعصر إن الإنسان لفي خسر ) [ العصر : 1 ، 2 ] ولما يحتاج في معرفة وقتها إلى تأمل أكثر من حال الظهر .
فالمغرب يعرف بغروب جرم الشمس ، والعشاء يعرف بغروب الشفق ، والفجر بطلوع الصبح الصادق ، والظهر بدلوك الشمس عن دائرة نصف النهار ، ولما في وقتها من اشتغال الناس بحوائجهم .
وعن علي عليه السلام أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال يوم الخندق : ( شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ملأ بيوتهم وقبروهم ناراً ) رواه البخاري وملسم وسائر الأئمة .
وهو عظيم الموقع في المسألة .
وفي صحيح مسلم ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب .
وعن حفصة أنها قالت لمن كتب لها المصحف : إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى أملي عليك كما سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقرؤها فأملت عليه ) والصلاة الوسطى صلاة العصر ( .
القول السادس : أنها صلاة المغرب .
عن قبيصة بن ذؤيب لأنها بين بياض النهار وسواد الليل ، ولأنها وسط في الطول والقصر .
القول السابع : أنها صلاة العشاء لأنها متوسطة بين صلاتين لا تقصران : المغرب والصبح .
ولما ورد في فضلها عن عثمان بن عفان عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من صلى العشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة ) وقال أهل التحقيق : القلب هو الذي في وسط(1/655)
" صفحة رقم 656 "
الإنسان بل هو واسطة بين الروح والجسد فكأنه قيل : حافظوا على صورة الصلوات بشرائطها ، وحافظوا على معاني الصلوات وحقائقها بدوام شهود القلب للرب في الصلاة وبعدها .
ثم إن الشافعي احتج بالآية على أن الوتر ليس بواجب وإلا كانت الصلوات ستاً فلم يبق لها وسطى .
وهذا إنما يتم لو كان المراد الوسطى في العدد ، لكنه يحتمل أن يكون الوسطى في الفضيلة من قوله ) وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً ) [ البقرة : 143 ] أو الوسطى في الزمان وهو الظهر ، أو الوسطى في المقدار كالمغرب فإنه ثلاث ركعات فيتوسط بين الاثنتين والأربع ، أو الوسطى في الصفة كصلاة الصبح يتوسط بين صفتي الظلام والضياء ) وقوموا لله قانتين ( عن ابن عباس أن القنوت هو الدعاء والذكر لقوله تعالى ) أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً ) [ الزمر : 9 ] ولأن قوله ) حافظوا على الصلوات ( أمر بما في الصلاة من الفعل فيكون القنوت عبارة عن كل ما في الصلاة من الذكر .
وعن الحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاوس وقتادة والضحاك ومقاتل : قانتين أي مطيعين لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( كل قنوت في القرآن فهو الطاعة ) ) ومن يقنت منكن لله ورسوله ) [ الأحزاب : 31 ] ( فالصالحات قانتات ) [ النساء : 34 ] فالقنوت عبارة عن إكمال الطاعة والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها وآدابها .
وفيه زجر لمن لم يبال كيف صلى فخفف واقتصر على ما لا يجزى وذهب إلى أنه لا حاجة لله إلى صلاة العباد ، ولو كان كما قالوا وجب أن لا يصلي أصلاً لأنه تعالى كما لا يحتاج إلى الكثير من عبادتنا فكذلك لا يحتاج إلى القليل ، وقد صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسائر الرسل والسلف الصالح فأطالوا وخشعوا واستكانوا وكانوا أعلم بالله من هؤلاء الجهال وقيل : قانتين ساكتين .
عن زيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه حتى نزلت ) وقوموا لله قانتين ( فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام .
وعن مجاهد : القنوت عبارة عن الخشوع وخفض الجناح وسكون الأطراف ، وكان أحدهم إذا صلى خاف ربه فلا يلتفت ، ولا يقلب الحصى ، ولا يبعث بشيء من جسده .
ولا فحذف المفعول به للعلم به أو فإن حصل لكم خوف أو كنتم على حالة الخوف على أنه متروك المفعول ) فرجالاً أو ركباناً ( أي فصلوا راجلين أو راكبين .
وقيل : المعنى فإن خفتم فوات الوقت إن أخرتم الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم فصلوا رجالاً أو ركباناً .
وعلى هذا فالآية تدل على تأكيد فرض الوقت حتى يترخص لأجل المحافظة عليه بترك القيام والركوع والسجود .
ورجالاً جمع راجل كقيام جمع قائم وتجار جمع تاجر ، أو جمع رجل يقال :(1/656)
" صفحة رقم 657 "
رجل رجل أي راجل .
والركبان جمع راكب كفارس وفرسان .
ولا يقال راكب إلا لمن كان على إبل ، فإن كان على فرس فإنما يقال له : فارس .
لكن المراد في الآية أعم ، وتخصيص اللفظ بالركبان لأنه الغالب فيهم .
واعلم أن صلاة الخوف ، إما أن تكون في غير حال القتال وسوف يجيء بيانها في سورة النساء إن شاء الله تعالى ، وإما أن تكون عند التحام القتال وهو المراد بهذه الآية .
ومذهب الشافعي أنهم يصلون ركباناً على دوابهم ومشاة على أقدامهم إلى القبلة وإلى غير القبلة ، ويقتصرون من الركوع والسجود على الإيماء إلا أنهم يجعلون السجود أخفض من الركوع ، ويحترزون عن الصيحان ، أنَّه لا ضرورة إليه بل الشجاع الساكت أهيب .
وقال أبو حنيفة : لا يصلي الماشي بل يؤخر لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) أخر الصلاة يوم الخندق .
وأجيب بأن الآية ناسخة لذلك الفعل .
ويدخل في الخوف المفيد لهذه الرخصة الخوف في القتال الواجب كالقتال مع الكفار أو مع أهل البغي ، وفي القتال المباح كالدفاع عن النفس ، أو عن حيوان محترم ، أو عن المال .
أما القتال المحظور فإنه لا يجوز فيه صلاة الخوف لأن الرخص لا تناط بالمعاصي والخوف الحاصل لا ف يالقتال كالهارب من الحرق والغرق والسبع ، وكذا المطالب إذا كان معسراً خائفاً من الحبس عاجزاً عن بينة الإعسار يرخص أيضاً في هذه الصلاة لأن قوله ) فإن خفتم ( مطلق يتناول الكل ) فإذا أمنتم ( فإذا زال خوفكم ) فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ( من صلاة الأمن بقوله ) حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ( كما بينه بشروطه وأركانه .
والصلاة قد تسمى ذكراً ) فاسعوا إلى ذكر الله ( وقيل : فاذكروا الله أي فاشكروا الله لأجل إنعامه عليكم بالأمن .
وقيل : فاشكروه على الأمن واذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع على لسان نبيه .
وكيف تصلون في حال الخوف وفي حال الأمن .
و ( ما ) في ) كما علمكم ( إما مصدرية أو كافة .
الحكم الثامن عشر : عدة الوفاة بوجه آخر ) والذين يتوفون منكم ( الآية .
من قرأ ) وصية ( بالرفع ف ) وصية ( مبتدأ وخبره ) لأزواجهم ( وجاز وقوع النكرة مبتدأ لتخصيصه بما تخصص منهم وصية ، أو وصية الذين يتوفون وصية ، أو الذين يتوفون أهل وصية إلى الحول ، وكل هذه الوجوه جائز حسن .
ومن قرأ بالنصب فعلى تقدير فليوصوا وصية أو يوصون وصية مثل ( أنت سير البريد ) أي أنت تسير سير البريد أو ألزم الذين يتوفون منكم وصية متاعاً نصب على المصدر على معنى فليوصوا لهن وصية وليمتعوهن متاعاً .
والتقدير : جعل الله لهن ذلك متاعاً لأن ما قبله من الكلام يدل عليه ، أو نصب على الحال ، أو نصب بالوصية و ) غير إخراج ( نصب على المصدر المؤكد كقولك ( هذا القول غير ما تقول ) أو بدل من ) متاعاً ( أو حال من الأزواج أي غير مخرجات .
والمعنى أن(1/657)
" صفحة رقم 658 "
حق الذين يتوفون منكم عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعده حولاً كاملاً أي ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن .
وأكثر المفسرين على أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله ) أربعة أشهر وعشراً ) [ البقرة : 234 ] أو نسخ ما زاد منه على هذا المقدار بالإرث الذي هو الربع والثمن لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا لا وصية لوارث ) وعن علي عليه السلام وابن عمر أن لها النفقة وإن كانت حائلاً .
وأما السكنى فعند أبي حنيفة وأصحابه لا سكنى لهن وهو قول علي وابن عباس وعائشة ، واختاره المزني قياساً على النفقة في مقابلة التمكين ولا تمكين .
وأما السكنى فلتحصين الماء وهو موجود ، وعند الشافعي لهن ذلك على الأظهر وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وأم سلمة ، ووافقه مالك والثوري وأحمد .
وبناء الخلاف على خبر فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قالت : فسألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي ما أنزلني بمنزل يملكه فقال : نعم .
فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد أو في الحجرة دعاني فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله .
فحمل بعضهم الأمر الثاني على النسخ وآخرون على الاستحباب .
وعن مجاهد أنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها كانت عدتها أربعة أشهر وعشراً وإن اختارت السكنى في داره والأخذ من ماله وتركته فعدتها الحول .
قال : وإنما نزلنا الآية على هذين التقديرين لتكون كل واحدة منهما معمولاً بها .
وعن أبي مسلم : إنكم تضيفون الوصية إلى حكم الله تعالى فيلزمكم القول بالنسخ ، ونحن نضيف الحكم إلى الزوج حتى يصير معنى الآية : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وقد وصوا وصية لأزواجهم بالنفقة والسكنى حولاً .
فهذا المجموع شرط وجوابه فإن خرجن - أي قبل ذلك - وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى ) فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف ( أي نكاح صحيح ، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة .
والسبب فيه أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولاً ، وكانوا يوجبون على المرأة الاعتداد بالحول ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب .
ويؤكده ما روت زينب بنت أبي سلمة قالت : سمعت أمي أم سلمة تقول : جاءت امرأة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا مرتين أو(1/658)
" صفحة رقم 659 "
ثلاثاً كل ذلك يقول : لا ) .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول ) .
قال حميد : فقلت لزينب : وما ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ فقالت : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً أي بيتاً صغيراً ، ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيباً حتى يمر بها سنة ، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتقتض به .
قال مالك : أي تمسح به جلدها فقلما تقتض بشيء إلا مات ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد بما شاءت من طيب أو غيره ، فلا جناح عليكم يا أولياء الميت فيما فعلن في أنفسهن من التزين والإقدام على النكاح .
ومن قطع نفقتهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول ومن ترك منعهن من الخروج لأن مقامها حولاً في بيت زوجها ليس بواجب عليها .
وإنما قال ههنا ) من معروف ( منكراً لأن المراد بوجه من الوجوه التي لهن أن يأتينه .
وأما في الآية السابقة فإنه أراد بالوجه المعروف من الشرع .
ويمكن أن يقال : إن تلك الآية متأخرة في النزول عن هذه بإجماع المفسرين فلهذا نكر أولاً ، ثم عرف لأن النكرة إذا تكررت صارت معرفة قال سبحانه : ( كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول ) [ المزمل : 16 ] .
الحكم التاسع عشر : ( وللمطلقات متاع ( عم المطلقات بإيجاب المتعة لهن بعد ما أوجبها لواحدة منهن وهي المذكورة في الحكم الخامس عشر .
وروي أنها لما نزلت ) ومتعوهن ( إلى قوله ) متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين ( قال رجل من المسلمين : إن أحسنت فعلت فإن لم أرد ذلك لم أفعل فنزلت هذه الآية أي حقاً على من كان متقياً عن الكفر والمعاصي واعلم أن المطلقات قسمان : مطلقة قبل الدخول فلها المتعة إن لم يفرض لها مهر كما مر في الحكم الخامس عشر ، وإن فرض لها مهر فلا متعة لها وحسبها نصف المهر لأنه تعالى اقتصر على ذلك ولم يذكر المتعة فهي مستثناة من عموم هذه الآية .
ومطلقة بعد الدخول سواء فرض لها أم لم يفرض .
واختلفوا في اشتحقاقها المتعة .
فالقديم من قول الشافعي وبه قال أبو حنيفة ، لا متعة لها لأنها تستحق المهر كالمطلقة بعد الفرض وقبل الدخول .
وفي الجديد لها المتعة وهو قول علي وابنه الحسن وابن عمر لعموم الآية ، ولقوله تعالى ) فتعالين أمتعكن ) [ الأحزاب : 28 ] وكان ذلك في حق نساء دخل بهن النبي .
وليست كالمطلقة المذكورة لأنها استحقت الصداق لا بمقابلة عوض ، وهذه استحقت الصداق في مقابلة استباحة البضع فيجب لها المتعة للإيحاش .
وعن سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري أنها واجبة لكل مطلقة تمسكاً بظاهر عموم الآية .
وقيل : المراد بهذا المتعة النفقة في العدة بدليل ) متاعاً إلى الحول ( والله أعلم .(1/659)
" صفحة رقم 660 "
( البقرة : ( 243 - 245 ) ألم تر إلى . . . .
" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون "
( القراآت )
فيضاعفه ( بالألف والنصب : عاصم غير المفضل وسهل ( فيضعفه ) بالتشديد والنصب : ابن عامر ويعقوب غير روح .
فيضعفه بالتشديد والرفع : ابن كثير ويزيد وروح .
الباقون فيضاعفه بالألف والرفع وكذلك في سورة الحديد ) ويبصط ( بالصاد : ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير الخزاعي عن ابن فليح ، وابن مجاهد وأبي عون عن قنبل ، وسهل وعاصم وابن ذكوان وغير ابن مجاهد والنقاش وشجاع وعلي الحلواني من قالون مخير .
الباقون بالسينز الوقوف : ( الموت ( ص ) أحياهم ( ط ) لا يشكرون ( 5 ) عليم ( 5 ) كثيرة ( ط ) ويبصط ( ص ) ترجعون ( 5 .
التفسير : قد جرت عادته سبحانه أن يذكر بعد بيان الأحكام القصص اعتباراً للسامعين ليحملهم ذلك الاعتبار على ترك التمرد والعناد ومزيد الخضوع والانقياد فقال : ( ألم تر ( وفيه تقرير لمن سمع بقصتهم ووقف على أخبار الأولين وتعجيب من حالهم .
ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجب ، أو تكون الرؤية بمعنى العلم والمعنى : ألم ينته علمك ولهذا عدي بإلى .
وعلى هذا يجوز أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يعرف هذه القصة إلا بهذه الآية ، ويجوز أن يقال : كان العلم بها سابقاً على نزول هذه الآية ، ثم إنه تعالى أنزل الآية على وفق ذلك .
روي أن أهل داوردان - قرية قبل واسط - وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله وقضائه .
ويروى أن حزقيل النبي الذي يقال له : ذو الكفل مر عليهم بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم ، فتعجب مما رأى فأوحى إليه : أتريد أن أريك كيف أحيهم ؟ فقال : نعم فقيل له : ناد أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي .
فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى تمت العظام .
ثم أوحى الله إليه : نادها إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً فصارت لحماً ودماً .
ثم نادها إن الله يأمرك أن تقومي فقامت .
فلما أحياهم كانوا يقولون : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت .
ثم رجعوا إلى قومهم بعد حياتهم ، وكانت تظهر أمارات الموت في وجوههم إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم .
وعن ابن عباس أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال(1/660)
" صفحة رقم 661 "
فخافوا القتال فهربوا وقالوا لملكهم : إن الأرض التي نذهب إليها فيها الوباء ، فنحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء .
فأماتهم الله بأسرهم وبقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا .
وبلغ بني إسرائيل موتهم فخرجوا لدفنهم فعجزوا من كثرتهم فحظروا عليهم الحظائر وأحياهم الله تعالى بعد الثمانية ، فبقي فيهم شيء من ذلك النتن وبقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم وقيل : إن حزقيل النبي ندب قومه إلى الجهاد فكرهوا وجبنوا فأرسل الله تعالى عليهم الموت ، فلما كثر فيهم الموت خرجوا من ديارهم فراراً من الموت ، فلما رأى حزقيل ذلك قال : اللهم إله يعقوب وإله موسى ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم تدلهم على نفاذ قدرتك وأنهم لا يخرجون عن قبضتك .
فأرسل الله عليهم الموت فلما رآه عليه السلام ضاق قلبه فدعا مرة أخرى فأحياهم الله تعالى .
أما قوله سبحانه ) وهم ألوف حذر الموت ( ففيه دليل على الألوف الكثيرة ولكنهم اختلفوا .
فقيل : عشرة آلاف ، وقيل : ثلاثون ، وقيل : سبعون .
وعن بعضهم أن الألوف جمع آلف كقعود جمع قاعد أي خرجوا وهم مؤتلفو القلوب ، وزيف بأن ورود الموت عليهم وفيهم كثرة يفيد مزيد اعتبار بحالهم بخلافهم لو كانوا نفراً يسيراً .
فأما ورود الموت على قوم بينهم ائتلاف ومحبة فكوروده على قوم بينهم اختلاف كثير في أن وجه الاعتبار لا يتغير ، وقد يوجه بأن المراد إلفهم بالدنيا ومحبتهم لها فأهلكوا ليعلم أن حرص الإنسان على الحياة لا يعصمه عن الفوت .
و ) حذر الموت ( مفعول لأجله .
) فقال لهم الله موتوا ( معناه فأماتهم وجيء بهذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد ، وأنها خارجة عن العادة ولا أمر ولا قول كما مر في قوله ) سبحانه إذا قضى أمر فإنما يقول له كن فيكون ) [ مريم : 35 ] ويدل عليه قوله ) ثم أحياهم ( وإذا صح الإحياء بلا قول فكذا الإماتة .
ويحتمل أنه تعالى أمر الرسول بأن يقول لهم موتوا .
والظاهر أنهم لم يكونوا رأوا عند الموت من الأهوال والأحوال ما تصير بها معارفهم ضرورية ويمنع من صحة التكليف بعد الإحياء كما في الآخرة .
وقال قتادة : إنما أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم .
) إن الله لذو فضلٍ على الناس ( تفضل عليهم بأن خرجوا من الدنيا على المعصية فأعادهم إلى الدنيا ومكنهم من التوبة والتلافي ، وتفضل على منكري المعاد باقتصاص خبرهم ليستبصروا ويعتبروا ، وذلك أن تركب الأجزاء على الشكل المخصوص ممكن وإلا لما وجد أولاً ، وإذا كان ممكناً في نفسه ، وقد أخبر الصادق بوجوده وجب القطع به .
وفي القصة تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وأن الموت إذا لم ينفع منه الفرار فأولى أن يكون في سبيل الله ، ولهذا أتبعت بقوله ) وقاتلوا في سبيل الله ( ثم إن كان هذا الأمر خطاباً للذلن أحياهم على ما قال الضحاك أحياهم ثم أمرهم بأن يذهبوا إلى الجهاد ، فلا بد من إضمار تقديره ،(1/661)
" صفحة رقم 662 "
وقيل لهم : قاتلوا .
وإن كان استئناف خطاب للحاضرين على ما هو اختيار الجمهور من المفسرين فلا إضمار ، وفيه ترغيب وإرهاب كيلا ينكص على عقبيه محب للحياة بسبب خوف الموت فإن الحذر لا يغني عن القدر .
) واعلموا أن الله سميع عليم ( يسمع ما يقوله القاعدون والمجاهدون ويعلم ما يضمرونه وهو من وراء الجزاء .
ولما أمر المكلفين بالقتال في سبيل الله أردف ذلك بقوله ) من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً ( أي في باب الجهاد ، كأنه ندب العاجز عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر على الجهاد ، وأمر القادر على الجهاد أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد .
و ( ذا ) في ) من ذا ( إما زائدة و ( من ) استفهام في موضع الرفع ، و ( الذي ) مع صلتها خبره أو موصولة و ( الذي ) بدلها أو اسم إشارة خبر ( من ) و ( الذي ) نعت له ، أو بدل منه .
قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون ( من ) و ( ذا ) بمنزلة اسم واحد كما كانت ( ماذا ) لأن ( ما ) أشد إبهاماً من ( من ) إذا كانت ( من ) لمن يعقل .
وقد بني الكلام على طريقة الاستفهام لأن ذلك أدخل في الترغيب والحث على الفعل من ظاهر الأمر .
وقيل : إن هذا الكلام مبتدأ لا تعلق له بما قبله ، وإنما ورد مستأنفاً في الإنفاق إما على الإطلاق وهو الأليق بعموم لفظ القرض ، وإما الواجب منه لأن قوله ) وإليه ترجعون ( كالزجر .
وهو إنما يليق بالواجب ، وأما غير الواجب لأن القرض بالتبرع أشبه وهذا قول الأصم .
وقد يروى عن بعض أصحاب ابن مسعود أن المراد من هذا القرض هو قول الرجل ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ) .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة ) ويشبه أن يكون الفقير الذي لا يملك شيئاً إذا كان في قلبه أنه إذا قدر أنفق وأعطى ، قامت تلك النية مقام الإنفاق .
وعن الزجاج أن لفظ القرض حقيقة في كل ما يفعل ليجازى عليه .
وأصل القرض القطع ومنه المقراض والانقراض لانقطاع الأثر ، ومن أقرض فكأنما قطع له من ماله أو عمله قطعة يجازى عليها .
وقيل : إن لفظ القرض في الآية مجاز ، فإن القرض إنما يأخذه من يحتاج إليه لفقره وذلك في حق الله محال ، ولأن البدل في القرض المعتاد لا يكون إلا بالمثل وهنا يضاعف ، ولأن المال الذي يأخذه المستقرض لا يكون ملكاً له وههنا المال المأخوذ ملك الله .
ثم مع حصول هذه الفروق سماه الله تعالى قرضاً تنبيهاً على أن ذلك لا يضيع عند الله .
فكما أن القرض يجب أداؤه ولا يجوز الإخلال به فكذا الثواب المستحق على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة .
وقوله ( قرضاً حسناً ( يحتمل كونه اسم مصدر وكونه مصدراً بمعنى الإقراض .
ومعنى كونه حسناً حلالاً خالصاً لا يختلط به الحرام ولا يشوبه منٌ ولا أذى ولا يفعله رياء وسمعة ، وإنما يفعله خالصاً لوجه الله تعالى .(1/662)
" صفحة رقم 663 "
و ) أضعافاً ( نصب على الحال أو على المفعول الثاني إن ضمن ضاعف معنى صير ، ويجوز أن يكون مصدراً لأن الضعف وإن كان اسماً إلا أنه قد يقع موقع المصدر كالعطاء فإنه اسم للمعطى ، وقد يستعمل بمعنى الإعطاء قال القطامي :
أكفراً بعد رد الموت عني
وبعد عطائك المائة الرتاعا ؟
وإنما جاز جمع المصدر بحسب اختلاف أنواع الجزاء لاختلاف الإقراض في المقدار والإخلاص وغير ذلك .
والضعف المثل ، والتضعيف والأضعاف والمضاعفة كلها الزيادة على أصل الشيء حتى يصير مثلين أو أكثر .
قيل : الواحد بسبعمائة .
وعن السدي أن هذا التضعيف لا يعلم أحدكم هو وما هو ، وإنما أبهمه الله تعالى لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود ) والله يقبض ويبسط ( يقتر على عباده ويوسع فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبدلكم الضيقة بالسعة .
وأيضاً من كتب له الفقر فليس له إلا ذلك سواء أنفق أو لم ينفق ، ومن كتب له الغنى فليس له إلا ذلك .
فعلى التقديرين يكون إنفاق المال في سبيل الله أولى .
وإذا علم المكلف أن القبض والبسط بالله انقطع نظره عن مال الدنيا وبقي اعتماده على الله ، فحينئذٍ يسهل عليه الإنفاق في مرضاة الله .
ويحتمل أن يكون المعنى : والله يقبض بعض القلوب حتى لا يقدم على هذه الطاعة ، ويبسط بعضها حتى يسهل عليه البذل وصرف المال .
) وإليه ترجعون ( فيجازيكم بحسب ما قدمتم من أعمال الخير والله ولي التوفيق وإليه انتهاء الطريق .
( البقرة : ( 246 - 251 ) ألم تر إلى . . . .
" ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا(1/663)
" صفحة رقم 664 "
اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين "
( القراآت )
عسيتم ( بكسر السين حيث كان نافع .
الباقون بالفتح .
وزاده بالإمالة : حمزة ونصير وابن مجاهد والنقاش عن ابن عباس وذكوان .
) بصطة ( بالصاد : أبو نشيط والشموني غير النقاد ، وكذلك ) بباصط ) [ المائدة : 28 ] ( ويبصط الرزق ) [ الرعد : 26 ] ( ولا تبصطها كل البصط ) [ الإسراء : 29 ] ( فما اصطاعوا ) [ الكهف : 97 ] وما أشبه ذلك ) مني إلا ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو .
الباقون بالسكون .
) غرفة ( بفتح العين : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو .
الباقون بالضم ) هو والذين ( بالإدغام روى ابن مهران ومحمد العطار عن أبي شعيب وشجاع وكذلك ما أشبهها ) فئة ومئة ( وبابهما غير مهموزتين : يزيد وشموني وحمزة في الوقف ) دفاع الله ( وكذلك في سورة الحج : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب .
الباقون ) دفع الله ( .
الوقوف : ( من بعد موسى ( لأنه لو وصل صار ( إذ ) ظرفاً لقوله ( ألم تر ) وهو محال ) في سبيل الله ( ط ) ألا تقاتلوا ( ط ) وأبنائنا ( ط ) تعظيماً ( لابتداء أمر معظم ) منهم ( ط ) بالظالمين ( 5 ) ملكاً ( ط ) من المال ( ط ) والجسم ( ط ) من يشاء ( ط ) عليم ( 5 ) الملائكة ( ط ) مؤمنين ( 5 ) بالجنود ( لا لأن ( قال ) جواب لما ) بنهر ( ج للابتداء بالشرط مع الفاء ) فليس مني ( ج للابتداء بشرط آخر اتحاد المقصود ) بيده ( ج لعطف المختلفين ) منهم ( ط تعظيماً لابتداء أمر معظم ) معه ( ( لا ) لأن ( قالوا ) جواب لما ) وجنوده ( ط ) ملاقو الله ( ( لا ) لأن ما بعده مفعول ( قال ) ) بإذن الله ( ط ) الصابرين ( 5 ) الكافرين ( 5 ط لأن ما قبله دعاء وما بعده خبر ماضٍ يتصل بكلام طويل بعده ولا وقف على ( بإذن الله ) لاتصال اللفظ واتساق المعنى فإن الهزيمة كانت من قتل داود جالوت ) مما يشاء ( ط ) العالمين ( 5 .
التفسير : القصة الثانية قصة طالوت ، والملأ اسم جماعة من الناس كالقوم والرهط لأنهم يملؤن العيون هيبةً ، أو لأنهم ملأى بالأحلام والآراء الصائبة وجمعه أملاء .
قال : وقال لها الأملاء من كل معشر .
وخير أقاويل الرجال سديدها .
قال الزجاج : الملأ الرؤساء(1/664)
" صفحة رقم 665 "
سموا بذلك لأنهم ملؤا بما يحتج إليه من كفايات الأمور وتدبيرها من قولهم ( ملؤ الرجل ملاءة فهو ملؤ ) إذا كان مطيقاً له ، لأنهم يتمالؤن أي يتظاهرون ويتساندون .
والغرض من إيراد هذه القصة عقيب آية القتال ، ترغيب المكلفين على الجهاد وأن لا يكونوا كمن أمروا بالقتال فخالفوا وظلموا ) إذ قالوا لنبيٍ لهم ( لم يحصل العلم بذلك النبي وبأولئك الملأ من الخبر المتواتر ، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن .
لكن المقصود وهو الحث على الجهاد حاصل .
منهم من قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو يوشع بن نون بن أفرايم بن يوسف لقوله تعالى ) من بعد موسى ( ولكنه لا يلزم منه حصوله من بعده على الاتصال .
والأكثرون على أنه أشمويل واسمه بالعربية إسماعيل .
وعن السدي هو شمعون سمته أمه بذلك لأنها دعت الله أن يرزقها إياه فسمع دعاءها فسمته شمعون .
والسين تصير شيناً بالعبرانية وهو من ولد لاوى بن يعقوب .
) ابعث لنا ملكاً ( أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وتنتظم به كلمتنا .
وكان قوام بين إسرائيل بملك يجتمعون عليه يجاهد الأعداء ويجري الأحكام ، ونبي يطيعه الملك ويقيم أمر دينهم ويأتيهم بالخبر من ربهم ) نقاتل في سبيل الله ( بالنون والجزم على الجواب وهي القراءة المشهورة .
وقرئ بالنون والرفع على أنه حال أي ابعث لنا ملكاً مقدرين القتال ، أو استئناف كأنه قال لهم .
ما تصنعون بالملك ؟ فقالوا : نقاتل .
وقئ ( يقاتل ) بالياء والجزم على الجواب ، وبالرفع على أنه صفة ل ) ملكاً ( و ) هل عسيتم ( خبره ) أن لا تقاتلوا ( والشرط فاصل بينهما ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه المذكور أي إن كتب عليكم القتال فهل يتوقع منكم الجبن والخور ؟ وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه ) وما لنا ألا نقاتل ( قال المبرد : ( ما ) نافية أي ليس لنا ترك القتال .
والأكثرون على أنه للاستفهام ، وأورد عليه أنه خلاف المشهور فإنه لا يقال : مالك أن لا تفعل كذا ، وإنما يقال : مالك لا تفعل .
فعن الأخفش أن ( أن ) زائدة أي ما لنا لا نقاتل .
ورد بأن الزيادة خلاف الأصل ولا سيما في كلام رب العزة .
وعن الفراء أن الكلام محمول على المعنى لأن قولك ( ما لك لا تقاتل ) معناه ما منعك أن تقاتل ، فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال ( أن ) فيه .
وعن الكسائي : واستحسنه الفارسي أن التقدير أيّ شيء لنا وأيّ داع أو غرض في ترك القتال فسقطت كلمة ( في ) على القياس ) وقد أخرجنا ( أي وحالنا أنا أخرجنا من ديارنا بالسبي والقهر على نواحيها ، ومن بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر منه الاجتهاد في قمع عدوّه .
روي أن قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين ، فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين .
وههنا محذوف التقدير : فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال .
) فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم ( وهم الذين عبروا النهر وسيأتي(1/665)
" صفحة رقم 666 "
ذكرهم وأنهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر علىعدد أهل بدر .
) والله عليم بالظالمين ( وعيد لهم ولكل مكلف في الإسلام على القعود عن القتال .
وأي وعيد أبلغ من أن وضع الظالمين موضع الضمير العائد إليهم .
قوله سبحانه ) وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ( طالوت اسم أعجميّ كجالوت وداود ، امتنع نم الصرف للعلمية والعجمة المعتبرة .
وقد يمكن تكلف اشتقاقه من الطول لما يجيء من وصفه بالبسطة في الجسم ، وقد يوافق العبراني العربي .
و ) ملكاً ( نصب على الحال ، أو التمييز ، أو مفعول ثانٍ على أن بعث بمعنى صير .
وفي الآية تقرير لتوليهم وتأكيد لذلك ، فإن أولى ما تولوا هو إنكارهم أمر النبي المبعوث إليهم بالتماسهم وذلك أنهم ) قالوا أنى يكون ( كيف ومن أين يصح ويصلح ) له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعةً من المال ( الواو الولى للحال ، والثانية للعطف .
فانتظمت الجملتان في سلك الحالية .
استبعدوا تملكه من وجهين : الأول : أن النبوة كانت في سبط لاوى بن يعقوب ومنه موسى وهارون ، والملك كان في سبط يهوذا ومنه داود وسليمان ، وأن طالوت ما كان من أحد هذين السبطين بل كان من ولد بنيامين .
الثاني : أنه كان فقيراً ولا بد للملك من مال يعتذد به .
فعن وهب أنه كان دباغاً .
وعن السدي أنه كان مكارياً .
وقال الآخرون : كان سقاء فأزيلت شبهتهم بوجوه : الأول : ( قال إنّ الله اصطفاه عليكم ( اختاره دونكم واستخلصه من بينكم وأمره عليكم ، ولا اعتراض لأحد على حكم الله .
وروي أن نبيهم دعا الله حين طلبوا منه ملكاً فأُتي بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت .
الثاني : ( وزاده بسطة في العلم والجسم ( طعنوا فيه بنقصان الجاه والمال فقابلهما الله تعالى بوصفين العلم والقدرة وأنهما أشد مناسبة لاستحقاق الملك من النسب والمال ، لأن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية دونهما وبالعلم والقدرة يتوسل إلى الجاه والمال ولا ينعكس ، والعلم والقدرة من الكمالات الحاصلة لحق الإنسان ، والمال والجاه أمران منفصلان عن ذات الإنسان وأنهما لا يمكن سلبهما عن ذات الإنسان بخلافهما .
وإن العالم بأمر الحروب ذا القوة والبطش يكون الانتفاع به في مصالح البلاد والعباد أتم من النسيب الغني إذا لم يكن له علم يضبط المصالح وقدرة على دفع الأعداء .
والظاهر أن المراد بالبسط في العلم هو حذقه فيما طلبوه لأجله من أمر الحرب ، ويجوز أن يكون عالماً في الديانات وبغيرها .
وذلك أن الملك ينبغي أن يكون عالماً وإلا كان مزدري غير منتفع به ، وأن يكون جسيماً يملأ العين مهابة وحشمة .
والبسطة السعة والامتداد وطول القامة .
روي أنه كان يفوق الناس برأسه ومنكبيه .
وقيل : المراد منه الجمال وكان أجمل بني إسرائيل .
والأظهر أن يراد بها القوة(1/666)
" صفحة رقم 667 "
لأنها المنتفع بها في دفع الأعداء لا الطول والجمال .
الوجه الثالث : ( والله يوتي ملكه من يشاء ( فالملك له والعبيد له والمالك إذا تصرف في ملك نفسه فلا اعتراض لأحد عليه .
الوجه الرابع : ( والله واسع عليم ( فإذا فوض الملك إليه فإن علم أن الملك لا يتمشى إلا بالمال فتح عليه باب الرزق ويوسع عليه .
قوله عز من قائل ) وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ( الآية .
اعلم أن ظاهر قوله تعالى ) إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً ( يدل على أنهم كانوا معترفين بنبوة ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
ثم إنه لما قال : ( إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ( كان هذا دليلاً قاطعطاً على أنه ملك ، لكنه تعالى لكمال رأفته بالمكلفين ضم إلى ذلك الدليل دليلاً آخر دل على صدق النبي ، وإكثار الدلائل من الله تعالى جائز .
ولهذا كثرت معجزات محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومعجزات موسى وعيسى عليهما السلام .
ثم إن مجيء التابوت لا بد أن يقع على وجه يكون خارقاً للعادة حتى يصح أن يكون معجزة وآية من عند الله دالة على صدق تلك الدعوى .
فقيل : إن الله تعالى أنزل على آدم تابوتاً فيه صور الأنبياء من أولاده فتوارثوه إلى أن وصل إلى يعقوب ، ثم بقي في أيدي بني غسرائيل فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم ، وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم ، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصر ، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه ، فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال ذلك النبي : إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره .
وكان الكفار الذين سلبوا التابوت قد جعلوه في موضع البول والغائط ، فدعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عليهم في ذلك الوقت فسلط الله على أولئك الكفار البلاء حتى إن كل من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله بالبواسير ، فعلم الكفار أن ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت فأخرجوه ووضعوه على ثورين ، فأقبل الثوران يسيران ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت .
فعلى هذا إتيان التابوت مجاز لأنه أتى به ولم يأت هو بنفسه .
وقيل : إنه صندوق من خشب كان موسى يضع التوراة فيه وكانوا يعرفونه ، ثم إن الله تعالى رفعه بعد ما قبض موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل .
ثم قال نبي ذلك القوم : إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء ، فنزل من السماء والملائكة كانوا يحفظونه والقوم ينظرون حتى نزل عند طالوت وهذا قول ابن عباس .
وعلى هذا الإتيان حقيقة ، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعاً لأن من حفظ شيئاً في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء .
أما شكل التابوت فقيل : كان من خشب الشمشار مموهاً(1/667)
" صفحة رقم 668 "
بالذهب نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين .
وقرأ أبي وزيد بن ثابت ) التابوه ( بالهاء وهي لغة الأنصار .
وأما وزن التابوت فلا يخلو إما أن يكون ( فعلوتا ) أو ( فاعولا ) لا سبيل إلى الثاني لقلة باب سلس وقلق ولأنه تركيب غير معروف فهو ( فعلوت ) من التوب أي الرجوع لأنه ظرف ، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته .
والظاهر أن مجيء التابوت كان معجزة لنبي ذلك الزمان ، ومع كونه معجزة له كان آية قاطعة في ثبوت ملك طالوت ، وقيل : إن طالوت كان نبياً وإتيان التابوت معجزته لأنه كان مقروناً بالتحدي .
والجواب أن التحدي كان من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأمته ) فيه سكينةٌ ( هي ( فعيلة ) من السكون ضد الحركة ومعناه الوقار ، ومصدر وقع موقع الاسم كالعزيمة .
وأما البقية فبمعنى الباقية .
يقال : بقي من الشيء بقية .
والمراد بالسكينة والبقية إما أن يكون شيئاً حاصلاً في التابوت أولاً ، والثاني قول الأصم وعلى هذا فمعناه أنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة اطمأنت نفوسهم وأقروا له بالملك وانتظم أمر ما بقي من دين موسى وهارون ومن شريعتهما فهذا كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( في النفس المؤمنة مائة من الإبل ) أي بسببها .
وعلى الأول أقوال فعن أبي مسلم : كان في التابوت بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام بأن الله تعالى ينصر طالوت وجنوده فيزول خوف العدو عنهم .
وعن ابن عباس : هي صورة من زبرجد وياقوت لها رأس كرأس الهر ، وذنب كذنبه ، وجناحان فيزف التابوت نحو العدو وهم بمضون معه ، فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر .
وعن علي رضي الله عنه : كان لها وجه كوجه الإنسان ، وفيها ريح هفافة أي طيبة .
وأما البقية فهي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وقفيز من المنّ الذي أنزل عليهم .
قال بعض العلماء : إنما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون لأن ذلك التابوت قد تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت .
وفي التابوت أشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون فيكون الآل هم الأتباع .
قال تعالى : ( أدخلوا آل فرعون ) [ غافر : 46 ] ( وإذ نجيناكم من آل فرعون ) [ البقرة : 49 ] ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي موسى الأشعري ( لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود ) وأراد به داود(1/668)
" صفحة رقم 669 "
نفسه إذ لم يكن لأحد من آل داود من الصوت الحسن ما كان لداود ) إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ( بدلالة المعجزة على صدق المدعي وههنا محذوف والتقدير : فأتاهم التابوت فأذعنوا لطالوت وأجابوا إلى المسير تحت رايته .
) فلما فصل طالوت بالجنود ( أصله فصل نفسه ثم كثر حذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي والمعنى : انفصل عن بلده مع الجنود .
والجند الأعوان والأنصار وكل صنف من الخلق جند قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الأرواح جنود مجندة ) .
روي أن طالوت قال لقومه : لا ينبغي أن يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ، ولا تاجر مشتغل بالتجارة ، ولا متزةج بامرأة لم يبن فيها .
ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ .
فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفاً ، وكان الوقت قيظاً وسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهراً .
فقال نبيهم : على قول ، أو طالوت على الأظهر ، وذلك إما بإخبار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو بالوحي إن كان نبياً ) إن الله مبتليكم بنهرٍ ( بما اقترحتموه من النهر .
قيل في حكمة هذا ابتلاء : إنه لما كان من عادة بني إسرائيل مخالفة الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة ، أظهر الله علامة قبل لقاء العدو يتميز بها الصابر على الحرب من غير الصابر ، لأن الرجوع قبل لقاء العدو لا يؤثر كتأثيره حال لقاء العدو .
عن ابن عباس والسدي أنه نهر فلسطين ، وعن قتادة والربيع أنه نهر بين الأردن وفلسطين .
ونهر بتحريك الهاء وتسكينها لغتان و ) مبتليكم ( أي ممتحنكم .
ولما كان الابتلاء من الناس إنما يكون بظهور الشيء ، وثبت أن الله لا يثيب ولا يعاقب على علمه إنما يظهر ذلك بظهور الأفعال من الناس وذلك لا يحصل إلا بالتكليف ، لا جرم سمى التكليف ابتلاء .
) فمن شرب منه فليس مني ( هو كالزجر أي ليس بمتصل بي ولا بمتحد معي من قولهم ( فلان مني ) يريد أنه كأنه بعضه لاختلاطهما واتحادهما ، أو ليس من أهل ديني وطاعتي ومن حزبي وأشياعي ) ومن لم يطعمه ( ومن لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه .
ومنه طعم الشيء لمذاقه .
واعلم أن الفقهاء اختلفوا في أن من حلف أن لا يشرب من هذا النهر كيف يحنث ؟ فقال أبو حنيفة : لا يحنث إلا إذا كرع في النهر .
حتى لو اغترف بالكوز ماء من ذلك النهر وشربه لا يحنث لأن الشرب من الشيء هو أن يكون ابتداء شربك متصلاً بذلك الشيء .
وقال الباقون : بل إذا اغترف الماء بالكوز من ذلك النهر وشربه يحنث لأن هذا وإن كان مجازاً إلا أنه مجاز مشهور ، فلما كان من المحتمل في اللفظ الأول أن يكون النهي مقصوراً على الشرب من النهر حتى لو أخذه بالكوز وشربه لا(1/669)
" صفحة رقم 670 "
يكون داخلاً تحت النهي .
ذكر في اللفظ الثاني ما يزيل هذا الإبهام فقال : ( ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفةً بيده ( استثناء من قوله ) فمن شرب منه فليس مني ( ليصح النظم وإنما فصل قوله ) ومن لم يطعمه ( بين المستثنى والمستثنى منه للعناية .
ومعنى الاستثناء الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع .
والغرفة بالفتح بمعنى المصدر ، وبالضم بمعنى المغروف ملء الكف .
عن ابن عباس : كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ، ويحتمل منها .
ولعل ذلك من معجزات نبي ذلك الزمان كما يروى عن نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) من إرواء الخلق العظيم من الماء القليل ، ويحتمل أنه كان مأذوناً أن يأخذ من الماء ما شاء مرة واحدة بقربة أو جرة بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه ولدوابه ولخدمه ولأن يحمله مع نفسه إلا أن قوله ) بيده ( لا يجاوب هذا الاحتمال ) فشربوا منه ( كرعوا فيه ) إلا قليلاً منهم ( وقرأ أبي والأعمش ) إلا قليلٌ منهم ( وهذا من باب الميل إلى المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً كأنه قيل : فلم يطيعوه إلا قليل منهم .
فبهذا تميز الموافق عن المنافق والصديق عن الزنديق .
يروى أن أصحاب طالوت لما هجموا على النهر بعد عطش شديد وقع أكثرهم في النهر وأكثروا الشرب فاسودت شفاههم وغلبهم العطش وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو ، وأطاع قوم قليل منهم أمر الله تعالى فلم يزيدوا على الاغتراف فقوي قلبهم وصح أيمانهم وعبروا النهر سالمين .
والمشهور أنهم كانوا على عدد أهل بدر لما روي أن النبي قال لأصحابه يوم بدر : أنتم اليوم على عدد أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاز معه إلا مؤمن .
قال البراء بن عازب : وكنا يومئذٍ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً .
وقيل : إنهم كانوا أربعة آلاف .
ولا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاعه ، وإنما الخلاف في أنهم رجعوا قبل عبور النهر أو بعده ، والحق أنه ما عبر معه إلا المطيعون لقوله تعالى ) فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه ( ولقوله : ( فليس مني ( أي ليس من أصحابي في سفري ، ولأن المقصود من الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي ، وإذا تميزا فالظاهر أنه لم يأذن للعاصين ، وصرفهم عن نفسه قبل أن يرتدوا عند لقاء العدو ، وقيل : إنه استصحب كل جنوده لأنهم قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده .
ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالمؤمن المنقاد لأمر ربه ، بل لا يصدر إلا عن المنافق أو الفاسق .
والجواب لعل طالوت والمؤمنين لما جاوزوا النهر ورأوا القوم تخلفوا وما جاوزوه ، سألوهم عن سبب التخلف فذكروا ذلك ، وما كان النهر في العظم بحيث يمنع المكالمة ، أو المراد بالمجاوزة قرب حصول المجاوزة ، أو المؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين : منهم من(1/670)
" صفحة رقم 671 "
يكره الموت ويغلب الخوف والجزع على طبعه وهم الذين قالوا : لا طاقة لنا ، ومنهم من كان شجاعاً قوي القلب وهم الذين أجابوا بقولهم ) كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ( أو أنهم لما شاهدوا قلة عسكرهم قال بعضهم : لا طاقة لنا اليوم .
فلا بد أن نوطن أنفسنا للقتل .
وقال الآخرون : بل نرجو من الله الفتح والظفر .
فكأن غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة ، وغرض الآخرين التحريض على رجاء الفتح والظفر ، وكلا الغرضين محمود .
والطاقة اسم بمنزلة الإطاقة .
يقال : أطقت الشيء إطاقة وطاقة ومثلها أطاع إطاعة والاسم الطاعة وأغار إغارة والاسم الغارة ، وأجاب يجيب إجابة والاسم الجابة .
وفي المثل ( أساء سمعاً فأساء جابة ) أي جواباً ومعنى قوله ) يظنون أنهم ملاقوا الله ( يغلب على ظنونهم أنهم لا يتخلصون من الموت .
عن قتادة : أو يظنون أنهم ملاقوا ثواب الله بسبب هذه الطاعة ، وذلك أن أحداً لا يعلم عاقبة أمره ، وعن أبي مسلم : أوَتظنون أنهم ملاقو طاعة الله من غير رياء وسمعة وبنية خالصة ، أو أنهم عرفوا مما في التابوت من الكتب الإلهية يقين النصر والظفر إلا أن حصول ذلك في المرة الأولى ما كان إلا على سبيل الظن ، أو المراد بقوله ) يظنون ( يعلمون ويوقنون لما بين اليقين والظن من المشابهة في تأكد الإعتقاد ، والفئة الجماعة لأن بعضهم قد فاء إلى بعض فصاروا جماعة ، وقال الزجاج : هي من قولهم ( فأوت رأسه بالسيف ) وفأيت أي قطعت كأن الفئة قطعة من الناس .
والمراد تقوية قلوب الذين قالوا : لا طاقة لنا إذ العبرة بالتأييد الإلهي والنصرة الإلهية ، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة ، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة ، ومحل ( كم ) رفع بالابتداء و ) غلبت ( الجملة خبره ، ) بإذن الله ( بتيسيره وتسهيله .
) والله مع الصابرين ( بالمعونة والتأييد يحتمل أن يكون من قوله تعالى وأن يكون من قول الذين يظنون .
قوله سبحانه ) ولما برزوا لجالوت وجنوده ( الآية البراز الأرض الفضاء ومنه البروز والمبارزة في الحرب كأن كل واحد منهما حصل بحيث يرى صاحبه .
واعلم أن العلماء والأقوياء من عسكر طالوت لما قرروا مع ضعفائهم وعوامهم أن الغلبة لا تتعلق بكثرة العدد وأن النصر والظفر بإعانة الله اشتغلوا بالدعاء و ) قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً ( وهكذا كان يفعل نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كما روي في قصة بدر أنه كان يصلي ويستنجز من الله وعده ، وكان متى لقي عدواً قال ( اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم ، اللهم بك أصول وبك أجول ) .
والإفراغ إخلاء الإناء مما فيه ، وإنما يخلو بصب كل ما فيه فيفيد المبالغة .
أي صب علينا أتم صبر وأبلغه وهذا هو الركن الأعظم في المحاربة ، فإنه إن كان(1/671)
" صفحة رقم 672 "
جباناً لم يجد بطائل .
ثم إن الشجاع مع ذلك يحتاج إلى الآلات والعدد والاتفاقات الحسنة حتى يمكنه أن يقف ويثبت ولا يصير ملجأ إلى الفرار ، فاقترحوها بقولهم ) وثبت أقدامنا ( ثم إنه مع كل هذه الأشياء يفتقر إلى أن تزيد قوته على قوة عدوه حتى يغلبهم وهو المراد بقولهم ) وانصرنا على القوم الكافرين ( فلا جرم استجاب الله دعاءهم ) فهزموهم ( كسروهم ) بإذن الله ( بتوفيقه وإعانته ) وقتل داود جالوت ( عن ابن عباس أن داود كان راعياً ومعه سبعة إخوة مع طالوت ، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أيشا أرسل ابنه داود - وكان صغيراً - إليهم ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم وهم في المصاف ، وبرز جالوت الجبار وكان من قوم عاد وكانت بيضته فيها ثلثمائة رطل من الحديد ، فلم يخرج إليه أحد فقال : يا بني إسرائيل ، لو كنتم على الحق لبارزني بعضكم .
فقال داود لإخوته : أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف ؟ فسكتوه .
فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت وهو يحرّض الناس فقال له داود : ما تصنعون لمن يقتل هذا ؟ فقال طالوت : أنكحه ابنتي وأعطيه نصف مملكتي .
فقال داود : فأنا خارج إليه .
وكانت عادته أنه يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في المرعى وكان طالوت عارفاً جلادته فلما هم داود بأن يخرج إلى جالوت مر بثلاثة أحجار فقلن : يا داود خذنا معك ففينا ميتة جالوت .
ثم لما خرج إلى جالوت مررماه فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه وقتل بعده ناساً كثيراً .
قيل : فحسده طالوت ولم يف له وعده ثم ندم على صنيعه فذهب يطلبه إلى أن قتل .
) وآتاه الله الملك ( في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها ) والحكمة ( أي النبوّة لأن الحكمة وضع الأمور موضعها على الوجه الأصوب والنحو الأصلح .
وكمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة ، والمشهور من أحوال بني إسرائيل ، أن الله تعالى كان يبعث إليهم نبياً وعليهم ملكاً كان ذلك الملك ينفذ أمور ذلك النبي ، وكان نبي ذلك الزمان أشمويل وملكه طالوت ، فلما توفي أشمويل أعطى الله دود النبوّة ، ولما توفي طالوت أعطى الله الملك إياه أيضاً ، ولم يجتمع الملك والنبوّة على أحد من بني إسرائيل قبله .
ويروى أن بين قتله جالوت وبين ما أعطاه الله الملك والحكمة سبع سنين .
قال بعضهم : هذا الإتيان جبراً له على ما فعل من الطاعة وبذل النفس في سبيل الله ، ولا ممتنع في جعل النبوّة جزاء على بعض الطاعات كما قال تعالى : ( ولقد اخترناهم على علم على العالمين ) [ الدخان : 32 ] وقال : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] ولهذا ذكر بعده حديث الهزيمة والقتل .
وترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية لا سيما وقد نطقت الأحجار معه ، وقد قهر العدو العظيم المهيب بالآلة الحقيرة .
وقال آخرون : إن النبوّة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال ولكنها محض عناية الله تعالى ببعض عبيده كما قال : ( الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ((1/672)
" صفحة رقم 673 "
[ الحج : 75 ] فإن قيل : لم قدم الملك على الحكمة مع أنه أدون منها ؟ فالجواب أنه تعالى أراد أن يذكر كيفية ترقي داود عليه السلام في معارج السعادات ، والتدرج في مثل هذا المقام من الأدون إلى الأشرف هو الترتيب الطبيعي .
) وعلمه مما يشاء ( قيل : هو صنعة الدروع لقوله ) وعلمناه صنعة لبوس لكم ) [ الأنبياء : 80 ] وقيل : منطق الطير ) علمنا منطق الطير ) [ النمل : 16 ] وقيل : ما يتعلق بمصالح الملك فإنه ما تعلم ذلك من آبائه فإنهم كانوا رعاة .
وقيل : علم الدين والقضاء ) وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) [ ص : 20 ] ولا يبعد حمل اللفظ على الكل والغرض منه التنبيه على أن العبد لا ينتهي قط إلى حالة يستغني عن التعلم سواء كان نبياً أو لم يكن ولهذا قيل لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقل ربي زدني علماً ) [ طه : 114 ] ( ولولا دفع الله ( معناه ظاهر وأما من قرأ بالألف فإما أن يكون مصدر الدفع نحو جمع جماحاً وكتب كتاباً وقام قياماً ، وإما أن يكون بمعنى أنه سبحانه يكف الظلمة والعصاة عن المؤمنين على أيدي أنبيائه وأئمة دينه ، فكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات كقوله ) إن الذين يحادّون الله ورسوله ) [ المجادلة : 20 ] .
واعلم أن الله تعالى ذكر في الآية المدفوع وهو بعض الناس ، والمدفوع به وهو البعض الآخر .
وأما المدفوع عنه فغير مذكور للعلم به وهو الشرور في الدين كالكفر والفسق والمعاصي ، فعلى هذا الدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدة ومن يجري مجراهم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والشرور في الدنيا كالهرج والمرج وإثارة الفتن .
فالدافعون إما الأنبياء أو الملوك الذابون عن شرائعهم ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الملك والدين توأمان ) ( الإسلام أس والسلطان حارس فما لا أس له فهو منهدم وما لا حارس له فهو ضائع ) وعلى هذا فمعنى قوله ) فلسدت الأرض ( أي بطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وغير ذلك من سائر أسباب العمران .
وقيل : المراد بالدفع نصر المسلمين على الكفار .
ومعنى فساد الأرض عبث الكفار فيها وقتالهم المسلمين .
وقيل : المعنى لو لم يدفع الكفار بالمسلمين لعم الكفر ونزل سخط الله ، فاستؤصل أهل الأرض وتصديق ذلك ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد ، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين ) ثم تلا هذه الآية ) ولكنّ الله ذو فضلٍ على العالمين ( بسبب ذلك الدفاع .
وفيه أن الكل بقضاء الله وقدره وبقهره ولطفه وبعدله وفضله .
التأويل : فقوله ) ألم تر إلى الملأ ( أن القوم لما أظهروا خلاف ما أضمروا وزعموا غير ما كتموا ، عرض نقد دعواهم على محك معناهم فما أفلحوا عند الامتحان إذ عجزوا عن البرهان ، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان ، وهذا حال أكثر مدّعي الإسلام(1/673)
" صفحة رقم 674 "
والإيمان والذين يزعمون نصلي ونصوم ونحج ونزكي لله وفي الله باللسان دون صدق الجنان ، وسيظهر ما كان لله وما كان للهوى في كفتي الميزان ) فلما كتب عليهم القتال ( تبين الأبطال من البطال ) فتولوا إلا قليلاً منهم ( وأن أهل الحق أعز من العنقاء وأعوز من الكيمياء .
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
تعيرنا أنا قليل وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
وإنما لم ينل المدعون مقصودهم لأنه لم تخلص لله قصودهم ولو أنهم قالوا : ( وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله ( وقد أمرنا ربنا وأوجب القتال علينا وأنه سيدنا ومولانا فلعل الله صدق دعواهم وأعطى مناهم وأكرم مثواهم كما قال قوم من السعداء في أثناء البكاء والصعداء ) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ( ) المائدة : 84 ] فلا جرم أثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين .
) إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ( فيه إشارة إلى أن الحكم الإلهية حلت وتجلت في جلباب تعاليها عن إدراك العقول البشرية كنه معنى من معانيها ، ولهذا .
قالوا : ( أنى يكون له الملك علينا ( وليس هذا بأعجب من قول المقرّبين المؤيدين بالأنوار القدسية ) أتجعل فيها من يفسد فيها ) [ البقرة : 30 ] واستحقاراً لشأن آدم واحتجاباً بحجب الأنانية والنحنية ، فلما تكبر بنو إسرائيل وقالوا : ( نحن أحق بالملك ( وضعهم الله وحرموا الملك ، ولما تواضع طالوت لله وقال : كيف أستحق الملك وسبطي أدنى أسباط بني إسرائيل وبيتي أدنى بيوت بني إسرائيل ، رفعه الله وأعطاه الملك .
ولما تفوقت الملائكة وترفعوا بقولهم ) ونحن نسبح بحمدك ) [ البقرة : 30 ] أمرهم بالسجود لآدم ، ولما عرضت الخلافة على آدم فتواضع لله وقال : ما للتراب ورب الأرباب أكرمه الله تعالى بسجود الملائكة وحمل أعباء الأمانة ) إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ( فيه إشارة إلى أن آية خلافة العبد أن يظفر بتابوت قلب ) فيه سكينة ( من ربه وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس مع الله ) ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [ الرعد : 28 ] ( بقية مما ترك آل موسى ( هو عصا الذكر كلمة لا إله إلا الله وهي الثعبان الذي إذا فغر فاه تلقف عظيم سحر سحرة صفات فرعون النفس .
وإن تابوتهم الذي فيه سكينتهم كان يتداوله أيدي الحدثان ، وتابوت قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ، وإن كان في تابوتهم بعض التوراة ففي تابوت قلب المؤمن جميع القرآن ، وإن كان في تابوتهم صور الأنبياء ففي تابوت المؤمن رب الأرض والسماء كما قال : ( لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن ) فإذا حصل(1/674)
" صفحة رقم 675 "
لطالوت الروح الإنساني تابوت القلب الرباني سلم له ملك الخلافة ، وإنقاد له جميع أسباط صفات الإنسان فلا يركن إلى الدنيا ويتجهز لقتال جالوت النفس الأمارة ) إن الله مبتليكم بنهرٍ ( هو نهر الدنيا وما زين للخلق فيها ) زين للناس حب الشهوات ) [ آل عمران : 14 ] ليظهر المحسن من المسيء ويميز الخبيث من الطيب ) إلا من اغترف غرفة بيده ( قنع من متاع الدنيا بما لا بد له منه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن وصحبة الخلق على حد الاضطرار ، وكان نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً ) أي ما يمسك رمقهم ) لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ( لأن من شرب من نهر الدنيا ماء شهواتها ولذاتها وتجاوز عن حد الضرورة فيها لا يطيق قتال جالوت النفس وجنود صفاتها وعسكر هواها ، لأنه صار معلولاً مريض القلب فبقي على شط نهر الدنيا ) رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ) [ يونس : 7 ] ( ولما برزوا لجالوت وجنوده ( فيه إشارة إلى أن المجاهد في الجهاد الأكبر لا يقوم بحوله وقوته لقتال النفس إلا إذا رجع إلى ربه مستعيناً به مستغنياً عن غيره قائلاً ) ربنا أفرغ علينا صبراً ( على الائتمار بطاعتك والانزجار عن معاصيك ومخالفة الهوى والإعراض عن زينة الدنيا ) وثبت أقدامنا ( على التسليم في الشدة والرخاء ونزول البلاء وهجوم أحكام ا لقضاء في السراء والضراء ) وانصرنا على القوم الكافرين ( وهم أعداؤنا في الدين عموماً ، والنفس الأمارة وصفاتها التي هي أعدى عدونا بين جنبينا خصوصاً ) فهزموهم بإذن الله ( بنصرته وقوته ) وقتل داود ( القلب ) جالوت ( النفس الخ .
وأخذ حجر الحرص على الدنيا وحجر الركون إلى العقبى وحجر تعلقه إلى نفسه بالهوى حتى صار الثلاثة حجراً واحداً وهو الالتفات إلى غير المولى ، فوضعه في مقلاع التسليم والرضا فرمى به جالوت النفس ، فسخر الله له ريح العناية حتى أصاب أنف بيضة هواها ، وخالط دماغها فأخرج منه الفضول وخرج من قفاها وقتل من روائها ثلاثين من صفاتها وأخلاقها ودواعيها ، وهزم الله باقي جيشها وهي الشياطين وأحزابها ، وآتاه الله ملك الخلافة وحكمه الإلهامات الربانية ، وعلمه مما يشاء من حقائق القرآن وإشاراته ) ولكل قوم هاد ) [ الرعد : 7 ] لفسدت أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن التقويم عن استيلاء جالوت النفس بتبديل أخلاقها وتكدير صفائها ) ولكن الله ذو فضلٍ على العالمين ( فمن كمال فضله ورحمته حرك سلسلة طلب الطالبين وألهم أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين ، ووفقهم للتمسك بذيول تربيتهم ووقفهم على التشبث بأهداب سيرهم ، وثبتهم على الرياضات في حال تزكيتهم كما قال : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء ) [ النور : 21 ] .(1/675)
" صفحة رقم 676 "
تم الجزء الثاني ، وبه يتم المجلد الأول من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري ، ويليه الجزء الثالث ، وهو بداية المجلد الثاني ، وأوله : ( تلك أيات الله نتلوها عليك. .. ( .(1/676)
" صفحة رقم 3 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثالث من أجزاء القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
( البقرة : ( 252 - 254 ) تلك آيات الله . . . .
" تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون "
( القراآت )
لا بيعَ فيه ولا خلة ولا شفاعة ( بالفتح غير منون : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ؛ الباقون : بالرفع والتنوين .
وكذلك في سورة إبراهيم : ( لا بيع فيه ولا خلال ) [ الآية : 31 ] وكذلك في سورة الطور : ( لا لغو فيها ولا تأثيم ) [ الآية : 23 ] .
الوقف : الحق ط للابتداء ، بأن المرسلين 5 على بعض م ؛ لأنه لو وصل صار الجار والمجرور صفة لبعض فينصرف بيان تفضيل الرسل إلى بعض ، فيكون موسى عليه السلام من هذا البعض المفضَّل عليه غيره لا من البعض المفضَّل على غيره بالتكليم .
درجات ط للعدول ، القدس ط ، من كفره ط ، ما يريد ، ولا شفاعة ط ، الظالمون .
التفسير : ( تلك ( القصص المذكورة من حديث الألوف وإماتتهم ثم إحيائهم ، ومن تمليك طالوت وظهور الآية التى هى إتيان التابوت ، وغلبه الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير ؛ ) آيات الله ( الباهرة الدالة على كمال قدرته وحكمته ورحمته ؛ ) نتلوها عليك ( بتلاوة جبرائيل وفيه تشريف عظيم بجبرائيل كقوله : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) [ الفتح : 10 ] ( بالحق ( باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت ، ولأن في تلاوتها حكمة شريفة وهي اعتبار المكلفين من أمتك ليحتملوا شدائد الجهاد كما(2/3)
" صفحة رقم 4 "
احتملها الأمم السالفة ، ولأنها تدل على نبوّتك من قبل أنها أخبار بالغيب لما فيها من الفصاحة والبلاغة .
ثم اكّد ذلك بقوله : ( وإنك لمن المرسلين ( حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة ودراسة ، وفيه أيضاً تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يراه من الكفار وأهل النفاق من الخلاف والشقاق كما رآه الرسل قبله ، فالمصيبة إذا عمت طابت .
ولمثل هذا كرر فقال : ( تلك الرسل ( أي الذين تعرفهم وأنت من جملتهم ) فضلنا بعضهم على بعض منهم من ( فضله الله بأن كمله الله من غير سفير وهو موسى عليه السلام ) ورفع بعضهم درجات ( قيل إن ) درجات ( نصب بنزع الخافض ، وقيل رفع لبعضهم كقوله : ( ورفعناه مكاناً عالياً ) [ مريم : 57 ] أي له ، وقيل حال من بعضهم أي ذا درجات ، وقيل مصدر في موضع الحال ، وقيل انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قال : ورفعنا بعضهم رفعات .
وأيَّد عيسى بروح القدس ومع ذلك قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك بعد مشاهدة المعجزات وأنت رسول مثلهم ، فلا تحزن على ما ترى من قومك ولو شاء الله لم يختلف أمم أولئك ، ولكن ما قضاه الله فهو كائن وما قدره فهو واقع .
واعلم أن الأمة أجمعت على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض ، وعلى أن محمداً أفضل الكل لوجوه منها قوله تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107 ] ومنها قوله : ( ورفعنا لك ذكرك ) [ الشرح : 4 ] قرن ذكره بذكر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في كلمة الشهادة وي الأذان وفي التشهد ، ولم يكن ذلك لساسر الأنبياء ؛ ومنها أنه قرن طاعته بطاعته : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) [ النساء : 80 ] وبيعته ببيعته ) إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) [ الفتح : 10 ] وعزته بعزته : ( ولله العزة ولرسوله ) [ المنافقون : 8 ] ورضاه برضاه ) والله ورسوله أحق أن يرضوه ) [ التوبة : 62 ] وأجابته بإجابته ) يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول ) [ الأنفال : 2 ] ومحبته بمحبته : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [ آل عمران : 31 ] ومنها أن معجزاته أكثر وقد ترتقي إلى ألف من جملتها القرآن ، بل القرآن يشتمل على ألفي معجزة وأزيد ، لأن التحدي وقع بأقصر سورة هي الكوثر وإنها ثلاث آيات ، وكل ثلاث آيات من القرآن تصلح للتحدي فيكون معجزاً برأسه .
ومنها أن معجزته ، وهي القرآن ، باقية على وجه الدهر ومعجزاتهم قد انقضت وانقرضت مع أن معجزته من جنس ما لا يبقى زمانين وهي الأصوات والحروف ومعجزاتهم من جنس ما يبقى مدة طويلة .
ومنها أنه اجتمع فيه من الخصال الجميلة والخلال المرضية ما كان متفرقاً فيهم وإليه الإشارة بقوله : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] أي أطلعناك على أحوالهم وسيرهم فاختر أنت منها أجودها وأحسنها ، فإنه لا يجوز أن يكون مأموراً(2/4)
" صفحة رقم 5 "
بالاقتداء بهم في أصول الدين لأنه تقليد ، ولا في الفروع فإن شرعه ناسخ الشرائع ، فإذن المراد محاسن الأخلاق .
ومنها أنه بعث إلى الخلق كافة وكان يتحمَّل أعباء الرسالة أكثر فيكون ثوابه أزيد .
ومنها أن هذا الدين أفضل وإلا لم ينسخ به سائر الأديان فيكون شارعه أفضل ، ومنها أن أُمَّته أفضل : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) [ آل عمران : 110 ] وإذا كان التابع أفضل فالمتبوع أفضل ، ومنها أن أمته أكثر لكونه مبعوثاً إلى الجن والإنس ، ولا يخفى أن لكثرة التابعين أثراً قوياً في علو شأن المتبوع .
ومنها أن نبيٍّ نودي في القرآن فقد نودي باسمه .
) يا آدم اسكن ) [ البقرة : 35 ] ، ) يا موسى إني أنا الله ) [ القصص : 30 ] ، ) وناديناه أن يا إبراهيم ) [ الصافات : 14 ] ، ) يا عيسى إني متوفِّيك ) [ آل عمران : 55 ] .
وأما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه نودي بقوله : ( يا أيها النبي ) [ الأنفال : 64 وغيرها كثير ] ( يا أيها الرسول ) [ المائدة : 41 ، 67 ] ، بل أقسم بحياته ، ) لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ) [ الحجر : 72 ] وأما الأحاديث في هذا الباب ؛ فعن ابن عباس قال : جلس ناس من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتذاكرون وهم ينتظرون خروجه .
قال : فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم لبعض : عجباً إن الله تبارك وتعالى اتخذ من خلقه خليلاً واتخذ إبراهيم خليلاً .
وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى كلّمه تكليماً .
وقال آخر : ماذا بأعجب من جَعْل عيسى كلمة الله وروحه .
وقال آخر : ماذا بأعجب من آدم اصطفاه الله عليهم وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته .
فسلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أصحابه ، وقال : ( قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك ، وأن موسى نجيّ الله وهو كذلك ، وأن عيسى روح الله وكلمته وهو كذلك ، وأن آدم اصطفاه الله وهو كذلك .
ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من يحرّك حلق الجنة فيفتح الله لي فيُدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ) .
وفي الصحيحين عن جابر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي : كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود ، وأحِلت ل يالغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وجُعلت لي الأرض طيبة وطهوراً ومسجداً فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ، ونُصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر ، وأعطيت الشفاعة ) وروى البيهقي(2/5)
" صفحة رقم 6 "
في كتابه في فضائل الصحابة ظهر علي بن أبي طالب من البعيد فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( هذا سيد العرب ) فقالت عائشة : ألست سيد العرب ؟ فقال : ( أنا سيد العالمين وهو سيد العرب ) .
ومما يؤكّد هذه المعاني ما ركز في العقول أن ذخائر كل ملك ينبغي أن تكون على مقدار من تحت تملكه فأمير المدينة يحتاج إلى عدة أكثر من عدة ريئس القرية .
ولما كانت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أعمّ من نبوة سائر الأنبياء فإنه مبعوث إلى الثقلين كافة ، فلا جرم أُعطي من كنوز العلم والحكمة وذخائز المعارف والحقائق ، ومن جوامع الكلم وبدائع الحكم ومحاسن العادات ومكارم الأخلاق ما لم يؤت نبي قبله ولن يؤتى أحد بعده .
هذا وقد طعن فيه بعض الملحدة بأن معجزات سائر الأنبياء كانت أعظم من معجزاته ؛ فآدم جُعل مسجود الملائكة ، وإبراهيم ألقي في النار فانقلبت روحاً وريحاناً ، وأُوتي موسى العصا واليد البيضاء ، وداود لان الحديدُ في يده ، وسليمان أُعطي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وكان الجن والإنس والطير مًسَخرين له ، وقد اعترف محمد بفضلهم حتى قال : ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) .
وقال : ( لا تخيروا بين الأنيباء ) .
وقال ( لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا ) وذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها .
والجوان أن كون آدم مسجوداً للملائكة لا يوجب كونه أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بدليل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( آدم ومَن دونه تحت لوائي يوم القيامة ) وقوله : ( كنت نبياً وأدم بين الماء والطين ) .
ونُقل أن جبريل عليه السلام أخذ ركاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج وهذا أعظم من السجود ، وأنه تعالى يصلي بنفسه على محمد إلى يوم القيامة ، وسجود الملائكة لآدم ما كان إلا مرَّة واحدة على أن ذلك السجود أيضاً إنما كان لأجل نور محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي كان في جبهته ، وأن أول الفكر آخر العمل ولهذا قال : ( لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك ) ومَنْ تأمَّل دلائل النبوة وجد في مقابلة كل معجزة كان لنبي قبله معجزة أفضل منها لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وأما قوله : ( لا تفضلوني. .. ولا تخيروا ) ، فنوع من التواضع وسلوك طريق الأدب .
وأيضاً التمييز بين الشخصين إنما يمكن بعد الإحاطة بفضائلهما جميعاً وذلك مرتبة لا تليق بكل أحد ، فورد النهي عنه حتى لا يؤدي إلى محذور ، والحاصل أن التوفيق بين قوله ( لا تفضلوني ) وبين ما مرّ من الأحاديث أن كلاً منهما ورد في مقام آخر ولغرض آخر ، فحيث رآهم يزدرون بشأنه ويتعجبون من الأنبياء(2/6)
" صفحة رقم 7 "
السالفة منعهم عن ذلك ، وقال : ( أنا أكرم الأولين والآخرين وأنا سيد العالمين ) .
وحيث رآهم يزدرون بشأن بعض الأنبياء زجرهم عن ذلك وقال : ( لا تفضلوني ) ؛ على أنه لا يلزم من النهي عن شيء عدم مطابقة ذلك الشيء ، للواقع فقد يكون الشيء حقاً في الواقع وينهى عن الاشتغال به لكونه غير مهم بالنسبة إلى المكلف ، فالمراد بهذا الأمر : لا تشتغلوا بتفضيلي فإنه لا يهمّكم ، وإنما المهم لكم أن تعرفوا حقية جميع الأنبياء وتؤمنوا بهم .
ولنرجع إلى ما كنا فيه فقوله : ( من كل الله ( التقدير : من كلمه ، فحذف العائد وقرىء كلم الله بالنصب وليس بقوي ؛ فإن كلّ مصلٍّ فإنه يكلم الله قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المصلي يناجي ربه ) وإنما الشرف في أن يكلمه الله قال الأشعري : المسموع هو الكلام القديم الأزلي ولا يستبعد سماع ما ليس بحرف ولا صوت ، مكما لا يمتنع رؤية ما ليس بمكيف ولا في جهة .
وقالت المعتزلة : سماع ما ليس بحرف ولا صوت محال .
واتفقوا على أن موسى قد كلمه الله واختُلف في أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج هل كلمة الله أم لا ؛ منهم مَنْ قال نعم بدليل قوله : ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 10 ] وأورد ههنا أن التكليم لا يدل على فضل ومنقبة ، فقد كلم الله إبليس حيث قال : ( أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين ) [ الأعراف : 14 ، 15 ] الآيات ، وأجيب بأن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى كلّمه من غير واسطة ، فلعلّ الواسطة كانت موجودة ، قلت : هذا خلاف الظاهر والحق أن المكالمة فسمان : مكالمة الرضا وهي الموجبة للتشريف كمكالمة موسى ، ومكالمة الغضب وهي الموجبة للعن كما في حق إبليس : ( وأن عليك اللعنة إلى يوم الدين ) [ ص : 78 ] وكما في أهل النار : ( اخسئوا فيها ولا تكلمون ) [ المؤمنون : 108 ] أما قوله : ( ورفع بعضهم درجات ( فقيل : المراد بيان أن الرسل مراتبهم متفاوتة فاتخذ إبراهيم خليلاً ، وأعطى داود الملك والنبوة ، وسخر لسليمان الجن والإنس والطير والريح .
وخصّ يحيى بالعفة والطهارة وعدم الحاجة إلى النسوان ، وخصّ محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بالبعث إلى الثقلين وكونه خاتم النبيين إلى سائر خصائصه .
هذا إذا حملنا الدرجات على المناصب والمراتب .
أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضاً وجه ؛ وذلك أن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزة لائقاً بزمانه ؛ فمعجزات موسى من قلب العصا حية ومن اليد البيضاء وفلق البحر كانت شبيهة بما عليه أهل زمانه من السحر ، ومعجزات عيسى(2/7)
" صفحة رقم 8 "
من إبراء الأكمه والأبرص تناسب للطب لأن كل ذلك على قومه ، ومعجزة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهي القرآن تضاهي ما عليه الناس وقتئذٍ من الفصاحة والبلاغة وإنشاء الخطب وقرض الشعر .
وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة ، وبالبقاء وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القوة ، وفيه وجه ثالث وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات يتعلق بالدنيا وهو كثرة الأُمة والصحابة وقوة الدولة .
وإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أنّ محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وهي القرآن تضاهي ما عليه الناس وقتئذٍ من الفصاحة والبلاغة وإنشاء الخطب وقرض الشعر .
وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة ، وبالبقاء وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القوة .
وفيه وجه ثالث وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات يتعلق بالدنيا وهو كثرة الأُمة والصحابة وقوة الدولة .
وإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أنّ محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان مستجمعاً للكل ؛ فمنصبه أعلى ، ومعجزته أقوى وأبقى ، وقومه أكثر ، ودولته أعظم وأوفر ، وقبل المراد بهذه الآية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه هو المفضَّل على الكل .
وإنما قال : ( ورفع بعضهم درجات ( على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل عظيماً فيقال له : من فعل هذا ؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم ، ويريد به نفسه ، ويكون ذلك أفخم من التصريح به .
وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث ، أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي ، لم يبق فيه فخامة .
وليس قوله ) ورفع بعضهم درجات ( تكراراً لقوله ) فضلنا بعضهم بعضهم على بعض ( لأن المفهوم من قوله ) فضلنا ( هو وجود نفس الفضل والمفهوم من قوله ) ورفع بعضهم درجات ( هوالتفاوت بالدرجات الكثيرة .
) وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ( قد سبق تفسيره ، وإنما عدل عن الغيبة إلأى الحكاية لأن الضمير في قوله ) وآتينا ( للتعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء ، وأما قوله ) كلم الله ( فأهيب من قوله ) كلمنا ( فلهذا اختير الغيبة .
وسبب تخصيص موسى وعيسى بالذكر هو أن أمتهما موجودون حاضرون ، فنبَّه على أن هذين الرسولين مع علو درجتهما وتبيُّن معجزاتهما ، لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما بل نازعوا وخالفوا ، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا ثم إن الرسل بعد مجيء البينات ووضوح الدلائل اختلف أقوامهم فمنهم مَنْ آمن ومنهم مَنْ كفر ، وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا ، فلهذا قال تعالى : ( ولو شاء الله ( أي أن لا يقتتلوا ما اقتتل الذين من بعدهم لاختلافهم في الدين وتكفير بعضهم بعضاً ولكن اختلفوا فمنهم من آمن لالتزامه دين الأنبياء ، ومنهم من كفر بإعراضه عنه ولو شاء الله ما اقتتلوا .
كرر الكلام تكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ، ولكن الله يفعل ما يريد .
وفي الآية دلالة على صحة مسألة خلق الأعمال ، ومسألة إرادة الكائنات ، وأن الكل بقضاء الله وقدره ، لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله عز وجل في العبد ، والمعتزلة يقيدون المطلق في الآيتين فيقولون المراد ولو شاء الله مشيئة الجاء وقسر كما يقال لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته ولم يشرب النصارى الخمر ويقولون المراد يفعل ما يريد من أفعال نفسه. ثم إنه(2/8)
" صفحة رقم 9 "
تعالى لما أمر بالقتال فيما سبق بقوله ) وقاتلوا في سبيل ) [ البقرة : 190 ] وأعقبه بقوله ) منْ ذا الذي يقرض الله ) [ الحديد : 11 ] ، والغرض منه الإنفاق في الجهاد ، ثم أكّد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت ، أعقبه تارة أخرة الأمر بالإنفاق في الجهاد بقوله ) يا أيها الذين امنوا أنفقوا مما رزقناكم ( وعن الحسن أنه مختص بالزكاة لأن قوله ) من قبل أن يأتي يوم ( كالوعيد وأنه لا يتوجه إلا على الواجب ، والأكثرون على أنه عام يتناول الواجب والمندوب .
وليس في الآية وعيد وإنما الغرض أن يعلم أن منافع الآخرة لا تكتسب إلا في الدنيا ، وأن الإنسان يجيء وجده وما معه إلا ما قدم من أعماله .
ومعنى قوله ) لا بيع ( أنه لا تجارة فيه فيكتسب ما يفتدى به من العذاب ، أو يكتسب مالاً حتى ينفق منه ، ) ولا خلة ( لا مودة ، لأن كلّ أحد يكون مشغولاً بنفسه لكل امرىءد منهم يومئذٍ شأن يغنيه ، أو لأن الخوف الشديد غالب على كل أحد يوم تذهب كل مرضعة عما أَرضعت .
ثم إنه لما نفى الخلة والشفاعة مطلقاً ذكر عقيبة قوله ) الكافرون هم الظالمون ( ليدلّ على أن ذلك النفي مختص بالكافرين وعلى هذا فتصير الآية دالة على ثبوت الشفاعة في حق الفسَّاق .
نقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول : الحمد لله الذي قال والكافرون هم الظالمون ، ولم يقل والظالمون هم الكافرون .
وقيل أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون ، لأنهم تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم ، فقال ) والكافرون ( للتغليظ كقوله ) ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) [ آل عمران : 97 ] أي ومن لم يحج .
وقيل المراد .
إن الكافرين إذا دخلوا النار فالله لم يظلمهم بذلك ، بل هم الذين ظلموا أنفسهم باختيار الكفر والفسق .
فهو كقوله ) ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً ) [ الكهف : 49 ] وقيل ( الكافرون ) هم الذين وضعوا الأمور في غير مواضعها لتوقعهم الشفاعة من الأصنام ، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله .
وقيل المعنى والكافرون هم التاركون الإنفاق في سبيل الله من قوله ) آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ) [ الكهف : 33 ] وأما المسلم فإنه ينفق في سبيل الله قل أم كثر .
وفائدة الفصل أنهم الكاملون في الظلم البالغون فيه المبلغ العظيم .
التأويل : ( تلك آيات الله ( أسراره وأنواره ورموزه وإشاراته ) نتلوها عليك بالحق ( نجلوها عليك بالحقيقة ما هي ) وإنك لمن المرسلين ( الذين عبروا هذه المقامات وشاهدوا تلك الأحوال والكرامات ، وصح لهم صفاء الأوقات ولذة المناجاة في الخلوات ، ثم فطموا عن ألبان تلك اللذات في حجر القربات ، وأرسلوا إلى أهل الغدر والغفلات وعبدة طواغيت الهوى وأصنام الشهوات ، ليدعوهم من دار الغرور إلى دار السرور ويخرجونهم من الظلمات(2/9)
" صفحة رقم 10 "
إلى النور ، ولكنهم ما صاحبوك في الجلوات فإنهم بقوا في السموات وأنت عبرت المكونات ) فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 9 ، 10 ] فوصلت من العبدية إلى العندية ، ثم فطمت عن رضاع لي مع الله وقت ، وابتليت بسفارة جبريل ، ثم لقيت من القوم ما لقيت ، فحق لك أن تقول : ( ما أوذي نبي مثل أوذيت ) لأن غيرك ما سقي من شرب ما سقيت فما أوذي بفطام مثل ما أوذيت .
) تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ( غشارة إلى أن التفاضل في الدين والدنيا بين العباد ليس بسعيهم ومناهم وإنما هو بتفضيل الله إياهم ، فلكلّ من أهل الفضل أنوار ، ولأنوارهم آثار على قدر استعلاء أضواء أنوارهم لا على قدر سعيهم واختيارهم .
وهذا التفاوت صارد من تلك الأقسام حين جرت به الأقلام ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رشّ عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل وغوى ) .
ثم إن الفضل فضلان : عام يمتاز به عن المردودين ) إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) [ الأنبياء : 101 ] ؛ وخاص يمتاز به عن المقبولين كما ثبت لسيد المرسلين والتفاوت في الأووار على قدر التفاوت في الظلمات المخلوقة المستعدة لقبول النور في بدر الخلقة لا في حقيقة النور ، فإنه موصوف بالوحدة ، ولهذا ورد بلفظ الوحدان في قوله ) وجعل الظلمات والنور ) [ الأنعام : 1 ] ( ويخرجهم من الظلمات إلى النور ) [ المائدة : 16 ] والرفعة في الدرجات في قدر قوة الاستعلاء ، كما قال : ( والذين أوتوا العلم درجات ) [ المجادلة : 11 ] فالعلم هو الضوء مننور الوحدانية ؛ فكلما ازداد العلم ازدادت الدرجة ، وعلى قدر غلبان أنوار التوحيد على ظلمات الوجود كانت مراتب الأنبياء بعضها فوق بعض .
فقد يبقى بعضهم في مكان من أماكن السموات ، كما روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه رأى آدم ليلة المعراج في السماء الدنيا ، ويحيى وعيسى في السماء الثانية ، ويوسف في السماء الثالثة ، وإدريس في السماء الرابعة ، وهارون في السماء الخامسة ، وموسى في السماء السادسة ، وإبراهيم عليه السلام في السماء السابعة ، وأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما بقي في مكان بل رفع به إلى سدرة المنتهى ثم إلى قاب قوسين أو أدنى ، لأنه كان فانياً بالكلية عن ظلمة وجوده باقياً بنور شهود ربه ، ولهذا سماه الله نوراً ) قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ) [ المائدة : 15 ] : ثم لما أخبر عن فضيلة الخواص بأنها كانت بسبب تفضيله إياهم ، أخبر عن اختلاف العوام وافتراقهم أنه كان بمشيئة لا بمشيئتهم فقال : ( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم ( ثم أخبر عن إحراز الفضل أنه في الإنفاق والبذل فخاطب أهل الإيمان أي : إن كان إيمانكم بالبعث والنشور والثواب والعقاب والجنة والنار حقّاً فتصدقوا منكل ما رزقناكم(2/10)
" صفحة رقم 11 "
من المال والجاه والقوة والقدرة والعلم والمعرفة وغيرها في مصارفها العامة والخاصة ، أنفقواملكنا ومالنا في صلا أنفسكم واغتنموا مساعدة الإمكان في تقديم الإحسان مع الإخوان ، ) من قبل أن يأتي يوم ( لا يشترى فيه ما يباع من الأموال والأنفس في سوق ) إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ) [ التوبة : 111 ] ولا ينفع خليل دنيوي ، لأن ) الأخلاَّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) [ الزخرف : 67 ] ( ولا شفاعة ( لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى ، ) والكافرون هم الظالمون ( لأنفسهم لأنا أرسلنا الرسل وأنزلنا الكتب وأمرناهم بالإنفاق ووعدناهم الثواب وحذرناهم العقاب وقد أعذر من أنذر والله المستعان .
( البقرة : ( 255 - 257 ) الله لا إله . . . .
" الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ( القرآآت : تعرف ممَّا مرَّ .
الوقوف : ( إلا هو ( ج ، لأن قوله : ( الحي القيوم ( يصلح بدلاً عن الضمير وخبر ضميراً آخر محذوف ) القيوم ( ج لاختلاف الجملتين ، ) ولا نوم ( ط ، ) وما في الأرض ( ط لابتداء الاستفهام .
) بإذانه ( ط لأنتهاء الاستفهام ) وما خلفهم ( ج للفرق بين الأخبار عن علمه الكامل مطلقاً وإثبات علم الخلق المقدر لمشيئته مبتدأ بالنفي .
) بما شاء ( ج لاختلاف الجملتين .
) حفظهما ( ج ) العظيم ( ه .
) الغي ( ج ، لأن من للشرط مع فاء التعقيب ) الوثقى ( ط قد قيل للاستئناف بالنفي والوجه الوصل على جعل الجملة حالاً للعروة أي : استمسك بها غير منفصمة ) لها ( ط .
) عليم ( ه .
) آمنوا ( لا ، لأن ) يخرجهم ( حال والعامل معنى الفعل في ) ولي ( تقديره : الله يليهم مخرجاً لهم أو مخرجين ) إلى النور ( ط للفصل بين الفريقين : ( الطاغوت ( لا ، لأن ) يخرجونهم ( حال .
إلى الظلمات ط ) النار ( ج. ) خالدون ( ه .(2/11)
" صفحة رقم 12 "
التفسير : قد جرت عادته سبحانه في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط الأنواع الثلاثة ، أعني : علم التوحيد وعلم الأحكام ، وعلم القصص بعضها ببعض ، والغرض من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد ، وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف ، وفي هذا النسق أيضاً رحمة شاملة ولطف كامل ؛ فإن طبع الإنسان جبل على الملال ، فكلما انتقل من أسلوب إلى أسلوب انشرح صدره وتجدد نشاطه وتكامل ذوقه ولذته ويصير أقرب إلى فهم معناه والعمل بمقتضاه .
وإذ قد تقدَّم من علم الأحكام والقصص ما اقتضى المقام إيراده ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد .
فقال : ( الله لا إله إلا هو الحى القيوم ( عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ) .
وعن عليّ رضي اللهعنه : ( سمعت نبيكم وهو على أعواد المنبر يقول من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول النة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره جاره والأبيات حوله ) وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم علي رضي الله عنه : أين أنتم من آية الكرسي ؟ .
ثم قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا علي سيد البشر آدم عليه السلام ، وسيد العرب أنت ، وسيد العالمين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا فخر ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي ) .
وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : لما كان يوم بدر قاتلتُ ثم جئتُ إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنظر ماذا يصنع ، فجئت فإذا هو ساجد يقول : ( يا حي يا قيوم ) لا يزيد على ذلك .
ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ذلك .
فلا أزال أذهب وارجع وأنظرإليه وكان لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له .
واعلم أن الذكر والعلم يتعبان المذكور والمعلوم ، وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله تعالى بل هو متعالٍ عن أن يقال هو أشرف من غيره لأن ذلك يقتضي نوع مشاكلة أو مجانسة وهو مقدس عن مجانسة ما سواه ؛ ولما كانت الآية مشتملة من نعوت جلاله وأوصاف كبريائه على الأوصل والمهمات ، فلا جرم وصلت في الشرف إلى أقصى الغايات ونهاية التصورات .
ولنشتغل بالتفسير .
أما لفظ ( الله ) فقد مرَّ تفسيره في أول الكتاب .
وأما قوله ) لا إله إلاَّ هو ( فقد سبق تفسيره في قوله ) وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو ( وما ) الحي القيوم ( فقد سلف أيضا معناهما في شرح الأسماء ، لا أنا نزيد ههنا فنقول : عن ابن عباس : إن أعظم أسماء الله(2/12)
" صفحة رقم 13 "
( الحي القيوم ) .
ويؤكده ما روينا من قصة بدر ولو كان ذكر أشرف منه لذكره وقتئذٍ في السجود .
وأما الدليل العقلي فإن ( الحي ) قبل هو الذي يصلح أن يعلم ويدقر ، أو هو الدراك الفعال ، فأورد عليه أن هذا لا يقتضي المدح لمشاركة أخس الحيوانات إياه في ذلك .
ونحن نقول إن ( الحي ) في اللغة ليس عبارة عمن يوجد فيه هذه الصفة من هذه الحيثية فقط ، بل كل شيء ، يكون كاملاً في جنسه فإنه يسمَّى حيَّا .
ومن ههنا يصحُّ أن يقال : أحيا الموات ، وأحيا الله الأرض ، فإن كمال حال الأرض أن تكون معمورة ، وكمال حال الأشجار أن تكون موروقة نضيرة ، ولما كان كمال حال الجسم أن يكون بحيث يصح أن يعلم ويقدر ، فلا جرم سميت تلك الصفة حياة .
فالمفهوم من ( الحي ) هو الكامل في جنسه ، والكامل في الوجود هو الذي يجب وجوده بذاته ، فلا حيّ بالحقيقة إلاّ واجب الوجود لذاته .
وأما ( القيوم ) فيطلق لمجموع اعتبارين : أحدهما ، أنه لا يفتقر في قوامه إلى غيره .
والثاني أنَّ غيره يفتقر في قوامه إليه ، وبهذا الثاني يزيد على مفهوم ( الحي ) .
