بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف: نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان - 1416 هـ - 1996 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 6
تحقيق : الشيخ زكريا عميران
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ](1/2)
" صفحة رقم 3 "
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الله الكريم أرغب في إبداع غرائب القرآن ، وبفضله العميم أتأهب لإيداع رغائب
الفرقان ، فإليه منتهى الأمل والسؤال ، وهذا حين أفتتح فأقول :
الحمد لله الذي جعلنا ممن شرح صدره للإسلام فهو على نور من ربه وجبلني ذا نفس
أبيه وهمة عليه لا تكاد تستأنس إلا بذكر حبه. أعاف سفساف الأمور ، وأخاف الموبقات
الموجبات للثبور. أميل عن زخرف الدنيا وزبرجها ، وأكبح النفس أن تحوم حول مخرجها
ومولجها .
هي النفس ما حملتها تتحمل
إن أرسلت استرسلت وإن قدعت انقدعت في الأول. ولله در السلف الشرر العيون إلى
الأماني الفارغة الفانية ، والأضيل المهية المنبية عن السعادات الباقية. تاقت قلوبهم إلى
الكرامات الدائمات واشتاقت أرواجهم إلى اللذات الحقيقات ، وتاهت ضمائرهم في بيداء
عظمة الملك والملكوت وتلاشت سرائرهم في دأماء ديمومية العزة والجبروت ، فخلصوا من
الناسوت ووصلوا إلى اللاهوت ، وفنوا بشهوده وبقوا بوجوده ورضى كل منهم بقضاء
معبوده ، فتجلت لهم الذات واتحدت عندهم المختلفات فطابت لهم الغدوات واعتدلت لهم
العشيات ، ولم تطمح أعينهم إلا إلى تحصيل ما يقرب إلى الله زلفى وما جرت ألسنتهم إلا
بذكر الحق طوبى لهم وبشرى. أسألك اللهم الاقتداء بأولئك ، والتوفيق لشكر ما أسبغت
علي من عطائك وأتممت من نعمائك ، وأعوذ بك أن أزل أو أضل فيما آتى وأذر ، وأن أركن
إلى الذين ظلموا فتمسني النار يوم العرض الأكبر. ثبت أقدام أقلامي على الصدق ، ولا
تقض أن ينطق فمي بكلام سوى الحق ، واجعلني بفضلك ممن لا ينظر إلا إليك ولا يرغب
إلا فيما لديك. بريتني من غير سابقة علمٍ مني ، وربيتني من غير حق يوجب ذلك عليك ،(1/3)
" صفحة رقم 4 "
فإن افتخرت فيما أنعمت علي وقد أمرت ) وأما بنعمة ربك فحدث ) [ الضحى : 11 ] ، وإن
استغفرت فمما أسرفت على نفسي وقد قلت ) ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله
يجد الله غفوراً رحيما ) [ النساء : 110 ] .
فيا من لا يوجد في جوده شوب غرض ولا علة ، شرفني في الآخرة بالعزة ، واحرسني
في دنياي من الذلة ، ولا تؤاخذني بالنقصان الإمكاني ولا تعاقبني بالنسيان الإنساني حتى
يكون لك الفضل في الآخرة والأولى ، والثناء في المبدأ والمحمدة في العقبى. أدعوك دعاء
البائس الفقير المستعين ، وأتضرع إليك تضرع الذليل المهين المستكين الماثل بين يدي
مولاه الآيس بالكلية عمن سواه ؛ فاسمع فإنك سميع الدعاء ؛ وأجب فإنك قادرٌ على ما
تشاء. والصلاة والسلام على عبيدك ، المخصوصين بتأييدك ، المنزهين عن الأدناس
الجسمية ، المطهرين عن الأرجاس النفسية ، الفائزين بأشراف مراتب الأنس ، الواصلين إلى
أعلى مدارج الأنس ، الضاربين في أرقى القدس ، ولا سيما المصطفى محمد الذي
أشرق في سماه النبوة بدراً ، وأشرف على بساط الرسالة صدراً ، سيد الثقلين وسند
الخافقين ، إمام المتقين ورسول رب العالمين الكائن نبيا وآدم بين الماء والطين ، المعفر له
جباه الأملاك ، المشرف بلولاك لما خلقت الأفلاك ، صلى الله عليه وعلى آله مفاتيح الجنة
وأصحابه مصابيح الدحنة وسلم تسليماً كثيراً .
وبعد ، فإن المفتقر إلى عفو ربه الكريم الحسن بن محمد القمي المشتهر بنظام
النيسابوري نظ الله أحواله في أولاه وأخره يقول : من المعلوم عند ذوي الأفهام أم كلام
الملوك ملوك الكلام ، وبقدر البون بين الواجب الذات والممكن الذات يوجد التفاوت بين
كلام الله تعالى وكلام المخلوقات. ولا سيما إذا وقع في معرض التحدي الذي يظهر النبي
هنالك من المتنبي ، وهذا شأن القرآن العظيم والفرقان الكريم الذي أخرس شقاشق
المناطق ، قضهم بقضيضهم ، وأوقر مسامع المصاقع فيما بين أوجهم رحضيضهم حتى
اختاروا المقارعة بالسيوف على المعارضة بالحروف ، والمقاتلة بالأسنة على المقاولة
بالألسنة ، والملاكمة باللهاذم على المكالمة باللهازم ، ومبارزة الأقران على الإتيان بأقصر
سورة من القرآن. قال الله تعالى : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا
القرآن لا يأتون بمثله ) [ الإسراء : 88 ] وقال تعالى : ( أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور
مثله مفتريات ) [ هود : 13 ] وقال تعالى : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا
بسورة من مثله ) [ البقرة : 23 ]. درج لهم الأمر فأوقع التحدي على القرآن جملة ثم على عشر
سورة ثم على سورة ، فاضطرهم التعجيز إلى إيثار الأصعب من الأسهل ؛ فتبين أن الأسهل(1/4)
" صفحة رقم 5 "
في النظر هو الأصعب في نفس الأمر ، وذلك من اذل دليل على حقية المنزل وصدق المنزل
عليه وكيف لا وفيه نبأ الأولين وخبر الآخرين وحكم ما بين الخلائق أجمعين ؟ قال في
وصفه : " هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمة الله ومن ابتغى الهدى في غيره
أضله الله ، هو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا
تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا
تنقضي عجائبه. هو الذي لم ينته الجن إذ سمعته حتى قالوا : إنا سمعنا قرىنا عجباً يهدي إلى
الرشد فآمنا به. من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن ناظر به فلج ،
ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم " .
ولقد انتصب جم غفير وجمع كثير من الصحابة والتابعين ثم من العلماء الراسخين
والفضلاء المحققين والأئمة المتقنين في كل عصر وحين ، للخوض في تيار بحاره والكشف
عن أستار أسراره والفحص عن غرائبه والاطلاع على رغائبه نقلا وعقلا وأخذا واجتهادا ،
فتباينت مطامح هماتهم ، وتباعدت مواقع نياتهم ، وتشعبت مسالك أقدامهم وتفننت مقاطر
أقلامهم ؛ فمن بين وجيز وأوجز ومطنب وملغز ، ومن مقتصر على حل الألفاظ ، ومن
ملاحظ مع ذلك حظ المعاني والبيان ونعم اللحاظ ، فشكر اله تعالى مساعيهم وصان عن
إزراء القادح معاليهم. ومنهم من أعرض عن التفسير وأقبل على التأويل ، وهو عندي ركون
إلى الأضاليل وسكون على شفا جرف الأباطيل إلا من عصمه الله وإنه لقليل ، ومنهم من
مرج البحرين وجمع بين الأمرين. فللراغب الطالب أن يأخذ العذب الفرات ويترك الملح
الأجاج ، ويلقط الدر ويسقط السبج والزجاج .
وإذ وفقني الله تعالى لتحريك القلم في أكثر الفنون المنقولة والمعقولة كما اشتهر
بحمد الله تعالى ومنه فيما بين أهل الزمان. وكان علم التفسير من العلوم بمنزلة الإنسان من
العين والعين من الإنسان. وكان قد رزقني الله تعالى من إبان الصبا وعنفوان الشباب حفظ
لفظ القرآن وفهم معنى الفرقان.
وطالما طالبني بعض أجلة الإخوان وأعزة الأخدان ممن
كنت مشاراً إليه عندهم بالبنان في البيان - والله المنان يجاريهم عن حسن ظنونهم ويوفقنا
لإسعاف سؤلهم وإنجاح مطلوبهم - أن أجمع كتاباً في علم التفسير مشتملاً على المهمات
مبنياً على ما وقع إلينا من نقل الأثبات وأقوال الثقات ، من الصحابة والتابعين ثم من العلماء
الراسخين والفضلاء المحققين المتقدمين والمتأخرين - جعل الله تعالى سعيهم مشكوراً
وعلمهم مبرورا - فاستعنت بالمعبود وشرعت في المقصود ، معترفا بالعجز والقصور في هذا(1/5)
" صفحة رقم 6 "
الفن وفي سائر الفنون ، لا كمن هو بابنه وبشعره مفتون. كيف وقد قال عز من قائل ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) [ الإسراء : 85 ] ، ( ومن أصدق من الله قليلا ) [ النساء : 122 ]
) وكفى بالله وليا ) [ النساء 45 ] ( وكفى بالله وكيلا ) [ النساء : 81 ، 132 ، 171 ؛ والأحزب
3 ، 48 ]
ولما كان التفسير الكبير المنسوب إلى الإمام الأفضل والهمام الأمثل ، الحبر النحرير والبحر الغزير ، الجامع بين المعقول والمنقول الفائز بالفروع والأصول ، أفضل
المتأخرين فخر الملة والحق والدين محمد بن عمر بن الحسين الخطيب الرازي تغمده الله
برضوانه وأسكنه بحبوحة جنانه ، اسمه مطابق لمسماه وفيه من اللطائف والبحوث ما لا يحصى ، ومن الزوائد والغثوث ما لا يخفي ، فإنه قد بذل مجهوده ونثل موجودة حتى عسر كتبه على الطالبين وأعوز تحصيله على الراغبين ، فحاذيت سياق مرامه ، وأوردت حاصل كلامه ، وقربت مسالك أقدامه ، والتقطت عقود نظامه ، من غير إخلال بشيء من الفرائد أو إهمال لما يعد من اللطائف والفوائد ، وضممت إليه ما وجدت في الكشاف وفي سائر
التفاسير من اللطائف المهمات ، أو رزقني الله تعالى من البضاعة المزجاة ، وأثبت القراآت المعتبرات والوقوف المعللات ، ثم التفسير المشتمل على المباحث اللفظيات والمعنويات ، مع إصلاح ما يجب إصلاحه وإتمام ما ينبغي إتمامه من المسائل الموردة في التفسير الكبير
والاعتراضات ، ومع حل ما يوجد في الكشاف من المواضع المعضلات سوى الأبيات
المعقدات ، فإن ذلك يوردها من ظن أن تصحيح القراآت وغرائب القرآن إنما يكون بالأمثال والمستشهدات ؛ كلا ، فإن القرآن حجة على غيره وليس غيره حجة عليه ، فلا علينا أن نقتصر في غرائب القرآن على تفسيرها بالألفاظ المشتهرات وعلى إيراد بعض المتجانسات التي
تعرف منها أصول الاشتقاقات. وذكرت طرفا من الإشارات المقنعات والتأويلات الممكنات
والحكايات المبكيات والمواعظ الرادعة عن المنهيات الباعثة على أداء الواجبات ، والتزمت إيراد لفظ القرآن الكريم أولا مع ترجمته على وجه بديع وطريق منيع مشتمل على إبراز المقدرات وإظهار المضمرات وتأويل المتشابهات وتصريح الكنايات وتحقيق المجازات والاستعارات ؛ فإن هذا النوع من الترجمة مما تسكيب فيه العبرات وترن المترجمون
هنالك إلى العثرات ، وقلما يفطن له الناشيء الواقف على متن اللغة العربية فضلا عن(1/6)
" صفحة رقم 7 "
الدخيل القاصر في العلوم الأدبية. واجتهدت كل الاجتهاد في تسهيل سبيل الرشاد ،
ووضعت الجميع على طرف التمام ليكون الكتاب كالبدر في التمام وكالشمس في إفادة
الخاص والعام ، من غير تطويل يورث الملام ولا تقصير يوعر مسالك السالك ويبدد نظام
الكلام ، فخير الكلام ما قل ودل وحسبك من الزاد ما بلغك المحل. والتكلان في الجميع
على الرحمن المستعان والتوفيق مسؤول ممن بيده مفاتيح الفضل والإحسان وخزائن البر
والامتنان. وهذا أوان الشروع ف يتفسير القرآن ، ولنقدم أمام ذلك مقدمات .(1/7)
" صفحة رقم 8 "
المقدمة الأولى في فضل القراءة والقارئ ، وآداب القراءة
وجواز اختلاف القراآت ، وذكر القراء المشهورين المعتبرين
عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين قال : قال رسول الله : " من قرأ القرآن
فاستظهره وأحل حلاله وحرم حرامه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد
وجبت له النار " وعنه : أن النبي قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه ". وعن ابن