ومن هذين الأصلين يتشعَّب جميع مسائل التوحيد والمعرفة فمنها أن واجب الوجود واحد في ذاته وبجميع جهات الوحدة ، إذ لو فرض فيه تركّب بوجه من الوجوه افتقر في تحققه إلى وجود ذينك الجزأين فيقدح في كونه قيوماً ؛ ومنها أنه لا شريك له وإلا اشتركا في الوجوب وتباينا بالتعيُّن فيكون كلّ منهما مركّباً من جزأين فلا يكون قيوماً ولا حيّا ، فإن كلّ مركّب مفتقِرٌ وكل مفتقِرٍ ممكنٌ ؛ ومنها أن لا يكون متّحيزاً لأن كلَّ متّحيزٍ منقسمٌ ، قد ثبت أنه واحد ، ومنها أنه ليس في جهة يُشار إليها ، وإلا كان متحيزاً ؛ ومنها أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا يصح عليه الحركة والسكون والانتقال والحالية والمحلية وغير ذل ؛ ومنها أنه الم بجميع المعلومات فإنه لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم ، وإذا كان حيَّا قيماً كانت حقيقته حاضرة عند ذاته وذاته مقوم لغيره ، والعلم بالعلة يوجبُ العلم بالمعلول فيكون عالماً بما سواه .
ومنها أنه قادر على كل المقدورات ، وإلا لم يكن قيوماً بمعنى كونه مقوماً لغيره ويعلم منه استناد كل الممكنات إليه بواسطة أو غير واسطة ، ويلزم منه القول بالقضاء والقدر .
( والحي ) أصله حيي كحذر وطمع ، فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما ، وكلا الياءين أصل ، وقال ابن الأنباري : أصله ( يو ) بدليل الحيوان ، فلما اجتمعت الواو والياء ثم كان السابق ساكناً ، جعلنا ياء مشددة ، وزيف بكونه عديم النظير فإنه لم يوجد ما عينه ياء ولامه واو ( والقيوم ) مبالغة قائم ، وأصله ( قووم ) على ( فيعول ) ، فجعلت الياء الساكنة والواو الأولى ياء مشددة ولو كان ( قوّوما ) على ( فعول ) لقيل ( قووم ) ، وعن عمر أنه قرأ ( الحي القيام ) وقرىء ( القيم ) ثم كان بين أنه ( حي قيوم ) أكد ذلك بقوله ) لا تأخذه سنة ولا نوم ( ولهذا فقد العاطف بينهما وكذا فيما يعقبهما والسنة ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمَّى النعاس ، أي : لا(2/13)
" صفحة رقم 14 "
يأخده نعاس ، فضلاً أن يأخذه نوم أو نقول : نفى الأخص أولاً ، ثم نفى الأعم ليفيد المبالغة من حيث لزوم نفي النوم أولاً ضمناً ثم ثانياً صريحاً .
ولو اقتصر على نفي الأخص لم يلزم منه نفي الأعم ، والمعنى أنه لا يفتر عن تدبير الخلق لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة اختل امر الطفل ، وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل : إنك لو سنان نائم .
ومما يدل على أن السهو والغفلة والنوم على الله محال هو أن هذه الأشياء إما أن تكون عبارات عن عدم العلم ، أو عن أضداد العلم .
وعلى التقديرين فجواز طريانها يوجب جواز زوال علم الله تعالى ، فلا يكون العلم مقتضى ذاته فيفتقر إلى فاعل : فواجب الوجود لذاته لا يكون واجباً بجميع صفاته ، فلا يكون حيَّا ولا قيوماً وهذا خلف .
روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن موسى عليه السلام سأل الملائكة : هل ينام ربنا ؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا يتركوه ينام ، ثم أعطاه قاروتين مملؤتين ماء في كل يدٍ واحدة ، وأمره بالاحتفاظ .
فكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا .
وكان ذلك مثلا في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السموات والأرضين .
وهذه الرواية ، إن صحت ، وجب أن ينسب هذا السؤال إلى جهال قوم موسى كطلب الرؤية ، وإلا فكيف يجوز على نبيّ الله تجويز النوم على ( الحي القيوم ) والتجويز شك ، والشك في مثله كفر ، ثم لما بيَّن كونه ( قيوماً ) وأكده بما أكد ، رتّب عليه حكماً وهو قوله ) له ما في السموات وما في الأرض ( لأن كل ما سواه فإنما تقوّمت ماهيته وتحصّل وجوده به ، فيكون ملكاً له ، ويلزم منه أن يكون حكمه جارياً في الكل ، ولا يكون لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره ، وهو المراد بقوله : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ( ومعنى الاستفهام ههنا الإنكار ، أي : لا يشفع ، وفيه ردّ على المشركين القائلين للأصنام : ( هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [ يونس : 18 ] ويلزم من كون غيره غير متصرف في ملكه بوجهٍ من الوجوه إلا بأمره كونه عالماً بالكل وكون غيره غير عالم بالكل إلا بإعلامه .
فأشار إلى الأول بقوله ) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ( ، وإلى الثاني بقوله ) ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ( والمعنى : يعلم ما كان قبلهم وما يكون بعدهم والضمير في السموات والأرض ، لأن فيهم العقلاء فغلبوا ، أو لما دل عليه قول ) مَن ذا ( من الملائكة والأنبياء والصالحين والشهداء .
عن مجاهد وعطاء والسدي أي : يعلم ما كان قبلهم من أمور الدنيا وما كان بعدهم من أمور الآخرة ؛ وعن الضحاك والكلبي : ( ما بين أيديهم ) : الآخرة لأنهم يقدمون عليها ، ( وما خلفهم ) الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم .
وعن ابن عباس : ( يعلم ما بين أيديهم ) من السماء إلى الأرض ، ( وما خلفهم ) يريد ما في السموات وقيل : ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد(2/14)
" صفحة رقم 15 "
ذلك ، الغرض أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق الثواب والعقاب ، لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية ، والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الهل ولا يعلمون أن الله تعالى أذن لهم في تلك الشفاعة أم لا ، فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه ، أي من معلوماته ، إلا بما علم كقوله : ( لا علم لنا إلا ما علمتنا ) [ البقرة : 32 ] ويحتمل أن يرا : ولا يعلمون الغيب إلا بإعلامه كقوله : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول ) [ الحن : 26 ] وإذا كان الشفعاء وهم الملائكة والأنبياء لا يعلمون شيئاً إلا بتعليم الله فغيرهم بعدم العلم أولى .
ثم إنه لما بين كماله ملكه وحكمه في السموات وفي الأرضين ذكر أن ملكه فيما عدا السموات والأرضين أعظم وأجلّ ، وأنّ ذلك مما ينقطع دون الإيماء إلى أدنى درجة من درجاتها أوهام المتوهمين ، فقال ) وسع كرسيه السموات والأرض ( يقال وسع فلان الشيء إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لو كان موسى حيَّا ما وسعه إلا اتباعي ) أي : لم يحتمل غير ذلك .
وأما ( الكرسي ) ، فأصله من التركيب والتلبد ، ومنه الكرس بالكسر للأبوال والأبعار يتلبد بعضها على بعض ، والكراسة لتراكب بعض أوراقها على بعض ، والكرسي لما يجلس عليه لتركب خشباته ، وللمفسرين في معناه ههنا أقوال : فعن الحسن أنه جسم عظيم يسع السموات والأرض وهو نفس العرش لأن السرير قد يوصف بأنه عرش وبأنه كرسي لأن كل واحد منهما يصح التمكن عليه .
وقيل إنه دون العرش وفوق السماء السابعة وقد وردت الأخبار الصحيحة بهذا .
وعن السدي أنه تحت الأرض .
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : الكرسي موضع القدمين وينبغي أن تحمل هذه الرواية إن صحت على ما لا يفضي إلى لاتشيبيه ككونه موضع قدم الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى .
وههنا أسرارا لا أحبُّ إظهارها لو شاء الله أن يطلع عليها عبداً من عبيدة فهو أعلم بمحارم أسراره. وقيل : المراد من الكرسي أن السيطان والقدرة والملك له لأن الإلهية لا تحصل إلا بهذه الصفات ، والعرب تسمِّي أصل كل شيء الكرسي ، أو لأنه تسمية للشيء باسم مكانه ؛ فإن الملك مكانه الكرسي .
وقيل : المراد به العلم لأن موضع العالم هو الكرسي وأيضا العلم هو الأمر المعتمد عليه .
ومنه يقال للعلماء : كراسي الأرض كما يقال لهم أوتاد الأرض .
وقيل : المقصود من الكلام تصير عظمة الله وكبريائه ولا كرسي ثم ولا قعود ولا قاعد .
واختاره جمع من المحققين كالقفال والزمخشري وتقريره : أنه يخاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوا في ملوكهم ؛ فمن ذلك أنه جعل الكعبة بيتاً له(2/15)
" صفحة رقم 16 "
يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم ، وأمر الناس بزيارته كما كما يزور الناس بيوت ملوكمهم .
وذكر في الجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ، ثم جعله مقبل الناس كما تقبَّل أيدي الملوك .
وكذلك ما ذكر في القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء ووضع الموازين .
وعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشاً فقال : ( الرحمن على العرش استوى ) [ طه : 5 ] ووصف عرشه فقال : ( وكان عرشه على الماء ) [ هود : 71 ] ثم قال ) وترى الملائكة حافين من حول العرش ) [ الزمر : 75 ] ثم قال ) ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية ) [ الحاقة : 17 ] ثم أثبت لنفسه كرسياً .
ولما توافقنا أن المراد من الألفاظ الموهبة للتشبيه في الكعبة والطواف والحجر هو تعريف عظمة الله وكبريائه فكذا الألفاظ الموهمة العرش والكرسي ) ولا يؤده ( لا يثقله ولا يشق عليه ؛ ) حفظهما ( حفظ السموات والأرض وفيه أن نفاذ حكمه وأمره في الكل على نعت واحد وصورة واحدة ، علوية كانت الأجسام أو سفلية كبيرة أو صغيرة .
ثم بيَّن أنه مع كونه مقوِّماً للممكنات مقيماً للأرضين والسموات متعال عن المتحيزات ومقدس عن الزمنيات فقال : ( وهو العلي العظيم ( والمراد مهما علو الرتبة وعظمة الشرف لا الحيز والجهة. وكيف لا وهو مقيم للمكان ومديم للزمان .
وقوله سبحانه : ( لا إكراه في الدين ( الآية : لما بيَّن دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للأعذار ذكر بعد ذلك. أنه لم يبق للكافر علة في إقامته على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه ؛ وذلك لا يجوز في دار الدنيا التي هي مقام الابتلاء والاختبار ، وينافيه الإكراه والإجبار .
ومما يؤكد ذلك قوله : ( قد تبين الرشد من الغي ( يقال بَانَ الشيء واستبان وتبيَّن وبيّن أيضا إذا وضح وظهر ومنه المثل : قد تبين الصبح لذي عينين .
والرشد إصابة الخير ، والغي نقيضه .
أي : تمزي الحق من الباطل ، والإيمان الكفر ، والهدى من الضلال ، بكثرة الحجج والبينت ووفور الدلائل والآيات .
) فمن يكفر بالطاغوت ( قال النحويون : وزنه ( فعلوت ) نحو جبرون وأصله من ( طغى ) ، إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين ثم صيرت ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها .
وذكر الفارسي أنه مصدر كالرغبوت والرهبوت ، والدليل على ذلك أنه يفرد في موضع الجمع كما يقال : هم رضا وعدل .
ولهذا قال تعالى : ( أولياؤهم الطاغوت ) [ البقرة : 257 ] والأصل فيه التذكير .
قال تعالى : ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ) [ النساء : 60 ] فأما معنى ( الطاغوت ) فعن عمر ومجاهد وقتادة : هو الشيطان .
وعن سعيد بن حبير : الكاهن .
وقال أبو العالية : الساحر .
وعن بعضهم : الأصنام ، وقيل : مردة الجن والإنس وكل ما يطغى ، وإنما جعلت(2/16)
" صفحة رقم 17 "
هذه الأشياء أسباباً للطغيان لحصول الطغيان عند الاتصال بها كقوله ) رب إنهن أضللن كثيراً من الناس ) [ إبراهيم : 36 ] ويعلم من قوله ) فمن يكفر بالطاغوت ( ثم من قوله : ( ومن يؤمن بالله ( ، أن الكافر لا بد أن يتوب أوّلاً ، ثم يؤمن بعد ذلك ، ) فقد استمسك بالعروة الوثقى ( استمسك وتمسك بمعنى ، والعروة واحدة عرى : الدلو والكوز ونحوهما مما يتعلق به .
والوثقى تأنيث الأوثق ، وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول ، لأن الإسلام أقوى ما يتشبث به للنجاة فمثل المعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس وهو الحبل الوثيق المحكم حتى يتصور السامع كأنه ينظر إليه بعينه فتزول شبهته بالكلية والفصم كسر الشيء من غير أن يبيّن فصَمْتُه فانفصم .
والمقصود من قوله ) لا انفصام لها ( هو المبالغة لأنه إذا لم يكن لها انفصام ، فأن لا يكون لها انقطاع أولى قيل إن الموصول ههنا محذوف أي التي لا انفصام لها كقوله ) وما منا إلا له مقام معلوم ) [ الصافات : 164 ] أي مَن له .
وقيل : معنى قوله ) لا إكراه في الدين ( لا تكرهوا في الدين على أنه إخبار في معنى النهي والإكراه إلزام الغير فعلاً لا يرى يه خيراً يحمله عليه .
ثم قال بعضهم : إنه منسوخ بقوله ) جاهد الكفار والمنافقين ) [ التحريم : 9 ] وقال بعضهم : هو في أهل الكتاب خاصة ، لأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم وحُكْم المجوس حُكْمهم .
وأما الكفار الذي تهوّدوا أو تنصروا فقيل إنهم لا يقرُّون على ذلك ويكرهون على الإسلام .
وقيل يقرُّون على ما انتقلوا إليه ولا يكرهون .
روي أنه كان لأنصاريٍّ من بني سالم بن عوق ابنان فتنصَّرا قبل أن يبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما .
فأبيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عيله وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فنزلت فخلاهما .
وقيل معنى قوله ) لا إكراه ( أي : لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب أنه دخل مكرهاً لأنه إذا رضي بعدالحرب وصحَّ إسْلامه فليس بمكره ، ومعناه لا تنسبوه إلى الإكراه فيكون كقوله ) ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً ) [ النساء : 94 ] ( والله سميع عليم ( يسمع قول من يتكلم بالشهادة وقول من يتكلم بالكفر ، يعلم ما في قلب المؤمن من الإعتقاد الطيب وما في قلب الكافر من العقد الخبيث .
وعن عطاء عن ابن عباس قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة وكان يسأل الله ذلك سراً وعلانية فقيل له : والله سميع لدعائك يا محمد عليم بحرصك واجتهادك .
قوله سبحانه : ( الله ولي الذين أمنوا ( أي متولي أمورهم وكافل مصالحهم ( فعيل )(2/17)
" صفحة رقم 18 "
بمعنى ( فاعل ) والتركيب يدل على القرب ، فالمحب ولي لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ، ومنه الولاي لأنه يلي القوم بالتدبير ، وفيه دليل على أن ألطاف الله تعالى في حق المؤمنين وفيما يتعلق بالدين أكثر ما ألطافه في حق الكافر ، وذلك أنه يخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان ومن الضلال إلى الهدى ومن الشك إلى اليقين .
والإخراج يشمل الكافر إذا آمن والمؤمن الأصلي ، ولا يبعد أن يقال يخرجهم إلى النور من الظلمات ، وإن لم يكونوا في الظلمة ألبتة ؛ فإن العبد لو خلا عن توفيق الله تعالى لحظة لوقع في ظلمات الجهالات والضلالات فصار توفيقه تعالى سبباً لدفع تلك الظلمات عنه ، وبين الدفع والرفع تشابه ، ومثله قوله : ( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) [ أل عمران : 103 ] ومعلوم أنهم ما كانوا قط في النار .
ويروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) سمع إنساناً قال : أشهد أن لا إله إلا الله فقالك ( على الفطرة ) فلما قال : أشهد أن محمداً رسول الله قال : ( خرج من النار ) ومن المعلوم أنه ما كان فيها .
قال الواحدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور فإنه تعالى أراد بهما الكفر والإيمان إلا قوله في أول الأنعام ) وجعل الظلمات والنور ) [ الأنعام : 1 ] فإنه عنى به الليل والنهار .
قال : وإنما جعل الكفر ظلمة لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك ، وجعل الإيمان نوراً لأنه كالسبب في حصول ألإدراك .
قلت : قد مر أن الإيمان والعلم وجميع الكمالات النفسانية والمعارف اليقينية أنوار تزداد النفس بها نورية وإشراقاً فلا حاجة إلى هذا التكلف .
) والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ( مصدر ، ولهذا وحد في موضع الجمع ) يخرجونهم من النور إلى الظلمات ( وإنما وحد النور وجمع الظلمة لأن الحق وما يرجع إليه طريقه واحد وهو أيضا في نفسه واحد ، وأما الباطل فلا حصر له ولا لطرقه .
كما أن الخط المستقيم الواصل بين النقطتين واحد ، والمنحنية غير محدود .
وإسناد الإضلال إلى الطاغوت ، وهو كل من ينسب إلى الطغيان ، كالمجاز فإن الحوادث بأسرها تستند إلى المبدأ الأول بالحقيقة وتنتهي إلى قضائه وقدره كما سبق تحقيقه مراراً .
) أولئك ( الكفار أو هم مع من يطيعهم من الوسائط والوسائل ) أصحاب النار ( فيكون زجراً للكل ووعيداً لهم أعاذنا الله من ذلك .
التأويل : ( الحي القيوم ( : أشير بهما إلى الاسم الأعظم لأن اسمه ( الحي ) مشتمل على جميع أسمائه وصفاته .
فإن من لوازم الحي أن يكون قادراً عالماً سميعاً بصيراً متكلماً مريداً باقياً إلى غير ذلك من نعوت الكمال ، واسمه ( القيوم ) دالّ على افتقار كل المخلوقات إليه ؛ فإذا تجلى الله للعبد بهاتين الصفتين ، انكشف للعبد عند تجلي صفته ( الحي ) معاني جميع أسمائه وصفاته ؛ وعند تجلي صفته ( القيوم ) فناء جميع المخلوقات ، إذ كان قيامها(2/18)
" صفحة رقم 19 "
بقيومية الحق لا بأنفسهم ، فلما جاء الحق وزهق الباطل فلا يرى في الوجود إلا ( الحي القيوم ) إذ سلب ( الحي ) جميع أسماء الله وسلب ( القيوم ) قيام الممكنات ، ففني التعدد وبقيت الوحدة ، فيذكره عند شهود عظمة الواحدانية بلسان عيان الفردانية لا بلسان بيان الإنسانية ، فقد ذكره باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب .
وإذا سئل به أعطى ؛ لأنه حينئذٍ ينطق بالله فيكون الحال كما جرى على لسانه .
فأما الذاكر عند غيبته عن عظمة الواحدانية فبكل اسم دعاه لا يكون الاسم الأعظم بالنسبة إلى حال غيبته ، وعند شهود العظمة فبكل اسم دعاه يكون الاسم الأعظم .
كما ئيل أبو يزيد عن الاسم الأعظم فقال : الاسم الأعظم ليس له حد محدود ولكن فرغ قلبك لوحدانيته فإذا كنت كذلك فاذكره بأي اسم شئت .
) لا تأخذه سنة ولا نوم ( ، لأن النوم أخو الموت والموت ضد الحياة ، وهو الحي الحقيقي فلا يلحقه ضد الحياة .
) من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ( هذا الاستثناء راجع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه قيل : من ذا الذي يشفع عنده يوم القيامة إلا عبده محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه مأذون في الشفاعة موعود بها ) وعسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ) [ الإسراء : 79 ] ( ويعلم ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما بين أيديهم ( من أوليات الأمور قبل خلق الخلائق ، كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أول ما خلق نوري ، أو ل ما خلق الله العقل أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام ) ) وما خلفهم ( من أحوال القيامة وفزع الخلق وغضب الرب وطلب الشفاعة من الأنبياء وقولهم نفسي نفسي ورجوعهم إليه بالاضطرار ، ) ولا يحيطون بشيء من علمه ( وإنما هو شاهد على أحوالهم وسيرهم ومعاملاتهم وقصصهم ) وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ) [ هود : 120 ] ويعلم أمور أخرتهم وأحوال أهل الجنة والنار ، وهم لا يعلمون شيئاً من ذلك ) إلا بما شاء ( أن يخبرهم عنه ) وسع كرسيه السموات والأرض ( : مثال العرش في عالم الإنسان قلبه ؛ ومثال الكرسي : سره .
وسوف يجيء تمام التحقيق إن شاء الله تعالى في قوله ) الرحمن علىالعرش استوى ) [ طه : 9 ] وإن العرش مع عظمته كحلقة ملقاة بين السماء والأرض بالنسبة إلى سعة قلب المؤمن .
) ولا يؤده حفظهما ) [ البقرة : 31 ] ولما أظهر لمخلوقاته من العرش والكرسي ولقلب المؤمن وسره علواً في المرتبة وعظمة في الخلقة ظهاراً لكمال القدرة والحكمة ، تردَّى برداء الكبرياء واتّزر بإزار العظمة والبهاء وهو أولى بالمدح والثناء فقال : ( وهو العلي العظيم ( فنم علا في الآخرة والأولى فبإعلائه ، ومن عظم فبتعظيمه .
ثم أخبر عن عزة الدين لأرباب اليقين بقوله ) لا إكراه في الدين ( كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ليس الدين بالتمني ) مع أن التمني نوع من الاختيار فكيف يحصل بالإكراه هو(2/19)
" صفحة رقم 20 "
الإجبار ، فإن الدين هو الاستسلام لأوامر الشرع ظاهراً أو التسليم لأحكام الحقِّ باطناً من غير حرج وضيق عطن .
ثم شرع في مزيد شرح لحقيقة الدين بقوله ) فمن يكفر بالطاغوت ( يتبرأ منه ؛ فطاغوت العوام الأصنام ، وطاغوت الخواص هو النفس ، وطاغوت خواص الخواص ما سوى الله .
وإيمان العوام إقرار باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ، وإيمان الخواص عزوب النفس عن الدنيا وسلوك طريق العقبى .
وشهود القلب مع المولى .
وإيمان خواص الخواص ملازمة الظاهر والباطن في طاعة الله ، وإنابة القلب إلى الفناء في الله ، وإخلاء السر للبقاء بالله ، وهذا هو السكر الموجب للشكر ، ولهذا قال موسى بعد إفاقته عن سكر سطوات شراب التجلي ) تبت إليك ) [ الأحقاف : 15 ] أي عن هذه الإفاقة ، فكان مخصوصاً عن عالمي زمانه بالإيمان العياني وشريكاً مع القوم بالإيمان البياني كما البياني كما قيل :
لي سكرتان وللندمان واحدة
شيء خصصت به من بينهم وحدي
ثم العروة الوثقى التي استمسك بها المؤمن لا يمكن أن تكون من المحدثات المخلوقات لقوله ) كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] ولا تكون أيضا من بطشك وإلا كانت منفصمة ، بل تكون من بطشه ) إن بطش ربك لشديد ) [ البروج : 12 ] ولكل مؤمن عروة مناسبة لمقامة في الإيمان ؛ فهي للعوام توفيق الطاعة ، وللخواص مزيد العناية بالمحبة ) يحبهم ويحبونه ) [ القصص : 88 ] ولا تكون أيضاً من بطشك ظلمات الغيرية وتبقيه بنور الربوبية ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين ) وأعمالهما فانية من عالم الحدوث ، وجذبة الحق باقية من عالم القدم لا يجوز عليها الانفصام ، فالمحذوب لا يخلص منها أبد الآبدين .
ثم أخبر عن تصرفات جذباته فقال : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ( يخرج العوام من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية ، والخواص من ظلمات الصفات النفسانية والجسمانية إلى نور الروحانية والربانية ، وخواص الخواص من ظلمات الحدوث والفناء إلى نور الشهود والبقاء .
) والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ( : ذكر الطاغوت بلفظ الوحدان ، والأولياء بلفظ الجمع ، ليعلم أن الولاء والمحبة من قبل الكفار أي هم أولياء الطاغوت كقوله ) أنداداً يحبونهم كحب الله ) [ البقرة : 165 ] ؛ فإن الطاغوت لو فسر بالأصنام فهي بمعزل عن الولاية وإن فسر بالشيطان أو النفس ؛ فهم الأعداء لا الأولياء يخرجونهم من نور الروحانية وصفاء الفطرة إلى ظلمات الصفات البهيمية والسبعية(2/20)
" صفحة رقم 21 "
والشيطانية ، ظلمات بعضها فوق بعض ، دركات بعضها تحت بعض ) أولئك ( أي أرواح الكفار مع النفس والشيطان والصنام أصحاب النار ، لأن الأرواح ، وإن لم تكن من جنسهم ولكن من تشبه بقوم قهو منهم .
والله المستعان .
( البقرة : ( 258 - 260 ) ألم تر إلى . . . .
" ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم " ( القرآآت : ( ربِّي الذي ( مرسلة الياء : حمزة .
الباقون بالفتح ) أنا أحيى ( بالمد : أبو جعفر ونافع ، وكذلك ما أشبهها من المفتوحة والمضمومة ، وزاد أو نشيط بالمد في المكسورة في قوله تعالى ) إن أنا إلا نذير ) [ الأعراف : 188 ] وأشباه ذلك ) مائة ( وبابه مثل ( فئة ) وقد مر .
) لبث ( وبابه بالأظهار : ابن كثير ونافع وخلف وسهل ويعقوب ) لم يتسنه ( في الوصل والوقف بالهاء : حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب ، لأن الهاء للسكت وهاء السكت تزاد للوقف .
الباقون : بالهاء الساكنة في الحالين ، والهاء إما أصلية مجزومة بلم ، أو هاء سكت .
وأجروا الوصل مجرى الوقف ) إلى حمارك ( كمثل الحمار بالإمالة : عليّ غير ليث وأبي حمدون ، وحمدوية والنجاري عن ورش ، وابن ذكوان وأبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي بن شنبوذ عن أهل مكة .
) ننشرها ( بالراء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثيبر وأبو جعفر ونافع .
الباقون بالزاي .
) قال أعلم ( موصولاً والابتداء بكسر الهمزة على الأمر : حمزة وعلي .
الباقون : مقطوعاً والميم مضموممة على الإخبار ) فصرهن ( بكسر الصاد : يزيد وحمزة وخلف ورويس والمفضَّل ، ) جزءاً ( بتشديد الزاي : يزيد ووجهه أنه خفف بطرح همزته ثم شدد كما يشدد في الوقف إجراء للوصل مجرى الوقف .(2/21)
" صفحة رقم 22 "
وقرأ أبو بكر وحماد ( جزءاً ) مثقال مهموزاً .
الباقون : ساكنة الزاي مهموزة .
الوقوف : ( الملك ( لأن إذ ليس بظرف لإيتاء الملك .
) ويميت ( ( لا ) ) قال ( عامل ، إذ ) أميت ( ط ، ) كفر ( ط ، ) الظالمين ( لا ، للعطف بأو التعجب .
) عروشها ( ج لأن ما بعده من تتمه كلام قبله من غير عطف .
) موتها ( ج لتمام المقول مع العطف بفاء الجواب والجزاء ) بعثه ( ط .
) كم لبثت ( ط .
) يوم ( ط .
) لم يتسنه ( ج وإن اتفقت الجملتان لوقوع الحال المعترض بينهما ، ومن وصل حسن له الوقف على ) حمارك ( بإضمار ما يعطف عليه قوله ) ولنجعلك ( أي لتستيقن ولنجعلك ، ومن جعل الواو مقحمة لم يقف ) لحماً ( ط لتمام البيان ) له ( ( لا ) لأن ) قال ( جواب لما .
) قدير ( ه ) الموتى ( ط ) تؤمن ( ط .
) قلبي ( ط ) سعياً ( ط ، لاعتراض جواب الأمر ) حكيم ( التفسير : إنه سبحانه ذكر ههنا قصصاً ثلاثاً ؛ أولاها في إثبات العلم بالصانع والباقيتان في إثبات البعث والنشور .
فالقصة الأولى مناظرة إبراهيم ملك زمانه ، عن مجاهد أ ، ه نمرود بن كنعان وهو أول من تجبر وادّعى الربوبية والحاجة المغالبة بالحجة .
والضمير في ( ربه ) لإبراهيم ، ويحتمل أن يكون ل ( نمرود ) ، والهاء في ( أن آتاه ) قيل لإبراهيم لأنه أقرب في الذكر ، ولأنه لا يجوز أن يؤتى الكافر الملك والتسليط ، ولأنه يناسب قوله ) فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً ) [ النساء : 54 ] .
وقال جمهور المفسرين : الضمير لذلك الشخص الذي حاج إبراهيم ، ولا يبعد أن يعطي الله الكافر بسطةً وسعةً في الدنيا .
ومعىن أن آتاه لله أي لأن أتاه الله الملك فأبطره وأورثه الكبر والعتو أو جعل محاجته في ربه شكراً له كقولك ( عاداني فلاني لأني أحسنت إليه ) تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان ، ويجوز أن يكون المعنى : حاج وقت أن آتاه .
وعن مقاتل أن هذه المحاجة كانت حين ما كسر إبراهيم الأصنام وسجنه نمرود ثم أخرجه من السجن ليحرقه فقال : من ربك الذي تدعو إليه ؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت .
وهذا دليل في غاية الصحة لأن الخلق عاجزون عن الإحياء والإماتة فلا بد أن يستند إلى مؤثر قادر مختار خبير بأجزاء الحيوان وأشكاله ، بصير بأعضائه وأحواله ، ولأمر ما ذكره الله تعالى في مواضع من كتابه فقال ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) [ المؤمنون : 12 ] ( وهو الذي خلقكم من تراب ) [ غافر : 67 ] ( ألم نخلقكم من ماء مهين ) [ المرسلات : 20 ] ويروى أن الكافر دعا حينئذٍ شخصين فاستبقى أحدهما وقتل الآخر وقال : أنا أيضاً أحيي وأميت .
ثم للناس في هذا المقام طريقان : الأول وعليه أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من(2/22)
" صفحة رقم 23 "
نمرود أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر ومثال آخر أوضح من الأول فقال ) إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ( قالوا : وفي هذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة .
وأورد عليه أن الشبهة إذا وقعت في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك الجهل واللبس .
ولما طعن الملك الكافر ف الدليل الأول أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة ذلك واجباً مضيقاً فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب مع أن فيه إيهام أن كلامه الأول كان ضعيفاً ؟ ولئن سلمنا أن الانتقال من دليل إلى دليل حسن لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح .
لكن الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس ، فإن جنس الحياة والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى الأجسام فللخلق درة عليه. وأيضاً دلالة طلوع الشمس لكون حركة الأفلاك على نهج واحد .
وأيضاً إن نمرود لما لم يستحي من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله بالقتل والتخلية ، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني ، فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب .
وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك وقالوا : إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن يطلع الشمس من مغربها ، ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام طلوع الشمس من المغرب ، فما الذي حمل إبراهيم على ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك ، والتزم الانقطاع ، واعترف بالحاجة إلى الانتقال ، وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب ؟ ولما كانت هذه الأعتراضات واردة على الطريق الأول عدل بعض المحققين إلى طريق آخر وقالوا : إن إبراهيم عليه السلام لما أحتج بالإحياء والإماتة قال المنكر : أتدعي الإحياء والإماتة من الله ابتداء أم بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية ؟ أما الأول فلا سبيل إليه ، وأما الثاني فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر ، فإن الجماع يفضي إلى الولد بتوسط الأسباب ، وتناول السم يفضي إلى الموت ، فأجاب إبراهيم عليه السلام بناء على معتقدهم ، وكانوا أصحاب تنجيم - بأن لها من فاعل ومدبر ، وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك ، لكن الحركات والاتصالات لا بد لها من فاعل ومدبر ، وليس ذلك هو البشر فإنه لا قدرة لهم على الفلكيات ، فهي إذن بتحريك رب الأرض والسموات .
قلت : وفيه أيضاً طريق آخر نذكره في التأويلات إن شاء الله تعالى ، ) فبهت الذي كفر ( يقال : بهت الرجل بالكسر إذا دهش وتحير ، وبهت بالضم مثله .
وقد قرىء بهما وأفصح منهما القراءة المشهورة فبهت على البناء للمفعول لأنه يقال : رجل مبهوت ولا يقال(2/23)
" صفحة رقم 24 "
باهت ولا بهيت قاله الكسائي ) والله لا يهدي القوم الظالمين ( فلهذا لم ينفعه الدليل وإن بلغ في الظهور إلى حيث صار المبطل مبهوتاً محجوجاً ، فيعلم منه أن الكل بقضاء الله وقدره وبمشيئته وإرادته .
القصة الثانية قوله سبحانه ) أو كالذي مر على قرية ( ذهب الكسائي والفراء والفارسي وأكثر النحويين إلى أنه معطوف على المعنى ، والتقدير : أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر ، ونظيره من القرآن ) قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون الله ) [ المؤمنون : 186 - 187 ] فهذا عطف على المعنى كأنه قيل : لمن السموات ؟ فقيل : لله .
ومثله قول الشاعر :
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
وعن الأخفش : أن الكاف زائدة والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ، أو إلى الذي مر .
وعن المبرد : أنا نضمر الفعل في الثاني والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إلى إبراهيم أو ألم تر إلى مثل الذي مر .
واختلف في المار بالقرية فعن مجاهد وعليه أكثر المفسرين من المعتزلة أن المار كان رجلاً كافراً .
شاكاً في البعث لأن قوله ) أنى يحيى ( استبعاد وإنه لا يليق بالمؤمن ، ولأنه تعالى قال في حقه ) فلما تبين له ( وفيه دليل على أن ذلك التبين لم يكن حاصلاً قبل ذلك .
وكذا قوله ) أعلم أن الله على كل شيء قدير ( وذهب سائر المفسرين إلى أنه كان مسلماً ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي : هو عزير ، وقال عطاء عن ابن عباس هو أرميا .
ثم من هؤلاء من قال : إن أرميا هو الخضر عليه السلام وهو رجل من سبط هارون بن عمران وهذا قول محمد بن إسحاق .
وقال وهب بن منبه : إن أرميا هو النبي الذي بعثه الله عند ما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة .
وقيل : هو عزير على ما يجيء حجة هؤلاء أن قوله ) أنى يحيي هذه الله بعد موتها ( يدل على أنه كان عالماً بالله ، وبأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة ، والاستبعاد إنما هو في القرية المخصوصة .
وأيضاً قد شرفه الله تعالى بالتكلم في قوله ) قال كما لبثت ( وفي قوله ) وانظر ( ) ولنجعلك ( وفي نفس قصته من الإعادة وغيرها إكرام له أيضاً .
روي عن ابن عباس أن يختصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير - ومنهم عزير وكان من علمائهم - فجاء بهم إلى بابل .
فدخل عزير تلك القرية ونزل تحت ظل شجرة وربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً ، فعجب من ذلك وقال ) أنى يحيي هذه الله بعد موتها ( أي من أين يتوقع عمارتها ؟ لا على(2/24)
" صفحة رقم 25 "
سبيل الشك في القدرة ، بل بسبب اطراد العادة في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معموراً .
وكانت الأشجار مثمرة فتتناول منها التين والعنب وشرب من عصير العنب ، ونام فأماته الله في منامه مائة عام وهو شاب ، ثم أعمى عنه في موته أبصار الإنس والطير والسباع ، ثم أحياه بعد المائة ونودي من السماء يا عزير ) كم لبث ؟ قال : لبثت يوماً أو بعض يوم .
قال : بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك ( من التين والعنب ) وشرابك ( من العصير لم يتغير .
فنظر فإذا التين والعنب كما شاهد .
ثم قال ) وانظر إلى حمارك ( فنظر فإذا عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله .
فسمع صوتاً : أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحاً فانضم أجزاء العظام بعضها إلأى بعض ثم التصق كل عضو بما يليق به ، الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ، ثم جاء الرأس إلى مكانه ، ثم العصب ، ثم العروق ، ثم انبسط اللحم عليه ، ثم انبسط الجلد عليه ، ثم خرجت الشعور منالجلد ، ثم نفخ فيه الروح ، فإذا هو قائم ينهق ، فخر عزير ساجداً فقال ) اعلم أن اله على كل شيء قدير ( ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم : حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرحيا مات ببابل ، وقد كان يختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً من قراء التوراة وكان فيهم عزير .
والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة ، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفاً .
وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورضت بما أملاه فما اختلفا في حرف ، فعند ذلك قالوا : عزير ابن الله .
وعن وهب وقتادة وعكرمة والربيع أن القرية إيليا وهو بيت المقدس .
وقال ابن زيد : هي القرية التي خرجت منها الألوف حذر الموت .
ومعنى قوله ) خاوية على عروشها ( ساقطة على سقوفها من خوى النجم إذا سقط .
والعروش الأبنية ، والسقوف من الخشب ، كان حيطانها قائمة وقد تهدمت سقوفها ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المتهدمة ، وهذا من أحسن ما يوصف به خراب المنازل .
ويحتمل أن يكون من خوى المنزل إذا خلا عن أهله ، وخوى بطن الحامل .
( وعلى ) بمعنى ( عن ) أي خاوية عن عروشها ، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع بقاء عروشها وسلامتها ، قال في الكشاف : ويجوز أن يكون ) على عروشها ( خبراً بعد خبر كأنه قيل : هي خالية وهي على عروشها أي هي قائمة مظلة على عروشها على معنى أن السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان ، وبقيت الحيطان بحالها فيه مشرفة على السقوف الساقطة ، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع كون أشجارها معروشة ، وكان التعجب من ذلك اكثر لأن الغالب من القرية الخالية أن يبطل ما فياه من عروش الفواكه ) فأماته الله مائة عام ( لأن الإحياء بعد مدة طويلة أغرب فيكون أدخل في كونه آية ) ثم بعثه ( أي أحياه كما كان أوّلاً عاقلاً فهماً مستعداً للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية ، ولو قال أحياه لم(2/25)
" صفحة رقم 26 "
تحصل هذه الفوائد .
) قال كم لبثت ( أي كم مدة ؟ فخذف المييز .
والحكمة في السؤال هو التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق وإلا فمن المعلوم أن الميت لا يمكنه بعد أن صار حياً أن يعلم أن مدة موته طويلة أو قصيرة ) قال ( بناء على الظن لا بطريق الكذب ) لبثت يوماً أو بعض يوم ( روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غروب الشمس .
فقال قبل النظر إلى الشمس : يوماً .
ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال : أو بعض يوم .
والظاهر أنه علم أن ذلك اللبث كان سبب الموت بأمارات شاهدها في نفسه وفي حماره ) لم يتسنه ( لم يتغير .
وأصله من السنة أي لم يأت عليه السنون لأن مرّ السنين إذا لم يغيره فكأنها لم تأت عليه .
وعلى هذا فالهاء إما للسكت بناء على أن أصل سنة سنوة بدليل سنوات في الجمع وسنية في التحقير ، وقولهم ( سانيت الرجل مساناة ) إذا عامله سنة .
وإما أصلية على أن نقصان سنة هو الهاء بدليل سنيهة في التصغير ، وقولهم ( أجرت الدار مسانهة ) .
وقيل : أصله لم يتسنن إما من السن وهو التغير قال تعالى ) من حما مسنون ) [ الحجر : 26 ] أي متغير منتن .
وإما من السنة أيضاً بناء على ما نقل الواحدي من أن أصل سنة يجوز أن يكون سننه بدليل سنينة في تحقيرها وإن كان قليلاً .
وعلى التقديرين أبدلت النون الأخيرة ياء مثل تقضي الباري في تفضض .
ثم حذفت الياء للجزم وزيدت هاء اسكت في الوقف .
وعن أبي علي الفارسي أن السن هو الصب فقوله ( لم يتسن ) أي الشراب بقي بحاله للم ينصب فعلى هذا يكون قوله ) لم يتسنه ( عائداً إلى الشراب وحده ، ويوافقه قراءةٍ ابن مسعود ) فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنن ( وأما على سائر الأقوال فيكون عدم التغير صالحاً لأن يعود إلى الطعام وإلى الشارب جميعاً .
فإن قيل : إنه تعالى لما قال ) بل لبثت مائة عام ( كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك ، ولكن قوله ) فانظر ( يدل ظاهراً على ما قاله من أنه لبث يوماً أو بعض يوم .
فالجواب أن الشبهة كلما كانت أقوى كان الاشتياق إلى الدليل الكاشف عنها أشد ولهذا قيل : ( وانظر إلى حمارك ( فرآه عظاماً نخرة فعظم تعجبه حيث رأى ما يسرع إليه التغير وهو الطعام والشراب باقياً ، وما يمكن أن يبقى زماناً طويلاً وهو الحمار غير باقٍ فعرف طول مدة لبثه بأن شاهد عظام حماره رميماً .
وهذا بالحقيقة لا يدل بذاته لأن القادر على إحياء الحيوان قادر على إماتته وجعل عظامه نخرة في الحال ، ولكن انقلاب عظام الحمار إلى حالة الحياة كانت معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله ) بل لبثت مائة عام ( ) ولنجعلك آية ( قال الضحاك : معناه أنه جعله دليلاً على صحة البعص .
وقال غيره : كان آية ) للناس ( لأن الله تعالى بعثه شاباً أسود الرأس ، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والمفارق وقيل : إنه كان يقرأ التوراة عن ظهر قلبه فذلك كونه آية .
وقيل : إن حماره لم يمت .
والمراد وانظر إلى حمارك سالماً في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الأيات أن يعيشه مائة(2/26)
" صفحة رقم 27 "
عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير ، وأما فائدة الواو في قوله ) ولنجعلك آية للناس ( فقد قال الفراء : فإنما دخلت لنية فعل بعدها مضمر ، لأنه لو قال وانظر إلى حمارك لنجعلك آية ، كان النظر إلى الحمار شرطاً وجعله آية جزاء ، وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام .
بل المعنى : ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء ومثله في القرآن كثير ) وكذلك نصرف الآيات وليقولوا من الموقنين ) [ الأنعام : 105 ] ( وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماء والأرض وليكون من الموقنين ) [ الأنعام : 75 ] ( وانظر إلى العظام كيف ننشرها ( بالراء المهملة أي كيف نحييها .
وقرىء ) كيف ننشرها ( من نشر الله الموتى بمعنى نشرهم .
ويحتمل أن يكون من النشر ضد الطي فإن الحياة تكون بالانبساط .
وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله ) من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ) [ يس : 79 ] ومن قرأ بالزاء فمعناه نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب .
والنشز ما ارتفع من الأرض ومنه نشوز المرأة لأنها ترتفع عن حد رضا الزوج ( وكيف ) في موضع الحال من العظام والعامل فيه ( ننشرها ) لا ( انظر ) لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله .
ثم أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره ، وأ ، اللام فيه بدل من الكناية .
وعن قتادة والربيع وابن زيد : أن العظام عظام هذا الرجل نفسه .
قالوا : إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه وكانت بقية بدنه عظاماً نخرة وكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعص إلى البعض وكان يرى حماره واقفاً كما ربطه ، وزيف بأن قوله ) لبثت يوماً أو بعض يوم ( إنما يليق بمن لا يرى في نفسه أثر التغير لا بمن شاهد أجزاء بدنه متفرقة وعظامه رميمة .
وأيضاً قوله ) ثم بعثه ( يدل على أن المبعوث هو تلك الجملة التي أماتها ، وقيل : هي عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم ، وفاعل تبين مضمر تقديره ) فلما تبين له ( أن الله على كل شيء قدير ) قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ( فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قوله ( ضربني وضربت زيداً ) أو التقدير : فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر الإماتة والإحياء قال أعلم .
وتأويله إني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك استدلالاً .
ومن قرأ ) اعلم ( على لفظ الأمر فمعناه أنه عند التبين أمر نفسه بذلك ، والله تعالى أمره بذلك كما في آخر قصة إبراهيم ) واعلم أن الله عزيز حكيم ( قال القاضي : القراءة الأولى أولى لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به ، وههنا العلم حاصل بدليل قوله ) فلما تبين له ( فلا يحسن الأمر بتحصيل الحاصل ، وإنما الأمر فيه عائد إلى شيء آخر غير حاصل وهو عدم التعجب من إيجاد سائر الممكنات البعيدة ، فإن من قدر(2/27)
" صفحة رقم 28 "
على إيجاد أمر مستبعد الحصول كان قادراً على نظائره من الغرائب والعجائب لا محالة ، ولهذا أوردت القضية كلية .
نعم لو قيل : اعلم أن الله قادر على إحياء الموتى لأشبه أن يكون أمراً بتحصيل الحاصل ، على أن ذلك أيضاً ممنوع فإن الأمر حينئذٍ يعود إلى شيء آخر غير حاصل هو عدم الشك فيما يستأنف من الزمان أي لتكن هذه الآية على ذكر منك كيلا يعترض لك شك فيما بعد ، وذلك كقولك للمتحرك ( تحرك ) أي واظب على الحركة ولا تفتر ، وليت شعري كيف يطعن بعض العلماء في بعض القراآت السبع مع ثبوت التواتر وكونها كلها كلام الحكيم العليم تقدس وتعالى ؟ القصة الثالثة قوله عم طوله ) وإذا قال إبراهيم ( التقدير : واذكر وقت قول إبراهيم .
وقيل : معطوف على قوله ) إلى الذي ( أي ألم تر إلى وقت قول إبراهيم .
وههنا دقيقة وهي أنه لم يسم عزيراً في قصته بل قال ) أو كالذي مرّ على قرية ( وههنا سمى إبراهيم لأن عزيراً لم يحفظ الأدب بل قال ابتداء ) أنى يحيي هذه الله بعد موتها ( وإبراهيم أثنى على الله أولاً بقوله ) رب أرني ( وأيضاً إن عزيراً استبعد الإحياء فأرى ذلك في نفسه ، وإبراهيم التمس ودعا بقول ) أرني ( فأرى ذلك في غيره .
ومعنى أرني بصرني .
وذكروا في سبب سؤال إبراهيم وجوهاً .
الأول قال الحسن والضحاك وقتادة وعطاء وابن جريج : إنه رأة جيفة مطروحة على شط النهر ، فإذا مد البحر أكل منها دواب البحر ، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت ، فإذا أكل السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت ، فقال إبراهيم : رب أرني كيف تجمع أجزاء هذا الحيوان من بطون السباع والطيور ودواب البحر .
فقيل : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى .
ولكن المطلوب بالسؤال أن يصير العلم الاستدلالي ضرورياً .
الثاني : قال محمد بن إسحاق والقاضي : إنه في مناظرته مع نمرود لما قال ربي الذي يحيي ويميت قال الكافر أنا أحيي وأميت فأطلق محبوساً وقتل آخر فقال إبراهيم : ليس هذا بإحياء وإماتة وعند ذلك قال ) رب أرني كيف تحيي الموتى ( لتنكشف هذه المسألة عند نمرود وأتباعه ، ويزول الإنكار عن قلوبهم .
وري أن نمرود قال له : قل لربك يحيي وإلا قتلتك ، فسأل الله ذلك ، وقوله ( ليطمئن قلبي ( أي بنجاتي من القتل ، أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني ، وأن عدولي إلى غيرها كان سبب جهل المستمع .
الثالث : عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي أن الله تعالى أوحى إليه أني أتخذ بشراً خليلاً ، فاستعظم ذلك إبراهيم عليه السلام وقال : إلهي ، ما علامة ذلك ؟ فقال : علامته أنه يحيي الميت بدعائه فلما عظم مقام إبراهيم عليه السلام في درجات العبودية وأداء الرسالة خطر بباله أني لعلي أكون ذلك الخليل فسأل الله إحياء الموتى فقال الله : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي على أني خليل(2/28)
" صفحة رقم 29 "
لك. الرابع : لا يبعد أن يقال : إنه لما جاء الملك إلى إبراهيم وأخبره بأن الله بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجزة ليطمئن قلبه على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم .
الخامس : لعله طالع في المعجزة ليطمئن قلبه على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم ، الخامس : لعله طالع في الصحف المنزلة عليه أن الله تعالى يحيي الموتى بدعاء عيسى ، فطلب ذلك ليطمئن قلبه أنه ليس أقل منزلة عند الله من عيسى وأنه من ولاده السادس : أمر بذبح الولد فسارع إلى ذلك فقال : إهلي ، أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح فامتثلت فشلرفني بأن تجعل بدعائي فاقد الروح ذا روح .
السابع : أراد أن يخصصه الله بهذا التشريف في الدنيا بأن جميع الخلائق يشاهدون الحشر في الآخرة .
الثامن : لعل إبراهيم لم يقصد إحياء الموتى بل قصد سماع الكلام بلا واسطة .
وأما أن إبراهيم عليه السلام كان شاكاً في المعاد فلا ينبغي أن يعتقد فيه ، ومن كفر النبي المعصوم فهو بالكفر أولى وكيف يظن ذلك بإبراهيم عليه السلام وقوله ( بلى ( اعتراف بالإيمان ، وقوله ( ليطمئن قلبي ( كلام عارف طالب لمزيد اليقين .
والشك في قدرة الله يوجب الشك في نبوّة نفسه ، والذي جاء في الحديث من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نحن أحق بالشك منه ) ، فذلك أنه لما نزلت هذه الآية قال بعض من سميعها : شك إبراهيم ولم يشك نبينا .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تواضعاً منه وتقديماً لإبراهيم على نفسه ( نحن أحق بالشك منه ) والمعنى أننا لم نشك ونحن دونه ، فكيف يشك هو ؟ والاستفهام في قوله ) أولم تؤمن ( للتقرير كقوله : ألستم خير من ركب المطايا ؟ وأيضاً المقصود من هذا السؤال أن يجيب بما أجاب به ليعلم السامعون أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان مؤمناً بذلك عارفاً به ولكن سألت ليزيد قلبي سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال .
وقد تعرض الخواطر للمستدل بخلاف المعاين ، هذا إذا قلنا : المطلوب حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء ، أما إذا قلنا : إن الغرض شيء آخر فلا إشكال ) فخذ أربعة من الطير ( عن ابن عباس : هنّ طاوس ونسر وغراب وديك ، وفي قول مجاهد وابن زيد : حمامة بدل النسر ) فصرهن إليك ( بضم الصاد وكسرها من صاره يصوره ويصيره أي أملهن وضمهن إليك وقال الأخفش : يعني وجههنّ إليك ، وفائدة أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها أن يتأملها ويعرف أشكالها وهيئتها وحلاها كيلا تلتبس بعد الإحياء ، ولا يتووهم أنها يغر تلك .
وفي الآية حذف كأنه قبل أملهن وقطعهن ) ثم اجعل على كل جبل منهم جزءاً ( وقيل : معنى صرهن قطعهن فلا اضمار .
روي أنه أمر بذبحها ونتف ريشها وأن يقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط(2/29)
" صفحة رقم 30 "
ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها ، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال التي بحضرته وفي أرضه على كل جبل ربعاً من كل طائر ، ثم يصيح بها تعالين بإذن الله ، فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثاً ، ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها ، وأنكر أبو مسلم هذه القصة وقال : إن إبراهيم عليه اسللام لما طلب إحياء الموتى من الله أراه الهل تعالى مثالاً قرب به الأمر عليه .
والمراد ب ) صرهن إليك ( الإمالة والتمرين على الإجابة أي قعود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك حال الحياة ، والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ، ويؤكده قوله ) ثم ادعهن ( أي الطيور لا الأجزاء ) يأتينك سعياً ( وزيف قول أبي مسلم بأنه خلاف إجماع المفسرين ، وبأن ما ذكره غير مختص بإبراهيم فلا يلزم له مزية ، وأيضاً إن ظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ما سأل ، وعلى قوله لا تكون الإجابة حاصلة .
ولأن قوله ) على كل جبل منهنُّ جزءاً ( دليل ظاهر على تجزئة الطيور وحمل الجزء على أحد الطيور الأربعة بعيد ، ثم ظاهر قوله ) على كل جبل ( جميع جبال الدنيا .
فذهب مجاهد والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان كأنه قيل : فرقها على كل جبل يمكنك التفرقة لعيه .
وقال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع : أربعة جبال على حسب الطيور الأربعة والجهات الأربع .
وقال السدي وابن جريج : المراد كل جبل كان يشاهده إبراهيم وكانت سبعةز أما قوله ) ثم ادعهنّ يأتيك سعياً ( فقيل : عدواً ومشياً على أرجلهنّ لأن ذلك أبلغ في الحجة ، وقيل : طيراناً .
ورد بأنه لا يقال للطير إذا طار سعى .
وأجيب بأن السعي هو الاشتداد في الحركة مشياً كانت أو طيراناً ، واحتج الأصحاب بالآية على أن البنية ليست شرطاً على صحة الحياة لأنه تعاغلى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حياً قادراً على السعي والعدو .
قال القاضي : دلت الآية على أنه لا بد من البينة من حيث إنه أوجب التقطيع بطلان حياتها ، والجواب أن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة ، أما الانفكاك عنه في بعض الأحوال فيدل على المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ، ولما دلت الآية على حصول فهم النداء لتلك الأحزاء حال تفرقها كان دليلاً قاطعاً على أن البنية ليست شرطاً للحياة .
) واعلم أن الله عزيز ( غالب على جميع الممكنات ) حكيم ( عالم بعواقب الأمور وغايات الأشياء .
التأويل : إن الله تعالى لما أعطى نمرود ملكاً ما أعطى أحداً قبله ادّعى الربوبية وما ادّعاها أحد قبله .
وسبب ذلك أن الإنسان لحسن استعداده للطلب وغاية لطافته في الجوهر دائم الحركة في طلب الكمال لا يتوقف لحظة إلا لمانع ، ولكنه جبل ظلوماً جهولاً ، فمتى وكل إلى نفسه مال إلى عالم الحس ، موافقاً لسيره الطبيعي لأنه خلق من تراب وطبعه الميل(2/30)
" صفحة رقم 31 "
إلى السفل فيرى الكمال في جمع المال ثم طلب الجاه فيصرف المال فيه ثم في الحكم والتسلط .
فإذا ملك السلفيات بأسرها وقهر ملوك الأرض أراد أن ينازع ملك الملوك وجبار الجبابرة فيقول : أنا أحيي وأميت ، وليس للعالم رب إلا أنا جهلاً بالكمال وذلك عند فساد جوهره وبطلان استعداده ، كما أنه إذا صلح جوهره بحسن تربية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو من ينوب منابه - وهو الشيخ - قال : ليس في الوجود سوى الله .
وهذا هو حقيقة ) فاعلم أن لا إله إلا الله واستغفر لذنبك ) [ محمد : 19 ] يعني كن فانياً عن وجودك بالكلية ، واستغفر لذنب حسبان وجود غير وجوده فافهم جداً وإن لم تكن مجداً ، فإن المجد من يدق بمطرقة ( لا إله إلا الله ) دماغ نمرود النفس إلى أن يمؤمن بالله ويكفر بطاغوت وجوده كل ما سوى الله .
) قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ( اعتراض على قول الكافر أنا أحيي وأميت ، والمراد أن إرسال النفس الناطق لتدبر البدن اطلاع شمس الحياة من أفق البدن ، فإن كنت صادقاً في دعواك أن هذا يتأتى منك فأمسكها عندك وهو الإتيان بالشمس من مغربها ، وأنه آية القيامة من مات فقد قامت قيامته ) فبهت الذي كفر ( لأنه إن أمكنه أن يدعي الإحياء بمعنى الإبقاء وهو اطلاع الشمس من المشرق ، فلن يمكنه أن يدعي الإماتة بمعنى قبض الروح من غير آلة القتل وهو الإتيان بالشمس من المغرب ، فهذه طريقة لا يرد عليها شيء من الاعتراضات المذكورة في التفير .
ثم أخبر عن إظهار قدرته في إحياء الموتى بعد انقطاع المدعى في حجته عقيب الدعوى بقوله تعالى ) أو كالذي مر على قرية ( وذلك أن قوماً أنكروا حشر الأجساد بعد اعترافهم بحشر الأرواح ، وزعموا أن الأرواح إذا خرجت من سجن الأشباح وتقوت بالعلوم الكلية التي استفادتها من عالم الحس فما حاجتها أن ترجع إلى السجن والقيد ، كما أن الصبي إذا استفاد العلوم في المكتب وكبر قدره وعظم وقعه لم يحتج إلى أن يرجع إلى المكتب وحال صباه ، فهو سبحانه لكمال فضله ورأفته دفع هذه التسويلات النفسية ورفع هذه الشبهات الفلسفية بأن أمات عزيراتً مائة سنة وحماره معه ثم أحياهما جميعاً ليعلم أن الله تعالى مهما أحيا عزير الروح أحيا معه حمار الجسد ، وكما أن عزير الروح يكون عند الملك الجبار يكون حمار الجسد في جنات تجري من تحتها الأنهار ، فلعزير الروح مشرب من كؤوس تجلي صفات الجلال والجمال ) وسقاهم ربهم شراباً طهوراً ) [ الدهر : 21 ] ( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ) ولحمار الجسد مرتع من(2/31)
" صفحة رقم 32 "
الرياض ومشرب من الحياض ) فيها ما تشتهي وتلذ الأعين ) [ الزخرف : 71 ] ( وقد علم كل أناس مشربهم ) [ البقرة : 60 ]
شربنا وأهرقنا على الأرض قسطها
وللأرض من كأس الكرام نصيب
ثم أكد حديث الحشر بقصة عن خليله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك قوله ) رب أرني كيف تحيي الموتى ( فيفوح منه رائحة قول موسى ) رب أرني أنظر إليك ) [ الأعراف : 143 ] إلا أن موسى لم يحفظ الأدب في الطلب فما رأى غير النصب والتعب ، وأدب بتأديب الخاطىء الجاني ، وعرك بتعريك ) لن تراني ( وذلك أنه كان صاحب شرب وكان الخليل صاحب ري ، وصاحب الرب سكران ، وصاحب الري صاح .
شربت الحب كأسا بعد كأس
فما نفذ الشراب وما رويت
فلسكر موسى كان يبسط تارة مع الحق بقوله ) رب أرني أنظر إليك ) [ الأعراف : 143 ] ويعربد أخرى بقوله ) إن هي إلا فتنتك ) [ الأعراف : 155 ] ومن كمال صحو الخليل ما زل قدمه في أدب من اداب العبودية في الحضور والغيبة فلا جرم أكرم اليوم بكرامة الشيبة ( إن أول ما شاب شيبة إبراهيم ) ويحترم غداً بالكسوة ( إن أول من يكسى إبراهيم ) ولما ابتلي في ماله فبذل للضيفان وابتلي بجبرائيل فقال : أما إليك فلا .
لا جرم أكرمه الله بالإمامة ) إني جاعلك للناس إماماً ) [ البقرة : 124 ] ومن إمامته أنه كان أول من دق باب طلب الحق وقال ) هذا ربي ) [ الأنعام : 76 ] وأول من سلك طريق الحق وقال ) إني ذاهب إلى ربي ) [ الصافات : 69 ] وأول من نطق بالمحبة وقال ) لا أحب الآفلين ) [ الأنعام : 76 ] وأول من أظهر الشوق وقال ) لئن لم يهدني ربي لأأكونن من القوم الضالين ) [ الأنعام : 78 ] وأول من أظهر العداوة مع غير المحبوب ) فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين ( ) الشعراء : 77 ] وأول من اشتاق فسأل الرؤية وقال ) رب أرني ( ولا تظن أن اشتياقه إلى الرب إنما كان وقت سؤاله .
ولست حديث العهد شوقاً ولوعة
حديث هواكم في حشاي قديم
ولكنه من حفظ آداب الإجلال كان لا يفتح على نفسه باب السؤال ، ويقول حسبي من سؤالي علمه بحالي إلى أن ساقه التقدير إلى حسن التدبير .
وسأله نمرود من ربك ؟ فأجرى(2/32)
" صفحة رقم 33 "
الحق على لسانه من فضله وإحسانه ) ربي الذي يحيي ويميت ( فقال نمرود : هل رأيت منه ما تقول ؟ فوجد الخليل فرصة للمأمول فأدرج في اسؤال السول فأخفى سره وهو أدنى في علينه وهو ) كيف تحيي الموتى ( وهو يعلم أنه يعلم السر وأخفى .
فأول باب فتح عليه من مقصوده أن أسمعه من كلامه بفضله وجوده .
و ) قال أولم تؤمن ( فكان في هذه الكلمة من إعجاز القرآن ثلاثة معان مضمرة : أو لم تؤمن وقت ما آمنت عند نمرود بأني أحيي وأميت فما كان إيمانك حقيقاً ؟ أو لم تؤمن لميعاد رؤيتي في الجنة فأريك ثمة ؟ أو لم تؤمن بما طلبت من الإحياء ؟ مضمراً في كل منها الإثبات في لفظة النفي .
فاجاب الخليل عن الاستفهامات الثلاثة ببلى سراً بسر أي بلى آمنت .
وكان إيماناً حقيقياً ولكن ما كان مقصودي الإيمان وألإيقان فإنه حال ، ولا إحياء الموتى فإني فارغ نم الموتى وإحيائهم ، ولكني سألت ليطمئن قلبي بما تريد ، أو بلى آمنت بميعاد رؤيتك في الجنة ولكن ليطمئن قلبي برؤيتك ، فإنه كلما ازداد اليقين ازداد الشوق فاضطراب قلبي من غاية يقيني ، أو بلى آمنت بقدرتك على الإحياء ولكن ما سألتك عن الإحياء وإنما سألتك عن كيفية الإحياء ، ففي ضمن ذلك يحصل مقصودي كما أن من له معشوق خياط وهو يريد مشاهدة معشوقه ويحتشم أن يقول : أرني وجهك لأنظر إليك .
لأنه يعلم أن الدلال فرين الجمال ، وأن العزة والحسن توأمان : وفي مذهب الملاح الطلب رد والسبل سد فيقول : أرني كيف تخيط الثياب ؟ فكل صانع فاخر في صنعته يريد أن يرى جودة عمله فيحضر المعشوق عنده بلا حجاب وهو يخيط الثوب فيقول : انظر إليّ كيف أخيطه ؟ فالعاشق ينظر بعلة الصنع إلى الصانع ويحظى منه بلا مانع ودافع ويطمئن قلبه بذلك .
فالخليل لما اعتذر عن الجليل من اضطراب قلبه واضطرار حاله وتضرع بين يدي مولاه ، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه حقق رجاءه وقال ) خذ أربعة من الطير ( الآية .
والمراد أنك محجوب بك عني فبحجاب صفاتك عن صفاتي محجوب ، وبحجاب ذاتك عن ذاتي ممنوع ، فمهما تموت عن صفاتك تحيا بصفاتي ، فإذا فنيت عن ذاتك بقيت ببقاء ذاتي ) فخذ أربعة من الطير ( وهي الصفات الأربع التي تولدت من العناصر الأربعة التي خمرت طينة الإنسان منها فتولدت من ازدواج كل عنصر مع قرينه صفتان : فمن التراب وقرينها وهو الماء تولد الحرص والبخل وهما قرينان يوجدان معاً ، ومن الناء وقرينها وهو الهواء تولد الغضب والشهوة ، ولكل واحد من هذه الصفات زوج خلق منها ليسكن إليها ، فالحرص زوجه الحسد ، والبخل زوجه الحقد ، والغضب زوجه الكبر ، وليس للشهوة اختصاص بزوج معين بل هي كالمعشوقة بين الصفات فتعلق بها كل صفة ، فهن الأبواب السبعة للدركات السبع من جهنم ) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ) [ الحجر : 44 ] يعني من الخلق .
فمن كان الغالب عليه صفة منها دخل النار من(2/33)
" صفحة رقم 34 "
ذلك الباب ، فأمر الله تعالى خليله بذبح هذه الصفات وهي الطيور الأربعة ، طاوس البخل فلو لم يزين المال في نظر البخيل ما بخل به ، وغرب الحرص وبكوره من حرصه ، وديك الشهوة ، ونسر الغضب لترفعه في الطيران وهذه صفة المغضب .
فلما ذبح الخليل بسكين الصدق هذه الطيور وانقطعت منه متولداتهاه ما بقي له باب يدخل به النار فصارت النار عليه لما ألقي فيها برداً وسلاماً .
والمبالغة في تقطيعها ونتف ريشها وخلط أجزائها إشارة إلى محو آثار الصفات المذكورة وهدم قواعدها علي يدي إبراهيم الروح بأمر الشرع ) ثم اجعل على كل جبل ( هي الجبال الأربعة التي جبل الإنسان عليها : النفس النامية وهي النباتية ، والأرواح الثلاثة الحيواني والطبيعي والإنسان الملكي .
فهذه الجبال كالأشجار والزروع ، وأجزاء الطيور كالتراب المخلوط بالزبل يجعل على الزروع فيتقوى كل واحد من هؤلاء بقو ة واحد من أولئك ، ويتربى بتربيتها ويتصرف فيها الروح الإنساني فيحييها بنور هو من خصائص أرواح الإنسان ، فتكون تلك الصفات ميتة عن أوصافها حية باخلاق الروحانيات .
هذا لخواص الخلق الذي الغالب على أحوالهم الروح ، وأما خواص الخواص ومن أدركته العناية كالخليل ، فالله تعال بعد خمود هذه الصفات يتجلى له بصفته المحيي فيحيي هذه الصفات الفانية عن أوصافها بنور صفته المحيية فيكون العبد في تلك الحالة حياً بحياته محيياً بصفاته كما قال ( لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنا له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يبطش ) كما أن أمياً يقول لكاتب : أرني كيف تكتب .
فيجعل الكاتب قلمه في يد الأمي ويأخذ يده بيده ويكتب فتطهر الكتابة من يدي الأمي على الصحيفة ، ففي تلك الحالة يظن الأمي أنه صار كاتباً فيقول أنا الكاتب كقوله :
عجبت منك ومني
أفنيتني بك عني
أدنيتني منك حتى
ظننت أنك أني
فإذا رفع الكاتب يده عن يد الأمي فيعلم الأمي أنه أمي والكاتب هو الكاتب فيستغفر عن ذنب حسبانه أنه هو الكاتب وإليه الإشارة بقوله ) واستغفر لذنبك ) [ محمد : 19 ] أي ذنب حسبان أنك كاتب وأنت نبي أمي عربي ما وصلت إلى ما وصلت إلا بفضلنا ) وكان فضل الله عليك عظيماً ) [ النساء : 113 ] ثم إن الله تعالى إن تجلى لخليله بصفة واحدة وهي صفة المحيي ليريه آية وهي كيفية الإحياء ، فقد تجلى لحبيبه بجميع صفاته ليلة(2/34)
" صفحة رقم 35 "
المعراج كما قال ) لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) [ النجم : 18 ] والخليل طلب الرؤية لنفسه ) رب أرني ( والحبيب طلبها له ولأمته ( أرنا الأشياء كما هي ) وذلك لعلو مرتبته وهمته ورفعته وكمال معرفته ، فلعلو همته قال : أرنا .
ولرفعة مرتبته قال : الأشياء كما هي ، فإن فيه مع رعاية الأدب إخفاء المقصود .
فكان قول الخليل بالنسبة إلى هذا تصريحاً وإن كان بالنسبة إلى قول الكليم تعريضاً .
وفيه أيضاً طلب كمال الرؤية بجميع الصفات فإن جميعها داخلة في الأشياء ، ولكمال معرفته طلب رؤية الماهية فقال ( كما هي ) وهذا هو الملك الحقيقي الذي لا يكتنه كنهه .
ثم قيل للخليل ) واعلم أن الله عزيز ( أعز من أن يعرف كنه صفاته ) حكيم ( لا يطلع على أسراره إلا من يليق بذلك من مخلوقاته .
( البقرة : ( 261 - 266 ) مثل الذين ينفقون . . . .
" مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون "
( القراآت )
أنبتت سبع ( وبابه بالإإدغام : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وسهل .
) يضعف ( وبابه : ابن كثير وابن عامر ويزيد ويعقوب .
الباقون ) يضاعف ( ) رياء الناس ( غير مهموز حيث كان يزيد واشلموني والخزاعي عن ابن فليح وحمزة في الوقف .
الباقون بالهمزة ) الكافرين ( بالإمالة : أبو عمرو وعلي غير ليث وأبي حمدون وحمدوية ورويس عن يعقوب ، وكذلك ما كان محله النبصب من الإعراب كل القرآن ) بربوة ( بفتح الراء حيث كان ابن عامر وعاصم .
الباقون بضمها ) أكلها ( وبابه ساكنة الكاف : ابن كثير ونافع وافق أبو عمرو فيما اتصلت بالهاء والألف ) بما يعملون بصير ( بالياء التحتانية : أبو(2/35)
" صفحة رقم 36 "
عون عن قنبل .
الباقون بالتاء للخطاب .
الوقوف : ( مائة حبة ( ط ، ) لمن يشاء ( ط ، ) عليم ( ه ، ) عند ربهم ( ج لعطف المختلفتين ، ) يحزنون ( ه ، ) أذى ( ط ، ) حليم ( ه ، ) والأذى ( ( لا ) لتعلق كاف التشبيه أي إبطالاً مثل إبطال الذي ، ) الآخر ( ط ، ) صلدا ( ط ، ) كسبوا ( ط ، ) الكافرين ( ه ، ) ضعفين ( ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب واتحاد الكلام ، ) فطل ( ط ، ) بصير ( ه ، ) الأنهار ( ( لا ) لأن ما بعده صفة لجنة أيضاً ، ) الثمرات ( ( لا ) لأن الواو وللحال ، ) ضعفاء ( ص والوصل أولى والوقف على ) فاحترقت ( ط لتناهي مقصود الاستفهام والمعنى : أيحب أحدكم احتراق جنة صفتها كذا في حال كذا ؟ ) تتفكرون ( ه .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر من أصول المبدأ والمعاد ما اقتضاه المقام أتبعه ببيان التكاليف وألأحكام .
قال القاضي في كيفية النظم : إنه تعالى لما أجمل في قوله ) من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة ) [ البقرة : 245 ] ، فصّل بعد ذلك بهذه الآية تلك الأضعاف ، وإنما ذكر بين لآيتين الأدلة على قدرته على الإحياء والإماتة لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب بعد الحشر لكان التكليف بالإنفاق وسائر الطاعات عبثاً كأنه قال : قد عرفت أني خلقتك وأكملت نعمي عليك بالإحياء والأقدار ، وقد علمت قدرتي على المجازاة ، فليكن علمك بهذه الأصول داعياً إلى أنفاق الأموال فإنه يجازي القليل بالكثير ، ثم ضرب لذلك الكثير مثلاً وهو من الواحد إل سبعمائة ، وعن الأصم أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد ما احتج على الكل بما يوجب تصديق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته ، وقيل : إنه تعالى لما بين أنه وليّ المؤمنين ، وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت ، بيّن مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت .
قلت : لما بين صحة المعاد ولا بد له من زاد ولا يمكن التزود من الأموال التي يمتلكها العباد بالإنفاق ، أتبعه أحكامه فقال ) مثل الذين ( ولا بد من إضمار ليصح التشبيه أي مثل صدقاتهم كمثل حبة أو مثلهم باذر حبة .
وسبيل الله دينه .
فقيل الجهاد ، وقيل جميع أبواب الخير .
والمنبت هو الله ، ولكن الحبة لما كنت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء .
ومعنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقاً يتشعب منها سبع شعب لكل واحد سنبلة .
وهذا التمثيل تصوير للأضعاف سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أو لم توجد ، على أنه قد يوجد في الجاورس والذرة وغيرهما مثل ذلك .
وسبع سنابل مثل ثلاثة قروء في إقامة جمع الكثرة مقام القلة .
) والله يضاعف ( أي تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت أحوال المنفقين في الإخلاص ، أو يضاعف سبع الماءة ويزيد عليها أضعافها(2/36)
" صفحة رقم 37 "
لمن يستحق ذلك في مشيئته ) والله واسع ( كامل القدرة على المجازاة لأن فيضه غير متناه ) عليم ( بمقادير الإنفاقات وبمواقعها ومصارفها بإخلاص صاحبها ، وإذا كان الأمر كذلك فلن يضيع عمل عامل له عنده .
ثم لما عظم أمر الإنفاق أردف ببيان الأمور التي يجب رعايتها حتى يبقى ذلك الثواب منها : ترك المن والأذى ، والمنّ قد يراد به الإنعام قال تعالى ) ولا تمنن استكثر ) [ المدثر : 6 ] وقد يراد به إظهار الاصطناع وهو مذموم ولهذا قيل : صنوان من منح سائله ومنّ ومنع نائله وضنّ .
وذلك لما فيه من انكسار قلب الفقير ، ومن تنفير ذوي الحاجة عن صدقته ، ومن عدم الاعتراف بأن النعمة نعمة الله والعباد عباده ، وأن المعطي هو الله .
وإذا كان العبد في هذه الدرجة كان محروماً عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقية ، وكان في درجة البهائم التي لا يترقى نظرهن من المسحوس إلى المعقول ، ومن الآثار إلى المؤثرات .
وأما الأذى فمهم من حمله على أذى المؤمنين على الإطلاق ، والمحققون خصصوه بما تقدم ذكره وهو أن يتطاول على الفقير بما أدل إليه ويقول له : ألست إلا مبرماً وما أنت إلا ثقيل ، وباعد الله ما بيني وبينك .
ومعنى ( ثم ) تراخي الرتبة وإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأدى ، وإن تركهما خير من نفس الإنفاق بل ترك كل منهما لأنهما نكرتان في سياق النفي ) لهم أجرهم ( وقال فيما يجيء ) فلهم أجرهم ) [ البقرة : 274 ] لأن الموصول ههنا لم يضمن معنى الشرط وضمنه ثمة ، وفرق معنوي وهو أن الفاء دلالة على أن الإنفاق سبب استحقاق الأجر وطرحها عارٍ عن تلك الدلالة .
ثم إنه ذكر هنالك الإنفاق منهم على سبيل المواظبة والاستمرار فكان التأكيد بما يوجب الربط بينهما ما هنالك أنسب .
) ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( أي لا يخافون فوات ثواب الإنفاق .
ولا يحزنون بالفوات كقوله ) ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا وهضماً ) [ طه : 112 ] والمراد أنهم يوم القيامة لا يخافون العذاب ولا يحزنهم الفزع الأكبر .
ويعلم من قوله ) في سبيل الله ( أن قوله ) لهم أجرهم ( مشروط بأن حيث يخرجان هذه الطاعة العظيمة عن الاعتداد بها .
احتجت المعتزلة بالآية من وجهين : الأول أن العمل يوجب الأجر لقوله ) لهم أجرهم ( وأجيب بأن ذلك بسبب الوعد لا بسبب نفس العمل .
الثاني أن الكبائر تحبط ثواب فاعلها وإلا لم يكن المن والأذى مبطلين ثواب الإنفاق ، وأجيب بأن الإنفاق على تقدير المن والأذى لا ثواب له أصلاً ، فكيف يتصور رفع ما لم يوجد ؟ ) قول معروف ( تقلبه القلوب ولا تنكره وذلك أن يرد السائل بطريق أحسن وعدة حسنة ) ومغفرة ( عفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول لأنه إذا رد بغير مقصوده فربما حمله ذلك على بذاءة اللسان أو نيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل أو عفو من(2/37)
" صفحة رقم 38 "
جهة السائل بأن يعذر المسؤول إذا رده رداً جميلاً ) خير من صدقة يتبعه أذى ( لأنه إذا أتبع الإيذاء والإعطاء فقد جمع بين الإنفاع والإضرار ، وربما لم يف ثواب النفع بعقاب الضر وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إيصال السرور إلى قلب المؤمن ولا إضرار ، فكان الأولى ) من الناس ( الناس من خصص الآية بالتطوع لأن الواجب لا يحل منعه ولا رد السائل فيه .
ورد بأن الواجب قد يعدل به عن سائل إلى سائل وعن فقير إلى فقير ) والله غني ( عن صدقة كل منفق ، فما وده المن ؟ ) حليم ( عن معاجلته بالعقوبة إذا مَنّ ، ولا يخفى ما فيه من الوعيد .
ثم إنه تعالى ضرب لكل واحد من المؤذي وغير المؤذي مثلاً فقال تعالى ) يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ( وعن ابن عباس : بالمن على الله والأذى للقير ، ) كالذي ( أي كإبطال المنافق الذي ) ينفق ماله رئاء الناس ( وهو أن يرائي بعمله غيره ولا يريد رضا الله وثواب الآخرة ، ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين للذي ينفق ، فمثله الضمير إما أن يكون عائداً إلى المنافق على أنه تعالى شبه المانّ بالمرائي المنافق ، ثم شبه المنافق بالحجر. وإما أن يعود إلى المانَّ المؤذى على أنه شبهه بالمنافق ثم شبهه بالحجر .
والصفوان الحجر الأملس ، الوابل المطر العظيم القطر ، والصلد الأجرد النقي ومنه صلد جبين الأصلع إذا برق وهذا المثل ضربه الله لعمل المانِّ المؤذي ولعمل المنافق ، فإن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالاً كما يرى التراب على هذا الصفوان ، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل لأنه تبين أن تلك الأعمال ما كانت لله تعالى ولم يؤت بها على وجه يستحق الثواب كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب .
وأما المعتزلة فقالوا : إن تلك الصدقة أوجبت الأجر والثواب ، ثم إن المنَّ والأذى أزالا ذلك الأجر بناء على مذهبهم من الإحباط والتكفير .
فعلى مذهبنا : العمل الظاهر كالتراب ، والمان المؤذي أو المنافق كالصفوان ويوم القيامة كالوابل ، وعلى قولهم : المن والأذى كالوابل ، وعن القفال : ان عمل المانِّ مشبه بما إذا طرح بذراً في صفوان صلد عليه غبار قليل ، فإذا أصابه مطر جود بقي مستودع بذره خالياً لا شيء فيه ألا ترى أنه ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة ؟ وعلى هذا فقوله ) لا يقدرون على شيء ( الضمير فيه عائد إلى معلوم غير مذكور ، أي لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي فرض على الصفوان لأنه خرج عن الانتفاع به ، فكذا المانُّ والمؤذي والمنافق لا ينتفع واحد منهم بعمله يوم القيامة ، وناهيك بكون المانِّ والمنافق ملزورزين في قرن شناعة شأن المن والأذى ، وقيل : الضمير عائد إلى الذي إما لأن ( من ) و ( الذي ) متعاقبان فكأنه قيل : كمّن ينفق ، وإما لأن المراد المراد الفريق الذي ، وإما لأنه أشير(2/38)
" صفحة رقم 39 "
بالذي إلى الجنس والجنس في حكم العام .
وقيل : المعنى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فإنكم إن فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم ، فالتفت من الخطاب إلى الغيبة كقوله ) حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) [ يونس : 22 ] ( والله لا يهدي القوم الكافرين ( معناه - على قولنا - سلب الإيمان عنهم ، وعلى قول المعتزلة أنه يضلهم عن الثواب وطريق الجنة لسوء اختيارهم ) ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ( طلباً لمرضاته ) وتثبيتاً من أنفسهم ( قيل : أي يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها من المن والأذى .
وقيل : تثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه ، ويعضده قراءة مجاهد ) وتبييناً ( من البيان .
وقيل : إن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية إلا غذا صارت مقهورة بالرياضة ومعشوقها أمران الحياة العاجلة والمال ، فإذا بذل ماله وروحه معاً فقد ثبت نفسه كلها ) وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ) [ الصف : 11 ] وإذا بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، فعلى هذا ( من ) للتبعيض ذكره في الكشاف ، قال الزجاج : تصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم جازمين بأن الله تعالى لا يضيع ثوابهم ف ( من ) على هذا للابتداء ، وجزمهم بالثواب هو المراد بالتثبيت .
وعن الحسن ومجاهد وعطاء : المراد أنهم يثبتون أنفسهم تثبيتاً في طلب فإن كان لله أمضى وإن خالطه شك أمسك .
وقيل : إنه إذا أنفق لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وحظ من حظوظها فهناك اطمأن قلبه واستقرت نفسه ولم يحصل لنفسه منازعة مع قلبه فذلك الاستقرار هو التثبيت .
ويحتمل أن يكو نالمراد به حصول ملكة الإنفاق بحيث يحصل عنه بطريق الاطراد والاعتياد لا بطريق البخت والاتفاق ، فإن الأخلاق ما لم تصر ملكات لصاحبها لم تكد يظهر على جوهر النفس صفاؤها ونوريتها ، والمعنى أن مثل نفقة هؤلاء في زكائها عند الله كمثل جنة وهي البستان .
وقرىء ) كمثل حبة بربوة ( بمكان مرتفع من ربا لاشيء يربو إذا زاد وارتفع ، ومنه الربو لزيادة التنفس ، والربا في المال .
قيل : وإنما خص المكان المرتفع لأن اشرج فيها أزكى وأحسن ثمراً .
واعترض عليه بأن المكان المرتفع لا يحسن ريعه لبعده عن الماء وربما تضربه الرياح كما أن الوهاد لكونها مصب المياه قلما يحسن ريعها ، فإذن البستان لا يصلح له إلا الأرض المستوية ، فالمراد بالربوة أرض طيبة حرة تنتفخ وتربو إذا نزل عليها المطر ، فإنها إذا كانت على هذه الصفة كثر دخلها وكمل شجرها كقوله تعالى ) وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ( ) الحج : 5 ] ومما يؤكد ما ذكرنا أن هذا المثل ، في مقابلة المثل الأول ، فكما أن الصفوان لا(2/39)
" صفحة رقم 40 "
يربو ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه فينبغي أن تكون هذه الأرض بحيث تربو وتنمو ) فآتت آكلها ( أي ثمرتها وما يؤكل منها ) ضعفين ( مثلي ما كان يعهد منها .
قيل : مثلي ما يكون في غيرها ) فإن لم يصبها وابل فطل ( مطر صغير القطر يصيبها ولا ينتقص شيء من ثمرها لكرم منبتها ، أو المراد أنها على جميع الأحوال لا تخلو من أن تثمر قل أم كثر ، وكذلك من أخرج صدقة لوجه الهل لا يضيع كسبه وفّر أم نزر .
ويحتمل أن يمثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ، ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل ، وكما أن الكل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم تزيد في زلفاهم وحسن حالهم ) والله تعملون ( من وجوه الإنفاق وكيفيتها والأمور الباعثة عليها ) بصير ( فيجازي بحسب النيات وخلوص الطويات .
ثم إنه سبحان رغب في الإنفاق المعتبر الجامع لشرائطه وحذر عن ضده بأن ضرب مثالاً آخر فقال ) أيود أحدكم ( والهمزة للإنكار البالغ أي لن يود .
قرىء ) له جنات ( وقد وصف الله تعالى الجنة بثلاثة أوصاف الأول : كونها من نخيل وأعناب كأن الجنة إنما تكوّنت منهما لكثرتهما فيها .
الثاني : تجري من تحتها الأنهار ، ولا شك أن ذلك يزيد في رونقها وبهائها ، والثالث : فيها من كل الثمرات ، وإنما خص النخيل الأعناب أولاً بالذكر لأنهما أكرم الشجر أو أكثرها منافع .
قال في الشكاف : ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيهما كقوله ) وكان له ثمر ) [ الكهف : 34 ] بعد قوله ) جنتين من أعناب وخففناهما بنخل ) [ الكهف : 32 ] ثم شرع في بيان شدة حاجة المالك إلى هذه الجنة فقال ) وأصابه الكبر ( أي والحال أنه قد أصابه الكبر .
وقال الفراء : إنه معطوف على ) يود ( واستفهام نظر المعنى لأنه يقال : وددت أن يكون كذا ، ووددت لو كان كذا ، فكأنه قيل : أيود أحدكم لو كانت له جنة واصابه الكبر وله ذرية ضعفاء .
وقرىء ) ضعاف ( أي صبيان وأطفال ) فأصابها إعصار ( ريح تستدير في الأرض ثم تسطع نحو السماء كالعمود ) فيه نار فاحترقت ( أي الجنة ولا يخفى أن هذه المثل في المقصود أبلغ الأمثال ، فإن الإنسان إذا كان له جنة في غاية الكامل ، وكان هو في نهاية الاحتياج إلى المال - وذلك أوان الكبر مع وجود الأولاد الأطفال - فإذا أصبح شاهد تلك الجنة محترقة بالصاعقة ، فكم يكون في قلبه من الحسرة وفي عينه من الحيرة ؟ فكذا الإنفاق نظير الجنة المذكورة وزمان الاحتياج يوم القيامة ، فإذا أتبع الإنفاق النفاق أو المن والأذى كان ذلك كالإعصار الذي يحرق تلك الجنة ويورثه الخيبة والندامة .
التأويل : ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ( فلهم الجنة ، والذين ينفقون أرواحهم وقلوبهم في سبيل الله فلهم الله ، ومن أعطى تمرة إلى فقير يأخذها الله بيمينه ويربيها كما(2/40)
" صفحة رقم 41 "
يربي أحدكم فلوة أو فصيلة حتى تكون أعظم من الجبل .
فمن أعطى قلبه إلى الله فهو يربيه بين أصبعي جلاله حتى يصير أعظم من العرش بما فيه ، وإن قوماً بذلوا المال لله ، وقوماً بذلوا الحال بإيثار صفاء الأوقات وفتوحات الخلوات على طلاب الحق وأرباب الصدق للقيام بأمورهم في تشفي ما في صدورهم ) ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ الحشر : 9 ] فبذلوا ليحصلوا ، وحصلوا لينفصلوا ، وانفصلوا ليتصلوا ، واتصلوا ليصلوا الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله في طلبه لا في طلب غيره من الثناء والجزاء ) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً ) [ الدهر : 9 ] ( ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ( على الله بأن يقول : عملت هذا العمل لأجلك ووجب لي عليك الأجر ) ولا أذى ( بأن يطلب من الله غير الله .
رأى أحمد بن خضرويه ربه في المنام فقال له : كل النسا يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبين ) لهم أجرهم عند ربهم ( ينزلهم في مرتبة العندية ) عند ميلك مقتدر ) [ القمر : 55 ] لا عند الجنة ولا عند النار .
) قول معروف ( يصدر عن العارف بالله في طلب المعروف ) ومغفرة ( له وأن لم يكن عنده ما يتصدق ) خير ( وله عند ربه ) من صدقة يتبعها ( من الجهل ) أذى ( طلب غير الحق من الحق ) والله غني ( عن غيره ) حليم ( لا يعجل بالعقوبة على من يختار في الطلب غيره ، ولولا حلمه فما للتراب ورب الأرباب ) يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ( فالمعاملات إذا كانت مشوبة بالإغراض ففيه نوع من الإعراض ، ومن أعرض عن الحق فقد أقبل على الباطل ومن أقبل على الباطل فقد أبطل حقوقه في الأعمال ) فماذا بعد الحق إلا الضلال ) [ يونس : 32 ] ولو كان قصدك إلى الحق ، ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لولا الفقراء لهلك الأغنياء ) أي لم يجدوا سبيلاً إلى الحق .
وفسر بعضهم اليد العليا بيد الفقير ، واليد السفلى بيد الغني .
لأن الفقير يأخذ منه الدنيا ويعطيه الآخرة ) كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ( لأنه لو كان مؤمناً بالله لكان ينفق لله ، ولم كان يؤمن بالآخرة لأنفق للآخرة لا للناس فمثل المرائي ) كمثل صفوان عليه تراب ( هو عمله ) فأصابه وابل ( وهو وابل الرد. ( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ) ) فتركه صلداً ( ْ مفلساً خائباً .
) لا يقدرون علت شيء مما كسبوا ( ليتوسلوا به إلى الله .
) والله لا يهدي القوم الكافرين ( بنعة طلب شهود جماله فحرموا عن دولة وصالة .
) وتثبيتاً من أنفسهم ( وتخليصاً لنياتهم في طلب الحق ومرضاته من خطوط أنفسهم ) كمثل الجنة ((2/41)
" صفحة رقم 42 "
هي قلب المخلص ) بربوة ( في رتبة علالية عند الحق ) أصابها وابل ( الواردت الربانية ) فإن لم يصبها وابل فطل ( الإلهامات ) فآتت أكلها ضعفين ( ضعف من نعيم الجنة وضعف من دولة الوصال وشهود ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فإن الله تعالى كما يعطي أهل الآخرة نصيباً من الدنيا بالتبعية ، ولا يعطي أهل الدنيا نصيباً من الآخرة ، فكذلك يعطي أهل الله نصيباً من الآخرة بالتبعية ، ولا يعطي أهل الآخرة ما لأهل الله من القربة ) والله بما تعملون بصير ( كيف تعملون ولماذا تعملون لابتغاء المرضاة أو الاستيفاء اللذات واستبقاء الحيا. ثم ضرب مثلاً لروح الإنسان وقلبه بجنةٍ له فيها من كل الثمرات إذا خلق في أحسن تقويم ، مستعداً لجميع الكرامات ، مشرفاً بعلم السمات ، منوراً بأنوار العقل والحواس السليمات ، متوحداً بحمل الأمانة ، متفرداً برتبة الخلافة .
جنة هي منظور نظر العناية تجري من تحتها أنها ر الهداية ، وأصاب صاحبها ضعف الإنسانية ، ) وله ذرية ضعفاء ( من متولدات القوى البشرية في غاية الافتقار إلى التربية بأغذية ثمراتها ) فأصابها إعصار ( من أعمال البر ) فيه نار ( من الرياء والنفاق ) فاحترقت ( جنة الروحانية بنار صفات البشرية وتبدلت الأخلاق الروحية بالنفسية ، والملكية بالشيطانية ) كذلك يبين الله لكم الآيات لعلك تتفكرون ( في إحسانه معكم بإيتاء الاستعداد الفطري ، فلا تبطلوه بقبيح فعالكم ، ولا تضيعوا أعماركم في طلب آمالكم ، وتستعدوا للموت قبل حلول آجالكم والله المستعان وهو حسبي .
( البقرة : ( 267 - 274 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما(2/42)
" صفحة رقم 43 "
تنفقوا من خير فإن الله به عليم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون "
( القراآت )
ولا تيمموا ( بتشديد التاء ومد الألف : البزي وابن فليح الباقون على الأصل ) ومن يؤت الحكمة ( بكسر التاء : يعقوب أي من يؤتيه الله .
الباقون بالفتح ) فنعما هي ( ساكنة العين : أبو عمرو والمفضل ويحيى وأبو جعفر ونافع غير ورش ) فنعما هي ( بفتح النون وكسر العين : ابن عامر وعلي وحمزة وخلف والخراز ، الباقون ) فنعما هي ( بكسر النون والعين والميم مشددة في القراآت ، ) ونكفر ( بالنون والراء ساكنة : أبو جعفر ونافع وحمزة وخلف وعلي ) ويكفر ( بالياء والراء مرفوعة : ابن عامر وحفص والمفضل. الباقون ) ونكفر ( بالنون ورفع الراء ) يحسبهم ( وبابه بفتح السين : ابن عامر ويزيد وحمزة وعاصم غير الأعشى وهبيرة .
) بسيماهم ( بالإمالة : حمزة وعلي وابن شاذان عن خلاد مخيراً .
وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة ، وكذلك كل كلمة على ميزان ( فعلى ) الوقوف : ( من الأرض ( ( ز ) لعطف المتفقتين ) تغمضوا فيه ( ( ط ) ، ) حميد ( ه ، ) الفحشاء ( ج ، وإن اتفقت الجملتان ولكن للفصل بين تخويف الشيطان الكذاب ووعد الله الحق الصادق ، ) فضلاً ( ط ، ) عليم ( ه ، وقد يوصل على جعل ما بعده صفة ، ) من يشاء ( ج لابتداء الشرط مع العطف. ومن قرأ ) ومن يؤت الحكمة ( بالكسر فالوصل أجوز ) كثيراً ( ط ، ) الألباب ( ه ، ) يعلمه ( ط ، ) أنصار ( ه ، ) فنعما هي ( ج ، ) خير لكم ( ط ، لمن قرأ ) ونكفر ( مرفوعاً بالنون أوالياء على الاستئناف .
ومن جزم بالعطف على موضع فهو خير لكمم لم يقف ) سيئاتكم ( ط ) خبير ( ه ، ) فنعما هي ( ج ، ) خير لكم ( ) فلأنفسكم ( ط لابتداء النفي ، ) وجه الله ( ط ، ) لا يظلمون ( ه ، ) في الأرض ( ز لأن ) يحسبهم ( وإن صلحت حالاً بعد حال نظماً ، ولكن لا يليق بحال من أحصر ) التعفف ( ز لأن ) تعرفهم ( تصلح استئنافاً والحال أوجه أي يحسبهم الجاهل أغنياء وأنت تعرفهم بحقيقة ما في بطونهم نم الضر وهم لا يسألون الناس على الحاف .
وقد يجعل ) لا يسألون ( استئنافاً فيجوز الوقف على ) سيماهم ( ) إلحافا ( ط ، ) عليم ( ه ، ) عند ربهم ( ج ) يحزنون ( ه .
التفسير : لما رغب في الإنفاق وذكر أن منه ما يتبعه المن والأذى ، ومنه ما لا يتبعه ذلك ، وشرح ما يتعلق بكل من القسمين وضرب لكل واحد مثلاً ، ذكر بعد ذلك أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف يجب أن يكون فقال ) أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما(2/43)
" صفحة رقم 44 "
أخرجنا } أي من طيبات ما أخرجنا ، فحذف لدلالة الأول عليه .
عن الحسن : أن المراد من هذا الإنفاق الفرض بناء على أن ظاهر الأمر للوجوب ، وألإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة وسائر النفقات الواجبة ، وقيل : التطوع لما روي عن علي والحسن ومجاهد أن بعض الناس كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم وزذالة أموالهم فأنزل الله هذه الآية .
عن ابن عباس : جاء رجل ذات يوم بعذق حشف فوضعه في الصدقة لأهل الصفة على حبل بين أسطوانيتن في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( بئسما صنع صاحب هذا فنزلت ) .
وقيل : يشمل الفرض والنفل ، لأن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على الترك فقط ، ويتفرغ على قول الوجوب وجوب الزكاة في كل مال يكسبه الإنسان ، فيشمل زكاة التجارة وزكاة الذهب والفضة وزكاة النعم وزكاة كل ما ينبت من الأرض ، إلا أن العلماء خصصوها بالأقوات لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الصدقة في أربعة : في التمر والزبيب ولاحنطة والشعير وليس فيما سواها صدقة ) فهذا الخبر ينفي الزكاة في غير الأربعة ، لكن ثبت أخذ الزكاة من الذرة وغيرها بأمر ( صلى الله عليه وسلم ) فعلم وجوب الزكاة في الأقوات دون غيرها .
ولا يكفي في وجوب الزكاة كون الشيء مقتاتاً على الاطلاق ، بل المعتبر حالة الاختيار لا وقت الضرورة ومثله الشافعي بالقت وحب الحنظل وسائر البذور البرية ، وشبهها ببقرىة الوحش لا زكاة فيها لأن الناس لا يتعهدونها .
وأيضاً لا تجب الزكاة في القوت ما لم يبلغ خمسة أوسق وبه قال مالك وأحمد لرواية أبي سعيد الخدري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ليس فيما دون خمسَة أوسق صدقة ) وقال أبو حنيفة : يجب العشر في القليل والكثير استدلالاً بعموم الآية .
وتفصيل الكلام في الأموال الزكوية وكيفية إخراجها ونصاب كل منها مشهور مذكور في الفروع ، فلذلك ولطولها لم نشرع فيها .
وما المراد بالطيب في الآية ؟ قيل : الجيد فيكون المراد بالخبيث الرديء لما مر في سبب لنزول أنهم كانوا يتصدقون برذالة أموالهم فنهوا عن ذلك ، ولأن المحرم لا يجوز أخذه بالإغماض وبغيره ، والآية دلت على جواز أخذ الخبيث بالإغماض ، وعن ابن مسعود ومجاهد : أن الطيب هو الحلال والخبيث هو الحرام ، والمراد من الإغماض هو المسامحة وترك الاستقصاء .
والمعنى ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال من حلاله أو من حرامه ، ويحتمل أن يراد ما(2/44)
" صفحة رقم 45 "
يكون طيباً من جيمع الوجوه فيكون طيباً بمعنى الحلال وبمعنى الجودة أيضاً ، لأن الاستطابة قد تكون شرعاً وقد تكون عقلاً ، واعلم أن المال الزكوي إن كان كله شريفاً وجب أن يكون المأخوذ منه كذلك ، وإن كان الكل خسيساً فلا يكلف صاحبه فوق طاقته ولا يكون خلافاً للآية لأن المأخوذ في هذه الحال لا يكون خبيثاً من ذلك المال وإنما الكلام فيما لو كان في جيده لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن ( اعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم ) بل الواجب حينئذٍ هو الوسط ، ثم إن قلنا : المراد من الإنفاق في الآية التطوع أو هو والفرض جميعاً ، فالمعنى أن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه قضاء لحقوقه التعظيم والإخلاص ، ومعنى ) لا يتمموا الخبيث ( لا تقصدوه .
يقال : تيممه وتأممته كله بمعنى قصدته ، ومحل ) تنفقون ( نصب على الحال ، وقدم ) منه ( عليه ليعلم أن المنهي عنه هو تخصيص الخبيث بالإنفاق منه أي إذا كان في المال طيب وخبيث .
ويحتمل أن يتم الكلام عند قوله : ( ولا تيمموا الخبيث ( ثم ابتدأ مستفهماً بطريق الإنكار فقال : ( منه تنفقون ( وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم إلا بالإغماض وهو غض البصر وإطباق جفن على جفن وأصله من الغموض وهو الخفاء .
يقال للبائع : أًغْمِضْ أي لا تستقص كأنك لا تبصر .
وأصله أن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه كيلا يرى ذلك ، فكثر حتى جعل كل مساهلة إغماضاً أي لو أهدي لكم مثل هذه الأشياء أخذتموها إلا على استحياء وإغماض ، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم ؟ ويحتمل أن يراد إلا إذا أغمضتم بصر البائع أي كلفتموه الحط من الثمن .
عن الحسن : لو وجدتموه في اسوق يباع ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه .
) واعلموا أن الله غني ( عن صدقاتكم ) حميد ( محمود على ما أنعم من البيان والتكليف بما تحوزون به النعيم الأبدي ، أو حامد شاكر على إنفاقكم كقوله : ( فأولئك كان سعيهم مشكوراً ) [ الإسراء : 19 ] ثم إن الله تعالى لما رغب في أجود ما يملكه الإنسان أن ينفق ، حذر عن وسوسة الشيطان فقال : ( الشيطان يعدكم الفقر ( أما الشيطان فيشمل إبليس وجنوده وشياطين الإنس والنفس الأمارة بالسوء .
والوعد يستعمل في الخير والشر ، قال تعالى : ( النار وعدها الله الذين كفروا ) [ الحج : 72 ] ويمكن أن يكون استعماله في الشر محمولاً(2/45)
" صفحة رقم 46 "
على التهكم مثل ) فبشرهم بعذاب أليم ) [ آل عمران : 21 ] وأصل الفقر في اللغة كسر الفقار وقرىء الفقر بضمتين ، والفقر بفتحيتين .
) ويأمركم بالفحشاء ( يغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور .
والفاحش عند العرب البخيل .
والتحقيق أن لكل خلق طرفين ووسطاً ، فالطرف الكامل لللإنفاق هو أن يبذلك كل ماله في سبيل الله ، والطرف الأفحش أن لا ينفق شيئاً لا الجيد ولا الرديء ، والوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء فالشيطان إذا أراد نقله من الأفضل إلى الأفحش ، فمن خفي حليلته أن يجره إلى الوسط وهو وعده بالفقر ، ثم إلى الطرف وهو أمره بالفحشاء ، وذلك أن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فلا يمكنه أن يجره ابتداء إليها إلا بتقديم مقدمة هي التخويف بالفقر إذا أنفق الجيج من ماله ، فإذا أطاعه زاد فيمنعه من الإنفاق بالكلية ، وربما تدرج إلى أن يمنع الحقوق الواجبة فلا يؤدي الزكاة ولا يصل الرحمن ولا يرد الوديعة ، فإذا صار هكذا ذهب وقع الذنوب عن قلبه ويتسع الخرق فيقدم على المعاصي كلها .
ثم لما ذكر درجات وسوسة الشيطان أرفها بذكر إلهامات الرحمن فقال : ( والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً ( فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلف عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الملك ينادي كل ليلة : اللهم أعط منفقاً خلفاً وممسكاً تلفا ) فالشيطان يعدكم الفقر في غد الدنيا ، والرحمن يعدكم المغفرة في غعد العقبة ، ووعد الرحمن بالقبول أولى لأن الوصول إلى غد الدنيا مشكوك فيه ، وغد العقبى ، ووعد الرحمن بالقبول أولى لأن الوصول إلى غد الدنيا أخرى ، وعند وجدان العقبى لا بد من حصول المغفرة فإن الله تعالى لا يخلف الميعاد .
ولو فرض بقاء المال فقد لا يتمكن صاحبه من الانتفاع به لخوف أو مرض أو مهم بخلاف الانتفاع بما في الآخرة فإنه لا مانع منه .
وبتقدير التمكن من الانتفاع بالمال فإن ذلك ينقطع ويزول بخلاف الموعود في الآخرة فإنه باق لا يزول ، وأيضاً لذات الدنيا مشوبة بالآلام والمضار ألبتة ، فلا لذة إلا وفيها ألم من وجوه كثيرة بخلاف لذات الآخرة فإنه لا نغص فيها ولا نقص ، والمراد بالمغفرة تكفير الذنوب ، والتنكير فيه للدلالة على الكمال والتعظيم لا سيما وقد قرن به لفظة ( منه ) فإن غاية كرمه ونهاية وجوده مما يعجز عن إدراكها عقول الخلائق ويحتمل أن يكون نوعاً من المغفرة وهو المشار إليه في آية أخرى ) فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات ) [ الفرقان : 70 ] أو أن يجعل شفيعاً في غفران ذنوب إخوانه المؤمنين ، وأما الفضل فيحتمل أن يراد به الفضيلة الحاصلة للنفس وهي ملكة الجود والسخاء ، وذلك أن المال فضيلة خارجية وعدمه نقصان خارجي ، وملكة الجود فضيلة نفسانية وملكة البخل رذيلة(2/46)
" صفحة رقم 47 "
نفسانية ، فمتى لم يحصل الإنفاق حصل الكمال الخارجي والنقصان الداخلي ، وغذا حصل الإنفاق وجد الكمال الداخلي والنقصان الخارجي ، فيكون الإنفاق أولى وأفضل .
وأيضاً متى حصلت ملكة الإنفاق زالت عن النفس هيئة الاشتغال بنعيم الدنيا والتهالك في طلبها فاستنارت بالأنوار القدسية وهذا هو الفضل .
وأيضاً مهما عرف من الإنسان أنه منفق كانت الهمم معقودة على أن يفتح الله عليه أبواب الرزق ولمثل ذلك من التأثير ما لا يخفى ) والله واسع ( كامل العطاء كافل للخلف قادر على إنجاز ما وعد ) عليم ( بحال من نفقة ثقة بوعده وبحال من لم ينفق طاعة للشيطان .
ثم نبه على الأمرالذي لأجله يحصل ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان وهو الحكمة والعقل ، فإن وعد الشيطان إنما ترجحه الشهوة والنفس .
عن مقاتل : إن تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه : أحدها : مواعظ القرآن ) وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ) [ البقرة : 231 ] وثانيها الحكمة بمعنى الفهم ) وآتيناه الحكم صبياً ) [ مريم : 12 ] ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ( وثالثها الحكمة بمعنى النبوة ) وآتاه الله الملك والحكمة ) [ البقرة : 251 ] ورابعها القرآن بما فيه من الأسرار [ يؤتي من الحكمة من يشاء ( وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم ، فتأمل يا مسكين شرف العلم فإن الله تعالى سماه الخير الكثير ) ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ( والتنكير للتعظيم .
وسمة الدنيا بأسرها قليلاً ( قل متاع الدنيا قليل ) وذلك أن الدنيا متناهية العدد ، متناهية المقدار ، متناهية المدة والعلوم ، لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها والسعادات الحاصلة منها .
واعلم أن كمال الإنسان في شيئين : أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به .
فمرجع الأول إلى العلم والإدراك المطلق ، ومرجع الثاني إلى فعل العدل والصواب ، ولذلك سأل إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) ) رب هب لي حماً ) [ الشعراء : 83 ] وهو الحكمة النظرية ، ) وألحقني بالصالحين ) [ الشعراء : 83 ] وهو الحكمة العملية ، ونودي موسى عليه السلام ) إنى أنا الله لا إله إلا أنا ( وهو الحكمة النظرية ثم قال : ( فاعبدني ) [ طه : 14 ] وهو العملية .(2/47)
" صفحة رقم 48 "
وحكي عن عيسى عليه السلام أنه ) قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت ) [ مريم : 30 ، 31 ] وكلها النظرية ) وأوصاني بالصلاة والزكاة وما دمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً ) [ مريم : 31 ، 32 ] وجميعها العملية ، وقال في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فاعلم أنه لا إله إلا الله ) [ محمد : 19 ] وهو النظرية ثم قال ) واستغفر لذنبك ) [ محمد : 19 ] وهو العملية ، وقال في حق جميع الأنبياء ) ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا ) [ النحل : 2 ] وأنه الحكمة العلمية ثم قال ) فاتقون ) [ النحل : 2 ] وهو الحكمة العملية .
فعلم من هذه الآيات وأمثالها أن كمال حال الإنسان في هاتين القوتين .
والحكمة فعلة من الحكم كالنحلة من النحل .
ورجل حكيم إذا كان ذا حجا ولب وإصابة رأي ، فعيل بمعنى فاعل ويجيء بمعنى مفعول ) فيه يفرق كل أمر حكيم ) [ الدخان : 4 ] أي محكم .
وفي الآية دليل على أن جميع العلوم النظرية والأخلاق المرضية إنما هي بإيتاء الله تعالى .
والذين حملوا الإيتاء على التوفيق والإعانة كالمعتزلة ما زادوا إلا أن وسعوا الدائرة إذ لا بد من الانتهاء إليه أية سلكوا ) وما يذكر إلا أولوا الألباب ( الذين إذا حصل لهم الحكم والمعارف لم يقفوا عند المسببات ، فلم ينسبوا هذه الأحوال إلى أنفسهم بل يرقون إلى أسبابها حتى يصلوا إلى السبب الأول .
وأما المعتزلة فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل قالوا : هذه الحكمة لا تفيد بنفسها وإنما ينتفع بها المرء إذا تدبر وتذكر فعرف ماله وما عليه ، وعند ذلك يقدم أن يحجم .
ثم إنه تعالى نبه على أنه عالم بما في قلب العبد من نية الإخلاص أو الرياء ، وأنه يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئاً منها فقال ) وما أنفقتم من نفقة ( لله أو للشيطان ) أو نذرتم من نذر ( في طاعة الله أو معصيته ) فإن الله يعلمه ( وتذكير الضمير إما لأنه عائد إلى ( ما ) وإما لأنه عائد إلى الأخير كقوله : ( ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً ) [ النساء : 112 ] وهذا قول الأخفش ، والنذر ما يلتزمه الإنسان بإيجابه على نفسه وأصله من الخوف كأنه يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر المهم عنده ومنه الإنذار إبلاغ من الخوف كأنه يعقد على قسمان : نذر اللحاج والغضب ونذر التبرر .
أما الأول فهو أن يمنع نفسه من الفعل أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة بالفعل أو الترك كقوله ( إن كلمت فلاناً أو أكلت كذا أو دخلت الدار أو لم أخرج من البلد فللَّه علي صوم شهر أو صلاة أو حج أو إعتاق رقبة ) ثم إنه إذا كلمه أو أكل أو دخل أو لم يخرج فللعماء ثلاثة أقوال : أحدها يلزمه الوفاء بما التزم ، والثاني : وهو الأصح أن عليه كفارة لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كفارة النذر كفارة اليمين ) والثالث التخيير بين الوفاء وبين الكفارة ، وأما نذر التبرر فنوعان : نذر المجازاة وهو أن يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع نقمة مثل ( إن شفى الله مريضي أو رزقني ولدا فللَّه علي أن أعتق رقبة أو أصوم أو أصلي كذا ) فإذا حصل المعلق عليه لزمه الوفاء بما التزم لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) .
ونذر التنجيز وهو أن يلتزم ابتداء غير معلق على شيء كقوله ( لله علي(2/48)
" صفحة رقم 49 "
أن أصوم أو أصلي أو أعتق ) فالأصح أنه يصح ويلزم الوفاء به لمطلق الخبر .
وما يفرض التزامه بالنذر إما المعاصي وإما الطاعات وإما المباحات .
فالمعاصي كشرب الخمر والزنا ونذر المرأة صوم أيام الحيض ونذر قراءة القرآن في حال الجنابة لا يصح التزامها بالنذر لأنه لا نذر في معصية الله تعالى ، ومن هذا القبيل نذر ذبح الولد أو ذبح نفسه ، وإذا لم ينعقد نذر فعل المعصية فعليه أن يمتنع منه ولا يلزمه كفارة يمين ، وما روي من أنه صلى ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين ) محمول على نذر اللجاج ، وأما الطاعات فالواجبات ابتداء بالشرع كالصلوات الخمس وصوم رمضان لا معنى لالتزامها بالنذر معلقاً أو غير معلق ، وكذا لو نذر أن لا يشرب الخمر ولا يزني ، وإذا خالف ما ذكره فلا يلزمه الكفارة على الأصح ، وأما غير الواجبات فالعبادات المقصودة وهي التي وضعت للتقرب بها وعرف من الشارع الاهتمام بتكليف الخلق بإيقاعها عبادة فتلزم بالنذر وذلك كالصوم والصلاة والزكاة والصدقة والحج والاعتكاف والإعتاق وكذا فروض الكفايات التي يحتاج فيها إلى معاناة تعب وبذل مال كالجهاد وتجهيز الموتى ، ذكره إمام الحرمين - وفي الصلاة على الجنازة والأمر بالمعروف ، وما ليس فيه بذل مال وكثير مشقة الأظهر اللزوم أيضا ، وكما يلزم أصل العبادات بالنذر يلزم رعاية الصفة المشروطة فيها إذا كانت من المحبوبات كالصلاة بشرط طول القراءة أو الركوع أو السجود أو الحج بشرط المشي إذا جعلناه أفضل من الركوب وهو الأصح ولو أفرد الصفة بالالتزام .
والأصل واجب كتطويل الركوع والسجود أو القراءة في الفرائض ، فالأشبة اللزوم لأنها عبادات مندوب إليها .
وأما الأعمال والأخلاق المستحسنة كعيادة المريض وزيارة القادم وإفشاء السلام على المسلمين فالأظهر لزومها أيضاً بالنذر وكذا تجديد الوضوء لأن كلها مما يتقرب بها إلى الله سبحانه ، وقد رغب الشارع فيها ، وأما المباحات التي لم يرد فيها ترغيب كالأكل والنوم والقيام والقعود فلو نذر فعلها أو تركها لم ينعقد نذره ، روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى رجلاً قائماً في الشمس فسأل عنه فقالوا : نذر أن لا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ) .
ولو قال : ( لله عليّ نذر ) من غير تسمية لزمه كفارة يمين لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من نذر نذراً وسمى فعليه ما سمى ، ومن نذر نذراً ولم يسم فعليه كفارة يمين ) ) وما للظالمين ( الذين يمنعون الصدقات ، أو ينفقون أموالهم في المعاصي ، أو للرياء ، أو لا يوفون بالنذور ، أو ينذرون في(2/49)
" صفحة رقم 50 "
المعاصي ) من أنصار ( ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه .
والأنصار جمع ناصر كأصحاب في صاحب ، أو جمعٍ نصير كأشراف في شريف ، وقد يتمسك المعتزلة بهذا في نفي الشفاعة لأهل الكبائر ، فإن الشفيع ناصر .
ورد بأن الشفيع في العرف لا يسمى ناصراً وإلا كان قوله ) ولا هم ينصرون ) [ البقرة : 48 ] بعد قوله : ( ولا يقبل منها شفاعة ) [ البقرة : 48 ] تكراراً .
وأيضاً إن هذا الدليل النافي عام في حق كل الظالمين وفي كل الأوقات ، والدليل المثبت للشفاعة خاص في حق البعض وفي بعض الأوقات والخاص مقدم على العام .
وأيضا اللفظ لا يكون قاطعاً في الاستغراق بل ظاهراً على سبيل الظن القوي فصار الدليل ظنياً والمسألة ليست ظنية فكان التمسك بها ساقطاً .
سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أصدقه السر أفضل أم صدقة العلانية فنزلت : ( إن تبدوا الصدقات ( والتركيب موضوع للصحة والكمال ومنه ( فلان صاجق المودة ) و ( هذا خل صادق الحموضة ) و ( صدق فلان في خبر ) إذا أخبر على وجه الصحة والكمال ، ومنه ( الصداق ) لأن عقد الصداقة به يتم ويكمل ، والزكاة صدقة لأن المال بها يصح ويبقى وبها يستدل على صدق العبد وكماله في إيمانه ، ) فنعما هي ( من قرأ بسكون العين فمحمول على أنه أوقع على العين حركة خفيفة على سبيل الاختلاس وإلا لزم التقاء الساكنين على غير حدة ، ومثله ما يروى في الحديث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعمرو بن العاص : ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) بسكون العين .
ومن قرأ بكسر النون والعين فلتحصيل المشاكلة ، ومن قرأ بفتح النون وكسر العين فعلى الأصل .
قال طرفة :
نعم الساعون في الأمر المبر
قال سبيويه : ( ما ) في تأويل الشيء أي نعم الشيء هي .
وقال أبو علي : الجيد في مثله أن يقال : ( ما ) ي تأويل شيء لأن ( ما ) ههنا نكرة إذ لو كانت معرفة بقيت بلا صلة .
فإن ( هي ) مخصوصة بالمدح .
فالتقدير : نعم شيئاً إبداء الصدقات .
فحذف المضاف للدلالة ، أو نعم شيئاً تلك الصدقات ، أو تلك الخصلة وهي الإبداء ، قال الأكثرون : المراد بها صدقة التطوع لقوله تعالى : ( وإن تخفونها وتؤتوها الفقراء وهو خير لكم ( والإخفاء في صدقة التطوع أفضل كما أن الإظهار في الزكاة أفضل ما الأول فلأن ذلك أشق على النفس فيكون أكثر ثواباً ، ولأنه أبعد عن الرياء والسمعة قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان ) والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة ، والمعطي في ملأ من الناس يطلب الرياء ، وقد بالغ قوم في الإخفاء واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ ، فبعضهم كان يلقي الصدقة في يد(2/50)
" صفحة رقم 51 "
الأعمى ، وبعضهم يلقيها في طريق الفقير أو في موضع جلوسه بحيث يراها ولا يرى المعطي ، وبعض يشدها في ثوب الفقير وهو نائم ، وبعض يوصل إلى الفقير على يد غيره ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أفضل الصدقة جهد المقل إلى فقير في سر ) وقال أيضاً : إن العبد ليعمل عملاً في السر فيكتبه الله سراً ، فإن أظهره نقل نم السر وكتب في العلانية ، فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياءوقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( صدقة السر تطفىء غضب الرب ) وأيضاً في الإظهار هتك ستر الفقير وإخراجه من حيز التعفف ، وربما أنكر الناس على الفقير أخذ تلك الصدقة لظن الاستغناء به فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة ، ولأن في الإظهار إذلالاً للآخذ وإهانة له ، وإذلال مؤمن غير جائزة ولأن الصدقة كالهدية ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من أهدي إليه هدية وعنده قوم فهم شركاء فيها ) وربما لا يدفع الفقير إليهم شيئاً فيقع في حيز اللوم والتعنيف .
نعم لو علم أنه إذا أظهرها اقتدى غيره به لم يبعد والحالة هذه أن يكون الإظهار أفضل .
وروى ابن عمر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( السر أفضل من العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء ) واعلم أن الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة ، فههنا الشيطان يردد عليه ذكر رؤية الخلق والقلب ينكره .
فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فيكون إخفاؤه يفضل علانيته سبعين ضعفاً كما روي عن ابن عباس : صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً .
ثم إن الله تعالى عباداً راضوا أنفسهم حتى من اللهعليهم بأنوار هدايته ، وذهبت عنهم وساوس النفس لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله فلم يحتاجوا إلى المجاهدة .
فإذا أعلنوا بالعمل أرادوا أن يقتدي بهم يغره ، فهم كاملون في أنفسهم ويسعون في تكميل غيرهم كما قال تعالى : ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق ) [ الأعراف : 181 ] ( واجعلنا للمتقين إماماً ) [ الفرقان : 74 ] فهؤلاء أئمة الهدى وإعلام الدين وسادة الخلق بهم يقتدي في الذهاب إلى الله .
وأما أن الإظهار .
هذا إذا كان المزكي ممن لا يخفى يساره ، فإن لم يعرف سرها بخمسة وعشرين ضعفاً .
هذا إذا كان المزكي ممن لا يخفى يساره ، فإن لم يعرف باليسار كان الإخفاء له أفضل ولا سيما إذا خاف الظلمة أ ، يطمعوا في ماله .
وعن بعضهم أن معنى قوله ) خير لكم ( أنه في نفسه خير من الخيرات كما يقال الثريد خير من الأطعمة .(2/51)
" صفحة رقم 52 "
وإنما قيل ) وتؤتوها الفقراء ( لأن المقصود من بعث المتصدق أن يتحرى موضع الصدقة فيصير عالماً بالفقراء مميزاً لهم عن غيرهم ، فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة فلهذا شرط في الأخفاء أن يحصل معه إيتاء الفقراء .
وأما في الإبداء فقلما يخفى حال الفقير فلهذا لم يصرح بالشرط .
) ونكفر عنكم ( من قرأ بالنون مرفوعاً فهو عطف على محل ما بعد الفاء ، لأن الأصل في الشرط والجزاء أن يكونا فعلين .
فإذا وقع الجزاء فعلاً مضارعاً مع الفاء كان خبر مبتدأ محذوف .
فقوله : ( فهو ( في تأويل .
فيكون خيراً لكم ) ونكفر ( بالرفع عطف عليه ، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر ، وأن يكون جملة من فعل وفاعل مستأنفة .
ومن قرأ مجزوماً فهو عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط كأنه قيل : وإن تخفوها تكن أعظم أجراً .
وأما من قرأ ) ويكفر ( بياء الغيبة مرفوعاً فالإعراب كما مر في النون والضمير لله أو لللإخفاء .
وقرىء ) وتكفر ( بالتاء مرفوعاً ومجزوماً والضمير للصدقات ، وقرأ الحسن بالياء والنصب بإضمار ( إن ) ومعناه : وإن تخفوها تكن خيراً لكم وأن بكفر عنكم خير لكم .
والتكفير في اللغة الستر والتغطية ومنه ( كفر عن يمينه ) أي ستر ذنب الحنث .
وقوله : ( من سيئاتكم ( يحتمل أن يكون ( من ) للتبعيض لأن السيئات كلها لا تكفر وإنما يكفر بعضها ، ثم أبهم الكلام في ذلك البعض لأن بيانه كالإغراء على ارتكابها ، وأحسن أحوال العبد أن يكون بين الخوف والرجاء ، ويحتمل أن يكون للتعليل أي من أجل سيئاتكم كما لو قلت : ضربتك من سوء خلقك أي من أجل ذلك .
وقيل : إنها زائدة .
) والله بام تعملون خبير ( كأنه ندب بهذا الكلام إلى الإخفاء الذي هو أبعد من الرياء .
عن الكلبي أنه قال : اعتمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عمرة القضاء وكانت معه أسماء بنت أبي بكر ، فجاءتها أمها قتيلة وجدتها فسألتاها وهما مشركتان فقالت : لا أعطيكما شيئاً حتى أستأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد نزولها أن تتصدق عليهما فأعطتهما ووصلتهما .
قال الكلبي : ولها وجه آخر ، وذلك أن ناساً من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار ورضاع في اليهود ، وكانوا ينفعونهم قبل أن يسلموا .
فلما أسلموا كرهوا أن ينفعوهم وراودوهم أن يسلموا واستأمروا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت فأعطوهم بعد نزولها .
وعن سعيد بن جبير قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا تصدقوا إلا على أهل دينكم ) فأنزل الله ) ليس عليك هداهم ( فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا تصدقوا إلا على أهل الأديان ) وعن بعض العلماء : لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك .
والعلماء أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير المسلم فتكون(2/52)
" صفحة رقم 53 "
الآية مخصوصة بالتطوع .
وجوز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة أباه غيره ، ومعنى الآية ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام فتصدق عليهم لوجه الله ولا توقف ذلك على إسلامهم ، وذلك أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان شديد الحرص على إيمانهم فأعلمهم الله تعالى أنه بعث بشيراً ونذيراً ودعاياً إلى الله ومبيناً للدلائل فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك .
فالهدى ههنا بمعنى الاهتداء ، فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معوتنك وبرك وصدقتك عنهم .
وفيه وجه آخر ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة توقيف الصدقة على إيمانهم ، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به ، بل الإيمان المطلوب منهم هو الإيمان طوعاً واختياراً ) ولكن الله يهدي من يشاء ( إثبات للهداية التي نفاها أولاً .
لكن المنفي أولاً هو الهداية أي الاهتداء على سبيل الاختيار فكذا الثاني ومنه يعلم أن الاهتداء الاختياري واقع بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وهذا التفسير هو المناسب لسبب النزول .
وفي الكشاف : أن المعنى لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذ والإنفاق من الخبيث وغير ذلك ، وما عليك إلا ، تبلغهم النواهي فحسب ) ولكن الله يهدي من يشاء ( يلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه فينتهي عما نهى عنه .
ثم ظاهر قوله : ( ليس عليك هداهم ( إنه خطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولكن المراد به هو وأمته ، لأن ما قبله عام ) إن تبدوا الصدقات ( وام بعده عام ) وما تنفقوا من خير ( من مال ) فلأنفسكم ( ثوابه فليس يضركم كفرهم أو فلا تمنوا به على الناس ولا أقاربكم المشركون تقصدون إلا وجه الله من صلة رحم أو سد خلة مضطر ، قد علم الله هذا من قلوبكم .
وقيل : خبر في معنى نهي أي لا تنفقوا إلى لله ، وفيل : معناه لا تكونا منفقين مستحقين لهذا الاسم المفيد للمدح حتى تبتغوا وجه الله ، وقيل : ليست نفقتكم إلا لطلب ما عند الله فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبث الذي لا يوجه مثله إلى الله ؟ وفائدة إقحام الوجه أنك إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أشرف من قولك فعلته له ، لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ، ثم كثير حتى عبر به الشرف مطلقاً .
وأيضاً قول القائل : ( فعلت هذا الفعل له ) احتمل الشركة وأن يكون قد فعله لأجله ولغيره ، أما إذا قال ( فعلت لوجهه ) فلا يحتمل الشركة عرفاً ) وما تنفقوا من خير يوف إليكم ( جزاؤه في الآخرة أضعافاً مضاعفة ، وإنما حسن قوله ) إليكم ( مع التوفية لأنها تضمنت معنى التأدية ) وأنتم لا تظلمون ( لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً .
ثم لما بيّن أنه يجوزصرف الصدقة إلى أي فقير كان ، أراد أن يبين أن اشد الناس(2/53)
" صفحة رقم 54 "
استحقاقاً من هو فقال ) للفقراء ( أي ذلك الإنفاء لهؤلاء الفقراء كما لو تقدم ذكر رجل فتقول : عاقل لبيب أي ذلك الذي مر وصفه عاقل لبيب ، وقيل : اعمدوا للفقراء أو أجلوا ما تنفقون للفقراء ، أو المراد صدقاتكم للفقراء .
قيل : نزلت في فقراء المهاجرين وكانوا نحو أربعمائة رجل وهم أصحاب الصفة ، لم يكن لهم سكن ولا عشائر بالمدينة ، كانوا ملازمين للمسجد يتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة ، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى ، وعن ابن عباس : وقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال ( أبشروا يا أصحاب الصفة فمن بقي من أمتى على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنه من رفقائي ) .
ثم إنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفات : الأولى قوله ) الذين أحصروا في سبيل الله ( أي حصروا أنفسهم ووقفوا على الجهاد في سبيل الله لأن سبيل الله مختص بالجهاد في عرف القرآن ، ولأن وجوب الجهاد في ذلك الزمان كان آكد فكانت الحاجة إلى من يحبس نفسه للمجاهدة مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أشد ، فموضع الصدق فيهم يكون أوقع سداً لخلتهم وتقوية لقلوبهم وإعلاء لمعالم الدين ، وعن سعيد بن المسيب واختاره الكسائي ، أن هؤلاء قوم أصابتهم جراحات في الغزوات فأحصرهم المرض والزمانة ، وعن ابن عباس : هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد فعذرهم الله : الثانية ) لا يستطعيون ضرباً في الأرض ( أي سيراً فيها وذلك إما لاشتغالهم بالعبادة أو بالجهاد فلا يرغون للكسب والتجارة ، وإما لأن خوفهم من الإعداء يمنعهم من السفر ، وإما لأن مرضهم وعجزهم يمنعهم منه .
الثالثة ) يحسبهم ( يظنهم ) الجاهل ( بحالهم ومن لم يخبر أمرهم ) أغنياء من التعفف ( من أجل تركهم المسألة وإظهارهم التجمل تكلفاً منهم .
والتعفف إظهاء العفة وهي ترك الشيء والكف عنه .
الرابعة ) تعرفهم ( أي أنت يا محمد أو كل راء ) بسيماهم ( والسيما والسيمياء العلامة التي يعرف بها الشيء من السمة العلامة فوزنه ( عفلى ) قال مجاهد : سيماهم التشخع والتواضع .
الربيع والسدي : أثر الجهد من الجوع والفقر .
الضحاك : صفرة ألوانهم من الجوع .
أبو زيد : رثاثة ثيابهم .
وقيل : المهابة في العيون .
وقيل : آثار الفكر .
روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان كثير الفكر الخامسة ) لا يسألون الناس إلحافاً ( أي إلحاحاًوهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطى له .
والتركيب يدل على الستر كأنه لزم المسؤول لزوم الساتر للمستور ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله يحب الحي الحليم المتعفف ويبغض البذي السآل الملحف ) قيل : معنى الآية أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحفوا ، وأورد عليه أنه ينافي التعفف الذي وصفوا به قبل ، فالوجه أن يراد نفي السؤال والإلحاف جميعاً كقوله : ( ولا ترى الضب بها يتجحر ) أي لا ضب ولا انجحار ليكون موافقاً لوصفهم بالتعفف .
وفائدة الكلام التنبيه على سوء طريقة المحلف كما(2/54)
" صفحة رقم 55 "
إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور والآخر طياش خفيف وأدت تمدح أحدهما وتذم الآخر قلت : فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام ليس بخواض ولا مهذار .
لم يكن غرضك من قولك ( ليس خواض ولا مهذار ) وصفع بذلك لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عنه ، بل غرضك التنبيه على سواء طريقة الثاني .
وقيل : معناه لا يتركون السؤال إلا بإلحاح شديد منهم على أنفسهم لشدة حاجتهم كقوله :
ولي نفس أقول لها إذا ما
تنازعني لعلي أو عساني
وقيل : إن عدم السؤال بطريق الإلحاف يتضمن نفي السؤال عنهم رأساً لأن كل سائل فلا بد أن يلح في بعض الأوقات كأنه يقول : إذا أرقت ماء وجهي فلا أرجع بغر مقصود .
وقيل : لعل اسلاكت عن السؤال يطهر من نفسه أمارات الحاجة فيكون في حال سكوته أنطق ما يكون فترق القلوب له ، فالمراد أنهم وإن سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السؤال من رثاثة الحال وآثار الانكسار ما يقوم مقام السؤال فإن ذلك نوع إلحاف ، بل يتجملون للخلق بحيث لا يطلع على سرهم غير الخالق. عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا يفتح أحد باب مسألةٍ إلا فتح الله عليه باب فقر ومن يستغن يغنه الله ومن استعف يعفه الله ) ( لأن يأخذ أحدكم حبلاً يحتطب به فيبيعه بمد من تمر خير له من أن يسأل الناس ) ) وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ( فيه أن ثواب هذا الإنفاق الذي هو أعظم المصارف لا يكتنه كنهه فلذلك وكل إلى علم الله تعالى بخلاف الآية المتقدمة فإنه لما رغب ف يالتصدق على أهل الأديان قال في آخره ) وما تنفقوا من خير يوف إليكم ( كما لو قال السلطان لعبده الذي حسن عنده موقع خدمته : إني بحسن خدمتك عالم ولحقك عارف .
كان أبلغ مما لو قال : إن أجرك واصل إليك .
ثم أرشد في خاتمة الآيات إلى أكمل وجوه الإنفاقات بقوله : ( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار ( الآية .
وذلك أن الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة يكون ذلك منهم دليلاً على الحرص البالغ والاهتمام التام كلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه متعللين بوقت وحال .
والباء بمعنى ( في ) أي في الليل والنهار و ) سراً وعلانية ( منصوبان على الظرفية أيضاً أي في أوقات السر والعلن ، أو على وصف المصدر أي إنفاقاً سراً وعلانية ، أو على الحال لكونه بياناً عن كيفية الإنفاق ، وقيل : لما نزل(2/55)
" صفحة رقم 56 "
) للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ( بعت عبد الرحمن بن عوف بدنانير إلى أصحاب الصفة وبعث عليّ يوسق من تمر ليلاً فنزلت الآية .
وفي تقديم ذكر الليل وتقديم السر على العلانية دليل على أن صدقة علي رضي الله عنه كانت أكمل ، وعن ابن عباس : ما كان علي رضي الله عنه يملك إلا أربعة دراهم فتصدق بدرهم نهاراً وبدرهم ليلاً وبدرهم سراً وبدرهم علانية فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ما حملك على هذا ؟ فقال : أن استوجب ما وعد لي ربي فقال : ذلك لك ونزلت الآية .
وقيل : نزلت في أبي بكر حين تصدق بأربعين ألف دنيار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في العلانية .
وفيل : في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله .
وكان أبو هريرة إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية والله تعالى أعلم بحقيقة الحال .
التأويل : ( أنفقوا من طيبات ما كسبتم ( فيه صلاح المتصدق من وجوه : أحدها لو فسر الطيب بالحلال فليقبل الله منه ، ولو فسر بالجودة فليجز به بقدر جودته .
وثانيها ليثاب على التعظيم لأمر الله .
وثالثها ليثاب على الشفقة على خلق الله .
ورابعها ليثاب على الإيثار ) ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ الحشر : 9 ] وخامسها ليستحق البر ) لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) [ آل عمران : 92 ] وسادسها ليثاب على زيادة الإيمان وأن المتصدق في صدقته كالزارع في زراعته .
فكما أن الزارع كلما ازداد إيقانه بحصول الثمرة اجتهد في جودة البذر فكذا المتصدق كلما ازداد إيمانه بالبعث والجزاء زاد في جودة صدقته لتحققه ) إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ) [ النساء : 40 ] وقدم ذكره الكسب على ذكر المخرج من الأرض لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أطيب ما يأكل الرجل من كسب يده ) وفي الآية معنى آخر لطيف ) انفقوا من طيبات ما كسبتم ( من تزكية النفوس وتصفية القلوب ) ومما أخرجنا لكم ( من أرض طينتكم من تحلية سرائركم بمكارم الأخلاق ، ولتكن النفقة طيبة من خباثة الشبهات طيباً إنفاقها من خباثة الأغراض الدنيوية والأخروية ، طيباً فلله قبول طيب من الوسائط فيأخذها بيده ويربيها قبل أن تقع في يد الفقير ، وإذا كانت اليد طيبة في إنفاقها فلله قبول طيب فإنها أبلغ عند الله من عملها ، وإذا كان القلب المنفق طيباً عن الالتفات إلى غير الله فلله قبول طيب عن الأغيار بين أصبعين من أصابع الرحمن ، وهذا(2/56)
" صفحة رقم 57 "
تحقيق قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله طيب ولا يقبل إلأ الطيب ) ولستم بآخذي هذا الخبيث لا في أصل الفطرة ولا في عهد الخلقة لأنكم خلقتم من أصل طيب وطينة طيبة ، فالروح من أطيب الأطايب لأنه أقرب الأقربين إلى حضرة رب العالمين ، والجسد من التراب الطيب ) فتيمموا صعيداً طيباً ) [ النساء : 43 ] ثم أحياكم بالإيمان ) فلنحيينه حياة طيبة ) [ النحل : 97 ] ثم يرزقكم من الطيبات ) كلوا من طيبات ما رزقناكم ) [ البقرة : 57 ] فليس منكم شيء خبيث في الظاهر والباطن ) إلا أن تغمضوا فيه ( فتقبلوه تكلفاً وقسراً ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجسانه ) فلما لم تكن الخباثة ذاتية للإنسان بل كانت طارئة عليه عارية لديه أنزل الله تعالى كلمة طيبة هي ( لا إله إلا الله ) ليطيب بالمواظبة عليها أخلاقهم ويستحقوا يوم القيامة أن يقال لهم ) سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) [ الزمر : 73 ] ( واعلموا أن الله غني ( فمن كمال غناه أراد أن يغنيكم بثواب الإنفاق ) حميد ( على ما أنعم بهذا التكليف ليتوسل به إلى الكمال الأبدي .
) الشيطان يعدكم الفقر ( ظاهراً فهو يأمركم بالفحشاء باطناً لأنها اسم جامع لكل سوء فيتضمن البخل والحرص واليأس من الحق والشك في مواعيد الحق بالخلف والتضعيف وسوء الظن بالله وترك التوكل عليه ونسيان فضله وتعلق القلب بغيره ومتابعة الشهوات وترك العفة والقناعة والتمسك بحب الدنيا وهو رأس كل خطيئة وبذر كل بلية .
فمن فتح علت نفسه باب وسوسة فسوف يبتلى بهذه الآفات وأضعافها ، ومن فتح على نفسه باب عدة الحق أفاض عليه سجال غفرانه وبحار فضله وإحسانه ، فالمغفرة تكفير الذنوب والآثام ، والفضل ما لا تدركه الأوهام ) للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ يونس : 26 ] فمن ذلك أن يفتح على قلبه باب حكمته عاجلاً كما قال ) يؤتي الحكمة من يشاء ( وليست الحكمة مما يحصل بمجرد التكرار كما ظنه أهل الإنكار والذين لم يفرقوا بين المعقولات وبين الأسرار والحكم الإلهيات .
فالمعقولات ما تكتسب بالبرهان وهي مشتركة بين أهل الأديان ، والأسرار الإلهية مواهب الحق لا ترد لا على قلوب الأنبياء والأولياء ) نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ) [ النور : 35 ] ( وما يذكر إلا أولوا الألباب ( الذين لم يقفوا عند القشور وارتقوا إلى لب عالم النور .
ثم أخبر عن توفية الأجور للمنفق في المفروض والمنذور ) وما للظالمين ( الذين وضعوا الشيء في غير موضعه فبدلوا بالإنفاق النفاق وبالإخلاص الرياء ) من أنصار ( ولا ناصر بالحقيقة إلا الله ، ومن أذن له الله(2/57)
" صفحة رقم 58 "
إبداء الصدقات ضد إخفائها ، وإخفاؤها تخليتها عن شوب الحظوظ وإليه الإشارة في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( سبعة يظلمهم الله في ظله ) ثم قال : ( ورجل تصدق بيمينه فأخفاها عن شماله ) أي عن حظوظ نفسه لتكون خالصة لوجه الله .
فصاحبها يكون في ظل الله قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن المرء يكون في ظل صدقته يوم القيامة ) أي إن كانت صدقته لله كان في ظل الله ، وإن كانت للجنة كان في ظل الجنة ، وإن كانت للهوى كان في ظل الهاوية ، فمعنى قوله : ( إن تبدو الصدقات ( أي تظهروها لطمع ثواب الجنة فإن طمع الصواب شوب حظ ) فنعما هي ( فإنها مرتبة الأبرار ) إن الأبرار لفي نعيم ) [ الانفطار : 13 ] ( وإن تخفوها ( عن كل حظ ونصيب ) وتؤتوها الفقراء ( الذين تعونها إياهم لوجه الله لا لحظ النفس ) فهو خير لكم ( لأن جزاءها لقاء الله .
ثم أخبر عن الهداي وأن ليس لأحد علها الولاية وأن الله فيها ولي الكفاية ، يا محمد لك المقام المحمود واللواء المعقود ولك الوسيلة وعلى الأنبياء الفضيلة ، وأنت سيد الأولين والآخرين وأنت أكرم الخلائق على رب العالمين ولكن ) ليس عليك هداهم ( ولكن الهداية من خصائص شأننا ولوائح برهاننا ، أنت تدعوهم ونحن نهديهم ، ثم نبه على أن أفضل وجوه الإنفاق هو الفقير الذي أحصرته المحبة في الله عن طلب المعاش لا الذي أحصره الفقر والعجز عن طلب الكفاف ، أخذ عليه سلطان الحقيقة كل طريق فلا له في المشرق مذهب ولا له في المغرب مضرب ، ولا منه إلى غيره مهرب .
كأن فجاج الأرض ضاقت برحبها
عليه فما تزداد طولاً ولا عرضاً
) يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ( لأنهم مستورون تحت قباب الغيرة محجوبون عن معرفة أهل الغيرية ( أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غير ي يا محمد ) ) تعرفهم بسيماهم ( لأنك لست بلك فلست غيري ، ما رأيت إذ رأيت ولكن الله رأى ) وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) [ الأنفال : 17 ] وإن سيماهم لا يرى بالبصر الإنساني بل يرى من نور رباني ، فمن سيماهم في الظاهر من ظهور آثار أحوال الباطن أنهم ) لا يسألون الناس إلحافاً ( لا بقليل ولا بكثير ، لأن اثار أنوا غنى قلوبهم انعكست على ظواهرهم فتنورت بالتفف نفوسهم ، واضمحلت ظلمة فقرهم وفاقتهم ) وما تنفقوا من خير ( من المال أو الجاه أو خدمة بالنفس أو إكرام أو إرادة حتى السلام على هؤلاء السادة استحقاقاً وإجلالاً لا استخفافاً وإذلالاً ) فإن(2/58)
" صفحة رقم 59 "
الله به عليم ( ومن سيماهم في الظاهر أنهم إذا وجدوا مالاً لم يبيعوا عزة الفقر به بل ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية ) فلهم أجرهم عند ربهم ( عند مليك مقتدر ) ولا هم يحزنون ( في الدنيا على ما يفوتهم لأنهم تركوها لله وهو لهم خلف عن كل تلف ، ولا في الآخرة ) لا يحزنهم الفزع الأكبر ) [ الأنبياء : 103 ] ( الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ) [ فاطر : 34 ]
( البقرة : ( 275 - 281 ) الذين يأكلون الربا . . . .
" الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون "
( القراآت )
الربا ( حيث كان بالإمالة : حمزة وعلي وخلف .
وهذا إذا كان معرّفاً ولا يميلون المنكر في الوصل لأجل التنوين كقوله : ( وما آتيتم من ربا ) [ الروم : 39 ] ويميلون في الوقف لزوال التنوين ) فأذنوا ( ممدودة مكسورة الذال : حمزة وحماد وأبو بكر غير ابن غالب والبرجمي حمزة يقف بغير همزة أي بالتليين .
الباقون فأذنوا بسكون الهمزة وفتح الذال ) لا تظلمون ولا تظلمون ( الأول مبني للمفعول والثاني للفاعل المفضل .
الباقون باعلكس ) ميسره ( بضم السين : نافع ) مسيرة ( بضم السين وإثبات لاتاء : زيد عن يعقوب ، الباقون بفتح السين وعدم التاء .
) وأن تصدقوا ( خفيفاً بحذف إحدى التاءين : عاصم الباقون بتشديد الصاد لإدغام تاء التفعل في الصاد .
) ترجعون ( بفتح التاء وكسر الجيم : أبو عمرو ويعقوب عباس مخير .
الباقون مبنياً للمفعول .
الوقوف : ( من المس ( ط ، ) مثل الربا ( م : كيلا يظن أن ما بعده من قولهم وإن أمكن جعل ) وأحل ( حالاً بإضمار ( قد ) ) وحرم الربا ( ط لابتداء الشرط واستئناف المعنى ، ) ما سلف ( ط لتناهي الجزاء ، ) إلى الله ( ج ، ) النار ( ج ، ) خالدون ( ه ، ) الصدقات ( ط ،(2/59)
" صفحة رقم 60 "
) أثيم ( ه ) عند ربهم ( ج ، ) يحزنون ( ه ، ) مؤمنين ( ه ، ) ورسوله ( ج ، ) أموالكم ( ج لأن ما بعده مستأنف أو حال عاملة معنىالفعل في لام التمليك ، ) ولا تظلمون ( ه ، ) ميسرة ( ط ، ) تعلمون ( ه ، ) لا يظلمون ( ه .
التفسير : الحكم الثاني من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع حكم الربا وذلك أنَّ بين الصدقة وبين الربا مناسبة التضاد ، فإن الصدقة تنقيص مأمور به ، والربا زيادة منهي عنها .
وأيضاً لما مر بالإنفاق من طيبات المكاسب وجب أن يردف بالكسب الحرام وهو الربا ، والحلال وهو البيع ما يناسب من الدين والرهن وغيرهما فقال ) الذين يأكلون الربا ( أما الأكل فيعم جميع التصرفات إلا أنه عبر عن الشيء بمعظم مقاصده وكيف لا وقد ( لعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه والمحلل له ) وأيضاً نفس الربا لا يمكن أن يؤكل ولكن يصرف إلى المأكول فيؤكل ، فالمراد التصرف فيه ، والربا في اللغة الزيادة من ربا يربو ، ومن أمالها فلمكان كسرة الراء .
وهو في المصاحف مكتوب بالواو وأنت مخير في كتابتها بالألف والواو .
وفي الكشاف : كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة .
وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع .
ثم الربا قسمان : ربا النسيئة وربا الفضل .
أما الأول فهو الذي كانوا يتعارفونه في الجاهلية ، كانوا يدفعون المال مدة على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً ، ثم إذا حل الدين طالب المديون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والآجل .
وأما ربا الفضل فأن يباع مَنٌّ من الحنطة بمنوين مثلاً .
والمروي عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول وكان يقول : لا ربا إلا في النسيئة .
ويجوّز ربا النقد فقال له أبو سعيد الخدري : أشهدت ما لم نشهد اسمعت ما لم نسمع ؟ فروى له الحديث المشهور في هذا الباب .
وله روايات منها ( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطى فيه سواء ) ثم قال أبو سعيد : لا أرني وإياك في ظل بيت ما دمت على هذا .
فيروى أنه رجع عنه .
قال محمد بن سيرين : كنا في بيت معنا عكرمة فقال رجل : يا عكرمة ، أما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا ابن عباس ؟ فقال : إنما كنت(2/60)
" صفحة رقم 61 "
استحللت الصرف برأيي ثم بلغني أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حرمه فاشهدوا أني قد حرمته وبرئت إلى الله منه .
حجة ابن عباس أن قوله تعالى : ( وأحل الله البيع ( يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقداً .
وقوله : ( وحرم الربا ( لا يتناوله لأن كل زيادة ليست محرمة فوجب أن تبقى على الحل ولا يخرج إلا العقد المخصوص الذي كان يسمى فيما بينهم ربا وهو ربا النسيئة .
وقد تأكد هذا الرأي بما روى أسامة ين زيد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الربا في النسيئة ) وفي رواية ( لا ربا فيما كان يداً بيد ) وذكر أبو المنهال أنه سأل البراء بن عازب وزيد بن أرقم فقالا : كنا تاجرين على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الصرف فقال : إن كان يداً بيد فلا بأس ، وإن كان نسيئة فلا يصح ، وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على حرمة الربا في القسمين .
أما النسيئة فبالقرآن ، وأما النقد فبالخبر ، ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة : النقدان والمطعومات الأربعة ، ولا شك أن الربا إنما ثبت فيها لمعنى ، فإذا عرف ذلك المعنى ألحق بها ما يشاركها فيه .
أما الأشياء الأربعة فللشافعي في علة الربا فيها قولان : الجديد أن العلة الطعم لما روي عن معمر بن عبد الله قال : كنت أسمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( الطعام بالطعام مثل بمثل ) علق الحكم باسمي الطعام ، والحكم المعلق بالاسم المشتق معلل بما منه الاشتقاق كالقطع المعلق باسم السارق ، والجلد المعلق باسم الزاني ، والقديم أن العلة فيها الطعم مع الكيل أو الوزن لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الذهب بالذهب وزناً بوزن والبر بالبر كيلاً بكيل ) فعلى هذا يثبت الربا في كل مطعوم مكيل أو موزون دون ما ليس بمكيل ولا موزون كالسفرجل والرمان والبيض ولاجوز ، وقال مالك : العلة الاتقيات ، فكل ما هو قوت أو يستصلح به القوت كالملح يجري فيه الربا .
وعند أبي حنيفة العلة الكيل حتى ثبت الربا في الجص والنورة ، وعن أحمد رواية كأبي حنيفة والأخرى كالجديد ، وأما النقدان فعن بعض الأصحاب أن العلة فهيما لعينهما لا لعلة والمشهور أن العلة فيهما صلاحية الثمنية الغالبة فيشمل التبر والمضروب والحلي والأواني المتخذة منها ، ولا يتعدى الحكم إلى الفلوس على الأصح وإن راجب رواج الذهب والفضة لانتفاء العلة .
وقال أحمد وأبو حنيفة : العلة فيهما الوزن فيتعدى الحكم إلى كل موزون كالحديد والرصاص .
فهذا ضبط المذاهب وتفاريعها إلى الفقه .
وأما السبب في تحريم الربا(2/61)
" صفحة رقم 62 "
فهو أن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة يحصل له زيادة درهم من غير عوض ، وأخذ مال المسلم من غير عوض محرم لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( حرمة مال المسلم كحرمة دمه ) وإبقاء رأس المال في يده مدة مديدة وتمكينه من أن يتجر فيه وينتفع به أمر موهوم فقد يحصل وقد لا يحصل ، وأخذ الدرهم الزائد متيقن وتفويت المتيقن لأجل الموهوم لا يخلو من ضرر .
وقيل : سبب تحريمه أنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب ، لأن صاحب الدرهم إذا تكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقداً أو نسيئة أعرض عن وجوه المكاسب فيختل نظام العالم .
وقيل : لما يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض ، ولأنه تمكين للغني من أن يأخذ مالاً زائداتً من الفقير .
وقيل : إن حرمة الربا قدد ثبتت بالنص ولا يجب أن تكون حكمة كل تكليف معلومة لنا .
) لا يقومون إلا كما يتخبطه الشيطان من المس ( التخبط الضرب على غير استواء ومنه خبط العشواء وتخبط الشيطان .
قيل : من زعمات العرب يزعمون أن الشيطان يبخط الإنسان فيصرع فورد على ما كانوا يعتقدون .
والمس الجنون رجل ممسوس أي مس الجني فاختلط عقله ، وكذلك جن الرجل ضربته الجن وهذا أيضا من زعماتهم .
وقيل : من عادة الناس إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان كما في قوله تعالى : ( طلعها كأنه رؤوس الشياطين ) [ الصافات : 65 ] فورد القرآن على ذلك .
وقيل : إن الشيطان يمسه بالوسوسة المؤذية التي يحدث عندها الفزع فيصرع كما يصرع الجبان في الموضع الخالي ، ولهذا لا يوجد هذا الخبط في العقلاء وأرباب الحزم واللب ، وأكثر المسلمين على أن الشيطان لا يبعد أن يكون قوياً على الصرع والقتل والإيذاء بتقدير الله تعالى .
وللمفسرين في الآية أقوال : أحدها أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف .
وقوله ( من المس ( يتعلق ب ) يقوم ( أي كما يقوم المصروع من جنونه ، وقال ابن قتيبة : يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم فأثقلهم .
وقيل : إنه مأخوذ من قوله تعالى : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ) [ الأعراف : 201 ] وذلك أن الشيطان يدعوه إلى الهوى ، والملك يجره إلى التقوى ، فيقع هناك حركات مضطربة وأفعال مختلفة وهو الخبط ، فإذا مات آكل الربا على ذلك أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذلك الحجاب بينه وبين الله(2/62)
" صفحة رقم 63 "
تعالى .
) ذلك ( العقاب بسبب قولهم ) إنما البيع مثل الربا ( وذلك أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في احل حتى شبهوا به البيع وإلا كان حق النظم في الظاهر أن يعكس فيقال : إنما الربا مثل البيع .
لأن الكلام في الربا لا في البيع ، ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ، ثم إنهم كانوا يعولون في تحليل الربا على هذه الشبهة وهي أن من اشترى ثوباً بعشرة ثم باعه بأحد عشر نقداً أو نسيئة فهذا حلال ، فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر لا فرق بين الصورتين إذا حصل التراضي من الجانبين ، والبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات .
ولعل الإنسان يكون صفر اليد في الحال وسيحصل له أموال كثيرة في المآل فإعطاؤه الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال .
فأجاب الله تعالى عنها بحرف واحد وهو قوله : ( وأحل الله البيع وحرم الربا ( وحاصلة إنكار التسوية وأن النصر لا يعارض بالقياس فإن ذلك من عمل إبليس ، أمره الله تعالى بالسجود فعارض النص بالقياس وقال أنا خير منه ، ثم ظاهر الآية يدل على أن الوعيد إنما لحقهم باستحلالهم الربا دون الإقدام على أكله مع اعتقاد التحريم ، وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون أكل الربا من الكبائر ، وبجب تأويل مقدمة الآية بأن المراد من أكلهم الربا استطابته واستحلاله كما يقال : فلان يأكل مال الله قضماً وهضماً .
أي يستحل التصرف فيه إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا لا على وعيد من يستحل هذا العقد .
قيل : ويحتمل أن يكون قوله ) وأحل الله البيع وحرم الربا ( من تمام كلام الكفار على سبيل الاستبعاد .
وأكثر المفسرين على خلافه لأن جعله من كلام الكفار لا يتم إلا بإضمارهو أن يحمل ذلك على الاستفهام بطريف الإنكار ، أو على الرواية عن قول المسلمين والإضمار خلاف الأصل .
وأيضاً لو كان من تمام كلامهم فلم يكشف الله تعالى عن فساد شبهتهم ، فلم يكن قوله بعد ذلك ) فمن جاءه موعظة من ربه ( لائقاً بالمقام وأيضاً المسلمون لم يزالوا متمسكين في البيع بهذه الآية ، ولولا أنهم علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار لم يصح منهم الاستدلال بها .
وههنا بحث للشافعي وهو أن الآية من المجملات التي لا يجوز التمسك بها بناء على أن الاسم المفرد باللام لا يفيد العموم وليس فيه إلا تعريف الماهية فيكفي في العمل به ثبوت صورة واحدة .
ولو سلم إفادة العموم فلا شك أن إفادته مما لو قيل : وأحل الله البياعات : بلفظ الجمع .
ومع ذلك فقد تطرق إليه تخصيصات خارجة عن الحصر والضبط ، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله لأنه قريب من الكذب .
نعم إطلاق اللفظ المستغرق على الأغلب عرف مشهور ، وأيضاً روي أن عمر قال : خرج الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الدنيا وما سألناه عن البا .
ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم لم يقل(2/63)
" صفحة رقم 64 "
ذلك .
وأيضاً قوله ) وأحل الله البيع ( يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً ، وقوله : ( وحرم الربا ( يقتضي أن يكون كل رباً حراماً .
لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلى ويقصد به الزيادة ، وإذا تعارضا وتساقطا ووجب الرجوع إلي بيان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
) فمن جاءه موعظة ( فنم بلغه وعظ ) من ربه فانتهى ( امتنع من استحلال الربا وتبع النهي ) فله من سلف ( فلا يؤاخذ بما مضى منه لأنه أخذ قبل نزول التحريم كقوله ) أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) [ الأنفال : 38 ] عن الزجاج : والتنوين في ) موعظة ( للتعظيم أو للتقليل أي موعظة بليغة أو شيء من المواعظ .
وقيل : النهي المتأخر كيف يؤثر في الفعل المتقدم حتى يكون ما سلف ذنباً ؟ فالمراد له ما أكل من الربا وليس عليه رد ما سلف .
عن السيد : والسلوف التقدم ومنه الأمم السالفة ، وقيل : النهي المتأخر كيف يؤثر في الفعل المتقدم حتى يكون ما سلف ذنباً ؟ فالمراد له ما أكل من الربا وليس عليه رد ما سلف .
عن السدي : والسلوف التقدم ومنه الأمم السالفة ، وسلافة الخمر صفوتها لأنه أول ما يخرج من عصيرها ، ) وأمره إلى الله ( لأنه إن انتهى عن أكل الربا كما انتهى عن استحلاله فهو المقر بدين الله العامل بتكليف فيستحق المدح والثواب ، وإن انتهى عن الاستحلال دون الأكل فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له لقوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] ( ومن عاد ( إلى استحلال الربا وأنه مثل البيع ) فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( لأنه كفر باستحلال ما هو محرم إجماعاً .
وأما القائلون بتخليد الفساق فيقولون : ومن عاد إلى أكل الربا. ثم إنه تعالى لما بالغ في الزجر عن الربا وكان قد بالغ في الآي السالفة في الحث على الصدقات ، ذكر ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الربا وفعل الصدقة فقال ) يمحق الله الربا ويربي الصدقات ( والمحق نقص الشيء حالاً بعد حال ومه ( محال القمر ) وكل من محق الربا وإرباء الصدقات إما في الدنيا وإما في الآخرة .
وذلك أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تؤل عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن ماله .
عن ابن مسعود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الربا وإن كثر إلى قل ) وذلك لدعاء الناس عليه وبغضهم إياه لسقوط عدالته وشهرته بالفسق والعدوان ، وربما يطمع الظلمة في ماله ظناً منهم من أن المال في الحقيقة ليس له .
وعن ابن عباس في تفسير هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهاداً ولا حجاً ولا صلة .
ثم إن مال الربا لا يبقى عند الموت وتبقى التبعية عليه .
وقد ثبت في الحديث ( أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام ) هذا حال الغني من الحلال فكيف حال الغني من الحرام المقطوع بحرمته ؟ قال القفال : نظير قوله ) يمحق الله الربا ( المثل الذي ضربه فيما تقدم ) كمثل صفوان عليه تراب ) [ البقرة : 264 ] ونظير قوله : ( ويربي الصدقات ( المثل الآخر ) كمثل جنة بربوة كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ) [ البقرة : 261 ] عن أبي هريرة(2/64)
" صفحة رقم 65 "
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله يقبل الصدقات منها إلا الطيب ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد ) وأيضاً المتصدق يزداد كل يوم جاهه وذكره الجميل وتميل القلوب إليه وتنقطع الأطماع هنه متى اشتهر منه أنه متشمر لإصلاح مهمات الضغفاء وسد خلة الفقراء ، فتبين أن الربا وإن كان زيادة في المال إلا أنه نقصان في المآل ، والصدقة وإن كانت نقصاناً في الحال إلا أنها زيادة في الاستقبال .
فعلى العاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الحس والطبع ويعوّل على ما ندب إليه العقل والشرع ) والله لا يحب كل كفار أثيم ( الكفار فعال من الكفر ومعناه المقيم على ذلك ، والصيغة للمزاولة ك ( تمار وقوال ) والأثيم ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) وهو أيضا للمبالغة في الاستمرار على اكتساب الآثام ، وذلك لا يليق بمن ينكر تحريم الربا فيكون جاحداً .
ووجه آخر وهو أن يكون الكفار عائداً إلى المستحل ، والأثيم إلى الآكل مع اعتقاد التحريم .
ويحتمل أن يعود كلاهما إلى أكل الربا ويكون تغليظاًَ في امر الربا وإيذاناً بأنه من فعل الكفرة لا من فعل المسلمين .
وفي لآية دلالة على أنه تعالى سبقت رحمته غضبه .
بيانه أنه لم ينف المحبة إلى عن الجامع بين الإصرار على الكفر وبين المواظبة على سائر الآثلام كالربا .
فإن استحلاله كفر وهو في نفسه إثم مذموم في جميع الأديان ، لأنه سلب مال المحتاج بنوع من الإكراه والإلجاء ، فتبقى الآية ساكنة عمن جمع بين الأمرين لا على سبيل الإصرار والمواظبة وعن الذي لم يجمع بينهما ، نعم قد عرف بدليل آخر أن الكفار الذي لم يواظب على سائر الآثام لا يستأهل محبة الله تعالى وذلك لا ينافي السكوت عن حكمه ههنا والله أعلم .
ثم ذكر الترغيب عقيب الترهيب على عادته من ذكر الوعد مع الوعيد فقال ) إن الذين آمنوا وعمولا الصالحات ( الآية .
فاحتج به من قال العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان كما مر وأجيب بأنه قال في الآية : ( وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ( مع أن الصلاة والزكاة من الأعمال الصالحة .
ورد بأن الأصل حمل كل لفظ على فائدة جديدة ترك العمل به عند التعذر فيبقى في غيره على الأصل ) لهم أجرهم عند ربهم ( لم يقل ( على ربهم ) لأن الأول يجري مجرى ما إذا باع بالنقد وذلك النقد حاضر متى شاء البائع أخذه ، والثاني جارٍ مجرى البيع في الذمة نسيئة ، ولا شك أن الأول أفضل ) ولا خوف عليهم ( عن ابن عباس : أي فيما يستقبلهم من أحوال القيامة ) ولا هم يحزنون ( بسبب ما تركوه في الدنيا ، فإن المنتقل من حال إلى حال أخرى فوقها ربما يتحسر على بعض ما فاته من الأحوال السالفة وإن كان مغًّتبطاً بالثانية(2/65)
" صفحة رقم 66 "
لأجل إلف وعادة ، فبيّن تعالى أن هذا القدر من الندامة لا يلحق أهل الثواب والكرامة ، وقال الأصم : لا خوف عليهم من عذاب يومئذٍ ولا هم يحزنون بسبب أنهم فاتهم النعيم الزائد الذي حصل لغيرهم من السعداء لأنه لا منافسة في الآخرة ، وأيضاً إنهم لا يحزنون بسبب إنه لم يصدر منا طاعة أزيد مما صدر حتى صرنا بها مستحقين بثواب أزيد مما وجدناه لأن هذه الخواطر لا توجد في الجنة .
وههنا سؤال وهو أن المرأة إذا بلغت عارفة بالله ، وقبل أن تجب عليه الصلاة حاضت .
وعند انقطاع حيضها ماتت .
أو الرجل بلغ عارفاً بالله ، وقبل أن تجب عليه الصلاة والزكاة مات .
فهما بالاتفاق من أهل الثواب مع خلوهما عن الأعمال ، فكيف وقف الله ههنا حصور الأجر على حصول الأعمال ؟ والجواب أن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها ، وقد دلت الآية على أن كل مؤمن عمل صالحاً فله الأجر فلا يلزم العكس الكلي ثم إنه تعالى لما بيَّن أن من انتهى عن الربا فله ما سلف كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة القوم فقال ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ( فبين أنه يحرم أخذ ما بقي من الربا في ذمتهم .
فإن قيل : كيف قال ) يا أيها الذين آمنوا ( ثم قال في آخره ) إن كنتم مؤمنين ( ؟ فالجواب أن هذا كما يقال : إن كنت أخي فأكرمني ، معناه أن من كان أخاً أكرم أخاه .
ومعناه إذ كنتم مؤمنين أو إن كنتم تريدون استدامة الحكم لكم بالإيمان ، أو يا أيها الذين آمنوا بلسانكم ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم .
قال القاضي : وفيه دلالة على أن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة ، وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق متى تجنب كل الكبائر ، وأجيب بأن المراد إن كنتم مؤمنين بقلوبكم .
قال القاضي : وفيه دلالة على أن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة ، وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق متى تجنب كل الكبائر ، وأجيب بأن المراد إن كنتم عاملين بمقتضى الإيمان .
وهذا بناء على أن العمل الصالح غير داخل في مسمى الإيمان ، وإنما شدد الله في ذلك لأن المنتظر لحلول الأجل إذا حضر الوقت وطن نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له ففطامه عنها يكون شديداً عليه فقال ) اتقوا الله ( واتقاؤه إنما يكون باتقاء ما نهى عنه .
وهذه الآية أصل كبير في أحكام الكفار .
إذا أسلموا ، فإن ما مضى في الكفر يبقى ولا ينقص ولا ينسخ ، وما لم يوجد منه في حال الكفر فحكمه محمول على الإسلام ، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ولا يجوز في الإسلام فهو عفو لا يتعقب وإن كان النكاح وقع على مهر حرام قبضبته المرأة فقد مضى ، وإن كانت لم تقبضه فلها مهر مثلها دون ما سمى وهذا مذهب الشافعي .
وأما سبب نزول الآية فعن ابن عباس : بلغنا - والله أعلم - أنها نزلت في بني عمرو بن عمير من ثقيف وفي بني المغيرة بني مخزوزم .
كانت بنو المغيرة يربون لثقيف ، فلما أظهر الله ورسوله على مكة وضع يومئذ الربا كله فأتى بنو عمرو بن عمير وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة فقال بنو المغيرة : ما جعلنا أشقى الناس بالربا أوضع عن(2/66)
" صفحة رقم 67 "
الناس غيرنا .
فقال بنو عمر : وصولحنا على أن لنا ربنا ، فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية والتي بعدها ) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ( فعرف بنو عمرو أن لا يدان لهم بحرب من الله ورسوله ، وقال عطاء وعكرمة : نزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وكانا قد أسلفا في التمر ، فلما حضر الجداد قال لهما صاحب التمر : لا يبقى لي ما يكفي عيالي إن أنتما أخذتما حقكما كله .
فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما ؟ ففعلا .
فلما جاء الأجل طلبا الزيادة فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنهاهما ونزلت الآية فسمعا وأطاعا وأخذ رؤوس أموالهما .
وقال السدي : نزلت في اعباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب ) ) فإن لم تفعولا فأذنوا ( قيل : خطاب مع الكفار المستحلين للربا .
ومعنى قوله : ( إن كنتم مؤمنين ( معترفين بتحريم الربا ) فإن لم تفعلوا ( أي فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه ) فأذنوا ( ومن ذهب إلى هذا القول قالك فيه دليل على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام فهو خارج عن الملة كما لو كفر بجميع شرائعه ، وعلى هذا يكون مالهم فيئاً للمسلمين .
وقيل : خطاب مع المؤمنين المصرين على معاملة الربا لأنه خطاب مع قوم تقدم ذكرهم وما هم إلا المخاطبون بقوله : ( يا أيها الذين آمنوأ ( ومعنى قوله : ( فآذنوا ( عند من جعله من الإيذان أعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ، فالمفعول محذوف .
وإذا أمروا بإعلام غيرهم أيضا قد علموا ذلك ، لكن ليس في علمهم دلالة علي إعلام غيرهم .
فهذه القراءة في الإبلاغ آكد بالمحاربة مع المسلمين ؟ قلنا : هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر ( من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ) وعن جابر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله ) وقد جعل كثير من المفسرين والفقهاء قوله ) إنما جزاء الدين يحاربون الله ورسوله ) [ المائدة : 33 ] أصلاً في قطاع الطريق من المسلمين .(2/67)
" صفحة رقم 68 "
فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب الله وسنة رسوله ، ثم التفضيل فيه أن المصر على عمل الربا إن كان شخصاً قدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى عليه حكم الله من التعزير والحبس إلى أن تظهر منه التوبة ، وإن كان له عسكر وشوكة حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية ، وكما حارب أبو بكر مانعي الزكاة ، وكذا القول لو أجمعوا على ترك الأذان وترك دفن الموتى فإنه يفعل بهم ما ذكرناه ) وإن تبتم ( من استحلال الربا أو عن معاملة ) فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون ( الغريم يطلب زيادة على رأس المال ) ولا تظلمون ( أنتم بنقصان رأس المال .
) وإن كان ذو عسرة ( إن وقع غريم من غرمائكم ذو إعسار على أن ( كان ) هي التي تسمى تامة بمعنى وجد الشيء وحدث في نفسه لا بمعنى وجد موصوفاً بشيء فإنه حينئذٍ تكون ناقصة تحتاج إلى الخبر ، وقرأ عثمان ) ذا عسرة ( بمعنى وإن كان الغريم أو المستربي ذا عسرة .
والقراءة المشهورةة أولى كيلا تكون النظرة مقصورة على الغريم المستربي بل تعمه وغيره من أرباب العسرة وهي اسم من الإعسار وهو تعذر الموجود من المال .
والنظرة التأخير والإمهال وفي الآية حذف والتقدير : فالحكم أو فالأمر نظرة .
وقرىء ) فنظرة ( بسكون الظاء ، وقرأ عطاء ) فناظره ( على الأمر أي سامحه بالإنظار وناظره أي صاحب الحق ناظره أي منتظره ، أو ذو نظرته مثل مكان عاشب أي ذو عشب .
والميسرة اليسار ضد الإعسار .
وقرىء بضم السين كمقبرة ومقبرة ، ومن قرأ بالإضافة إلى الضمير فقد حذف التاء كقوله : ( وأقام الصلاة ( واختلفوا في أن حكم الإنظار مختص بالربا أو عام في الكل ؟ فعن ابن عباس وشريح والضحاك والسدي وإبراهيم : الآية في الربا .
قال الكلبي : قال بنو عمرو لبني المغيرة : هاتوا رؤوس أموالنا ولكم الربا ندعه لكم .
فقال بنو المغيرة : نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى ن تدرك الثمرة فأبوا أن يؤخروهم فنزلت ) وإن كان ذو عسرة ( وعن مجاهد وسائر المفسرين أنها عامة في كل دين ، ولهذا ورد ( كان ) تامة ، ولو فرض أن سبب النزول خاص فلا بد من ألحاق سائر الصور به لأن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به وهو قول أكثر الفقهاء كمالك وأبي حنيفة والشافعي .
والإعسار في الشرع هو أن لا يجد في ملكه ما يؤديه بعينه ولا يكون له ما لو باعة لأمكن أداء الدين من ثمنه ، فمن وجد داراً أو ثوباً لا يعد من ذوي العسرة إذا أمكنه بيعها وأداء ثمنها ، ولا يجوز له أن يحبس إلا قوت يومه لنفسه وعياله وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع الحر والبرد عنهم ، وهل يلزمه أن يؤخر نفسه من صاحب الدين أو غيره ؟ الأصح أنه لا يلزمه ، وكذا لو بذل له غيره ما يؤديه لا يلزمه القبول .
فأما من له بضاعة كسدت عليه فواجب عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يمكن إلا ذلك ، وإذا علم الإنسان أن(2/68)
" صفحة رقم 69 "
غريمه معسر حرام عليه حبسه وأن يطالبه بما له عليه ووجب الإنظار إلى وقت اليسا فأما إن كان غريمه في إعساره جاز أن يحبسه إلى ظهور الإعسار ، وإذا ادعى الإعسار وكذبه الغريم فإن كان الدين الذي حصل لزمه حصل له عن عوض كالبيع أو القرض فلا بد له من إقامة شاهدين عدلين على أن ذلك العوض قد هلك ، فإن لم يكن عن عوض كإتلاف وضمان وصداق فالقول قوله وعلى الغريم لابينة ، لأن الأصل هو الفقر ، ) وأن تصدقوا ( على المعسر بما عليه من الدين يدل على ذلك ذكر المعسر وذكر رأس المال ) خير لكم ( لحصول الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى ) إن كنتم تعلمون ( أن هذا التصدق خير لكم فتعملوا به جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه ، أو تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض بعده ، أو تعلمونأن ما يأمركم به ربكم أصلح لكم ، وقيل : المراد بالتصديق الإنظار لقوله عليه السلام : ( لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة ) وزيف بأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية الأولى فلا بد من فائدة جديدة ولأن قوله ) خير لكم ( إنما يليق بالمندوب لا بالواجب ، ثم إن المعاملين بالربا كانوا أصحاب شرف وجلالة وأعوان وتغلب على الناس ، فاحتاجوا إلى مزيد زجر ووعيد فلا جرم وقع ختم أحكام الربا بقوله ) واتقوا يوماً ( والمراد اتقاء ما يجدث فيه من الشدائد والأهوال .
واتقاء ذلك لا يمكن إلا باجتناب المعاصي وفعل الأموامر في الدنيا فهذا القول يتضمن الإتيان بجميع التكاليف .
وانتصب ) يوماً ( على أنه مفعول به. والمعنى : تأهبوا بما تسلفون من العمل الصالح للقاء يوم ) ترجعون فيه إلى الله ( أي إلى ما أعد لكم من ثواب أو عقاب ، وإلى علمه وحفظه وذلك أن الإنسان له أحوال ثلاث على الترتيب : الأولى كونه جنيناً لا يملك تصرفاً لا تصرف فيه إلا لله ، والثانية خروجه إلى فضاء وهنالك يرى للأبوين لغيرهما تصرف فيه ظاهر .
الثالثة ما بعد الموت وهنالك لا يكون التصرف فيه ظاهراً وفي الحقيقة إلا لله تعالى فكأنه عاد إلى الحالة الأولى .
وهذا معنى الرجوع إلى الله ) ثم توفى كل نفس ما كسبت ( أي جزاء ذلك أو المكتسب هو الجزاء كما يقال : كسب الرجل لما يحصله بتجارته .
والمراد أن كل مكلف فإنه يصل إليه جزاء عمله بالتمام عند الرجوع إلى الله تعالى كقوله : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) [ الزلزلة : 7 ، 8 ] ثم كان لقائل أن يقول : كيف يليق بأكرم الأكرمين إيصال العذاب إلى عبيده الكفار والفساق فقال ) وهم لا يظلمون ( بل العبد هو الذي أوقع نفسه في تلك الورطة لأن الله تعالى مكنه وأزاح عذره وسهل طريق الاستدلال عليه وأمهل .
هذا على أصول المعتزلة .
وأما على أصول الأصحاب فهو إشارة إلى أنه تعالى ملك الملوك وخالق الخلائق ، والملكإذا تصرف في ملكه كيف شاء وأراد لم يكن ظلماً .
عن ابن عباس أنها آخر آية نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نزل بها جبريل وقال :(2/69)
" صفحة رقم 70 "
ضعها على رأس المائتين والثمانين من البقرة ، وعاش ( صلى الله عليه وسلم ) بعدها أحداً وثمانين يوماً ، وقيل أحداً وعشرين ، وقيل سبعة أيام ، وقيل ثلاث ساعات ، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال .
التأويل : أخبر عن حرص أهل الدنيا وهم أكلة الربا بعد ذكر قناعة أهل العقبة ، فمثل آكل الربا كمثل من به جوع الكلب يأكل ولا يشبع حتى ينتفخ بطنه ويثقل عليه فلا يقوم إلا كما يقوم المصروع لأنه كلما أقام صرعه ثقل بطنه ، ومثله قوله عليه السلام : ( إن هذا المال خضر حول وإن مما ينب الربيع يقتل حبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت فمن أخذه بحقه ووضعه بحقه فنعم المعونة هو ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ) وفي الحديث مثلان : أحدهما للمفرط في جميع الدنيا بحيث يفضي به إلى الهلاك في الدنيا والعقبة وأشار إليه بقوله : ( وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطاً أو يلم ) وذلك أن الربيع ينبت أحرار البقول فتستكثر منها الماشية لاستطابتها إياها حتى تنتفخ بطونها عند مجاوزتها حد الاعتدال فننشق أمعاؤها فتهلك أو تقارب الهلاك .
والمثل الآخر للمقتصد وذلك قوله ( إلا آكلة الخضر ) وذلك أن الخضر ليست من أحرار البقول وجيدها التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره ولكنها من كلإ الصيف التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ويبسها حيث لا تجد سواها ، فلا ترى الماشية تكثر منها وهو مثل التاجر الذي يكتسب المال بطريق البيع والشراء ويؤدي حقه وإن كان له حرص في الطلب ولاجمع ، ولكن لما كان بأمر الشرع وطريق الحل ما أضربه ) وأحل الله البيع وحرم الربا ( يعين كيف يكون ما أزال نور الأمر ظلمته مثل ما زاد ظلمته أرتكاب المنهي ؟ فمرتكب الربا في ظلمات ثلاث : ظلمة الحرص وظلمة الدنيا وظلمة المعصية ) وأمره إلى الله ( يرزقه من حيث لا يحتسب ) والله لا يحب كل كفار ( بنعمة الشرع وأنواره ) أثيم ( عامل بالطبع مقيم في ظلمة إصراره .
ثم أخبر عن العاملين بالشرع الخارجين عن الطبع الذين آمنوا إيمان التصديق بالتحقيق مقروناً بالتوفيق ، ثم خرجوا عن ظلمة اتباع الهوى بإقامة الصلاة وعالجوا ظلمة الركون إلى الدنيا بأنوار إيتاء الزكاة ، فجذبتهم العناية من حضيض العبدية إلى ذروة العندية ) ولهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ( من الرجوع إلى ظلمات الطبيعة ) ولا هم يحزنون ( لفوات أنوار الشريعة ، ثم أخبر عن أهل إلإيمان المجازي فقال ) يا أيها الذين آمنوا ( باللسان ) اتقوا الله ( أي بالله كما جاء .
( كمنا إذا احمرّ البأس اتقيان برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أي جعلناه قدامنا ، ومن شرط المؤمن الحقيقي اتقاؤه بالله في ترك(2/70)
" صفحة رقم 71 "
الزيادات كما قال : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) و ) ذروا ما بقي من الربا ( تركوا ما سوى الله في طلبه ) إن كنتم مؤمنين ( إيماناً حقيقياً ) فإن لم تفعلوا ( لم تتركوا كل زيادة تمنعكم ) فأذنوا بحرب من الله ورسوله ( ببعد منها وبغض .
) وإن تبتم ( تركتم غيره ) فلم رؤس أموالكم ( وهي الكرامة التي فضلكم بها على كثير من خلقه وهي المحبة يحبهم ويحبونه ) لا تظلمون ( بوضع محبتي في غير موضعها من المخلوقات ) ولا تظلمون ( بوضع محبتكم في غير موضعها ) وإن كان ذو عسرة ( لم يصل إليه ما أعد لأجله عاجلاً ) فنظرة إلى ميسرة ( وهو وقت وصوله إليه آجلاً ) وأن تصدقوا ( بتذلوا فينا ما تتمنون من صنوف برنا في الدنيا والعقبى على قدر همتكم ) فهو خير لكم ( لأنا نجازيكم على قدر مواهبنا ) إن كنتم تعلمون ( قدرها ) ومن يتوكل على الله فهو حسبه ( ( من شغلة ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ) ثم إنه سبحانه كما جمع في القرآن خلاصة الكتب السماوية جمع في خاتمة الوحي خلاصة أي القرآن فقال : ( واتقوا يوماً ( الآية .
وذلك أن فائدة جميع الكتب راجعة إلى معنيين : النجاة من الدركات السفلى وهي سبعة : الكفر والشرك والجهل والمعاصي والأخلاق المذمومة وحجب الأوصاف وحجاب النفس .
والفوز بالدرجات العلى وهي ثمانية : المعرفة والتوحيد والعلم والطاعات والأخلاق المحمودة وجذبات الحق والفناء عن أنانيته والبقاء بهويته ، فقوله ) واتقوا ( شامل لما يتعلق بالسعي الإنساني من هذه المعاني ، لأن حقيقة التقوى مجانبة ما يبعدك عن الله ومباشرة ما يقربك إليه ، فتقى العام الخروج بسبب الإقامة بشرائط ) جاهدوا فينا ) [ العنكبوت : 69 ] عن الكفر بالمعرفة ، وعن الشرك بالتوحيد ، وعن الجهل بالعلم ، وعن المعاصي بالطاعات ، وعن الأخلاق المذمومة بالأخلاق المحمودة ، ثم من ههنا تقوى الخاص تخرجهم جذبات ) لنهدينهم سبلنا ) [ العنكبوت : 69 ] من حجب أوصافهم إلى درجة تجلى صفات الحق فيستظلون بظل سدرة المنتهى ) عندها جنة المأوى ) [ النجم : 15 ] فينتفعون بمواهب ) إذ يغشى السدرة ما يغشى ) [ النجم : 16 ] ثم من ههنا تقوى خاص الخاص فتخرجه العناية بجذبات ) ما زاغ البصر وما طغى ) [ النجم : 17 ] من سدرة المنتهى الأوصاف إلى قاب قوسين نهاية حجاب النفس وبدية أنوار القدس ، وهناك من عرف نفسه فقد عرف ربه وهو مقام أو أدنى ترجعون فيه إلى الله .
لأن مبدأ وجودك النفخة ، وآخر حالك الجذبة ، وبها(2/71)
" صفحة رقم 72 "
اصطفى آدم وكرم نبيه ولهذا لم يقل : ولقد كرمنا أولاد آدم ، لأن أهل الكرامة منهم من هو بوصف الرجال دون النساء ، ثم وصف الرجال بقوله : ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكرالله ) [ النور : 37 ] فمن كان من النساء بهذا الوصف بهذا الوصف فهو من الرجال من المعنى ، ومن لم يكن من الرجال بهذا الوصف فهو من النساء في الحقيقة ، وفي هذا الرجوع وعد وبشارة للأولياء ، وويعد وإنذار للأعداء ) ثم توفى كل نفس ما كسبت ( فبقدر مراتبه في العبودية والتقوى يهتدي إلى مقامات القرب من المولى ، وبحسب فنائه عن حجاب نفسه يبقى ببقاء ذاته وهويته ، ) وهم لا يظلمون ( فإن دخول النور في البيت وخروج الظلمةمنه إنما يكون على مقدار سعة فتح الروزنة وضيقة ولا تظلم الشمس عليه مثقال ذرة ) فأما ن طغى وآثر الحياة الدنيا فان الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) [ النازعات : 37 ، 41 ]
( البقرة : ( 282 - 283 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم "
( القراآت )
أن يمل ( هو بسكون الهاء : قتيبة والحلواني عن قالون .
الباقون بالضم على الأصل ) أن تضل ( بكشر الهمزة على الشرط : حمزة والمفضل .
الباقون بالفتح على أنها ناصبة ) فتذكر ( بالتشديد والرفع : حمزة جبلة ) فتذكر ( بالرفع ، ومن الإذكار : أبو زيد عن المفضل ) فتذكر ( من الإذكار وبالنصب : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وقتيبة .
الباقون ) فتذكر ( بالتشديد والنصب .
) تجارة حاضرة ( بالنصب فيهما : عاصم .(2/72)
" صفحة رقم 73 "
الباقون بالرفع فيهما ) فرهن ( بضم الراء والهاء : ابن كثير وأبو عمرو .
الباقون ) فرهان ( الوقوف : ( فاكتبوه ( ط ، للعدول .
) بالعدل ( ص ، لعطف المتفقين ) فليكتب ( ج ) شيئا ( ط .
) بالعدل ( ط ، ) من رجالكم ( ج للشرط مع فاء التعقيب ) الأخرة ( ط ) دعوا ( ط للعدول ) أجله ( ط ) ألا تكتبوها ( ط لابتداء الأمر .
) تبايعتم ( ص لعطف المتفقين ) ولا شهيد ( ط ) بكم ( ط ) واتقوا الله ( ط ه ، ) ويعلكم الله ( ط ) عليم ( ه ، ) مقبوضة ( ط لابتداء شرط واستئناف معنى آخر ) ربه ( ط للعدول ) الشهادة ( ط ) قلبه ( ط ) عليم ( ه .