عباس رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : " الحال
المرتحل " ، قال : وما االحال المرتحل ؟ قال : " يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل
ارتحل ". وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : " الماهر
في القرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق ، له
أجران " وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : " ما اجتمع قوم في بيت ن
بيوت الله تبارك وتعالى يتلون كتاب الله عز وجل ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة
وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ". وعن سهل بن معاذ الجهني
أن رسول الله قال : " من قرأ القرآن وعمل به ألبس والداه تاجاً يوم القيامة ضوءه أحسن من(1/8)
" صفحة رقم 9 "
ضوء الشمس في بيوت الدنيا وكانت فيكم ، فما ظنكم بالذي عمل بهذا ؟ " وفي
الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله قال : " إنما مثل صاحب القرآن مثل صاحب الإبل
المعقلة إن عاهد عليها أمسكها ، وإن أطلقها ذهبت " وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال : قال رسول الله : " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن ". وعن عبد الله بن
عمرو بن العاص أن رسول الله قال : " يقال لصاحب القرآن أقرأ وراق ورتل كما كنت ترتل
في الدنيا ، فإن منزلك عند آخر آية تقرأ ". وفي الصحاح كلها عن عمرو بن الخطاب
رضي الله عنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة
رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله
فكدت أساوره في الصلاة ، فتربصت حتى سلم فلبته بردائه فقلت : " من أقرأك هذه السورة
التي سمعتك تقرؤها ؟ قال : أقرأنيها رسول الله. فقلت : " من أقرأك هذه السورة
فكدت أساوره في الصلاة ، فتربصت حتى سلم فلبته بردائه فقلت : " من أقرأك هذه السورة
التي سمعتك تقرؤها ؟ قال : أقرأنيها رسول الله. فقلت : كذبت ، فإن رسول الله
أقرأنيها على غير ما قرأت. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله. فقلت : يا رسول الله إني
سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها. فقال رسول الله : " أرسله اقرأ يا
هشام " فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله : " هكذا أنزلت ". ثم قال
النبي " اقرأ يا عمر " فقرأت القراءة التي أقرأني ، فقال رسول الله : " هكذا أنزلت ، إن
القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه " .
إذا تقرر ذلك فنحن نذكر في الكتاب من القراآت السبع المنسوبة إلى القراء السبعة ،
والأربع المنسوبة إلى الأئمة المختارين ، ونرى أن نفصل ههنا أساميهم وأسامي رواتهم
ليتعين ما نسب في أثناء التفسير إلى كل منهم والله ولي التوفيق .
ذكر القراء السبعة وتسمية نقلتهم من الرواة وطرقهم من الثقات :
1 - أبو عمرو زبان بن العلاء البصري. روى عن مجاهد بن جبر ، وسعيد بن جبير عن
ابن عباس ، عن أبي بن كعب عن رسول الله ، ومات سنة أربع وخمسين ومائة. ورواته
ثلاثة : أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي ، روى عنه أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز
الدوري طريق أبو الزعراء ، عبد الرحمن بن عبدوس ، وأبو الفتح عامر بن صالح الموصلي(1/9)
" صفحة رقم 10 "
المعروف بأوقية طريق أبي قبيصة حاتم بن إسحاق الموصلي ، وأبو شعيب صالح بن زياد
السوسي طريق أبي الحراث محمد بن أحمد الرقي ، وأبو إسحق إبراهيم بن حماد طريق أبي
عيسى موسى بن عبد الله الهاشمي. وأبو نعيم شجاع بن أبي نصر الخراساني ، روى عنه أبو
جعفر محمد بن غالب طريق أبي علي الحسن بن الحسين الصواف. وعباس بن فضل
الأنصاري ، روى عنه أبو عمرو محمد بن رومي طريق أبي إسحاق إبراهيم بن كعب الموصلي
وطريق شباب بن خليفة ، وهو الأصح ، وطريق أبي إسحاق أيضاً عن أوقية .
2 - ابن كثير هو أبو محمد عبد الله بن كثير المكي. روى عن مجاهد بن جبر عن ابن
عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله ، وتوفي سنة عشرين ومائة ، ورواته أربعة : أبو
الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة البزي ، وبينه وبين ابن كثير
رجال لأنه يروي عن عكرمة بن سليمان بن كثير عن شبل بن عباد ، وإسماعيل بن عبد الله بن
قسطنطين عن ابن كثير. وروى عن البزي أبو ربيعة محمد بن إسحاق بن أعين الربعي طريق الزينبي -
وهو الهاشمي - وطريق أبي بكر محمد بن الحسن المعروف بالنقاش الموصلي ، وأبو محمد
إسحاق بن أحمد الخزاعي المكي طريق ابن شنبوذ وطريق الهاشمي وطريق أبي بكر أحمد بن
محمد الطوابيقي وطريق أبي القاسم السرنديبي وطريق أبي الحسن علي بن زوابة القزاز
وطريق أبي بكر محمد بن عيسى بن بندار الجصاص ، وأبو علي الحسين بن محمد الحداد طريق
الهاشمي عن البزي. عبد الله بن فليح عن رجاله عن ابن كثير ، ورجاله : محمد بن سبعون ،
وداود بن شبل عن إسماعيل بن عبد الله عن ابن كثير. وروى عن ابن فليج أبو علي الحداد
طريق النقاش وطريق الهاشمي وطريق الخزاعي وطريق ابن شنبوذ. أبو الحسن أحمد بن
محمد بن عون القواس ، وبينه وبين ابن كثير أيضاً رجال ، لأنه يروى عن أبي الأخريط
وهب بن واضح عن إسماعيل بن عبد الله عن عبد الله بن عامر الأموي ومعروف بن مشكان ،
وشبل بن عباد عن ابن كثير طريق عبد الله بن سعودة وطريق شعيب بن مرة .