التفسير : الحكم الثالث المداينة ، وسبب النظم أن الحكمي المتقدمين وهما الإنفاق وترك الربا كانتا سببين لنقصان المال ، فأرشد الله تعالى في هذه الآية بكمال رأفته إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن التلف والبوار ورعاية وجوه الاحتياط ، فإن مصالح المعاش والمعاد متوقفة على ذلك ، ولهذه الدقيقة بالغ في الوصاية وأطنب ، عن ابن عباس أن المراد به السلم وقال : لما حرم الربا أباح السلم وأنزل فيه أطول آية .
ولهذا قال بعض العلماء : لا لذة ولا منفعة يتوصل إليها بالطريق الحرام إلا وجعل الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثلها طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً .
والتداين تفاعل من الدين .
يقال : داينت الرجل إذا عاملته بدين معطياً أو آخذاً .
والمراد إذا تعاملتم بما فيه دين .
وذلك أن البياعات على أربعة أوجه : أحدها بيع العين بالعين وذلك ليس بمداينة البتة ، والثاني بيع الدين بالدين وهو باطل فيبقى ههنا بيعان : بيع العين بالدين وهو ما إذا باع شيئاً بثمن مؤجل ، وبيع الدين بالعين وهو المسمى بالسلم وكلاهم داخلان تحت الآية .
وأما القرض فلا يدخل فيه وإنه غير الدين لغة فإن الدين يجوز فيه الأجل .
والقرض لا يجوز فيه الأجل .
والفائدة في قوله : ( بدين ( تخليصه من التداين بمعنى المجازاة ، أو التأكيد مثل ) ولا طائر يطير بجناحيه ) [ الأنعام : 38 ] أو ليشمل أي دين كان صغيراً أو كبيراً سلماً أو غيره ، وفي الكشاف : فائدته رجوع الضمير إليه في قوله : ( فاكتبوه ( إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن .
ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال فإنه كالمطابقة ، ودلالة تداينتم على ذلك كالتضمن .
وقيل : ليكون المعنى تدايناً يحصل فيه دين واحد فيخرج بيع الدين بالدين وإنما يقل كلما تداينتم ليكون نصاً ي العموم لأن الكلية تفهم من بيان العلة في قوله : ( ذلكم أقسط عند الله ( فإن العلة قائمة في الكل فيكون الحكم حاصلاً في الكل ، أو نقول : العلة هي التداين والعلة لا ينفك عنها معلوها فتكون القضية كلية كما في قوله : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) [ المائدة : 6 ] والأجل مدة الشيء ومنه أجل الإنسان لمدة عمره .(2/73)
" صفحة رقم 74 "
وفائدة قوله ) مسمى ( أن يعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوماً كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام .
وأنه لو قال إلى الحصاد أو قدوم الحاج لم يجز لعدم التسمية .
ثم إنه تعالى أمر في المداينة بشيئين : الكتبة والاسشهاد ليكون كلا المتداينين أوثق وآمن من النسيان والتفاوت والتخالف في مقدار الدين وفي انقضاء الأجل وفي سائر ما تشارطا عليه ، وهذا الأمر قيل للوجوب وهو مذهب عطاء وابن جريج والنخعي ، وجمهور المجتهدين على أنه للندب لإجماع المسلمين قديماً وحديثاً على البيع بالأثمان المؤجلة من غير كتبة ولا إشهاد ، ولأن في إيجابهما حرجاً وتضييقاً ، وقيل : كانا واجبين فنسخا بقوله : ( فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته ( وهذا مذهب الحسن والشعبي والاحكم بن عتيبة ، أما المخاطب بقوله : ( فاكتبوه ( فليس كل أحد لوجود أميين كثيرين في الدنيا ، بل نم له استئهال لكتبه ولهذا قال : ( وليكتب بينكم كاتب ( وليس ذلك أيضاً على الإطلاق ولكنه يجب أن يكون الكاتب متصفاً بالعدل فيكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص عنه ولا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر ، ويحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد منها وهذا بالحقيقة أمر للمتداينين بتخير الكاتب وأن لا يستكتبوا إلا فقيهاً أدبياً ديناً .
قال بعض الفقهاء : العدل أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين المجتهدين ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله ) ولا يأب كاتب ( ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى التنكير في كاتب ) أن يكتب ( وقوله ( كما علمه الله ( إما أن يكون متعلقاً بما قبله فالتقدير : ولا يأب كاتب أن يكتب مثل ما علمه الله تعالى فيقع قوله بعد ذلك ) فليكتب ( تأكيداً للأول أي فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله تعالى إياهها أو بما بعده فيكون الأول نهياً عن الامتناع مطلقاً ، والثاني أمراً بالكتابة المقيدة والمطلق لا دلالة على المقيد ، فلا يكون الثاني تأكيداً للأول وإنما يكون بياناً له .
ثم النهي عن الامتناع عن الكتابة لكل كاتب إنما هو على سبيل الإرشاد والأولى تحصيلاً لحاجة المسلم وشكراً لما علمه الله من كتابة الوثائق فهو كقوله : ( وأحسن كما أحسن الله إليك ) [ القصص : 77 ] وقيل : إنه على سبيل الإيجاب ولكنه نسخ بقوله ) ولا يضار كاتب ولا شهيد ( وعن الشعبي أنه فرض كفاية فإن لم يجد إلا كاتباً واحداً وجبت الكتابة عليه ، وإن وجد أشخاصاً فالواجب كتابة أحدهم .
وقيل : متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله يعني أنه بتقدير أن يكتب ، فالواجب أن يكتب كما علمه الله وأن لا يخل بشرط من الشروط كيلا يضيع مال المسلم بإهماله .
واعلم أن الكتابة بعد حصول الكاتب العارف بشروط الصكوك والسجلات لا تتم إلا بإملاء من عليه الحق ليدخل في جملة إملائه اعترافه بمقدار الحق وصفته وأجله إلى غير ذلك ، فلهذا قال سبحانه ) وليملل الذي عليه الحق ( والإملال والإملاء لغتان : قال الفراء : أمللت عليه الكتاب(2/74)
" صفحة رقم 75 "
لغة الحجاز وبني أسد ، وأمليت لغة بني تميم وقيس ، وقد نطق القرآن بهما .
قال : ( فهي تملي عليه بكرة وأصلا ) [ الفرقان : 5 ] ( وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً ( أمر أن لهذا المملي الذي عليه الحق بأن يقر بتمام المال الذي عليه ولا ينقص منه شيئاً .
والبخس النقص ) فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً ( محجوراً عليه لتبذيره وجهله بالتصرف وضعف عقله ) أو ضعيفاً ( صبياً أو شيخاً مختلاً ) أو لا يستطيع ان يمل هو ( أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لعيّ به أو خرس ) فليملل وليه بالعدل ( والمراد بولي الذي عليه الحق الذي يلي أمره ويقوم بمصالحه من وصي إن كان سفيهاً أو صبياً ، أو وكيل إن كان غير مستطيع ، أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه .
وفائدة توكيد المتصل بالمنفصل في قوله : ( أن يمل هو ( أنه غير مستطيع بنفسه ولكن بغيره وهو الذي يترجم عنه .
وعن ابن عباس ومقاتل والربيع أن الضمير في ) وليه ( عائد إلى الدين أي حاجة إلى الكتابة والإشهاد ؟ ثم المقصود من الكتابة هو الإستشهاد ليتمكن بالشهود من التوصل إلى تحصيل الحق إن جحد فلهذا قال تعالى : ( واستشهدوا ( أي أشهدوا .
والإشهاد والاستشهاد بمعنى ، لأن معنى استشهدته سألته أن يشهد شهيدين أي شاههدين ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) .
وإطلاق الشهيد على من سيكون شهيداً تنزيل لما يشارف منزلة الكائن ، ومعنى قوله ) من رجالكم ( أي من رجال أهل ملتكم وهم المسلمون .
وقيل يعني الأحرار ، وقيل من رجالكم الذين تعدّونهم للشهادة من أهل العدالة ) فإن لم يكونا ( أي الشهيدان رجلين ) فرجل وامرأتان ( أي فليكن أو فليشهد أو فالشاهد رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يشهدون جميع هذه التقديرات جائز حسن ذكره علي بن عيسى ) ممن ترضون من الشهداء ( وفيه دليل على أنه ليس كل أحد صالحاً للشهادة .
والفقهاء قالوا شرائط قبول الشهادة أن يكون حراً بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً عالماً بما يشهد به لا يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع مضرة عنها ، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط ولا بترك المروءة ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة ، وعن علي عليه السلام : ولا يجوز شهادة العبد في شيء وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وذلك لأنه تعالى قال ) ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ( والإجماع منعقد على أن العبد لا يجب عليه الذهاب بل يحرم عليه ذلك إذا لم يأذن له السيد ، فيعلم منه أن العبد لا يجوز أن يكون شاهداً .
وعند شريح وابن سيرين وأحمد : تجوز شهادة العبد قالوا : لأن العقل والعدالة والدين لا يختلف بالحرية والرق .
وعند أبي حنيفة يجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض على اختلاف الملل ) أن تضل ( ان لا تهتدي إحداهما للشهادة بأن(2/75)
" صفحة رقم 76 "
تنساها لغلبة البرد والرطوبة على أمزجتهن أو إحدى النفسين ، فإن الإنسان لا يخلو من النسيان ) فتذكر إحداهما الأخرى ( وانتصابه على أنه مفعول له أي إرادة أن تضل .
قال في الكشاف : فإن قلت : كيف يكون ضلالها مراداً لله ؟ قلت : لما كان الضلال سبباً للإذكار والإذكار مسبباً عنه وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما ، كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار ، فكأنه قيل : إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ونظيره قولهم ( أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه ) وفي التفسير الكبير أن ههنا غرضين : أحدهما حصول الإشهاد وذلك لا يتأتى إلا بتذكير إحدى المرأتين .
والثاني بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية وذلك لا يتأتّى بكسر ( إن ) على الشرط والجزاء فلا إشكال .
وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال ) فتذكر إحداهما ( معناه فتجعل إحداهما الأخرى ذكراً يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر ولا يخفى ما فيه من التعسف .
واعلم أن الشهادة خبر قاطع ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( على مثل الشمس فاشهد أو فدع ) وقد يقام الظن المؤكد فيه مقام اليقين ضرورة ، وقول الشاهد الواحد لا يكفي للحكم به إلا في هلال رمضان كما مر ، ولا يحتاج إلى أزيد من اثنين إلا في الزنا لقوله تعالى : ( ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) [ النور : 4 ] وقال : ( فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ) [ النساء : 15 ] ولا يعتبر فيه شهادة النساء في الحدود وغير هلال يستوي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود وغير هلال رمضان والزنا إما عقوبة أو يغرها .
فإن كان عقوبة فلا يثبت إلا برجلين لما مر من حديث الزهري يستوي فيه حق الله تعالى كحد الشرب وقطع الطريق ، وحق العباد كالقصاص والقذف ، وأما غير العقوبات فما ليس بمالي .
ولا يقصد به المال إن كان مما يطلع عليه الرجال غالباً كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والإسلام والردة والبلوغ والولاء وانقضاء العدة وجرح الشهود وتعديلهم والعفو عن القصاص ، فكل ذلك لا يثبت إلا برجلين أيضاً .
وإن كان ممن يختص بمعرفته النساء غالباً فتقبل فيه شهادتهن على انفرادهن لما روي عن الزهري أنه قال : مضت السنة أن تجوز شهادة النساء في كل شيء لا يليه غيرهن وذلك كالولادة والبكارة والثيابة والرتق والقرن والحيض والرضاع وعيب المرأة من برص وغيره تحت الإزار ، ولا يثبت شيء من ذلك بأقل من أربع نسوة تنزيلاً لاثنتين منهن منزلة رجل .
وما يثبت بهن يثبت برجل وامرأتين وبرجلين بالطريق الأولى ، وأما ما هو مال أو يقصد به المال كالأعيان(2/76)
" صفحة رقم 77 "
والديون العقود المالية منالبيع والإقالة والرد بالعيب والإجارة والوصية بالمال والحوالة والضمان والصلح والقرض ، فيثبت بشهادة رجل وامرأتين ثبوتها بشهادة رجلين ونص القرآن منزل على هذا القسم والذي قبله .
وجوز الشافعي القضاء بالشاهد واليمين لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قضى بالشاهد واليمين وأنكره أبو حنيفة ) ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ( ( ما ) زائدة مبهمة أي إذا دعوا فقيل : أي إلى أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها ، وقيل : إلى تحمل الشهادة وهو قول قتادة واختاره القفال قال : كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة ، أمر الشاهد أن لا يأبى تحمل الشهادة ، وقيل : أمر بالتحمل إذا لم يوجد غيره .
وحمله الزجاج على مجموع الأمرين : التحمل أولاً والأداء ثانياً .
والقول الأول أصح لأنه أطلق عليهم لفظ الشهداء ، والأصل في الإطلاق الحقيقة وتسميتهم قبل التحمل شهداء مجاز لا يعدل إليه إلا لضرورة .
وأيضاً التحمل غير واجب على الكل بخلاف الأداء بعد التحمل .
وأيضاً الأمر بالإشهاد يتضمن الأمر بتحمل الشهادة ، فكان صرف قوله ) ولا يأب الشهداء ( إلى الأمر بالأداء أولى ليفيد فائدة جديدة وهي أن الشاهد إن كان متعيناً وجب عليه أداء الشهادة ، وإن كان فيهم كثرة كان الأداء فرضاً على الكفاية ) ولا تسأموا ( لا تضجروا ولا تملوا أن تكتبوه أي الدين أو الحق لتقدم ذكرهما على أي حال كان الحق صغيراً أو كبيراً مما جرت العادة بكتبه لا كالحبة والقيراط ، فإن القليل من المال ربما أفضى إلى نزاع كثير ، وإنما نهى عن السآمة لأنها من الكسل والكسل صفة المنافق ، وأيضا من كثرت مدايناته فاحتاج أن يكتب لكل دين صغير أو كبير كتاباً فربما مل كثرة الكتب فاقتضى المقام ترغيبه وإلهابه ، ويجوز أن يكون الضمير للكتبا ، وأن تكتبوه مختصراً أو مشبعاً ، ولا يخلوا بكتابته إلى أجله إلى وقته الذي اتفقا على تسميته ) ذلكم ( التكب أو ذلكم الذي أمرتكم به من الكتب والإشهاد ) أقسط ( أعدل ) عند الله وأقوم للشهادة ( أعون على إقامة الشهادة وهما إما من أقسط وأقام فيكون محمولاً على قولهم ( أفلس من ابن المذلق ) وإما من قويم وقاسط بمعنى ذو قسط على طريقة النسب وإلا فالقاسط الجائر ، ولا يصح ذلك المعنى ههنا يقال : قسط إذا جار ، وأقسط أي عدل ) وأدنى ألا ترتابوا ( أقرب من انتفاء الريب .
رتب الله تعالى على الكتبة والإشهاد ثلاث فوائد : الأولى : تتعلق بالدين لأنه إذا كان مكتوباً كان إلى اليقين أقرب وعن الجهل أبعد فيكون أعدل عند الله .
والثانية تتعلق بالدنيا وهو كونه أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج وأعون للحفظ والذكر .
والثالثة أنه يدفع الضرر عن نفسه بأن لا يضل في أمره ولا يتردد ، وعن غيره بأن لا(2/77)
" صفحة رقم 78 "
ينسبه إلى الكذب والخيانة فلا يقع في الغيبة والجهالة .
فما أحسن هذه الفوائد وما أدخلها في الضبط والترتيب ) لا أن تكون تجارة حاضرة ( قيل : هو راجع إلى قوله ) إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ( إن البيع بالدين قد يكون إلى أجل قريب وقد يكون إلى أجل بعيد ، فاستثنى عن المداينة ما يكون أجله قريباً .
ويحتمل أن يكون استثناء من قوله : ( ولا تسأموا أن تكتبوه ( وقد يقال : إنه استثناء منقطع والتقدير : لكنه إذا كانت التجارة تصرف فليس عليكم جناح .
فيكون كلاماً مستأنفاً على سبيل الإضراب عن الأول .
والتجارة تصرف في المال لطلب الربح .
فسواء كانت المبايعة بدين أو بعين فالتجارة حاضرة ، فإذاً المراد بالتجارة ههنا ما يتجر فيه من الأبدال .
ومعنى إدارتها بينهم تعاطيهم إياها يداً بيد ، والمعنى إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد ، ومن قرأ ) تجارة ( بالرفع فعلى ( كان ) التامة أو الناقصة والخبر ) تديرونها ( ومن قرأ بالنصب فالتقدير إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب .
بني أسد هل تعلمون بلاءنا
إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا
أي إذا كان اليوم يوماً .
واليوم الأشنع هو الذي ارتفع شره وعلا .
وذو كواكب أي شديد .
ويقال في التهديد : لأرينك الكواكب ظهراً .
وقال الزجاج : تقديره إلا أن تكون المداينة تجارة أي يكون ديناً قريب الأجل ) فليس عليك جناح ألا تكتبوها ( ومعنى رفع الجناح عدم الضرر لا عدم الإثم إلا لزم أن تكون الكتابة المذكورة أولاً واجبة ، وقد أثبتنا خلاف ذلك .
وإنما رخص تعالى في هذال النوع من التجارة لكثرة جريانها فيما بين الناس .
فتكليفهم الكتابة والإشهاد في كل لحظة حرج عليهم مع أن خوف التجاحد في مثله قليل .
) وأشهدوا إذا تبايعتم ( هذا التبايع كأنه لما رفع عنهم الكتابة في التجارة الحاضرة ، كرر الأمر بالإشهاد ليعلم أن حكمه باق فيه الأن الإشهاد بلا كتابة تخف مؤنته .
ويحتمل أن يكون أمراً بالإشهاد مطلقاً ناجزاً كان التبايع أو كالئاً لأنه أحوط .
عن الحسن : إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد .
وعن الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل .
) ولا يضار كاتب ولا شهيد ( يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل فيكون أصله لا يضارر بكسر الراء وبه قرأ عمر وعليه أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة ، ومعناه : نهى الكاتب أن يزيد أو ينقص والشاهدين أن يحرفا أويتركا الإجابة إلى ما يطلب منهما ولهذا قال : ( وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ( فإن التحريف في الكتابة والشهادة فسق وإثم ، وعن ابن مسعود وعطاء ومجاهد أن التقدير لا يضارر بفتح الراء وبه قرأ ابن عباس ، وأنه نهي للمتداينين عن الضرار بالكاتب والشهيد كأن يعجلا عن مهم ويلزا ، أولا يعطى الكاتب حقه من الجعل ، أو يحمل الشهيد(2/78)
" صفحة رقم 79 "
مؤنة مجيئة من بلد .
) وأن تفعلوا ( ما نهيتكم عنه من الضرار أو كل ما نيهتكم عنه من فعل معصية أو ترك طاعة ليكون عاماً ) فإنه ( فإن الضرار وارتكاب المنهي ) فسوق بكم ( خروج عن أمر الله وطاعته .
ومعنى ) بكم ( أي ملتصق بكم ) واتقوا الله ( في أوامره ونواهيه ) ويعلمكم الله ( ما فيه صلاح الدارين ) والله بكل شيء ( من مصالح عباد ) عليم ( واعلم أنه سبحانه جعل الباعات في هذا المقام على ثلاثة أقسام : بيع بكتاب وشهود ، وبيع برهان مقبوضة ، وبيع بالأمانة ، ولما بين القسم الأول شرع في الثاني وقال ) وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة ( واتفق الفقهاء على أن الارتهان لا يختص بالسفر ولا بحالة عدم وجدان الكاتب ، كيف زقد ثبت أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رهن درعه في غير سفر ، ولكنه وردت الآية على الغالب ، فإن الغالب أن لا يوجد الكاتب في السفر ولا يوجد أدوات الكتابة ولهذا قال ابن عباس : أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة وقرأ ) ولم تجدوا كتاباً ( ونظيره قوله ) فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ) [ النساء : 101 ] وليس الخوف من شرط جواز القصر .
وكان مجاهد والضحاك يذهبان إلى أن الرهن لا يجوز في غير السفر أخذاً بظاهر الآية ، ولا يعمل بقولهما اليوم. وأصل الرهن من الدوام .
رهن الشيء إذا دام وثبت .
ونعمة راهنة أي دائمة ثابة والرهن مصدر جعل اسماً وزال عنه عمل الفعل ، فإذا قلت رهنت عنده رهناً لم يكن انتصابه انتصاب المصدر ولكن انتصاب المفعول به كما تقول : رهنت ثوباً .
ولهذا جمع الأسماء ، وله جمعان : رهن بضمتين كسقف في سقف ، ورهان مثل كباش في كبش ، وقيل : إن أحدهما جمع الآخر وفي الكلام حذف تقديره فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين ، أو فعليه رهن ، أو فالوثيقة ، أو الذي يستوثق به رهن .
ويعلم من قوله : ( مقبوضة ( أن الرهن لا بد في لزومه من القبض ، والمراد باللزوم أن لا يكون للراهن الرجوع عن الرهن ولا للمرتهن عن الارتهان .
وقبض المرهون المشاع إنما يحصل بقبض الكل وقبل القبض يصح الرهن ولكن لا يلزم ، وأما صورة القبض فقبض العقار إنما يحصل بتخلية الراهن وأو وكيله بينه وبين المرتهن أو وكيله وتمكينه منه بتسليم المفتاح فيما له مفتاح ، وقبض المنقول يحصل بالنقل من موضعه إلى موضع لا يختص بالراهن كالشارع والمسجد وملك المرتهن ، وإن كان المنقول مقدراً فلا بد من التقدير أيضاً بوزن أو كيل أو ذرع .
ولو نقل من بيت من دار الراهن إلى بيت آخر بإذنه ، أو وضعه الراهن بين يدي المرتهن إذا امتنع من قبضه ، حصل القبض .
ثم إنه تعالى ذكر بيع الأمانة فقال ) فإن أمن بعضكم بعضاً ( فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به وثقته بأنه لا يجحد الحق ولا ينكره ) فليؤد الذي اؤتمن أمانته ( فليكن المديون عند ظن الدائن به .
وسمى الدين(2/79)
" صفحة رقم 80 "
أمانة وإن كان مضموناً لائتمانه عليه بترك الارتهان منه والحاصل أنه مجاز مستعار وذلك أنه لما اشترك هذا الدين مع الأمانة الشرعية في وصف وجود الأمانة اللغوية أطلق أحدهما على الآخر والائتمان افتعال من الأمن ) وليتق الله ربه ( حتى لا يدور في خلده جحود واختيان .
وفي الآية قول آخر وهو أنها خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال فإنها أمانة في يده .
والصحيح هو الأول .
ومن الناس من قال : هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتبة والإشهاد وأخذ الرهن .
والحق أن تلك الأوامر محمولة على الإرشاد رعاية وجوه الاحتياط ، وهذه الآية محمولة على الرخصة ، وعن ابن عباس أنه قال : في آية المداينة نسخ .
ثم قال : ( لا تكتموا الشهادة ( وفيه وجوه : الأول عن القفال : أنه تعالى لما أباح ترك الكتبة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أميناً ، ثم كان من الجائز أن يكون هذا الظن خطأ وأن يخرج المديون جاحداً للحق ، وكان من الممكن أن يكون بعض الناس مطلعاً على أحوالهم ، ندب الله ذلك الإنسان أن يشهد لصاحب الحق بحقه ، سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة أم لا ، وشدد فيه بأن جعله إثم القلب لو تركه .
وعلى هذا يمكن أن يحمل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد ) وقيل : المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة .
وقيل : المراد بالكتمان الامتناع نم أدائها عند الحاجة إلى إقامتها ، فإن في ذلك إبطال حق المسلم ، وحرمه مال المسلم كحرمة دمه ، فلهذا بالغ في الوعيد وقال ) ومن يكتمها فإنه اثم قلبه ( والآثم الفاجر ، والآثم مرتفع بأن و ) قلبه ( فاعله .
ويجوز أن يكون ) قلبه ( مبتدأ و ) آثم ( خبره مقدماً عليه ، والجملة خبر ( إن ) .
وفائدة ذكر القلب والشخص بجملته آثم لا قلبه وحده ، هو أن أفعال الجوارح تابعة لأفعال القلوب ومتولدة مما يحدث في القلب من الدواعي والصوارف ، وإسناد الفعل إلى القلب الذي هو محل الاقتراف ومعدن الاكتساب أبلغ كما يقال عند التوكيد : هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني وعرفه قلبي ، وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب ) .
وزعم كثير من المتكلمين أن الفاعل والعارف والمأمور والمنهي(2/80)
" صفحة رقم 81 "
هو القلب ، ) والله بما تعملون عليم ( فيه تحذير للكاتم وتهديد له .
عن ابن عباس : أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى : ( فقد حرم الله عليه الجنة ( وشهادة الزور وكتمان الشهادة .
التأويل : إنه تعالى كما أمر العباد أن يكتبوا كتاب المبايعة فيما بينهم ويستشهدوا عليه العدول ، فقد كتب كتاب مبايعة جرت بينه وبين عباده في الميثاق ) إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ( إلى قوله ) واستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ) [ التوبة : 111 ] وأشهد الملائكة الكرام ) وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين ) [ الانفطار : 10 ، 11 ] وإنه تعالى كما أمركم أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً أمرالملائكة أن يكتبوا معاملاتكم الصغيرة والكبيرة ، ثم عند خروجكم من الدنيا يجعلون ذلك في أعناقكم ) وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) [ الإسراء : 13 ] ثم نودي من سرادقات الجلال : يا قوي الظلم ضعيف الحال ) اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً ) [ الإسراء : 14 ] ثم إن الكتاب يكتبون عليه في صباحه ومسائه ، وما يكتبون إلا من إملائه وإنه بالقليل والكثير مما يملي يخاطب ، وبالنقير وبالقطمير على ما يميل عن الحقيعاتب ، فليحاسب نفسه قبل أن يحاسب ، فعليه أن يملي الحق للحق ، فإن كان الذي عليه حق للحق سفيهاً جاهلاً بإملاء الحق للحق لاشتغاله بالباطل ، أو ضعيفاً عاجراً مغلوباً بغلبات نفسه ، أو لا يستطيع أن يمل هو لكونه ممنوعاً بالعواتق والعلائق لا قدرة له على إملاء ما ينفعه ولا يضره ، ولا قوة له في إنهاء ما لا يحزنه ويسره ، ) فليملل وليه بالعدل ( فإن لكل قوم ولياً يخرجهم من الأحزان إلى السرور ، ومن الأسجان إلى القصور ، ومن الأشجان إلى الحبور ، ومن العجز والفتور إلى القوة والحضور ) الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) [ البقرة : 257 ] و ) استشهدوا شهيدين ( استصحبوا من أرباب القلوب اثنين من رجالكم الذين هم بالنسبة إليكم رحال وأنتم نساء ) فإن لم يكونا رجلين ( أرباب القلوب ) فرجل منهم وامرأتان ( أي رجلان من أهل الصلاح ليكونا بمثابة رجل من أهل الولاية في فائدة الصحبة ) ممن ترضون من الشهداء ( ممن يصلح أن يكون من شهداء الله كما قال : ( أنتم شهداء الله في أرضه ) ) أن تضل إحداهما ( عن جادة الاستقامة في بادية النفس المملوءة من شياطين الهوى ) فتذكر إحداهما الأخرى ( فالرفيق ثم الطريق .
واعلم أن اهل الدين طائفتان :(2/81)
" صفحة رقم 82 "
الوقفون والسائرون .
والمراد بالواقف من وقف في عالم الصورة ولم يفتح له باب إلى عالم المعنى كالفرخ المحبوس في قشر البيضةفيكون شربه من عالم المعاملات البدنية ولا سبيل له إلى عالم القلب ومعاملاته فهو محبوس في سجن الجسد وعليهموكلان من الكرام يكتبان عليه من أعماله الظاهرة بالنقير والقطمير ) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) [ ق : 18 ] وأما السائر فلا يقف في محل ولا ينزل في منزل يسافر من عالم الصورة إلى عالم المعنى ، ومن مضيق الأجساد إلى متسع الأرواح وهم صنفان : سيار وطيار ، فالسيار من يسير بقدمي الشرع والعقل على جادة الطريقة ، الطيار من يطير بجناحي العشق والهمة في فضاء الحقيقة وفي رجله جلجلة الشريعة ، فالإشارة في قوله : ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً ( إلى السيار الذي تخلص من سجن الجسد وقيد الحواس وزحمة التوكيل ، فلم يوجد له كاتب يكتب عليه كما قال بعضهم : ما كتب عليّ صاحب الشمال منذ عشرين سنة ، وقال بعضهم : كاشف لي صاحب اليمين وقال لي : أمل علي شيئاً من معاملات قلبك لأكتبه فإني أريد أن أتقرب به إلى الله .
قال : فقلت له : حسبك الفرائض .
فالحبس والقيد والتوكيل لمن لم يؤد حق صاحب الحق أو يكون هارباً منه .
فأما الذي آناء الليل وأطراف النهار يغدو ويروح في طلب غريمه وما يبرح في حريمه فلا يحتاج إلى التوكيل والتقييد ، فالذي هو موكل على الهارب يكون وكيلاً وحفيظ للطالب ) له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) [ الرعد : 11 ] وللسائرين رهان مقبوضة عند الله ، رهان وأية رهان ، قلوب ليس فيها غير الله قبض ، وأي قبض ؟ مقبوضة بين أصبعين من أصابع الرحمن .
أما الطيار الذي الذي هو عاشق مفقود القلب ، مغلوب العقل ، مجذوب السر ، فلا يطالب بالرهن فإنه مبطوش ببطشه الشديد .
مستهام ضاق مذهبه
في هوى من عز مطلبه
كل أمر في الهوى عجب
وخلاصي منه أعجبه
وإنما يحتاج إلى الرهن المتهم بالخيانة لا المتعين للأمانة ، فلم يوجد في السموات والأرض ولا في الدنيا والآخرة أمين يؤتمن لتحمل أعباء أمانته إلا العاشق المسكين ، لما نظر إليها كان فراش تلك الشمعة عشقها فطار فيها وأتى بحملها ، فلما حملها واستحسن منه ما تفرد به من أصحابه جاءت له من الحضرة ألقاب فنسب في البداية إلى الإفساد وسفك الدماء ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) [ البقرة : 30 ] ولقب في النهاية بالظلم والجهل ) إنه كان ظلوماً جهولاً ) [ الأحزاب : 72 ] هذا أمر عجيب ونقش غريب ، من لم يطع في حمل الأمانة وأتى نسب إلى المكانة والطاعة والأمانة مكين مطاع ثم أمين. ومن(2/82)
" صفحة رقم 83 "
أطاع في حمل الأمانة وأتى نسب إلى الظلم والجهل والفساد والخيانة ، نعم إنما يكون ذلك لوجهين : أحدهما أن الذلة والمسكنة وقعت في قسم العاشق كما ان العزة والعظمة وقعت في طرف المعشوق بل جمال عزة المعشوق ، لا يظهر إلا في مرآه ذلة العاشق .
وثانيهما أن من له كمال عزة الأمانة يلزم كمال ذلة المؤتمن في الظاهر بصلاح كتمان أمر الأمانة ، وقد يختص غير المؤتمن بحسن الثناء عليه ليكون عزته في الظاهر وذلته في الحقيقة يدلك على حققة حفظ السر خطاب ، ) اسجدوا لآدم ) [ البقرة : 34 ] وعتاب ) إني أعلم ما لا تعلمون ) [ البقرة : 30 ] ( فإن أمن بعضكم بعضاً ( كما اخترتك من بين الخليقة واصطفيتك على البرية بحمل الأمانة ) فليؤد الذي أوتمن أمانته ( ولا تكتموا الشهادة ، أشهدتكم على أنفسكم يوم الميثاق بإقرار قبول الأمانة فقلتم : بلى شهدنا فاليوم أطالبكم بأداء حقها فأدوها لي ملفوفة بلفاف التقوى ( الإيمان عريان ولباسه التقوى ) وكتمان الشهادة أن يكون شهودك مع غير شواهد ربك ، وهذا من نتائج خيانة قلبك في أمانة ربك ، فلا يشاهد قلبك إلا شواهد ربك ، ولا يؤدي سرك حقيقة أمانة ربك إلا إلى ربك بربك لربك .
( البقرة : ( 284 - 286 ) لله ما في . . . .
" لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين "
( القراآت )
فيغفر لمن يشاء ( بإدغام الراء في اللام : أبو عمرو .
وجملة أهل العلم على الإخفاء لا على الإدغام التام ) فيغفر ( و ) يعذب ( برفع الراء والباء : يزيد وابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب .
وقرأ حمزة غير أبي عمرو والحلواني عن قالون وابن مجاهد وأبو عون وأبو ربيعة عن البزي وخلف لنفسه يعذب من بالإظهار ، أبو عمرو يدغم ) ويعذب من الغيبة يعقوب .
الباقون بالنون ) أخطأنا ( مثل ) فادارأتم ) [ البقرة : 72 ] الوقوف : ( وما في الأرض ( ط ) به الله ( ط لمن قرأ ) فيغفر ( بالرفع على الاستئناف(2/83)
" صفحة رقم 84 "
أي فهو يغفر ، ومن جزم العطف لم يقف .
) من يشاء ( ط ، ) قدير ( ه ) والمؤمنون ( ه ، لمن لم يقف على من ربه ) المصير ( ه ، ) وسعها ( ط ) ما اكتسبت ( ط ) أو أخطأنا ( ج ) من قبلنا ( ج لأن النداء للابتداء ولكن الواو لعطف السؤال على السؤال ) لنابه ( ج ) واعف عنه ( وقفة ) واغفر لنا ( كذلك ) واحمنا ( كذلك للتفصيل بين أنواع المقاصد والاعتراف بأن أطماعنا غير واحد ) الكافرين ( ه .
التفسير : إنه تعالى لما جمع في هذه السورة أشياء كثيرة من علم الأصول وفي دلائل التوحيد والحج والجهاد وأشياء كثيرة من بيان الشرائع والتكاليف كالصلاة والزكاة والقصاص والبيع والربا والمداينة ، ختم السورة بكلام دل على كماله ملكه وهو قوله : ( لله ما في السموات وما في الأرض ( وعلى كمال علمه وهو قوله ) وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ( وعلى كمال قدرته وهو قوله ) فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ( وفي ذلك غاية الوعد للمطيعين ونهاية الوعيد للمذنبين .
وعن أبي مسلم أنه لما قال : والله بما تعملون عليم .
ذكر عليه دليلاً عقلياً فإن من كان فاعلاً لهذه الأفعال المحكمة المتقنة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع لفاخرة لا بد أن يكون محيطاً بأجزائها وجزئياتها .
وقيل : لما أمر بالوثائق من الكتبة والأشهاد والرهن ، ذكر ما علم منه أن المقصود يرجع إلى الخق وأنه منزه على الانتفاع به .
وقال الشعبي وعكرمة ومجاهد : إنه لما أوعدعلى كتمان الشهادة ذكر أن له ما في السموات وما في الأرض فيجازي على الكتمان والإظهار .
عن ابن عباس وأبي هريرة واللفظ له : لما نزل ) وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ( اشتد ذلك على أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : فأتوا رسول الله صلى الله عليه سولم ثم بركوا عل الركب فقالوا : أي رسول الله ، كلفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والصدقة .
وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) .
فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها ) أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ( فلما فعلوا ذلك نسخا الله فأنزل الله عز وجل : ( لا يكفل الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال : نعم ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ( قال : نعم ) ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ( قال نعم ) واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا(2/84)
" صفحة رقم 85 "
فانصرنا على القوم الكافرين ( قال نعم .
واعلم أن العلماء اتفقوا على أن الأمور التي تخطر بالبال مما يكرهها الإنسان ولا يمكنه إزالتها عن النفس ، لا يؤاخذ بها لأنها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق ، وأما الخواطر التي يوطن الإنسان نفسه عليها ويعزم على إدخالها في الوجود فقد قيل : إنه يؤاخذ بها لقوله تعالى : ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) [ البقرة : 225 ] وكما يؤاخذ باعتقاد الكفر والبدع وأنه من أفعال القلوب ، ثم قال بعضهم : إنما يؤاخذ بها الدنيا لما روى الضحاك عن عائشة أنها قالت : ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه .
نعم يبتليه في الدنيا أو حزن أو أذى ، فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب ، وروت أنها سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه. وقيل : إن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل فإنه في محل العفو لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال بعد نزول قوله ) لا يكفل الله نفساً إلا وسعها ( ( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا ) وقيل : معنى قوله ) وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ( أن يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهراً وإما على سبيل الخفية ، وعلى هذا فلا حاجة إلى التزام النسخ .
وكذا لو قيل : إن معنى كونه حسيباً ومحاسباً كونه عالماً بما في الضمائر والسرائر فيغفر لمن يشاء وإن كان من أصحاب الكبائر لعموم اللفظ .
وعند المعتزلة لمن استوجب المغفرة بالتوبة وهو تخصيص من غير دليل ) ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ( مستولِ على كل الممكنات بالقهر والغبة والإيجاد والإعدام ، فعلى كل عاقل أن يكون له عبداً منقاداً خاضعاً لأوامره ومراضيه ، محترزاً عن مساخطه ومتاهيه ليستحق المدح والثناء بقوله ) آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ( فإن كمال الربوبية في الواجب يستلزم كمال العبودية في الممكن ، وكمال العبودية في الممكن يستتبع كمال الرحمة عليه وذلك قوله : ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ( إلى آخر السورة .
أو نقول : إنه بدأ السورة بذكر المتقين الذين يؤمنون بالغيب ، نبيّن في آخرها أن الذين مدحتهم في أول السورة هم أمة محمد ) والمؤمنون كل آمن بالله ( ثم قال ههنا ) وقالوا سمعنا وأطعنا ( كما قال هناك ) ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) [ البقرة : 3 ] وقال ههنا ) غفرانك ربنا وإليك المصير ( كما قال هنالك ) وبالآخرة هم يوقنون ) [ البقرة : 4 ] ثم حكى عنهم كيفية تضرعهم إلى ربهم بقوله : ( ربنا لا تؤاخذنا ( إلى آخر السورة كما قال هناك ) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) [ البقرة :(2/85)
" صفحة رقم 86 "
5 ] أو نقول : إنه سبحانه لما ذكر في هذه السورة أنواع الشرائع والأحكام ، بيّن أن الرسول اعترف لمعجزة جلت على صدق الملك أن ذلك وحي من الله وصل إليه ، وأن الذي أخبره بذلك ملك مبعوث من قبل الله معصوم من التحريف وليس بشيطان مضل ، ثم ذكر عقبيه إيمان المؤمنين بذلك لمعجزات أظهرها الله تعالى على يد الرسول حتى استدلت الأمة بها على أنه صادق في دعواه وهو المرتبة المتأخرة ، ومن تأمل في نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بسبب فصاحة ألفاظه وبلاغة معانيه ، فهو أيضا معجز بحسب ترتيبه ونظم مبانيه .
ولعل الذين قالوا إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك .
ثم ههنا احتمالان : أحدهما أن يكون تمام الكلام عند قوله : ( المؤمنون ( فيكون المعنى ) آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليك من ربه ( ثم ابتدأ بقول ) كل آمن ( فيكون الضمير الذي التنوين نائب عنه في كل عائداً إلى الرسول والمؤمنين أي كلهم آمن بل كل واحد ممن تقدم ذكره من الرسول والمؤمنين آمن ، ولهذا وحد ، ومثل هذا الضمير يجوز أن يفرد بمعنى كل واحد ، ويجوز أن يجمع كقوله ) وكل أتوه داخرين ) [ النمل : 87 ] وهذا الاحتمال يشعر بأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان مؤمناً بربه ثم آمن ، فيحمل عدم الإيمان على وقت الاستدلال وذلك أنه عرف بما ظهر من المعجزان على يد جبريل عليه السلام أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام منزل من عند الله تعالى وليس من باب إلقاء الشياطين ولا من نوع السحر والكهانة والشعبذة .
والاحتمال الثاني أن يتم الكلام عند قوله ) من ربه ( ثم ابتدأ من قوله ) والمؤمنون كل آمن بالله ( وفي هذا الاحتمال إشعار بأن الذي حدث هو إيمانه بالشرائع التي نزلت عليه كما قال ) ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) [ الشورى : 52 ] أما الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على الإجمال فقد كان حاصلاً منذ خلق من أول الأمر بل كان نبياً وآدم بين الماء والطين ، كما أن عيسى خلق كامل العقل حتى قال في المهد ) إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً ) [ مريم : 30 ] وعلى هذا فإنما خص الرسول بذلك لأن الذي أنزل إليه من ربه قد يكون متلواً يسمعه الغير ويعرفه فيمكنه أن يؤمن به ، وقد يكون وحياً لا يعلمه سواه .
فيكون هو ( صلى الله عليه وسلم ) مختصاً بالإيمان به ولا يتمكن الغير من الإيمان به .
واعلم أن الآية دلت على أن معرفة هذه المراتب الأربع من ضروريات الإيمان : المرتبة الأولى هي الإيمان بالله سبحانه فإن صدق المبلغ والرسول يتوقف على وجود المبلغ والمرسل .
والثانية الإيمان بالملائكة فإنهم وسائط بين الله وبين البشر .
) ينزل الملائكة بالروح(2/86)
" صفحة رقم 87 "
من مره على من يشاء من عباده ) [ النحل : 2 ] ( علمه شديد القوى ) [ النجم : 5 ] والثالثة الكتب فإنه الوحي الذي يتلقفه الملك ويوصله إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فمثال الملك في عالم الصورة جرم القمر ، ومثال الوحي نور القمر .
فكما أن القمر يستفيد من نور الشمس ويوصله إلينا فكذا الملك يأخذ الوحي من الله تعالى ويلقيه على الأنبياء فلا جرم وقع الرسل في المرتبة الرابعة .
وهذا الترتيب مما تقتضيه حكمة عالم التكليف والوسائط وإلا فمقام لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل معلوم لنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهذا سر تطلع منه على أسرار أخرى إن كنت من أهلها ، ثم الإيمان بالهل عبارة عن الإيمان بوجوده وبصفاته وبأفعاله بأحكامه وبأسمائه ، أما الإيمان بوجوده فهو أن تعلم أن وراء المتحيزات موجوداً خالقاً لها ، وعلى هذه التقدير فالمجسم لا يكون مقراً بوجود الإله تعالى فيكون الخلاف معهم ي ذات الله تعالى .
وأما الفلاسفة والمعتزلة فالخلاف معهم في الصفات لا في الذات ، لأنهم مقرون بوجود موجود غير متحيز ولا حال في المتحيز ، وأما الإيمان بصفاته فالصفات إما ثبوتية أو سلبية أو إضافية ، وقد عرفت في تفسير البسملة ما يصح وصفه تعالى بها وما لا يصح وكذا في تفسير آية الكرسي ، وأما الإيمان بأفعاله فأن تعلم أن كل ما سواه فإنما حصل بتخليقه وتكوينه حتى الأفعال التي تسمى اختيارية للحيوانات ، وذلك أن مشيئة الإنسان محدثة منتهية إلى الله سبحانه فهو مضطر في صورة مختار .
وقد حققنا هذه المسألة في تفسير قوله ) ختم الله على قلوبهم ) [ البقرة : 7 ] وأما الإيمان بأحكامه فإن تعمل أنها غير معللة بغرض وإن كان يترتب عليها الفوائد .
وأن تعلم أن المقصود من شرعها منافع عائدة إلى العباد لا إلى الله فإنه منزه عن جلب المنافع ودفع المضار ، وأن تعلم أن له الإلزام والحكم في الدنيا كيف شاء وأراد ، وأن تعلم أنه لا يجب على الحق بسبب الأعمال شيء ، وأنه في الآخرة يغفر لمن يشاء بفضله ويعذب من يشاء بعدله ولا يقبح منه شيء ، لأن الكل ملكه وملكه ، وأما الإيمان بأسمائه فهي السماء الواردة في كتب الله المنزلة وفي كلمات أنيبائه المرسلة ، وقد مر في تفسير البسملة فهذا هو الإشارة إلى معاقد الإيمان بالله .
وأما الإيمان والملائكة فهو الإيمان بوجودها .
فأما البحث عن أنها روحانية محضة ، أو جسمانية محضة ، أو مركبة من القسمين ، وبتقدير كونها جسمانية فلطيفة أو كثيفة ، وإن كانت لطيفة فنورانية أو هوائية فذاك مقام العلماء الراسخين في العلوم القرآنية والبرهانية ويدخل في الإيمان بالملائكة اعتقاد أنهم معصومون ، وأن ذلتهم بذكر الله ، وحياتهم بمعرفة وطاعته ، وأنهم وسائط بين الله وبين البشر ، وبهم وصلت الكتب إلى الأنبياء ، ولكل طائفة منهم مقام معلوم وجزء مقسوم من أقسام هذا العالم .
وأما الإيمان بالكتب(2/87)
" صفحة رقم 88 "
فإن تعلم أن كلها وحي من عند الله وليس لأحد من المخلوقات أن يلقي فيها شيئاً من ضلالاتهم ولا سيما في القرآن العظيم .
وإن من قال : إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان ، فقد أخرج القرآن عن كونه حجة وطرق إلأيه التغيير والتحريف .
وأن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه ، ومحكمة يكشف عن متشابهه .
وأما الإيمان بالرسل فإن تعلم كونهم معصومين عن الذنوب في باب الإعتقاد في أمر التبيلغ وفي الفتيا وفي الأخلاق وفي الأفعال كما مر في قصة آدم ، وأن تعلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل ممن ليس بني خلافاً لبعض الصوفية ، وأن بعض الأنبياء أفضل من بعض كما قال تعالى : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) [ البقرة : 253 ] وأما فضلهم على الملائكة فقد قال بعضهم : إن الأنبياء أفضل من الملائكة .
وقال كثير من العلماء : إن الملائكة السماوية أفضل منهم وإنهم أفضل من الملائكة الأرضية .
وقد مر تحقيق ذلك في قصة آدم أيضاً .
وأن تعلم أن شرعهم وإن صار منسوخاً إلا أن نبوتهم لم تصر منسوخة .
وإنهم الآن أنبياء ورسل كما كانوا ، وناقش بعض المتكلمين في ذلك .
فهذه إشارة إلى أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله .
وأما من قرأ ) وكتابه ( على الوحدة فإما أن يراد به القرآن ، ثم الإيمان به يتضمن الإيمان بمجموع الكتب والرسل .
وإما أن يراد به جنس الكتب السماوية فإن اسم الجنس المضاف قد يفيد العموم كقوله : ( وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها ) [ إبراهيم : 34 ] وقال ) احل لكم ليلة الصيام الرفث ) [ البقرة : 187 ] وهذا الإحلال شائع في جميع الصيام .
قال العلماء : قراءة الجمع أولى لمشاكلة ما قبله وما بعده .
وقيل : قراءة الإفراد أولى لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع .
ومن هنا قال ابن عباس : الكتاب أكثر من الكبت .
ومن قرأ ) لا نفرق ( بالنون فلا بد من إضمار أي يقولون لا نفرق .
ومن قرأ بالياء على أن الفعل لكل فلا حاجة إلى الإضمار ، ثم إن الجملة خبر أو حال واحد في معنى الجمع .
أي بين كل منهم وبين آخر منهم ، فإن النكرة في سباق النفي تعم ولذلك صلحت لدخول ( بين ) عليها .
وليس المراد بعدم التفريق عدم التفضيل لقوله تعالى : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) [ البقرة : 253 ] بل المراد عدم التفريق في الإيمان بهم وفي اعتقاد بنوتهم لظهور المعجزات على أيديهم حسب دعاويهم .
والغرض منه تزييف معتقد اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوة موسى وعيسى دون نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعن أبي مسلم : لا نفرق ما جمعوا كقوله ) واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) [ آل عمران : 103 ] واعلم أن قوله ) آمن الرسول ( إلى قوله ) بين أحد من رسله ( إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة ) وقالوا سمعنا وأطعنا ( إشارة إلى استكمال القوة العملية بالأعمال(2/88)
" صفحة رقم 89 "
الفاضلة الكاملة ، أو نقول : إن للإنسان إياماً ثلاثة الأمس والبحث عنه يسمى معرفة المبدأ ، واليوم والبحث عنه يسمى بالوسط ، والغد والفحص عنه يسمى بعلم المعاد .
فقوله : ( آمن الرسول ( إلى قوله ) من رسله ( إشارة إلى معرفة المبدأ ) وقالوا سمعنا وأطعنا ( إشارة إلى الوسط و ) غفرانك ربنا وإليك المصير ( علم المعاد ومثله في آخر سورة هود ) ولله غيب الحقيقية ليست إلأ العلم والقدرة .
وقوله : ( ولله غيب السموات والأرض ) [ هود : 123 ] فيه بيان كمال العلم ، وقوله ( وإليه يرجع الأمر ( فيه كمال القدرة .
وأما علم الوسط وهو علم ما يجب أن يشتغل به اليوم فبدايته الاشتغال بالعبودية وهو قوله : ( فاعبده ) [ هود : 123 ] ونهايته قطع النظر عن الأسباب ، وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب وهو قوله ) وتوكل عليه ) [ هود : 123 ] وأما علم المعاد فقوله : ( وما ربك بغافل عما تعملون ) [ هود : 123 ] أي ليومك غد سيصل إليك فيه نتائج أعمالك ومثله ) سبحان ربك رب العزة عما يصفون ) [ الصافات : 180 ] وهو معرفة المبدأ ) وسلام على المرسلين ( 181 ] وفيه إشارة إلى عالم الوسط ) والحمد لله رب العالمين ) [ الصافات : 182 ] إشارة إلى علم المعاد كقوله ) وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] والوقوف على هذه اأسرار إنما يكون بجذبة من ضيق عالم الأسرار إلى فسحة عالم الأنوار .
أو نقول ) والمؤمنون كل آمن بالله ( إشارة إلى الأحكام العقليات ) وقالوا سمعنا وأطعنا ( إشارة إلى الأحكام السمعيات .
قال الواحدي : أي سمعنا قوله وأطعنا أمره .
وقيل : حذف المعفول صورة .
ومعنى ههنا أولى ليفيد أنه ليس في الوجود قول وأطعنا أمره .
وقيل : حذف المفعول تجب إطاعته إلا أمره .
والسماع ههنا بمعنى القبول أي سمعناه بآذان عقولنا وعرفنا صحته وتيقنا أن كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم السلام .
فهو حق صحيح واجب قبوله ، ثم قال ) وأطعنا ( فدل هذا على أنه كما صح اعتقادهم في هذه التكاليف فهم ما أخلوا بشيء منها ، فجمع الله تعالى بهذين اللفظين كل ما يتعلق بأبواب التكاليف علماً وعملاً .
) غفرانك ( مصدر منصوب بإضمار فعله أي اغفر .
ويقال : غفرانك اللهم لا كفرانك. من قوله ) وما تفعلوا من خير فلن تكفروه ) [ آل عمران : 115 ] أي لن تعدموا جزاءه .
وفي الكشاف : أي نستغفرك ولا نكفرك .
وقيل : معناه نسألك غفرانك فيكون مفعولاً به .
والأشهر أنه مصدر حذف فعله وجوباً لكثرة الاستعمال وللاستغناء به عن فعله نحو : سقياً ورعياً .
وههنا سؤال وهو أن القوم لما قبلوا التكليف وعملوا به فأي حاجة بهم إلى طلب المغفرة ؟ والجواب لعلهم خافوا أن يكون قد فرط منهم تقصير فيما يأتون(2/89)
" صفحة رقم 90 "
ويذرون ، أو لعلهم كانوا يرتقون في درجات العبودية فيستغفرون مما قد خلفوها ، ومن ههنا قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين .
وقد حمل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وإني لأستغفر الله في اليوم سعبين مرة ) على مثل هذا .
ولأن جميع الطاعات في جنب مواجب حقوق الإلهية جنايات وتقصير وقصور ، ولهذا حكى عن أهل الجنة ) دعواهم فيها سبحانك اللهم ) [ يونس : 10 ] أي أنت منزه عن تسبيحنا وتقديسنا ) وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] أي كل الحمد له ، وإن كنا لا نقدر على فهم ذلك الحمد بعقولنا ولا على ذكره بألسنتنا .
ثم إن طلب هذا الغفران مقرون بأمرين : أحدهما بالإضافة إليه ، والثاني بقوله : ( ربنا ( أما القيد الأول فمعناه أطلب المغفرة منك وأنت الكامل في هذه الصفة والمطموع من الكامل في صفة أن يعطي عطية كاملة ، وما ذاك إلا بأن يغفر جميع الذنوب ويبدّلها حسنات .
أو تكون الإضافة إشراة إلى ما ورد في الحديث : ( إن الله تعالى مائة جزء من الرحمة قسم جزءاً منها على الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوانات فبها يتراحمون ويتعاطفون .
وأخر تسعة وتسعين جزءاً ليوم القيامة ( أو لعل العبد يقول : كل صفة من صفاتك فإنما يظهر أثرها في محل معين .
فلولا الوجود بعد العدم لما ظهرت آثار قدرتك ، ولولا الترتيب العجيب والتأليف الأنيق لما ظهرت آثار علمك ، ولولا جرم العبد وجنايته وعجزه وحاجته لم يظهر آثار مغفرتك ورأفتك .
فأنا اطلب الغفران الذي لا يمكن ظهوره إلا في حقي وفي حق أمثالي من المذنبين .
وأما القيد الثاني فمعناه ربيتني إذ أوجدتني مع أنك لو لم تربني في ذلك الوقت لم أتضرر به لأني كنت أبقى في العدم ، والآن لو لم تربني أتضرر به فأسألك أن لا تهملني .
أو ربيتني حين لم أذكرك بالتوحيد فكيف يليق بكرمك أن لا تربيني وقد أفنيت عمري في توحيدك ؟ أو ربيتني في الماضي فاجعل تربيتك لي في الماضي شفيعاً إليك في أن تربيني في المستقبل ، أو ربيتني فيما مضى فأتمم هذه التربية فيما يستقبل فإن إتمام المعروف خير من ابتدائه ، ) وإليك المصير ( حيث لا حكم إلا حكمك ولا يشفع أحد إلا بإذنك .
وفيه اعتراف بأنه تعالى عالم بالجزيئات قادر على كل الممكنات ، له المحيا وله الممات ، قوله سبحانه ) لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ( إن قلنا إنه(2/90)
" صفحة رقم 91 "
من تمام كلام المرمنين فوجه النظم أنهم قالوا : كيف لا نسمع ولا نطيع وإنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا .
وإن قلنا إنه من كلام الله تعالى مستأنفاً فالوجه أنهم لما قالوا سمعنا وأطعنا ثم طلبوا المغفرة ، دل ذلك على أنه لا يصدر عنهم زلة إلا على سبيل السهو والنسيان ، فلا جرم خفف الله تعالى عنهم إجابة لدعائهم ، والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه كالصلوا الخمس وصم رمضان والحج ، فإنه كان من إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس ، ويصوم أكثر من الشهر ، ويحج أكثر من حجة ، ولكنه تعالى ما جعل في الدين من حرج لكمال رحمته وشمول رأفته .
واعلم أن المعتزلة عولوا في نفي تكليف ما لا يطاق على هذه الآية ، ثم استنبطوا منها أصلين : الأول أن العبد موجد لأفعال نفسه إذ لو كان بتخليق الله تعالى لم يكن للعبد قدرة على دفعها لضعف قدرته ، ولا على فعلها إذ الموجود لا يوجد .
ثانياً ، فتكليف العبد بالفعل يكون تكليف ما لا يطاق .
الثاني أن الإستطاعة قبل الفعل وإلا لكان المأمور بالإيمان غير قادر عليه ، فيلزم تكليف ما لا يطاق .
أما الأشاعرة فقالوا : تكليف من مات على الكفر كأبي لهب مع العلم بعدم إيمانه تكليف بالجمع بين النقيضين .
والجواب أن العلم بعدم الإيمان ليس تكليفاً بعدم الإيمان حتى يلزم التكليف بالنقيضين ، والتكليف بأمر ممكن لذاته ممتنع لغيره غير التكليف بأمر مستحيل لذاته الذي هو محل النزاع .
لكن الأشعري لما كانت حجته قوية عنده خصص الآية بأنها إنما وردت في التكاليف الممكنة ، إذ التكليف بالممتنع ليس تكليفاً بالحقيقة وإنما هو اعلام وإشعار بأنه خلق من أهل النار .
على أنه لو جعلت من قول المؤمنين لم يبق فيها حجة ، ويحتمل أن يقال : لما حكاه عنهم في معرض المدح وجب أن يكونوا صادقين فيه ) لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ( قال الواحدي : إن الكسب والاكتساب واحد .
قال تعالى : ( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) [ الأنعام : 164 ] وقيل : الاكتساب أخص لأن الكسب لنفسه ولغيره ، والاكتساب ما يكتسب لنفسه خاصة ، وقيل : في الاكتساب مزيد اعتمال وتصرف لهذا خص بجانب الشر دلالة على أن العبد لا يؤاخذ من السيئات إلا بما عقد الهمة عليه وربط القلب به بخلاف الخير فإنه يثاب عليه كيفما صدر عنه .
قالت المعتزلة : في الآية دليل على أن الخير والشر كلاهما مضاف إلى العبد ، ولو كانا بتخليق الله تعالى لبطلت هذه الإضافة وجرى صدور أفعاله منه مجرى لونه وطوله وشكله مما لا قدرة له عليه ألبتة ، ولانتفت فائدة التكليف وقد سبق تحقيق المسألة مراراً ، وكذا تفسير الكسب وبيان المذاهب فيه في تفسير وبيان المذاهب فيه في تفسير قوله ) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ) [ البقرة : 134 ] واحتج الأصحاب بالآية على فساد القول بالمخاطبة لأنه تعالى بيّن أن لها(2/91)
" صفحة رقم 92 "
ثواب ما كسبت وعليها عقاب ما اكتسبت ، وهذا صريح في أن الاستحقاقين يجتمعان ، وأنه لا يلزم من طرّو أحدهما زوال الآخر .
وقال الجبائي : تقدير الآية لها ما كسبت من ثواب العمل الصالح إذا لم يبطله ، وعليها ما اكتسبت إذا لم يكفر بالتوبة وإنما أضمرنا هذا الشرط لأن الثواب منفعة دائمة والعقاب مضرة دائمة ، والجمع بينهما محال .
واحتج كثير من المتكلمين بالآية في أن الله تعالى لا يعذب الأطفال بذنوب آبائهم ، والفقهاء تمسكوا بها في إثبات أن الأصل في الأملاك البقاء والاستمرار .
وفرعوا لعيه مسائل منها : أن المضمونات لا تملك بأداء الضمان ، لأن المقتضى لبقاء الملك قائم وهو قوله ) لها ما كسبت ( والعارض الموجود إما الغصب وإما الضمان وهما لا يوجبان زوال الملك بدليل أم الولد والمدبر ومنها أنه لا شفعة للجار لأن المقتضي لبقاء الملك قائم وهو قوله ) لها ما كسبت ( عدلنا عن الدليل في الشريك لكثرة تضرره بالشركة فيبقىة في الجار على الأصل .
ومنها أن القطع لا يسقط الضمان لوجود المقتضي ، والقطع لا يوجب زوال الملك بدليل أن المسروق متى كان باقياً وجب رده على المالك .
ومنها أن منكري وجوب الزكاة احتجوا به ، والجواب أن دلائل وجوب الزكاة أخص والخاص مقدم على العام .
ثم إنه تعالى حكى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء .
الأول ) ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ( ومعنى لا تؤاخذنا لا تعاقبنا .
وقد يكون فاعل بمعنى فعل نحو : سافرت وعاقبت اللص .
وقيل : معنى المشاركة ههنا أن الناس قد أمكن من نفسه وطرّق السبيل إليها بفعله فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه .
وفي التفسير الكبير : إن الله يأخذ المذنب بالذنب والمذنب يأخذ ربه بالعفو والكرم أي يتمسك عند الخوف من عذابه برحمته ، وهذا معنى المؤاخذة بين العبد والرب ، والمراد بالنسيان إما الترك وهو أن يترك الفعل لتأويل فاسد كما أن الخطأ هو أنه يفعل الفعل لتأويل فاسد ومنه قوله تعالى : ( نسوا الله فنسيهم ) [ التوبة : 67 ] أي تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم ، وإما ضد الذكر .
وأورد عليه أن النسيان والخطأ متجاوز عنهما في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) فما معنى الدعاء ؟ والجواب من وجوه : الأول أن النسيان منه ما يعذر صاحبه فيه ومنه ما لا يعذر ، فن رأى دماً في ثوبه وأخر إزالته إلى أن نسيى فصلى وهو على ثوبه عد مقصراً إذا كان يلزمه المبادرة إلى إزالته .
وكذا إذا تغافل عن تعاهد القرآن حتى نسي فإنه يكون ملوماً بخلاف ما لو واظب على القراة ومع(2/92)
" صفحة رقم 93 "
ذلك نسي فإنه يكون معذوراً .
وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطاً ي أصبعه فثبت أن الناس قد لا يكون معذوراً وذلك إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر ، وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء .
والحاصل أنه ذكر النسيان والخطأ والمراد بهما ما هما مسببان عنهما من التفريط والإغفال .
الثاني أن هذا على سبيل الفرض والتقدير وذلك أنهم كانوا متقين لله حق تقاته ، فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه الخطأ والنسيان ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به فكأنه قيل : إن كان النسيان مما يجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به .
الثالث أن العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه بالدعاء ، فربما يدعو الإنسان بما يعلم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله إما لاستدامته وإما لاعتداد تلك النعمة أو لغير ذلك كقوله ) قل رب احكم بالحق ) [ الأنبياء : 112 ] ( ربناوآتنا ما وعدتنا على رسلك ) [ آل عمران : 194 ] وقالت الملائكة : ( فاغر للذين تابوا وابتعوا سبيلك ) [ غافر : 7 ] الرابع أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلاً وإنام عرف عدم المؤاخذة بالآية والحديث ، فلما كان ذلك جائزاً في العقل حسن طلب المغفرة منه بالدعاء ، وقد يتمسك به من يجوّز تكليف ما لا يطاق فيقول الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل ، فلولا أنه جائز من الله تعالى عقلاً لا أرشد الله تعالى إلى طلب ترك المؤاخذة عليه ، وقد يستدل به على حصول العفو لأهل الكبائر قالوا : إن النسيان والخطأ لا بد أن يفسرا بما فيه العمد والقصد إلى فعل ما لا ينبغي .
إذ لو فسرا بما لا عمد فيه وإذا فسر بما ذكرناه وقد أمر الله المسلمين أن أن يدعه بترك المؤاخذة عل تعمد المعصية دل ذلك على أنه يعطيهم هذا المطلوب فيكون العفو لصاحب الكبيرة مرجواً .
النوع الثاني : من الدعاء ) رنبا ولا تحمل علينا إصرآكما حملته على الذين من قبلنا ( الإصر الثقل ولاشدة ثم يسمى العهد إصراً لأنه ثقيل .
والإصر العطف لأن من عطفت عليه ثقل على قلبك ما يصل إليه من المكاره .
يقال : ما تأصرني على فلان آصرة أي ما تعطفني عليه قرابة ولا منة ، والمعنى لا تشدد علينا في التكاليف كما شدّدت على من قبلنا من اليهود ، قال المفسرون : إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة ، وأمرهم بأداء ربع أموالهم من الزكاة ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ، وكان عذابهم معجلاً في الدنيا ، فأجاب الله دعاءهم كما قال : ( ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) [ الأعراف : 157 ] وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( رفع عن أمتى المسخ والخسف والغرق ) وإنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير والتقصير موجب العقوبة .
وقيل : معناه لا تحمل علينا عهداً أو ميثاقاً يشبه ميثاق من قبلنا في الغلظ والشدة وهو قريب من الأول .
قال بعض العلماء : اليهود لما كانت الفظاظة(2/93)
" صفحة رقم 94 "
وغلظ القلب غالبة عليهم كانت مصالحهم في التكاليف الشديدة الشاقة ، وهذه الأمة الرقة وكرم الخلق غالبة عليهم فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ ، وأما أن اليهود لم خصت بغلظ الطبع وهذه الأمة باللطافة والكرم فليس إلينا أن نعلم تفاصيل جميع الكائنات وما لا يدرك كله لا يترك كله .
النوع الثالث : الدعاء ) ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ( ومن الأصحاب من تمسك به في جواز تكليف ما لا يطاق إذ لو لم يكن جائزاً لما حسن طلب تركه بالدعاء .
وأجاب المعتزلة عنه بأن معنى قوله : ( لا طاقة لنا ( اي ما يشق فعله لا الذي لا قدرة لنا عليه .
وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في المملوك : ( له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ) أي لا يشق عليه .
وزيف بأن معناه ومعنى الآية المتقدمة يكون حينئذٍ واحداً فعدلوا عن ذلك وقالوا : المراد منه العذاغب أي لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله .
سلمنا أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم ما لا قدرة لهم عليه ، لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلاف ذلك كما أن قوله ) رب احكم بالحق ( لا يدل على جواز أن يحكم بباطل .
وكذا قول إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولا تخزني يوم يبعثون ) [ الشعراء : 87 ] لا يدل على أن خزي الأنبياء جائز .
قيل : لم خص التكليف الشاق بالحمل والتكليف الذي لا قدرة عليه بالتحميل ؟ وأجيب بأن الحاصل فيما لا يطاق هو التحميل دون الحمل .
قيل : لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق كان من لوازمه أن لا يكلفه بما لا يطاق فكان المناسب طرح هذا الدعاء لا أقل من عكس الترتيب .
والجواب على تفسير الأشاعرة فهو أنهم سألوا أن لا يكلفهم تكليفاً شاقاً مقيداً وهو التكليف بما كلف من قبلهم .
ثم سألوا أن لا يكلفهم التكليف الشاق الذي لا قدرة لهم عليه بظاهر الشريعة ، والثاني طلب ذلك في مقام الحقيقة وهو مقام الاشتغال بمعرفة الله وخدمته وطاعته وشكر نعمه أي لا تطلب مني حمداً يليق بجلالك ولا شكراً يليق بآلائك ونعمائك ، ولا معرفة تليق بقدس عظمتك وكمال .
وأما الفائدة في حكاية هذه الأدعية بصيغة الجمع في ) لا تؤاخذنا ( ) ولا تحمل علينا ( فذلك أنه إذا اجتمعت النفوس والهمم على كل شيء كان حصوله أرجى .
النوع الرابع من الدعاء ) واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ( وإنما حذف النداء وهو قوله ( ربنا ) ههنا لأن النداء يشعر بالبعد .
فترك النداء يؤذن بأن العبد إذا واظب على التضرع(2/94)
" صفحة رقم 95 "
والدعاء نال مقام القربة والزلفى من الله .
والفرق بين العفو والمغفرة والرحمة أن العفو إسقاط العذاب ، والمغفرة أن يستر عليه بعد ذلك جرمه صوناً له عن عذاب التخجيل والفضيحة فإن الخلاص من عذاب النار إنما يطيب إذا حصل عقيبة الخلاص من عذاب أقبل على طلب الثواب وهو أيضاً قسمان : جسماني هو نعيم الجنة وطيباتها وهو قوله ) وارحمنا ( وروحاني هو إقبال العبد بكليته على مولاه وهو قوله ) أنت مولانا ( ففيه الاعتراف بأ ، ه سبحانه هو المتولي لكل نعمة ينالونها ، وهو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها ، وأنهم بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمة ، والعبد الذي لا ينتظم شمل مهماته لا بإصلاح مولاه .
وبهذا الاعتراف يحق الوصول إلى الحق ( من عرف نفسه ) أي بالإمكان والنقصان ( عرف ربه ) أي بالوجوب والتمام .
ثم إذا وصل إلى الحق أعرض بالكلية عما سواه وهو قوله ) فانصرنا على القوم الكافرين ( أعنا على قهر كل من خالفك وناواك وعلى غلبة القوى الجسمانية الداعية إلى ما سواك .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن نتسطيعها البطلة قيل : وما البطلة ؟ قال : السحرة ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنزل الله آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل ) وروى الواحدي عن مقاتل بن سليمان أنه لما أسري بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى السماء أعطي خواتيم سورة البقرة فقالت الملائكة له : إن الله عز وجل أكرمك بحسن الثناء بقوله ) آمن الرسول ( فاسأله وارغب إليه ، فعلّمه جبريل عليه السلام كيف يدعو فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) غفرانك ربنا ( فقال الله : قد غفرت لكم .
فقال : ( لا تؤاخذنا ( فقال الله : لا أؤاخذكم .
فقال : لا تحمل علينا إصراً .
فقال : لا أشدد عليكم .
فقال : لا تحملنا ما لا طاقة لنا به .
فقال : لا أحملكم ذلك .
فقال : ( واعف علينا وغفر لنا وارحمنا ( فقال الله : قد عفوت عنكم(2/95)
" صفحة رقم 96 "
وغفرت لكم وانصركم على القوم الكافرين .
وفي بعض الروايات أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان يذكر هذه الدعوات والملائكة كانوا يقولون آمين .
التأويل : الإنسان مركب من عالمي الأمر والخلق .
له روح نوراني من عالم الأمر والملكوت ، وله نفس ظلمانية من عالم الخلق والملك ، ولكل منهما نزاع وشوق إلى عالمه .
فغاية بعثة الأنبياء تزكية النفوس عن ظلمة أوصافها وتحليتها بأنوار الأرواح ، وحاصل تسويل الشيطان عكس هذه القضية وإليه الإشارة في قوله ) إن تبدوا ما في أنفسكم ( مودع من أنوار الأخلاق الروحاينة في الظاهر بأعمال الشريعة في الباطن بأحوال الحقيقة ) أو تخفوه ( بإبراز ظلمات الأوصاف النفسية في الظاهر بمخالفات الشريعة ، وفي الباطن بموافقات الطبيعة ) يحاسبكم به الله ( بطهارة النفس لقبول أنوار الروح أو بتلوث الروح لقبول ظلمات النفس ) فيغفر لمن يشاء ( فينور نفسه بأنوار الروح وروحه بأنوار الحق ) ويعذب من يشاء ( فيعاقب نفسه بنار دركات السعير وروحه بنار فرقة العلي الكبير ) والله على كل شيء ( من إظهار اللطف والقهر على تركيب عالمي الأمر والخلق ) قدير ( لما عرج بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى سدرة المنتهى وبلغ المقصد الأعلى ) ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ) [ النجم : 9 ] أكرم بالسلام قبل الكلام فقيل : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته .
فأجاب ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) .
فقيل له ) آمن الرسول ( عباناً ) بما أنزل إليه من ربه ( فقال من كمال رأفته بأمته ) والمؤمنون كل آمن بالله ( إلى قوله ) سمعنا وأطعنا ( فقال الله تعالى : ما يطلبون مني في جزاء السمع والطاعة ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) غفرانك ربنا وإليك المصير ( ما يطلبون إلا أن تسترهم بسربال فضلك ويكون مصيرهم إليك لا إلى غيرك كما كان مصيري إليك لا إلى من سواك ، قال الله في جوابه ) لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ( إنك في مقام لا يسعك يه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولهذا قال لك جبريل : لو دنوت أنملة لاحترقت .
وإن الأنبياء والمرسلين الذين اصطفيناهم على العالمين وكل طائفة منهم في سماء واقفون حبستهم رحمتي كيلا تحرقهم سبحات وجهي وسطوات قهري ، فكيف أكلف أمتك المذنبة المرحومة بهذا المصير وأنا بضعف حالهم بصير ؟ وإنما بلغك هذا المقام حتى تجاوزت الرسل الكرام أن اتخذتك حبيباً قبل أن أخلقك وخلقت الكائنات لمحبتك ولأن أمتك أكرم الأمم ، ولهم بسبب شفاعتك اختصاص بمحبتي إياهم ما داموا في متابعتك فقل لهم ) إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [ آل عمران : 31 ] فبقدر ما كسبت أمتك من أنوار متابعتك تستحق المصير إلى حضرة جلالنا وشواهد جمالنا ، وعل قدر ما اكتسبت بالتواني عن ظل متابعتك تستأهل المصير إلى دركات السعير .(2/96)
" صفحة رقم 97 "
فتارة أسكره لذة هذا الخطاب وأخرى أقحمته سطوة هذا العتاب .
فقال ) ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ( أي لا تعاقب أمتي إن نسيت عهدك الذي عاهدتم أن يحبوك ولا يحبوا غيرك ، أو أخطأت طريق طلبات ولكن ما أخطأت طريق عبوديتك فلم يعبدوا غيرك وأنت قلت : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] ( ربنا ولا تحمل علينا إصراً ( بأن تجعلنا أسري النفس الأمارة فنعبد عجل الهوى ونار الشهوات كما عبد الذين من قبلنا ) ولا تحملنا ما لا طاقة لنا ( بالصبر عن شهود جمالك ) واعف عنا ( حجب أنانيتنا وجودنا وناصرنا في نيل مقصودنا ) فانصرني على القوم الكافرين ( بجذبات عنايتك وأعنا في المصير إليك على قمع كفار الأثنينية التي تمنعنا من وحدتك .
بيني وبينك إنيَّ يزاحمني
فارفع بجودك إنّي من البين .(2/97)
" صفحة رقم 98 "
سورة آل عمران
( سورة آل عمران وهي مدينة حروفها 4424 كلماتها 485 آياتها مائتان ( ( آل عمران : ( 1 - 11 ) الم
" الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب "
( القراآت )
آلم الله ( مقطوعة الألف والميم ساكنة : يزيد والمفضل والأعشى والبرجمي الباقون موصولاً بفتح الميم .
) التوراة ( ممالة حيث كان : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف والنجاري عن ورش ، والخزار عن هبيرة ، وابن ذككوان غير ابن مجاهد ) كدأب ( حيث كان بغير همزة : أبو عمرو وغيره شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش والخزار عن هبيرة وحمزة عن الوقف .
الوقوف : ( آلم ( ج كوفي مختلف فإن غير الأعشى والبرجمي ويزيد والمفضل يصلون ) إلا هو ( ج ) القيوم ( ط ) والإنجيل ( ط ) الفرقان ( ط ) شديد ( ط ) انتقام ( ه ، ) في السماء ( ط ) كيف يشاء ( ط ) الحكيم ( ه ، ) متشابهات ( ط لاستئناف تفصيل ) وابتغاء(2/98)
" صفحة رقم 99 "
تأويله ( ج لأن الواو تصلح استئنافاً والحال أليق ) إلا الله ( عند أهل أهل السنة لأنه لو وصل فهم أن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه كما يعلم الله ومن لم يحترز عن هذا وجعل المتشابه غير صفة الله ذاتاً وفعلاً من الأحكام التي يدخلها القياس والتأويل وجعل المحكمات الأصول النصوص المجمع عليها فعطف قوله ) والراسخون ( على اسم الله وجعل ) يقولون ( حالاً لهم ساغ له أن لا يقف على ) إلا الله ( ) آمنا به ( ( لا ) لأن قوله ) كل من عند ربنا ( من مقولهم فإن التسليم من تمام الإيمان .
) من عند ربنا ( ج لاحتمال أن ما بعده مقولهم ) الألباب ( ه ، ) رحمة ( ج للابتداء بأن ولاحتمال لام التعليل أو فاء التعقيب للتسبب ) الوهاب ( ه ، ) فيه ( ط ) الميعاد ( ه ، ) شيئاً ( ط ) النار ( ( لا ) لتعلق كاف التشبيه ) فرعون ( ( لا ) للعطف ، ) من قبلهم ( ط ، ) بآياتنا ( ج للعدول مع فاء التعقيب ) بذنوبهم ( ط ) العقاب ( ه .
التفسير : إما قراءة عاصم فلها وجهان : الأول نية الوقف ثم إظهار الهمزة لأجل الابتداء .
الثاني أن يكون ذلك على لغة من يقطع ألف الوصل .
وأما من فتح الميم ففيه موقوفة الأواخر تقول : ألف ، لام ، ميم كما تقول : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، وعلى هذا وجب الابتداء بقوله ) الله ( فإذا ابتدأنا به تثبت الهمزة متحركة إلا أنهم أسقطوا الهمزة للتخفيف وألقيت حركتها على الميم لتدل حركتها على أنها في حكم المبقاة بسبب كون هذه اللفظة مبتدأ بها ، فكأن الهمزة ساقطة بصروتها باقية بمعناها .
وثانيهما قول سبيويه وهو أنه لما وصل ) الله ( ب ) آلم ( التقى ساكنان بل سواكن ضرورة سقوط الهمزة في الدرج ، فوجب محافظة على التفخيم .
فالتفتحة على هذا القول ليست هي المنقولة من همزة الكسر إلا أنهم فتحوا الميم عليه ما يرد على القول الأول من أن الهمز حيث لا وجود لها في الوصل أصلاً فلا يرد حركتها .
قال الواحدي : نقل المفسرون أنه قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفد نجران ستون راكباً فبهم أربعة شعر رجلاً من أشرافهم وثلاثة منهم كاتنوا أكابر القوم ، أحدهم أميرهم واسمه عبد المسيح والثاني مشيرهم ووزيرهم ، وكانوا يقولون له السيد واسمه الأيهم ، والثالث حبرهم وأسقفهم وصاحب مدارسهم يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل ، وكان ملوك الروم شرفوه وموّلوه فأكرموه لما بلغهم عنه عن علمه واجتهاده في دينهم ، فلما قدموا من نجران ركب أبو حارثة بغلته وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة فبينما بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت فقال كرز أخوه : تعس الأبعد يريد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
فقال أبو حارثة : بل تعست(2/99)
" صفحة رقم 100 "
أمك .
فقال : ولم يا أخي ؟ فقال : إنه والله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي ننتظره .
فقال له أخوه كرز : فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا ؟ قال : لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالاً كثيرة وأكرمونا .
وفلو آمنا بمحمد لأخذوا منا كل هذه الأشياء .
فوقع ذلك في قلب أخيه كرز وكان يضمر إلى أن أسلم ، وكان يحدث بذلك ، ثم تكلم أولئك الثلاثة - الأمير والسيد والحبر - مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على اختلاف من أديانهم .
فتارة يقولون عيسى هو الله ، وتارة ابن الله ، وتارة ثالث ثلاثة ، ويحتجون لقولهم هو ( الله ) بأنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير ، ويحتجون في قولهم ( إنه ولد الله ) بأنه لم يكن له أب يعلم ، ويحتجون على ( ثالث ثلاثة ) بقول الله تعالى : ( فعلنا وفعلنا ) ولو كان واحداً لقال ( فعلت ) .
وقد حان وقت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : دعوهم .
فصلوا إلى المشرق ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أسلموا ، فقالوا : قد أسلمنا قبلك .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : كذبتم كيف يصح إسلامكم وأنتم تثبتون لله ولداً ، وتعبدون الصليب وتأكلون الخنزير ؟ قالوا : فمن أبوه ؟ فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى في ذلك أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها آية المباهلة ، ثم أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يناظر معهم فقال : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه ؟ قالوا : بلى .
قال : ألستم تعلمون أنه حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا : بلى : قال : ألستم يعلم عيسى شيئاً من ذلك إلا ما علم ؟ قالوا : لا .
قال : فإن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء ، فهل تعلمون ذلك ؟ قالوا : بلى قال : ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ، وتعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة وغذي كما يغذى الصبي ، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ؟ قالوا : بلى .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : فكيف يكون هو كما زعمتم ؟ فعرفوا ثم أبوا إلا حجوداً ثم قالوا : يا محمد : ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال : بلى ، قالوا : فحسبنا .
ففي ذلك نزل ) فأما الذين في قلوبهم زيغ ( الآية .
وتمام القصة سيجيء في آية المباهلة إن شاء الله تعالى .
واعلم أن مطلع هذه السورة له نظم عجيب ونسق أنيق .
وذلك أن أولئك النصارى كأنه قيل لهم : إما أن تنازعوه في شأن الإله أو في أمر النبوة .
أما الأول فالحق فيه معه لأنه تعالى حيّ قيوم كما مر في تفسير آية الكرسي ، وأن عيسى ليس كذلك لأنه ولد وكان يأكل ويشرب(2/100)
" صفحة رقم 101 "
ويحدث. والنصارة زعموا أنه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه .
وهذه الكلمة أعني قوله ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( جامعة لجيمع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى بالتثليث .
وأما الثاني فقوله ) نزل عليك الكتاب بالحق ( كالدعوى .
قووله ) وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ( كالدليل عليها .
وتقريره أنكم وافقتمونا على أن التوراة والإنجيل كتابان إلهيان لأنه تعالى قرن بإنزالهمان المعجزة الدالة على الفرق بين قولهما وبين أقوال الكاذبين ثم إن المعجز قائم في كون القرآن نازلاً من عند الله كما قام في الكتابين .
وإذا كان الطريق مشتركاً فالواجب تصديق الكل كالمسلمين .
أما قبول البعض ورد البعض فجعل وتقليد ، وإذا لم يبق بعد ذلك عذر لمن ينازعه في دنيه فلا جرم ختم بالتهديد والويعد فقال ) إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد ( وإنما خص القرآن بالتنزيل والكتابين بالإنزال لأنه نزل منجماً ، فكان معنى التكثير حاصلاً فيه ، وأنهما نزلا جملة .
وأما قوله ) الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) [ الكهف : 1 ] فالمراد هناك نزوله مطلقاً من غير اعتبار التنجيم .
قال أبو مسلم : قوله ) بالحق ( أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم ، وأن ما فيه من الوعد والوعويد يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال ويمنعه عن سلوك الطريق الباطل ، وأنه قول فصل وليس بالهزل .
وقال الأصم : أي بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية ، ولبعضهم على بعض من سلوك السبيل العدالة والإنصاف في المعاملات .
وقيل : مصوناً من المعاني الفاسدة المتناقضة كقوله ) ولم يجعل له عوجاً قيماً ) [ الكهف : 1 ، 2 ] ( لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) [ النساء : 82 ] وفي قوله ) مصدقاً لما بين يديه ( إنه لو كان من عند غير الله لم يكن موافقاً لسائر الكتب المتقدمة ، لأن من هو على مثل حاله من كونه أمياً لم يخالط أهل الدرس والقراءة إن كان مفترياً استحال أن يسلم من التحريف والجزاف .
وفيه أنه تعالى لم يبعث نبياً قط إلا بالدعاء إلى توحيده وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان .
فإن قيلئ : كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه ؟ فالجواب أن هذا اللفظ صار مطلقاً في معنى التقدم ، أو لغاية ظهور تلك الأخبار جعلها كالحاضر عنده .
فإن قلت : كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب مع أنه ناسخ لأحكامها أكثرها ؟ قلنا : إذا كانت الكتب مبشرة بالقرآن وبالرسول ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثته ثم تصير منسوخة عند نزول القرآن ، كانت موافقة للقرآن ، وكان القرآن مصدقاً لها .
فأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في القرآن مصدق لها لأن المباحث الإلهية والقصص والمواعظ لا تختلف .
والتوراة والإنجيل اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسريانية .
فالاشتغال باشتقاقهما لا يفيد إلا أن بعض الأدبار قد تكلف ذلك فقال الفراء : التوارة معناها الضياء والنور من ورى الزند يرى إذا قدح وظهرت(2/101)
" صفحة رقم 102 "
النار. قال : وأصلها تورية بفتح التاء والراء ولهذا قلبت الياء ألفاً .
أو تورية بكسر الراء ( تفعلة ) مثل ( توفية ) إلاأن الراء فتحت على لغة طي فإنهم يقولون في بادية ( باداة ) .
وزعم الخليل والبصريون أن أصلها ( وورية ) ( فوعلة ) كصومعة قفلبت الواو الأولى تاء كتجاه وتراث .
وأما الإنجيل فالزجاج : إفعيل من النجل الأصل أي هو الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين .
وقيل : من نجلت الشيء استخرجته أي إنه تعالى أظهر الحق بسببه .
أبو عمرو الشيباني : التناجل التنازع سمي بذلك لأن القوم تنازعوا فيه .
ومعنى قوله ) من قبل ( أي من قبل أن ينزل القرآن .
و ) هدى للناس ( إما أن يكون عائداً إلى الكتابين فقط فيكون قد وصف القرآن بأنه حق ، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى .
وإنما لم يوصف القرآن بأنه هدى مع أنه قال في أول البقرة ) هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] لأن المناظرة ههنا مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن ، فذكر أنه حق في نفسه سواء قبلوه أو لم يقبلوه ، وأما الكتابان فهم قائلون بصحتهما فخصهما بالهداية لذلك ، وإما أن يكون راجعاً إلى الكتب الثلاثة وهو قول الأكثرين .
) وأنزل الفرقان ( قيل : أي جنس الكتب السماوية لأنها كلها تفرق بين الحق والباطل .
وقيل : أي الكتب التي ذكرها كأنه وصفها بوصف آخر فيكون كما قال :
إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم .
وقيل : أي الكتاب الرابع وهو الزبور ، وزيف بأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام وإنما هو مواعظ ، ويحتمل أن يجاب بأن غاية المواعظ هي التزام الأحكام المعلومة فيؤل إلى ذلك .
وقيل : كرر ذكر القرآن بما هو مدح له ونعت بعد ذكره باسم الجنس تفخيماً لشأنه وإظهاراً لفضله .
وفي التفسير الكبير : إنه تعالى لما ذكر الكتب الثلاثة بيّن أنه أنزل معها ما هو الفرقان الحق وهو المعجز الباهر الذي يدل على صحتها ، ويفيد الفرق بينها وبين كلام المخلوقين .
ثم إنه تعالى بعد ذكر الإلهيات والنبوات زجراً لمعرضين عن هذه الدلائل وهم أولئك النصارة أو كل من أعرض عن دلائله فإن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ فقال ) إن الذين كفروا بآيات الله ( من كتبه المنزلة وغيرها من دلائله ) لهم عذاب شديد والله عزيز ( لا يغالب إذ لا حد لقدرته ) ذو انتقام ( عقاب شديد لا يقدر على مثله منتقم .
فالتنكير للتعظيم .
وانتقمت منه إذا كافأته عقوبة بما صنع ، فالعزيز إشارة إلى القدرة التامة على العقاب ، وذو انتقام إشارة إل كونه فاعلاً للعقاب .
فالأول صفة الذات ، والثاني صفة الفعل .
قوله سبحانه ) إن الله لا يخفى عليه شيء ( لما ذكر أنه حيّ قيوم والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ، وكونه كذلك يتوقف على مجموع أمرين : أن يكون عالماً بكميات(2/102)
" صفحة رقم 103 "
حاجاتهم وكيفياتها وكلياتها وجزائياتها ، ثم أن يكون قادراً على ترتيبها ، والأول لا يتم إلا إذا كان علاماً بجميع المعلومات أشار إلى ذلك بقوله ) إن الله لا يخفى عليه شيء ( والثاني لا يتأتى إلا إذا كان قادراً على جميع الممكنات فأشار إليه بقوله ) هو الذي يصوركم ( ثم فيه لطيفة أخرى وهي أنه لما ادعى كمال عمله بقوله ) إن الله لا يخفى عليه شيء ( والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالماً لا يجوز أن يكون هو السمع ، لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، بل الطريق إلى ذلك ليس إلا الدليل العقلي فلا جرم قال ) هو الذي يصوركم في ظلمات الأرحام ( بهذه البنية العجيبة والتركيب الغريب من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة ، بعضها عظام ، وبعضها أوردة ، وبعضها شرايين ، وبعضها عضلات .
ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن والتأليف الأكمل ، وذلك يدل على كمال علمه لأن التركيب المحكم المتقن لا يصدر إلا عن العالم بفاصيله ثم إنه تعالى لما كان قيوماً بمصالح الخلق ومصالحهم قسمان : جسمانية وأشرفها تعديل المزاج وأشار إليها بقوله ) هو الذي يصوركم ( وروحانية وأشرفها إلى العلم فلا جرم أشار إلى ذلك بقوله ) هو الذي أنزل عليك الكتاب (. ويحتمل أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها .
وذلك أن النصارى ادعوا إلهية عيسى وعولوا في ذلك على نوعين من الشبهة : أحدهما يتعلق بالعلم وهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب وذلك قوله تعالى : ( وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ) [ آل عمران : 49 ] والثاني يتعلق بالقدرة كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وليس للنصارة شبهة غير هاتين .
فأزال شبهتهتم الأولى بقوله ) إن الله لا يخفى عليه شيء ( فمن الملعوم بالضرورة من أحوال عيسى أنه ما كان عالماً بجميع المعلومات .
فعدم إحاطته بجميع الأشياء فيه دلالة قاطعة على أنه ليس بإله ، ولكن إحاطته ببعض المغيبات لا تدل على كونه إلهاً لاحتمال أنه علم ذلك بالوحي أو الإلهام .
وأزال شبهتهم الثانية بقوله ) هو الذي يصوركم ( وذلك أن الإله هو الذي يقدر على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب والتأليف الغريب ، ومعلوم أن عيسى لم يكن قادراً على الإحياء والإماتة بهذا الوجه .
كيف ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارة وقتلوه .
فإماتة بعض الأشخاص أو إحياؤه لا يدل على الإلهية لجواز كونه بإظهار الله تعالى المعجزة على يده ، والعجز على إماتة البعض أو إحيائه يدل على عدم الإلهية قطعاً ، وأما الإحياء والإماتة لجميع الحيوانات فيدل على الإلهية قطعاً .
ثم إنّهم عدلوا عن المقدمات المشاهدية إلى مقدمات إلزامية وهو أنكم أيها المسلمون توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر فيكون ابناً لله .
والجواب عنه بقوله(2/103)
" صفحة رقم 104 "
أيضاً ) هو الذي يصوركم ( لأن هذا التصوير لما كان منه صفة فإن شاء صوره من نطفة الأب ، وإن شاء صوره ابتداء من غير آب .
وأيضاً قالوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروحه ؟ وهذا يدل على أنه ابن لله .
فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي ، محتمل للحقيقة والمجاز ، وإذا ورد اللفظ بحيث يخالف الدليل العقلي كان من باب المتشابهات فوجب رده إلى التأويل ، أو تفويضه إلى علم الله وذلك قوله ) هو الذي أنزل عليك الكتاب ( الآية .