3 - نافع بن أبي نعيم المدني ، قرأ على أبي جعفر القاري وعلى سبعين من التابعين
على ابن عباس وأبي هريرة على أبي بن كعب على النبي ، وتوفي سنة تسع وستين
ومائة ، ورواته ثلاثة : إسماعيل بن جعفر بن كثير الأنصاري ، روى عنه أبو الزعراء وأبو بكر(1/10)
" صفحة رقم 11 "
الحسن بن علي بن بشار النحوي ، وأبو جعفر أحمد بن فرج الضرير. ورش ، اسمه
عثمان بن سعيد المصري ، روى عنه محمد بن عبد الرحيم الأصفهاني طريق أبي الحسن
محمد بن أحمد المروزي وطريق أبي القاسم هبة الله بن جعفر بن محمد بن الهيثم ، وأبو
عبد الله محمد بن إسحاق البخاري طريق أبي بكر أحمد بن حماد المقري ، وأبو إبراهيم مصعب بن
إبراهيم الزهري طريق أبي بكر محمد بن عبد الله بن فليح ، وأبو نشيط محمد بن هارون
المروزي طريق أبي حسان محمد بن أحمد بن الأشعث الجيزي ، وأبو الحسن أحمد بن يزيد
الحلواني طريق الحسن بن العباس الرازي وطريق أبي عون القاضي .
4 - عبد الله بن عامر اليحصبي الشامي ، قرأ على المغيرة بن أبي شهاب المخزمي
على عثمان بن عفان رضي الله عنه على رسول الله ، وتوفي رضي الله عنه سنة ثمان
عشرة ومائة وله راويان. روى عنه من رجاله أبو محمد عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان
الدمشقي ، ورجاله أيوب بن تميم عن يحيى بن الحرث عن ابن عامر ، روى عنه أحمد بن
موسى بن العباس بن مجاهد طريق الحسن بن عبد الله المقري ، وأبو بكر محمد بن الحسن
النقاش الموصلي المفسر طريق االحسن بن عبد الله أيضاً ، وأبو الحسن محمد بن النضر بن
مر بن الحر الربعي المعروف بابن الأخرم عن الأخفش عن ابن ذكوان. هشام بن عمار عن
رجاله عن ابن عامر ، ورجاله أيوب بن تميم وسويد بن عبد العزيز عن يحيى بن الحرث ،
روى عنه البخاري عن الحلواني عن هشام طريق أبي عبد الله الحسين بن علي بن حماد الأزرق ،
وأبو إسحق إبراهيم بن يونس الرازي طريق البخاري .
5 - عاصم نب بهدلة الأسدي ، قرأ عاصم على زر بن حبيش على عبد الله بن مسعود
على رسول الله. وقرأ أيضاً على أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي معلم الحسن
والحسين. على علي رضي الله عنه على رسول الله. وتوفي سنة ثمان وعشرين ومائة
ورواته أربعة : أبو عمر حفص ابن داود سليمان بن المغيرة البزاز الأسدي وكان شريك
أبي حنيفة. روى عنه أبو محمد هبيرة بن محمد التمار طريق الحسنون بن الهيثم طريق
أحمد بن علي الخراز وأبو حفص عمرو بن الصباح عبد الصمد بن محمد. أبو بكر
شعبة بن عياش ؛ روى عنه عبد الحميد بن صالح البرجمي طريق جعفر بن غالب اليشكري ،
وأبو زكريا يحيى بن آدم القرشي طريق أبي حمدون الطيب بن إسماعيل وطريق شعيب بن(1/11)
" صفحة رقم 12 "
أيوب بن زرق الصريفيني ، وأبو يوسف يعقوب بن خليفة بن سعد بن هلال الأعشى وله
راويان ، روى عنه أبو جعفر محمد بن غالب ومحمد بن حبيب الشموني. حماد بن أبي زياد
طريق يحيى بن محمد العليمي الأنصاري رحمه الله تعالى. المفضل بن محمد الضبّي ؛ روى
عنه جبلة بن مالك النضري طريق أبي زيد عمرو بن شيبة ، أبو زيد سعيد بن أوس
الأنصاري طريق محمد بن يحيى القطفي رحمه الله تعالى .
6 - حمزة بن حبيب الزيات العجلي : قرأ على سليمان بن مهران الأعمش على
يحيى بن وثاب على زر بن حبيش على علي بن أبي طالب وعثمان وابن مسعود على
النبي ، وتوفي سنة ست وخمسين ومائة ، ورواته أربعة : أبو إسحق إبراهيم بن زربي
طريق أبي المستنير رجاء بن عيسى بن رجاء الجوهري. عبد الرحمن قلوقا طريق أبي
المستنير أيضاً. أبو محمد عبد الله بن صالح العجلي طريق أبي حمدون الطيب بن إسماعيل
وطريق أبي إسحاق إبراهيم بن نصر بن عبد العزيز المقري ويروى نصير بن عبد الله المقري
وهو الأصح. سليم بن عيسى الحنفي ، روى عنه خلاد بن خالد الصيرفي طريق محمد بن
شاذان الجوهري وطريق القاسم بن يزيد الوزان ، وأبو محمد خلف بن هشام البزاز طريق أبي
الحسين إدريس بن عبد الكريم الحداد ، وأبو جعفر محمد بن سعدان النحوي طريق
محمد بن سليمان وطريق أبي واصل أحمد بن واصل ، وأبو عمرو الدوري طريق أبي
الزعراء .
7 - علي بن حمزة الكسائي : قرأ على حمزة بن حبيب على يحيى بن وثاب على
زر بن حبيش على عثمان وعلي وابن مسعود على النبي ، توفي سنة تسع وثمانين ومائة
رضي الله عنه وله ستة رواة : أبو عبد الرحمن قتيبة بن مهران الآزاذاني ، روى عنه أبو الفرج
محمد بن أحمد بن إبراهيم المقرئ طريق أبي الفضل العباس بن الوليد بن مرداس ، وأبو
بكر أحمد بن الحسين بن مهران طريق أحمد بن حدي. أبو المنذر نصر بن يوسف النحوي ؛
روى عنه محمد بن إدريس الأشعري المعروف بالديداني طريق أبي عبد لله الحسين بن
علي بن حماد المعروف بالأزرق ؛ وأبو عبد الله محمد بن عيسى الأصفهاني طريق بكار بن
أحمد المقري ، وأبو جعفر علي بن أبي نصير النحوي طريق الأزرق المذكور. أبو الحرث
الليث بن خالد طريق أبي عبد لله محمد بن يحيى الكسائي. حمدويه بن ميمون الزجاج
طريق أبي العباس أحمد بن يعقوب السمسار. أبو حمدون الطيب بن إسماعيل طريق أبي
علي الحسن بن الحسين الصواف. أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز الدوري ؛ روى عنه(1/12)
" صفحة رقم 13 "
أبو بكر الحسن بن علي بن بشار النحوي طريق أبي الفرج محمد بن أحمد بن إبراهيم ،
وأبو الزعراء طريق أبي بكر بن مجاهد ، وأبو الحسن علي بن سليم طريق أبي القاسم هبة
الله بن جعفر ، وطريق إبراهيم بن أحمد الخرقي ، وأبو جعفر أحمد بن فرح الضرير طريق أبي
بكر النقاش الموصلي .
ذكر الأئمة المختارين وتسمية رواتهم :
أبو جعفر يزيد بن القعقاع القاري المدني ، وقال موضع من المدينة ، ورواته اثنان : أبو
موسى عيسى بن وردان الحذاء طريق قالون عيسى بن مينا النحوي ، وأبو مسلم سليمان بن
مسلم الجماز الزهري طريق أبي عبد الرحمن قتيبة بن مهران. أبو محمد يعقوب بن إسحاق
الحضرمي توفي في ذي الحجة سنة خمس ومائتين ، وقرأ على أبي المنذر سلام بن سليمان
الطويل على عاصم وأبي عمر ، ورواته ثلاثة : روح بن عبد الملك طريق أحمد بن يحيى
المعدل ، أبو بكر محمد بن المتوكل اللؤلؤي الملقب برويس طريق أبي بكر محمد بن هارون
وطريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مقسم الفقيه ، أبو أحمد زيد بن أحمد بن
إسحق طريق المعدل أيضاً وطريق محمد بن هارون. أبو محمد خلف بن هشام بن ثعلب
البزار طريق أبي الحسن إدريس بن عبد الكريم ، ونقله أبو بكر محمد بن يعقوب بن مقسم
العطار ، وقرأ خلف على سليم على حمزة. أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني
طريق أبي علين الحسن بن تميم وطريق أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد وطريق مسيح بن
حاتم ، وقرأ سهل على يعقوب وأيوب بن المتوكل .
فهذا هو المعول عليه من القراآت وأما الشواذ فلا نتعرض منها إلا لما فيه نكتة أو
غرابة وذلك في أثناء التفسير لا في خلال القراآت. والله أعلم بالصواب .(1/13)
" صفحة رقم 14 "
المقدمة الثانية فى الاستعاذة
الاستعاذة المندوب إليها في قوله عز من قائل : ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من
الشيطان الرجيم ) [ النحل : 98 ] قرأها أبو عمرو ويعقوب وابن كثير غير الهاشمي وعاصم غير
هبيرة : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم " ، وروى الهاشمي عن ابن
كثير : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم " ، وروى هبيرة عن
حفص عن عاصم : " أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم " ، وقرأها أبو جعفر ونافع وابن عامر وحمزة وعلي الكسائي وخلف : " أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم " . وقد يروى عن حمزة : أستعيذ بالله " أو " نستعيذ
بالله " مخيِّراً. وقرأ سهل : " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن
الرحيم " . ومنشأ هذه الاختلافات أنه قد جاء في سورة النحل ) فإذا قرأت القرآن فاستعذ (
[ النحل : 98 ] الآية وفي حم السجدة ) فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ) [ فصلت : 36 ]
وروى جبير بن مطعم أن النبي حين افتتح الصلاة قال : " الله أكبر كبيراً - ثلاث مرات -
والحمد لله كثيراً - ثلاث مرات - وسبحان الله بكرة وأصيلاً - ثلاث مرات - " ثم قال : " أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه " . وروى البيهقي في كتاب السنن عن أبي
سعيد الخدري أنه قال : كان رسول الله إذا قام من الليل كبر ثلاثا وقال : " أعوذ بالله
السميع العليم من الشيطان الرجيم " . وروى الضحاك عن ابن عباس أن أول ما نزل جبريل
على محمد قال : قل يا محمد أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. ثم قال :
قل بسم الله الرحيم الرحيم ، أقرأ باسم ربك الذي خلق. ثم في المقدمة مسائل :
الأولى : الأكثرون على أن وقت الاستعاذة قبيل القراءة ، إذ المراد من قوله تعالى : ( فإذا
قرأت القرآن ) [ النحل : 98 ] : إذا أردت قراءة القرآن كما في قوله تعالى : ( إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا ) [ المائدة : 6 ] المراد : إذا أردتم القيام إلى الصلاة. والأخبار المذكورة أيضاً تؤيد
ذلك. وعن النخعي وقد يروى عن حمزة وابن سيرين أيضاً ، أن وقتها بعيد القرءاة نظراً إلى(1/14)
" صفحة رقم 15 "
ظاهر اللفظ ، ولأنه قد يدخل المرء إعجاب بسبب القراءة حيث إنها طاعة موجبة للثواب
فيناسب أن يستعيذ من ذلك .
الثانية : الأكثرون على أن الاستعاذة مندوبة ، لأن النبي لم يعلم الأعرابي الاستعاذة
في جملة أعمال الصلاة ، وزيف بأن الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة ، فلا
يلزم من عدم ذكر الاستعاذة فيه عدم وجوبها. وعن عطاء أن الاستعاذة واجبة في كل قراءة
في الصلاة وغيرها ، لأن النبي واظب عليها. وقال تعالى : ( فاتبعوه ) [ الأنعام : 153
و 155 ] ولأن الأمر في " فاستعذ " للوجوب. وإنما تجب عند كل قراءة لأنه قال : ( فإذا
قرآت القرآن فاستعذ ( وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على التعليل ، والحكم
يتكرر بتكرر العلة. ولأن الاستعاذة لدفع شر الشيطان ، ودفعه واجب ، وما لا يتم الواجب
إلا به فهو واجب. وعن ابن سيرين وجوبها في العمر مرة واحدة وعن مالك أنه لا يتعوذ في
المكتوبة إلا في قيام رمضان .