فظهر أنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة إلا وقد اشتملت هذه الآيات على دفعها والجواب عنها .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله ) في الأرض ولا في السماء ( مع أنه لو أطلق كان أبلغ ؟ قلت : الغرض تفهيم العباد كمال علمه المطلوب كان السموات والأرض أقوى لعظمتهما في الحس ، والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل ، وهذه فائدة ضرب الأمثلة في العلوم .
قال الواحدي : التصوير جعل الشيء على صورة ، والصورة هيئة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه ، وأصله من صاره إذا أماله .
وذلك أن الصورة مائلة إلى شكل أبويه .
والأرحام جمع الرحم ، والتركيب يدل على الرقة والعطف كما سلف ، وقيل : سمي رحماً لاشتراك الرحم فيما بوجب الرحمة والعطف .
وقرىء ) تصوركم ( أي صوركم لنفسه ولتعبده و ( كيف ) في موضع الحال أي على أي حال أراد طويلاً أو قصيراً ، أسود أو أبيض ، حسناً أو قبيحاً إلى غير ذلك من الأحوال المختلفة .
ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد رداً على النصارى القائلين بالتثليث فقال ) لا إله إلا هو العزيز الحكيم ( فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة ، والحكيم إلى كمال العلم .
وفيه رد على من زعم إلهية عيسى فإن العلم ببعض الغيوب وإحياء بعض الأشخاص لا يكفي في كونه إلهاً .
ولنذكر ههنا مسائل : الأولى : القرآن دل على أنه بكليته محكم وذلك قوله : ( الر كتاب أحكمت آياته ) [ هود : 1 ] ( الر تلك آيات الكتاب الحكيم ) [ يوسف : 1 ] والمراد كون كله كلاماً ملحقاً فصيح الألفاظ صحيح المعاني ، وأنه بحيث لا يتمكن أحد من الإتيان بمثله لوثاقة مبانية وبلاغه معانيه .
ودل على أنه بتمامه متشابه ) كتاباً متشابهاً مثاني ) [ الزمر : 23 ] والمراد أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن والإعجاز والبراءة من التناقض والتناقض .
ثم إن هذه الآية ) هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ( دلت على أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه .
فيعني ههنا بالمحكم ما هو المشترك بين النص والظاهر ، وبالمتشابه القدر المشترك بين المجمل والمؤول كما تقرر في المقدمة التاسعة من مقدّمات هذا الكتاب .
والإحكام في اللغة المنع وكذا سائر تراكيبه .(2/104)
" صفحة رقم 105 "
فالحاكم يمنع الظالم من الظلم ، وحكمة اللجام تمنع الفرس من الاضطراب ، وفي حديث النخعي ( حكم اليتيم كما تحكم ولدك ) أي امنعه من الفساد ، وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي وأما التشابه فهو كون الشيئين بحيث يعجز الذهن عن التمييز بينهما .
ثم يقال لكل ما لا يهتدي الإنسان إليه متشابه إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، ونظيره المشكل لأنه أشكل أي دخل في شكل غيره ، ثم إن كل أحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة ، ولقول خصمه متشابهة .
فالمعتزلي يقول : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) [ الكهف : 29 ] محكم ) وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ) [ التكوير : 29 ] متشابه .
والسني يقلب الأمر في ذلك .
وكذا المعتزلي يقول : ( لا تدركه الأبصار ) [ الأنعام : 103 ] محكم وقوله ( وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة ) [ القيامة : 22 ، 23 ] متشابه ، والسني بالعكس .
فلا بد من قانون يرجع إليه فنقول : صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل .
وهو إما لفظي أو عقلي .
والدليل اللفظي لا يكون قاطعاً ألبتة لتوقفه على نقل اللغات ، وعلى وجوه التصريف والإعراب ، وعلى عدم الاشتراك وعد المجاز وعد التخصيص وعدم الإضمار وعدم المعارض النقلي والعقلي ، وكل ذلك مظنون ، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنوناً فلا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية ، فإذن لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بالدلالة القطعية العقلية ، على أن معناه الراجح محال عقلاً فإذا قامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذه اللفظ ما أشعر به الظاهر ، فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا ، لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز ، وترجيح تأويل على تأويل ، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية وهي ظنية كما بينا ولا سيما المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر ، فإذن الخوض في تعيين التأيول غير جائز والله أعلم .
المسألة الثانية في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه .
عن ابن عباس أن المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الأنعام ) قل تعالوا ) [ آية : 151 ] إلى آخرها ، هي التي اشتبهت على اليهود كأوائل السور ، أوّلوها على حساب الجمل ليستخرجوا بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه ، وعنه أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ .
وقال الأصم : المحكم هو الذي يكون دلائله واضحة لائحة كإنشاء الخلق في قوله : ( فخلقنا النطفة علقة ) [ المؤمنون : 14 ] والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل كآيات(2/105)
" صفحة رقم 106 "
البعث ، فإن التأمل يجعلها محكمة ، فإن من قدر على الإنشاء قدر على الإعادة .
فإن عنى الأصم بوضوح الدلائل رجحانها ، وبالخفاء خلاف ذلك ، فهذا هو الذي ذكرنا من أن المحكم عبارة عن النص والظاهر ، والمتشابه المجمل والمؤول ، وإن عنى بالواضح ما تعلم صحته بضورة العقل ، وبالخفي ما تعرف صحته بدليل العقل ، فكل القرآن متشابه ، فإن إنشاء الخلق أيضاُ يفتقر إلى دليل عقلي ، فإن الدهري ينسب ذلك إلى الطبيعة ، والمنجم إلى تأثير الكواكب .
ولعل الأصم يسمي ما هو الأبعد ن الغلط لقلة مقدماته وضبطها محكماً ، والذي هو غير ذلك متشابهاً .
وقيل : كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي أو دليل خفي فهو المحكم ، وكل ما لا سبيل إلى معرفته كالعلم بوقت القيامة وبمقادير الثواب والعقاب في حق كل مكلف فذاك متشابه .
المسألة الثالثة في أنه لم جعل بعض القرآن محكماً وبعضه متشابهاً .
من الملحدة من طعن فيه وقال : كيف يليق بالحكيم أن يجعل كتابه المرجوع إليه في دينه ، الموضوع إلى يوم القيامة بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب ، فمثبت الرؤية يتمسك بقوله ) وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) [ القيامة : 22 ، 23 ] ونافيها يتشبث بقوله ) لا تدركه الأبصار ) [ الأنعام : 103 ] ومثبت الجهة ) يخافون ربهم في فوقهم ) [ النحل : 50 ] ( الرحمن على العرش استوى ) [ طه : 5 ] والنافي ) ليس كمثله شيء ) [ الشورى : 11 ] فكل منهم يسمي الايات الموافقة لمذهبه محكمة والمخالفة متشابهة ، وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى وجوه ضعيفة وتراجيح خفية ، وهذا لا يليق بالحكمة مع أنه لو جعل كله ظاهراً جلياً خالصاً عن المتشابه نفياً كان أقرب إلى حصول الغرض .
والجواب أنه متى كانت المتشابهات موجودة ضعيفة وتراجيح خفية ، وهذا لا يليق بالحكمة مع أنه لو جعل كله ظاهراً الثواب .
وأيضاً لو كان كله محكماً كان مطابقاً لمذهب واحد فقط فكان ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه والانتفاع به ، وإذا كان مشتملاً على القسمين فحينئذٍ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مقالته فيجتهد في فهم معانيه ، وبعد الفحص والاستكشاف ، صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات ، ويختلص المبطل عن باطلة ويصل إلى الحق .
وأيضاً إذا كان فيه محكم ومتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بالدلائل العقلية ، فيتخلص من ظلمة التقليد إلى ضياء البينة والاستدلال والطمأنينة ، وافتقر أيضاً إلى تحصيل علوم آخر كالصرف والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه وأصول الكلام إلى غير ذلك ، ولما في المتشابهة من الابتلائ والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه .
وههنا سبب أقوى وهو أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام ، وطباع العامة تنبو(2/106)
" صفحة رقم 107 "
في الأغلب عن إدراك الحقائق ، فمن سمع منهم في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل ، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما توهموه وتخيلوه مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح ، فالأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر من باب المتشابهات ، والثاني وهو الذي يكشف لهم آخر الحال من قبيل المحكمات .
قوله ) هن أم الكتاب ( الأم في اللغة الأصل الذي يتكون منه الشيء ، فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها ، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات ، فلا جرم صارت المحكات أصولاً للمتشابهات .
وإنما لم يقل أمهات الكتاب ليطابق المتبدأ لأن مجموع المحكات في تقدير شيء واحد هو الأصل لمجموع المتشابهات ، وهذا كقوله ) وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) [ المؤمنون : 50 ] على معنى أن مجموعها آية واحدة .
) وأخر ( أي ومنه آيات آخر ) متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ ( أي ميل عن الحق ) فيتبعون ما تشابه منه ( لا يتمسكون إلا بالمتشابه .
قال الربيع : هم وفد نجران حاجوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المسيح فقالوا : أليس هو كلمة الله وروحاً منه ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : بلى .
قالوا : حسبنا .
وقال الكلبي : هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة من الحروف المقطعة في أوائل السور .
وقال قتادة والزجاج : هم منكرو البعث لأنه قال في آخره ) وما يعلم تأويله إلا الله ( وما ذاك إلا وقت القيامة فإنه تعالى أخفاها عن الخلائق حتى الملائكة والأنبياء .
والتحقيق أنه عام لكل مبطل متشبث بأهداب المتشابهات ، لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عن عموم اللفظ ، ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه .
ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة والكفار من النقمة فكانوا يقولون ائتنا بعذاب الله ، ومتى الساعة ، ولو ما تأتينا بالملائكة ، فموهواالأمر على الضعفة ، قال أهل السنة : ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله ) الرحمن على العرش استوى ) [ طه : 5 ] فإنه لما ثبت بصريح العقل امتناع كون الإله في مكان وإلا لزم انقسامه ، وكل منقسم مركب ، وكل مركب مكن ، فمن تمسك به كان متمسكاً بالمتشابهات .
ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي وأنه من الله تعالى وإلا تسلسل ، فيكون حصول الفعل مع تلك الداعية وعدمه عند عدمها يجوز للعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه ؟ بناء على ما اشتهر بين الجمهور من أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة ، وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة .(2/107)
" صفحة رقم 108 "
والإنصاف أن الآيات ثلاثة اقسام : أحدها ما يتأكد ظواهرها بالدلائل العقلية فذاك هو المحكم حقاً .
وثانيها التي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله غير ظاهره ، وثالثها الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فهو المتشابه بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر .
لكن ههنا عقدة أخرى وهي أن الدليل العقلي مختلف فيه أيضاً بحسب ما رتبه كل فريق وتخيله صادقاً في ظنه مادة وصورة ، فكل فريق يدعي بمقتضى فكره أن الدليل العقلي قد قام على ما يوافق مذهبه وتأكد به الظاهر الذي تعلق به ، فلا خلاص من البين إلا بتأييد سماوي ونور إلهي ) ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ) [ النور : 40 ] ثم إنه تعالى بين أن للزائغين غرضين : أحدهما ) ابتغاء الفتنة ( وهي في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه ، يقال : فلان مفتون بطلب الدنيا ، والرجل مفتون بابنه وبشعره ، فكان التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتوناً به عاشقاً لا ينقطع عنه تخيله ألبتة ، وقيل : الفتنة في الدين هو الضلال عنه أي طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم .
وعن الأصم : إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في البين صار بعضهم مخالفاً للبعض في الدين ، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة .
الغرض الثاني ) ابتغاء تأويله ( أي طلب المعنى الذي يرجع إليه اللفظ بحسب ما يشتهونه من غير أن يكون قد وجد له في كتاب الله بيان ، قال القاضي أبو بكر : هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما أن يحملوه على غير الحق وهو المراد من قوله ) ابتغاء الفتنة ( والثاني أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه وهو قوله ) وابتغاء تأويله ( ثم قال عز من قائل ) وما يعلم تأويله إلا الله ( والعلماء اختلفوا في هذا الموضع .
منهم من يقف ههنا ، فعلى هذا لا يعلم المتشابه إلا الله وهو قول ابن عباس وعائشة والحسن ومالك بن أنس والكسائي والفراء ، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي ، ومنهم من لم يجعل الواو في ) والراسخون ( للابتداء وإنما يجعله للعطف حتى يكون العلم بالمتشابه حاصلاً عند الله وعند الراسخين ، لأن وصفهم بالرسوخ في العلم - وهو الثبوت والتعمق وبعد الغور فيه - يناسب ذلك .
وهذا قول مجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين ، وقد يروى عن ابن عباس أيضاً .
والمختار هو الأول لوجوه منها : ما ذهب إليه كثير من العلماء أن ( أما ) فيه معنى التفصيل ألبتة ، وهذا إنما يستقيم لو قدر و ( أما الراسخون في العلم فيقولون ) .
ومنها أن اللفظ إذا كان له معنى راجح ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد ، علم أن مراد الله بعض مجازات تلك الحقيقة وفي المجازات كثرة وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالتراجيح اللغوية الظنية ، ومثل ذلك لا يصح(2/108)
" صفحة رقم 109 "
الاستدلال به في المسائل القطعية مثاله ) الرحمن على العرش استوى ) [ طه : 5 ] فإنه دل الدليل على أن الإله يمتنع أن يكون في المكان ، فعرفنا أنه ليس مراداً لله من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها إلا أن في مجازات هذا اللفظ كثرة لا يتعين أحدها إلا بدليل لغوي ظني ، والقول بالظن في ذات الله وصفاته يغر جائز بإجماع المسلمين ، ولهذا قال مالك بن أنس : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة .
ومنها ما قيل إن هذه الآية ذم لطالب تأويل المتشابه حيث قال ) فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه ( وتخصيص بعض المتشابهات بذلك كطلب وقت الساعة ونحوه ترجيح من غير مرجح ، فالذم يتوجه على الكل وهو المطلوب .
ومنها أنه تعالى مدح الراسخين في العلم بأنهم ) يقولون آمنا به ( وقال تعالى في أول البقرة : ( فأما الذي آمنوا فيعلمون أنه الحق منه ربهم ) [ البقرة : 26 ] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح ، ولا في قولهم ) كل من عند ربنا ( لأن كل من عرف شيئاً على التفصيل فإنه لا بد أن يؤمن به إنما الراسخون في العلم هو الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها ، وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى ، وأنه لا يتكلم بالباطل والعبث ، فإذا سمعوا آية ودلت الدلائل القاطعة على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراداً لله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها ، وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى ، تعيين : لك المراد إلى علمه وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب .
فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله بحيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ولا عدم علمهم بالمراد عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن ، ولم يصر كون ظاهره مردوداً شبهة لهم في الطعن في كلام الله تعالى .
ثم إن جعل قوله ) والراسخون ( عطفاً على اسم ) الله ( فقوله ) يقولون آمنا به ( كلام مستأنلف موضح لحال الراسخين بمعنى هم يقولون آمنا بالمتشابه كل من عند ربنا أي كل واحد من المحكم والمتشابه من عنده .
وفي زيادة ) عند ( مزيد توضيح وتأكيد وتفخيم لشأن القرآن ، ويحتمل أن يعود الضمير في ) آمنا به ( إلى الكتاب أي يقولون ، آمنا بالكتاب كل من محكمه ومتشابهه من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه ، ويحتمل أن يكون قوله ) يقولون ( حالاً إلا أن فيه إشكالاً وهو أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره وههنا قد تقدم ذكر الله وذكر الراسخين ، والحال لا يمكن إلا من الراسخين فيلزم ترك الظاهر .
) وما يذكر إلا أولوا الألباب ( ما يتعظ إلا ذوو العقول الكاملة الذين يستعملون أذهانهم في فهم القرآن فيعلمون ما الذي يطابق ظاهره دلائل العقل فيكون محكماً ، وما الذي هو بالعكس فيكون متشابهاً ، ثم يعتقدون أن الكل كلام من لا يجوز في(2/109)
" صفحة رقم 110 "
كلامه التناقض ، فيحكمون بأن ذلك المتشابه لا بد أن يكون له معنى صحيح عند الله وإن دق عن فهومنا. وقيل : هو مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل حتى علموا من التأويل ما علموا ، ثم إنه تعالى حكى عن الراسخين نوعين من الدعاء : الأول قولهم ) ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ( أي بعد وقت هدايتا ، والثاني قولهم ) وهب لنا من لدنك رحمة ( سألوا ربهم أوّلاَ أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الأباطيل والعقائد الفاسدة ، ثم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة ويزين جوارحهم وأعضاءهم بزينة الطاعة والعبودية والخدمة .
ونكر رحمة ليشمل جميع أنواعها .
فأوّلها أن يحصل في القلب نور الإيمان والتوحيد والمعرفة ، وثانيها أن يحصل في الجوارح والأعضاء نور الطاعة والعبودية والخدمة ، وثالثها أن يحصل له في الدنيا سهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية ، ورابعها أن يحصل عند الموت سهولة سكرات الموت ، وخامسها سهولة السؤال والظلمة والوحشة في القبر ، وسادسها في القيامة سهولة العقاب والخطاب وغفران السيئات ووتبديلها بالحسنات ، وسابعها في الجنة ، وفي قولهم ) من لدنك ( تنبيه على أن هذا المقصود لا يحصل إلا من عنده ويؤكده قوله ) إنك أنت الوهاب ( فالمطالب وإن كانت عظيمة فإنها تكون حقيرة بالنسبة إلى غاية كرمك ونهاية وجودك وموهبتك .
ولنعد إلى ما يتعلق بالدعاء الأول قال أهل السنة : القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان ، وصالح لأن يميل إلى الكفر ، وكل منهما يتوقف على داعية ينشئها الله تعالى فيه ، إذ لو حدثت بنفسها لزم سد باب إثبات الصانع .
فإن كانت داعية الكفر فهو الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والرين وغيرها مما ورد في القرآن ، وإن كانت داعية الإيمان فهو التوفيق والرشاد والهداية والتثبيت والعصمة ونحوها .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن ) يعني الداعيتين .
ومما يؤكد ذلك أن الله تعالى مدح هؤلاء الراسخين بأنهم لا يتبعون المتشابهات بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال ويتركون الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه ، فتكون هذه الآية من أقوى المحكمات وهو ظاهر في أن الإزاغة والهداية كلتيهما من الله تعالى .
أما المعتزلة فقد قالوا : لما دلت الدلائل على أن الإزاغة لا يجوز أن تصدر من الله تعالى لأن ذلك ظلم وقبيح ، وجب صرف الآية إلى التأويل فقال الجبائي واختاره القاضي : المراد أن لا يمنع قلوبهم الألطاف التي معها يستمر قلبهم على صفة الإيمان ، وزيف بأن اللطف إن(2/110)
" صفحة رقم 111 "
صح في حقهم وجب عندكم على الله أن يفعل ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلهيته ولصار جاهلاً أو محتاجاً ، وقال الأصم : لا تبلنا ببلوى يزيغ عندها قلوبنا .
والمعنى لا تكلفنا من العبادات ما لا نأمن معه الزيغ .
وقد يقول القائل : لا تحملني على إيذائك أي لا تفعل ما أصير عنده مؤذياً لك .
وزيف بأن التشديد في التكليف قبيح إن علم الله تعالى أن له أثراً في حمل المكلف على القبيح وإلا فوجوده كعدمه فلا فائدة في صرف الدعاء إليه .
وقال الكعبى : لا تسمنا باسم الزائغ كما يقال : فلان يكفر فلاناً أي يقول إنه كافر .
وزيف بأن التسمية دائرة مع الفعل ، وفعل الزيغ باختيار العبد عندكم فالتسمية أيضاً بسببه ، وقال الجبائي أيضاً : لا تزغ قلوبنا عن جنتك وثوابك وهو كالأول إلا أن يحمل على شيء اخر وهو أنه تعالى إذا علم أنه مؤمن في الحال ، وعلم أنه لو بقي إلى السنة الثانية لكفر أماته في هذه السنة .
ويرد عليه أنه لو كان علمه بأنه يكفر في السنة الثانية يوجب عليه أن يميته لكان علمه بأنه لا يؤمن قط ويبقى على الكفر طول عمره يوجب أن لا يخلقه .
وعن الأصم أيضاً : لا تزغ قلوبنا عن كمال العقل بالجنون بعد إذ هديتنا بنور العقل .
ولا يخفى تعِسفه وعدم مناسبته لقوله ) فأما الذين في قلوبهم زيغ ( وقال أبو مسلم : احرسنا من الشيطان ومن شرور أنفسنا حتى لا نزيغ .
ثم إنهم لما طلبوا أن يصونهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة فكأنهم قالوا ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية ، ولكن الغرض ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه أي في وقوعه .
فاللام للوقت ، أو جامع الناس لجزاء يوم فحذف المضاف ) إن الله لا يخلف الميعاد ( قيل : هو كلام الله تعالى كأنه يصدقهم فيما قالوه ، ولو كان من تمام قول المؤمنين لقيل : إنك لا تخلف : إلا أن يحمل على الالتفات ومعناه أن الإلهية تنافي خلف الميعاد كقولك : إن الجواد لا يخيب سائله .
ولا سيما وعد الحشر والجزاء لينتصف للمظلومين من الظالمين .
والميعاد المواعدة والوقت والموضع قاله في الصحاح .
واعلم أنه لا يلزم من أنه تعالى لا يخلف الوعد القطع بوعيد الفساق كما زعم المعتزلة ، لأن كل ما ورد في وعيد الفساق فهو عندنا مشروط بشرط عدم العفو ، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة بدليل منفصل ، قال الواحدي : ولم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء ، لأن خلف الوعيد كرم عند الرعب .
قال بعضهم :
إذا وعد السراء أنجز وعده
وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
وناظر أبو عمرو بن العلاء عمرو بن عبيد فقال : ما تقول في اصحاب الكبائر ؟ فقال :(2/111)
" صفحة رقم 112 "
إن الله وعد وعداً وأوعد إيعاداً .
فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده .
فقال أبو عمرو إنك أعجم لا أقول أعجم اللسان ولكن أعجم القلب ، لأن العرب تعدّ الرجوع عن الوعد لؤماً وعن الإيعاد كرماً وأنشد :
وإني وإن أوعدته أو ووعدته
لمكذب إيعادي ومنجز موعدي
وذلك أن الوعد حق عليه ، والوعيد حق له ، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم ، ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم فهذا هو الفرق بين الوعد والوعيد .
على أنا لا نسلم أن الوعيد ثابت جزماً من غير شرط بل هو مشروط بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى .
ثم إنه سبحانه لما حكى عن المؤمنين دعاءهم وتضرعهم حكى كيفية حال الكافرين وشدة عذابهم فقال : ( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ( وقيل : المراد وفد نجران وذلك أنا روينا في قصتهم أن أبا حارثة بن عقلمة قال لأخيه : إني أعلم أنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حقاً ، ولكي إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال .
فالله تعالى بيَّن أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة ، لكن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ .
واعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنه كل ما كان منتفعاً به ويجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة .
أما الأول فإليه أشار بقوله : ( لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم ( لأنهما أقرب الأمور التي يفزع إليها المرء عند الخطوب .
وإذا لم يفد أقرب الطرق إلى دفع المضار في ذلك اليوم فما عداه بالتعذر أولى ومثله ) يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) [ الصافات : 149 ] ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير ) [ الكهف : 46 ] وأما الثاني فإليه أشار بقوله : ( وأولئك هم وقود النار ( فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس : ( من ) في قوله ) من الله ( للبدل مثله في قوله ) إن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) [ النجم : 28 ] أي بدله والمضاف محذوف تقديره لن تغني عنهم بدل رحمة الله أو طاعته شيئاً .
أو في الحديث ( ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) أي لا ينفعه جده وحظه في النيا بدل طاعتك وعبادتك وما عندك وأنشد أبو علي :
فليت لنا من ماء زمزم شربه
مبردة باتت عليها طهيان(2/112)
" صفحة رقم 113 "
وطهيان من بلاد الأزد .
قلت : يجوز أن يقال ( من ) للابتداء تقديره من عذاب الله ، والجار والمجرور مقدم حالاً من شيء أو ( من ) زائدة لتأكيد النفي التقدير : لن تغني عنهم عذاب الله شيئاً من الغناء أي لن تدفع .
وقال أبو عبيدة ( من ) بمعنى ( عند ) والمعنى : لن تغني عند الله شيئاً .
قوله تعالى : ( كدأب آل فرعون ( يقال : دأب فلانٍ في عمله أي جدّ وتعب دأبا ودؤباً فهو دئيب .
وأدأبته أنا ، والدائبان الليل والنهار ، والدأتب العادة والشأن ، وكل ما عليه جد هؤلاء الكفار واجتهادهم أو شأنهم أو صنيعهم في تكذيب محمد وكرفهم بدينه كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام .
ثم إنا أهلكنا أولئك بذنوبهم فكذلك نهلك هؤلاء فقوله : ( كذبوا بآياتنا ( تفسير لدأبهم على أنه جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ما فعلوا وما فعل بهم ؟ فقيل : كذبوا بآياتنا بالمعجزات الدالة على صدق رسلنا ) فأخذهم الله بذنوبهم ( أي صاروا عند نزول العذاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على وجه الخلاص ألبتة .
وقيل : المعنى كدأب الله في آل فرعون أي يجعلهم الله وقود النار كعادته وصنيعه في آل فرعون والمصدر يضاف تارة إلى الفاعل وتارة إلى المفعول .
وقال القفال : يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى وللعادة المضافة إلى الكفار كأنه قيل : إن عادة هؤلاء الكفار ومذهبهم في إيذاء محمد كعادة من قبلهم في إذاء الرسل ، وعادتنا أيضاً في إهلاك هؤلاء كعادتنا في إهلاك أولئك الكفرة .
وقيل : الدؤب والدأب اللبث والدوام والتقدير : دؤبهم في النار كدؤب آل فرعون .
وقيل : مشقتهم وتعبهم في النار كمشقة آل فرعون بالعذاب ) النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) [ غافر : 46 ] وقيل : المشبه هو أن أموالهم وأولادهم لا تنفعهم في إزالة العذاب والمعنى : إنكم قد عرفتم ما حل بآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين بالرسل من العذاب المعجل الذي عنده لم ينفعهم مال ولا ولد ، فكذلك حالكم أيها الكفار المكذبون بمحمد فينزل بكم مثل ما نزل بهم ولا تغني عنكم الأموال والأولاد .
ويحتمل أن يكون وجه التشبيه أنه كما نزل بمن تقدم العذاب المعجل بالاستئصال وهو قوله ) فأخذهم الله بذنوبهم ( ثم صاروا إلى دوام العذاب وهو قوله ) والله شديد العقاب ( فسينزل بمن كذب بمحمد أمران : أحدهما المحن المعجلة من القتل والسبي والإذلال وسلب الأموال وإليه الإشارة بقوله فيما بعد ) قل للذين كفروا ستغلبون ( والثاني المصير إلى العذاب الدائم وذلك قوله ) وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ((2/113)
" صفحة رقم 114 "
التأويل : ( آلم ( الألف إظهار الوحدة مطلقاً ذاتاً وصفة .
فإن الألف واحد في ذاته وصفاته في وضع الحساب ، ومتفرد بالأولية والانقطاع عن غيره في وضع الحروف ، ويشير باستقامته وعدم تغيره في جميع الأحوال إلى عدم تغيره عن الوجود الوحداني أزلاً وأبداً .
فإن الألف مصدر جميع الحروف ، فإن من استقامته يخرج كل حرف معوج .
ثم في اللام والميم المتصل كل حرف منهما بالآخر إثبات أن كل موجود سوى الوحدة موصوفة بالإثنينية وذلك قسمان : قسم لم يكن فكان ثم يزول ، وقسم ما كان فكان ولا يزول .
وهذا قسمان محدثان وموجدهما الواحد القديم الذي لا زال كان ولا يزال يكون وإليه الإشارة بالألف وأما اللام فإشارة إلى القسم الذي لم يكن فكان ولا يكون باقياً وهو عالم الصورة والملك والأجساد .
فوقوعه في المرتبة الثانية ، من الألف إشارة إلى أنه مسبوق بالوجود والألف سابق عليه ، والانكسار فيه يشير إلى تغيره وزواله .
والميم إشارة إلى القسم الذي لم يكن فكان ولا يزال يبقى وهو عالم المعنى والملكوت والأرواح .
وذلك أن الميم أول حرف من اسمه المبدىء وآخر حرف من اسمه القيوم ، فيشير إلى أنه كما أبدأه المتدىء حين لم يكن يقيمه اليوم حين كان لا يزال .
وبوجه آخر الألف إشارة إلى وجود حقيقي قائم بذاته ، واللام يشير إلى إثبات ونفي .
فالإثبات في لام التمليك ) له ما في السموات والأرض ( والنفي في ( لا ) النافية أي لا وجود لشيء بالحقيقة سواه ، والميم يشير أيضاً إلى إثبات ونفي .
فالإثبات ميم اسمه القيوم والنفي ( ما ) النافية أي ما في الوجود حقيقة إلا هو .
ودليل الوجهين في ) آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( ف ) الله ( إثبات ذات القديم ، ) لا إله إلا هو ( نفى الشرك عن وجوده وإثبات وحدته في وجوده و ) الحي القيوم ( إثبات جميع صفات كماله ونفي جميع سمات النقص عن ذاته .
وقد أودع مجموع معاني هذه الآية في قوله ) آلم ( فمعنى قوله ) الله ( أودع في أول حرف من حروفه وهو الألف ، ومعنى قوله ) لا إله إلا هو ( أودع في أول حرف من حروفه وهو اللام .
ومعنى قوله ) الحي القيوم ( أودع في آخر حرف من حروفه وهو الميم .
وإنما أودع في آخر حروفه ههنا ليكون السر مودعاً في الآية من أول حرفها إلى آخر حرفها مكتوماً فيما بينهما .
والحروف الثلاثة من قوله ) آلم ( يكون الألف من أولها دالاً على المعنى الذي هو في الكلمة الأولى وهي ) الله ( واللام من أوسطها دالاً على المعنى الذي في الكلمة الثانية وهي ) لا إله إلا هو ( والميم من آخرها دالاً على المعنى الذي هو مودع في الثالثة وهو ) الحي القيوم ( فيكون الاسم الأعظم مودعاً في ) آلم ( كما روي عن سعيد بن جبير وغيره ، وهو سر القرآن وصفوته كما روي عن أبي بكر وعلي عليه السلام .
ثم إنه تعالى بعد أن أظهر أسرار ألوهيته المودعة في ) آلم ( بقوله ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( أظهر ألطاف ربوبيته المكنونة في أستار العزة مع حبيبه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) (2/114)
" صفحة رقم 115 "
فقال ) نزل عليك الكتاب بالحق ( أي نزل حقائق القرآن وأنواره على قلبك بالحقيقة متجلية لسرك ، مخيفة عن زورك ، فصرت مشاهداً لسر الله المودع في ) آلم ( وهو الذي بين يدي ) الله لا إله إلا هو الحي اليوم ( أظهر ألطاف ربوبيته المكنونة في أستار العزة مع حبيبه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ) نزل عليك الكتاب بالحق ( أي نزل حقائق القرآن وأنواره على قلبك بالحقيقة متجلية لسرك ، مخيفة عن زورك ، فصرك مشاهداً لسر الله المودع في ) آلم ( وهو الذي بين يدي ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( فصرت مصدقاً له تصديق تحقيق لا تصديق تقليد فأفهم إذ لم تتعلم ، ولا تعلم أنك لا تفهم نه منطق الطير وأنت بعد بيضة لا من الطيارين ولا من السيارين ) وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ( فلا تظنن يا محمد أن إنزال الكتب على الأنبياء كان كتنزيل القرآن بالحقيقة على قلبك كما قال : ( ولكن جعلناه نوراً ) [ الشورى : 52 ] حتى صرت مكاشفاً عند تجلي أنواره بأسراره ، وحقائق بيني كان بالصورة مكتوبة في صحائف مقرب ولا نبي مرسل ، وإنما إنزال الكتب على الأنبياء كان بالصورة مكتوبة في صحائف وألواح يقرؤها كل قاريء ، ويستوي في هداها الأنبياء والأمم قاطبة ) هدى للناس ( وكنت مخصوصاً بالهداية عند تجلي أنوار القرآن بالتنزيل على قلبك كما قال : ( ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا ) [ الشورى : 52 ] ( وأنزل الفرقان ] الذي يفرق بين تنزيله على قلبك وبين إنزال الكتب .
فإن كانوا يتدارسون الكتب فأنت تتخلق بالقرآن ، فشتان بين نبي يجيء وهو بذاته الكتب .
فإن كانوا يتدارسون الكتب فأنت تتخلق بالقر ، ، فشتان بين نبي يجيء وهو بذاته نور ومعه كتاب ) قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ) [ المائدة : 15 ] وبين نبى يجىء ومعه نور من الكتاب ) قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس ) [ الأنعام : 91 ] وشتان بين نبي تشرف بكتابة الموعظة له في الألواح ) وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة ) [ الأعراف : 145 ] وبين نبي تشرف أمته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم ) أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ) [ المجادلة : 22 ] ( إن الذين كفروا بآيات الله ( يسترون بحجب الغفلات وتتبع الشهوات قلوبهم فتعمى عن مشاهدة هذه الآيات البينات ) لهم عذاب شديد ( من هذا العمى والحرمان وهم في خسران من الركون إلى هذا النقصان ) والله عزيز ذو انتقام ( يعز أهل الغرام بنيل المرام وينتقم من أهل السلوة بحجاب العزة .
ثم أخبر تعالى عن كمال علمه بقوله ) إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ( وكيف يخفى وإنه ) هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز ( عن نقص الأحكام ) الحكيم ( فيما يجري من الأزل إلى الأبد وجفت به الأقلام .
وفي الآية إشارة إلى أنه إذا سقطت من صلب ولاية رجل من رجال الحق نطفة إرادة في رحم قلب مريد صادق يستسلم لتصرفات ولاية الشيخ وهو بمثابة ملك الأرحام ، ويضبط المريد أحواله الظاهرة والباطنة على وفق أمر الشيخ ويختار الخلوة والعزلة لئلا يصدر منه حركة عنيفة أو يجد رائحة غريبة يلزم منه سقوط النطفة وفسادها ، ويقعد بأمر الشيخ وتدبيره فالله تعالى بتصرف ولاية الشيخ(2/115)
" صفحة رقم 116 "
المؤيد بتأييد الحق بمرور كل أربعين عليه بشرائطها يحوّلها من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام إلى أن يرجع إلى حظائر القدس ورياض الأنس التي منها صدر إلى عالم الإنس ، فيتكون الجنين في رحم القلب وهو طفل خليفة الله في أرضه فيستحق الآن أن ينفخ فيه الروح المخصوص بأنبيائه وأوليائه ) يلقي الروح ومن أمره على من يشاء من عباده ) [ النحل : 2 ] ( كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ) [ المجادلة : 22 ] فإذا نفخ فيه الروح يكون آدم وقته فيسجد له بالخلافة الملائكة كلهم أجمعون. الآيات المحكمات تنزيلها شرب الخواص والعوام لبسط الشرع والاهتداء ، والمتشابهات تأويلها شرب الخواص وخواص الخواص لإخفاء الأسرار عن الأغيار والابتلاء ) فأما الذين في قلوبهم زيغ ( ألبست وخواص غطاء الريب وحرموا أنوار الغيب وهم أهل الأهواء والبدع ) فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة ( ليضلوا بأهوائهم ) وابتغاء تأويله ( ليضلوا الناس بآرائهم ) والراسخون في العلم يقولون آمنا به ( بما شاهدوا من أنوار الحق في تحقيق التأويل ) كل من عند ربنا ( بتوفيقه وإعلامه وتعريفه ) وما ذيكر إلا أولوا(2/116)
" صفحة رقم 117 "
الألباب ( الذين خرجوا في متابعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من ظلمات قشور وجودهم النفساني إلى نور لباب وجودهم الروحاني ، وهم الراسخون في قشور العلوم الكسبية الواصلون إلى حقائق لباب العلوم اللدنية من لدن حكيم خبير .
وفي الآية إشارة إلى أن علوم الراسخين كلها بتعليم الله تعالى إياهم في الميثاق إذ تجلى بصفة الربوبية للذرّات ، وأشهدهم على أنفسهم بشواهد الربوبية ألست بربكم ؟ فبشهود تلك الشواهد ركز في جبلة الذرّات علم التوحيد فقالوا : بلى .
ويندرج في علم التوحيد كل العلوم كما قال : ( وعلم ادم الأسماء كلها ) [ البقرة : 31 ] فلما ردّت الذرّات إلى الأصلاب واحتجبت بصفات البشرية ، ثم نقلت إلى الأرحام وتنقلب بقدم الأربعينات من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام من مقامات البعد عن الحضرة إلى أن وضع الحمل ، وردت النفس العالمة بعلم التوحيد الناطقة به إلى أسفل سافلين القالب محتجبة بحجب البشرية ناسية تلك العلوم والتنطق بها .
ثم أبواه يذكرانه تلك العلوم بالرموز والقرائن حتى يتذكر بعض تلك العلوم من وراء حجب البشرية وأستار الأطوار ، وينطق بلسان الأبوين لا بلسانه الذي أجاب به الرب وقال بلى ، فإن ذلك اللسان كان لب هذا اللسان وهذا قشر ذلك .
وكذلك جميع وجود ظاهر الإنسان وباطنه قشور لباب ذلك الوجود المستمع المجيب في الميثاق .
فسمعه قشر ذلك السمع الذي استمع خطاب الحق ، وبصره قشر ذلك البصر الذي أبصر جمال الحق ، وقلبه قشر ذلك القلب الذي فقه خطاب الحق ، وعلومه قشر تلك العلوم التي تعلمت من الحق .
فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما بعث ليذكره حقيقة تلك العلوم التي كان أبواه يذكرانه قشرها كما قال ) فذكر إنما أنت مذكر ) [ الغاشية : 21 ] فالتذكير عام ولكن التذكر خاص فلهذا قال ) وما يذكر إلا أولوا الألباب ( إنما يتذكر أولوا الألباب ) ربنا لا تزغ قلوبنا ( عن صراطك بغلبات ظلمات طبائعنا وطباعنا ) بعدإذ هديتنا ( إلى حضرة جلالك ونور جمالك حتى سمعنا بلب سمعنا لب التنزيل ، وشاهدنا بلب أبصارنا لب التأويل ، وتذكرنا بلب عقولنا علومنا ) وهب لنا من لدنك رحمة ( تجذبنا من لدنا إلى لدنك وتغنينا عنا بك ) إنك أنت الوهاب ( وفيه إشارة إلى أن وظيفة الطالب أن لا يسكن في مقام ولا يقف مع حال بل يكون إلى الأبد طلابا كما كان الله من الأزل إلى الأبد وهاباً .
وكام أنه لا نهاية لمواهبه فلا غاية لمطالب طالبه ، وأن بعد هذه الدار داراً هي دار القرار يوفى فيها جزاء الأبرار والفجار .
فحصول الأرب بقدر رعاية الأدب في الطلب ، ومقاساة التعب والنصب ، وإن التقوى خير زاد للمعاد ) إن الله لا يخلف الميعاد ( ) إن الذين كفروا ( استروا أنوار روحانيتهم بظلمات صفات نفسانيتهم ) لن تغنى عنهم ( طاغوت ) أموالهم وأولادهم من ( أنوار الله التي حجبوا عنها ) وأولئك هم وقود النار ( نار الفرقة والقطيعة ) نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ) [ الهمزة : 6 ، 7 ] لا نار الجحيم التي لا تحرق إلا قشور الجلود ولا تخلص إلى لب القلوب .
وإن عذاب حرقة لجلود بالنسبةإلى عذاب فرقة القلوب وحرقة القطيعة عن الله كنسيم الحياة إلى سموم لممات .
في فؤاد المحب نار هوى
أحر نار الجحيم أبردها
وكذلك دأب جميع الكفار الذين ستروا أنوار روحانيتهم بظلمات صفات النفس فعموا وصموا عن مشاهدة أنوارنا ومحافظة أسرارنا ، فأخذهم الله فعاقبهم بحجاب ذنبوبهم وحرقة قلوبهم ) والله شديد العقاب ( أليم نار فراقه عظيم عذاب بعده وإشراقه .
بالنار خوّفني قومي فقلت لهم
النار ترحم من في قلبه نار
( آل عمران : ( 12 - 25 ) قل للذين كفروا . . . .
" قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد الذين يقولون ربنا إننا آمنا(2/117)
" صفحة رقم 118 "
فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون "
( القراآت )
سيغلبون ويحشرون ( بياء الغيبة : حمزة وعليّ وخلف وعباس مخير .
الباقون بتاء الخطاب ) ترونهم ( بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب .
الباقون بالياء ) مثليهم ( بضم الهاء : سهل ويعقوب وكذلك ما انفتح قبل الياء مثل ) بجنتيهم ) [ سبأ : 16 ] ( رأى العين ( بغير همز : أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف .
الباقون بهمزة ساكنة ) أونبئكم ( بهمزة غير ممدودة بعدها واو مضمومة : ابنكثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب غير عباس وأوقية وأبي شعيب ونافع غير قالون ) آونبئكم ( بالمد والواو المضمومة : يزيد وقالون وعباس وأوقية وأبو شعيب .
الباقون بهمزتين هشام يدخل بينهما مدة ) ورضوان ( بضم الراء حيث كان : الأعشى والبرجمي واقفا يحيى وحماداً إلا في ) من اتبع رضوانه ) [ المائدة : 16 ] في المائدة ) أن الدين ( بفتح ( إن ) علي .
الباقون بالكسر .
) وجهي ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر غير النجاري عن هشام وحفص والمنضل والأعشى والبرمجي .
) ومن اتبعني ( بإثبات الياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل وافق أبو عمر وأبا جعفر ونافع غير قالون في الوصل .
) ويقاتلون الذين ( : حمزة ونصير في رواية علي بن نصير .
الباقون ) ويقتلون ( ) ليحكم ( بضم الياء وفتح الكاف : أبو جعفر .
الباقون بالعكس .(2/118)
" صفحة رقم 119 "
الوقوف : ( جهنم ( ط ، ) المهاد ( ه ، ) التقتا ( ط لأن التقدير منهما فئة أو إحداهما ) العين ( ط ) من يشاء ( ط ) الأبصار ( ه ، ) والحرث ( ط ) الدنيا ( ج للفصل بين النقيضين مع اتفاق الجملتين ) المآب ( ج ) من ذلكم ( ط لتناهي الاستفهام ) من الله ( ط ) بالعباد ( ج للاية على جعل ( الذين ) خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين ، أو مدحاً على ( أعني الذين ) ولجواز أنه نعت للعباد أو للمتقين ) النار ( ج لأن ( الصابرين ) يصلح ولو وقف احترازاً عن وهم دخول الملائكة وأولوا العلم في الاستثناء والمشاركة في الألوهية كان جيداً .
) بالقسط ( ط ، ) الحكيم ( ط إلا لمن قرأ ( إن ) بالفتح على البدل من ( أنه ) ) الإسلام ( ه ، ) بينهم ( ط لإطلاق حكم غير مخصوص بما قبله .
) الحساب ( ه ) ومن اتبعن ( ط لابتداء أمر يشمل أهل الكتاب والعرب ، والأول مختص بأهل الكتاب فلم يكن الثاني من جملة جزاء الشرط ، ) أأسلمتم ( ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط ) اهتدوا ( ج لابتداء شرط آخر مع العطف .
) البلاغ ) ط ، ) بالعباد ( ه ، ) بغير حق ( ز لمن قرأ ) ويقاتلون ( لعدول المعنى من قوله ) يقتلون ( ) أليم ( ه ، ) والآخرة ( ز للابتداء بالنفي مع اتحاد المقصود .
) من ناصرين ( ه ، ) معرضون ( ه ، ) معدودات ( ص لأن الواو للعطف أو الحال .
) يفترون ( ه ، ) يظلمون ( ه .
التفسير : عن ابن عباس في رواية أبي صالح عنه قال : لما هزم الله المشركين يوم بدر قالت يهود المدينة : هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته وصفته وأنه لاترد له راية وأرادوا تصديقه واتباعه .
ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى .
فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شكوا فقالوا : لا والله ما هو به .
وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا .
وكان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد .
وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكباً إلى أهل مكة أبي سفيان وأصحابه فوافقوهم وأجمعوا أمرهم وقالوا : لتكونن كلمتنا واحدة ، ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله فيهم هذه الآية .
وقال محمد بن إسحاق بن يسار في رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس : لما أصاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قريشاً ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع فقال : يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر ، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم .
فقالوا : يا محمد ، لا يغرّنك أنك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة ، أما والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن أنا نحن الناس فأنزل الله ) قل للذين كفروا ( يعني اليهود ) ستغلبون ((2/119)
" صفحة رقم 120 "
تهزمون ) وتحشرون إلى جهنم ( في الآخرة .
ومعنى جهنم قد مر في البقرة في قوله : ( فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) [ البقرة : 206 ] وقيل : هم مشركو مكة ) ستغلبون ( يعني يوم بدر من قرأ بتاء الخطاب فمعناه الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر بأي لفظ أراد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومن قرأ بالياء فالأمر متوجه إلى حكاية هذا اللفظ أي قل لهم قولي لك : ( سيغلبون ( وفي ألآية حجاج لقائل بتكليف ما لا يطاق ، فإنه تعالى أخبر عنهم بأنهم يحشرون إلى جهنم ، فلو آمنوا وأطاعوا لانقلب الخبر كذباً .
وفيها دليل على صحة البعث والحشر بإخبار الصادق وفي قوله ) ستغلبون ( وقد وقع كما أخبر إخبار عن الغيب فيكون معجزاً دالاً على صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نظيره في حق عيسى عليه السلام ) وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ) [ آل عمران : 49 ] ثم إنه تعالى ذكر ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك لاحكم فقال ) قد كان لكم آية في فئتين التقتا ( يوم بدر ) فئة ( إحداهما جماعة ) تقاتل في سبيل الله ( وهم المسلمون لأنهم يقاتلون لنصرة دين الله وإعلاء كلمته ) وفئة ( أخرى ) كافرة ( هم كفار قريش .
وبيان كون تلك الواقعة آية من وجوه : أحدها أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف أمور منها : قلة العدد والعدد ، كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً مع كل أربع منهم بغير ، ومعهم من الدروع ستة ومن الخيل فرسان .
ومنها أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا .
ومنها أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها من أول غزوات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان قد حصل في المشركين أضداد هذه المعاني .
كانوا تسعمائة وخمسين رجلاً وفيهم أبو سفيان وأبو جهل ، ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير ، وأهل الخيل كلهم دارعون ، وكان معهم دروع سوى ذلك ، وكانوا قد مرنوا على الحرب والغارات .
وإذا كان كذلك كانت غلبة المسلمين خارقة للعادة فكانت معجزة .
وثانيها أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان قد أخبر عن ذلك بإخبار الله في قوله تعالى ) وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين ) [ الأنفال : 7 ] يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان .
وكان أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان والإخبار عن الغيب معجز ، وثالثها إمداد الملائكة كما سيجيء في هذه السورة .
ورابعها قوله ) يرونهم مثليهم ( وفيه أربعة احتمالات لأن الضمير في ( يرون ) إما أن يعود إلى الفئة الكافرة أو إلى الفئة المسلمة ، وعلى كلا التقديرين يجوز عود الضمير في ) مثليهم ( إل كل منهما فهذه أربعة : الأول أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين .
الثاني أناه رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين ، ودليل هذا الاحتمال قراءة من قرأ ) ترونهم ( بتاء الخطاب أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي أنفسهم .
ودليل الاحتمالين جميعاً أن عود الضمير في ( يرون ) إلى(2/120)
" صفحة رقم 121 "
الأقرب وهو الفئة الكافرة أولى ، ولأنه سبحانه جعل هذه الحالة آية للكفار حيث خاطبهم بقوله ) قد كان لكم آية ( فوجب أن يكون الراؤون هم الكفار حتى تكون حجة عليهم ، ولو كانت الآية مما شاهدها المؤمنون لم يصلح جعلها حجة على الكفرة .
والحكمة في ذلك أن يهابهم المشركون ويجبنوا عن قتالهم وهذا لا يناقض قوله في سورة الأنفال ) ويقللكم في أعينهم ) [ الآية : 44 ] لاختلاف الوقتين فكأنهم قللوا أوّلاً في أعينهم وتكثيرهم أخرى أبلغ في القدرة بإظهار الآية .
الاحتمال الثالث أن الرائين هم المسلمون والمرئيين هم المشركون .
فالمسلمون رأوا المشركين مثلي المسلمين والسبب فيه ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين في قوله تعالى : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) [ الأنفال : 65 ] والكافرون كانوا قريباً من ثلاثة أمثالهم ، فلو رأوهم كما هم لجبنوا وضعفوا الاحتمال الرابع أن يكون الراؤون هم المسلمين ، ثم إنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين وهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد لأن هذا يوجب نصرة الكفار وإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين ، والآية تنافي ذلك ، وفي الآية احتمال خامس وهو أن أول الآية قد بينا أنه خطاب مع اليهود فيكون المراد : ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة .
وههنا بحث وهو أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئياً ، والاحتمال الثالث يوجب أن يكون الموجود والحاضر غير مرئي ، أما الأول فهو محال عقلاً والقول به سفسطة فلهذا قيل : لعل الله تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيراً .
وعلى هذا تكون الرؤية البصر ، ويكون ) مثليهم ( نصباً على الحال ، أو تحمل الرؤية على الظن والحسبان فإن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنه في غاية الكثرة ، لكن قوله : ( رأى العين ( لا يجاوب ذلك إذ معناه رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات .
وأما الثاني فهو جائز عند الأشاعرة إذ عند حصول الشرائط وصحة الحاسة لا يكون الإدراك واجب الحصول بل يكون عندهم جائزاً لا واجباً والزمان زمان خوارق العادات .
وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند استجماع الشروط وسلامة الحس ، فاعتذروا عن ذلك بأن الإنسان عند الخوف لا يتفرغ للتأمل البالغ ، فقد يرى البعض دون البعض. أو لعل الغبار صار مانعاً عن إدراك البعض ، أو خلق الله تعالى في الهواء ما صار مانعاً عن رؤية ثلث العسكر ، أو يحدث في عيونهم ما يستقل به الكثير كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين وكل ذلك محتمل ) والله يؤيد بنصره من يشاء ( إما بالغلبة كيوم بدر ، وإما بالحجة العاقبة كيوم أحد ) إن في ذلك ( الذي ذكره من(2/121)
" صفحة رقم 122 "
الآية ) لعبرة ( نوع عبور وهو المجاوزة من منزل الجهل إلى مقام العلم ) لأولي الأبصار ( ذوي العقول التي تصير القضايا معها كالمشاهد المعاين .
ثم ذكر ما هو كالشرح والبيان لمعتبر الإنسان وهو أنه ) زين للناس ( اللذات الجسمانية والآخرة .
وهي عالم الروحانيات - خير وأبقى ، وأنها معدة لمن واظب على العبودية واتصف بالخصال الحميدة .
وأما ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أنه يمنعه من اتباعه حب المال والجاه .
وروينا أيضاً أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالعدة والعدد ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن تلك الأشياء متاع الدنيا وزينتها ، والآخرة خير ، والمزين هو الله تعالى .
أما عند الأشاعرة فلأنه خالق أفعال العباد كلها ، ولو كان المزين هو الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان ؟ وأما عند جمهور المعتزلة فلحكمة الابتلاء ) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً ) [ الكهف : 7 ] ولأنها وسائل إلى منافع الآخرة وهو أن يتصدق بها أو يتقوى بها على طاعة الله أو يشتغل بشكرها. كان الصاحب بن عباد يقول : شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد لله من أقصى القلب .
ولأن القادر على وجوه اللذات إذا تركها وأقبل على أداء وظائف الخدمة كان أشق له وأكثر ثواباً .
وعن الجبائي واختاره القاضي ، أن كل ما كان واجباً أو مندوباً أو مباحاً فالتزيين فيه من الله تعالى ، وكل ما كان حراماً فالتزيين فيه من الشيطان .
وحكي عن الحسن أنه قال : الشيطان زينها لهم وكان يحلف بالله على ذلك .
واحتجاجه في الآية بأنه أطلق الشهوات فيدخل فيها المحرمات ، وإن تزيينها وظيفة الشيطان ، وذكر القناطير المقنطرة وحب المال الكثير إلى هذه الغاية لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبة ومنتهى مقصوده .
وقال في معرض الذم ) ذلك متاع الحياة الدنيا ( والذام للشيء لا يكون مزيناً له .
وقال ) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ( والغرض تقبيح الدنيا فكيف يكون مزيناً لها ؟ ثم إنه تعالى جعل الأعيان المشتهاة شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستماع بها وذلك للتعلق والاتصال كما يقال للمقدور ( قدرة ) وللمرجو ( رجاء ) .
وفيه فائدة أخرى هي أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها ، شاهد على نفسه بالبهيمة .
فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ تخسيسها والتنفير عنها .
قال المتكلمون : في الآية دليل على أن الحب غير الشهوة لأن المضاف يجب أن يكون مغايراً للمضاف إليه .
فالشهوة من فعل الله تعالى ، والمحبة من أفعال العباد ، وهي أن يجعل الإنسان كل همته مصروفة إلى اللذات والطيبات .
واعلم أن الإنسان قد يحب شيئاً ولكنه أن لا يحبه ، وقد يحبه ويحب أن يحبه ويعتقد مع ذلك أن تلك المحبة حسنة وفضيلة وهذا هو كمال المحبة ، ومنه قوله تعالى حكاية عن سليمان(2/122)
" صفحة رقم 123 "
عليه السلام ) إني أحببت حب الخير ) [ ص : 32 ] ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محباً للخير .
فقوله : ( حب الشهوات ( قريب من ذلك لأن الشهوة نوع محبة .
ولفظ ) الناس ( عام فظاهره يقتضي أن هذا المعنى عام لجميع الناس ولا شك أنه موجود ي الأغلب وفي أكثر الأوقات فلا يبعد التعميم ، فطالما أعطى للأغلب حكم الكل .
على أن من همته بجوامعها مقصورة على طلب اللذات الروحانية في غاية النذرة ، وبقاء ذلك النادر في جميع الأحيان على ذلك الخاطر أعز وأمنع ، ثم شرع في بيان تلك الأعيان المشتهيات فذكر منها ما هي الأمهات ورتبها في سبع مراتب : الأولى النساء لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ) خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة ) [ الروم : 21 ] وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن أخوف ما أخاف على متي النساء ) الثانية الأولاد ولا سيما البنين ولهذا خصوا بالذكر ، ومحبة النساء والأولاد كأنها حالة غريزية ولولاها لم يتصور بقاء النسل للحيوانات الثالثة والرابعة القناطير المقنطرة من الذهب والفضة .
قال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه ومنه القنطرة .
والمال الكثير قنطار لأن الإنسان يتوثق بها في دفع النوائب .
أبو عبيد : إنه وزن لا يحد .
روى أبو هيرية عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( القنطار اثنا عشر ألف أوقية ) وروى أنس عنه هو ألف دينار ، وروى أبي بن كعب عنه هو ألف ومائتا أوقية .
وقال ابن عباس : ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية .
وبه قال الحسن .
وزعم الكلبي أن القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة .
وعن سعيد بن جبير أنه مائة ألف دينار .
والمقنطرة مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم ( ألف مؤلفة وبدرة مبدّرة وإبل مؤبلة ) .
قال الكلبي : القناطير ثلاثة والمقنطرة المضاعفة فكان المجموع ستة .
وإنما كان الذهب والفضة محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء .
وكل الصيد يوجد في الفرا
ولولا التقى لقلت جلت قدرته
وصفة المالكية هي القدرة ، وأنها صفة كمال والكمال محبوب لذاته. والخامسة الخيل المسوّمة قال الواحدي : الخيل جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والنساء والرهط ، وسميت الأفراس خيلاً لاختيالها وهو جولانها في مشيتها ، ويسمى الخيال خيالاً لجولان هذه القوة في استحضار الصور .
والمسومة قيل المرعية .
أسمت الدابة وسوّمتها إذا أرسلتها في مرجها للرعي .
ولا شك أنها إذا رعت ازدادت حسناً وبهاء .
وقيل : هي المعلمة من السومة(2/123)
" صفحة رقم 124 "
العلامة .
ثم اختلفوا في تلك العلامة فعن أبي مسلم : الغرة والتحجيل ، وقال الأصم : هي البلق .
وقال قتادة : الشية - وقيل : الكي .
وقال مجاهد وعكرمة : المسومة المطهمة أي الحسان .
قال الأصمعي : رجل مطهم وفرس مطهم وفرس مطهم أي تام ، كل شيء على حدته فهو بارع الجمال .
السادسة الأنعام وهو جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم .
ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها .
السابعة الحرث وهو الزراعة ذلك الذي ذكر متاع الحياة الدنيا لأن وجوه الانتفاعات الدنيوية للإنسان إما أن تكون من بني نوعه أو من غيره .
والأول أصل وهو المرأة وفرع وهو الولد ، وإنما فرض الكلام في الذكور لشرفهم .
والثاني إما أن تكون من المعدنيات وأكثرها فائدة وأعمها عائدة الجوهران الثمينان فخصا بالذكر ، وإما أن تكون من الحيوانات للركوب والكر والفر وهو الخيل ، أو للحمل واللحم وهو الأنعام ، وإما أن تكون من النباتات وهو الحاصل من الزراعة وإنما لم يتعرض للدور والقصور لأنها لم تكن معتادة عند العرب ، والقرآن يخاطب أولاً معهم .
) والله عنده حسن المآب ( أي المرجع .
وإنما لم يذكر المآب القبيح وهو النار لأنها غير مقصودة بالذات لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ولهذا قال : ( سبقت رحمتي غضبي ) ثم بيّن أن ذلك المرجع كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا .
والمقصود أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأفسح من بطن الأم فكذلك الآخرة أفسح وأوسع من الدنيا ، أو لأنه لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها فقال مستفهماً على سبيل التقرير ) قل أؤنبئكم بخير ( أي بشيء هو خير ) من ذلكم ( الذي عددنا .
ثم استأنف بيانه وتقريره فقال : ( للذين اتقوا عند ربهم جنات ( كما تقول : هل أدلكم على حبر خير من فلان ؟ عندي رجل من صفته كيت وكيت .
وبيان الخيرية ظاهر من وصف الجنات والأزواج مع قيد الخلود ، فإن النعمة وإن عظمت ، فتوهم الانقطاع والزوال ينغص صفوها وينقص لذتها ، وبعد زوال هذا الوهم لن يتكامل طيبها إلا بالنساء فبهن يحصل الأنس .
ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة فقال : ( مطهرة ( أي من الأقذار والمنفرات .
وبعد ذكر تمام النعمة ذكر ماهو فوق التمام فقال : ( ورضوان من الله ( ويندرج فيه جميع المطالب والمقاصد لأن العبد إذا رضي عنه المولى لم يتصور منصب أجل منه وأعلم ، وكأن المولى وما يملكه للعبد ، كنما أن العبد وما يملكه للمولى ) ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ) [ التوبة : 72 ] ويحتمل أن يكون اللام في قوله : ( للذين اتقوا ( متعلقاً بخير .
واختص المتقين لأنهم(2/124)
" صفحة رقم 125 "
هم المنتفعون به ويرتفع ) جنات ( على الخبر أي هو جنات ويعضده قراءة بعضهم ) جنات ( بالجر على البدل من ) خير ( وذلك أن اللام في هذه القراءة يتعين أن يكون متعلقاً بخير .
وقوله : ( عند ربهم ( يحتمل أن يتعلق بما يتعلق بما تعلق به قوله : ( للذين ( أي ثبت لهم عند ربهم .
ويحتمل أن يكون صفة لخير ، ويحتمل أن يكون من تمام قوله : ( اتقوا ( فيكون إشارة إلى أن هذا الثواب لا يحصل إلا لمن كان متقياً عند الله تعالى فلا يدخل فيه إلا من كان مؤمناً في علم الله ) والله بصير بالعباد ( عالم بمصالحهم فيجب أن يؤضوا لأنفسهم ما اختبار لهم من نعيم الآخرة ، وأن يزهدهم فيه من أمور الدنيا ، أو بصير بهم يثيب ويعاقب بحسب الاستحقاق ، أو بصير بالذين اتقوا ربهم وبأحوالهم فلذلك أعدّلهم الجنات ) الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا ( توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة .
وقد حكى الله تعالى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم فقيل : دل ذلك على أن الإيمان هو التصديق فقط ، فإن العمل الصالح لو كان داخلاً فيه كما زعموا كان إدخاله ف النار قبيحاً عندهم فيكون ممتنع الوقوع من الله تعالى ، وضده واجب الوقوع ، وسؤال الواجب وقوعه عبث فلا يصلح المدح ، ويمكن أن يجاب عنه بأن العبد قد يدعو بما يعلم أنه حاصل له إظهار الذل العبودية وإبداء للاستكانة والخشوع .
وأيضاً صورة العمل الصالح لا تفيد ما لم تقع في حيز القبول .
فعلى المتقي أن لا يتكل عليها ويبتهل إلى الله في مواجب الغفران .
ثم عدد من أوصاف عباده خمسة ووسط العاطف بينها دلالة على كمالهم في كل واحد منها ، أو إشارة إلى أن كل واحد منها يكفي في استحقاق المدح والثواب فقال : ( الصابرين ( أي في أداء الطاعات وعلى ترك المحظورات وعند المحن والشدائد ، وقف رجل على الشبلي فقال : أيّ صبر أشد على الصابرين ؟ فقال : الصبر في الله تعالى .
فقال : لا .
فقال : الصبر لله .
فقال : لا .
فقال : الصبر مع الله .
قال : لا .
قال : فأي شيء ؟ قال : الصبر عن الله .
فصرخ الشبلي صرخة كاد يتلف روحه .
) والصادقين ( أي في الأقوال وفي الأفعال بأن لا ينصرف عنها قبل تمامها ، وفي النيات بأن يمضي العزم على الخيرات .
) والقانتين ( والمقيمين على الطاعات والموائبين عليها ) والمنفقين ( ما تيسر على من تيسر بشروطه ومصارفه وجوباً وندباً ) والمستغفرين بالأسحاء ( أي فيها .
والسحر قبل طلوع الفجر .
وخص هذا الوقت لأنهم كانوا يقدمون قيام الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار هذا ليلهم وذلك نهارهم ، وللاستغفار بالأسحار مزيد آثار وأنوار لأن السحر وقت النوم والغفلة ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة عرض الذلة على حضرة العزة لا يبعد أن يفيض عليه سجال المغفرة وأن يطلع صبح العالم الصغير عند طلوع صبح العالم الكبير فيستنير قلب المؤمن بأنوار المعارف وآثار اللطائف. أما بيان ترتيب الأوصاف ،(2/125)
" صفحة رقم 126 "
فالصبر يشمل أداء جميل التكاليف .
ثم الإنسان قد يلتزم من نفسه ما هو غير واجب عليه ، فالصادق من يخرج عن عهدة ذلك ) رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه ) [ الأحزاب : 23 ] ثم المواظبة على سولك سبيل الخيرات أمر محمود فأشير إلى ذلك بقوله : ( والقانتين ( ثم إن ههنا أمرين يعينان على الطاعة : الخدمة بالمال والابتهال والتضرع إلى حصرة القدس والجلال وذلك قوله : ( والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ( فقوله : ( والمنفقين ( معناه الشفقة على خلق الله وباقي الأوصاف حاصله التعظيم لأمر الله .
قال الكلبي : لما ظهر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام ، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عرفاه بالصفة والنعت فقالا : أنت محمد ؟ قال : نعم : قالا : وأنت أحمد ؟ قال : نعم .
قالا : إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك .
فقال لهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سلاني ) قالا : أخبرنا نم أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله على نبيه ) شهد الله أنه لا إله إلا هو ( فأسلم الرجلان وصدقا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
ووجه النظم أنه مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله : ( ربنا أننا آمنا ( ثم بين أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية .
واعلم أن الشهادة من الله تعالى ومن الملائكة ومن أولي العلم يحتمل أن تكون بمعنى واحد ، ويحتمل أن لا تكون كذلك .
أما الأول فتقريره من وجهين : أحدهما أن الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم ، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم .
أما من الله فذلك أنه أخبر في القرآن أنه إله واحد لا إله إلا هو ذلك في مواضع كثيرة كالإخلاص وآية الكرسي وغيرهما ، التمسك بالدلائل السمعية في هذه المسألة جائز لأن العلم بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يتوقف على العلم بها .
وأما من الملائكة وأولي العلم وهم الذين عرفوا وحداينة الله تعالى بالدلائل القاطعة ، فكلهم أخبروا أيضاً أن الله واحد لا شريك له .
وثاني الوجهين أن تجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان .
فالله تعالى أظهر ذلك وبيّن بأن خلق ما يدل على ذلك ، والملائكة وأولو العلم أظهروا ذلك وبينوه .
أيضاً الملائكة للرسل والرسل للعلماء والعلماء لعامة الخلق .
فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان .
فأما مفهوم الإظهار والبيان فشيء واحد في حق الكل ، فكأنه قيل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله وشهادة جميع المعتبرين من خلقه ، ومثل هذا الدين المبين والمنهج القويم لا يضعف بخالفة بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان ، فأثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك ، فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام .
وأما الثاني فهو قول من يقول شهادة الله تعالى على(2/126)
" صفحة رقم 127 "
توحيده عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده ، وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك ونظيره قوله تعالى : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) [ الأحزاب : 56 ] فالصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة .
فإن قيل : المدعي الوحدانية هو الله .
فكيف يكون المدعي شاهداً ؟ فالجواب أنه ليس الشاهد بالحقيقة إلا الله لأنه خلق الأشياء وجعلها دلائل علة توحيده ، ثم وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل والتوصل بها إلى معرفة الوحدانية ، ثم وفقهم حتى أرشدوا غيرهم إلى ذلك ولهذا قال : ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله ) [ الأنعام : 19 ] وفي انتصاب ) قائماً بالقسط ( وجوه : الأول أنه حال مؤكدة والتقدير : شهد الله قائماً بالقسط ، أو لا إله إلا هو قائماً بالقسط .
وهذا أوجه لكون الإلهية والتفرد بها مقتضياً للعدالة مثل : هذا أبوك عطوفاً .
أو لا رجل إلا عبد الله شجاعاً .
ويحتمل أن يكون حالاً من ( أولي العلم ) أي حال كون كل واحد منهم قائماً بالقسط في أداء هذه الشهادة الثاني أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلا هو .
وقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف .
الثالث أن يكون نصباً على المدح وإن كان نكرة كقوله :
ويأوي إلى نسوة عطل
وشعثاً مراضيع مثل السعالى
ومعنى كونه قائماً بالقسط قائماً بالعدل كما يقال : فلان قائم بالتديبير أي يجريه على سن الاستقامة ، أو مقيماً للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآحال ، ويثيب ويعاقب وفيما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم .
واعلم أن وجوب الوجود يلزمه الغني المطلق والعلم التام والفيض العام والحكمة الكاملة والرحمة الشاملة وعدم الانقسام بجهة من الجهات وعدم الافتقار بوجه من الوجوه إلى شيء من الأشياء وعدم النقص والنقض في شيء من الأفعال والأحكام إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العليا .
ومركوز في العقل السليم أن من هذا شأنه لا يصدر منه شيء إلا على وفق العدالة وقضية التسوية ورعاية الأصلح عموماً أو خصوصاً .
فكل ما يخيل إلى المكلف أنه خارجا عن قانون العدالة أو يشبه الجور أو القبح ، وجب أن ينسب ذلك إلى قصور فهمه وعدم إحاطته التامة بسلسلة الأسباب والمسببات والمبادىء والغايات ، فانظر في كيفية خلقه أعضاء الإنسان حتى تعرف عدل الله وحكمته فيها ، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح والغنى والفقر والصحة والسقم وطول العمر وقصره واللذة والألم .
واقطع بأن كل ذلك عدل وصواب .
ثم انظر في كيفية خلقه العناصر وأجرام الأفلاك والكواكب وتقدير كل منها بقدر معين وخاصية معينة ، فكلها حكمة وعدالة .
وانظر إلى تفاوت الخلائق(2/127)
" صفحة رقم 128 "
في العلم والجهل والفطانة والبلادة والهداية والغواية واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط ، فإن الإنسان بل كل ما سوى الله تعالى لم يخلق مستعداً لإدراك تفاصيل كلمات الله .
فالخوض في ذلك خوض فيما لا يعنيه بل لا يسعه ولا ينفعه إلا العلم الإجمالي بأنه تعالى واحد في ملكه ، وملكه لا منازع له فيه ولا مضاد ولا مانع لقضائه ولا راد ، وأن الكل بقضائه وقدره ، وفي كل واحد من مصنوعاته ولكل شيء من أفعاله حكم ومصالح لا يحيط بذلك علماً إلا موجده وخالقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
هذا هو الدين القويم والاعتقاد المستقيم ، والعدول عنه مراء ، والجدال فيه هراء .
فمن نسبه إلى الجور في فعل من الأفعال فهو الجائر لا على غيره بل على نفسه إذ لا يعترف بجهله وقصوره ، ولكن ينسب ذلك إلى علام الخفيات والمطلع على الكليات والجزئيات من أزل الآزال إلى أبد الآباد .
ومن زعم أن شيئاً من الأشياء خيراً وشراً في اعتقاده حسناً أو قبيحاً بحسب نظره خارج عن مشيئته وإرادته فقد كذب ابن أخت خالته ، لأنه يدعي التوحيد ثم يثبت قادراً آخر أو خالقاً غير الله تعالى ، ولا خالق إلا هو .
وإذا شهد بذلك فقد صح القول بوحدانية الله .
وفي إيقاظ لأمة محمد أن يقولوا على وفق شهادة الله والملائكة وأولي العلم ) لا إله إلا هو ( وإعلام بأن هذه الكلمة يجب أن يكررها المسلم ما أمكنه
هو المسك ما كررته يتضوّع
ثم أكد كونه منفرداً بالألوهية وقائماً بالعدل بقوله : ( الغزيز الحكيم ( فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة ، والحكيم إشارة إلى كمال العلم .
ولا تتم القدرة إلا بالتفرد والاستقلال ولا العدالة إلا باللاطلاع على المصالح والأحوال ) إن الدين عند الله الإسلام ( جملة مستأنفة والإسلام في اللغة الانقياد والدخول ي السلم أو في السلامة في عرف الشرع يطلق تارة على الإقرار قولهم : ( سلم له الشيء ) أي خلص له .
والإسلام في عرف اشرع يطلق تارة على الإقرار باللسان في الظاهر ومنه قوله تعالى : ( قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) [ الحجرات : 17 ] ويطلق أخرى على الانقياد الكلي وهو المراد ههنا .
وفيه إيذان بأن الدين هو العدل والتوحيد .
أما التوحيد فأن يعلم أن الله تعالى لا شريك له ولا نظير في الذات ولا في صفة من الصفات كما شهد هو به ، وأما العدل فهون أن يعلم أن كل ما خلق وأمر المكلف به ونهاه(2/128)
" صفحة رقم 129 "
عنه فإنه عدل وصواب وفيه حكم ومصالح ، فيأتمر بذلك وينتهي عنه ليكون عبداً منقاداً معترفاً بأنه تعالى قائم بالقسط .
ومن قرأ بفتح ( أن ) فتقديره عند البصريين ذلك بدل من الأول ، بدل الكل فكأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام فيكون من باب وضع الظاهر موضع المضمر كقوله :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
وقيل : تقديره شهد الله أنه لا إله إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام .
وقيل : شهد الله أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام .
لأن كونه تعالى واحداً يوجب أن يكون الدين الحجق فهو الإسلام ، لأن دين الإسلام مشتمل على هذه الواحدانية ، وقرىء الأول بالكسر والثاني بالفتح على أن الفعل واقع على الثاني وما بينهما اعتراض .
ثم ذكر أنه أوضح الدلائل وأزل الشبهات ، والقوم ما كفروا إلا لقصورهم وتقصيرهم فقال : ( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ( قيل : هم اليهود واختلافهم أن موسى عليه موسى عليه السلام لما قرب وفاته سلم التوراة إلى سبعين رجلاً من الأحبار وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع ، فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين بعد ما جاءهم التوراة بغياً بينهم وتحاسداً على طلب الدنيا وقيل : المراد النصارة واختلافهم في أمر عيسى عليه اسللام بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله .
وقيل : المراد اليهود والنصارة والختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله .
وأنكروا نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا : نحن أحق بالنبوة من قريش لأنهم اميون ونحن أهل كتاب .
) إلا من بعد ما جاءهم العلم ( أي الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم .
لأنا لو حملناه على العلم لزم نسبة العناد إلى جمع عظيم وهو بعيد قاله في التفسير الكيبير ) ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ( لا يصعب عليه عدة أفعاله ومعاصيه وإن كانت كثيرة ، أو المراد أنه سيصل إلى الله سيريعاً فيحاسبه أي يجازيه على كفره .
ثم بين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ما يقوله في محاجتهم فقال : ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ( قال الفراء : أي أخلصت عملي لله .
فعلى هذا ( الوجه ) في معنى العمل .
وقيل : أي أسلمت وجه عملي لله .
فحذف المضاف والمعنى كل ما يصدر مني من الأعمال .
فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله والانقياد لإلهيته وحكمه .
وقيل : الوجه مقحم ، والتقدير : أسلمت نفسي لله ، وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس كأنه موقوف على عبادته معرض عن كل ما سواه ، وقوله : ( ومن اتبعن ( معطوف على الضمير المرفوع في ) أسلمت ( وحسن للفصل ، أو مفعول معه والواو بمعنى ( مع ) .
ثم في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان : أحدهما أن هذا إعراض عن المحاجة لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان قد أظهر المعجزات(2/129)
" صفحة رقم 130 "
كالقرآن ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها ، وقد مر في هذه السورة إبطال إلهية عيسى وإثبات نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم يبّن نفي الضد والند والصاحبة والولد بقوله : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ( وذكر أن اختلاف هؤلاء اليهود والنصارى إنما هو لأجل البغي والحسد فلم يبق إلا أن يقول : أما أنا ومن اتبعن فمنقادون لحق مستسلمون له مقبلون على عبودية الله تعالى .
وهذا طريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه .
وثانيهما أن قوله : ( أسلمت ( محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقاً للعبادة ، فكأنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال هذا القول متفق لعيه بين الكل فأنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه وداعي الخلق إلأيه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك .
فاليهود يدعون التشبيه والجسمية ، والنصارى يدعون إلهية عيسى ، والمشركون يدعون وجوب عبادة الأوثان .
فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها ونظير هذه الآية ) قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ) [ آل عمران : 64 ] وعن أبي مسلم أن الآية في هذا الموضع كقول إبراهيم عليه السلام ) إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ) [ الأنعام : 79 ] كأنه قيل : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا متمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأنه كان محقاً في قوله صادقاً في دينه ، فيكون من باب التمسك بالإلزامات واخلاً تحت قوله : ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) [ النحل : 125 ] ( وقل للذين أوتوا الكتاب ( من اليهود والنصارى ) والأميين ( وهم مشركو العرب الذين لا كتاب لهم ) أسلمتم ( ومعناه الأمر وفائدته التعيير بالعناد وقلة الإنصاف كقولك لمن لخصت له المسئلة ولم تأل جهداً في سلوك طريقة الكشف والبيان له : هل فهمتها ؟ فإنه يكون توبيخاً له بالبلادة وكلال الذهن ومثله في آية تحريم الخمر ) فهل أنتم منتهون ) [ المائدة : 91 ] إشارة إل التقاعد عن الانتهاء ) فإن أسلموا فقد اهتدوا ( إلى ما يهدي الله إليه أو إلى الفوز والنجاة في الآخر ) وإن تولوا ( أعرضوا عن الإسلام لي والاتباع لك ) فإنما عليك البلاغ ( ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الرشاد ) والله بصير بالعباد ( يوفق للصلاح من شاء ويترك على الضلالة من أراد .
ثم وصف المتولي بصفات ثلاث وأردفه بوعيده فقال : ( إن الذين يكفرون بآيات الله ( أي ببعضها المعهند لأن اليهود كانوا مقرين ببعض الآيات الدالة على وجود الصانع وقدرته وعلمه وشيء من المعاد أو بكلها كما هو ظاهر الجمع المضاف ، وتوجيهه أن المكذب ببعض آيات الله كالكافر بجميعها ) ويقتلون النبيين ( أي المعهودين لأنهم ما قتلوا كلهم ولا أكثرهم ) بغير حق ( من غير ما شبهة عندهم ) ويقتلون ( أو يقاتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس .
عن الحسن أن في الآية دلالة على أن الآمر(2/130)
" صفحة رقم 131 "
بالمعروف والناهي عن المنكر تلي منزلته عند الله منزل الأنبياء فلهذا ذكرهم عقيبهم .
وروي أن رجلاً قام إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : أيّ الجهاد أفضل ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سطان جائر ) .
فإن قيل : إذا كان قوله : ( إن الذين يكفرون ( في حكم المستقبل لا أقل من الحال لأنه وعيد لمن هو في زمن رسول الله ، ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط ، فكيف يصح الكلام ؟ قلنا : إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين جميعاً ، إلا أنه تعال عصمهم منهم فصح إطلاق القاتل عليهم كما يقال : السم قاتل أي ذلك من شأنه إن وجد القابل .
أو نقول : وصفوا بسيرة أسلافهم لأنهم راضون بذلك .
عن أبي عبيدة بن الجراح قلت : يا رسول الله أيّ الناس أشد عذاباً يوم القيامة ؟ قال : رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ هذه الآية .
ثم قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار ) فبشرهم بعذاب أليم ( إنما دخلت الفاء لتضمن اسم ( إن ) معنى الشرط ، فغ ، لا يغير معنى الابتداء بخلاف ( ليت ) و ( لعل ) واعلم أنه تعالى قسم وعيدهم إلى ثلاثة أقسام : الأول اجتماع أسباب الآلام والمكاره عليهم وهو العذاب الأليم ، واستعارة البشارة ههنا للتهكم .
الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وهو قوله : ( أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ( أما في الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن وأسباب الاحترام والاحتشام بأصناف الذل والهوان من السبي والقتل ولاجزية ، وأما في الآخرة فكما قال عز من قائل ) وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً ) [ الفرقان : 23 ] الثالث لزوم ذلك في حقهم وهو قوله : ( وما لهم من ناصرين ( ثم ذكر غاية عناد أهل الكتاب فقال : ( ألم تر إلى الذين ( عن ابن عباس قال : دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيت المدراس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد ؟ فقال : على ملة إبراهيم .
فقالا : إن إبراهيم كان يهودياً .
فقال رسول الله : فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا فنزلت ، وقال الكلبي : نزلت في اللذين زنيا من خيبر وحكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيهما بالرجم وأنكر اليهود عليه ( صلى الله عليه وسلم ) وسوف تجيء القصة في سورة المائدة مفصلة .
وقيل : دعاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو إياهم والنصارى إلى الآيات الدالة على صحة نبوته من التوراة أو منها ومن الإنجيل فأبوا فنزلت .
ومعنى قوله : ( أوتوا نصيباً ( أي حظاً وافراً من علم الكتاب يريد أحبار اليهود .
و ( من ) إما للتبعيض وإما للبيان .
والكتاب يراد به غير القرآن من الكتب التي كانوا مقرين بحقيتها .(2/131)
" صفحة رقم 132 "
وقيل : أي حصلوا من جنس الكتب المنزلة أو من اللوح التوراة وهي نصيب عظيم .
ثم بين سبب التعجيب بقوله : ( يدعون إلى كتاب الله ( وهو التوراة كما مر في اسباب النزول ، ولأنه تعالى عجب رسوله من تمردهم وإعراضهم ، وإنما يتوده التعجيب إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته .
وعن ابن عباس أنه القرآ ، وليس ببعيد لأنهم دعوا إليه بعد قيام الحجج على أنه كتاب من عند الله ليحكم أي الكتاب بينهم أي بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فحذف الثاني للعلم به .
أو يراد الحكم في الاختلاف الواقع بينهم كما في قصة الزانيين ، ولهذا رادجعوا في ذلك رسول الله صلى الله الله عليه وسلم رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم ، قال في الكشاف : والوجه أن يراد ما وقع من الاختلاف والتعادي بين أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم وأنهم دعوا إلى كتاب الله الذي لا اختللاف بينهم في صحته وهو التوراة ليحكم بين المحق والمبطل منهم ) ثم يتولى فريق منهم ( وهم الرؤساء والأحبار أو الذين لم يسلموا من أحبارهم ومعنى ( ثم ) استبعاد ما بين رتبتي الدعاء والتولي ) وهم معرضون ( قوم لا يزال الإعراض دينهم وهجيراهم .
والضمير في ( هم ) إما أن يرجع إلى الفريق أي هم جامعون بين التولي والإعراض لا عن استماعهم الحجة في ذلك المقام فقط ، بل عنه وعن سائر المقامات .
وإما أن يرجع إلى الباقين منهم فيكون قد وصف العلماء والرؤساء بالتولي والباقين بالإعراض لأجل إعراض علمائهم ومتقدميهم .
وإما أن يرجع إلى كل أهل الكتاب أي هم قوم عادتهم الإعراض عن قبول الحق ذلك التولي والإعراض ، أو ذلك العقاب أو الوعيد بسبب أنهم كانوا يتساهلون في أمر العقاب ولا يفرقون بين ما يتعلق بأصول الدين وبين ما يتعلق بفروعها فقالوا : ( لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات ) [ البقرة : 8 ] هي أيام عبادة العجل فاستوجبوا الذم من وجوه : أحدها استقصار مدة العذاب ومن أين لهم العلم بذلك ؟ وثانيها أن عبادة العجل كفر والكفر يستحق به الكافر عذاباً دائماً .
وثالثها أن استثناء الأيام المعدودات فقط فيه دليل على أنهم استحقروا تكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن وذلك كفر صريح .
) وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون ( من قولهم : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) [ المائدة : 18 ] أو من قولهم : ( لن تمسنا النار إلا إياماً ) [ البقرة : 8 ] أو من قولهم ( نحن أولى بالنبوة من قريش ( أو من زعمهم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم .
) فكيف ( يصنعون ؟ أو فكيف حالهم ؟ وفي هذا الحذف فخامة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من العذاب ) إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ( قال الفراء : إذا قلت جمعوا اليوم الخميس معناه جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس .
أما إذا قلت : جمعوا في يوم الخميس فلا تضمر فعلاً .
وأيضاً من المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة والفرق بين المثاب والمعاقب ) ووفيت كل نفس ما كسبت ( من ثواب أو عقاب أو جزاء(2/132)
" صفحة رقم 133 "
ما عملت ) وهم لا يظلمون ( يرجع إلى كل نفس على المعنى لأنه في معنى كل الناس كما تقول : ثلاثة أنفس تريد ثلاثة أناسي ، روي أن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله على رؤوس الإشهاد ثم يأمر بهم إلى النار .
التأويل : ( ستغلبون ( إشارة إلى أن المبتلى بالكفر مغلوب الحكم الأزلي بالشقاوة ) ربنا غلبت علينا شقوقنا ) [ المؤمنون : 106 ] ثم مغلوب الهوى والنفس والشيطان ولذات الدنيا .
فبغلبات النفس والهوى يرد إلى أسفل ساقلي الطبيعة فيعيش فيها ثم يموت على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه في قعر جهنم وبئس المهاد ، مهاد مهده في معاشه ) قد كان لكم آية في فئتين التقتا ( إن الله تعالى فئتين في الظاهر من المؤمن والكافر وفئتين في الباطن من القلب وصفاته والنفس وصفاتها الذميمة ، ولهما الحرب والالتقاء على الدوام وهو الجهاد الأكبر ) والله يؤيد بنصره من يشاء ( من القلب وجنوده وهم الروح والسر والأوصاف الحميدة والملائكة ، ومن النفس وأعوانها وهم الهوى والدنيا والأوصاف الذميمة والشياطين الحميدة والملائكة ، ونم النفس وأعوانها وهم الهوى والدنيا والأوصاف الذميمة الله خلق الخلق على طبقات ثلاث : العوام ويعبر عنهم بلفظ الناس والغالب عليهم الهوى وهم أصحاب النفوس ، والخواص ويعبر عنهم بلفظ المؤمن وهم أرباب الأرواح والغالب عليهم التقوى ، وخواص الخواص ويذكرهم بلفظ الولي ) ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ يونس : 62 ] والغالب فهيم المحبة والشوق .
ثم إن لجهنم سبع دركات محفوفة بالشهوات فأشار بالنساء إلى شهوة الفرج ، وبالبنين إلى شهوة الطبيعة الحيوانية المائلة إلى الولد ، وبالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة إلى شهوة الحرص على المال ، وبالخيل المسوّمة إلى شهوة الجاه والخيلاء بالركوب عليها ، وبالأنعام إلى شهوة الجمال والاقتناء ) ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) [ النحل : 6 ] وبالحرث إلى شهوة الحكم والرياسة على الرعايا وأهل القرى .
ثم ذكر درجات الجنات الثمانية للخواص منها التقوى للذين اتقوا والرضا بالقضاء ) وروضان من الله ( والإيمان ) ربنا أننا آمنا ( والصبر الصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار بالأسحار هذه الجنات عاجلة تجري من تحتها الأنهار الألطاف والواردات. والأزواج المطهرة الأخلاق الفاضلة التي تتولد منها ، فإذا عاش في الجنات مات وحشر كذلك .
ثم أشار إلى أحوال خواص الخواص مستورة من نظر الخواص محفوظة عن فهم العوام بقوله : ( والله عنده حسن المآب ( ما احلولى لهم الدنيا يا دنيا مري علىأوليائي ولا وقفوا عند جنة المأوى ) ما زاغ البصر وما طغى ) [ النجم : 17 ] وإنما طلبوا قرب المولى ) للذين أحسنوا الحسنى ) [ يونس : 26 ] ( شهد الله ( بكلامه(2/133)
" صفحة رقم 134 "
الأزلي عن عمله السرمدي على ذاته الأحدي وكونه الصمدي ) أنه لا إله إلا هو ( وهي شهادة الحق للحق بالحق أنه الحق ، وهو متفرد بهذه الشهادة الأزلية الأبدية لا يشاركه فيها أحد ، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات وصفاته لا تشبه الصفات ، فشهادته لا تشبه الشهادات .
شهد بجلال قدره على كمال عزه حين لا حين ولا أين ولا عقل ولاجهل ولا غير ولا شرك ولا عرش ولا فرش ولا الجنة ولا النار ولا الليل ولا النهار ولا الجن ولا الإنس ولا الملائكة ولا أولو العلم ولا الإنكار ولا الإقرار ، فأخبر الذي كان عما كان كما كان وهو أنه لا إله إلا هو ، ثم أبدع الموجودات كما شاء على ما شاء لما شاء .
فكل جزء من أجزائها ، وكل ذرة من ذراتها ، بوجوده مفصح ، ولربوبيته موضح ، ولى قدمه شاهد ، ولكن ينبوع ماء التوحيد هو القدم فجرى في مجاري أنها المحدثات إلى أن ظهر من عيون الملائكة وأولي العلم .
ثم الملائكة وإن كانوا مظهر ماء التوحيد كام كان أولو العلم ، ولكن اختص أولو العلم منهم بمشربية ) وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها ) [ الفتح : 26 ]
لي سكرتان وللندمان واحدة
شيء خصصت به من بينهم وحدي
فحقيقة معنى الآية : شهد الله أنه لا إله إلا هو وهو قائم بالقسط على أمور عباده حتى يشهد على شهادته الملائكة وأولو العلم .
ثم فائدة التكرار بقوله ) لا إله إلا هو ( عائدة إلى أولي العلم الذين لهم شركة مع الملائكة في مظهرية ماء التوحيد بالشهادة ، ولهم اختصاص بالمشربية لماء التوحيد فشاهدوا حقيقة ) لا إله إلا هو العزيز ( الذي لا يشاهد عزته إلا أعزته من بين البرية ) الحكيم ( الذي بحكمته اختارهم لهذه العزة من جملة الخليقة ) وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ( الاختلاف في الصورة من نتائج تناكر الأرواح في عالم المعنى والأرواح فام تعارف منها في الميثاق لتقاربهم في الصف أو لتقابلهم في المنزل اتئلف ، وما تناكر منها لتباعدهم في الصفة أو لتدابرهم في المنزل اختلف .
) إلا من بعد ما جاءهم النبيين ( الإنسان خلق مستعداً لقبول فيض صفات لطف الحق وقهره ، فكما أن كمال الإنسان في قبول فيض اللطف أن يفدي نفسه في متاعبة الأنبياء حتى يكون خير البرية ، فنقصانه في قبول فيض القهر أن يقتل الأنبياء حتى يكون شر البرية ، فلهذا تحبط أعماله ولا ترجى توبته وترجى توبة إبليس ) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ( فيه إشارة إلى أن من أوتي حظاً من العلم فعليه إذا دعي إلى حكم من أحكام الله أو إلى ترك الدنيا ومخالفة الهوى أن يمتثل وينقاد وإلا كان مغروراً بالدنيا مفترياً في الدعوى ، وهذه حال أكثر من أوتي نصيباً(2/134)
" صفحة رقم 135 "
من علم الظاهر ولم يؤت حظاً من علم الباطن ، فهم أهل العزة بالله فكيف حال المغرورين إذا جمعهم الله ؟
( آل عمران : ( 26 - 34 ) قل اللهم مالك . . . .
" قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم "
( القراآت )
الحي من الميت والميت من الحي ( بالتشديد على ( فيعل ) حيث كان : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وعاصم غير أبي بكر وحماد .
الباقون بالتخفيف على ( فيل ) .
) منهم تقية ( بكسر القاف وفتح الياء وتشديدها : أبو زيد عن المفضل وسهل ويعقوب .