الثالثة : المستحب فيها الأسرار في الصلاة وإن كانت جهرية إلحاقاً لها بما قبلها من
الذكر وهو دعاء الاستفتاح ، ولأن الجهر كيفية وجودية ، والإخفاء عبارة عن عدم تلك
الكيفية والأصل هو العدم ، وأنها تستحب في كل ركعة لما مر من أن الحكم يتكرر بتكرر
العلة يكنها آكد في الأولى .
الرابعة : اعلم أن الكلام في معنى قول القائل : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ، يتعلق
بخمسة أركان : الاستعاذة ، والمستعيذ ، والمستعاذ له ، والمستعاذ منه ، وما لأجله
الاستعاذة. فههنا أبحاث :
البحث الأول : معنى العوذ الالتجاء أو الالتصاق. قال الجوهري : أطيب اللحم عوذه
وهو ما التصق منه بالعظم. أي التجئ إلى رحمة الله ، أو التصديق بفضله. والباء في " بالله "
للإلصاق ، كما أن " من " في " من الشيطان " للابتداء ، لأنه ابتدأ بالتبري من الشيطان والتصق
برحمة الله تعالى وإعانته. واستعاذة لا تتم إلا بأن يعلم العبد كونه عاجزاً عن جلب المنافع
الدينية والدنيوية ودفع المضارّ العاجلة والآجلة ، وأن الله تعالى قادر على إيصال المنافع(1/15)
" صفحة رقم 16 "
ودفع المضار لا قدرة على ذلك لأحد سواه تعالى. ويتولد عن هذا العلم في القلب حالة هي
انكسار وخضوع ، ويحصل منها في القلب أن يصير العبد مريداً لأن يصونه الله تعالى عن
الآفات ويفيض عليه الخيرات ، ثم يصير بلسانه طالباً لذلك فيقول : " أعوذ بالله " . فالركن
الأعظم في الاستعاذة هو أن يعلم العبد أن الله تعالى عالم بكل المعلومات ، وإلا جاز أن لا
يعلم حاله فتقع الاستعاذة عبثاً ؛ وأن يعلم أنه قادر على جميع الممكنات ، وإلا فربما كان
عاجزا عن تحصيل مراد العبد ؛ وأن يعلم أنه جواد معطاء ، وإلا لجاز أن يبخل بمقصوده ؛
وأن يعلم أنه لا يقدر أحد سوى الله على تحصيل مرامه ، وإلا لم يكن صادق الرغبة في
الاستعاذة به. والحاصل أن العبد ما لم يعرف عزة الربوبية وذلة العبودية لم تصح منه
الاستعاذة. ومما يدل على ذلة الإنسان وعجزه أن بعض الأكياس ربما يبقى في شبهة واحدة
طول عمره ولا تنكشف له إلى أن يجيء بعده من يحلها. ولهذا وقع الاختلاف في الأديان
والمذاهب ، ولولا إعانة الله تعالى وإرشاده لم تتخلص سفينة فكره من أمواج الضلالات .
وأيضاً كل واحد يريد أن يحصل له الدين الحق ولا يرضى لنفسه الجهل والكفر ، ولكم من
مضل مبطل في الدنيا ، فلا خلاص من ظلمات الشبهات إلا بإعانة رب الأرض والسموات
ولا يقع الحد الأوسط للمطالب في الذهن إلا بهداية من بيده مفاتيح الخيرات. وأيضاً البدن
يشبه الجحيم وعليها تسعة عشرة من الزبانية وهي : الحواس الخمس الظاهرة ، والخمس
الباطنة ، والقوى الطبيعية السبع ، والشهوة ، والغضب ؛ ومجال تصرف كل منها غير متناه
بحسب الشخص والعدد ، ويحصل من كل منها أثر في القلب يجره من أوج عالم
الروحانيات إلى حضيض الجسمانيات فلا خلاص للقلب عن هذه الظلمات إلا بنور الله
تعالى. وأيضاً كما أنه لا نهاية لها فكذا لا يمكن
إزالة مرض الحرص على اللذات فيجب الرجوع إلى واهب السعادات الحقيقيات. وفي
بعض الكتب الإلهية قال الله تعالى : " وعزتي وجلالي لأقطعن أمل من يؤمل غيري بالبأس ،
وألبسنه ثوب المذلة عند الناس ، ولأجنبنه من قربي ، ولأبعدنه من وصلي ، ولأجعلنه متفكرا
حيران يؤمل غيري في الشدائد بيدي وأنا الحي القيوم ، ويطرق بالفكر أبواب
غيري وبيدي مفاتيح الأبواب ، وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعائي .
ثم الكلام في صحة الاستعاذة كالكلام في سائر الأدعية والعبادات التي جعلها الله تعالى
سبباً وواسطة لحصول الكمالات العاجلة والآجلة للعبد. وذلك أنه تعالى : ( فعال لما يريد (
[ هود : 107 ] خالق لما يشاء كما يشاء لا اعتراض لأحد من خلقه عليه وعلى أفعاله وعلى(1/16)
" صفحة رقم 17 "
النظام الذي اخترعه ، الكل منه وبه ، وإليه يرجع الأمر كله فاعبدوه وتوكل عليه ، إذا أمرك
بالاستعاذة فاستعذ ، لأنه جعلها سبباً لدفع الوساوس والهواجس. كما أنه إذا جعل الأكل
والشرب سبباً لدفع الجوع والعطش فإنك تأكل وتشرب ولا تقول ما الفائدة في الأكل
والشرب إن كان الإشباع والإرواء من الله تعالى وإن كانا بقدرة الله تعالى. وبهذا التحقيق
تسقط الاعتراضات المشهورة للجبرية والمعتزلة لأنها تحوم حول ما أشرنا إليه. ولا ينبئك
على سر الاستعاذة مثل قوله : " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من
عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " .
البحث الثاني : المستعيذ ليس شخصا معيناً بل كل مخلوق مفتقر إلى الاستعاذة به .
ولهذا قال نوح : ( رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ) [ هود : 47 ] ، فأعطي
السلام والبركات في قوله : ( يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك ) [ هود : 48 ] وقال
يوسف : ( معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي ) [ يوسف : 23 ] ، فصرف عنه السوء والفحشاء ؛
وقال موسى : ( إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ) [ غافر : 27 ]
فأغرق الله تعالى عدوّه وأورثه أرضهم وديارهم وأموالهم ؛ وقالت امرأة عمران : ( إني
أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) [ آل عمران : 36 ] ( فتقبلها ربها بقبول حسن
وأنبتها نباتاً حسناً ) [ آل عمران : 37 ]. وقد أمر نبينا ) قل أعوذ برب الفلق ) [ الفلق :
1 ] و ) قل أعوذ برب الناس ) [ الناس : 1 ] فوقي شر النفاثات في العقد وكفي شر الوسواس
الخناس .
البحث الثالث : المستعاذ له إنما هو الله أو كلمات الله كما جاء في الأخبار : " أعوذ
بكلمات الله التامة " . أما البحث عن اسم الله فسيجيء في تفسير البسملة ، وأما كلمات الله
فالمراد بها المبدعات الصادرة عنه تعالى بكلمة ) _ كن ) [ البقرة : 217 ؛ آل عمران : 47 و 59 ؛
الأنعام : 73 ؛ النحل : 40 ؛ مريم : 35 ؛ يس : 82 ؛ غافر : 68 ] من غير مادة ومدة ، فكأن الأرواح
البشرية تستعيذ وتستعين بالأرواح العلوية المقدسة في دفع شرور الأرواح الخبيثة. وإنما
تحسن الاستعاذة بالكلمات إذا كان قد بقي في نظره التفات إلى ما سوى الله تعالى. وأما إذا
تغلعل في بحر التوحيد لم يستعذ إلا بالله ومن الله كما قال : " أعوذ بك منك " ، وإذا فني عن
نفسه وفني أيضاً عن فناء نفسه قال : " أنت كما أثنيت على نفسك " .
البحث الرابع : المستعاذ منه الشيطان ، وما لأجله الاستعاذة دفع شره. فنقول : أما(1/17)
" صفحة رقم 18 "
اشتقاقه فمن ش ط ن ، ويقال شطن الدار أي بعدت ، والشيطان بعيد عن السداد والرشاد ،
وقد يسمى كل متمرد من إنس أو دابة شيطاناً. قال الله تعالى : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا
شياطين الإنس والجن ) [ الأنعام : 112 ] وركب عمر برذوناً فطفق يتبختر فجعل يضربه ولا
يزداد إلا تبختراً فنزل عنه فقال : ما حملتوني إلا على شيطان. هذا أحد قولي سيبويه .
وعلى هذا ف " نونه " أصلية ، ووزنه " فيعال " ، وقد جعل سيبويه في موضع آخر النون زائدة
وجعله فعلان من شاط يشيط إذا بطل. ولما كان كل متمرد كالباطل في نفسه لأنه مبطل
لوجوه مصالح نفسه سمي شيطاناً ، والرجيم معناه المرجوم كاللعين بمعنى الملعون. ومعنى
المرجوم إما الملعون من قبل الله تعالى ، وإما لأنه تعالى أمر الملائكة برمي الشيطان بالشهب
الثواقب ، ثم وصف بذلك كل شرير متمرد. وأما من ضم إلى الاستعاذة قوله : " إن الله هو
السميع العليم " فوجه ذلك بعد الاقتداء بما ورد في القرآن أن العبد كأنه يقول : يا من يسمع
كل مسموع ويعلم كل سر خفي أنت تسمع وسوسة الشيطان وتعلم غرضه فيها ، وأنت القادر
على دفعها عني ، فادفعها عني بفضلك .
ولنتكلم في الجن والشياطين فنقول : من الناس من أنكرهم لوجوه :
الأول : لو كان موجوداً فإن كان جسماً كثيفا لوجب أن يراه كل من كان سليم الحس ،
لكنا لا نراه ؛ وإن كان جسماً لطيفاً لوجب أن يتمزق ويتفرق عند هبوب الريح العاصفة ،
ولزم أيضاً أن لا يقدر على الأعمال الشاقة التي ينسبها إليه المثبتون. والجواب أنه لم لا
يجوز أن يكون جوهراً مجرداً وبتقدير أن يكون جسماً كثيفاً فلم لا يجوز أن يصرف الله تعالى
عنه أبصار الإنسان لحكمة في ذلك ، كما قال عز من قائل : ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث
لا ترونهم ) [ الأعراف : 27 ]. وعلى تقدير كونه جسماً لطيفاً فلم لا يجوز أن يكون تركيبه
محكماً كالأفلاك .
الوجه الثاني : قالوا : الظاهر الغالب أنهم لو كانوا في العالم لخالطوا الناس وشوهدت
منهم العداوة والصداقة وليس كذلك ، وأهل التعزيم إذا تابوا من صنعتهم يكذبون أنفسهم
فيما نسبوه إليهم : ومجال المنع في هذا الوجه لا يخفى لثبوت الاختلاط والعداوة والصداقة
منهم بالنسبة إلى كثيرين. قال عز من قائل : ( وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون
القرآن ) [ الأحقاف : 27 ] ، ) قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) [ الجن : 1 ] ( ومن الجن
من يعمل بين يديه ) [ سبأ : 12 ] ( يا معشر الجن والإنس ) [ الأنعام : 130 ؛ والرحمن : 33 ](1/18)
" صفحة رقم 19 "
وقال : " إن بالمدينة جناً قد أسلموا " " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم "
" ما منكم أحدٌ إلى وله شيطان " . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا إلا أن الله أعانني
عليه فأسلم " .