الباقون ) تقاة ( بضم التاء .
وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة .
الوقوف : ( ممن تشاء ( ط لتناهي الجملتين المتضايفتين معنى إلى جملتين مثلهما ) ونذل من تشاء ( ط ) الخير ( ط ) قدير ( ه ، ) في الليل ( ز للفصل بين الجملتين المتضادتين ) من الحي ( ز لعطف المتفقتين ) حساب ( ه ، ) المؤمنين ( ج ) تقاة ( ط ) نفسه ( ط ) المصير ( ه ، ) يعلمه الله ( ط ) وما في الأرض ( ط ) قدير ( ه ) محضرا ( ج والأجوز أن يوقف على ) سوء ( تقديره وما عملت من سوء كذلك ) بعيداً ( ط ) نفسه ( ط ) بالعباد ( ه ) ذنوبكم ( ط ) رحيم ( ه ، ) والرسول ( ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب ) الكافرين ( ه ، ) العالمين ( ( لا ) لأن ) ذرّية ( بدل .
[ من بعض ( ج ) عليم ( ( لا ) لاحتمال أن ( إذ ) متعلق بالوصفين أي سمع دعاءها وعلم رجاءها حين قالت ، أو اصطفى آل عمران وقت قولها ولاحتمال نصب ( إذ ) بإضمار ( اذكر )(2/135)
" صفحة رقم 136 "
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر من طريق المعاندين ما ذكر ، علم نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) طريقة مباينة لطريقتهم من كيفية التمجيد والتعظيم فقال : ( قل اللهم ( ومعناه عند سيبويه يا الله والميم المشددة عوض عن الياء .
وإنما أخرت تبركاً باسم الله تعالى وهذا من خصائص اسم الله .
كما اختص بدخول تاء القسم ، وبدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف ، وبقطع همزته في يا الله ، وعند الكوفيين أصله يا الله أمنا بخير أي أقصدنا ، فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء .
وخففت الهمزة من أمّ .
وزيف بأن التقدير لو كان كذلك لزم أن يذكر الدعاء بعده بالعطف مثل : اللهم واغفر لنا .
ولجاز أن يتكلم به على أصله من غير تخفيف الهمزة وبإثبات حرف النداء وأجيب بأنه إنما لم يوسط العاطف لئلا يصير السؤال سؤالين ضرورة مغايرة المعطوف للمعطوف عليه بخلاف ما لو جعل الثاني تفسيراً للأول فيكون آكد ، وبأن الأصل كثيراً ما يصير متروكاً مثل : ما أكرمه فإنه لا يقال : شيء ما أكرمه في التعجب .
) ومالك لاملك ( نداء مستأنف عند سيبويه .
فإن النداء باللهم لا يوصف كما لا توصف أخواته من الأسماء المختصة بالنداء نحو : يا هناه ويا نوامن ويا ملكعان وفل .
وأجاز المبرد نصبه على النعت كما جاز في ( يا ألله ) .
عن ابن عباس وأنس بن مالك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من اين لمحمد ملك فارس والروم ؟ هم أعز وأمنع من ذلك فنزلت الآية .
وعن عمرو بن عون أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما خط الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول ، فوجهوا يحفرون ، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول ، فوجهوا سلمان إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، يخبره ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأخذ المعول من سلمان فضربها ( صلى الله عليه وسلم ) ضربة صدعتها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كالمصباح في جوف بيت مظلم ، وكبر ( صلى الله عليه وسلم ) وكبر المسلمون وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ) ثم ضرب الثانية فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ) ثم ضرب الثانية أضاءت لي قصور صنعاء ، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا .
فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا فنزلت .
وقال الحسن : إن الله تعالى أمر نبيه أنيسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما .
وأمره بذلك دليل على أن يستجيب له ( صلى الله عليه وسلم ) هذا الدعاء وهكذا منازل الأنبياء إذا أمروا بدعاء استجيب دعاؤهم .
) مالك الملك ( أي تمل جنس الملاك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون ، وفيه أن قدرة الخلق في كل ما يقدرون عليه ليست إلا بأقدار(2/136)
" صفحة رقم 137 "
الله تعالى .
ثم لما بين كونه مالك الملك وأنه هو الذي يقدر كل قادر على مقدوره ويملك كل مالك على مملوكه فصل ذلك بقوله : ( تؤتى الملك من تشاء ( أي النصيب الذي قسمت له واقتضته حكمتك .
فالأول عام شامل والآخر بعض من الكل .
وهذا الملك قيل : ملك النبوة لأنها أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر على بواطن الخلق ، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق .
والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر ، فعلى كل أحد أن يقبل شريعتهم ولهم أن يقتلوا من أرادوا من المتمردين .
ولهذا استبعد بعض الجهلة أن يكون النبي بشراً ) ابعث الله بشراً رسولاًْ ) [ الإسراء : 94 ] ومن المجوّزين من كان يقول إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فقير يتيم فكيف يليق به هذا المنصب العظيم ؟ ) لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) [ الزخرف : 31 ] وكانت اليهود تقول : النبوة في أسلافنا فنحن أحق بها .
وقد روينا في تفسير قوله : ( قل للذين كفروا ستغلبون ) [ آل عمران : 12 ] أن اليهود تكبروا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بكثرة عددهم وعددهم فرد الله تعالى على جميع هؤلاء الطوائف بأنه سبحانه مالك الملك يؤتي الملك - وهو النبوة - من يشاء ، وينزع الملك - النبوة - ممن يشاء لا بمعنى أنه يعزله عن النبوة فإن ذلك غير جائز بالإجماع بل بمعنى أنه ينقلها من نسل إلى نسل كما نزع عن بني إسرائيل ووضع في العرب ، أو بمعنى أنه لا يعطيه النبوة ابتداء كقوله : ( الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) [ البقرة : 257 ] فإنه يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط .
ومثله ) أو لتعودنّ في ملتنا ) [ الأعراف : 88 ] مع أن الأنبياء لم يكونوا في ملتهم قط حتى يتصور العود إليها ، وقيل : المراد من الملك التسلط الظاهر وهو الاقتدار على المال بأنواعه وعلى الجاه ، وهو أن يكون مهيباً عند الناس وجيهاً غالباً مظفراً مطاعاً .
ومن المعلوم أن كل ذلك بإيتاء الله تعالى .
فكم من عاقل قليل المال ، ورب جاهل غافل رخي البال ، وقد رأينا كثيراً من الملوك بذلوا الأموال لتحصيل الحشمة والجاه وما ازدادوا إلا حقارة وخمولاً ، فعلمنا أن الكل بإيتاء الله تعالى سواء في ذلك ملوك العدل وملوك الجور ، لأن حصول الملك للجائر إن لم يقع بفاعل ففيه سد باب إثبات الصانع ، وإن حصل بفعل المتغلب فكل أحد يتمنى حصول الملك والدولة لنفسه ولا يتيسر له .
فلم يبق إلا أن يكون من مسبب الأسباب وفاعل الكل ومدبر الأمور وناظم مصالح الجمهور .
لو كان بالحيل الغني لوجدتني
بتخوم أقطار السماء تعلقي
لكن من رزق الحجى حرم الغنى
ضدان مفترقان أيّ تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق(2/137)
" صفحة رقم 138 "
وكذا الكلام في نزع الملك فإنه كما ينزع الملك من الظالم فقد ينزعه من العادل لمصلحة تقتضي ذلك .
والنزع يكون بالموت وبإزالة العقل والقوى والقدرة والحواس وبتلف الأموال وغير ذلك .
في بعض الكتب ( أنا الله ملك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة .
وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة ، فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم ) وهذا كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كما تكونوا يولى عليكم ) والصحيح أن الملك عام يدخل فيه النبوة والولاية والعلم والعقل والصحة والأخلاق الحسنة وملك النفاذ والقدرة وملك محبة القلوب وملك الأموال والأولاد إلى غير ذلك ، فإن اللفظ عام ولا دليل على التخصيص ) وتعز من تشاء وتذل من تشاء ( كل من الإعزاز والإذلال في الدين أو في الدنيا ، ولا عزة في الدين كعزة الإيمان ) ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) [ المنافقون : 8 ] وفي ضده لا ذلة كذلة الكفر وعزة الدنيا كإعطاء الأموال الكثيرة من الناطق والصامت ، وتكثير الحرث وتكثير النتاج في الدواب وإلقاء الهيبة في قلوب الخلق ، وكل ذلك بتيسير الله تعالى وتقديره ) بيدك الخير ( أي بقدرتك يحصل كل الخيرات وليس في يد غيرك منها شيء .
وإنما خص الخير بالذكر وإن كان بيده الخير والشر والنفع والضرّ ، لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة ، أي بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك ، أو لأن جميع أفعاله من نافع وضار لا يخلو عن حكمة ومصلحة وإن كنا لا نعلم تفصيلها فكلها خير ، أو لأن القادر على إيصال الخير أقدر على إيصال الشر فاكتفى بالأول عن الثاني .
وللاحتراز عن لفظ الشر مع أن ذلك صار مذكورا بالتضمن في قوله : ( إنك على كل شيء قدير ( ولأن الخير يصدر عن الحكم بالذات ولاشر بالعرض فاقتصر على الخير .
) تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ( وذلك بأن يجعل الليل قصيراً ويدخل ذلك القدر في النهار وبالعكس .
ففي كل منهما قوام العالم ونظامه .
أو يأتي بالليل عقيب النهار فيلبس الدنيا ظلمته بعد أن كان فيها ضوء النهار ، ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوأه .
فالمراد بالإيلاج إيجاد كل منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ ، فإن الإيلاج الإدخال فإذا زاد من هذا في ذلك فقد أدخله فيه ) وتخرج الحي من الميت ( المؤمن من الكافر ) أو من كان ميتاً فأحييناه ) [ الأنعام : 22 ] أي كافراً فهديناه ، أو الطيب من الخبيث ، أو الحيوان من النطفة ، أو الطير من البيضة وبالعكس ، والنطفة تسمى ميتاً ) كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاًَ فأحياكم ) [ البقرة : 28 ] أو يخرج السنبلة من الحبة ، والنخلة من النواة وبالعكس ، فإخراج النبات من الأرض يسمى إحياء ) يحيي الأرض بعد موتها ) [ الحديد : 17 ] ( وترزق من تشاء بغير حساب ( تقدم مثله في البقرة .
وإذا كان كذلك فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم(2/138)
" صفحة رقم 139 "
ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم .
ثم لما علم كيفية التعظيم لأمر الله أردفه بشريطة الشفقة على خلق الله ، أو نقول : لما ذكر أنه مالك الملك وبيده العزة والذلة والخير كله .
بيّن أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه فقال : ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين ( بالجزم ، ولكن كسر الذال للساكنين .
قال الزجاج : ولو رفع على الخبر جاز ، ولكنه لم يقرأ .
والخبر والطلب يقام كل منهما مقام الآخر .
وقوله : ( من دون المؤمنين ( يعني أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم على المؤمنين .
عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد وهؤلا كانوا من اليهود يباطنون نفراً من الأنصار يفتنونهم من دينهم .
فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن حبير وسعد بن ثيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود .
فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فنزلت هذه الآية .
وعن ابن عباس أيضاً في رواية الضحاك : نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدرياً نقيباً ، وكان له حلفاء من اليهود .
فلما خرج النبيى ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الأحزاب قال عبادة : يا نبي الله ، إن معي خمسمائة رجل من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو فنزلت .
وقال الكلبي : نزلت في المنافقين - عبد الله بن أبيّ وأصحابه - كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم .
وقد كرر ذلك في آيات أخر كثيرة ) لا تتخذوا بطانة من دونكم ) [ آل عمران : 118 ] ( ا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ) [ المائدة : 51 ] ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) [ المجادلة : 22 ] وكون المؤمن موالياً للكافر يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون راضياً بكفره والرضا بالكفر كفر فيستحيل أن يصدر عن المؤمن فلا يدخل تحت الآية لقوله : ( يا أيها الذين آمنوا ( وثانيها المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر وذلك غير ممنوع منه والثالث كالمتوسط بين القسمين وهو الركون إليهم والمعونة والمظاهرة لقرابة أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك ، ولهذا قال مقاتل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، وكانوا يظهرون المودّة لكفار مكة مع اعتقاد أن دينهم باطل ، فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه حذراً من أن يجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه حتى يخصه بالموالاة دون المؤمنين ، فلا جرم هدد فقال : ( من يفعل ذلك فليس من الله ( أي من ولايته أو من دينه ) في شيء ( يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ عن ولاية الله رأساً ، وهذا كالبيان لقوله : ( من دون المؤمنين ( ليعلم أن الاشتراك بينهم وبين المؤمنين في الموالاة غير متصوّر وهذا أمر معقول ، فإن موالاة الولي وموالاة عدوه ضدان قال :
تود عدوّي ثم تزعم أنني
صديقك ليس النوك عنك بعازب(2/139)
" صفحة رقم 140 "
قال بعض الحكماء : هذا ليس بكلي فإنه قد يكون المشفق على العدوّ مشفقاً على العدو الآخر كالملك العادل فإنه محب لهما ، فإن أراد أحد أن يعم الحكم لا بد له أن يزيد عليه إذا كانوا في مرتبة واحدة ) إلا أن تتقوا منهم تقاة ( قال الجوهري : يقال اتقى تقية وتقاة مثل اتخم تخمة ، وفاؤها واو كتراث .
فالتقاة اسم وضع موضع المصدر .
قال الواحدي : ويجوز أن يجعل ( تقاة ) ههنا مثل ( دعاة ) و ( رماة ) فيكون حالاً مؤكدة ، وعلى هذه الوجهين يكون تتقوا مضمناً معنى تحذروا أو تخافوا ولذا عدي ب ( من ) ويحتمل أن يكون التقاة أو التقية بمعنى المتقي مثل : ضرب الأمير لمضروبه ، فالمعنى إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه .
رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة محالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من قشر العصا وإظهار الطوية كقول عيسى عليه السلام : كن وسطاً وامش جانباً أي ليكن جسدك بين الناس وقلبك مع الله .
وللتقية عند العلماء أحكام منها : إذا كان الرجل في قوم كفار يخاف منهم على نفسه جاز له أن يظهر المحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه ويعرّض في كل ما يقول ما أمكن ، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلب .
ومنه أنها رخصة فلو تركها كان أفضل لما روى الحسن أنه أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لأحدهما : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم .
قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم - وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش - فتركه ودعا الآخر وقال : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ فقال : نعم نعم نعم .
فقال : أتشهد أني رسول الله ؟ فقال : إني أصم ثلاثاً ، فقدمه وقتله .
فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : فقال : أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيأ له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه .
ونظير هذه الآية ) إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) [ النحل : 106 ] ومنها أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة .
وقد يجوز أن تكون أيضاً فيما يتعلق بإظهار الدين ، فأما الذي يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال وشهادة الزور وقذف المحضنات وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز ألبتة .
ومنها أن الشافعي جوز التقية بين المسلمين كما جوّزها بين الكافر محاماة على النفس .
ومناه أنها جائزة لصون المال على الأصح كما أنها جائزة لصون النفس لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( حرمة مال المسلم كحرمة دمه ) ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) ولأن الحاجة إلى المال شديدة ولهذا يسقط فرض الوضوء ويجوز الاقتصار على التميم(2/140)
" صفحة رقم 141 "
إذا بيع الماء بالغبن .
قال مجاهد : كان هذا في أول الإسلام فقط لضعف المؤمنين .
وروى عوف عن الحسن أنه قال : التقة جائزة إلى يوم القيامة .
وهذا أرجح عند الأئمة ) ويحذركم الله نفسه ( قيل : أي عقاب نفسه .
وفيه تهديد عظيم لمن تعرّض لسخطه بموالاة أعدائه لأن شدة العقاب على حسب قدرة المعاقب .
وفائدة ذكر النفس تصريح بأن الذي حذر منه هو عقاب يصدر من الله لا من غيره .
وقيل : الضمير يعود إلى اتخاذ الأولياء أي ينهاكم الله عن نفس هذا الفعل .
ثم حذر عن جعل الباطن موافقاً للظاهر في وقت التقية فقال : ( قل إن تخفوا ما في صدوركم ( أي قلوبكم وضمائركم لأن القلب في الصدر فجاز إقامة الظرف مقام المظروف ) أو تبدوه يعلمه الله ( يتعلق به علمه الأزلي .
ثم استأنف بياناً أشفى وتحذيراً أوفى فقال : ( ويعلم ما في السموات وما في الأرض ( ثم قال إتماماً للتحذير ) والله على كل شيء قدير ( ثم خلط الوعيد بالوعد والترهيب بالترغيب فقال : ( يوم تجد ( وفي عامله وجوه قال ابن الأنباري : وإلى الله المصير يوم تجد .
وقيل : والله على كل شيء قدير يوم تجد ، وخص ذلك اليوم بالذكر وإن كان غيره من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى تعظيماً لشأنه مثل ) مالك يوم الدين ) [ الفاتحة : 3 ] وقيل : انتصابه بمضمر أي اذكر .
والأظهر أن العامل فيه ) تود ( والضمير في ) بينه ( ليوم أي تود كل نفس يوم تجد ما عملت من خير محضراُ وما عملت من سوء محضراً أيضاً لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً. والأمد الغاية التي ينتهي إليها مكاناً كانت أو زماناً .
والمقصود تمني بعده كقوله : ( يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ) [ الزخرف : 38 ] ومعنى كون العمل محضراً هو أن يكون ما كتب فيه العمل من الصحائف حاضراً ، أو يكون جزاؤه حاضراً إذ العمل عرض لا يبقى .
ثم إن لم يكن يوم متعلقاً ب ) تود ( احتمل أن يكون ) تود ( صفة ) سوء ( والضمير في ) بينه ( يعود إليه ، واحتمل أن يكون حالاً ، واحتمل أن يكون ) ما عملت ( مبتدأ من الصلة والموصول و ) تود ( خبره وهو الأ : ثر ، واحتمل أ ، يكون ( ما ) شرطية و ) تود ( جزاء له وهو قليل كقوله :
وإن أتاه خليل يوم مسغبة
يقول لا غائب ما لي ولا حرم
وقراءة عبد الله ) ودت ( يحتملها على السواء إلا أن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم ) ويحذركم الله نفسه ( تأكيد للوعد ) والله رؤف بالعباد ( قال الحسن : ومن رأفته أن حذرهم نفسه وعرّفهم كمال علمه وقدرته ، وأنه يمهل ولا يهمل ، ورغبهم في استيجاب رحمته ، وحذرهم من استحقاق غضبه .
ويجوز أن يراد أنه(2/141)
" صفحة رقم 142 "
رؤوف بهم حيث أمهلهم للتوبة والتلافي ، أو هو وعد كما أن التحذير وعيد ، أو المراد بالعباد عباده المخلصون كقوله : ( عيناً يشرب بها عباد الله ) [ الدهر : 6 ] كما هو منتقم من الفساق ومحذرهم نفسه فهو رؤوف بالعباد المطيعين والمحسنين .
ثم إنه تعالى دعا القوم إلى الإيمان الحسن وابن جريج : زعم أقوام على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم يحبون الله فقالوا : يا محمد إنا نحب ربنا فأنزل الله هذه الآية .
وروى الضحاك عن ابن عباس قال : وقف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال ( يا معشر قريش ، لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل ولقد كانا على الإسلام ) فقالت قريش : يا محمد إنا نعبد هذه حباً لله ليقربونا إلى الله زلفى .
فأنزل الله ) قل إن كنتم تحبون الله ( وتعبدون الأصنام لتقربكم إليه ) فاتبعوني يحببنكم الله ( فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم وأنا أ ، لى بالتعظيم من أصنامكم .
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت حين زعمت اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه .
وقيل : نزلت في نصارى نجران زعموا أنهم يعظمون المسيح ويعبدونه حباً لله وتعظيماً له .
والحاصل أن كل من يدعي محبة الله تعالى من فرق العقلاء فلا بد أن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه ، فإذا قامت الدلائل العقلية والمعجزات الحسية على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجبت متابعته .
فليس في متابعته إلا أنه يدعوهم إلى طاعة الله وتعظيمه وترك تعظيم غيره .
فمن أحب الله كان راغباً فيه لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض بالكلية عن غيره ، وقد مر في تفسير قوله : ( والذين آمنوا أشد حباً لله ) [ البقرة : 165 ] تحقيق المحبة وأنها من الله تعالى عبارة عن إعطاء الثواب .
وقال : ( ويغفر لكم ذنوبكم ( ليدل مع أيفاء الثواب على إزالة العقاب وهذه غاية ما يطلبه كل عاقل .
) والله غفور ( في الدنيا يستر على عبده أنواع المعاصي ) رحيم ( في الآخرة يثيبه على مثقال الذرة من الطاعة والحسنة ، يروى أنه لما نزل ) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ( قال عبد الله بن أبيّ إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزلت ) قل أطيعوا الله والرسول ( وذلك أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته ثم إن المنافق ألقى شبهة في البين أمره الله تعالى أن يقول : إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا لما يقوله النصارى في عيسى بل لكوني رسولاً من عند الله ومبلغ تكاليفه ) فإن تولوا ( أعرضوا أو تعرضوا على أن يكون التاء الأولى محذوفة ويدخل في جملة ما يقوله الرسول لهم ، فإنه لا يحصل للكافرين محبة الله لأنها عبارة عن الثناء لهم وإيصال الثواب إليهم ، والكافر يستحق الذم واللعن وهذا ضد المحبة .
ثم إنه تعالى لما بين أن محبه لا تتم إلا بمتابعة الرسل بيّن علو(2/142)
" صفحة رقم 143 "
درجات الرسل وسموّ طبقاتهم فقال : ( إن الله اصطفى آدم ونوحاً ( الآية أي جعلهم صفوة خلقه والمختارين من بينهم تمثيلاً بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة ، وذلك باستخلاصهم من الصفات الذميمة وتحليتهم بالخصال الحميدة كقوله : ( الله أعلم حيث يجعل رسالاته ) [ الأنعام : 124 ] وقيل : المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح ولكن الأصل عدم الإضمار .
وذكر الحليمي في كتاب المنهاج أن الأنبياء عليهم السلام مخالفون لغيرهم في القوى الجسمانية والقوى الروحانية .
أما القوى الجسمانية فهي إما مدركة أو محركة .
أما المدركة فهي الحواس الظاهرة أو الباطنة أما الظاهرة فقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها ) وقوله : ( أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري ) وهذا يدل على كمال القوة الباصرة ونظيرها ما حصل لإبراهيم عليه السلام ) وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض ) [ الأنعام : 75 ] ذكروا في تفسيره أن الله تعالى قوّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت وليس بمستبعد ، فإنه يروى أن زرقاء اليمامة كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام .
ويقال : إن النسر وغيره من عظام الجوارح يرتفع فيرى صيده من مائة فرسخ .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أطت السماء وحق لها أن تئط ) فسمع أطيط السماء .
ومثله ما زعمت الفلاسفة أن فيثاغورس راض نفسه حتى سمع حفيف الفلك .
وقد سمع سليمان كلام النمل وفهمه .
ومثله ما يروى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تكلم مع الذئب ومع البعير ، وقد وجد يعقوب ( صلى الله عليه وسلم ) ريح يوسف في مسيرة أيام .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن هذا الذراع يخبرني أنه مسوم ) وهو دليل كمال قوة الذوق .
وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم ، قيل : وهو دليل قوة الإدراك ؟ بل يجب أن يحمل هذا على معنى آخر وهو أنه تعالى لا يبعد أن يجعل المنافي ملائماً للإعجاز أو لخاصية أودعها في المنافي حتى يصير ملائماً .
وأما الحواس الباطنة فمنها قوة الحفظ قال تعالى : ( سنقرئك فلا تنسى ) [ الأعلى : 6 ] ومنه قوة الذكاء قال علي رضي(2/143)
" صفحة رقم 144 "
الله عنه : علمني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ألف باب من العلم فاستنبطت من كل باب ألف باب .
وإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي ؟ وأما القوة المحركة فكعروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعروج عيسى عليه السلام إلى السماء ، وكرفع إدريس وإلياس على ما ورد في الأخبار .
وأما القوة الروحانية العقلية فنقول : إن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس ، أو كالمخالفة صفاء ونورية وانجذاباً إلى عالم الأرواح ، فلا جرم تجري عليها الأنوار الفائضة من المبادىء العالية أتم من سائر النفوس وأكمل ، ولهذا بعثت مكملة للناقصين ومعلمة للجاهلين ومرشدة للطالبين مصطفاة على العالمين من جميع سكان الأرضين عند من يقول الملك أفضل من البشر ، أو من سكان السموات أيضاً عند من يرى البشر أفضل المخلوقات ثم إن القرآن دل على أن أول الأنبياء اصفطاء آدم صفي الله وخليفته .
ثم إنه وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم وهم : شيث وأولاده إلى إدريس ، ثم إلى نوح ثم إلى إبرهيم هم انشعب من إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) شعبتان : إسماعيل وإسحق .
فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وجعل إسحق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيص .
فوضع النبوة في نسل يعقوب ، ووضع الملك في نسل عيص ، واستمر ذلك إلى زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
فلما ظهر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نقل نور النبوة ونور الملك إليه ( صلى الله عليه وسلم ) وبقي الدين والملك في أمته ( صلى الله عليه وسلم ) إلى يوم القيامة ، فالمراد بآل إبراهيم أولاده عليهم الصلاة والسلام وهو المطلوب بقوله : ( ومن ذريتي ) [ البقرة : 124 ] بعد قوله : ( إني جاعلك للناس إماماً ) [ البقرة : 124 ] وأما آل عمران فقيل : أولاد عمران بن يصهر والدموسي وهارون .
وقيل : المراد بعمران والد مريم وهو عمران بن ماثان بدليل قوله عقيبه ) إذ قالت امرأة عمران ) [ آل عمران : 35 ] ولا شك أنه عمران بن ماثان جد عيسى من قبل الأم ، ولأن الكلام سيق للناصرى الذين يحتجون على إلهية عيسى عليه السلام بالخوارق التي ظهرت على يده .
فالله تعالى يقول : إن ذلك باصطفاء الله إياه لا لكونه شريكاً للإله ولأن هذا اللفظ شديد المطابقة لقوله تعالى : ( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) [ الأنبياء : 91 ] ( ذرية ( بدل ممن سوى آدم ) بعضها من بعض ( قيل : أي في التوحيد والإخلاص والطاعة كقوله : ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ) [ التوبة : 67 ] وذلك لاشتراكهم في النفاق .
وقيل : معنان أن غير آدم كانوا متوالدين من آدم .
وقيل : يعني أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض ، موسى وهارون من عمران ، وعمران من يصهر ، ويصهر من قاهث ، وقاهث من لاوي ، ولاوي من يعقوب ، ويعقوب من إسحق ، وكذلك عيسى من مريم ، ومريم بنت عمران بن ماثان .
ثم قال في الكشاف : ماثان ين سليمان بن داود بن ايشا بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق وفيه نظر ؛ لأن بين ماثان وسليمان قوماً آخرين ، وكذلك بين ايشا ويهوذا .
) والله(2/144)
" صفحة رقم 145 "
سميع ( لأقوال العباد ) عليم ( بضمائرهم وأفعالهم من خلقه من يعلم استقامته قولاً وفعلاً .
ويحتمل أن يكون الكلام مع اليهود والنصارى الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه تغريراً للعوام مع علمهم ببطلان هذا الكلام ، فيكون أول الكلام تشريفاً للمرسلين وآخره تهديداً للمبطلين كأنه قيل : والله سميع لأقوالهم الباطلة ، عليم بأغراضهم الفاسدة فيجازيهم بحسب ذلك .
ويحتمل أن يتعلق بما بعده كما في الوقوف .
التأويل : مالك هو ملك الوجود فلا وجود بالحقيقة إلا له ، تؤتي الوجود من تشاء وتنزع الوجود ممن تشاء ، فتخلق بعض الموجودات مستعداً للبقاء كالملائكة والإنسان ، توجد بعضها قابلاً للفناء كالنبات والحيوان غير الإنسان .
) وتعز من تشاء ( بعزة الوجود النوري ، ) وتذل من تشاء ( بذل القبض القهري ، بيدك الخير ) إنك على كل شيء قدير ( تضمين للدعاء بذكر السبب كما يقال للجواد إنك الذي يقدر على إعطاء كل خير فأتنا وأعزنا يا مفيض كل خير ، ويا كاشف كل ضير .
تولج ليل ظلمات الصفات البشرية النفسانية في نهار أنوار الصفات الروحانية وبالعكس ، تخرج القلب الحي بالحياة الحقيقية من النفس الميتة ، وتخرج القلب الميت عن الحياة الحقيقية من النفس الحية بالحياة المجازية الحيوانية .
لا يتخذ القلب المؤمن والروح والسر وصفاتها الكافرين من النفس الأمّارة والشيطان والهوى والدنيا أولياء من دون المؤمنين من القلب والروح والسر ، ومن يفعل ذلك من القلوب فليس من أنوار الله وألطافه في شيء إلا أن تخافوا من هلاك النفوس .
فالنفس مركب الروح فتواسوها كيلا تعجز عن السير في الرجوع وتهلك في الطريق من شدة الرياضات وكثرة المجاهدات ) ويحذركم الله نفسه ( أي من صفات قهره ) قل إن تخفوا ما في صدوركم ( من معاداة الحق في ضمن موالاة النفس ) ويعلم ما في السموات ( قلوبكم ) وما في الأرض ( نفوسكم ) يوم تجد كل نفس ما عملت ( أثر الخير والشر ظاهر في ذات المرء وصفاته ، وبحسب ذلك يبيض وجه قلبه أو يسود ولكنه في غفلة من هذا محجوب عنه بحجاب النفس والجسم كمثل نائم لدغته حية كحية الكفر والخصال الذميمة فلا يحس بها ما دام نائماً نوم الغفلة ، فإذا مات انتبه وأحس ، ثم أخبر عن طريق الوصول أنه في متابعة الرسول .
واعلم أن للاتباع ثلاث درجات ، ولمحبة المحب ثلاث درجات ، ولمحبة الله للمحب التابع على حسب الاتباع ثلاث درجات .
أما درجات الاتباع فالأولى درجة عوام المؤمنين وهي متابعة أعماله ( صلى الله عليه وسلم ) ، والثانية درجة الخواص وهي متابعة أخلاقه ، والثالثة درجة المؤمنين وهي متابعة أعماله ( صلى الله عليه وسلم ) ، والثانية درجة محبة المحب فالأولى محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن ( جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ) وهذا حب(2/145)
" صفحة رقم 146 "
يتغير بتغير الإحسان وهو لمتابعي الأعمال الذين يطمعون في الأجر على ما يعملون وفيه قال أبو الطيب :
وما أنا بالباغي على الحب رشوة
ضعيف هوى يرجى عليه ثواب
والثانية محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إعظاماً وإجلالاً له ، ولأنه أهل لذلك كما قالت رابعة :
أحبك حبين حب الهوى
وحب لأنك أهل لذاكا
ويضطر هذا المحب في هذه الدرجة إلى إيثار الحق على غيره ، وهذا الحب يبقى على الأبد بقاء الكمال والجلال على السرمد وفيه قال :
سأعبد الله لا أرجو مثوبته
لكن تعبد إعظام وإجلال
والثالثة محبة أخص الخواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكان من ( كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف ) وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة بسبق العناية ،
غذينا بالمحبة يوم قالت
له الدنيا أتينا طائعينا
وحقيقة هذه المحبة أن يفنى المحب بسطوتها وتبقى المحبة فيه بلا هو كما أن النار تفني الحطب بسطوتها وتبقى النار منه بلا هو .
وحقيقة هذه المحبة نار لا تبقي ولا تذر .
وأما درجات محبة الله للعبد فاعلم أن كل صفة من صفات الله تعالى من العلم والقدرة والإرادة وغيرها فإنها لا تشبه في الحقيقة صفات المخلوقين ، حتى الوجود فإنه وإن عم الخالق والمخلوق إلا أن وجوده واجب بنفسه ووجود غيره ممكن في ذاته واجب به ، فليس في الكون إلا الله وأفعاله .
قرأ القارى بين يدي الشيخ أبي سعيد بن أبي الخير رحمه الله قوله : ( يحبهم ويحبونه ) [ المائدة : 54 ] فقال : بحق يحبهم لأنه لا يحب إلا نفسه فليس في الوجود إلا هو ، وما سواه فهو من صنعه .
والصانع إذا مدح صنعه فقد مدح نفسه .
والغرض أن محبة الله للخلق عائدة إليه حقيقة إلا أنه لما كان مرورها على الخلق فبحسب ذلك اختلفت مراتبها ، مع أنها صدرت عن محل واحد هو محل ( كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف ) فما تعلقت إلا بأهل المعرفة وذلك قوله : ( فخلقت الخلق لأعرف ) لكنها تعلقت بالعوام من أهل المعرفة بالرحمة ومشربهم الأعمال فقيل لهم ) فاتبعوني ( بالأعمال الصالحة ) يحببكم الله ( يخصلكم بالرحمة ) ويغفر لكم ( ذنوبكم التي صدرت منكم على خلاف(2/146)
" صفحة رقم 147 "
المتابعة .
وتعلقت بالخاص من أهل المعرفة بالفضل ومشربهم الأخلاق فقيل لهم : ( فاتبعوني ( بمكارم الأخلاق يحببكم بالفضل يخصكم بتجلي صفات الجمال ) ويغفر لكم ذنوبكم ( يستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته .
وتعلقت بالأخص من أهل المعرفة بالجذبات ومشربهم الأحوال فقيل لهم ) فاتبعوني ( ببذل الوجود ) يحببكم الله ( يخصكم بجذبكم إلى نفسه ) ويغفر لكم ( ذنوب وجودكم فيمحوكم عنكم ويثبتكم به كما قال : ( فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً ) فهم بين روضة المحو وغدير الإثبات أحياء غير أموات ، ويكون في هذا المقام المحب والمحبوب والمحبة واحداً كما أن الرائي في المرآة يشاهد ذاته بذاته وصفاته بصفاته فيكون الرائي والمرئي والرؤية واحداً .
) قل أطيعوا الله والرسول ( فإن متابعته صورة جذبة الحق وصدف درّة محبته لكم .
) إن الله اصطفى آدم ( وذلك أنالله تعالى خلق العالمين سبعة أنواع : الجماد والمعدن والنبات والحيوان والنفوس والعقول والأرواح ، وجمع في آدم جميع الأنواع وخصه بتشريف ثامن هو تشريف ) ونفخت فيه من روحي ) [ ص : 72 ] فهو المظهر لجميع آياته وصفاته وذاته وهو معنى جعله خليفة ومعنى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وإن الله خلق آدم على صورته ) ثم ذكر خواص أولاد آدم نوحاً وآل إبراهيم وآل عمران والمراد بالآل كل مؤمن تقي ) بعضها من بعض ( بالوراثة الدينية ( العلماء ورثة الأنبياء ) فالعالم كشجرة وثمرتها أهل المعرفة ) والله سميع ( لدعائهم ) عليم ( بأ ؛ والهم وخصالهم .
( آل عمران : ( 35 - 41 ) إذ قالت امرأة . . . .
" إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني(2/147)
" صفحة رقم 148 "
الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار "
( القراآت )
مني إنك ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو .
) بما وضعت ( على الحكاية : ابن عامر ويعقوب وأبو بكر وحماد .
الباقون ) وضعت ( على الغيبة .
) وإني أعيذها ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع ) وكفلها ( مشددة : عاصم وحمزة وعلي وخلف .
البابون خفيفاً ) زكريا ( مقصوراً كل القرآن : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد .
وقرأ أبو بكر وحماد بالمد والنصب ههنا .
الباقون بالمد والرفع .
) فناديه ( بالياء والإمالة : علي وحمزة وخلف .
الباقون ) فنادته ( بتاء التأنيث ) في المحراب ( بالإمالة حيث كان مخفوضاً .
قتيبة وابن ذكوان ) إن الله ( بكسر ( إن ) : ابن عامر وحمزة ، الباقون بالفتح .
) يبشرك ( وما بعده من البشارة خفيفاً : حمزة وعلي .
الباقون بالتشديد ) لي آية ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن شنبوذ عن ابن كثير .
الوقوف : ( مني ( ج للابتداء ولاحتمال لأنك ) العليم ( ه ) أنثى ( ط لمن قرأ ) بما وضعت ( بتاء التأنيث الساكنة ، ومن قرأ على الحكاية لم يقف لأنه يجعلها من كلامها .
على قراءة من قرأ ) وضعت ( بالضم ) الرجيم ( ه ) حسناً ( ص لمن قرأ ) وكفلها ( مخففاً لتبدل فاعله ، فإن فاعل المخفف ) زكريا ( وفاعل المشدد الرب .
وقد يعدى إلأى مفعولين كقوله : ( أكفلنيها ) [ ص : 23 ] ( المحراب ( ( لا ) لأن ) وجد ( جواب ) كلما ( ) رزقاً ( ج لاتحاد فاعل الفعلين مع عدم العاطف ) هذا ( ط ) من عند الله ( ط ) حساب ( ه ) ربه ( ج لما قلنا في ) رزقاً ( ) طيبة ( ج للابتداء ولجواز لأنك ) الدعاء ( ه ) في المحراب ( ( لا ) وإن كسر ( إن ) لأن من كسر جعل النداء في معنى القول ) الصالحين ( ه ) عاقر ( ط ) ما يشاء ( ه ) آية ( ط ) والإبكار ( ه .
التفسير : إنه سبحانه ذكر في هذا المقام قصصاً .
القصة الأولى حنة أم مريم البتول زوجة ابن عمران بن ماثان بنت فاقوذ أخت إيشاع التي كانت تحت زكريا بن أذن .
روي أن حنة كانت عاقراً لم تلد إلى أن كبرت وعجزت .
فبينما هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخاً له ، فتحركت نفسها للولد وتمنته فقالتت : اللهم إن لك عليّ نذراً شكراً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمته .
فحملت بمريم(2/148)
" صفحة رقم 149 "
وهلك عمران وهي حامل .
قال الحسن : إنما فعلت ذلك بإلهام الله تعالى كما ألهم أم موسى فقذفته في أليم .
عن السعبي : محرراً مخلصاً للعبادة .
وتحرير العبد تخليصه من الرق ، وحررت الكتاب إذا أصلحته وخلص من الغلط ، ورجل حر إذا كان خالصاً لنفسه ليس لأحد عليه يد وتصرف .
قال الأصم : لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي ، وكان في دينهم أن الولد إذا صار بحث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين .
فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع عن الانتفاع ويجعلون الأولاد محررين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى ، حتى إذا بلغ الحلم كان مخيراً .
فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب ، وإن اختار المقام فلا خيار له بعد ذلك .
ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في بيت المقدس ، وما كان هذا التحرير إلا في الغلمان .
لأن الجارية يصيبها الحيض والقذر ، ثم إنها نذرت مطلقاً إما لبناء الأمر على الفرض والتقدير ، وإما لأنها جعلت النذر وسيلة إلى طلب الولد الذكر .
) محرراً ( حال من ( ما ) .
وعن ابن قتيبة : المعنى نذرت لك أن أجعل ما في بطني محرراً .
فلما وضعتها يعني ما في بطنها لأنها كانت أنثى في علم الله ، أو على تأويل النفس أو النسمة أو الحبلة .
والحبل بفتح الباء مصدر بمعنى المحبول ، كما سمي بالحمل ، ثم أدخلت عليه التاء للإشعار بمعنى الأنوثة فيه ، ومنه الحديث ) نهى عن حبل الحبلة ( ومعناه أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أنه يكون أنثى .
) قالت رب إني وضعتها ( حال كونها ) أنثى ( ثم من قرأ ) والله أعلم بما وضعت ( على الحكاية فمجموع الكلام إلى آخر الآية من قولها ، ويكون فائدة قولها ) إني وضعتها أنثى ( الاعتذار عن إطلاق النذر الذي تقدم منها ، والخوف من أنها لا تقع الموقع الذي يعتد به والتحزن إلى ربها والتحسر على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها .
ثم خافت أن يظن بها أنها قالت ذلك لإعلام الله تعالى فقالت : ( والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ( ليس جنس الذكور كجنس الإناث لا سيما في باب السدانة ، فإن تحرير غير الذكور لم يكن جائزاً في شرعهم ، والذكر يمكن له الاستمرار على الخدمة دون الأنثى لعوارض النسوان ، ولأن الأنثى لا تقوى على الخدمة لأنها محل التهمة عند الاختلاط ، ويحتمل أن تكون عارفة بالله واثقة بأن كل ما صدر عنه فإنه يكون خيراً وصواباً فقالت : ( رب إني وضعتها أنثى ( ولكنك أعرف وأعلم بحال ما وضعت فلعل لك فيه سراً ) وليس الذكر ( الذي طلبت ) كالأنثى ( التي وهبت لي لأنك لا تفعل إلا ما فيه حكمة ومصلحة ، فعلى هذا اللام في الذكر وفي الأنثى لمعهود حاضر ذهني لكنها في الذكر لحاضر ذهني تقديراً لدلالة ما في بطني عليه ضمناً ، وفي الأنثى لحاضر ذهني حقيقة لتقدم لفظة أنثى .
ومن قرأ ) بما وضعت ( بسكون التاء للتأنيث فالجملتان أعني(2/149)
" صفحة رقم 150 "
قوله ) والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ( معترضتان : ومعناه والله أعلم بالشيء الذي وضعت لما علق به من عظائم الأمور وجعلها وولدها آية للعالمين وهي جاهلة بذلك .
ثم زاده بياناً وإيضاحاً فقال : ( وليس الذكر ( الذي طلبت ) كالأنثى ( التي وهبت لها .
) وإني سميتها مريم ( وذلك أن أباها قد مات عند وضعها فلهذا تولت الأم تسميتها .
ومريم في لغتهم العابدة ، فأرادت بقولها ذلك التقرب والطلب إلى الله أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها ، ولهذا أردف ذلك بطلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان ) فتقبلها ربها ( الضمير يعود إلى امرأة عمران ظاهراً بدليل أنها التي خاطبت ونادت بقولها ) رب إني وضعتها ( ويحتمل أن يعود إلى مريم فيكون فيه إشارة إلى أنه كما رباها في بطن أمها فسيربيها بعد ذلك ) بقبول حسن ( تقبلت الشيء وقبلته إذا رضيته لنفسك .
قبولاً بفتح القاف وهو مصدر شاذ حتى حكي أنه لم يسمع غيره .
وأجاز الفراء ولازجاج قبولاً بالضم .
والباء في قوله ) بقبول ( بمنزلة الباء في قولك ( كتب بالقلم وضربته بالسوط ) .
وفي التقبل نوع تكلف فكأنه إنما حكم بالتقبل بواسطة القبول الحسن .
قال في الكشاف : معناه فتقبلها بذي قبول حسن أي بأمر ذي قبول وهو اختصاصها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى في النذر ، أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة .
قال : ويجوز أن يكون القبول اسم ما يقبل به الشيء كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلدّ وهو الاختصاص ، ويجوز أن يكون معناه فاستقبلها مثل تعجل بمعنى استعجل وذلك من قولهم ( استقبل الأمر ) إذا أخذه بأوله أي فأخذها من أول أمرها حين ولدت بقبول حسن .
) وأنبتها نباتاً حسناً ( قيل : كانت تنب في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام .
وقيل : المراد نماؤها في الطاعة والعفة والصلاح والسداد ) وكفلها زكريا ( روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم ف بيت المقدس كالحجبة في الكعبة .
فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها ، فقالوا : لا حتى نقترع عليها .
فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة والوحي ، على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح .
فألقوا ثلاث مرات وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا وترسب أقلامهم ، فأخذها زكريا ، فعلى هذه الرواية تكون كفالة زكريا إياها من أول أمرها وهو قول الأكثرين .
وزعم بعضهم أنه كلفها بعد أن فطمت ونبتت النبات الحسن على ترتيب الذكور والأرجح أنها لم ترضع ثدياً قط ، وكانت تتكلم في الصغر ، وكان رزقها من الجنة ، وأن(2/150)
" صفحة رقم 151 "
زكريا بنى لها محراباً وهي غرفة يصعد إليها بسلم .
وقيل : هو أشرف المجالس ومقدّمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس .
وقيل : كانت مساجدهم تسمى المحاريب .
والتركيب يدل على الطلب فكان صدر المجلس يمسى محراباً لطلب الناس إياه .
وكان إذا خرج غلق عليها سبعة أبواب فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ، وذلك قوله عز من قائل ) كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا ( من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آتٍ في غير حينه والأبواب مغلقة ؟ قالت ) هو من عند الله ( فلا تستبعد ) إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ( يحتمل أن يكون من تمام كلام مريم ، وأن يكون معترضاً من كلام الله تعالى .
واعلم أن الأمور الخارقة للعادة في حق مريم كثيرة فمنها : أنه روى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها ) قلت : وذلك لدعاء حنة ) وإني أعيذها ( ومنه تكملها في الصغر .
ومنها حصول الرزق لها من عند الله كام روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جاع في زمن قحط فأهدّت له ( صلى الله عليه وسلم ) فاطمة رضي الله عنها رغيفين وبضعة لحم آثرته بها فرجع ( صلى الله عليه وسلم ) بها إليها وقال : هلمي يا بنية فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزاً ولحماً فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند الله .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لها ( أنى لك هذا ) قالت : هو من عند الله .
إن الله يرزق من يشاء بغير حساب .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل ) ثم جمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علي بن أبي طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته ( صلى الله عليه وسلم ) حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو ، فأوسعت فاطمة رضي الله عنها على جيرانها .
وفي أمثال هذه الخوارق من غير الأنبياء دليل على صحة الكرامات من الأولياء .
والفرق بين المعجزة والكرامة أن صاحب الفعل الخارق في الأول يدعي النبوة ، وفي الثاني يدعي الولاية ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يدعي المعجز ويقطع به ، والولي لا يمكنه أن يقطع به ، والمعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة ، والكرامة بخلافها .
وقال بعضهم : الأنبياء مأمورون بإظهار المعجزة ، والأولياء مأمورون بإخفاء الكرامات أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات .
بأنها دلالات صدق الأنبياء ، ودليل النبوة لا يوجد مع غير النبي كما أن الفعل المحكم لما كان دليلاً على أن فاعله عالم فلا جرم لا يوجد في غير العالم .
وأجابوا عن حديث أبي هريرة بعد تسليم صحته أن استهلال المولود صارخاً من مس الشيطان تخييل وتصوير لطمعه فيه ، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول :(2/151)
" صفحة رقم 152 "
هذا ممن أغويه .
فمعنى الحديث أن كل مولود فإنه يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها .
وهذا المعنى يعم جميع من كان في صفتهما من عباد الله المخلصين .
قال في الكشاف : وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحسو فكلا ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلون به من نخسه .
قلت : وعجيب من مثله مثل هذا هذا الكلام فإنه لا يلزم من الإحساس بمس الشيطان والصراخ منه في وقت الولادة وإنه قريب العهد بعالم الأرواح وبزمان المكاشفة بعيد العهد من عالم الغفلة والإلف بالمحسوسات أن يحس به في وقت آخر ويصرخ على أن أثر مس الشيطان ونخسه يظهر في هيئات النفس وأحوالها ، وأنها أمور لا يحس بها إلا بعد المفارقة أو قطع العلائق البدنية ، والكلام فيه يستدعي فهمه استعداداً آخر غير العلوم الظاهرية .
قال الجبائي : لم لا يجوز أن تكون تلك الخوارق من معجزات زكريا ؟ وبيانه أن زكريا دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقها ، وربما كان غافلاً عن تفاصيل ما يأتيها من الأرزاق من عند الله .
فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معين قال لها : أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله لا من عند غيره .
فعند ذلك يعلم أن الله تعالى أظهر بدعائه تلك المعجزة .
ويحتمل أن يكون زكريا يشاهد عند مريم رزقاً معتاداً لأنه كان يأتيها من السماء وكان زكريا يسألها عن ذلك حذراً من أن يكون من عند إنسان يبعثه إليها فقالت : هو من عند الله ، لا من عند غيره .
على أنا لا نسلم أنه قد ظهر لها شيء من الخوارق ، بل كانوا يرغبون في الإنفاق على الزهدات العابدات .
فكان زكريا إذا رأى شيئاً من ذلك خاف أن ذلك الرزق أتاها من حيث لا ينبغي ، وكان يسألها عن كيفية الحال .
قلت : أمثال هذه الشبهات يوجبها الشك في القرآن وفي الحديث أو العصبية المحضة .
على أنا نقول : لو كان معجزاً لزكريا لكان مأذوناً من عند الله في طلبه فكان عالماً بحصوله ، وإذا علم امتنع أن يطلب كيفية الحال .
وأيضاً كيف قنع بمجرد إخبارها في زوال الشبهة ؟ وكيف مدح الله تعالى مريم بحصول هذا الرزق عندها ؟ وكيف يستبعد هذا القدر ممن أخبر الله تعالى بأنه اصطفاها على نساء العالمين وقال : ( وجعلناها وابنها آية للعالمين ( ؟ [ الأنبياء : 91 ] القصة الثانية : واقعة زكريا عليه السلام وذلك قوله سبحانه ) هنالك ( أي في ذلك المكان الذي كانا في في المحراب ، أو في ذلك الوقت ذلك الوقت الذي شاهد تلك الكرامات فقد يستعار ( هنا ) و ( ثمة ) و ( حيث ) للزمان ) دعا زكريا ربه ( وهذا يقتضي أن يكونقد عرف في ذلك الزمان أو المكان أمراً له تعلق بهذا الدعاء ، فالجمهور من العلماء المحققين على أن زكريا رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء وبالعكس وأن ذلك خارق للعادة ، فطمع(2/152)
" صفحة رقم 153 "
هو أيضاً في أمر خارق هو حصول الولد من شيخ كبير ومن امرأة عاقر ، وهذا لا يقتضي أن يكون زكريا قبل ذلك شاكاً في قدرة الله تعالى غير مجوّز وقوع الخوارق ، فإن من حسن الأدب رعاية الوقت الأنسب في الطلب .
وأما المعتزلة فحين أنكروا كرامات الأولياء وإرهاص الأنبياء قالوا : إن زكريا لما رأى آثار الصلاح والعفاف والتقوى مجتمعة في حق مريم تمنى أن يكون له ولد مثلها ، قال المتكلمون : إن دعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يكون إلا بعد الإذن لاحتمال أن لا تكون الإجابة مصلحة فحينئذٍ تصير دعوته مردودة وذلك نقص في منصبه .
وقول إن دعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يكون بمجرد التشهي فلا حاجة له في كل دعاء إلى إذن مخصوص ، بل يكفي له الإذن في الدعاء على الاطلاق والغالب في دعوته الإجابة ، ثم إن وقع الأمر بالندرة على خلاف دعوته فذلك بالحقيقة مطلوبة لأنه يريد الأصلح ، ويضمر في دعائه أنه لو لم يكن أصلح لم يبعثه الله عليه ويصرفه عنه .
ومعنى قوله : ( من لدنك ( أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة وكانت مفقودة في حقه .
فكأنه قال : أريد منك يا رب أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة وتخلق هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسيط الأسباب .
والذرية النسل يقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد ههنا ولد واحد كما قال : ( فهب لي من لدنك ولياً ) [ مريم : 5 ] قال الفراء : وأنث الطيبة لتأنيث لفظ الذرية في الظاهر .
فالتذكير والتأنيث تارة يجيء على اللفظ وأخرىعلى المعنى ، وهذا في أسماء الأجناس بخلاف الأسماء الأعلام فإنه لا يجوز أن يقال : جاءت طلحة ، لأن اسم العلم لا يفيد إلا ذلك الشخص ، فإذا كان مذكراً لم يجز فيه إلا التذكير ) إنك سميع الدعاء ( يعني سماع إجابة .
وذلك لما عهد من الإجابة في غير هذه الواقعة كما قال في سورة مريم ) ولم أكن بدعائك رب شقياً ) [ مريم : 4 ] .
) فنادته الملائكة ( ظاهر اللفظ للجمع وهذا في باب التشريف أعظم .
ثم ما روي أن المنادي كان جبريل فالوجه فيه أنه كقولهم ( فلان يركب الخيل ويأكل الأطعمة النفيسة ) أي يركب من هذا الجنس ويأكل منه .
أو لأن جبريل كان رئيس الملائكة وقلما يبعث إلا ومعه آخرون ) يبشرك بيحيى ( يحتمل أن يكون زكريا قد عرف أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله درجة عالية .
فإذا قيل له : إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان بشارة له ، ويحتمل أن يكون المعنى يبشرك بولد اسمه يحيى كا يحيء في سورة مريم ) إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى ) [ مريم : 7 ] وإنه اسم أعجمي كموسى وعيسى ، ومن جوز أن يكون عربياً فمنع صرفه للعلمية ووزن الفعل كيعمر .
ثم إنه تعالى وصف يحيى بصفات منها : قوله ) مصدقاً بكلمة من الله ( وهو نصب على الحال لأنه نكرة و ( يحيى ) معرفة .
قال أبو عبيدة : أي مؤمناً بكتاب الله .
وسمي الكتاب(2/153)
" صفحة رقم 154 "
كلمة كما قيل : ( كلمة الحويدرة ) لقصيدته .
والجمهور على أن المراد بكلمة من الله هو عيسى .
قال السدي : لقيت أم يحيى أم عيسى وهما حاملان بهما .
فقالت : يا مريم أشعرت أني حبلى ؟ فقالت مريم : وأنا أيضاً حبلى. قالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذاك قوله : ( مصدقاً بكلمة من الله ( وقال ابن عباس : إن يحيى أكبر سناً من عيسى بستة أشهر ، وكان يحيى أول من آمن به وصدّق بأنه كلمة الله وروحه ، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى .
وسمي عيسى كلمة الله لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وهي ( كن ) من غير واسطة أب وزرع كما يسمى المخلوق خلقاً والمرجو رجاء ، أو لكونه متكلماً في أوان الطفولية ، أو لأنه منشأ الحاقئق والأسرار كالكلمة ، ولهذا سمي روحاً أيضاً لأنه سبب حياة الأرواح .
وقد يقال للسلطان العادل ظل الله ونور الله لأنه سبب ظهور ظل العدل ونور الإحسان ، أو لأنه وردت البشارة به في كلمات الأنبياء وكتبهم كما لو أخبرت عن حدوث أمر ، ثم إذا حدث قلت قد جاء قولي أو كلامي أي ما كنت أقول أو أتكلم به .
ومنها قوله : ( وسيداً ( والسيد الذي يفوق قومه في الشرف ، وكان يحيى فائقاً لقومه بل للناس كلهم في الخصال الحميدة .
وقال ابن عباس : السيد الحليم .
وقال ابن المسيب : الفقيه العالم .
وقال عكرمة : الذي لا يغلبه الغضب .
ومنها قوله : ( وحصوراً ( قيل : أي محصوراُ عن النساء لضعف في الآلة ، وزيف بأنه من صفات النقص فلا يليق في معرض المدح والمحققون علىأنه فعول بمعنى فاعل وهو الذي لا يأتي النسوان لا للعجز بل للعفة والزهد وحبس النفس عنهن ، وفيه دليل على أن ترك النكاح كان أفضل من تلك الشريعة ، فلولا أن الأمر بالنكاح والحث عليه وارد في شرعنا كان الأصل بقاء الأمر على ما كان .
ومنها قوله : ( ونبياً ( واعلم أن السيادة لا تتم إلا بالقدرة على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى الدين والدنيا .
والحصور إشارة إلى الزهد التام وهو منع النفس عما لا يعنيه .
روي أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقت .
فقوله : ( ونبياً ( أشار به إلى ما عدا مجموع الأمرين فإنه ليس بعدهما إلا النبوة .
ثم قال : ( ومن الصالحين ( أي من ألوادهم لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائناً من جملة الصالحين كقوله : ( وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) [ البقرة : 130 ] أو لأن صلاحه كان أتم بدليل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما من نبي إلا وقد عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا فإنه لم يعص ولم يهم ) وفيه أن الختم على الصلاح هو الغرض الأعظم والغاية القصوى وإن كان نبياً ، ولهذا قال سليمان بعد حصول النبوة ) وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) [ النمل : 19 ] وقال يوسف : ( توفني مسلماً وألحقني بالصالحين ) [ يوسف : 101 ] ثم إن الملائكة لما نادوه بما نادوه قال زكريا(2/154)
" صفحة رقم 155 "
مخاطباً لله تعالى ومناجياً إياه ) رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر ( أدركتني السنون العالية وأثر فيّ طول العمر وأضعفني .
قال أهل اللغة : كل شيء صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك وذلك إذا أمكن تصور الطلب من الجانبين .
فيجوز بغلت الكبر وبلغني الكبر لأن الكبر كالشيء الطالب للإنسان فهو يأتيه بحدوثه فيه .
والإنسان أيضاً يأتيه بمرور العمر عليه .
ولا يجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد لأن البلد ليس كالطالب للإنسان الذاهب .
) وامرأتي عاقر ( هي من الصفات الخاصة بالنساء .
ويقال : رمل عاقر لا ينبت شيئاً .
فإن قيل : لما كان زكريا هو الذي سأل الولد ثم أجابه الله تعالى إلى ذلك فما وجه تعجبه واستبعاده بقوله : ( أنى يكون ( من أين يحصل لي غلام ؟ فالجواب على ما في الكشاف أن الاستبعاد إنما جاء من حيث العادة .
وقيل : إنه دهش من شدة الفرح فسبق لسانه .
ونقل عن سفيان بن عيينة أن دعاءه كان قبل البشارة بستين سنة ، فكان قد نسي ذلك السؤال وقت البشارة ، فلما سمع البشارة في زمان الشيخوخة استغرب وكان له يؤمئذٍ مائة وعشرون سنة أو تسع وتسعون ولامرأته ثمان وتسعون ، وعن السدي أن الشيطان جاءه عند سماع البشارة قال : إن هذا النداء من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه عليه الأمر ولا سيما أنه كان من مصالح الدنيا ولم يتأكد بالمعجزة فرجع إلى إزالة ذلك الخاطر فسأل ما سأل .
والجواب المعتمد أن زكريا لم يسأل عما سأل استبعاداً وتشككاً في قدرة الله تعالى ، وإنما أراد تعيين الجهة التي بها يحصل الولد ، فإن الجهة المعتادة كانت متعذرة عادة لكبره وعقارتها فأجيب بقوله : ( كذلك الله يفعل ما يشاء ( وهو إما جملة واحدة أي الله يفعل ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل وهو خلق الولد بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر ، أو جملتان فيكون ) كذلك الله ( مبتدأ وخبراً أي على نحو هذه الصفة الله و ) يفعل ما يشاء ( بياناً له أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادات .
ثم إنه ( صلى الله عليه وسلم ) لفرط سروره وثقته بكرم ربه وإنعامه سأل عن تعيين الوقت فقال : ( رب اجعل لي آية ( علامة أعرف بها العلوق فإن ذلك لا يظهر من أوّل الأمر فقال تعالى : ( آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام ( أي بلياليها ولهذا ذكر في سورة مريم ) ثلاث ليال ) [ مريم : 10 ] ومعنى قوله : ( ألا تكلم الناس ( قال المفسرون : أي لا تقدر على التكلم .
حبس لسانه عن أمور الدنيا وأقدره على الذكر والتسبيح ليكون في تلك المدة مشتغلاً بذكر الله وبالطاعة وبالشكر على تلك النعمة الجسمية ، فيصير الشيء الواحد علامة على المقصود وأداء لشكر النعمة فيكون جامعاً للمقاصد .
وفي هذه الآية إعجاز من وجوه منها : القدر على التكلم بالتسبيح والذكر مع العجز عن التكلم بكلام البشر .
ومنها العجز مع سلامة البنية واعتدال المزاج .
ومنها الإخبار بأنه متى حصلت هذه(2/155)
" صفحة رقم 156 "
الحالة فقد حصل الولد .
ثم إن الأمر وقع على وفق هذا الخبر ، وعن قتادة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) عوتب بذلك حيث سأل بعد بشارة الملائكة فأخذ لسانه وصبر بحيث لا يقدر على الكلام .
قلت : وأحسن العتاب ما كانت منتزعاً من نفس الواقعة ومناسباً لها .
وفيه لطيفة أخرى وهي أنه طلب الآية على الإطلاق فاحتمل أن يكون قد طلب علامة للعلوق ، واحتمل أن يكون قد طلب دلالة على إحداث الخوارق ليصير علم اليقين عين اليقين ، فصار حبس لسانه آية العلوق ودلالة على الفعل الخارق جميعاً مع مناسبته للواقعة حيث سأل ما كان من حقه أن لا يسأل .
وزعم أبو مسلم أن المعنى : آيتك أ ، تصير مأموراً بعدم التكلم ولكن بالاشتغال بالذكر والتسبيح ) إلا رمزاً ( إشارة بيد أو رأس أو بالشفتين ونحوها .
وأصل التركيب للتحرك يقال : ارتمز إذا تحرك ومنه الراموز للبحر ، وهو استثناء من قوله : ( ألا تكلم ( وجاز وإن لم يكن الرمز من جنس الكلام لأن مؤدّاه مؤدى الكلام ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً وقيل : الرمز الكلام الخفي .
وعلى هذا فالاستثناء متصل من غير تكلف .
وقرأ يحيى بن وثاب ) إلا رمزاً ( بضمتين جميع رموز كرسول ورسل وقرىء ) رمزاً ( بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم وهو حال منه ومن الناس دفعة بمعنى إلا مترامزين كما يكلم الناس الأخرس بالإشارة ويكلمهم ) واذكر ربك كثيراً ( قيل : إنه لم يكن عاجزاً إلا عن تكليم البشر .
وقيل : المراد الذكر بالقلب وإنه كان عاجزاً عن التكلم مطلقاً ) وسبح ( حمله بعضهم على صلّ كيلا يكون تكراراً للذكر .
وقد تسمى الصلاة تسبيحاً ) فسبحان الله حين تمسون ) [ الروم : 17 ] لاشتمالها عليه .
والعشيّ مصدر على ( فعيل ) وهو من وقت زوال الشمس إلى غروبها .
والإبكار من طلوع الفجر إلى الضحى وهو مصدر أبكر يبكر إذا خرج للأمر من أول النهار ، ومنه الباكورة لأول الثمار .
وقرىء بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار .
التأويل : إن لله تعالى في كل ذرة من ذرات الموجودات وحركة من حركاتها أسراراً لا يعلمها إلا الله .
فانظر ماذا أخرج الله من الأسرار عن إطعام طائر فرخه ، وماذا أظهر من الآيات والمعجزات من تلك الساعة إلى يوم القيامة بواسطة مريم وعيسى ) فتقبل مني ( راجع إلى المحرر لا إلى التحرير أي تقبلها مني أن تتكفلها وتربيها تربية المحررين ) فتقبلها ربها ( أي تقبلها ربها أن يربيها ) بقبول حسن ( كقبول ذكر أو قبولاً أخرج منها مثل عيسى ) وكفلها زكريا ( من كمال رأفته أنه جعل كفالتها إلى زكريا حيث أراد أن يخرج عيسى منها بلا أب لئلا يدخل عليها غيره فتكون أبعد من التهمة .
) وجد عندها رزقاً ( أي من فتوحات الغيب الذي يطعم الله به خواص عباده الذين يبيتون عنده لا عند أنفسهم ولا عند الخلق(2/156)
" صفحة رقم 157 "
كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ) ) إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ( ما لم يكن في حسابها من الولد بلا أب ، ومن الفاكهة بلا شجرة ، ومن المعجزات بلا نبوة ، ومن العلوم اللدنية بلا واسطة ) هنالك دعا زكريا ربه ( كما أنه تعالى جعل إطعام الطائر فرخه سبب تحريك قلب حة لطلب الولد ، فكذلك جعل حالة مريم وما كان يأتيها من الرزق خارقاً للعادة سبب تحريك قلب زكريا ) قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة ( أي ولداً يكون روحه من الصف الأول من صفوف الأرواح المجندة ، وهو المطهر من لوث لاحجاب والوسط الصالح للنبوة والولاية بخلاف الصف الثاني الذي هو لأرواح الأولياء وبينه وبين الله تعالى حجاب الصف الأول بخلاف الصف الثالث الذي هو لأرواح المؤمنين ، وبخلاف الصف الرابع الذي هو لأرواح المنافقين والمشركين ) فنادته الملائكة وهو قائم ( بالله ) يصلي ( بسائر سره في الملكوت يحارب نفسه وهواه ) في المحراب إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى ( لأنه منذ خلق ما ابتلى بالموت لا بموت القلب بالمعاصي ولا بموت الصورة لأنه استشهد والشهداء لا يموتون بل أحياء عند ربهم يرزقون ) مصدقاً بكلمة من الله ( وهي قوله : ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) [ مريم : 12 ] ( وسيداً ( أي حراً من رق الكونين بل سيداً لرقيقي الكونين ) وحصوراً ( نفسه عن التعليق بالكونين ) ونبياً من الصالحين ( من أهل الصف الأول ) رب أني يكون لي غلام ( لم يكن استبعاده من قبل القدرة الإلهية ولكن من جهة استحقاقه لهذه الكرامة ) آيتك ألا تكلم الناس ( لغلبات الصفات الروحانية عليك واستيلاء سلطان الحقيقة على قلبك ، فإن النفس الناطقة تكون مغلوبة في تلك الحالة بشواهد الحق في الغيب ، فلا تفرغ لإجراء عادتها في الشهادة بالكلام ) إلا رمزاً ( ولهذا يقوى الروح الحيواني وتستمد منه القوة البشرية فيحيى الله تعالى به الشهوة الميتة فسمى ما تولد من الشهوة الميتة التي أحياها الله يحيى .
ولاستمراره هذه الحالة في الأيام الثلاثة أمر بالمراقبة ليلاً ونهاراً وعشياً وإبكاراً حسبي الله .
( آل عمران : ( 42 - 60 ) وإذ قالت الملائكة . . . .
" وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن(2/157)
" صفحة رقم 158 "
المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين "
( القراآت )
ويعلمه ( بياء الغيبة : أبو جعفر ونافع وعاصم وسهل ويعقوب .
الباقون بالنون ) أني أخلق ( بكسر الهمزة بفتح الياء : نافع ) أني أخلق ( بالفتح فيهما : ابن كثير وأبو عمرو ويزيد ) كهيئة ( بتشديد الياء : يزيد وحمزة في الوقف ، وكان ابن مقسم يقول : بلغني أن خلفاً يقول : إن حمزة كان يترك الهمزة ويحرك الياء بحركتها .
الباقون بالياء والهمزة ) الطائر ( يزيد .
الباقون ) الطير ( ) فتكون ( بتاء التأنيث .
المفضل .
الباقون : بياء الغيبة ) طائر ( أ [ و جعفر ونافع ويعقوب وكذلك في المائدة .
الباقون ) طيراً ( ) أنصاري إلى ( بفتح الياء : أو جعفر ونافع .
وقرأ قتيبة وأبو عمرو وطريق أبي الزعراء بالإمالة ) فيوفيهم ( بياء الغيبة : حفص ورويس ، وزاد رويس ضم الهاء .
الباقون بالنون .
الوقوف : ( العالمين ( ه ) الراكعين ( ه ) إليك ( ط ) يكفل مريم ( ص لعطف(2/158)
" صفحة رقم 159 "
المتفقتين ) يختصمون ( ه ) منه ( ج قد قي لتذكير الضمير وتأنيث الكلمة في اسمه ، ولكن المراد من الكلمة الولد فلم يكن تأنيثاً حقيقياً .
فالوجه أن لا يوقف إلى ) الصالحين ( لأن ) وجيهاً ( حال وما بعده معطوف عليه على تقدير وكائناً من المقربين ومكلماً وكائناً من الصالحين المقربين ) الصالحين ( ه ) بشر ( ( ط ) ) يشاء ( ط ) فيكون ( ه ) والإنجيل ( ج لأن ) ورسولاً ( يجوز أن يكون معطوفاً على ) ومن الصالحين ( أو منصوباً بمحذوف أي ويجعله رسولاً ، والوقف أجوز لتباعد العطف .
) من ربكم ( ج لمن قرأ ) إني أخلق ( بالكسر ) بإذن الله ( ج والثاني كذلك للتفصيل بين المعجزات ) في بيوتكم ( ط ) مؤمنين ( ج للعطف ) وأطيعون ( ه ) فاعبدوه ( ط ) مستقيم ( ه ) إلى الله ( ط ) أنصار الله ( ج لأن ) آمناً ( في نظم الاستئناف مع إمكان الحال أي وقد آمنا بالله ، كذلك لانقطاع النظم مع اتحاد مقصود الكلام ) مسلمون ( ه ) الشاهدين ( ه ) ومكر الله ( ط ) الماكرين ( ه ) القيامة ( ج لأن ( ثم ) لترتيب الإخبار .
) والآخرة ( ز للابتداء بالنفي مع أن النفي تمام المقصود ) ناصرين ( ه ) أجورهم ( ط ) الظالمين ( ه ) الحكيم ( ه ) آدم ( ط لأن الجملة لا يتصف بها المعرّف ) فيكون ( ط ) الممترين ( ه .
التفسير : القصة لاثالثة قصة مريم .
والعامل في ( إذ ) ههنا هو ما ذكر في قوله : ( إذ قالت امرأة عمران ) [ آل عمران : 35 ] لمكان العطف .
والمراد بالملائكة ههنا جبريل كما يجيء ، في سورة مريم ) فأرسلنا إليها روحاً ) [ مريم : 17 ] واعلم أن مريم ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى : ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم ) [ الأنبياء : 7 ] فإرسال جبريل إليها إما أن يكون كرامة لها عند من يجوّز كرامات الأولياء ، وإما أن يكون إرهاصاً لعيسى وهو جائز عندنا وعند الكعبي من المعتزلة ، أو معجزة لزكريا وهو قول جمهور المعتزلة .
ومن الناس من قال : إن ذلك كان على سبيل النفث في لاروع والإلهام كما في حق أم موسى ) وأوحينا إلى أم موسى ) [ القصص : 7 ] ثم إنه تعالى مدحها بالاصطفاء ثم بالتطهير ثم بالاصطفاء ولا يجوز أن يكون الاصفطاآن بمعنى واحد للتكرار والصرف ، فحمل المفسرون الاصطفاء الأول على ما اتفق لها من الأمور في أول عمرها منها قبول تحريرها مع كونها أنثى ، ومنها قال الحسن : ما غذتها أمها طرفة عين بل ألقتها إلى زكريا وكان رزقها من عند الله ، ومنها تفريغها للعبادة ، ومنها إسماعها كلام الملائكة شفاهاً ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها إلى غير ذلك من أنواع اللطف والهداية والعصمة في حقها .
وأما التطهير فتطهيرها عن الكفر والمعصية كما قال في حق أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأهل بيته ) ويطهركم تطهيراً ) [ الأحزاب : 33 ] .
وعن مسيس الرجال وعن الحيض والنفاس قالوا : كانت لا تحيض وعن الأفعال(2/159)
" صفحة رقم 160 "
الذميمية والأقوال القبيحة ، وأما الاصطفاء الثاني فهو ما اتفق لها في آخر عمرها من ولادة عيسى بغير أب وشهادته ببراءتها عما قذفها اليهود .
قيل : المراد اصطفاؤها على نساء عالمي زمانها لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( كمل من نساء العالمين أربع : مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة ) ثم لما بيّن اختصاصها بمزيد المواهب والعطايا أوجب عليها مزيد الطاعة شكراً لتلك النعم .
فقوله : ( اقتني ( أمر بالعبادة على العموم ) واسجدي ( أمر بالصلاة تسمية للشيء بمعظم أركانه كما في قوله ) وأدبار السجود ) [ ق : 4 ] وفي الخبر ( إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجديتن ) ولا ريب أن السجود أشرف الأركان لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أقرب ما يكون العبد من الله تعالى وهو ساجد ) ثم قال : ( واركعي مع الراكعين ( فالأول أمر بالصلاة مطلقاً ، والثاني أمر بالصلاة في الجماعة .
وإنما عبر عن الصلاة ههنا بالركوع إما لتغيير العبارة وقد يسمى الشيء بأحد أركانه ، وإما تسمية للشيء بمعظم أركانه بناء على ما قيل إن الركوع أفضل من السجود ، لأن الراكع حامل نفسه في الركوع فالمشقة فيه أكثر ، وللتمييز عن صلاة اليهود .
وقيل : اركعي مع الراكعين أمر بالخضوع والخشوع بالقلب ، ويحتمل أن يراد بقوله : ( اقتني ( الأمر بالصلاة لأن القنوت أحد أجزائها ، وأن يراد بقوله : ( واسجدي واركعي ( استعمال كل منهما في وقته اللائق به ، والواو تفيد التشريك لا الترتيب ، أو المراد انظمي نفسك في جملة المصلين وكوني في عدادهم لا في عداد غيرهم وإنما لم يقل مع الراكعات إما للتغليب وإما لأن الاقتداء بالرجل حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء ، روي أن مريم بعد ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح منهما .
اللهم لا تؤاخذنا باسم الرجولية ونحن أقل في خدمتك من إحدى النساء ) ذلك ( الذي سبق من أنباء حنة وزكريا ويحيى ومريم من أخبار الغيب ) نوحيه إليك ( قد ورد الكتبا بالإيحاء على معان مختلفة يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرها .
وبهذا التفسير يعد الإلهام وحياً كقوله : ( وأوحى ربك إلى النحل ) [ النحل : 68 ] وقال : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) [ الأنعام : 121 ] وقال : ( فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً ) [ مريم : 11 ] فلما كان الله سبحانه ألقى هذه(2/160)
" صفحة رقم 161 "
الأنباء إلى النبي بواسطة جبريل بحيث تخفى على غيره سماه وحياً ) وما كنت لديهم ( نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم ، وترك نفي استماع الأنباء حفظتها وهو موهوم لأنه كان معلوماً عندهم علماً يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي فلم يبق إلا المشاهدة الممتنعة في حقه ( صلى الله عليه وسلم ) فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي ، ومثله في القرآن غير عزيز ) وما كنت بجانب الغربي ) [ القصص : 44 ] ( وما كنت بجانب الطور ) [ القصص : 46 ] ( إذ يلقون أقلامهم ( ينظرون أن ليعلموا أو يقولوا ) أيهم يكفل مريم ( حذف متعلق الاستفهام لدلالة الإلقاء عليه .
وظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يلقون الأقلام في شيء على وجه يظهر به امتياز بعضهم عن البعض في استحقاق ذلك المطلوب ، وليس فيها دلالة على كيفية ذلك الإلقاء إلا إنه حصل هذا المعنى لزكريا فصار أولى بكفالتها .
وقيل : عرف برسوب الأقلام وارتفاعها كما مر .
وعن الربيع أنهم ألقوا عصيهم في الماء الجاري فجرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم .
وقال أبو مسلم : المراد بإلقاء الأقلام ما كانت تفعله الأمم من المساهمة عند التنازع ، فيطرحون سهاماً يكتبون عليها أسماءهم .
فمن خرج له السهم سلم له الأمر .
قال تعالى : ( فساهم فكان من المدحضين ) [ الصافات : 141 ] وهو شبيه بالقداح التي يتقاسم بها العب لحم الجزور .
وإنما سميت تلك السهام أقلاماً لأنها تقلم وتبرى .
قال القاضي : وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحاً نظراً إلى أصل الاشتقاق إلا أن العرف الظاهر يوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به فوجب حمل اللفظ عليه .
) وما كنت لديهم إذا يختصمون ( يتنازعون على التكفل قيل : هم خزنة البيت ، وقيل : بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي .
ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في طريق الخير .
ثم المراد بهذا الاختصام يحتمل أن يكون ما كان قبل الاقتراع وأن يكون اختصاماً آخر حصل بعد الاقتراع .
وبالجملة فالمقصود شدة رغبتهم في التكفل بشأنها والقيام بإصلاح مهامها ، إما لأن عمران كان ريئساً لهم فأرادوا قضاء حقوقه ، وإما لأجل الدين حيث كانت محررة لخدمة بيت العبادة وإما لأنهم وجدوا في الكتب الإلهية أن لها ولابنها شأناً .
القصة الرابعة حكاية ولادة عيسى وذكرت طرف من معجزاته ) إذ قالت الملائكة ( يعني جبريل كما مر .
ومتعلق ( إذ ) هو متعلق ) وإذا قالت ( لأن هذا بدل من ذاك ، ويجوز أن يكون بدلاً من قوله : ( إذ يختصمون ( قال في الكشاف : هذا على أن الاختصام والبشارة وقعا في زمان واسع كما تقول : لقيته سنة كذا يعني وإنما لقيته في ساعة منها ، فيكون الزمان الواسع(2/161)
" صفحة رقم 162 "
زماناً لكل منهما ، فيكون الثاني بدل الكل من الأول .
ويجوز أن يتعلق ب ) يختصمون ( ولا يحتاج إلى زمان واسع بناء على ما روى عن الحسن أنها كانت عاقلة في حال الصغر ، وأن ذلك كان من كراماتها ، فجاز أن ترد عليها البشرى في حالة الصغر ولا يفتقر إلى أن يؤخر إلى حين العقل .
واعلم أن حدوث الشخص من غير نطفة الأب أمر ممكن في نفسه ، وكيف لا وقد يشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد كتولد الفأر عن المدر ، والحيات عن الشعر العفن ، والعقارب عن الباذروج غايته الاستبعاد عرفاً وعادة وهذا لا يوجب عند الحكماء ظناً قوياً فضلاً عن العلم .
ثم إن الصادق أخبر عن وجود ذلك الممكن فيجب القطع بصحته .
ومما يزيده في العقل بياناً أن التخيلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث .
كتصور حضور المنافي للغضب ، وكتصور السقوط لحصول السقوط للماشي على جذع ممدود فوق فضاء بخلاف ما لو كان على قرار من الأرض .
وقد جعلت الفلاسفة هذا كأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات .
فما المانع أ ، يقال إنها لما تخيلت صورة جبريل كفى ذلك في علوق الولد في رحمها ، فإن مني الرجل ليس إلا لأجل العقد ، فإذا حصل الانعقاد لمني المرأة بوجه آخر أمكن علوق الولد .
قوله : ( بكلمة منه ( لفظة ( من ) ههنا ليست للتبعيض كما توهمت النصارى والحلولية لأنه تعالى غير متبعض بوجه من الوجوه ، ولكنها لابتداء الغاية أي بكلمة حاصلة من الله .
وذلك أن عيسى لما خلق من غير واسطة أب صار تأثير كلمة ( كن ) في حقه أظهر وأكمل فكان كأنه نفس الكلمة ، كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال إنه محض الجود ونفس الكرم وصريح الإقبال .
وللمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق .
وأصله ( مشيحا ) بالعبرانية ومعناه المبارك ) وجعلني مباركاً أينما كنت ) [ مريم : 31 ] وكذلك عيسى معرب ( إيشوع ) .
أما احتمال اشتقاق عيسى من العيس البياض الذي تعلوه حمرة فبعيد ، وأما احتمال المسيح من المسح فقريب وعليه الأكثرون .
عن ابن عباس : سمي بذلك لأنه ما كان يمسح ذا عاهة إلا يبرأ .
وقال أحمد بن يحيى : لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها .
وعلى هذا فيجوز أن يقال له مسيح بالتشديد كشريب .
وقيل : لأنه مسح من الأوزار والآثام .
وقيل : لأنه لم يكن في قدمه خمص وكان ممسوح القدمين .
وقيل : لأنه ممسوح بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء ولا يمسح به غيرهم .
قالوا : ويجوز أن يكون هذا الدهن جعله الله علامة للملائكة يعرفون بها الانبياء حين يولدون .
وقيل : لأن جبريل مسحه بجناحيه وقت ولادته صيانة له عن مس الشيطان .
وقيل : لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن .
وأماالمسيح الدجال فسمي بذلك لأنه مسح إحدى عينيه ، أو لأنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة .
قالوا : ومثله الدجال دجل في الأرض أي قطعها .
وقيل : الدجال من دجل الرجل إذا موّه وليس .(2/162)
" صفحة رقم 163 "
وتقديم المسيح - وهو اللقب - على الاسم - وهو عيسى - للتشريف والتنبيه على علو درجته .
وإنما نسب إلى مريم والخطاب لمريم تنبيهاً على أنه لا أب له حتى ينسب إليه كماد في سائر الأبناء فلا ينسب إلا إلى أمه .
وذلك من جملة ما اضطفيت به .
وإنما ذكر ضمير الكلمة في اسمه لأنه المسمى بها مذكر .
وإنما قيل : ( اسمه المسيح عيسى ابن مريم ( والاسم من المجموع عيسى والمسيح لقب والابن صفة ، لأن المراد العريف والتمييز والذي يتميز به عن غيره هو مجموع الثلاثة .
) وجيهاً ( ذا الجاه والشرف والقدر .
وقيل : الكريم لأن أشرف أعضاء الإنسان هو الوجه ) في الدنيا ( بالنبوة ووالمعجزات الباهرة والبراءة عن العيوب ) والآخر ( بشفاعة الأمة المحقين وعلو الدرجة في الجنة. ونصبه على الحال من النكرة الموصوفة وهي كلمة .
وكذا انتصاب ما بعده كما مر في الوقوف أي يبشرك به موصوفاً بهذه الصفات .
وكونه من المقربين هو رفعه إلى السماء وصحبته للملائكة .
والمهد قيل : حجر أمه .
وقيل : الإله المعروفة لإضجاع الصبي .
وكيف كان فالمراد أنه يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد ) وكهلاً ( عطف على الظرف أي يكلم الناس في الصغر وفي الكهولة .
والكهل في اللغة الذي اجتمع قوته وكمل شبابه من قولهم : ( اكتهل النبات ) أي قوي .
روي أن عمره بلغ ثلاثاً وثلاثين ثم رفع إلى السماء .
ولا ريب أن أكمل أحوال الإنسان ما بين الثلاثين والأربعين ، فيكون عيسى قد بلغ سن الكهولة .
وعن الحسين بن الفضل : المراد أن يكون كهلاً بعد نزوله من السماء وأنه حينئذٍ يكلم الناس ويقتل الدجال .
فإن قيل : إن تكلمه في المهد من المعجزات ، ولكن تكلمه في حالة الكهولة ليس من المعجزات ، فما الفائدة في ذكره ؟ فالجواب من وجوه .
قال أبو مسلم : معناه أنه يتكلم حال كونه في المهد وحال كونه كهلاً على حد واحد وصفة واحدة ، ولا شك أنه غاية في الإعجاز ، وقيل : المراد الرد على نصارى نجران وبيان كونه متقلباً في الأحوال من الصبا إلى الكهولة ؛ فإن التغير على الإله محال .
وقيل : المراد أنه يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه ، ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة .
وقال الأصم : المراد أنه يبلغ حال الكهولة .
ويخرج من قول الحسين بن الفضل جواب آخر ، وههنا بحث للنصارى قالوا : إن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها ولا شك أن مثل هذه الواقعة يكون بمحضر جمع عظيم وتتوفر الدواعي على نقلها فيبلغ حد التواتر .
فلو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى لأنهم أفرطوا في محبته حتى ادّعوا إلهيته ، لكنهم أطبقوا على إنكاره فعلمنا أنها لم توجد أصلاً .
والجواب أن إطباق النصارى على إنكاره ممنوع .
ولو سلم فإن كلام عيسى في المهد إنما كان للدلالة على براءة مريم مما(2/163)
" صفحة رقم 164 "
نسب إليها من السوء وكان الحاضرون حينئذٍ جمعاً قليلاً ولا يبعد في مثلهم التواطؤ على الإخفاء .
وبتقدير أن يذكروا ذلك فإن غيرهم كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت .
فهم أيضاً قد سكتوا لهذه العلة .
فلهذه الأسباب بقي الأمر مكتوماً إلى أن نطق القرآن بذلك .
ثم ختم أوصاف عيسى بقوله : ( ومن الصالحين ( كما ختم بذلك أوصاف يحيى .
وفيه أن الدخول في زمرة الصالحين والانتظام في سلكهم هو المقصد الأسني والأمر الأقصى ) قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ( لم تقل ذلك استبعاداً وتشككاً وإنما أرادت تعيين الجهة كما مر في قصة زكريا فأجيبت بقوله : ( كذلك الله يخلق ما يشاء ( وقد سبق نظيره إلا أنه عبر عن الفعل ههنا بالخلق لأن القدرة ههنا أتم وهو تخليق المولود بغير أب ولهذا أكده بقوله : ( إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ( وقد تقدم تفسيره في السورة التي تذكر فيها البقرة ) ويعلمه ( بالياء عطف على ) يبشرك ( أو على ) وجيهاً ( أو على ) يخلق ( لأن قوله : ( يخلق ما يشاء ( وهو عام يتضمن قوله : ( يخلقه ) ، ويحتمل أن يكون كلاماً مبتدأ .
وكذا من قرأ بالنون لأن المذكورات في قوة ) إنا نبشرك ( ونحن نخلقه .
ثم الذي علمه أمور أربعة : أولها الكتاب وكان المراد به الخط. وثانيها الحكمة وهو أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به .
وثالثها التوراة لأن البحث عن أسرار الكتب الإلهية لا يمكن إلا بعد الاطلاع على العلوم الخمسة .
ورابعها الإنجيل وفيه العلوم التي خصه الله تعالى بها وشرفه بإنزالها عليه .
وهذه هي الغاية القصوى والرتبة العليا في العلم والفهم والإحاطة بالحقائق والاطلاع على الدقائق ، .
ثم قال : ( ورسولاً ( عطفاً على ) وجيهاً ( وما بعده .
) إلى بني إسرائيل ( أي إلى كلهم لأنه جمع مضاف .
وفيه رد على اليهود القائلين بأنه مبعوث إلى قوم مخصوصين منهم ) أني قد جئتكم ( يتعلق بمحذوف يدل عليه لفظ الرسول أي ناطقاً بأني قد جئتكم .
وإنما وجب هذا الإضمار للعدول عن الغيبة إلى التكلم .
وأما قوله : ( ومصدقاً لما بين يديّ ( فمعطوف على قوله : ( بآية ( أي مع آية والتقدير : جئتكم مصاحباً لآية من ربكم ومصدقاً لمن بين يديّ ، وجئتكم ) لأحل لكم ( وفي الكشاف تقديره : ويعلمه الكتاب والحكمة ويقول أسلت رسولاً بأني قد جئتكم ومصدقاً لما بين يدي .
أو الرسول والمصدق فيهما معنى النطق فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم ومصدقاً لما بين يدي .
أو ما بين يديّ .
وعن الزجاج : إن التقدير ويكلم الناس رسولاً بأني قد جئتكم بآية من ربكم .
والمراد بالآية الجسن لا الفرد لأنه عدد أنواعاً من الآيات ، ثم أبدل على الآية قوله : ( أني أخلق ( فيمن قرأ بفتح ) أني ( ويحتمل أن يكون ( أن ) مع ما بعده مرفوعاً أي هي أني أخلق .
ومن قرأ ) إني أخلق ( فللاستئناف أو للبيان كقوله : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ) [ آل(2/164)
" صفحة رقم 165 "
عمران : 59 ] ثم فسر المثل بقوله : ( خلقه من تراب ) [ آل عمران : 59 ] وهذا أحسن ليوافق قراءة الفتح .
والمعنى أقدّر لكم شيئاً مثل صورة الطير من هيئات الشيء أصلحته .
) فأنفخ فيه ( أي في ذلك الطير المصور أو الشيء المماثل لهيئة الطير ) فيكون طيراً ( وهو اسم الجنس يقع على الواحد وعلى الجمع .
يروى أنه خلق أنواعاً من الطير .
وقيل : لم يخلق غير الخفاش وعليه قراءة من قرأ ) طائراً ( وذلك أنه لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات أخذوا يتفننون عليه وطالبوه بخلق خفاش ، فأخذ طيناً وصوّره ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض .
قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن عيونهم سقط ميتاً بإذن الله .
وبتكوينه وتخليقه قال بعض المتكلمين : دلت الآية على أن الروح جسم رقيق كالريح ولذلك وصفها بالنفخ .
وههنا بحث وهو أنه هل يجوز أن يقال إنه تعالى أودع في نفس عيسى خاصية بحيث إنه متى نفخ في شيء كان نفخه موجباً لصيرورة ذلك الشيء حياً ، وذلك أنه تولد من نفخ جبريل في مريم روح محض ، فكانت نفخة عيسى سبباً لحصول الأرواح في الأجساد ؟ أو يقال : ليس الأمر كذلك بل الله تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات ؟ وهذا هو الحق لقوله تعالى ) الذي خلق الموت والحياة ) [ الملك : 2 ] ولقوله حكاية عن إبراهيم في المناظرة ) ربي الذي يحيي ويميت ) [ البقرة : 258 ] فلو حصل لغيره هذه الصفة بطل ذلك الاستدلال ) وأبرىء الأكمه والأبرص ( ذهب أكثر أهل اللغة إلى أن الأكمه هو الذي يولد أعمى .
وقيل : هو الممسوح العين .
ويقال : لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير .
وقيل : الأكمه من عمي بعد أن كان بصيراً ، رواه الخليل .
وعن مجاهد أنه الذي لا يبصر بالليل .
وأما البرص فإنه بصاض يظهر في ظاهر البدن ، وقد لا يعم البدن ، وسببه سوء مزاج العضو إلى البرودة وغلبة البلغم على الدم الذي يغذوه ، فتضعف القوة المغيرة عن تمام التشبيه .
وقد يغلب البرد والرطوبة حتى يصير لحمه كلحم الأصداف فيحيل الدم الصائر إليه إلى مزاجه ولونه .
وإن كان ذلك الدم جيداً في جوهرة نقياً من البلغم حاراً هو داء عياء عسر البرء لا يكاد يبرأ - وخاصة المزمن - منه .
والآخذ في الازدياد والذي يرجى برؤه من البرص ما إذا دلك احمرّ بالدلك ويكون معه خشونة ما .
والشعر الذي ينبت عليه لا يكون شديد البياض ، وإذا أخذ جلدة بالإبهام والسبابة وأشيل عن اللحم وغرزت فيه الإبرة خرج منه دم أو رطوبة مورّدة ، ولا شك إن إبراءه مثل هذه المرض من قبيل الإعجاز .
يروى : ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتا عيسى وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده ) وأحيي الموتى ( أحيا عاذراً وكان صديقاً له ، ودعا(2/165)
" صفحة رقم 166 "
سام بن نوح من قبره وهم ينظرون فخرج حياً ، ومر على ابن ميت لعجوز فدعا الله عيسى فنزل عن سريره حياً ورجع إلى أهله وبقي وولد له .
قال الكلبي : كان عيسى عليه السلام يحيي الموتى ب ( يا حي يا قيوم ) وكرر قوله : ( بإذن الله ( رفعاً لوهم من توهم فيه الألوهية ) وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ( قيل : إنه كان من أول أمره يخبر بالغيوب .
روى السدي أنه كان يلعب مع الصبيان ثم كان عليه السلام يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم .
كان عليه السلام يخبرهم بأن أمك خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء .
فقالوا لصبيانهم : لا تلعبوا مع الساحر وجمعوهم في بيت .
فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا : ليسوا في البيت .
فقالوا : ليسوا في البيت .
فقال عليه السلام : فمن في هذا البيت ؟ فقالوا : خنازير .
فقال عيسى عليه السلام : كذلك يكونون فإذا هم خنازير .
وقيل : إن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر من وقت نزول المائدة .
وذلك أن القوم نهوا عن الادّخار فكانوا يخونون ويدخرون وكان عيسى يخبرهم بذلك .
والادخار افتعال من اذتخر قلت كل من التاء والذال ( دالاً ) ثم أدغم .
واعلم أن الإخبار عما غاب معجز دال على أن ذلك الخبر صار معلوماً بالوحي ما لم يستعن فيه بآلة ولا تقديم مسألة بخلاف ما يقوله المنجمون والكهان فإن ذلك استعانة من أحوال الكواكب أو الجن ، ولهذا يتفق لهم الغلط كثيراً .
ثم إنه لما قرر المعجزات الباهرة وبين بها كونه رسولاً من عند الله ذكر أنه لماذا أرسل فقال : ( ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ( وذلك أنه يجب على كل نبي أن يكون مصدقاً لمن تقدمه من الأنيباء لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجز ، فكل من حصل على يده المعجز وجب الاعتراف بنبوته .
ولعل من جملة الأغراض في بعثة عيسى عليه السلام تقرير أحكام التوراة وإزالة شبهات المنكرين وتحريفات المعاندين الجاهلين .
ثم ذكر غرضاً آخر في بعثته فقال : ( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ( وهذا لا يناقض تصديقه لما في التوراة إذ المعنى بالتصديق هو اعتقاد أن كل ما فيه حكمة وصواب ، وإذا لم يكن التأييد مذكوراً فالناسخ والمنسوخ كلاهما حق في وقته ، وإذا كانت البشارة بعيسى موجودة في التوراة فمجيء عيسى يكون تصديقاً لما في التوراة .
وعن وهب بن منبه أن عيسى ما غير شيئاً من أحكام التوراة وأنه ما وضع الأحد بل كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس .
ثم فسر الإحلال بأمرين : أحدهما أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى فجاء عيسى ورفعها واعاد الأمر إلى ما كان .
والثاني أن الله تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم كما قال : ( فبظم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) [ النساء : 160 ] واستمر ذلك التحريم فجاء عيسى ورفع تلك(2/166)
" صفحة رقم 167 "
التشديدات عنهم .
كانوا قد حرم عليهم الشحوم والثروب ولحوم الإبل والسمك وكل ذي ظفر ، فأحل لهم عيسى من السمك والطير ما لا صيصية له .
) وجئتكم بآية من ربكم ( شاهدة على صحة رسالتي وهي قوله : ( إن الله ربي وربكم ( لأن جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه .
وقوله : ( فاتقوا الله وأطيعون ( اعتراض وإنما جعل القول آية من ربه لأن الله تعالى جعله له علامة يعرف بها أنه رسول كسائر الرسل ، ويجوز أن يكون تكريراً لقوله : ( إني قد جئتكم بآية من ربكم ( أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من المعجزات ومن ولادتي بغير أب .
) فاتقوا الله ( لما جئتكم به من الآيات ) وأطيعون ( فغ ، طاعة الرسول من روازم تقوى الله .
ثم ختم كلامه بقوله : ( إن الله ربي وربكم ( إظهاراً للخضوع واعترافاً بالعبودية ورداً لما يدعيه عليه الجهلة من النصارى الضالين المنحرفين عن الصراط المستقيم .
القصة الخامسة ذكر عاقبة أمر عيسى ثم شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات فهم بمادا عاملوه فقال : ( فلما أحس ( أي علم ) عيسى منهم الكفر ( علماً لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس ، أو أنهم تكلموا بكلمة الكفر فأحس ذلك بأذنه .
قال السدي : لما بعثه الله تعالى رسولاً إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم فتمردوا وعصوا فخافتهم واختفى عنهم ، وكان أمر عيسى في قومه كأمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة ، وكان مستضعفاً فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض ، فاتفق أنه نزل على رجل في قرية فأحسن ذلك الرجل ضيافته .
وكان في تلك المدينة رجل جبار فجاء ذلك الرجل يوماً حزيناً فسأله عيسى عن السبب فقال : إن من عادة هذا الملك أنه جعل على كل رجل منا يوماً نطعمه ونسقيه مع جنوده وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر عليّ .
فلما سمعت مريم ذلك قالت : يا ولدي ادع الله ليكفي ذلك .
فقال عليه السلام : يا أمي إني إن فعلت ذلك كان فيه شر .
فقالت : قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه .
فقال عيسى عليه السلام : إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ثم أعلمني .
فلما فعل دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخاً ، وما في الخوابي خمراً .
فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذه الخمر ؟ فتوقف الرجل في الجواب وتعلل ، فلم يزل يطالبه حتى أخبره بالواقعة فقال : إن من دعا الهل حتى جعل الماء خمراً إذا دعاه حتى يحيي ولدي أجابه - وكان ابنه قد مات في تلك الأيام - فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك فقا له عيسى : لا تفعل فإنه إن عاش كان شراً عليه - فقال : ما أبالي ما كان فدعا الله فعاش الغلام لكلام عيسى عليه السلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح واقتتلوا وصار أمر عيسى عليه السلام مشهوراً وقصد اليهود قتله ( صلى الله عليه وسلم ) وأظهروا الطعن فيه .(2/167)
" صفحة رقم 168 "
وقيل : إن اليهود كانوا عارفين أنه هو المسيح المبشر به في التوراة أنه ينسخ دينهم فكانوا طاعنين فيه من أول اأمر طالبين قتله ) قال من أنصاري إلى الله ( قيل : إنه لما دعا عليه السلام بني إسرائيل إلى الدين وتمردوا عليه السلام فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بطائفة صيادي السمك - منهم شمعون ويعقوب من جملة الحوارييين الانثي عشر - فقال عيسى عليه السلام : إنكم تصيدون السمك فهل لكم أن تسيروا بحيث تصيدون الناس لحياة الأبد ؟ فطلبوا منه المعجزة وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئاً فأمره عسى عليه السلام بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى ، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق ، واستعانوا بأهل سفينة أخر ملؤا السفينتين فعند ذلك آمنوا بعيسى ، وقيل : إن اليهود لما طلبوه في آخر أمره للقتل وكان هو في الهر بمنهم قال لأولئك الاثني عشر من الحواريين : أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم ، ومما يذكره النصارى في إنجيلهم أن اليهود لما أخذوا عيسى ، سل شمعون سيفه فضرب به عبداً كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بأذنه فقال له عيسى : حسبك ثم أدنى عليه السلام أذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت .
والحاصل أن المراد بطلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه عليه السلام .
وقيل : إنه دعاهم إلى القتال مع القوم كما قال في موضع آخر ) فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين ) [ الصف : 14 ] ومعنى ) إلى الله ( قيل : من يضيف نصرته إياي إلى نصر الله عز وجل إياي ؟ وقيل : من أنصاري إلى أن أظهر دين الله .
فالجار على القولين من صلة ) أنصاري ( مضمناً معنى الإضافة .
وقيل : من أنصاري حال ذهابي إلى الله ؟ أو حال التجائي إليه ؟ وقيل : من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إلى رحمته ؟ وفي الحديث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول إذا ضحى : اللهم منك وإليك أي تقرباً إليك .
فالجار على هذين القولين يتعلق بالمحذوف .
وقيل : ( إلى ) بمعنى اللام .
وقيل : بمعنى ( في ) أي في سبيل الله .
وهذا قول الحسن .
) قال الحواريون نحن أنصار الله ( أعوان دينه ورسوله .
وحواري الرجل صفيه وخالصته ومنه يقال للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهن ونقاء بشرتهن .
والحور نقاء بياض العين ، وحوّرت الثياب بيضتها ، والحواريّ واحد ونظيره الحوالي وهو الكثير الحيلة .
عن سعيد بن جبير : سموا بذلك لبياض ثيابهم .
وعن مقاتل بن سليمان لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب .
وقيل : لنقاء قلوبهم وطهارة أخلاقهم ومنه قولهم ( فلان تقيّ الجيب طاهر الذيل ) للكريم و ( دنس الثياب ) للئيم ، وعن الضحاك : الذي يغسل الثياب(2/168)
" صفحة رقم 169 "
يسمى بلغة النبط هواري فعرّب .
وأما أن الحواريين من هم فقيل : هم الذين يصطادون السمك فاتبعوا عيسى وآمنوا كما حكينا .
وقيل : إن أمه دفعته إلى صبّاغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئاً كان هو أعلم به منه فغاب الصبّاغ يوماً لبعض مهماته فقال : ههنا ثياب مختلفة وقد علمت على كل واحد علامة معينة فاصبغها بتلك الالوان .
فطبخ عيسى عليه السلام حباً واحداً وجعل الجميع فيه .
وقال : كوني بإذن الله كما أريد .
فرجع الصباغ وسأله فأخبره بما فعل فقال : قد أفسدت عليّ الثياب قال : قم فانظر .
فكان يخرج ثوباً أحمر وثوباً أخضر وثوباً أصفر كما يريد : فتعجب الحاضرون منه وآمنوا فهم الحواريون .
وقيل : كانوا اثني عشر اتبعوا عيسى وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان ، وإذا عطشوا قالوا : عطشنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا : من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئتنا سقيتنا وقد آمنا بك ؟ فقالك أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه .
قال : فصاروا يغسلون الثياب فسموا حواريين .
وقيل : إن واحداً من الملوك صنع طعاماً وجمع الناس عليه ، وكان عيسى عليه السلام على قصعة .
فكانت القصعة لا تنقص .
فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك فقال : تعرفونه ؟ قالوا : نعم .
فذهبوا إليه بعيسى فقال : من أنت ؟ قال : عيسى ابن مريم .
قال : فإني أترك ملكي فأتبعك .
فتبعه ذلك الملك مع أقاربه فأولئك هو الحواريون .
قال القفاز : يجوز أن يكون بعضهم من الملوك بعضهم من الصيادين وبعضهم من القصارين ، وسموا جميعاً بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى والمخلصين في محبته وطاعته .
) آمنا بالله ( يجري مجرى السبب لقولهم : ( نحن أنصار الله ( فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله والذب عن أوليائه والمحاربة مع أعدائه ) واشهد بأنا مسلمون ( منقادون لما تريده منا في نصرتك والذب عنك ، مستسلمون لأم رالله تعالى فيه .
أو هو إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين كل الأنبياء عليهم السلام ، وإنما طلبوا شهادته لأن الرسل يشهدون للأمم يوم القيامة .
ثم تضرعوا إلى الله تعالى بقولهم : ( ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ( وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحوارييين .
فقال ابن عباس : أي مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته لأنهم مخصوصون بأداء الشهادة ) وكذلك جعلنا أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ) [ البقرة : 143 ] وعنه أيضاً اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه ) ويكون الرسول عليكم شهيداً ) [ البقرة : 143 ] وقيل : اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق فقرنت ذكرهم بذكرك في قولك : ( شهد الله أنه لا إله إلاهو والملائكة وأولوا العلم ) [ آل عمران : 18 ] وقيل : اجعلنا ممن هو مستغرق في شهود جلالك بحيث لا نبالي بما يصل إلينا من المشاق والآلام فيسهل علينا الوفاء بما التزمنا من(2/169)
" صفحة رقم 170 "
نصره رسولك ، أو اكتب ذكرنا في زمرة من شهد حضرتك من الملائكة المقربين كقوله : ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ) [ المطففين : 18 ] ( ومكروا ( يعني كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر ) ومكر الله ( المكر في اللغة السعي في خفية مداجاة .
قال الزجاج : يقال مكر الليل وأمكر إذا أظلم .
وقيل : أصله من إجماع الأمر وإحكامه ، ومنه امرأة ممكورة مجتمعة الخلق .
فلما كان المكرر رأياً محكماً قوياً مصوناً عن جهات النقض والفتور لا جرم سمي مكراً .
أما مكرهم بعيسى عليه السلام فهو أنهم هموا بقتله ، وأما مكر الله بهم فهو أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال السوء إليه ، روي أن ملك اليهود أراد قتل عيسى عليه السلام وكان جبريل لا يفارقه ساعة ، فأمره جبريل أن يدخل بيتاً فيه روزنة فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل من تلك الروزنة وكان قد ألقى شبهه على غيره ممن وكل به ليقتله غيلة فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق : فرقة قالت : كان الله فينا فذهب .
وأخرى قالت : كان ابن الله .
وأخرى قالت : كان عبد الله ورسوله ، وقيل : إن الحواريين كانوا اثني عشر ، وكانوا مجتمعين في بيت ، فنافق واحد منهم ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى عليه السلام .
وذكر محمد بن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى فشمسوهم ولقوا منهم الجهد .
فسمع بذلك ملك الروم .
وكان ملك اليهود من رعيته فقيل : إنه قتل رجلاً من بني إسرائيل ممن يحب أمرك ، وكان يخبرهم أنه رسول الله وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وفعل ما فعل فقال : لو علمت ذلك ما خليت بينه وبينهم .
ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه ، فتابعهم على دنيهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها ، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم .
وكان اسم هذا الملك ( طباريس ) ، وهو صار نصرانياً إلا أنه ما أظهر ذلك .
ثم إنه جاء بعده ملك آخر يقال له ( ملطيس ) وغز بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة ، فقتل وسبى ولم يترك في حاشية بيت المقدس حجراً على حجر ، فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز ، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح والهم بقتله .
وقيل : إنهم مكروا في إخفاء أمره وإبطال دينه ، ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل أعداءه وهم اليهود ) والله خير الماكرين ( أقواهم مكراً وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب .
واعلم أن المكر إن كان عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر فهو في حق الله تعالى محال ، فاللفظ إذن من المتشابهات فيجب أن يؤول بأن جزاء المكر يسمى مكراً كقوله :(2/170)
" صفحة رقم 171 "
) وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] أو بأنه تعالى عاملهم معاملة من يمكر وهو عذابهم على سبيل الاستدراج .
وإن كان المكر عبارة عن التدبير المحكم الكامل لم يكن اللفظ متشابهاً لأنه غير ممتنع في حق الله إلا أنه قد اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير .
) إذ قال الله ( ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله أو مفعول اذكر ) يا عيسى إني ) متوفيك ( أي متمم عمرك وعاصمك من أن يقتلك الكفار الآن بل أرفعك إلى سمائي وأصونك من أن يتمكنوا من قتلك .
وقيل : متوفيك أي مميتك كيلا يصل أعداؤك من اليهود إلى قتلك ثم رافعك إليّ .
وهذا القول مروي عن ابن عباس ومحمد بن إسحاق .
ثم قال وهب : توفي ثلاث ساعات ثم رفع وأحيي ، وقال محمد بن غسحق .
توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه .
وقال الربيع بن أنس : إنه نومه ورفعه إلى السماء نائماً حتى لا يلحقه خوف ورعب .
أخذه من قوله ) الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ) [ الزمر : 42 ] وقيل : التوفي أخذ الشيء وافياً أي آخذك بروحك وبجسدك جميعاً فرافعك إلي دفعاً لوهم من يتوهم أنه أخذ بروحه دون جسده .
وقيل : متوفيك قابضك من الأرض من توفيت مالي على فلان أي استوفيته .
وقيل : أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء انقطع خبره وأثره عن الأرض فيكون من باب إطلاق الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته .
وقيل : المضاف محذوف أي متوفى عملك ورافع طاعتك فكأنه بشره بقبول طاعته وأن ما وصل إليه من المتاعب في تمشية دينه وإظهار شريعته فهو لا يضيع أجره ، فهذا كقوله : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) [ فاطر : 10 ] وقيل : في نسق الكلام تقديم وتأخير ، فإن الواو لا تقتضي الترتيب .
والمعنى إني رافعك إلي ومتوفيك بعد إنزالك إلى الدنيا .
ويؤيده ما ورد في الخبر أنه سينزل ويقتل الدجال ، ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك. أما قوله ) ورافعك إليّ ( فالمشبهة تمسكوا بمثله في إثبات المكان لله تعالى وأنه في السماء ، لكن الدلائل القاطعة دلت على أنه متعال عن الحيز والجهة فوجب حمل هذا الظاهر على التأويل بأن المراد إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي ومثله قول إبراهيم : ( إني ذاهب إلى ربي ) [ الصافات : 99 ] وإنما ذهب من العراق إلى الشام ، وقد سمي الحجاج زوّار الله ، والمجاورون جيران الله .
والمراد التفخيم والتعظيم ، أو المراد إلى مكان لا يملك الحكم عليه هناك غير الله فغن في الأرض ملوكاً مجازية .
ولئن سلم أنه تعالى يمكن أن يكون في مكان فليس رفع عيسى عليه السلام إلى ذلك المكان سبباً لبشارته ما لم يتيقن الثواب والكرامة والروح والراحة ، فلا بد من صرف اللفظ عن ظاهره وهو أن يقال : المراد رفعه إلى محل كرامته ، وغذا لم يكن بد من الإضمار فلم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان له تعالى .
ثم إنه كما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه ، عبر لذلك عن معنى التخليص بلفظ التطهير(2/171)
" صفحة رقم 172 "
فقال : ( ومطهرك من الذين كفروا ( أي من خبث جوارهم وسوء عشرتهم ) وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ( ولس هذا فوقية المكان بالاتفاق .
فالمراد إما الفوقية بالحجة والدليل ، وإما الفوقية باقهر والاستيلاء .
وفيه إخبار عن ذلك اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة .
ولعمري إنه كذلك فلا يرى ملك يهودي في الدنيا ولا بلد لهم مستقل بخلاف النصارى .
على أنا نقول : المراد بمتبعي المسيح هم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله ثم آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بعده فصدقوه في قوله : ( ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) [ الصف : 6 ] أو المتبعون هم المسلمون الذين اتبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى .
واعلم أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره قال : ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) [ النساء : 157 ] فأورد بعض الملحدة عليه إشكالات : الأول أنه يوجب ارتفاع الأمان عن المحسوسات فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانياً فحينئذٍ أجوز أن هذا الذي رأيته ثانياً ليس ولدي بل هو إنسان آخر ألقى شبهه عليه ، وكذا الصحابة الذين رأوا محمداً يأمرهم وينهاهم احتمل أن يكون محمد إنساناً آخر ألقى شبهه عليه وأنه يفضي إلى سقوط الشرائع وكذا إلى إبطال التواتر ، لأن مدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر ألأول إنما أخبر عن المحسوس وأنتم وجوزتم وقوع الغلط في المبصرات ، ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات .
الثاني أن جبريل كان معه حيث سار .
ثم إن طرف جناح واحد منه يكفي لأهل الأرض ، فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود ؟ وأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء والقاء الفلج والزمانة عليهم حتى لا يتعرضوا له ؟ الثالث أنه تعالى كان قادراً على تخليصه من الأعداء بأن يرفعه إلأى اسماء ، فما لافائدة في إلقاء شبهه على الغير ؟ وهل فيه إلا إيقاع مسكين في القتل من غير فائدة مع أن ذلك يوجب تلبيس الأمر عليهم حتى اعتقدوا أن المصلوب هو عيسى وأنه لم يكن عيسى ، والتمويه والتخليط لا يليق بحكمة الله تعالى ؟ الرابع أن النصارى على كثرتهم في المشارق والمغارب وإفراطهم في محبة عيسى أخبروا أنهم شاهدوه مصلوباً ، فإنكار ذلك إنكار المتواتر ، والطعن في المتواتر يوجب الطعن في نبوة جميع الأنبياء ، الخامس ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حياً زماناً طويلاً .
فلو كان هو غير عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه ، ولو فعل ذلك اشتهر وتواتر .
والجواب عن الأول أن كل من أثبت القادر المختار سلم أنه تعالى قادر على خلق مثل زيد .
وهذا التجويز لا يوجب الشك في وجود زيد فكذا فيما ذكرتم ، وعن الثاني والثالث أن ذلك يفضي إلى(2/172)
" صفحة رقم 173 "
بلوغ الإعجاز حد الإلجاء ، وأنه ينافي التكليف .
والتلبيس المذكور قد أزاله تلامذة عيسى الحاضرون منه العالمون بالواقعة .
وعن الرابع أنه تواتر منقطع الأول لأنهم كانوا قليلين في ذلك الوقت فلا يفيد العلم .
إذ شرط التواتر استواء الطرفين والوسط .
وعن الخامس ما روي أن الذي ألقي عليه الشبه كان من خواص أصحابه ، فلهذا صبر .
على أنا نقول : قد ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في كل ما أخبر عنه ، فهذه الاحتمالات تمتنع أن تصير معارضة للنص القاطع والله ولي الهداية .
قال : ( ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ( وفيه بشارة لعيسى بأنه سيحكم بين المؤمنين وبين الجاحدين .
وتفسيره قوله : ( فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا ( بالقتل والسبي والذلة وأنواع المصائب والرزايا التي لا ثواب عليها ) والآخرة ( بدخول النار خالدين فيها ) وما لهم من ناصرين ( ) وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين ( الواضعين الشيء في غير موضعه ، التكذيب في مقام التصديق ، والعمل السيء مكان العمل الصالح ، وذلك أن المحبة عبارة عن إيصال الخير إليه .
وهو وإن أراد كفر الكافر إلا نه لم يوصل الثواب إليه ، وقالت المعتزلة : المحبة والإرادة واحدة ، فالمعنىأنه لا يريد ظلم الظالمين .
) ذلك ( الذي سبق من نبأ عيسى عليه السلام وغيره وهو مبتدأ خبره ) نتلوه عليك ( والتلاوة والقصص كلاهما يؤل إلى معنى واحد وهو ذكر الشيء بعضه على إثر بعض .
جعل تلاوة الملك لما كانت بأمره كتلاوته .
) من الآيات ( خبر بعد خبر أو خبر بعد مبتدأ محذوف والمراد بها آيات القرآن ، ويحتمل أن يراد أنه من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك لأ ، ها أخبار لا يعلمها إلا قارىء من كتاب أو من يوحى إليه ، وظاهر أنك لا تكتب ولا تقرأ فبقي أن يكون من الوحي .
ويجوز أن يكون ذلك بمعنى ( الذي ) و ) نتلوه ( صلته و ) من الآيات ( الخبر .
ويجوز أن ينتصب ذلك بمضمر يفسره ) نتلوه ( والذكر الحكيم القرآن .
وصف بصفة من هو سببه ، أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه ، أو هو بمعنى الحاكم كالعليم بمعنى أن الأحكام تستفاد منه ، أو بمعنى المحكم أحكمت آياته أي عن تطرق وجوه الخلل إليه .
وقيل : الذكر الحكيم اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع كتب الله المنزلة على الأنبياء ، أخبر أنه تعالى أنزل هذه القصص مما كتب هناك .
قال المفسرون : إن وفد نجران قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : مالك تشتم صاحبنا ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : وما أقول ؟ قالوا : تقول إنه عبد .
قال : أجل هو عبد الله روسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول .
فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنساناً قط من غير أب ؟ فإن كنت صادقاً فأرنا مثله فأنزل الله عز وجل ) إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ( أي حاله الغريبة كحاله .
ووجه الشبه أن كلاً منهما وجد وجوداً خارجا عن العادة المستمرة ، بل الوجود من غير أب وأم أغرب ، فشبه الغريب بالأغرب .
لأن المشبه به ينبغي(2/173)
" صفحة رقم 174 "
أن يكون أقوى حالاً من المشبه في وجه الشبه ، ثم فسر كيفية خلق آدم بقوله : ( خلقه من تراب ( أي قدّره جسداً من طين .
قيل : اشتقاق آدم من الأدمة ، وقال ابن عباس : سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض كلها أحمرها وأسودها طيبها وخبيثها ، فلذلك كان في ولده الأسود والأحمر والطيب والخبيث .
وقيل : إنه اسم أعجمي كآزؤ ووزنه ( فاعل ) لا ( أفعل ) والضمير عائد إلى آدم الموجود كقولك : هذا الكون أصله من الطين ( .
) ثم قال له ( أي لذلك المقدّر ) كن فيكون ( وهذا كقوله : ( ثم أنشأناه خلقاً آخر ) [ المؤمنون : 14 ] وإنما لم يقل ) فكان ( إما لأنه حكاية حال ماضية ، وإما تصوير لتلك الحالة العجيبة كقوله :
فأصر بها بلا دهش فخرت
أو المراد اعلم يا محمد أن ما قال له ربك ( كن ) فإنه يكون لا محالة .
وقيل : معنى ( ثم ) تراخي الخبر عن الخبر لا تراخي المخبر كقول القائل ( أعطيت زيداً ألفاً اليوم ثم أنا أعطيته أمس ألفين ) أي ثم أنا أخبركم أني أعطيته أمس ألفين فكذا قوله : ( خلقه من تراب ( أي صيره بشراً سوياً .
ثم إنه يخبركم أنه إنما خلقه بأن قال له ( كن ) وقيل : إن معنى الخلق يرجع إلى علمه تعالى بكيفية وقوعه وإرادته لإيقاعه على الوجه المخصوص .
والمراد ب ( كن ) إدخاله في الوجود .
قالت الحكامء : إنما خلق آدم من التراب لوجوه : ليكون متواضعاً وليكون ستاراً وليكون أشد التصاقاً بالأرض فيصلح للخلافة فيها ، ولما فيه من إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام السفلية وابتلاهم بظلمات الضلالة ، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو أرق الأجرام وأعطاهم كمال القوة والقدرة ، وخلق السموات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الفضاء ، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام فآتاه النور والهداية ، وكل ذلك برهان باهر ودليل ظاهر على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج والخالق بلا مزاج .
وعلاج خلق البشر من التراب لإطفاء نيران الشهوة والحرص والغضب ، وخلقه من الماء ) خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً ) [ الفرقان : 54 ] ليكون صافياً تتجلى فيه صور الأشياء .
ثم مزج بين التراب والماء لامتزاج اللطيف بالكثيف فصار طيناً ) إني خالق بشراً من طين ) [ ص : 71 ] ثم إنه سل من ألطف أجزاء الطين ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) [ المؤمنون : 13 ] ثم جعله طيناً لازباً ) إنا خلقناهم من طين لازب ) [ الصافات : 11 ] ثم سنه وغير رائحته ) ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإٍ مسنون ) [ الحجر : 26 ] عن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم : لم تعبدون عيسى عليه السلام ؟ قالوا :(2/174)
" صفحة رقم 175 "
لأنه لا أب له .
قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له .
قالوا : كان يحيي الموتى .
قال : فحزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر وأحيا حزقيل ثمانية آلاف .
فقالوا : كان يبرىء الأكمه والأبرص .
قال : فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالماً ) الحق من ربك ( خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق يعني الذي أنبأتك من شأن عيسى لا الذي اعتقد النصارى فيه أنه إله ، ولا الذي يزعم اليهود من رميها بيوسف النجار ، أو ) الحق ( مبتدأ و ) من ربك ( خبره كما يقال : الحق من الله والباطل من الشيطان ) فلا تكن من الممترين ( الشاكين .
قال ابن الأنباري : أصله من مريت الناقة والشاة حلبتها فكأن الشاك يجتذب بشكه شراً ، وفي هذا النهي ترغيب له في زيادة الثبات والطمأنينة ولطف للأمة وقد مر نظائره في سورة البقرة .
التأويل : الاصطفاء ثلاثة أنواع : اصطفاء على غير الجنس ) إن الله اصطفى آدم ) [ آل عمران : 33 ] ولم يكن له جنس حين خلقه وأسجد له ملائكته ، واصطفاء على الجنس وعلى غير الجنس كاصفطاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على الكائنات كقوله : لولاك لما خلقت الأفلاك وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( آدم فمن دونه تحت لوائي ) ، واصطفاء على الجنس كقوله : ( يا موسى إني اصطفيتك على الناس ) [ الأعراف : 144 ] ولمريم ) إن الله اصطفاك ( لاصطفائك إياه ) وطهرك ( عن الالتفات لغيره ) واصطفاك على نساء العالمين ( لنيل درجة الكمال وإن لم يكن ذلك من شأن النساء .
) إن الله يبشرك بكلمة منه ( كل صنف من أصناف الخلق حرف من حروف كلمة معرفة الله تعالى .
والعالم بما فيه كلمة المعرفة كقوله : ( كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف ) والإنسان وإن كان صنفاً من أصناف العالم وهو حرف من حروف كلمة المعرفة كلمة المعرفة لكنه خلق نسخة العالم بما فيه فهو أيضاً كلمة المعرفة كالعالم ، لكنه خص من العالم بما فيه بكرامة معرفة نفسه ومعرفة ربه ومعرفة العالم بما فيه ، وهذا مقام مخصوص بالإنسان الكامل المزكى بتزكيه الشريعة المربى بتربية أرباب الطريقة .
وإنما خص عيسى عليه السلام بهذا الاسم - اعنى الكلمة - من بين سائر الأنبياء والأولياء لأنه خلق مستعداً لهذا الكمال في بدء أمره .
قد فهم من كلمة نفسه معرفة ربه كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) وكان من اختصاصه بالكلمة أنه قال في المهد : ( إني عبد الله أتاني الكتاب ) [ مريم : 30 ] روى مجاهد قال : قالت مريم بنت عمران : كنت إذا خلوت أنا وجنيني حدثته وحدثني ، فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع .
وسمي المسيح لأنه حين مسح الله تعالى ظهر آدم فاستخرج منه ذرّات ذرّياته لم يردّه إلى مقامه كما جاء في الخبر ( إن الله تعالى أذن للذرّات بالرجوع إلى ظهر آدم وحفظ ذرة عيسى وروحه عنده حتى ألقاها إلى مريم ) فكان قد بقي عليه اسم المسيح أي الممسوح ) وكهلاً ( أي حالة النبوة(2/175)
" صفحة رقم 176 "
لأن بلوغ الأنبياء عند كهولتهم ) ومن الصالحين ( يعني صلاحية قبول الفيض بلا واسطة كما هو حال جميع الأنبياء عليهم السلام .
) ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ( الروح الإنساني الذي هو خليفة الله في ) أضه قابل لجميع أنوار الصفات خلافة عنه حتى القدرة ، لكنه لتعلقه بالجسد الكائن من العناصر ولاحتجابه بظلمات شهوات الأبوين امتنع عن قبول انوار الصفات إلى أن يخرجه مدد العناية بطريق الهداية ، وقوة استعداد الروحية والجسمية من تلك الظلمات فيظهر على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) آيات المعجزات وعلى الولي أمارات الكرامات .
ولما كان روح عيسى عليه السلام وذرّة طينته المستخرجة من ظهر آدم محتبسة عند الله حتى ألقاها إلى مريم من غير شائبة ظلمات شهوة الأبوين ولهذا سمي روح الله ، كان قابل أنوار الصفات في بدوّ أمره يكلم المناس في المهد ويكتب ويقرأ التوراة والإنجيل غير من تعلم ، وحيي ويبرىء إلى غير ذلك من الآيات ) فلما أحس عيسى منهم الكفر ( فيه إشارة إلى أن عيسى الروح ، لما أحس من النفس وصفاتها الكفر ) قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون ( وهم القلب وصفاته ) نحن أنصار الله آمنا بالله ( أي بوحدانيته والتبري عن غيره ) واشهد بأنا مسلمون ( منقادون لأحكامه ، راضوان بقضائه ، صابرون على بلائه ) ربنا آمنا بما أنزلت ( من الحكم والأسرار واللطائف والحقائق ) واتبعنا الرسول ( الوارد من نفحات ألطافك ) فاكتبنا مع الشاهدين ( المشاهدين لأنوار جلالك ) ومكروا ( أي النفس وصفاتها والشياطين وأتباعها في هلاك عيسى الروح ) ومكر الله ( بتجلي صفات قهره في فناء النفس وصفاتها ) والله خير الماكرين ( في قهر النفس الأمارة بالسوء وقمع صفاتها وقلع شهواتها ) إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ( عن الصفات النفسانية والسمات الحيوانية ) ورافعك إليّ ( بجذبات العناية كما أسرى بعبده إلى قاب قوسين أو أدنى .
ومن خواص الجذبة الربوبية خمود الصفات البشرية ) ثم إليّ مرجعكم ( باللطف أو القهر بالاختيار على قدم السلوك ، أو بالاضطرار عند نزع الروح ) فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا ( بحجاب الغفلة والاشتغال بغير الله ، ) والآخرة ( بالقطيعة والبعد عن الله ) والله لا يحب الظالمين ( الذين يظلمون أنفسهم بانقضاء العمر في طلب غير الله تعالى .
ثم قال له كن فيكون ، هذه السنة في تكوين الأرواح والملكوت لا الأجساد والملك ، ولكنه أجراها في تكوين آدم من تراب بلا أب وأم ، وخلق حوّاء منه بلا أم ، وخلق عيسى ابن مريم بلا أب خرقاً للعادة ودلالة على اختياره ورغماً بأنف من قال بالإيجاب في الإيجاد ) فلا تكن من الممترين ( نهي الكينونة قاله في الأزلفما كان من الممترين ولا يكون إلى الأبد .(2/176)
" صفحة رقم 177 "
( آل عمران : ( 61 - 71 ) فمن حاجك فيه . . . .
" فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون "
( القراآت )
ها أنتم ( بالمد وغير الهمزة حيث كان : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو .
وروى ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل ) ها أنتم ( على وزن ( هعنتم ) الباقون بالمد والهمز .
الوقوف : ( الكاذبين ( ه ) القصص الحق ( ج ط ) إلا الله ( ط ) الحكيم ( ه ) المفسدين ( ط ) تعقلون ( ه ) ليس لكم به علم ( ط ) لا تعلمون ( ه ) مسلماً ( ط ) المشركين ( ه ) والذين آمنوا ( ط ) المؤمنين ( ه ) لو يضلونكم ( ط ) يشعرون ( ه ) تشهدون ( ه ) تعلمون ( ه .
التفسير : روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما أورد الدلائل على نصارى نجران ، ثم إنهم أصروا على جهلهم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم .
فقالوا : يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك .
فلما رجعوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - يا عبد المسيح ما ترى ؟ قال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالكلام الفصل من أمر صاحبكم .
والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لكان الاستئصال ، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا(2/177)
" صفحة رقم 178 "
الرجل وانصرفوا إلى بلادكم .
فأتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد خرج وعليه ( صلى الله عليه وسلم ) مرط من شعر أسود .
وكان ( صلى الله عليه وسلم ) قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه ( صلى الله عليه وسلم ) وعلي عليه السلام خلفها وهو يقول ( إذا دعوت فأمنوا ) .
فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى ، إنى لأرى وجوهاً لودعت الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة .
ثم قالوا : يا أبا القاسم ، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين فأبوا ) .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( فإني أناجزكم أي أحاربكم ) .
فقالوا : ما لنا بحرب العرب المسلمين طاقة ، ولكن نصالحك على أن تلا تغزونا ولا تردنا على ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ، ألفاً في صفر وألفاً في رجب وثلاثين درعاً عادية من حديد فصالحهم على ذلك .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حاول الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا .
وروي عن عائشة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما خرج في المرط الأسود جاء الحسن فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثم فاطمة ثم علي عليه السلام ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) [ الأحزاب : 33 ] وهذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث ) فمن حاجك ( من النصارى ) فيه ( في عيسى وقيل في الحق ) من عبد ما جاءك من العلم ( من البينات الموجبة للعلم بأن عيسى عبد الله ورسوله وذلك بطريق الوحي والتنزيل ) فقل تعالوا ( هلموا والمراد المجيء بالرأي والعزم كما تقول : تعال نفكر في هذه المسألة وهو في الأصل ( تفاعلوا ) من العلو .
وذلك أن بيوتهم كانت على أعالي الجبل ، فكانوا ينادون تعال يا فلان أي ارتفع ، إلا أنه كثر حتى استعمل في كل مجيء فصار بمنزلة ( هلم ) ) ندع أبناءنا وأبناءكم ( أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ويأتي هو بنفسه وبمن هو كنفسه إلى المباهلة .
وإنما يعمل إتيانه بنفسه من قرينة أن الإنسان لا يدعو نفسه .
) ثم نبتهل ( ثم نتباهل وقد يجيء ( افتعل ) بمعنى ( تفاعل ) نحو : اختصم بمعنى تخاصم .
والتباهل أن يقول كل واحد منعهما : بهلة الله على الكاذب منا أي لعنته .
ويقال : بهله الله أي لعنه وأبعده من رحمته ومنه قولهم : ( أبهله ) إذا أهمله .
وناقة بأهل لا صرار عليها بل هي مرسلة مخلاة .
فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة بها على الدفع عن نفسها ، فكأن المباهل يقول : إن كان كذا فوكلني الله إلأى نفسي وفوّضني إلى حولي وقوتي وخلاني من كلائه وحفظه .(2/178)
" صفحة رقم 179 "
هذا أصل الابتهال ، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعاناً وهو المراد في الآية لئلا يلزم التكرار أي ثم نجتهد في الدعاء فنجعل اللعنة على الكاذب بأن نسأل الله أن يلعنه .
وفي الآية دلالة على أن الحسن والحسين وهما ابنا البنت يصح أن يقال إنهما ابنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعد أن يدعو أبناءه ثم جاء بهما .
وقد تمسك الشيعة قديماً وحديثاً بها في أن علياً أفضل من سائر الصحابة لأنها دلت على أن نفس علي مثل نفس محمد إلا فيما خصه الدليل .
وكان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي ، وكان متكلم الاثني عشرية يزعم أن علياً أفضل من سائر الأنبياء سوى محمد .
قال : وذلك أنه ليس المراد بقوله : ( وأنفسنا ( نفس محمد لأ ، الإنسان لا يدعو نفسه فالمراد غيره .
وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب فإذا نفس علي هي نفس محمد .
لكن الإجماع دل على أن محمداً أفضل من سائر الأنبياء ، فكذا علي عليه السلام قال : ويؤكذه ما يرويه المخالف والموافق أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من أراد أن يرى آدم في علمه .
ونوحاً في طاعته ، وإبراهيم في خلته وموسى في قربته ، وعيسى في صفوته فلينظر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام ) فدل الحديث على أنه اجتمع فيه عليه السلام ما كان متفرقا فيهم ، وأجيب بأنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمداً أفضل من سائر الأنبياء فكذا انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي ، وأجمعوا على أن علياً عليه السلام ما كان نبياً ، فعلم أن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكذا في حق سائر الأنبياء ، وأما فضل أصحاب الكساء فلا شك في دلالة الآية على ذلك ، ولهذا ضمهم إلى نفسه بل قدمهم في الذكر .
وفيها أيضاً دلالة على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه لو لم يكن واثقاً بصدقه لم يتجرأ على تعريض أعزته وخويصته وأفلاذ كبده في معرض الابتهال ومظنة الاستئصال ، ولولا أن القوم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) لما أحجموا عن مباهلته ، وأما قول المشركين ) اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ) [ الأنفال : 32 ] فليس من قبيل المباهلة ، فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يعرض نفسه لذلك ولم يكن ذلك القول في معرض الاحتجاج والادعاء ولا بإذن من الله تعالى لرسوله ) إن هذا ( الذي تلي عليك من نبأ عيسى ) لهو القصص الحق وما من إله إلا الله ( وهو في إفادة معنى الاستغراق لزيادة ( من ) بمنزلة لا إله إلأا الله مبنياً على الفتح ، وفيه رد على النصارى في تثليثهم ) وإن الله لهو العزيز الحكيم ( فيه جواب عن شبهة النصارى أن عيسى يقدر على الإحياء ويخبر عن الغيوب ، فإن هذا القدر من القدرة والعلم لا يكفي في الإلهية ، بل يجب أن يكون الإله غالباً لا يدفع ولا يمنع وهم يقولون إنه قد قتل ولم يقدر على الدفع ، ويلزم أن يكون عالماً(2/179)
" صفحة رقم 180 "
بكل المعلومات وبعواقب الأمور وعيسى لم يكن كذلك ) فإن تولوا ( عما وصفت من التوحيد وأن إله الخلق يجب أن يكون قادراً على المقدورات عالماً بجميع المعلومات ، فإن عليم بحال المفسدين في الدين ، وبنياتهم وأغراضهم الفاسدة فيجازيهم بأعمالهم الخبيثة .
ثم إنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما أورد على نصارى نجران من الدلائل ما انقطعوا معه ، ثم دعاهم إلى المباهلة فانخزلوا ورضوا بالصغار وقبلوا الجزية ، أمره الله تعالى بنمط آخر من الكلام مبني على الإنصاف يشهد به كل طبع مستقيم وعقل سليم فقال : ( قل يا أهل الكتاب ( يعني نصارى نجران ، لأن الآية من تمام قصتهم ، ولأنه كلام منصف فخوطب بما يطيب به قلوبهم كما لو قيل لحامل القرآن : يا حافظ كتاب الله .
وقيل : المراد يهود المدينة ، وقيل اليهود والنصارى جميعاً لأن ظاهر اللفظ يتناولهما ، ولما روي أن اليهود قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ما تريد إلا أن نتخذك رباً كما تخذت النصارى عيسى ، وقالت النصارى : يا محمد ما نريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير .
فأنزل الله تعالى هذه الآية .
والمراد من قوله : ( تعالوا ( تعيين ما دعوا إليه والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالاً من مكان إلى مكان .
والمعنى هلموا إلى كلمة سواء فيها إنصاف من بعضنا لبعض ، لا ميل فيه لأحد على صاحبه ، والسواء هو العدل والإنصاف لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف وفيه التسوية بين نفسه وبين صاحبه .
أو المراد إلى كلمة سواء مستوية بيننا وبينكم لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل .
وتفسير الكلمة بقوله : ( أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أ ) باباً من دون الله ( فمحل ) أن لا نعبد ( خفض على البدل من ) كلمة ( أو رفع على الخبر أي هي أن لا نعبد .
وهو خبر في معنى الأمر أي اعبدوا .
وإنما ذكر أموراً ثلاثة لأن النصارى جمعوا بين الثلاثة .
فعبدوا غير الله وهو المسيح ، وأشركوا به غيره لأنهم أثبتوا أقانيم ثلاثة أباً وابناً وروح القدس ، ثم قالوا : إن أقنوم الكلمة تدرعت بناسوت المسيح وأقنوم روح القدس تدرعت بناسوت مريم ، ولولا كون هذين الأقنومين ذاتين مستقلتين لما جاز عليهما مفارقة ذات الأب والتدرع بناسوت عيسى ومريم .
وحيث أثبتوا ثلاثة ذوات مستقلة فقد أشركوا .
ثم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً لأنهم أطاعوهم في التحليل والتحريم من تلقاء أنفسهم من غير شريعة وبيان ، ولأنهم يسجدون لهم ويطيعونهم في المعاصي وهوى النفس ورؤية الأمور من الوسائط ) أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) [ الجاثية : 23 ] ولأن من مذهبهم أن الكامل في الرياضة يظهر فيه أثر اللاهوت ويحل فيه فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص .
فهم وإن لم يطلقوا عليهم اسم الرب إلا أنهم أثبتوا(2/180)
" صفحة رقم 181 "
في حقهم معنى الربوبية ، فثبت أن النصارى جمعوا بين الأمور الثلاثة ، وبطلانها كالأمر المتفق عليه بين العقلاء ، فإن قيل : المسيح ما كان المبعود إلا الله فوجب أن يبقى الأمر بعد ظهور المسيح عليه ، والقول بالاشتراك أيضاً ضائع .
وإذا لم يكن الحكم إلا لله وجب أن لا يرجع في التحليل والتحريم والانقياد والائتمار إلا إليه .
عن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم ) قال : نعم .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : هو ذاك. وعن الفضيل : لا أبالي أطعت مخلوقاً في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة .
) فإن تولوا ( عن التوحيد ) فقولوا ( أيها المسلمون لأهل الكتاب ) اشهدوا بأنا مسلمون ( دونكم كما يقول الغالب لمغلوبه في جدال أو صراع : لزمتك الحجة فاعترف بأني أنا الغالب .
أو يكون من باب التعريض ومعناه فاعترفوا بأنكم كافرون حيث أعرضتم عن الحق بعد ما تبين .
ثم إن اليهودكانوا يقولون : إن إبراهيم على ديننا وكذا النصارى ، فأبطل الله تعالى ذلك بأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده .
فبين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبينه وبين عيسى ألفان ، فكيف يعقل أن يكون يهودياً أو نصرانياً ؟ لا يقال هذا أيضاً لازم عليكم لأنكم تدعون أن إبراهيم كان على دين الإسلام ، والإسلام إنما أنزل بعد بزمان أطول مما بينه وبين إنزال التوراة والإنجيل .
لأنا نقول : القرآن أخبر بأن إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً وإنما كان حنيفاً مسلماً ، وليس في الكتابين أنه كان يهودياً أو نصرانياً فظهر الفرق .
وأيضاً المسيح ما كان موجوداً في زمان إبراهيم حتى يعبد ، وعبادة المسيح هي النصرانية عندكم .
وأيضاً لا نسخ في دين اليهود والنسخ جائز في ملة إبراهيم ) ها أنتم هؤلاء ( ( ها ) حرف التنبيه و ) أنتم ( مبتدأ و ) هؤلاء ( خبره و ) حاجتتم ( جملة مستأنفة مبينة للأولى يعني أنتم هؤلاء الحمقى ، وبيان حماقتكم أنكم حاججتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل من نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
أو ليس المراد وصفهم بالعلم حقيقة وإنما أراد : هب أنكم تجحاجون فيما تدعون علمه ، فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ألبتة ولا ذكر له في كتابكم ؟ وعن الأخفش : ( ها أنتم ( أصله أأنتم على الاستفهام .
فقلبت الهزة هاء ، ومعنى الاستفهام التعجب عن جهالتهم .
ثم حقق ذلك بقوله : ( والله يعلم ( كيف كان حال هذه الشرائع في الموافقة والمخالفة ) وأنتم لا تعلمون ( ثم بين ذلك مفصلاً فقال : ( ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين ( كما لم يكن يهودياً ولا نصرانياً أو عرض بالمشركين عن اليهود والنصارى لإشراكهم بالله عزيراً والمسيح .
فإن قيل : قولكم ( إبراهيم على دين الإسلام ) إن أردتم به الموافقة في الأصول فليس هذا مختصاً بدين الإسلام ، وإن أردتم به الموافقة في الفروع لزم أن لا يكون محمد صاحب شريعة بل كان(2/181)
" صفحة رقم 182 "
مقرراً لشرع من قبله .
قلنا : نختار الأول والاختصاص ثابت .
فإن اليهود والنصارى مخالفون للأصول في زماننا لقولهم بالتثليث وإشراك عزير والمسيح بالله إلى غير ذلك من قبائح أفعالهم ، أو الثاني ولا يلزم ما ذكرتم لجواز أنه تعالى نسخ تلك الفروع بشرع موسى ، ثم في زمان محمد نسخ شرع موسى بتلك الشريعة التي كانت ثابتة في زمان إبراهيم ، فيكون محمد صاحب الشريعة مع موافقة شرعه شرع إبراهيم في معظم الفروع .
روى الواحدي عن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا : لما هاجر جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة وكان من أمر بدر ما كان ، اجتمعت قريش من دار الندوة وقالوا : إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثأراً بمن قتل منكم ببدر .
فأجمعوا مالاً وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي آرائكم .
فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط مع هدايا الأدم وغيره ، فركبا البحر وأتيا الحبشة .
فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له : إن قومنا لك ناصحون شاكرون وإصلاحك محبون ، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء القوم الذين قدروا عليك لأنهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء .
وإنا كنا ضيقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل أحد منا عليهم ولا يخرج منهم أحد ، قد قتلهم الجوع والعطش .
فلما اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك ، وقد جئتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم .
قالوا : وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك .
قال : فدعاهم النجاشي .
فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله .
فقال النجاشي : مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر .
فقال النجاشي : نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته .
فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه فقال : ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به النجاشي فساءهما ذلك .
ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص : ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك ؟ فقال لهم النجاشي : ما يمنعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحيي بها من أتاني من الآفاق ؟ قالوا : نسجد لله الذي خلقك وملكك ، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان ، فبعث الله فينا نبياً صادقاً وأمرنا بالتحية التي رضيها الله لنا وهي ( السلام ) تحية أهل الجنة .
فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل .
قال : أيكم الهاتف يستأذن أهل الكتاب ، ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم ، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي .(2/182)
" صفحة رقم 183 "
فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا .
فقال عمرو لجعفر : تكلم .
فقال جعفر للنجاشي : سل هذا الرجل أعبيد نحن أم أحرار ؟ فإن كنا عبيداً أبقنا من أربابنا فأرددنا إليهم .
فقال النجاشي : أعبيد هم أم أحرار ؟ فقال : بل أحرار كرام .
فقال النجاشي : نجوا من العبودية .
قال جعفر : سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها ؟ قال النجاشي : يا عمرو إن كان قنطاراً فعليّ قضاؤه .
فقال عمرو : لا ولا قيراط .
قال النجاشي : نجوا من العبودية .
قال جعفر لنلجاشي : سلهما هل أهرقنا دماً بغير حق فيقتص منا ؟ فقال عمرو : لا ولا قطرة .
قال جعفر : سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها ؟ قال النجاشي : يا عمرو إن كان قنطاراً فعليّ قضاؤه .
فقال عمرو : لا ولا قيراط .
قال النجاشي : فما تطلبون منهم ؟ قال عمرو : كنا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا ، فتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره ولزمناه نحن ، فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا .
فقال النجاشي : ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه أصدقني .
قال جعفر : أما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان وأمره .
كنا نكفر بالله عزّ وجلّ ونعبد الحجارة .
وأما الدين الذي تحولنا إليه فدين الإسلام ، جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقاً له .
فقال النجاشي : يا جعفر تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك .
ثم أمر النجاشي فضرب الناقوش فاجتمع إليه كل قسيس وراهب .
فلما اجمعوا عنده قال النجاشي : أنشدكم بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبياً مرسلاً ؟ فقالوا : اللهم نعم ، قد بشرنا به عيسى وقال : من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي .
فقال انلجاشي لجعفر : ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه ؟ قال : يقرأ علينا كتاب الله ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له .
فقال : اقرأ علي شيئاً مما يقرأ عليكم فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت أعين النجاشي وأصحابه من الدموع وقالوا : يا جعفر زدنا من هذا الحديث الطيب .
فقرأ عليهم سورة الكهف .
فأراد عمرو أن بي .
فقال النجاشي لجعفر : ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه ؟ قال : يقرأ علينا كتاب الله ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له .
فقال : اقرأ علي شيئاً مما يقرأ عليكم فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت أعين النجاشي وأصحابه من الدموع وقالوا : يا جعفر زدنا من هذا الحديث الطيب .
فقرأ عليهم سورة الكهف .
فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال : إنهم يشتمون عليسى وأمه .
فقال النجاشي : ما تقولون في عيسى وأمه ؟ فقرأ عليهم جعفر سورة مريم .
فلما تى ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذى العين وقال : والله ما زاد المسيح على ما يقولون هذا .
ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال : اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي يقول آمنون من سبكم أو أذاكم .
قال : أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة أي لا خوف اليوم على حزب إبراهيم ، قال عمرو : يا نجاشي ومن حزب إبراهيم ؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاؤا من عنده ومن اتبعهم .
فأنكر ذلك المشركون وادعوا أنهم في دين إبراهيم .
ثم رد النجاشي على عمرو وأصحابه المال الذي حملوه وقال : إنما هديتكم إليّ رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة .(2/183)
" صفحة رقم 184 "
قال جعفر : وانصرفنا فكنا في خير دار وأكرم جوار ، وأنزل الله عزّ وجلّ ذلك اليوم في خصومتهم في إبراهيم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو بالمدينة قوله : ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ( على ملته وسنته في زمانه ) وهذا النبي ( يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) والذين آمنوا ( في آخر الزمان ) والله ولي المؤمنين ( بالنصرة والتأييد والتوفيق والتسديد .
ومعنى ) أولى الناس ( أخصهم به وأقربهم منه من الولي القرب .
وقرىء ) وهذا النبي ( بالنصب عطفاً على الهاء في ) اتبعوه ( وبالجر عطفاً على ) إبراهيم ( عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن كل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي إبراهيم ثم قرأ إن أولى الناس الآية ) ثم بين أنهم لا يقتصرون على هذا القدر بل يجتهدون في إضلال المؤمنين بإلقاء الشبهات وإبداء المكايد كما أرادوا بحذيفة وعمار ومعاذ بن جبل وقد ذكرناه في سورة البقرة ) وما يضلون إلا أنفسهم ( لأن وبال الإضلال يعود عليهم فيضاعف لهم العذاب بالضلال والإضلال ، أو وما يقدرون على إضلال المؤمنين .
ثم وبخهم على قبائح أفعالهم بطريق الاستفهام فقال : ( لم تكفرون بآيات الله ( قيل : أي بالتوراة والإنجيل لما فيهما من البشارة بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً ، أو أن الدين عند الله الإسلام ، ومعنى الكفر بالتوراة والإنجيل إما الكفر بما يدلان عليه فيكون قد أطلق اسم الدليل على المدلول ، أو الكفر بنفس التوراة والإنجيل لأنهم كانوا يحرّفونهما وينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
ومعنى ) وأنتم تشهدون ( أنهم عند حضور المسلمين وعند حضور عوامهم كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض شهدوا بصحتها ، وعلى هذا فيكون في الآية إخبار عن الغيب فيكون معجزاً ، وقيل : آيات الله في القرآن وشهادتهم أنهم يعرفون في قلوبهم أنه حق .
وقيل : آيات الله جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
فمعنى تشهدون أنكم تعترفون بدلالة المعجزة على صدق المدعي .
ثم لما وبخهم على الغواية أردفه التوبيخ بالإغواء .
وهو إما بإلقاء الشبهات في الدين وهو معنى لبسهم الحق بالباطل ، وإما بإخفاء الدلائل وهو كتمانهم الحق .
عن الحسن وابن زيد : حرفوا التوراة فخلطوا المنزل بالمحرف .
وعن ابن عباس : أظهروا الإسلام ي أول النهار ثم رجعوا عنه في آخره تشكيكاً للناس .
قيل : إن في الكتابين ما يدل على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والبشارة به وفيهما ما يوهم خلاف ذلك فيكون كالمحكم والمتشابه في القرآن .
فلبسوا على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعل كثير من المشبهة .
وهذا قول القاضي .
وقيل : كانوا يقولون : إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) معترف بأن شرع موسى حق ، ثم إن التوراة دلت على أنه لا ينسخ ،(2/184)
" صفحة رقم 185 "
وكل ذلك إلقاء الشبهات ، وأما كتمان الحق فهو أن الآيات الدالة في التوراة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان الاستدلال بها مفتقراً إلى التدبير والتأمل ، والقوم كانوا يجتهدون في إخفاء تلك الألفاظ التي بمجموعها يتم الاستدلال كما يفعل المبتدعة في زماننا ) وأنتم تعلمون ( أنكم إنما تفعلون ذلك عناداً وحسداً ، أو تعلمون أنكم من أهل المعرفة ، أو تعلمون حقيقتها ، أو أن عقاب من يفعل هذه الأفعال عظيم والله حسبي .
( آل عمران : ( 72 - 80 ) وقالت طائفة من . . . .
" وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون "
( القراآت )
آن يؤتى ( بهمزتين وتليين الثانية : ابن كثير .
الباقون بهمزة واحدة ) يؤدهى ولا يؤدهى ( ابن كثير ونافع غير قالون وابن عامر وعلي وخلف وحفص والمفضل وعباس وسهل وزيد عن يعقوب ، وقرأه أبو جعفر وقالون يعقوب غير زيد وأبو عمرو في رواية الزيدي طريق أبي أيوب الهاشمي بالاختلاس .
الباقون ساكنة الهاء ) تعلمون ( بالتشديد .
عاصم وعلي وحمزة وخلف وابن عامر .
فحذف المفعول الأول للعلم به وهو الناس .
الباقون ) تعلمون ( بالتخفيف من العلم .
) ولا يأمركم ( بالرفع : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وعلي والأعشى والبرجمي وأبو زيد غير المفضل ، وقرأ أبو عمرو بالاختلاس .
الباقون بالنصب .(2/185)
" صفحة رقم 186 "
الوقوف : ( يرجعون ( ج للعطف ) دينكم ( ط ) هدى الله ( ( لا ) لأن التقدير ولا تصدقوا بأن يؤتى أحد مثل ما أويتم إلا لمن تبع دينكم .
وقوله : ( قل ) مع مقوله معترض .
ومن قرأ ) آن يؤتى ( مستفهماً وقف عليها .
) عند ربكم ( ط ) بيد الله ( ج ط لأن ) يؤتيه ( لا يتعلق بما قبله مع أن ضمير فاعله عائد إلى الله .
) من يشاء ( ط ) عليم ( ه ط ج لاحتمال الاستئناف والصفة .
) من يشاء ( ط ) العظيم ( ه ) إليك ( الأولى ج لتضاد الجملتين معنى مع اتفاقهما لفظاً ) قائماً ( ط ) سبيل ( ج لأن الواو للاستئناف مع اتساق معنى الكلام ) يعلمون ( ه ) للمتقين ( ه ) يزكيهم ( ص ) أليم ( ه ) وما هو من الكتاب ( ج لعطف المتقين مع وقوع العارض ) وما هو عند الله ( ج ) يعلمون ( ه ) تدرسون ( ه لا لمن قرأ ) ويأمركم ( بالنصب عطفاً على ) أن يؤتيه ( ) أرباباً ( ط ) مسلمون ( ه .
التفسير : هذا نوع آخر من تلبيساتهم .
وقوله ( بالذي أنزل ( يحتمل أن يراد كل ما أنزل الله عليهم ، ويحتمل أن يراد بعض ما أنزل .
أما الاحتمال الأول فقول الحسن والسدي تواطأ اثنا عشر حبراً من يهود خيبر وقرى عرينة وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد باللسان دون الإعتقاد ) وجه النهار ( أي أوله .
والوجه في اللغة مستقبل كل شيء ومنه وجه الثوب لأول ما يبدو منه .
روى ثعلب عن ابن الأعرابي : أتيته بوجه نهار وصدر نهار وشباب نهار .
وأنشد الربيع بن زياد :
من كان مسروراً بمقتل مالك
فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسراً يندبنه
قد قمن قبل تبلج الأسحار
وذلك أنه كان من عادتهم أن لا يظهروا الجزع على المقتول إلى أن يدركوا الثأر .
فمعنى البيت من كان مسرور فليرَ أثر تشفي الغيظ ودرك الثأر قبل أن يمضي على المقتول تمام يوم وليلة ، واكفروا به آخر النهار وقولا : إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمداً ليس بذلك ، فإن أصحابه متى شاهدوا هذا غلب على ظنونهم أن هذا التكذيب ليس لأجل الحسد والعناد وإلا لما آمنوا به في أول الأمر ، وإنما ذلك لأمر لأجل أنهم أهل كتاب وقد تفكروا في أمره وفي دلائل نبوته ، فلاح لهم بعد التأمل التام والبحث الشافي أنه كذاب فيكون في هذا الطريق تشكيك لضعفة المسلمين فربما يرجعون عن دينهم .(2/186)
" صفحة رقم 187 "
وقال أبو مسلم : معنى وجه النهار وآخره أن رؤساء اليهود والنصارى قال بعضهم لبعض : نافقوا وأظهروا الوفاق للمؤمنين ولكن بشرط أن تثبتوا على دينكم إذا خلوتم بإخوانكم من أهل الكتاب ، فإن أمر هؤلاء في اضطراب فزجوا الأيام معهم بالنفاق فربما ضعف أمرهم واضمحل دينهم فيرجعوا إلى دينكم ، فتكون هذه الآية كقوله : ( وإذا ألقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ) [ البقرة : 14 ] وقال الأصمْ : معناه تفريق أحكام الإسلامم إلى قسمين ، وذلك أنه قال بعضهم لبعض : إن كذبتموه في جميع ما جاء به علم عوامكم كذبكم لأن كثيراً مما جاء به حق ، ولكن صدقوه في بعض وكذبوه في بعض ليحملوا كلامكم على الإنصاف فيقبلوا قولكم ويرجعوا إلى دين الإسلام والرغبة فيه .
وأما الاحتمال الثاني فقول من قال إنها نزلت في شأن القبلة ثم اختلفوا .
فعن ابن عباس : وجه النهار أوله وهو صلاة الصبح ، وآخره صلاة الظهر .
وتقريره أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي إلى بيت المقدس ففرح اليهود بذلك ، فلما حوّله الله إلى الكعبة عند صلاة الظهر قال كعب بن الأشرف وغيره : آمنوا بالقبلة التي صلى إليها صلاة الصبح فهي الحق .
وقال مجاهد ومقاتل والكلبي : لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود لمخالفتهم فقالوا : آمنوا بالذين أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها من أول النهار ، ثم اكفروا بالكعبة آخر النهار وارجعوا إلى قبلتكم الصخرة لعلهم يقولون : هؤلاء أهل كتاب وهم أعلم منا فربما يرجعون إلى قبلتنا ، فحذر الله نبيه مكر هؤلاء وأطلعه على سرهم كيلا تؤثر الحيلة في قلوب ضعفاء المؤمنين .
ولأن القوم بما افتضحوا في هذه الحيلة لم يقدموا على أمثالها من الحيل ويصير ذلك وازعاً لهم .
وفيه أيضاً أنه إخبار عن الغيب فيكون معجزاً .
ثم قال تعالى : ( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ( اتفق المفسرون على أنه من بقية حكاية كلام أهل الكتاب .
واتفقوا على أن قوله : ( قل إن الهدى هدى الله ( وكذا قوله : ( قل إن الفضل بيد الله ( إلى آخرها كلام الله إلا أنهم اختلفوا في أن قوله : ( أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ( من جملة كلام الله ، أو من جملة كلام اليهود ، ومن تتمة قولهم : ( ، لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ( فهذا احتمالان ذهب إلى كل منهما طائفة من المحققين ، وكل منهما يحتاج في تصحيح المعنى إلى تقدير وإضمار ، فلهذا عدت الآية من المواضع المشكلة .
أما الاحتمال الأول فوجهه على قراءة ابن كثير ظاهر ، وكذا فر قراءة من قرأ بهمزة واحدة ويقدر همزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ وكذا لام الجر .
وهذا الوجه يروى عن مجاهد وعيسى بن عمر .
والمعنى ألأن أي من أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم تنكرون اتباعه ؟ فحذف الجواب للاختصار ، وهذا الحذف كثير .
ويقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه وعد ذنوبه عليه وقد أحسن إلأيه : أمن قلة إحساني إليك أمن إهانتي لك ؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت أم ذاك ؟ ونظيره قوله : ( أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه ) [ الزمر : 9 ] ومعنى قول حكاية عنهم ) ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ( على هذا الوجه لا تصدقوا إلا نبياً(2/187)
" صفحة رقم 188 "
يقرر شرائع التوراة ، فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه وهذا هو مذهب اليهود إلى اليوم .
واللام زائدة مثل ) ردفٍ لكم ) [ النمل : 72 ] فإنه يقال : صدقت فلاناً ولا يقال صدقت لفلان .
فأمر الله نبيه أن يقول لهم في الجواب إن الدين دين الله ، فكل ما رضيه ديناً فهو الدين الذي يجب متابعته كقوله في جواب قولهم : ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب ) [ البقرة : 142 ] ثم وبخهم بالاستفهام المذكور .
ويحتمل أن يكون المعنى : ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم ، لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم ، ولأن إسلامهم كان أغيظ لهم .
فقيل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) قل إن الهدى هدى الله ( وقد جئتكم به فلن ينفعكم هذا الكيد الضعيف .
ثم استفهم فقال : ألأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتم لا لشيء آخر ؟ يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم ؟ ثم قال : ( أو يحاجوكم ( يعني دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو لما يتصل بالإيتاء عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم لأن ما أوتوا مثل ما أوتيتم ، فحين لم تؤمنوا به ثبت لهم حجة عليكم .
وأما إن لم تقدر همزة الاستفهام فالتقدير إما كما سبق .
أو يقال : ( الهدى ( اسم ( إن ) و ) هدى الله ( بدل منه .
والتقدير : قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم .
ويكون ( أو ) بمعنى ( حتى ) ويتم الكلام بمحذوف أي حتى يحاجوكم عند ربكم فيقضي لهم عليكم ويدحض حجتكم ، أو يقال : ( أن يؤتى ( مفعول فعل محذوف هو لا تنكروا لأنه لما كان الهدى هدى الله كان له أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار فصح أن يقال : لا تنكروا أن يؤتى أحد سواكم من الهدى ما أوتيتموه أو يحاجوكم - يعني هؤلاء المسلمين - بذلك عند ربكم إن لم تقبلوا ذلك منهم .
أو يقال ) الهدى ( اسم للبيان ) هدى الله ( بدل ويضمر لا بعد ( إن ) مثل ) أن تضلوا ) [ النساء : 176 ] أي لا تضلوا .
والتقدير : قل يا محمد لأمتك إن بيان الله هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان ، وأن لا يحاجوكم - يعني هؤلاء اليهود - عند ربكم في الآخرة لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم مهتدون و أنهم ضالون. وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون قوله : ( أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ) من تتمة كلام اليهود ، وقوله : ( قل إن الهدى هدى الله ( جملة معترضة : فمعناه لا تظهروا إيمانكم بأن يوتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، أو لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، أو لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم. فحذف حرف الجر من " أن " على القياس. قال في الكشاف : أراد أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا(2/188)
" صفحة رقم 189 "
تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً ، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام. وقوله : ( أو يحاجوكم ( عطف على ) أن يؤتى ( والضمير في ) يحاجوكم ( ل ) أحد ( لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة. قال : ومعنى الاعتراض ، أن الهدى هدى الله ، من شاء أن يطلف به حتى يسلم أو يزيد ثباته على الإسلام كان ذلك .
ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم أي ستركم تصديقكم عن المسلمين والمشركين .
وكذلك .
ولم ) قل إن الفضل بيد الله ( مؤكد للاعتراض الأول ، أو هو اعتراض آخر يجيء بعد تمام الكلام كقوله : ( وكذلك يفعلون ) [ النمل : 34 ] بعد قوله : ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدها ) [ النمل : 34 ] فإن قيل : إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم عنه ، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضاً بالإقرار ؟ ربما يدل على صحة دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند أتباعهم وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب .
فالجواب : ليس المراد من هذا النهي الأمر بإفشاء هذا التصديق فيما بين أتباعهم ، بل المراد أنه ان اتفق منكم تكلم بهذا فلا يكن إلا عند خويصتكم وأصحاب أسراركم .
على أنه يحتمل أن يكون شائعاً ولكن البغي والحسد كان يحملهم على الكتمان من غيرهم .
فإن قيل : كيف وقع قوله : ( قل إن الهدى هدى الله ( فيما بين جزأي كلام واحد ؟ وهذا لا يليق بكلام الفصحاء ؟ قلت : قال القفال : يحتمل أن يكون هذا كلاماً أمر الله نبيه أن يقوله عندما وصل الكلام إلى هذا الحد .
كأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً لا جرم أدب رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقابله بقول حق ، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولاً فيه كفر فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة : آمنت بالله أو لا إله إلا الله ، أو تعالى الله ، ثم يعود إلى تلك الحكاية ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير والتقدير : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الهدى هدى الله وأن الفضل بيد ، واعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين : أحدهما أن يؤمنوا وجه النهار ويكفروا آخره ليصير ذلك شبهة للمسلمين في حصة الإسلام فأجاب بقوله : ( قل إن الهدى هدى الله ( .
وذلك أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة عين ولا أثر .
وثانيها أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ا أوتوا من الكتاب والحكمة والنبوة فأجاب عنه بقوله : ( قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ( والمراد بالفضل الرسالة وهو في اللغة الزيادة ، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان ، والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير .
ومعنى قوله ) بيد الله ( أنه مالك له غالب عليه يوضحه قوله ) يؤتيه من يشاء ( وفيه دليل(2/189)
" صفحة رقم 190 "
على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق لأنه جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز ) والله واسع ( كامل القدرة ) عليم ( بالحكم والمصالح وبمواقع فضله فلهذا ) يختص برحمته من يشاء ( والحاصل أنه بين بقوله : ( إن الفضل بيد الله ( أنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاكم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها ، فإن الزيادة من جنس المزيد عليه .
ثم قال : ( يختص برحمته من يشاء ( والرحمة المضافة إليه تعالى أمر أجل من ذلك الفضل لأنه لا يكون من جنس ما آتاهم بل يكون أشرف وأعظم ) والله ذو الفضل العظيم ( فمن قصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة وعلى أشخاص معينين كان جاهلاً بكمال الله تعالى في قدرته وحكمته .
ثم إنه تعالى كذبهم في دعواهم الاختصاص بالمناصب العالية فإن فيهم الخيانة المستقبحة في جميع الأديان ونقص العهد والكذب على الله إلى غير ذلك من القبائح فقال : ( ومن أهل الكتاب ( الآية .
فيها دلالة على انقسامهم إلى قسمين : أهل للأمانة وأهل للخيانة .
فقيل : إن أهل الأمانة هم الذي أسلموا ، أما الذي بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أنه يحل لهم قتل كل من يخالفهم في الدين وأخذ أموالهم ، وقيل : إن أصحاب الأمانة هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم ، وأهل الخيانة اليهود لكثرة ذلك فيهم .
وقال ابن عباس : ( من إن تأمنه بقنطار يؤده ( هو عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً فأداه إليه و ) من إن تأمنه بدينار لا يؤيده ( هو فنحاص بن عازورا استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه .
وقال أهل الحقيقة : هي فيمن يؤتى كثيراً من الدنيا فيخرج عن عهدته بعدم الالتفات إليه وقطع لنظر عنه ثقة بالله وتوكلاً عليه واكتفاء به ، وفيمن يمتحن بالدنيا فيكون همه مقصوراً عليها معرضاً عما سواها غير مؤد حقوقها .
ويقال : أمنته بكذا وعلى كذا ، فمعنى الباء إلصاق الأمانة بحفظها وحياطتها ، ومعنى ( على ) استعلاؤها والاستيلاء عليها .
والمراد بالقنطار والدينار ههنا العدد الكثير والعدد القليل فلا حاجة إلى تعيينه .
وأما الأقوال فيه فقد مرت في أوائل السورة .
وقد يستدل بما روينا عن ابن عباس أن القنطار ألف ومائتا أوقية .
ويدخل تحت القنطار والدينار العين والدين ، لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقارضة ، وليس في الآية ما يدل على التعيين كلنه نقل عن ابن عباس أنه محمول على المبايعة فقال : منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك ، ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك .
ونقلنا عنه أيضا أنها نزلت في الوديعة .
وأما قوله ) إلا ما دامت عليه قائماً ( فمنهم من حمله على حقيقته .
قال السدي : يعني إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائماً على رأسه مجتمعاً معه ملازماً إياه ، فإن(2/190)
" صفحة رقم 191 "
أنظرت وأخرت أنكر .
ومنهم من يحمله على الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة ، قال ابن قتيبة : أصله أن الطالب للشيء يقوم به والتارك له يقعد عنه ومنه قوله تعالى : ( أمة قائمة ) [ آل عمران : 113 ] أي عاملة بأمر الله غير تاركة له .
وقال أبو علي الفارسي : إنه في اللغة الدوام والثبات ومنه قوله : ( ديناً قيماً ) [ الأنعام : 161 ] أي ثابتاً لا ينسخ .
فمعنى الآية إلا دائماً ثابتاً في مطالبتك إياه بذلك المال .
) ذلك ( الاستحلال وترك الأداء الذي دل عليه لا يؤده بسبب أنهم يقولون ليس علينا في ما أصبنا من أموال العرب سبيل بالخطاب والعتاب .
إما لأنهم يبالغون في التعصب لدينهم حتى استحلوا قتل المخالف وأخذ ماله بأي طريق كان ، وإنا لأنهم قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا ، ويحتمل أن يكونوا اعتقدوا في الإسلام أنه كفر فيحكمون فلى المسلمين بالردة فيستحلون دماءهم وأموالهم .
روي أن اليهود عاملوا رجالاً في الجاهلية من قريش .
فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا : ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم ، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فلا جرم قال تعالى : ( ويقولون على الله الكذب ( بادعائهم أن ذلك في كتابهم ) وهم يعلمون ( أنهم كاذبون ، وهذه غاية الجرأة والجهالة .
أو يعلمون حرمة الخيانة ، أو يعلمون ما على الخائن من الإثم .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال عند نزولها ( كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ) .
وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة .
قال : فتقولون ماذا ؟ قال : نقول ليس علينا في ذلك بأس .
قال : هذا كما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل .
إنهم إذا أدوا الجزية لم يحل أكل أموالهم إلا بطيب أنفسهم ، ) بلى ( قال الزجاج : عندي وقف التمام ههنا لأنه لمجرد نفي ما قبله أي بلى عليهم سبيل في ذلك وما بعده استئناف ، وقال غيره : إنه يذكر في ابتداء كلام يقع جواباً عن المنفي قبله ، فقولهم : ( ليس علينا جناح ( قائم مقام قوله : ( نحن أحباء الله ( تعالى فقيل لهم : إن أهل الوفاء بالعهد وأهل التقى هم الذي يحبهم الله .
وعلى هذا فلا وقف على ( بلى ) .
وفيه أن اليهود ليسوا من الوفاء والتقى في شيء ، ولو أنهم أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الذي أخذه الله تعالى في كتابهم من الإيمان بنبي آخر الزمان وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولو أنهم اتقوا الله لم يكذبوا عليه ولم يحرفوا كتابه .
وعموم لفظ المتقين قائم مقام الضمير العائد إلى المبتدأ والضمير في ) بعهده ( يجوز أن يرجع إلى ) من ( ويجوز أن يرجع إلى اسم الله كقوله في الآية التالية ) بعهد الله ( .
واعلم أن الوفاء والتقى أصلان لجميع مكارم الأخلاق .
فالوفاء بالعهد يشمل عهد الميثاق وعهد الله تعالى بالتزام التكاليف الخاصة(2/191)
" صفحة رقم 192 "
والعامة ، والتقوى تتمها وتزينها حتى يأتي بها على وجه الكمال من غير شائبة الاختلال .
فكل متقٍ موفٍ بالعهد ولا يلزم العكس ، فلهذا اقتصر على قوله : ( يحب المتقين ( دون أن يقول يحب الموفين أو الموفين والمتقين فافهم .
ثم إنه سبحانه لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس - والخيانة فيها لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة غالباً - لا جرم أردفها بالوعيد عليها .
وأيضاً الخيانة في العهود وفي تعظيم أسماء الله تناسب الخيانة في الأموال ، فلا جرم قال : ( إن الذين يشترون ( الآية .
واختلفت الروايات في سبب النزول فمنهم من خصها باليهود لأن الآيات السابقة فيهم وكذا اللاحقة ، ومنهم من خصها بغيرهم والروايات هذه .
قال عكرمة : نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وغيرهم من رؤوس اليهود .
كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره ، وحلفوا أنه من عند الله كيلا يفوتهم الرشا والمآكل التي كانت لهم على أتباعهم .
وقال الكلبي : إن ناساً من علماء اليهود أولي فاقة أصابتهم سنة فاقتحموا إلى كعب بن الأشرف بالمدينة ، فسألهم كعب : هل تعلمون أن هذاالرجل رسول الله في كتابكم ؟ قالوا : نعم ، وما تعلمه أنت ؟ قال : لا .
قالوا : فإنا نشهد أنه عبد الله ورسوله .
قال كعب : لقد حرمكم الله خيراً كثيراً .
لقد قدمتم عليّ وأنا أريد أن أميركم وأكسوا عيالكم فحرمكم الله وحرم عيالكم .
فقالوا : فإنه شبه لنا فرويداً حتى نلقاه .
فانطلقوا وكتبوا صفة سوى صفته ثم انتهوا إلى رسول الله فكلموه وسألوه ثم رجعوا فقالوا : لقد كنا نرى أنه رسول الله فلما أتيناه إذا هو ليس بالنعت الذي نعت لنا ، ووجدنا نعته مخالفاًللذي عندنا .
وأخرجوا الذين كتبوا فنظر إليه كعب ففرح وأمارهم وأنفق عليهم فنزلت .
وعن الأشعث بن قيس : خاصمت رجلاً في بئر فاختصمنا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : شاهداك أو يمينه .
فقلت : إذاً يحلف ولا يبالي .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من حلف عليّ يمين يستحق بها مالاً هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان ) .
ونزلت الآية على وفقه ، وقيل : نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطى بها ما لم يعطه .
ومعنى يشترون يستبدلون ، وعهود الله مواثيقه ، واليمين هي التي يؤكد الإنسان بها خبره من وعد أو وعيد أو إنكار أو إقرار بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته أو ما يجري مجراه .
والثمن القليل متاع الدنيا من المال والجاه ونحوهما .
ثم إنه تعالى رتب على الشراء بعهد الله وبأيمانهم ثمناً قليلاً خمسة أنواع من الجزاء فقوله : ( أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ( إشارة إلى أنه لا نصيب لهم في منافعها ونعيمها .
وقوله : ( ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ( إشارة إلى حرمانهم عما عند الله من الكرامات والقرب .
وقوله : ( ولهم عذاب أليم ( إشارة إلى ما يحصل لهم هنالك من صنوف الآلام وضروب(2/192)
" صفحة رقم 193 "
الأهوال .
قال المحققون ومنهم القفال : المقصود من هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم لأن من منع كلامه في الدنيا غيره فإنما ذلك لسخطه عليه ، وقد يأمره بحجبه عنه ويقول : لا أكلمك ولا أرى وجهك .
وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل .
قال في الكشاف : لا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم .
تقول : فلان لا ينظر إلى فلان تريد نفي اعتداده به .
وأصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثمة نظر .
ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر .
قلت : لعله أراد بهذا المجاز الاستعارة كأنه شبه هذا النظر بذاك النظر ، ثم حذف المشبه وأداة التشبيه فبقي الستعارة .
وفي التفسير الكبير : لا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم ، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماساً لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام وهو تعالى منزه عن ذلك ، وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف ( إلى ) ليس بمعنى الرؤية وإلا لزم من هذه الآية أن لا يكون الله رائياً وذلك باطل .
قلت : يجوز أن يراد بهذا النظر النظر المعهود وهو الذي يسخص الله تعالى به أولياءه من أنه ينظر إليهم وينظرون إليه ) وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة ) [ القيامة : 22 ، 23 ] وعلى هذا جاز أن يكون النظر بمعن الرؤية لأنه لا يلزم من نفي رؤية يراه العباد أيضاً وقتئذٍ نفي رؤية لا يرونه حينئذٍ ) وإن منهم لفريقاً ( عن ابن عباس هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيروا التوراة وكتبوا كتاباً بدلوا فيه صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم ) يلوون إلسنتهم بالكتاب ( قال القفال : معناه أن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفوها في حركات الإعراب تحريفاً يتغير به المعنى ، فإن الليَّ عبارة عن عطف الشيء وورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية ، وإنما كانوا يفعلون مثل ذلك في الآيات الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي غيرها بحسب أغرضاهم الفاسدة ، وفي الكشاف : أي يقتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف .
أقول : وذلك أن لي اللسان أشبه بالتشدق والتنطع والتكلف مذموم ، فعبر الله عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بليّ اللسان ذماً لهم وتقريعاً ، ولم يعبر عنها بالقراءة ، والعرب تفرق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد ) لتحسبوه ( أي المحرف الذي دل عليه ) يلوون ( ويجوز أن يقدر مضاف محذوف أي يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب ) وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ( نفى أوّلاً كونه من الكتاب ، ثم عطف عليه النفي العام(2/193)
" صفحة رقم 194 "
ليعلم أنه كما أنه ليس من الكتاب ليس بسنة ولا إجماع ولا قياس .
فإن كل هذا يصدق عليه أنه من عند الله بمعنى كونه حكماً من أحكامه المستنبطة من الأصول .
ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة فقط وبقولهم ) هو من عند الله ( أنه موجود في كتاب سائر الأنبياء ، وذلك أن القوم في نسبة ذلك المحرف إلى الله كانوا متحيرين خابطين .
فإن وجدوا قوماً من الأغمار الجاهلين بالتوراة قالوا : إنه من التوراة .
وإن وجدوا قوماً عقلاء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء .
واعلم أنه إن كان المراد من التحريف تغيير ألفاظ التوراة أو إعراب ألفاظها فالذين أقدموا على ذلك يجب أن يكونوا طائفة يسيره يجوز التواطؤ منهم على الكذب ، وإن كان المعنى تشويش دلالة تلك الآيات على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب إلقاء الشكوك والشبهات في وجوه الاستدلالات كما يفعله المبطلون في ملتنا إذا استدل المحقون بآية من كتاب الله تعالى لم يبعد إطباق الخلق الكثير والجم الغفير عليه .
احتج الجبائي والكعبي بالآية على أن فعل العبد ليس بخلق الله تعالى وإلا صدق اليهود في قولهم هو من عند الله ، لكن الله كذبهم .
والغلط فيه أن القوم ما ادعوا أن التحريف من عند الله وبخلقه ، وإنما ادعوا أن المحرف منزل من عند الله ، أو هو حكم من أحكامه فتوجه التكذيب تكذيب الله إياهم إلى هذا الذي زعموا لا إلى ما لم يزعموا ، فلم يبق لهما في الآية استدلال .
ثم من جملة ما حرفه أهل الكتاب أن زعموا أن عيسى كان يدعي الإلهية ويأمر قومه بعبادته فلهذا قال عز من قائل : ( ما كان لبشر ( الآية .
وقيل : إن أبا رافع القرضي من اليهود والسيد من نصارى نجران قالا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً ؟ فقال : معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني فنزلت .
وقيل : إن رجلاً قال : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك ؟ قال : لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله .
وقيل : زعمت اليهود أن أحداً لا ينال من درجات الفضل ما نالوه فقال لهم الله : إن كان الأمر كما قلتم وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله : ( ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ( كقوله : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) [ التوبة : 31 ] ومعنى قوله : ( ما كان لبشر ( قال الأصم : لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الله منه نظيره ) ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ) [ الحاقة : 44 ، 45 ] ( لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ) [ الإسراء : 74 ، 75 ] وقيل : معناه أنه تعالى لا يشرف عبداً بالنبوة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل ذلك الكلام .
وقيل : إن الرسول يدعي تبليغ الأحكام عن الله تعالى ويحتج(2/194)
" صفحة رقم 195 "
على صدقه بالمعجزة .
قلو أمرهم بعبادة نفسه بطل دلالة المعجزة على كونه صادقاً والتحقيق أن الأنبياء موصوفون بصفات لا يحصل معها هذا الادعاء ، لأن النفس ما لم تكن كاملة بحسب قوتها النظرية والعملية لم تكن مستعدة لقبول نزول الكتاب السماوي عليه وللحكم وهو فهم ذلك الكتاب وبيانه .
وقد يعبر عنه بالسنة والنبوة وهو كونه مأموراً بتبليغ ما فهم إلى الخلق ، وما أحسن هذا الترتيب ، وإذا كانت كاملة بحسب القوتين وما يتبعهما امتنع من مثله مل هذا القول والاعتقاد ، لأن غاية جهد النبي وقصارىة أمره صرف القلوب والأرواح من الخلق إلى الحق ، فكيف يعقل منه ضده ؟ فتبين أنه ليس المراد من قوله : ( ما كان لبشر ( إلى قوله : ( كونوا عباداً لي من دون الله ( أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق .
ولو كان المراد منه التحريم لم يكن فيه تكذيب للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح ، لأن من ادعى على رجل فعلاً فقيل له إن فلاناً لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن مكذباً له فيما ادعاه عليه .
ومثله ) ما كان لله أن يتخذ من ولد ) [ مريم : 35 ] على سبيل النفي لذلك عن نفسه لا على وجه التحريم والحظر .
وكذا قوله ) ما كان لنبي أن يغل ) [ آل عمران : 161 ] ومعناه النفي لا النهي .
ومعنى ( ثم ) في قوله : ( ثم يقول ( تبعيد هذا القول عن مثل ذلك البشر ) ولكن كونوا ( ولكن يقول كونوا ) رباينيين ( قال سيبويه : الرباني منسوب إلى الرب بمعنى كونه عالماً به ومواظباً على طاعته كما يقال : رجل إلهي إذا كان مقبلاً على معرفة الإله وطاعته .
وزيادة الألف والنون في النسبة فقط للدلالة على كمال هذه الصفة كما قالوا : شعراني ولحياني ورقباني للموصوف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة ، وقال المبرد : والربانيون أرباب العلم واحدها ربان وهو الذي يرب العلم ويرب الناس بتعليمهم وإصلاحهم والقيام بأمرهم .
والألف والنون كما في ريان وعطشان لا يختص بحال النسبة .
والربانيون بهذا التفسير يشمل الولاة أيضاً .
قال القفال : يحتمل أن يكون الوالي يسمى ربانياً لأن يطاع كالرب تعالى فينسب إليه ، فمعنى الآية : ولكن يدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ومواضبتكم على طاعته .
وقال أبو عبيدة : أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية أو سريانية ، وسواء كانت عربية أو عبرية تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم ثم اشتغل بتعليم طرق الخير .
عن محمد ابن الحنفية أنه قال حين مات ابن عباس : اليوم مات رباني هذه الأمة .
والباء في قوله : ( بما كنتم ( للسببية و ( ما ) مصدرية و ) تعلمون ( من التعليم أو العلم على القراءتين فيعلم منه أن التعليم أو العلم أو الدراسة وهي القراءة توجب على صاحبها كونه ربانياً ، والسبب لا محالة مغاير للمسبب فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانياً أمراً مغايراً لكونه عالماً ومعلماً ومواظباً على(2/195)
" صفحة رقم 196 "
قراءة العلم .
وما ذاك إلا بأن يكون تعلمه لله وتعليمه لله ودراسته لله .
فمن اشتغل بالعلم والتعليم والدراسة لا لهذا الغرض خاب وخسر وكان السبب بينه وبين ربه منقطعاً وكان مثله كمن غرس شجرة تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( نعوذ بالله من قلب لا يشخع ومن علم لا ينفع ) وفي الآية دليل على صحة قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( العلماء ورثة الأنبياء ) تأمل تفهم بإذن الله .
) ولا يأمركم ( من قرأ بالنصب فوجهان : أحدهما أن تجعل ( لا ) مزيدة لتأكيد النفي أي ما ينبغي لبشر أن ينصبه الله منصب الدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة ثم يخالفه إلى أن يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمركم ) أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ( كما نقول : ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي .
ولاثاني أن يكون حرف النفي غير زائد فيرجع المعنى إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسل كان ينهي قريشاً عن عبادة الملائكة ، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح بحيث قالوا له : أنتخذك رباً ؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء ، فيكون عدم الأمر في معنى النهي .
ويراد بالنبيين غيره ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه أخرج نفسه بتلك الدعوى عن زمرة الأنبياء .
ومن قرأ بالرفع على الاستئناف فظاهر وتنصره قراءة عبد الله بن مسعود ) ولن يأمركم ( والضمير فيه على قراءة الرفع - قال الزجاج - لله .
وقال ابن جريج لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقيل : لعيسى ، وإنما خص الملائكة والنبيين بالذكر لأن الذين وصفوا بعبادة غير الله لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح ) أيأمركم ( أي البشر وقيل : الله ) بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ( ومعنى الاستفهام الإنكار أي إنه لا يفعل ذلك .
قيل : وفيه دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يسجدوا له .
قلت : وضع الشيء ابتداء أسهل من رفع نقيضه ثم وضعه ، فيحتمل أن يكون المراد ما صح ولا يعقل أن يأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمته بعبادة نفسه أول ما استبىء ، فكيف يعقل أن يأمرهم بذلك بعد الفهم بالإسلام واستنارة باطنهم بنور الهدى والإيمان بالله ؟
( آل عمران : ( 81 - 91 ) وإذ أخذ الله . . . .
" وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا(2/196)
" صفحة رقم 197 "
معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين "
( القراآت )
لما ( بكسر اللام حمزة الخزا .
الباقون بفتحها .
) آتيناكم ( على صيغة جمع المتكلم : أبو جعفر ونافع .
الباقون ) آتيتكم ( على الوحدة ) يبغون ( بياء الغيبة و ) ترجعون ( بتاء الخطاب مبنياً للمفعول : أبو عمرو غير عباس .
وقرأ عباس وسهل وحفص بالياء التحتانية فيهما وقرأ يعقوب ) يبغون ( بالياء التحتانية ) يرجعون ( بالتحتانية مبنياً للفاعل .
الباقون بتاء الخطاب فيهما ) ملء ( بالهمزة ) الأرض ( بغير الهمز .
روى النجاري عن ورش وروى الأصفهاني عنه بغير همز فيهما .
الباقون بالهمز فيهما .
الوقوف : ( ولتنصرنه ( ط ) إصري ( ط ) أقررنا ( ط ) الشاهدين ( ه ) الفاسقون ( ه ) يرجعون ( ه ) من ربهم ( ص ) منهم ( ج ) مسلمون ( ه ) منه ( ج لعطف المختلفتين ) الخاسرين ( ه ) البينات ( ط ) الظالمين ( ه ) اجمعين ( ه ) فيها ( ج ( لا ) ) ينظرون ( ه ( لا ) للاستثناء ) رحيم ( ه ) توبتهم ( ج ) الضالون ( ه ، ) افتدى به ( ط ) ناصرين ( ه .
التفسير : الغرض من هذه الآيات تعديد الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قطعاً لأعذارهم وإظهاراً لعنادهم من جملتها أخذ ميثاق النبيين .
قال الزجاج : تقديره واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله .
وقيل : واذكروا يا أهل الكتاب .
وإضافة الميثاق إلى النبيين إما أن تكون من إضافة العهد إلى المعاهد منه ، أو من إضافة(2/197)
" صفحة رقم 198 "
العهد إلى المعاهد كما تقول : ميثاق الله وعهد الله .
أما الاحتمال الأول فيؤيده ما يشعر به ظاهر اللفظ من أن آخذ الميثاق هو الله والمأخوذ منهم النبيون وهو قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس .
ثم على هذا القول ما نقل عن علي نه ما بعث آدم ومن بعده من الأنبياء إلا أخذ عليهم العهد لفئن بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، والذي يدل على صحته ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حياً لما وسعه إلا اتباعي ) فهذا على سبيل الفرض والتقدير ، وهو أنهم لو كانوا أحياء لوجب عليهم الإيمان بمحمد وإلا فالميت لا يكون مكلفاً .
وقيل : المراد أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف ، أو أمة النبيين فقد ورد كثيراً في القرآن لفظ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويراد به الأمة كقوله ) يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ) [ الطلاق : 1 ] وقيل : النبيون أهل الكتاب وقد ورد على زعمهم تهكماً بهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون .
ويؤكده قراءة أبي وابن مسعود ) وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ( وأما الاحتمال الثاني فالمعنى أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به ، ويؤكده أنه تعالى حكم بأنهم إن تولوا كانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء وإنما يليق بالأمم .
وروي عن ابن عباس أنه قيل له : إن أصحاب عبد الله يقرأون ) وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ( ونحن نقرأ ) وإذا أخذ الله ميثاق النبيين ( فقال : إنما أخذ الله ميثاق النيبين على قومهم ) لما آتيتكم ( من قرأ بفتحاللام ففيه وجهان : أحدهما : أن ( ما ) تكون موصولة واللام للابتداء وخبره ) لتؤمنن ( واللام فيه جواب القسم المقدر .
والعائد على الموصول في ) آتيتكم ( محذوف وفي ) جاءكم ( ما يدل عليه ) لما معكم ( لأنه في معنى ( ما آتيتكم ) والتقدير للذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق له والله لتؤمنن به - وثانيهما - واختاره سيبويه وغيره - كيلا يفتقر إلى تكلف الرابط أن يقال : أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف .
و ( ما ) هي المتضمنة لمعنى الشرط وحينئذٍ يحتاج القسم إلى الجواب والشرط إلى الجزاءن وليس ههنا ما يصلح لكل منهما إلا الإيمان والنصرة .
فالأصح في هذا المقام أن يجعل المذكور جواباً للقسم ظاهراً ، ولهذا أدخل اللام والنون المؤكدة في ( لتؤمنن ) و ( لتنصرن ) وأدخل اللام في الشرط وتسمى موطئة لأنها تعين من أول الأمر وتمهد أن المذكور هو جواب القسم لا الشرط .
ثم إنجواب الشرط يكون مستغنى عنه لأن جواب القسم يسد مسدّه .
ومن قرأ بكسر اللام للتعليل ففيه أيضاً وجها : أحدهما أن تكون ( ما )(2/198)
" صفحة رقم 199 "
مصدرية أي أخذ الله ميثاقهم لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) موافقاً لكم في الأصول لتؤمنن به ، لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء ، والثاني أن تكون ( ما ) موصولة وبيان الرابط كما مر .
وعن سعيد بن جبير ) لما ( بالتشديد بمعنى ( حين ) .
وقيل : أصله ( لمن ما ) أي لمن أجل ما آتيتكم .
أدغمت النون في الميم فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفوا إحداها للتخفيف فيؤل المعنى إلى قراءة حمزة .
وفي جميع القراآت قيل : لا بد من إضمار بأن يقال : وإذا أخذ الله ميثاق النبيين فقال مخاطباً لهم لما آتيتكم .
قلت : هذا من باب الالتفات فلا حاجة إلى الإضمار فكأنه قيل : وإذ أخذت أو أخذنا .
ولما في أخذ الميثاق من معنى القول .
ومن العلماء من قدر الإضمار بنوع آخر واستحسنه في التفسير الكبير مع أنه متكلف فقال : وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لتبلغن الناس ما آ " تيتكم من كتاب وحكمة ، ثم إن جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه .
والنبيون عام وليس كلهم أصحاب كتاب ولكنه وصف الكل بوصف أشرفهم ، أو الكتاب لذوي الكتب والحكمة لغيرهم ، أو جعل الداعي إلى الكتاب وإلى العمل به كالذي أنزل عليه .
و ( من ) للبيان أو للتبعيض .
وقوله : ( ثم جاءكم ( والرسول لا يجيء إلى النبيين وإنما يجيء إلى الأمم معناه أي في زمانكم وإن كان المراد من النبيين أولادهم أو أممهم فلا إشكال .
والمراد بتصديقه لما معهم موافقته في التوحيد والنبوات وأصول الشرائع .
فأما تفاصيلها وإن وقع الخلاف فيها فذاك في الحقيقة ليس بخلاف لأن جميع الأنبياء متفقون على أن الحق في زمان موسى ليس إلا شرعه عليه السلام وأن الحق في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليس الاشرعه عليه السلام .
ولو قلنا : إن لامراد بالرسول هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالمراد إما ما ذكرنا أو أننعته وصفته وأحواله مذكورة في الكتب المتقدمة ، فكان نفس مجيئه تصديقاً لما كان معهم .
الظاهر أن المراد بهذا الميثاق هو التوصية بأن يؤمنوا بكل رسول يجيء مصدقاً لما معهم. وقيل : يحتمل أن يكون الميثاق إشارة إلى ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر الله واجب ، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولاً عند ظهور المعجزات الدالة على صدقه ، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه .
وقيل : المراد بأخذ الميثاق أنه تعالى شرح صفاته ( صلى الله عليه وسلم ) في كتب الأنبياء المتقدمين ، فإذا صارت أحواله ( صلى الله عليه وسلم ) مطابقة لما جاء في الكتب الإلهية وجب الانقياد له ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهذا إنما يصح لو كان المراد بالنيين أولادهم أو أممهم أو ميثاق النبيين من الأمم أو ميثاق الله من النبيين على تقدير كونهم أحياء .
أقول والله أعلم : يحتمل أن يراد بقوله ) ثم جاءكم ((2/199)
" صفحة رقم 200 "
المجيء في الزمان الماضي ، فيكون معنى الآية أن الله تعالى أخذ ميثاقه من كل نبي أوتي كتاباً وحكمة أن يؤمن بكل رسول كان قد جاء قله موافقاً لما معه ونيصر دينه بأن يظهر حقيقته في وقته وأنه من عند الله سبحانه وأنه موافق له في أصول العقائد وفي قواعد مكارم الأخلاق ، فتكون هذه الآية تمهيداً لما يجيء بعد من قوله : ( قل آمنا بالله ( الآية .
) قال ( الله أو كل نبي لأمته مستفهماً بمعنى الأمر ) أأقرتم ( بالإيمان به والنصرة ؟ والإقرار في الشرع إخبار عن ثبوت حق سابق .
وفي اللغة منقول بهمزة التعدية من قر الشيء يقر إذا ثبت ولزم مكانه ) وأخذتم ( أي قبلتم ) على ذلكم أصري ( عهدي. والأخذ بمعنى القبول كثير قال تعالى : ( لا يؤخذ منها عدل ) [ البقرة : 48 ] أي لا يقبل .
ويأخذ الصدقات أي يبقهلا .
سمي العهد أصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد .
ثم بعد المطالبة بالإقرار أكد ذلك بالإشهاد وقال : ( فاشهدوا ( أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار .
وفي قوله : ( وأنا معكم من الشاهدين ( وأنه لا يخفى عليه خافية ، تذكير لهم وتوكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض .
وقيل : فاشهدوا خطاب للملائكة .
وقيل : معناه ليجعل كل أ ؛ د نفسه شاهداً على نفسه كقوله : ( وأشهدهم على أنفسهم ) [ الأعراف : 172 ] وقيل : بينوا هذا الميثاق للخاص والعام حتى لا يبقى لأحد عذر في الجهل به .
وأصله أن الشاهد هو الذي يبين تصديق الدعوى .
وقيل : استيقنوا وكونوا كالمشاهد للشيء المعاين له ، أو يكون خطاباً للأنبياء بأن يكونوا شاهدين على الأمم .
ثم ضم إلى توكيد الوعيد بقوله : ( فمن تولى بعد ذلك ( الميثاق وصنوف التوكيد فلم يؤمن ولم ينصر ) فأولئك هم الفاسقون ( الخارجون عندين الهل وطاعته ، ووعيد الفساق المردة معلوم .
ثم وبخ من خرج من دين الله إلى غيره بإدخال همزة الاستفهام على الفاء العاطفة فقال : ( أفغير دين الله يبغون ( ويحتمل أن يراد أيتولون فغير دين الله يبغون ) وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه ترجعون ( من قرأ بتاء الخطاب فيهما فلأن ما قبله خطاب في ( أقررتم ) و ( أخذتم ) أو للالتفات بعد قوله ) أولئك هم الفاسقون ( ومن قرأ بياء الغيبة فلرجوع الضمير في الأول إلى الفاسقين ، وفي الثاني إلى جميع المكلفين .
والأصل أفتبتغون غير دين الله ؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الحوادث إلا أنه قدم المفعول لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو فائدة الهمزة ههنا متوجه إلى الدين الباطل .
وعن ابن عباس أن أهل الكتابين اختصموا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم ، فكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : كل الفريقين بريء من دين إبراهيم ، فقالوا : ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت. وعلى هذا تكون الآية كالمنقطعة عما قبلها ، ولكن(2/200)
" صفحة رقم 201 "
الاستفهام على سبيل الإإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها ، فالوجه أن هذا الميثاق لما كان مذكوراً في كتبهم ولم يكن لكفرهم سبب إلا مجرد البغي والعناد ، كانوا طالبين ديناً غير دين الله ، فاستنكر أن يفعلوا ذلك أو قرر أنهم يفعلون .
ثم بيّن أن الإعراض عن دين الله خارج عن قضية العقل ، وكيف لا وقد أخلص له تعالى الانقياد وخصص له الخضوع كل من سواه ، لأن ما عداه كل ممكن وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه ، فهو ذليل بين يدي قدرته ، خاضع لجلال قدرة في طرفي وجوده وعدمه عقلاً كان أو نفساً أو روحاً أو جسماً أو جوهراً أو عرضاً أو فاعلاً أو فعلاً .
ونظير الآية ) والله يسجد من في السموات والأرض ) [ الرعد : 15 ] فلا سبيل لأحد إلى الامتناع عن مراده ) طوعاً وكرهاً ( وهما مصدران وقعا موقع الحال لأنهما من جنس الفعل أي طائعين وكارهين كقولك : أتاني راكضاً .
ولو قلت أتاني كلاماً أي متكلماً لم يجز لأن الكلام ليس من جنس الإتيات .
فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدين وكرهاً في غيره من الآلام والمكاره التي تحالف طباعهم ، لأنهم لا يمكنهم دفع قضائه وقدره .
وأما الكافرون فينقادون في الدين كرهاً أي خوفاً من السيف أو عند الموت أو نزول العذاب وعن الحسن : الطوع لأهل السموات ، والكره لأهل الأرض .
أقول : وذلك لأن السفلي يتجذب بالطبع إلى السفل فحمله نفسه على ما يخالف طبعه هو الكره .
وبلسان الصوفية من شاهد الجمال أسلم طوعاً ، ومن شاهد الجلال أسلم كرهاً .
فليس الاعتبار بذلك الإسلام الفطري بل الاعتبار بهذا الإسلام الكسبي ) وإليه ترجعون ( أي إلى حيث لا مالك سواه ظاهراً وباطناً ، وفيه وعيد شديد لمن خالف الدين الحق إلى غيره .
ثم إنه سبحانه لما بين أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق كل رسول كان قبله ، أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك ليعرف منه غاية إذعانه ونهاية استسلامه .
أما وجه التوحيد في ) قل ( فظاهر ، بناء على ما قلنا ، وأما وجه الجمع في ) آمنا ( فلتشريف أمته بانضمامهم معه في سلك الإخبار عن الإيمان ، أو ليعلم أن هذا التكليف ليس من خواصه وإنما هو لازم لجميع المؤمنين كقوله : ( والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته ) [ البقرة : 285 ] أو لإجلال قدر نبيه حيث أمر أن يتكلم عن نفسه كما يتكلم العظماء والملوك .
وقدم الإيمان بالله لأنه أصل جميع العقائد ، ثم ذكر الإيمان بما أنزل الله إلأيه لأن كتب سائر الأنبياء محرفة لا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بالفرقان المنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم ذكر الإيمان بما أنزل على مشاهير الأنبياء إذ لا سبيل إلى حصر الكل ، وفي ذلك تنبيه على سوء عقيدة أهل الكتاب حيث فرقوا بين الأنبياء فصدقوا بعضاً وكذبوا بعضاً ، ورمز إلى أنهم ليسوا من الدين في شيء حيث خالفوا مقتضى الميثاق .
ثم إن قلنا إنه تعالى أخذ الميثاق على كل نبي أن يؤمن بكل رسول جاء بعده كما ذهب إليه الجمهور في(2/201)
" صفحة رقم 202 "
تفسير قوله : ( وإذ أخذ الله ميثاق البنين ) [ آل عمران : 81 ] فههنا قد أخذ الميثاق على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يؤمن بكل رسول كان قبله ولم يؤخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده فيكون في الآية دليل على أنه لا نبي بعده .
واعلم أن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فيجوز أن يعدّى أنزل ب ( على ) تارة كما في هذه الآية ، وبحرف الانتهاء أخرى كما في البقرة .
فنطق القرآن بالاعتبارين جميعاً .
وقيل : عُدي هناك ب ( إلى ) لمكان ) قولوا ( فإن الوحي يأتي الأمة بطريق الانتهاء ، وعدي ههنا ب ( على ) لمكان ) قل ( فإن الرسول يأتيه الوحي بطريق الاستقلال وزيفه في الكشاف بقوله تعالى : ( وأنزلنا إليك الكتاب ) [ المائدة : 48 ] وبقوله : ( آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا ) [ آل عمران : 72 ] والإنصاف أن هذا القائل لم يدع أن هذه المناسبة يجب اعتبارها في كل موضع وإنما ادعى اعتبارها في الموضعين فيصلح حجة للتخصيص والله أعلم .
) ونحن له مسلمون ( فائدة تقديم الجار أن يعلم أن هذا الإذعان والإيمان والاستسلام لا غرض فيه إلا وجه الله دون شيء آخر من طلب المال والجاه ، بخلاف أحبار اليهود الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً فليسوا من الإسلام في شيء ) ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ( فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ ) وهو في الآخرة من الخاسرين ( حيث فاته الثواب وحصل مكانه العقاب .
والخاسرون ههنا هم الكافرون فقط عند أهل السنة ، ومع أصحاب الكبائر عند المعتزلة .
وقد يستدل بالآية على أن الإيمان والإسلام بمقبول عند الله لللآية. وقد غير الإسلام كان غير مقبول ، لأن كل ما هو غير الإسلام ليس بمقبول عند الله لللآية .
وقد ذكرنا مراراً أن النزاع لفظي لأن الإسلام إن أريد به الانقياد الكلي فلا فرق بينه وبين الإيمان كما في هذه الآية ، وإن أريد به الإقرار باللسان فالفرق بناء على أن الإعتقاد القلبي داخل في مفهوم الإيمان ، وعلى الفرق ورد قوله تعالى : ( قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) [ الحجرات : 17 ] ثم بيّن وعيد من ترك الإسلام فقال : ( كيف يهدي الله ( واختلف في سبب النزول ، ففي رواية عن ابن عباس نزلت في يهود قريضة والنضير ومن دان بدينهم ، كفروا بالنبي بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه وكانوا يشهدون له بالنبوة فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه وكانوا يشهدون له بالنبوة فلما بعث وجاءهم بالبيات والمعجزات كفروا به بغياً وحسداً وعناداً ولدداً .
وفي رواية أخرى عنه : نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ، ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب بقوله : ( إلا الذين تابوا ( وعن مجاهد قال : كان الحرث بن سويد قد أسلم وكان مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم لحق بقومه وكفر فأنزل الله هذه الآية إلى قوله : ( فإن الله غفور رحيم ( فحملهن إليه رجل من قومه فقرأهن عليه فقال الحرث : والله إنك لصدوق وإن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (2/202)
" صفحة رقم 203 "
لأصدق منك وإن الله أصدق الثلاثة ، ثم رجع فأسلم إسلاماً حسناً .
قالت المعتزلة في الآية : إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف ووضع الدلائل وإلا كان الكافر معذوراً ولا يحس ذمه على الكفر .
ثم إنه حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار فلا بد من تفسير الآية بشيء أخر سوى نصب الدلائل. قالوا : فالمراد بهذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثواباً لهم على إيمانهم كما قال : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) [ العنكبوت : 69 ] وقال : ( والذين اهتدوا زادهم هدى ) [ محمد : 17 ] أو المعنى لا يهديهم إلى الجنة كقوله : ( ولا يهديهم طريقاً إلا طريق جهنم ) [ النساء : 168 ] وقوله : ( يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار ) [ يونس : 9 ] وقال أهل السنة : المراد بالهداية خلق المعرفة .
وقد جرت سنة الله في باب التكليف وفي دار العمل أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإنه الله يخلقه عقيب قصد العبد فكأنه تعالى قال : كيف يخلق الله فيهم المعرفة والهداية وهم قصدوا تحصيل الكفر وأرادوه. ؟ وقال أهل التحقيق : كيف يهدي الله لأإيه قوماً احتجبوا بالصفات الإنسانية والطبائع الحيوانية عن الأخلاق الربانية .
وقوله : ( وشهدوا ( عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل إذ هو في تقدير أن آمنوا كقوله تعالى : ( فأصدق وأكن ) [ المنافقون : 10 ] ويجوز أن يكون الواو للحال بإضمار ( قد ) أي كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق .
وكيفما كان فمعنى الآية يؤل إلى أنه تعالى لا يهدي قوماً كفروا بعد الإيمان وبعد الشهادة بأن الرسول حق في نفسه غير باطل ولا مما يسوغ إنكاره بعد أن جاءتهم الشواهد الدالة على صدقه من القرآن وغيره ، لكن الشهادة هي الإقرار باللسان ، فيكون المراد من الإيمان هو التصديق بالقلب ليكون المعطوف مغايراً للمعطوف عليه .
) والله لا يهدي القول الظالمين ( الواضعين للشيء في غير موضعه وذلك أن الخصال الثلاث - أعني الإيمان والشهادة ومشاهدة المعجزات - توجب مزيد الإيمان بالنبي المبعوث في آخر الزمان لا الكفر والعناد .
وفيه دليل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهلولهذا صرح في آخر الآية بأنه تعالى لا يهديهم بعد أن عرض بذلك في أول الآية ، ثم أردفه بغاية الوعيد قائلاً ) أولئك جزاؤهم ( إلى قوله : ( ولا هم ينظرون ( وقد مر مثله في البقرة .
وهذا تحقيق قول المتكلمين بأن العذاب أن عرض بذلك في أول الآية ، ثم أردفه بغاية الوعيد قائلاً ) إلا الذين تابوا من بعد ذلك ( الكفر العظيم .
ولا يكفي التوبة وحدها حتى يضاف إليها العمل الصالح فلهذا قال : ( وأصلحوا ( أي باطنهم مع الحق بالمراجعات ، وظاهرهم مع الخلق بالعبادات ، وأظهروا إنا كنا على الباطل حتى لو اغتر بطريقتهم المنحرفة مغتر رجع عنها .
) فإن الله غفور ( في الدنيا بالستر ) رحيم ( في الآخرة بالعفو .
أو غفور بإزالة العقاب ،(2/203)
" صفحة رقم 204 "
رحيم بإعطاء الثواب .
قوله سبحانه ) إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً ( ازدياد الكفر قد يراد به الإصرار على الكفر ، وقد يراد به ضم كفر إلى كفره وهو المراد في الآية باتفاق عامة المفسرين .
ثم اختلفوا فقيل : إنهم أهل الكتاب آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل مبعثه ثم كفروا به عند المبعث ثم ازدادوا كفراً بسبب طعنهم فيه كل وقت ، وإنكارهم لكل معجز يظهر عليه إلى غير ذلك من تخليطاتهم وتغليطاتهم .
وقيل : إن اليهود كانوا مؤمنين بموسى ثم كفروا بعيسى والإنجيل ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن .
وهذا قول الحسن وقتادة وعطاء ، وقيل : نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة ، وازديادهم الكفر أنهم قالوا : نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون .
وقيل : عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق فسمى الله تعالى ذلك النفاق زيادة في الكفر ، ثم إنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين ، وحكم تعالى في هذه الآية بعدم قبولها ، وهذا يوهم التناقض .
وأيضاً ثبت بالدليل أن التوبة بشروطها مقبولة فما معنى قوله ) لن تقبل توبتهم ( قال الحسن وقتادة وعطاء : المراد بازدياد الكفر إصرارهم عليه فلا يتوبون إلا عند حضور الموت ، والتوبة حينئذٍ لا تقبل لقوله تعالى : ( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ) [ النساء : 18 ] وقيل : هي محمولة على ما إذا تابوا باللسان لا عن الإخلاص .
وقال القاضي والقفال وابن الأنباري : هي من تتمة قوله : ( إلا الذين تابوا ( يريد أنه لو كفر بعد التوبة الأولى فإن التوبة الأولى لا تكون مقبولة .
وقيل : لعل المراد أن التوبة من تلك الزيادة لا تكون مقبولة ما لم يتب عن الأصل المزيد عليه .
أقول : ويحتمل أن يكون لن تقبل توبتهم جعل كناية الموت على الكفر كأنه قيل : إن اليهود والمرتدين المصرين على الكفر ما يتوبون عن الكفر لما في فعلهم من قساوة القلوب والإفضاء إلى الرين وانجراره إلى الموت على حالة الكفر .
وفائدة هذه الكناية تصير كونهم آيسين من الرحمة ، هذا إذا خصصنا اليهود والمرتدين بالمصرين ، أما على تقدير التعميم فنقول : إنما يجعل الموت على الكفر لازماً لازدياد كفرهم لأن القضية حينئذٍ لا تكون كلية ، فكم من مرتد أو يهودي مزداد للكفر لا بمعنى الإصرار يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر .
فاكتفى بذكر لازم الموت على الكفر وهو عدم قبول التوبة حتى برز الكلام في معرض الكناية .
ومن المعلوم أنها ذكر اللازم وإرادة الملزوم ، وأنه لا بد للعدول من فائدة ، فصح أن نبين فائدة العدول على وجه يصير القضية كلية وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدها ، ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف لأجل اليأس من الرحمة ، وهذا هو الذي عول عليه في الكشاف .
والحاصل أنه(2/204)
" صفحة رقم 205 "
كأنه قيل : إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا من حقهم أن لا تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون الكاملون في الضلال ، ضلوا في تيه الأوصاف البهيمة والأخلاق السبعية فلم يكادوا يخرجون منها بقدم الإنابة .
واعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام : أحدها الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي سيق لأجله الآية التي ردفها الاستثناء ، وثانيها الذي يتوب توبة فاسدة وهو المذكور في قوله : ( لن تقبل توبتهم ( على وجه .
وثالثها الذي يموت على الكفر من غير توبة فذكره في الآية الأخيرة .
وملْ الشيء قدر ما يملؤه و ) ذهباً ( نصب على التمييز .
وربما يقال على التفسير ، ومعناه أن يكون الكلام تاماً إلا أنه يكون مبهماً كقولك ( عندي عشرون ) فالعدد معلوم والمعدود مبهم .
فإذا قلت ( درهماً ) فسرت العدد .
ومعنى الفاء في ) فلن يقبل ( أن يعلم أن الكلام مبني على لاشرط والجزاءن وإذا ترك كما في الآية الأولى فلعدم قصد التسبيب والاكتفاء بمجرد الحمل والوضع .
هذا ما قاله النحويون ومنهم صاحب الكشاف .
وليت شعري أنهم لو سئلوا عن تخصيص كل موضع بما خصص به فبماذا يجيبون ؟ ولعل عقيدتهم في أمثال هذه المواضع أنها من الأسئلة المتقلبة وهو وهم .
والسر في التخصيص هو أنه لما قيد في الجملة الثانية أنهم قد ماتوا على الكفر زيدت فاء السببية الجزائية تأكيداً للزوم وتغليظاً في الوعيد والله أعلم .
أما الواو في قوله ) ولو افتدى به ( فإنها تشبه عطف الشيء على نفسه لأنه كالمكرر ، فلهذا كثر أيقاويل العلماء فيه فقال الزجاج وابن الأنباري : إنها للعطف والتقدير : لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً لم يمنعه ذلك مع كفره ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه .
وقيل : إنها لبيان التفصيل بعد الإجمال فإن إعطاء ملء الأرض ذهباً يحتمل الوجوه الكثيرة ، فنص على نفي القبول بجهة الفدية .
وقيل : إن الملوك قد لا يقبلون الهدية ويقبلون الفدية ، فإذا لم يقبلوا الفدية كان ذلك غاية الغضب ونهاية السخط ، فعبر بنفي قبول الفداء عن شدة الغضب .
وقيل : إنه محمول على المعنى كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً .
وقيل : يجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله : ( ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به ) [ الزمر : 47 ] والمثل يحذف كثيراً في كلامهم مثل : ضربت ضرب زيد .
أي مثل ضربه .
و ( أبو يوسف وأبو حنيفة ) تريد مثله .
كما أنه يراد به في نحو قولهم ( مثلك لا يفعل ) كذا أي أنت .
وذلك أن المثلين يقول أحدهما مقام الآخر في أغلب الأمور فكانا في حكم شيء واحد ، فإن قيل : من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة شيئا ، وبتقدير أن يملك فلا نفع في الذهب هناك ، فما فائدة هذا الكلام ؟ فالجواب أنه على سبيل الفرض والتقدير ، والذهب(2/205)
" صفحة رقم 206 "
كناية عن أعزالأشياء .
والمراد أنه لو قدر على أعز الأشياء وفرض أن في بذله نفعاً لللآخذ وأن المبذول في غاية الكثرة لعجز أن يتوصل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب ربه .
ثم صرح بعقابهم ونفى من يشفع لهم فقال : ( أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ( قال أهل التحقيق : وماتوا أي ماتت قلوبهم ) أولئك لهم عذاب أليم ( بموت القلب وفقد المعرفة ) وما لهم من ناصرين ( على إحياء القلب بنور المعرفة حسبي الله ونعم الوكيل .
تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع أوله : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا. .. ((2/206)
" صفحة رقم 207 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الرابع من أجزاء القرآن الكريم
( آل عمران : ( 92 - 101 ) لن تنالوا البر . . . .
" لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم " ( ) القراآت ( : ( أن تنزل ( خفيفاً : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب .
الباقون بالتشديد .
) حج البيت ( بكسر الحاء : يزيد وحمزةو وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد الباقون بفتحها .
الوقوف : ( تحبون ( ط ) عليم ( ه ) تنزل التوراة ( ط ) صادقين ( ه ) الظالمون ( ه ) حنيفاً ( ط ) المشركين ( ه ) للعالمين ( ه ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستئنافاً ) مقام إبراهيم ( ج للابتداء بالشرط معالواو لأن الأمن من الآيات ) آمنا ( ط ) سبيلا ( ط ) العالمين ( ه ) بآيات الله ( ط قد قيل : والوده الوصل لأن الواو للحال ) تعملون ( ه ) شهداء ( ط ) تعملون ( ه ) كافرين ( ه ) رسوله ( ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط ) مستقيم ( ه .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر أن الإنفاق لا ينفع الكافر ألبتة ، علّم المؤمنين كيفية الإنفاق الذين ينتفعون به في الآخرة وهو الإنفاق من أحب الأشياء إليهم .
وههنا لطيفة وهي(2/207)
" صفحة رقم 208 "
أنه سبحانه وتعالى سمى جوامع خصال الخير براً في قوله تعالى : ( ولكن البر من آمن بالله ) [ البقرة : 177 ] الآية. وذكر في هذه الآية ) لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ( فالمعنى أنكم وإن أتيتم بكل الخيرات لم تفوزوا بإحراز خصلة البر ولم تبلغوا حقيقتها حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تبحونها وتؤثرونها .
وكان السلف رحمهم الله إذ أحبوا شيئاً جعلوه لله .
يروى أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله ، حائط لي بالمدينة - يعني بيرحاء - وهو أحب أموالي إليّ صدقة .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( بخ بخ .
ذاك مال رابح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ) .
فقال أبو طلحة : افعل يا رسول الله .
فقسمها ( صلى الله عليه وسلم ) في أقاربه .
وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) جعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب .
وروي أن زيد بن حارثة جاء عند نزول الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل الله ، فجعله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأسامة بن زيد .
فوجد زيد في نفسهوقال : إنما أردت أن تصدق به .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أما إن الله قد قبلها منك ) .
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبى جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى ، فلما رآها أعجبته فقال : إن الله تعالى يقول : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ( فأعتقها ولم يصب منها .
ونزل بأبي ذرّ ضيف فقال للراعي : ائتني بخير إبلي .
فجاء بناقة مهزولة فقال : خنتني .
فقال : وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوم حاجتك إليه .
فقال : إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي .
وفي تفسير البر قولان : أحدهما ما به يصيرون أبراراً ليدخلوا في قوله : ( إن الأبرار لفي نعيم ) [ الانفطار : 13 ] فيكون المراد بالبر ما يصدر منهم من الأعمال المقبولة المذكورة في قوله : ( ولكن البر من آمن ) [ البقرة : 177 ] وجملتها التقوى لقوله : ( أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) [ البقرة : 177 ] والثاني الجنة أي لن تنالوا ثواب البر .
وقيل : المراد بر الله أولياءه وإكرامه إياهم من قول الناس ( برني فلان بكذا وبر فلان لا ينقطع عني ) .
وقال تعالى : ( أن تبروا وتتقوا ) [ البقرة : 224 ] و ( من ) في قوله : ( مما تحبون ( للتبعيض نحو : أخذت من المال .
ويؤيده قراءة عبد الله بن مسعود ) بعض ما تحبون ( وفيه أن إنفاق كل المال غير مندوب بل غير جائز لمن يحتاج إليه والمراد بما تحبون قال بعضهم : هو نفس المال لقوله تعالى : ( ويطعمون الطعام على حبه ) [ العاديات : 8 ] وقيل : هو ما يكون محتاجاً إليه كقوله : ( ويطعمون الطعام على حبه ) [ الدهر : 8 ] ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ الحشر : 9 ] وقيل : هو أطيب عليه أنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها ، وقال الحسن : هو كل ما أنفقه المسلم من ماله يطلب به وجه الله .
ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي انها منسوخة(2/208)
" صفحة رقم 209 "
بآية الزكاة .
وضعف بأن إيجاب الزكاة لا ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله .
و ( من ) في ) من شيء ( للتبيين يعني من أي شيء كان ، طيب أو خبيث ) فإن الله به عليم ( فيجازيكم بحسبه أو يعلم الوجه الذي لأجله تنفقون من الإخلاص أو الرياء .
ثم إنه سبحانه بعد تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبعد توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب ، أجاب عن شبهة للقوم وتقرير ذلك من وجوه : أحدها أنهم كانوا يعوّلون في إنكار شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على إنكار النسخ ، فأورد عليهم أن الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان حلالاً ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده وهو النسخ .
ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال زعموا أن ذلك كان حراماً من لدن آدم ولم يحدث نسخ ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يطالبهم بإحضار التوراة إلزاماً لهم وتفضيحاً ودلالة على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
لأنه كان أمياً فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخير من السماء .
وثانيها أن اليهود قالوا له : إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم ، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها وتفتي بحلها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم ؟ فأجيبوا بأن ذلك كان حلالاً لإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب .
إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب ، وبقيت تلك الحرمة في أولاده ، فأنكروا ذلك فأمروا بالرجوع إلى التوراة .
وثالثا لما نزل قوله تعالى : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) [ النساء : 160 ] قوله : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) [ الأنعام : 146 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه إنما حرم عليهم كثير من الأشياء حزاء لهم على بغيهم وظلمهم .
غاظهم ذلك واشمأزوا وامتعضوا من قبل أ ، ذلك يقتضي وقوع النسخ .
ومن قبل أنه تسجيل عليهم بالبغي والظلم وغير ذلك من مساويهم .
فقالوا : لسنا بأول من حرمت هي عليه وما هو إلا تحريم قديم فنزلت ) كل الطعام ( أي المطعومات كلها لدلالة كل على العموم وإن كان لفظه مفرداً سواء قلنا الاسم المفرد المحلى بالألف واللام يفيد العموم أولا .
والطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل .
وعن بعض أصحاب أبي حنيفة : إنه اسم البر خاصة .
ويرد عليه أن المستثنى في الآية من الطعام كان شيئاً سوى الحنطة وما يتخذ منها .
قال القفال : لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحةلهم مع أناه طعام ، وكذا القول في الخنزير ، فيحتمل أن يكون المراد الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) أنها كانت محرمة على إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) .
وعلى هذا يكون اللام في الطعام للعهد لا للاستغراق .
والحل مصدر كالعز والذل ولذا استوى فيه الواحد والجمع .
قال تعالى : ( ا هن حل لهم ( والوصف بالمصدر يفيد المبالغة ، وأما الذي حرم إسرائيل على نفسه فروى ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعقوب مرض(2/209)
" صفحة رقم 210 "
مرضاً شديداً فنذر لئن عافاه الله ليحرّمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحمان الإبل وألبانها ، وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل .
وقيل : كان به عرف النسا فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئاً من العروق .
وجاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر .
وههنا سؤال وهو أن التحريم والتحليل خطاب الله تعالى ، فكيف صار تحريم يعقوب سبباً للحرمة ؟ فأجاب المفسرون بأن الأطباء أشاروا إليه باجتنابه ففعل وذلك بإذن من الله فهو كتحريم الله ابتداء .
وأيضاً لا يعبد أن يكون تحريم الإنسان سبباً لتحريم الله كالطلاق والعتاق في تحريم المرأة والجارية .
وأيضاً الاجتهاد جائز على الأنبياء لعموم ) فاعتبروا ) [ الحشر : 2 ] ولقوله في معرض المدح ) لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) [ النساء : 83 ] ولأن الاجتهاد طاعة شاقة فيلزم أن يكون للأنبياء منها نصيب أوفر لا سيما ومعارفهم أكثر ، وعقولهم أنور ، وأذهانهم أصفة ، وتوفيق الله وتسديده معهم أوفى .
ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد عن الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته .
والأظهر أن ذلك التحريم ما كان بالنص وإلا لقيل : إلا ما حرمه الله تعالى على إسرائيل فما نسب إلى إسرائيل دل على أنه باجتهاده كما يقال : الشافعي يحلل لحم الخيل ، وأبو حنيفة يحرّمه .
وقال الأصم : لعلّ نفسه كانت تتوق إلى هذه الأنواع فامتنع من أكلها قهراً للنفس كما يفعله الزهاد ، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم .
وزعم قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده : احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب ، فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب .
ومعنى قوله : ( من قبل أن تنزل التوراة ( إن هذا الاستثناء إنما كان يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده : احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب ، فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب ، ومعنى قوله : ( من قبل أ ، تنزل التوراة ( إن هذا الاستثناء إنما كان قبل نزول التوراة ، أما بعده فلم يبق كذلك بل حرم الله لعيهم أنواعاً كثيرة بدليل قوله تعالى : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا ) [ النساء : 160 ] إلى آخر الآية .
ثم إن القوم نازعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في إخباره عن الله تعالى فأمروا بالرجوع إلى كتابهم كما سبق تقريره ، فروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فبهتوا فلزمت الحجة عليهم وظهر إعجاز النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصدقه ، فلهذا قال : ( فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك ( الذي ظهر من الحجة الباهرة ) فأولئك هم الظالمون ( الواضعون الباطل في موضع الحق ، والكذب في مقام الصدق والعناد في محل الإنصاف .
وأيضاً إن تكذيبهم وافتراءهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن يقتدي بهم من أشياعهم ) قل صدق الله ( في جواب الشبه الثلاث وفيه تعريض بكذبهم ) فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً ( وهي التي عليه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومن تبعه حتى تتخلصوا من اليهودية التي فيها فساد دينكم ودنياكم حيث ألجأتكم إلى تحريف كتاب الله لأغراضكم الفاسدة(2/210)
" صفحة رقم 211 "
وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلت لإبراهيم ولمن يقتدي به ) وما كان من المشركين ( وفيه تنبيه على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) على دين إبراهيم في الفروع لما ثبت أن الذي حكم ( صلى الله عليه وسلم ) بحله حكم إبراهيم بحله .
وفي الأصول لأن محمداً وإبراهيم كليهما صلى الله عليهما وسلم لا يدعوان إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى ، خلاف اليهود والنصارى ، وخلاف عبدة الأوثان والكواكب .
قوله سبحانه : ( إن أول بيت وضع للناس ( قال مجاهد : هو جواب عن شبهة أخرى لليهود وذلك أنهم قالوا : بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وأرض المحشر وقبلة الأنبياء .
فكان تحويل القبلة منه إلى الكعبة كالطعن في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل : إن الآية المتقدمة سيقت لجواز النسخ ، وإن أعظم الأمور التي أظهر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نسخها هو القبلة ، فذكر عقيب ذلك ما لأجله حولت القبلة إلى الكعبة .
وقيل : لما انجر الكلام في الآية المتقدمة إلى قوله : ( فاتبعوا ملة إبراهيم ( وكان الحج من أعظم شعائر ملته ، أردفها بفضيلة البيت ليفرع عليها إيجاب الحج .
وقيل : زعم كل كذبهم من حيث إن حج من أعظم شعائر ملته ، أردفها إبراهيم ، فبين الله تعالى ما يدل على كذبهم من حيث إن حج البيت كان من ملة إبراهيم وأهل الكتاب لا يحدون .
قالت العلماء : الأول هو الفرد السابق ، فلو قال : أول عبد أشتريه فهو حر .
فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق واحد منهما لفقد قيد الفرد .
ولو اشترى في المرة الثانية عبداً واحداً لم يعتق أيضاً لفقدان قيد السابق .
ومعنى كونه موضوعاً للناس أنه جعل متعبدهم وموضع طاعتهم يتوجهون نحوه من جميع الأقطار ، وليس كل أول يقتضي أن يكون له ثانٍ فضلاً أن يشاركه في جميع خواصه ، فلا يلزم من كونه أول أن يكون بيت المقدس مثلاً ثانياً له ولا مشاركاً في وجوب الحج والاستقبال وغيرهما من الخواص .
ثم إن كونه أول بيت وضع للناس يحتمل أن يكون المراد أنه أول في البناء والوضع ، ويحتمل أن يراد أنه أول في الوضع وإن كان متأخراً في البناء ، فلا جرم حصل فيه للمفسرين قولان : الأول أنه أول في بنائه ووضعه جميعاً .
روى الواحدي رحمه الله في البسيط بإسناده عن مجاهد أنه قال : خلق الله هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً من الأرضين .
وفي رواية أخرى : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً من الأرض بألفي سنة ، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى ، وروى أيضاً عن محمد بن عبي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن آبائه قال : إن الله تعالى بعث ملائكة فقال : ابنوا لي في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور .
وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور .
وهذا كان قبل خلق آدم وقد ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر(2/211)
" صفحة رقم 212 "
ومجاهد والسدي أنه أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء ، وقد خلقه الله قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض من تحته .
وعن الزهري قال : بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم ثلاثة صفوح في كل صفح منها كتاب .
في الصفح الأول : ( أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء وباركت لأهلها في اللحم واللبن ) .
وفي الثاني : ( أنا الله ذو بكة ، خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي .
من وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته ) .
وفي الثالث : ( أنا الله ذو بكة خلقت الجن والإنس فطوبى لمن كان الخير على يديه ووبل لمن كان الشر على يديه ) .
وقد يستدل على صحة هذا القول بما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال يوم فتح مك ( ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ) .
وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجودها ولأنه تعالى سماها أم القرى ، وهذا يقتضي سبقها على سائر البقاع ، ولأن تكليف الصلاة كان ثابتاً في أديان جميع الأنبياء .
وأيضاً قال تعالى في سورة مريم ) أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم ( إلى قوله : ( خروا سجداً ) [ مريم : 58 ] والسجدة لا بد لها من قبلة فلو كانت قبلتهم غير الكعبة لم تكن هي أول بيت وضع للناس هذا محال خلف .
القول الثاني : روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن أول مسجد وضع للناس ؟ فقال : ( المسجد الحرام ثم بيت المقدس فسئل كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة ) وعن علي أن رجلاً قال له : هو أول بيت ؟ قال : لا .
قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً ، فيه الهدى والرحمة والبركة .
واعلم أ ، الغرض الأصلي من ذكر هذه الأوّلية بيان الفضيلة وترجيحه على بيت المقدس .
ولا تأثير لأولية البناء في هذا المقصود ، وإن كان الأرجح ثبوت تلك الأولية أيضاً كما روينا آنفاً ، وفي سورة البقرة أيضاً من الأخبار والآثار .
فمن فضائل البيت أن الآمر ببنائه الرب الجليل ، والمهندس جبرائيل ، وبانية إبراهيم الخليل وتلميذة ابنه إسماعيل .
ومنها أنه محل إجابة الدعوات ومهبط الخيرات والبركات ، ومصعد الصلوات والطاعات ، ومنها مقام إبراهيم كما يجيء ، ومنه قلة ما يجتمع من حصى الجمار فيه فإنه منذ ألف سنة يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير .
ولس الموضع الذي يرمي لغيه الجمرات مسيل ماء أو مهب رياح شديدة ، وقد جاء في الآثار أن كل من كانت حجته مقبولة رفعت جمراته إلى السماء .
ومنها أن الطيور تترك المرور فوق الكعبة وتنحرف عنها ألبتة إذا(2/212)
" صفحة رقم 213 "
وصلت إلى محاذاتها .
ومنها أن الحيوانات المتضادة في الطبائع لا يؤذي بعضها بعضاً عنده كالكلاب والظباء ، ومنها أمن سكانها فلم ينقل ألبة أن ظالماً هدم الكعبة أو خرب مكة بالكلية ، وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية ، وقصة أصحاب الفيل سوف تجيء في موضعها إن شاء العزيز ، ومنها أنه تعالى وضعها بواد غير ذي زرع لفوائد منها : أنه قطع بذلك رجاء أهل حرمة وسدنة بيته عمن سواءه حتى لا يتوكلوا إلا على الله .
ومنها أنه مع كونه كذلك يجبى إليه ثمرات كل شيء وذلك بدعوة خليلة إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) وإنه من أعظم الآيات ومنها أن لا يسكنها أحد من الجبابرة لأنهم يميلون إلى طيبات الدنيا ، فيبقى ذلك الموضع المنيف والمقام الشريف مطهراً عن لوث وجود أرباب الهمم الدنية. ومنها أن لا يقصدها الناس للتجارة بل يأتون لمحض العبادة والزيارة ، ومنها أنه تعالى أظهر بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيت في أقل المواضع نصباً من الدنيا فكأنه تعالى يقول : جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين لأجعلهم ف الآخرة أهل المقام الأمين .
ومنها كأنه قيل : كما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في قلب خال عن محبة الدنيا ) للذي ببكة ( للبيت الذي ببكة قال في الكشاف : وهي علم للبلد الحرام .
ومكة وبكة لغتان كراتب وراتم .
وضربة لازم ولازب مما يعتقب فيه الميم والباء لتقارب مخرجهما .
وقيل : مكة البلد وبكة موضع المسجد .
وفي الصحاح بكة اسم لبطن مكة ، وأما اشتقاق بكة فمن قولهم بكة إذا زحمه ودفعه ، وعن سعيد بن جبير : سميت بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة .
قال بعضهم : رأيت محمد بن علي الباقر يصلي .
فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال : دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضاً ، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي ولا بأس بذلك في هذا المكان .
ويؤكد هذا القول من قال : إن بكة موضع المسجد لأن المطاف هناك وفيه الازدحام .
ولا شك أن بكة غير البيت لأن الآية تدل على أن البيت حاصل في بكة ، والشيء لا يكون ظرفاً لنفسه ، وقيل : سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها ، لم يقصدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه ، وأما مكة فاشتقاقها من قولك أمتك الفصل ضرع أمه إذا امتص ما فيه واستقصى ، فسميت بذلك لأنها تجذب الناس من كل جانب وقطر أو لقلة مائها كأن أرضها امتصت ماءها .
وقيل : إن مكة وسط الأرض ، والعيون والمياه تنبع من تحتها ، فكأن الأرض كلها تمك من ماء مكة ، ثم إنه تعالى وصف البيت بكونه مباركاً وهدى للعالمين ، أما انتصابه فعلى الحال عن الضمير المستكن في الظرف ، لأن التقدير للذي ببكة هو والعامل فيه معنى الاستقرار .(2/213)
" صفحة رقم 214 "
وأما معناه فالبركة إما النمو والتزايد وكثرة الخيرن وإما البقاء والدوام ، وكل شي ثبت ودام فقد برك ، ومنه برك البعير إذا وضع صدره على الأرض والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها ، وتبارك الله لثبوته لم يزل ولا يزال ، والبيت مبارك لما يحصل لمن حجة واعتمره واعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الحج المرور ليس له جزاء إلا الجنة ) ولو استحضر العاقل في نفسه أن الكعبة كالنقطة وصفوف المتوجهين إليها في الصلوات في أقطار الأرض وأكنافها ولعمري إنها غير محصورة كالدوائر المحيطة بالمركز ، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية ، وقلوبهم قدسية ، وأسرارهم نورانية ، وضمائرهم ربانية ، علم أنه إذا توجهت تلك الأرواح الصافية إلى كعبة المعرفة واستقبلت أجسادهم هذه الكعبة الحسية ، اتصلت أنوار أولئك الأرواح بنوره وعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره .
قال القفاز : يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله : ( يجبى إليه ثمرا كل شيء ) [ القصص : 57 ] فيكون كقوله : ( إلى الأرض ) [ الأنبياء : 71 ] المقدسة ) التي باركنا فيها ) [ الأنبياء : 71 ] وإن فسرنا البركة بالدوام فلا شك أنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود .
وإذا كانت الأرض كرة وكل آن يفرض فإنه صبح لقوم ظهر لآخرين وعصر لغيرهم أو مغرب أو عشاء ، فلا تخلو الكعبة عن توجه قوم إليها أببتة .
وأيضاً بقاء الكعبة لعى هذه الحالة ألوفاً من السنين دوام ، وأما كونه هدى للعالمين فلأنه قبلتهم ومتعبدهم أو لأنه يدل على وجود الصانع وصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بما فيه من الآيات والأعاجيب ، أو لأنه يهدي إلى الجنة .
ومعنى هدى هادياً أو ذا هدى قاله الزجاج ، وجوز أن يكون محله رفعاً أي وهو هدى ) فيه آيات بينات ( يحتمل أن يراد بها ما عددنا من بعض فضائله ، ويكون قوله : ( مقام إبراهيم ( غير متعلق بما قبله ، فكأنه قيل فيه آيات بينات ومع ذلك فهو مقام إبراهيم وموضعه الذي اختاره وعبد الله فيه .
وقال الأكثرون إن الآيات بيانه وتفسيره قوله : ( مقام إبراهيم ( إما بأن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لأنه معجز رسول وكل معجز ففيه دليل أيضاً على علم الصانع وقدرته وإرادته وحياته وتعاليه عن مشابهة المحدثات ، فلقوه هذا الدليل عبر عنه بلفظ الجمع كقوله : ( إن إبراهيم كان أمة ) [ النحل : 120 ] وإما بأن يجعل المقام مشتملاً على آيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء(2/214)
" صفحة رقم 215 "
آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية وآبقاء هذا الأثر دون آثار سائر الأبنياء آية لإبراهيم خاصة ، وحفظة مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوفاً من السنين آية .
قال الزجاج : قوله : ( ومن دخله كان آمناً ( من تتمة تفسير الآيات .
وهذه الجملة وإن كانت من مبتدأ وخبر أو من شرط وجزاء إلا أنها في تقدير مفرد من حيث المعنى .
فكأنه قيل : فيه آيات بينات وأمن من دخله كما لو قلت : فيه آية بينة من دخله كان آمناً كان معناه فيه آية بينة أمن من دخله .
وهذا التفسير بعد تصحيحه مبني على أن الاثنين جمع كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الاثنان فما فوقهما جماعة ) وفي القرآن ) هذان خصمان اختصموا ) [ الحج : 19 ] وقيل : ذكر آيتان وطوى ذكر غيرهما .
دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما .
ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة ) ومنهم من تمم الثلاثة فقال : مقام إبراهيم وأمن من دخله وإن لله على الناس حجه .
وقال المبرد : مقام مصدر فلم يجمع والمراد مقامات إبراهيم هي ما أقامه من المناسك ، فالمراد بالآيات شعائر الحج .
وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة ) آية بينة ( على التوحيد قاله في الكشاف .
وفيه توكيد لكون مقام إبراهيم وحده بياناً .
وأما حديث ( أمن من دخله ) فقد مر اختلاف العلماء فيه في سورة البقرة في قوله : ( وإذا جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ) [ البقرة : 125 ] وقيل : كان آمناً من النار لما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً ) وعنه صلى الله عيله وسلم : ( الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة ) وهما مقبرتا مكة والمدينة .
وعن ابن مسعود : وقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ثنية الحجون وليس بها يومئذٍ مقبرة فقال : ( يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام ) ) ولله على الناس حج البيت ( لما ذكر فضائل البيت أردفه بإيجاب الحج وفيه لغتان : الفتح لغة الحجاز ، والكسر لغة نجد ، وكلاهما مصدر كالمدح والذم والذكر والعلم .
وقيل : المكسور اسم للعمل ، والمفتوح مصدر .
ومحل ) من استطاع ( خفض على البدل ) من الناس ( والمعنى : ولله على من استطاع من الناس حج البيت ، وقال الفراء : يجوز أن ينوي الاستئناف بمن والخبر ، أو الجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه والتقدير : من استطاع إليه سبيلاً فللَّه عليه حج البيت .
وقال ابن الأنباري : يحتمل أن يكون محله رفعاً على البيان(2/215)
" صفحة رقم 216 "
كأنه قيل : من الناس الذين عليهم لله حج البيت ؟ فقيل : هم من استطاع .
والضمير في ) إليه ( للبيت أو الحج .
واستطاعة السبيل إلى الشيء هي إمكان الوصول إليه واحتج أصحاب الشافعي بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لأن الناس يعم المؤمن والكفار وعدم الإيمان لا يصلح أن كيون معارضاً ومخصصاً لهذا العموم لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أن شرط صحة الإيمان بمحمد غير حاصل ، والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة ليس بحاصل ، واحتج جمهور المعتزلة بالآية على أن الاستطاعة قبل الفعل لأنها لو كانت مع الفعل لكان من لم يحج لم يكن مستطيعاً للحج فلا يتناوله التكليف المذكور وذلك باطل بالاتفاق .
أجاب الأشاعرة بأن هذا أيضاً لازم عليكم لأن القادر إما أن يكون مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل وهو محال لأنه تكليف بما لا يطاق ، أو بعد حصوله وحينئذٍ يكون الفعل واجب الحصول فلا يكون في التكليف به فائدة ، وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف .
والحق أن وجوب الفعل بالقدرة والإرادة لا ينافي توجيه التكليف إليه .
واعلم أن الحج لا يجب بأصل الشرع في العمر إلا مرة واحدة لما روي عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج .
فقام الأقرع بن حابس فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فقال : لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها الحج مرة فمن زاد فتطوع ) وقد يجب أكثر من رمة واحدة لعارض كالنذور والقضاء .
ولصحة الحج على الإطلاق شرط واحد وهو الإسلام ، فلا يصح حج الكافر كصومه وصلاته .
ولا يشترط فيه التكليف بل يجوز للولي أن يحرم عن المجنون وعن الصبي الذي لا يميز وحينئذٍ يصح حجمها لما روي عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر بأمرأة وهي في محفتها ، فأخذت بعضد صبي كان معها فقالت : ألهذا حج ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نعم ولك أجر ) .
وعن جابر قال : حججنا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم .
ولصحة المباشرة شرط زائد على الإسلام وهو التمييز .
فلا تصح مباشرة الحج من المجنون والصبي الذي لا يميز كسائر العبادات ، ويصح من الصبي المميز أن يحرم ويحج بإذن الولي ، ولا يشترط فيها الحربة كسائر العبادات ، ولوقوعه عن حجة الإسلام شرطان زائدان : البلوغ والحرية لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام ، وأيما عبد(2/216)
" صفحة رقم 217 "
حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام ) والمعنت فيه أن الحج عبادة عمر لا تتكرر فاعتبر وقوعها في حالة الكمال ، ولأن التكليف تابع للتمييز فشرط هذا الحكم إذن يعود إلى ثلاثة : الإسلام والتكليف والحرية .
ولو تكلف الفقير الحج وقع حجه عن الفرض كما لو تحمل الغني خطر الطريق وحج ، وكما لو تحمل المريض المشقة وحضر الجمعة .
ولوجوب حجة الإسلام شرط زائد على الثلاثة المذكورة آنفاً وهو الاستطاعة بالآية .
والاستطاعة نوعان : استطاعة مباشرته بنفسه واستطاعة تحصيله بغيره .
النوع الأول يتعلق به أمور أربعة : أحدها الراحلة والناس قسمان : أحدهما من بينه وبين مكة مسافة القصر فلا يلزمه الحج إلا إذا وجد راحلة سواء كان قادراً على المشي أو لم يكن لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) فسر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة .
نعم لو كان قادراً على المشي يستحب له أن لا يترك الحج .
وعند مالك القوي على المشي يلزمه الحج .
ويعتبر مع وجدان الراحلة وجدان المحمل أيضاً إن كان لا يستمسك على الراحلة ويلحقه مشقة شديدة .
ثم العادة جارية بركوب اثنين في المحمل .
فإن وجد مؤنة محمل أو شق محمل ووجد شريكاً يجلس في الجانب الآخر لزمه الحج ، وإن لم يجد الشريك فلا .
القسم الثاني من ليس بينه وبين مكة مسافة القصر .
فإن كان قوياً لزمه المشي لزمه الحج وإلا فلا يجب إلا مع الراجلة أو معها ومع المحمل كما في حق البعيد .
والمراد بوجود الراجحلة أن يقدر على تحصيلها ملكاً أو استئجاراً بثمن المثل أو بأجرة المثل وكذا في المحمل .
المتعلق الثاني : الزاد وأوعيته وما يحتاج إليه في السفر مدة ذهابه وإيابه سواء كان له أهل أو عشيرة يرجع إليهم أو لا فحب الوطن من الإيمان .
وكذا الراحلة للإياب وأجره البذرقة .
كل ذلك بعد قضاء جميع الديون ورد الودائع ونفقة من يلزمه نفقتهم حينئذٍ إلى العود ، وبعد مؤن النكاح إن خاف العنت ، وبعد مسكنه ودست ثوب يليق به وخادم يحتاج إليه لزمانته أو لمنصبه .
ولو كان له رأس مال يتجر فيه وينفق من ربحه ولو نقص لبطلت تجارته ، أو كان له متسغلات يرتفق منها نفقته ، فالأصح عند الأئمة أنه يكلف بيعها لأن واحد للزاد والراحلة في الحال ولا عبرة لخوف الفقر في الاستقبال .
المتعلق الثالث : الطريق ويشترط فيه غلبة ظن الأمن على النفس من نحو سبع وعدو ، والأمن على المال من عدو أو رصديّ وإن رضي بشيء يسير ، والأمن على البضع للمرأة بخروج زوج أو محرم أو نسوة ثقات .
وفي البحر يعتبر غلبة السلامة وفي البر وجود علف الدابة .
المتعلق الرابع : البدن ويشترط فيه أن يقوى على الاستمساك على الراحلة ، فإن ضعف عن ذلك لمرض أو غيره فهو غير مستطيع للمباشرة .
ولا بد للأعمى من قائد ، وعند أبي حنيفة لا حج عليه .
، يروى أنه يستنيب قال الأئمة : لا بد مع الشرائط من إمكان المسير وهو(2/217)
" صفحة رقم 218 "
أن يبقى من الزمان بعد الاستطاعة ما يمكنه المسير فيه إلى الحج به السير المعهود ، فإن احتاج إلى أن يقطع في يوم مرحلتين أو أكثر لم يلزمه الحج .
ولو خرجت الرفقة قبل الوقت الذي جرت عادة أهل بلده بالخروج فيه لم يلزمه الخروج معهم .
ووجوب الحج في العمر كالصلاة في وقتها ، فيجوز التراخي لكنه أن دامت الاستطاعة وتحقق الإمكان ولم يحج حتى مات عصى على الأظهر ون كان شاباً .
وقال أحمد ومالك وأبو حنيفة في رواية : إنه على الفور .
حجة الشافعي أن فريضة الحج نزلت سنة خمس من الهجرة وأخره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من غير مانع فإنه خرج إلى مكة سنة سبع لقضاء العمرة ولم يحج وفتح مكة سنة ثمان ، وبعث أبا بكر أميراً على الحاج سنة تسع وحج وهو سنة عشر وعاش بعدها ثمانين يوماً .
وأما النوع الثاني فهو استطاعة الاستنابة فإنها جائزة في الحج وإن كانت العبادات بعيدة عن الاستنابة ، لأن المحجوج عنه قد يكون عاجزاً عن المباشرة بسبب الموت أو الكبر أو زمانة أو مرض لا يرجى زواله .
وعن ابن عباس أن رجلاً جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( يا رسول الله ، إن أختي نذرت أن تحج وماتت قبل أن تحج ، أفأحج عنها ؟ فقال : لو كان علي أختك دين أكنت قاضية ؟ قال : نعم قال : فاقضوا حق الله تعالى فهو أحق بالقضاء ) وعنه أن امرأة من خثعم قالت : يا رسول الله إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال : نعم .
وقد تكون الاستنابة بطريق الاستئجار لأنه عمل يدخله النيابة فيجرى فيه الاستئجار كتفريق الزكاة .
وعند أبي حنيفة وأحمد لا يجوز ولكن يرزق عليه .
ولو استأجر كان ثواب النفقة للآمر وسقط عنه الخطاب بالحج ويقع الحج عن الحجاج .
والحج بالرزق أن يقول : حج عني وأعطيك نفقتك .
وهذا أيضاً جائز عند الشافعي كالإجارة .
ولكن لا يجوز أن يقول استأجرتك بالنفقة لأنها مجهولة .
والأجر لا بد أن تكون معلومة .
فهذا جملة الكلام في الاستطاعة عند الجمهور .
وعن الضحاك : إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع ، وقيل له في ذلك فقال : إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه بل كان ينطلق إليه ولو حبواً ، فكذلك يجب عليه الحج .
وفي ألآية أنواع من التوكيد والتغليظ منها قوله : ( ولله على الناس حج البيت ( أي حق واجب له عليهم لكونه إلهاً فيجب عليهم الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أم لم يعرفوا فإن كثيراً من أعمال الحج تعبد محض .
ومنها بناء الكلام على الأبدال ليكون تثنية للمراد(2/218)
" صفحة رقم 219 "
وتفصيلاً بعد الإجمال وإيراد للغرض في صورتين تقريراً له في الأذهان .
ومنه ذكر من كفر مكان من لم يحج وفيه من التغليظ ما فيه ولهذا قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً ) ونظيره قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر ) ومنها إظهار الغني وتهويل الخطب بذكر اسم الله دون أن يقول : ( فإنه ) أو ( فإني ) فإنه يدل على غاية السخط والخذلان .
ومنه وضع المظهر مقام المضمر حيث قال : ( عن العالمين ( ولم يقل ( عنه ) لأنه تعالى إذا كان غنياً عن كل العالمين فلأن يكون غنياً عن طاعة ذلك الواحد أولى .
ومن العلماء من زعم أن هذا الوعيد عام في حق كل من كفر ولا تعلق له بما قبله ، ومنهم من حمله على اعتقاد عدم وجوب الحج ويؤكده ما روي عن سعيد بن المسيب إنها نزلت في اليهود قالوا : إن الحج إلى مكة غير واجب .
وعن الضحاك : لما نزلت آية الحج جمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أهل الأديان الستة .
المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين - فخطبهم وقال : إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا .
فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس وقالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه .
فنزلت ) ومن كفر ( ومن الأحاديث الواردة في تأكيد أمر الحج قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة ) وروي ( حجوا قبل أن لا تحجوا قبل أن يمنع البر جانبه ) أي يتعذر عليكم الذهاب إلى مكة من جانب البر لعدم الأمن أو غيره .
وعن ابن مسعود : حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت أي هلكت .
وعن عمر : لو ترك الناس الحج عاماً واحداً ما نوظروا أي عجل عقوبتهم ويستأصلون .
ثم إنه سبحانه لاين أهل الكتاب في الخطاب فقال : ( قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ( التي دلتكم على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بعد ظهور البينات ودحوض الشبهات ، أو بعد معرفة فضيلة الكعبة ووجوب الحج ؟ ) والله شهيد على ما تعملون ( فيجازيكم عليه .
وهذه الحال توجب أن لا تجسروا على الكفر بآياته ودلالتها على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم وبخهم على إضلالهم فقال : ( لم تصدون عن سبيل الله من آمن ( قال المفسرون : وإنكار أن نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في كتابهم ، ومنع من أراد الدخول في الإسلام بجهدهم وكدهم ، أو بتذكير ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا لمثله .
ومحل ) تبغونها عوجاً ( أو اعوجاجاً نصب على الحال أو بدل وهو بكسر العين(2/219)
" صفحة رقم 220 "
الميل عن الاستواء في كل ما لا يرى كالدين والقول .
وأما الشيء الذي يرى فيقال فيه ( عوج ) بالفتح كالحائط والقناة ، ولهذا قال الزجاج : العوج بالكسر في المعاني وبالفتح في الأعيان .
وتبغون بمعنى تطلبون ويقتصر على مفعول واحد إذا لم يكن معها اللام مثل ( بغيت المال والأجر ) فإن أريد تعديته إلى مفعولين زيدت اللام .
وفالتقدير تبغون لها عوجاً كما تقول : صدتك ظبياً أي صدت لك ظبياً .
والضمير عائد إلى السبيل فإنها تذكر وتؤنث .
والمعنى إنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها زيفاً كقولكم : إن النسخ يدل على البداء وإن شريعة موسى باقية إلى الأبد وإن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ليس بذلك المنعوت في كتابنا أو المراد أنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم .
ويحتمل أن يكون ) عوجاً ( حالاً بمعنى ذا عوج .
وذلك أنهم كانوا يدعون أ ، هم على دين الله وسبيله فقيل لهم : إنكم تبغون سبيل الله ضالين ) وأنتم شهداء ( أنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلا ضال مضل قاله ابن عباس .
أو أنتم تشهدون ظهور المعجزات على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو أنتم شهداء بين أهل دنيكم عدول يصغون لأقوالكم ويستشهدونكم في عظائم الأمور يعني الأحبار .
وفيه أن من كان كذلك لا يليق بحاله الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال .
لا يخفى عليّ سيرتك ولست بغافل عنك .
وإنما ختم الآية الأولى بقوله : ( والله شهيد ( وهذه بقوله : ( وما الله بغافل ( لأن ذلك فيما أظهروه من الكفر بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهذا فيما أضمروه وهو الصد بالاحتيال وإلقاء الشبهة .
وفي تكرير الخطاب في الآيتين بقوله : ( يا أهل الكتاب ( توبيخ لهم على توبيخ بألطف الوجوه وألين المقال لعلهم يتفكرون فينصرفون عن سلوك سبيل الضلال والإضلال .
عن عكرمة ويروى عن زيد بن أسلم وجابر أيضاً أن شاس بن قيس اليهودي - وكان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين - مر على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال : ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار .
فأمر شاباً من اليهود أني جلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث ، وهو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج .
ففعل وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار .
فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين ، أوس بن قيظى أحد بني حارثة من الأوس ، وجبارين صخر أحد بني سلمة من الخزرج - فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئت والله رددتها الآن جذعة .
وغضب الفريقان وقالا : قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة(2/220)
" صفحة رقم 221 "
وهي الحرة .
فخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية واصطفوا للقتال فنزلت ) يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ( الآيات فجاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى قام بين الصفين فقرأها ورفع صوته ، فلما سمعوا صوته ( صلى الله عليه وسلم ) وأنصتوا له ( صلى الله عليه وسلم ) وجعلوا ستمعون ، فما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً وجثوا يبكون .
وفي رواية زيد بن أسلم : خرج إليهم رسول الله فيمن معه من المهاجرين فقال : يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً ؟ الله الله .
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سامعين مطيعين فأنزل الله عز وجل الآيات .
قال جابر بن عبد الله .
ما كان من طالع أكره إلينا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
فأومى إلينا بيده وكففنا وأصلح الله ما بيننا ، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
فما رأيت يوماً قط أقبح ولا أوحش أوّلاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم .
) وكيف تكفرون ( استفهام بطريق الإنكار والعجب .
والمعنى من أين يتطرق إلأيكم الكفر والحال أن آيات الله تتلى عليكم على لسان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في كل واقعة وبين أظهركم رسول الله يبين لكم كل شبهة ويزيح عنكم لكم علة ؟ ومع هذين النورين لا يبقى لظلمة الضلال عين ولا أثر ، فعليكم أن لا تلتفتوا إلى قوم المخالف وترجعوا فيما يعنّ لكم إلى الكتاب والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : قلت : أما الكتاب فإنه باق على وجه الدهر ، وأما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإن كان قد مضى إلى رحمة الله في الظاهر ، ولكن نور سره باق بين المؤمنين ، فكأنه باقٍ على أن عترته ( صلى الله عليه وسلم ) وورثته يقومون مقامه بحسب الظاهر أيضاً .
ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إني تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي ) وقال : ( إن العلماء ورثة الأنبياء ) اللَّهم اجعلنا من زمرتهم بعصمتك وهدايتك .
وفي هذا بشارة لهذه الأمة أنهم لا يضلون أبداً إلى يوم القيامة .
ثم بين أن الكل بعصمة الله وتوفيقه فقال : ( ومن يعتصم بالله ( يتمسك بدينه أو يلتجىء إليه في دفع شرور الكفار ) فقد هدي إلى صراط مستقيم ( والاعتصام الاستمساك بالشيء في منع نفسه من الوقوع في افة .
أما المتعزلة فحيث لم يجعلوا الاعتصام بخلق الله وهدايته بل قالوا : إنه بفعل(2/221)
" صفحة رقم 222 "
العبد ، تأوّلوا الآية بأن المراد بالهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الاعات ، أو المراد بالهداية إلى الجنة .
قال في الكشاف : ( فقد هدي ( أي فقد حصل له الهداية لا محالة كما تقول : إذا جئت فلاناً فقد أفلحت كأن الهدى قد حصل له ، فهو يخبر عنه حاصلاً .
ومعنى التوقع في ( قد ) ظاهر لأن المعتصم بالله .
متوقع للهدى ، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده .
( التأويل : ( لن تنالوا البر ( وهو صفة الله ) حتى تنفقوا ( أحب الأشياء إليكم وهو أنفسكم .
إن الفراش لم ينل من بر الشمع وهو شعلته حتى أنفق مما أحبه وهو نفسه ) كل الطعام كان حلاً ( الخلق ثلاثة أصناف : الملك النوراني العلوي وغذاؤه الذكر وخلق للعبادة ، والحيوان الظلماني السفلي وغذاؤه الطعام وخلق للخدمة ، والإنسان المركب من القبلين وغذاؤه لروحانيته الذكر ولجسمانيته الطعام وخلق للمعرفة والخلافة .
وهذا الصنف على ثلاثة أقسام : منهم ظالم لنفسه وهو الذي بالغ في غذاء جسمانيتهوقصر في غذاء روحانيته حتى مات روحه واستولت نفسه ) أولئك كالأنعام بل هم أضل ) [ الأعراف : 179 ] ومنهم مقتصد وهو الذي تساوي طرفاه ) خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ) [ التوبة : 102 ] ( ومنهم سابق بالخيرات ) [ فاطر : 32 ] وهو الذي بالغ في غذاء روحانيته وهو المذكور وفرط في غذاء جسمانيته حتى ماتت نفسه وقوي روحه ) أولئك هم خير البرية ) [ البينة : 7 ] فكان كل الطعام حلالاً للإنسان كما للحيوان إلا ما حرم الإنسان السابق بالخيرات على نفسه بموت النفس وحياة القلب واستيلاء الروح من قبل أن ينزل الوحي والإلهام كما قيل : المجاهدات تورث المشاهدات ) والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا ) [ العنكبوت : 69 ] فمن افترى على الله الكذب بأن يريد أن يهتدي إلى الحق من غير جهاد النفس ) قل صدق الله ( في قوله : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا ( ) فاتبعوا ملة إبراهيم ( وكان من ملته إنفاق المال على الضيفان ، وبذل الروح عند الامتحان ، وتسليم الولد للقربان ) وما كان من المشركين ( الذين يتخذون مع الله إلهاً آخر ) إن أول بيت وضع للناس ( لا لله لأنه غني عن العالمين وإن أنموذج بيت الله في الإنسان وهو العالم الصغير القلب الذي وضع ببكة صدر الإسلام مباركاً عليه وهدى يهتدي به جميع أجزاء وجوده إلى الله بجوده .
فإن النور الإلهي إذا وقع في القلب انفسح له واتسع ، فبه يسمع وبه يبصر وبه يعقل وبه ينطق وبه يبطش وبه يمشي وبه يتحرك وبه يسكن ) فيه آيات بينات ( يصل بها الطالب إلى مطلوبه والقاصد إلى مقصوده ، ومنها مقام إبراهيم وهو الخلة التي توصل الخليل إلى خليله ) ومن دخله ( يعني مقام إبراهيم ببذل المال والنفس والولد وإرضاء خليله ) كان آمناً ( من نار القطيعة ومن(2/222)
" صفحة رقم 223 "
عذاب الحجاب ، ثم أخبر عن وجوب زيارة بيت الخليل على الخليل إن استطاع إليه السبيل وذلك بأن وجد شرائط السلوك وإمكانه وآداب السير وأركانه .
ومنها الإحرام بالخروج عن الرسوم والعادات ، والتجرد عن الطيبات والمألوفات ، والتطهر عن الأخلاق المذمومات ، والتوجه إلى حضرة فاطر الأرض والسموات بخلوص النيات وصفاء الطويات ، ومنها الوقوف بعرفات المعرفة ، والعكوف على عتبة جبل الرحمة بصدق الالتجاء ، وحسن العهد والوفاء ، ومنها الطواف بالخروج عن الأطوار البشرية السبعية بالأطواف السبعة حول الكعبة الربوبية .
ومنها السعي بين صفا الصفات ومروة الذات .
ومنها الحلق بمحو آثار العبودية بموسى الأنوار الإلهية .
وفس سائر المناسك على هذا .
) ومن كفر ( بوجدان الحق ولا يتعرض لنفحات الألطاف ، ولا يترقب لحذبات الأعطاف التي توازي عمل الثقلين وهي الاستطاعة في الحقيقة ) فإن الله غني عن العالمين ( لا يستكمل هو منهم وإنما يستكملون هم منه ) قل يا أهل الكتاب ( ظاهر الخطاب معهم وباطنه مع علماء السوء الذين يبيعون دينهم بدنياهم ولا يعملون بما يعلمون فيضلون ويضلون ، وما العصمة عن اتباع الهوى إلا منه تعالى .
( آل عمران : ( 102 - 111 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون "
( القراآت )
حق تقاته ( بالإمالة : علي ) ولا تفرقوا ( بتشديد الراء : البزي وابن فليح .(2/223)
" صفحة رقم 224 "
الوقوف : ( مسلمون ( ه ) ولا تفرقوا ( ص لعطف المتفقتين ) إخواناً ( ج لاحتمال الواو وللحال والاستئناف ) منها ( ط ) يهتدون ( ه ) المنكر ( ط للعدول ) المفلحون ( ه ) البينات ( ط ) عظيم ( ه ( لا ) لتعلق الظرف بلهم على الأصح .
وقيل : مصنوب بإضمار ( اذكر ) ) وتسود وجوه ( ج ) اسودت وجوههم ( ( لا ) لأن التقدير : فيقال لهم : أكفرتم ؟ ) تكفرون ( ط ) الأمور ( ه ) وتؤمنون بالله ( ط ) خيراً لهم ( ط ) الفاسقون ( ه قيل : لا وقف عليه وعليه وقف لأن المعرف لا يتصف بالجملة ) إلا أذى ( ط و ) الأدبار ( وقفة لأن ( ثم ) لترتيب الإخبار أي ثم هم لا ينصرون ، ولو كان عطفاً لكان ثم لا ينصروا .
) لا ينصرون ( ه .
التفسير : إنه سبحانه لما حذر المؤمنين إضلال الكفار أمرهم في هذه الآيات بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات ، فأولها لزوم سيرة التقوى .
عن ابن عباس : لما نزلت ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ( وهو أن يطاع فلا يعصى طرفة عين ، وأن يشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى .
أو هو القيام بالمواجب كلها والاجتناب عن المحارم بأسرها ، وأن لا يأخذه في الله لومة لائم ، ويقول بالقسط ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين ، شق ذلك على المسلمين فنزلت ) فاتقوا الله ما استطعتم ) [ التغابن : 16 ] والجمهور على أنها منسوخة لأن معنى ) حق تقاته ( واجب تقواه وكما يحق أن يتقى وهو أن يجتنب جميع معاصيه ، ومثل هذا لا يجوز أن يسنخ وإلا كان إباحة لبعض المعاصي .
ولا يجوز أن يراد بقوله : ( حق تقاته ( ما لا يستطاع من التكاليف كالصادر على سبيل الخطأ والسهو والنسيان لقوله : ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) [ البقرة : 286 ] فعلى هذا لم يبق فرق بين الآيتين .
ولناصر القول الأول أن يقول : إن كنه الإلهية غير معلوم للخلق ، فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوماً فلا يحصل الخوف اللائق بذلك فلا يحصل حق الاتقاء ، وإذا كان كذلك فيجوز أن يؤمر بالاتقاء الأغلظ والأخف ، ثم ينسخ الأغلظ ويبقى الأخف ، ونزول هذه الآية بعد قوله : ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) [ البقرة : 286 ] ممنوع ) ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ( ليس نهياً عن الموت وإنما هو نهي عن أن يدركهم الموت على خلاف حال الإسلام وقد مر في البقرة مثله .
ثم إنه تعالى أمرهم بما هو كالأصل لجيمع الخيرات وإصلاح المعاش والمعاد وهو الاجتماع على التمسك بدين الله واتفاق الآراء على إعلاء كلمته فقال : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ( حال كونهم مجموعين .
وقولهم : اعتصمت بحبله يجوز أن يكون تمثيلاً لاستظهاره به ووثوقه بعناية باستمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه ،(2/224)
" صفحة رقم 225 "
لأن وجه الشبه وصف غير حقيقي ومنتزع من عدة أمور .
ويجوز أن يكون الحبل استعارة للعهد والاعتصام لوثوقه بالعهد بناء على أن في الكلام تشبيهين ، ويجوز أن تفرض الاستعارة في الحبل فقط ويكون الاعتصام ترشيحاً لها .
والحاصل أن طريق الحق دقيق والسائر عليه غير مأمون أن تزل قدمه عن الجادة ، فيراد بالحبل ههنا ما يتوصل به إلى الثبات على الحق وإن كانت عبارات المفسرين متخالفة .
فعن ابن عباس : هو العهد كما يجيء ) إلا بحبل من الله وحبل من الناس ) [ آل عمران : 112 ] وقيل : إن هالقرآن كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أما إنها ستكون فتنة .
قيل : فما المخرج منها ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين ( وروى ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( هذا القرآن حبل الله ( وعن أبي سعيد الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله حبل متين ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ( وقيل : إنه دين الله .
وقيل : إنه طاعة الله .
وقيل : إخلاص التوبة وقيل : الجماعة لقوله تعالى عقيب ذلك : ( ولا تفرقوا ( لأن الحق لا يكون إلا واحداً ، وما بعد الحق إلا الضلال .
ويد الله مع الجماعة .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد فقيل : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : الجماعة ( وروي ) السواد الأعظم ( وروي ) ما أنا عليه وأصحابي ( قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا تجتمع أمتي على الضلالة ( وقد يتمسك بالآية نفاة القياس قالوا : الأحكام الشرعية إن احتيج فيها إلى الدلائل اليقينية امتنع الاكتفاء فيها بالقياس ، وإن اقتصر فيها على الدلائل الظنية فالقول بجواز القياس لكل أحد يوجب التفرق والاختلاف وهو منهي عنه .
وأجيب بأن الدلائل الدالة على وجوب العمل بالقياس مخصصه لعموم قوله : ( ولا تفرقوا ( ثم إنه تعالى ذكرهم نعمته عليهم وذلك أنهم كانوا في الجاهلية بينهم إلا حن والبغضاء والحروب المتطاولة ، فألف الله بين قلوبهم ببكرة الإسلام فصاروا إخواناً في الله متراحمين متناصحين ، وذلك أن من كان وجهه إلى الدنيا فقلما يخلو من معاداة ومناقشة بسبب الأغراض الدنيوية ، أما العارف الناظر من الحق إلى الخلق فإنه يرى الكل اسيراً في قبضة القضاء فلا يعادي أحداً البتة لأنه مستبصر بسر الله في القدر .
فإذا أمر أمر برفق ناصح لا بعنف معير وكان حبه لحزب الله ونظرائه في الدين ورفقائه في طلب(2/225)
" صفحة رقم 226 "
اليقين أشد من حب الوالد لولده ، فكانوا كالأقربين والإخوان بل كجسد واحد وكنفس واحدة ، وقيل : يريد الإخوان في النسب .
وذلك أن الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم ، وكان بينهما العداوة والحروب ، وبقيا على ذلك مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام ، وألف بينهم برسول الله ، فذكر الله تعالى تلك النغمة .
وفيه دليل على أن المعاملات الحسنة الجارية فيما بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله تعالى حيث خلق فيهم تلك الداعية المستلزمة لحصول الفعل .
قال الكعبي : إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعونة والألطاف لا بخلق الفعل .
وأجيب بأن كل هذا كان حاصلاً قبل ذلك .
فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم .
هذا شرح النعم الدنيوية عليهم ، ثم ذكرهم النعم الأخروية بقوله : ( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ( وشفا الحفرة وشفتها حرفها بالتذكير والتأنيث ، ومنه يقال : أشفى على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه أي حده وطرفه .
وأنقذه واستنقذه خلصه ونجاه .
والضمير في ) منها ( للحفرة أو النار أو للشفاعء إما لأنه في معنى الشفة وإما لإضافته إلى الحفرة وهو بعضها وهو كقوله :
كما شرقت صدر القناة من الدم
قال بعضهم : الشفة أصغر من الشفا وكذلك الضلالة والضلال لذلك قال نوح عليه السلام : ( ليس بي ضلالة ) [ الأعراف : 61 ] حين قال له قومه ) إنا لنراك في ضلال مبين ) [ الأعراف : 60 ] أي ليس بي صغير من الضلال فكيف الكبير منه ؟ ومعنى الآية إنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم تشبيهاً لها بالحفر التي فيها النار وتمثيلاً بحياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها .
وفيه تنبيه على تحقير مدة الحياة وإن طالت كأنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء .
قالت المعتزلة : معنى الإنقاذ أنه تعالى لطف بهم بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وبسائر ألطفاه حتى آمنوا .
وقال أهل السنة : جميع الألطاف مشتركة بين المؤمن والكافر ، فلو كان فاعل الإيمان هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار ، لكن الآية دلت على أن الله تعالى هو المنقذ فعلم أن خالق أفعال العباد هو الله تعالى .
) كذلك ( مثل ذلك البيان البليغ ) يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ( إرادة أن تزدادوا هدى أو لتكونوا على رجاء هداية .
فالأول قول المعتزلة والثاني لأهل السنة ، وقد مر في أوائل سورة البقرة .
ثم رغب المؤمنين الكاملين في تكميل غيرهم فقال : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ( وهو جنس تحته نوعان : الترغيب في فعل ما(2/226)
" صفحة رقم 227 "
ينبغي من واجبات الشرع ومندوباته والكف عما لا ينبغي من محرماته ومكروهاته ، فلا جرم أتبعه النوعين زيادة في البيان فقال : ( ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ( واختلفوا في أن كلمة ( من ) في قوله : ( منكم ( للتبيين أو للتبيعض .
فذهب طائفة إلى أنها للتبيين لأنه ما من مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إما بيده أو بسلانه أو بقلبه ، وكيف لا وقد وصفهم الله تعالى بذك في قوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ( فهذا كقولك : لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر .
وتريد جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم .
ثم قالوا : إن ذلك وإن كان واجباً على الكل إلا أنه متى قام به بعض سقط عن الباقين كسائر فروض الكفايات .
وقال آخرون : إنها للتبعيض إما لأن في القوم من لا يقدر على الدعوة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنساء والمرضى والعاجزين ، وإما لأن هذا التكليف مختص بالعماء الذين يعرفون الخير ما هو والمعروف والمنكر ما هما ، ويعلمون كيف يرتب الأمر في إقامتهما ، وكيف يباشر فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر ، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر ، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة ، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تمادياً .
وأيضاً قد أجمعنا على أن ذلك واجب على الكفاية ، فكان هذا بالحقيقة إيجاباً على البعض الذي يقوم به .
ثم إن نصب لذلك رجل تعين عليه بحكم الولاية وهو المحتسب .
واعلم أن الأمر بالمعروف على ثلاثة أضرب : أحدها ما يتعلق بحقوق الله تعالى وهو نوعان : أحدهما ما يؤمر به الجمع دون الأفراد كإقامة الجمعة حيث تجتمع شرائطها ، فإن كانوا عدداً يرون انعقاد الجمعة بهم والمحتسب لا يراه فلا يأمرهم بما لا يجوّزه ولا ينهاهم عما يرونه فرضاً عليهم ويأمرهم بصلاة العيد .
والثاني ما يؤمر به الأفراد كما إذا أخر بعض الناس الصلاة عن الوقت .
فإن قال : نسيتها .
حثه على المراقبة .
ولا يعترض على من أخرها والوقت باق .
وثانيها ما يتعلق بحقوق الآدميين وينقسم إلى عام كالبلد إذا تعطل شربه أو انهدم سوره أو طرقه أبناء السبيل المحتاجون وتركوا معونتهم .
فإن كان في بيت المال مال لم يؤمر الناس بذلك ، وإن لم يكن أمر ذوو المكنة برعايتها والي خاص كمطل المديون الموسر بالدين .
فالمحتسب يأمره بالخروج عنه إذا استعداه رب الدين وليس له الحبس .
وثالثها الحقوق المشرتكة كأمر الأولياء بإنكاح الأكفاء ، وإلزام النساء أحكام العدد ، وأخذ السادة بحقوق الأرقاء ، وأرباب البهائم بتعهدها وأن لا يستعملون فيما لا تطيق ، ومن يغير هيئات العبادات كالجهر في الصلاة السرية وبالعكس ، أو يزيد في الأذان يمنعه وينكر عليه ،(2/227)
" صفحة رقم 228 "
من تصدى للتدريس والوعظ وهو ليس من أهله ولم يؤمن اغترار الناس به في تأويل أو تحريف ، فينكر المحتسب عليه ويظهر أمره لئلا يغتر به .
وإذا رأى رجلاً واقفاً مع امرأة في شارع يطرقه الناس لم ينكر عليه ، وإن كان في طريق خال فهو موضع ريبة فينكر ويقول : إن كانت ذات محرم فصنها عن مواضيع الريب ، وإن كانت أجنيبة فخف الله معها في الخلوة .
ولا ينكر في حقوق الآدميين كتعدي الجار في جدار الجار إلا باستعداء صاحب الحق ، وينكر على من يطيل الصلاة من أئمة المساجد المطروقة ، وعلى القضاة إذا حجبوا الصخوم وقصروا في النظر في الخصومات .
والسوقي المختص بمعاملة النساء يختبر أمانته فإن ظهرت منه خيانة منع من معاملتهن .
وبالجملة : ( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) فلينظر الداعي إلى الخير في حال كل مكلف وغير مكلف حتى الصبيان ، ليتمرنوا والمجانين كيلا يضروا ويدعوه إلى ما يليق به متدرجاً من الأسهل إلى الأصعب في الأمر والإنكار كل ذلك إيماناً واحتساباً لا سمعة ورياء ، ولا لغرض من الأغراض النفسانية والجسماانية ، وذلك أنّ هذه الدعوة منصب النبي وخلفائه الراشدين بعده ، ومن ههنا ذهب الضحاك إلى أن المراد من المذكورين في هذه الآية أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الذين يتعلمون من الرسول ويعلمون الناس .
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسول الله وخليفة كتابه ) وعن علي : أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن شنأ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وكفى بقوله تعالى : ( وأولئك هم المفلحون ( أي الأخصاء بالفالح مدحاً لهم .
وقد يتمسك بهذا في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف في أنها لم كشفت عن وجهها .
قال بعض العلماء : إن ترك ارتكاب المنهي عنه والنهي عن ارتكاب المنهي واجبان على الفاسق ، فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر ، وعن بعض السلف : مروا بالخير وإن لم تفعلوا .
وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول : لا أقول ما لا أفعل فقال : وأينا يفعل ما يقول ؟ ود الشيطان لو ظفر بهذه منكم فلا يأمر بأحد بمعروف ولا ينهي عن منكر .
والحق في هذه القضية ما قيل :(2/228)
" صفحة رقم 229 "
وغير تقيّ يأمر الناس بالتقى
طبيب يداوي الناس وهو مريض
والقرآن ينعي عليه بقوله : ( لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) [ الصف : 2 ، 3 ] ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) [ البقرة : 44 ] وقد سلف تقريره في البقرة .
وعن داود الطائي أنه سمع صوتاً من قبر : ألم أزكِ ألم أصلِ ألم أصم ألم أفعل كذا وكذا ؟ أجيب بلى يا عدو الله ولكن إنك إذا خلوت بارزته بالمعاصي ولم تراقبه .
قوله سبحانه : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا ( في النظم وجهان : أحدهما أ ، ه تعالى ذكر في لآيات المتقدمة أنه بين في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام ، ثم إن أهل الكتاب حسدوا محمداً فاحتالوا لإلقاء الشكوك في تلك النصوص ، ثم انجز الكلام إلى أنه أمر المؤمنين بالدعاء إلى الخير ، فختم الكلام بتحذير المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب من إلقائ الشبهات في النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة ، فعلى هذا تكون الآية من تتمة الآيات المتقدمة .
وثانيهما أنه لما أمر الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن ضده وكان ذلك مما لا يتم إلا بالقدرة على تنفيذه ، كيف وفي الناس ظلمة ومتغلبون ، فلا جرم حذر أهل الحق أن يتفرقوا ويختلفوا كيلا يصير ذلك سبباً لعجزهم عن القيام بهذا التكليف ، وعلى هذا تكون الآية من تتمة الآية السابقة فقط .
قال بعضهم : تفرقوا واختلفوا مؤداهما واحد والتكرير للتأكيد .
وقيل : معناهما مختلف .
تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين .
أو تفرقوا بسبب التأويلات الفاسدة للنصوص ، واختلفوا بأن صار كل منهم يدعي أنه على الحق وصاحبه على الباطل .
ولعل الإنصاف أن أكثر علماء الزمان بهذه الصفة فنسأل الله العصمة والسداد .
) وأولئك ( اليهود والنصارى الذين اختلفوا من بعد ما جاءهم الدلالات والواضحة والنصوص الظاهرة ، أو أولئك الذين اقتفوا آثارهم من مبتدعه هذه الأمة ) لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ( وفي تعليق الظرف بقوله ) لهم ( فائدتان : إحداهما أن ذلك العذاب في هذا اليوم ، والأخرى أن من حكم هذا اليوم أن يبيض بعض الوجوه ويسود بعضها ونظير ذلك في القرآن : ( وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة ) [ عبس : 38 - 41 ] وفي أمثال هذه الألوان للمفسرين قولان : أحدهما - وإليه ميل أبي مسلم - : أن البياض مجاز عن الفرح والسواد عن الغم وهذا مجاز مستعمل قال تعالى : ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودّاً ) [ النحل : 58 ] ولما سلم الحسن بن علي الأمر على معاوية قال له رجل : يا مسوّد وجوه المؤمنين .
وتمام الخبر سوف يجيء إن شاء الله في تفسير سورة القدر ، ولبعض الشعراء في الشيب :(2/229)