الوجه الثالث : قالوا : إخبار الأنبياء عنهم لا تفيد إثباتهم ، إذ على تقدير ثبوتهم
يجوز أن يقال : كل ما أتى به الأنبياء فإنما حصل بإعانة الجن فمن الجائز أن حنين الجذع
كان بسبب نفوذ الجن في الجذع ، وكل فرع أدى إلى إبطال الأصل فهو باطل. والجواب أن
الدليل الدال على صحة نبوة الأنبياء ، كما يجيء ، يدل على صدق أخبارهم. ومن جملة ما
أخبروا عنه وجود الجن والشياطين فصح وجودهم. واعلم أن كثيراً من الناس أثبتوا
موجودات لا متحيزة ولا حالة في المتحيز وزعموا أنها مجردات عن شوائب الجسمانيات
وهم الملائكة المقربون الذين ) لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ) [ الأنبياء : 19 ] ، ويليها
مرتبة الأرواح المتعلقة بتدبير الأجسام وأشرفها حملة العرش ، ثم الحافون من حول
العرش ، ثم ملائكة الكرسي ، ثم ملائكة السماوات طبقة فطبقة ، ثم ملائكة كرة الأثير ، ثم
ملائكة كرة النسيم ، ثم ملائكة كرة الزمهرير ، ثم الملائكة المسلطة على البحار ، ثم على
الجبال ؛ ثم مرتبة الأرواح السفلية المتصرفة في هذه الأجسام النباتية والحيوانية. وهذه
الأرواح قد تكون مشرفة خيرة وهم من قبيل الملائكة ، وقد تكون مظلمة شريرة وهم
شياطين الإنس والجن. ولفظ الجن مأخوذ من الاجتنان وهو الاستتار لاستتارهم عن
العيون ، ومنه المجنون لاستتار عقله ، والجنة لكونها ساترة للإنسان. وطوائف المكلفين
أربعة : الملائكة والإنس والجن والشياطين. والاختلاف بين الجن والشياطين قيل بالذاتيات
كما بين الإنسان والفرس ، وقيل بالعوارض ، فالجن خيارهم والشياطين أشرارهم .
والمشهور أن الجن لهم قدرة على النفوذ في بواطن البشر ، لأنهم لو كانوا مجردين فلا
استبعاد في كونهم متصرفين في باطن الإنسان وإن كانوا أجساماً لطيفة ، فكذلك لا يبعد
نفودهم في باطن الآدمي. كيف وقد ورد في القرآن : ( لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبَّطه(1/19)
" صفحة رقم 20 "
الشيطان من المس ) [ البقرة : 275 ] ، وفي الحديث : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى
الدم " ولا خلاف في أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، يسبحون بالليل
والنهار لا يفترون ، وأما الجن والشياطين فخلاف ذلك. قال في العظم : " إنه زاد
إخوانكم من الجن " . وفي القرآن ) أفتتخذونه وذرّيته أولياء من دوني ) [ الكهف : 50 ] .
وأما كيفية الوسوسة فيروى أن عيسى عليه السلام دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من بني
آدم ، فأراه ذلك ؛ فإذا رأسه الحية واضع رأسه على قلبه فإذا ذكر الله خنس وأيس ، وإذا
لم يذكره وضع رأسه على حبة قلبه. وقال : " لولا أن للشيطان لمة بابن آدم ، وللملك
لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق
بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من
الشيطان الرجيم " ثم قرأ ) الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ) [ البقرة : 268 ]
الآية ، فمن الخواطر ما هو أصل العادة ، ومنها ما هو أصل الشقاوة. وسبب اشتباه خطأ
وأخلاقها ، أو متابعة الهوى بخرم قواعد التقوى ، أو محبة الدنيا وجاهها ومالها. فمن عصم
من هذه الأربعة يفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان ، ومن ابتلى بها فلا. واتفق المحققون
على أن من كان أكله من الحرام لا يفرق بين الإلهام والوسوسة وفرقوا بين هواجس النفس
ووسوسة الشيطان بأن النفس تطالب وتلح ، فلا تزال كذلك حتى تصل إلى مرادها .
والشيطان إذا دعا إلى زلة ولم يجب ، يوسوس بأخرى إذا مراده الإغواء كيف أمكن .
وحقيقة الوسوسة راجعة إلى أن الإنسان بينما هو ذاهل عن الشيء ذكره الشيطان ذلك
فيحدث له ميل ، ويترتب الفعل على حصول ذلك الميل فكأن الذي أتى به الشيطان من
خارج ليس إلا ذلك التذكير. وإليه الإشارة في القرآن حكاية عن إبليس ) وما كان لي عليكم
من سلطان إلى أن دعوتكم فاستجبتم لي ) [ إبراهيم : 22 ] ، ولا يتسلسل هذا التذكير وإنما يقدم(1/20)
" صفحة رقم 21 "
الشيطان على ذلك لعدم قابلية دفع في فطرته الأولى لحكمة علمها الله تعالى فيه. والمقصود
من الاستعاذة لا ينحصر في دفع وسوسة الشيطان إلا أن ذلك معظم المقاصد ولهذا خص
بالذكر في القرآن ، ولو نوى المستعيذ دفع جميع المضار الدنيوية والأخروية فلا ضير .
نكت في الاستعاذة
الأولى : " أعوذ بالله " ، عروج من الخلق إلى الحق ومن الممكن إلى الواجب ، لأن
" أعوذ " إشارة إلى الحاجة التامة وب " الله " إشارة إلى المعبود القادر على تحصيل كل
الخيرات ودفع كل الآفات ومن عرف نفسه بالضعف والقصور عرف الله بأنه قادر على كل
مقدور. ومن عرف نفسه باختلال الحال عرف ربه بالجلال والكمال ، ومن عرف نفسه
بالإمكان عرف ربه بالوجوب .
الثانية : سر الاستعاذة الالتجاء إلى قادر يدفع عنك الآفات ، وقراءة القرآن من أعظم
الطاعات. ولذلك جاء : " من شغله قراءة القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي
السائلين " ، فلهذا خصت الاستعاذة بالقراءة .
الثالثة : عند الفرار من العدو الغدّار يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وبعد
الاستقرار في حضرة الملك الجبار يقول : بسم الله الرحمن الرحيم .
الرابعة : الاستعاذة تطهر اللسان عما جرى عليه من ذكر غير الله ، وإذا حصل الطهور
استعد للصلاة الحقيقية وهي ذكر الله فيقول : بسم الله .
الخامسة : العبد مأمور بمحاربة العدو الظاهر : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآخر ) [ التوبة : 29 ] ، وبمحاربة العدو الباطن : ( إن الشيطان لكم عدو فاتّخذوه عدواً (
[ فاطر : 6 ] فإذا حاربت العدو الظاهر كان مددك الملك : ( يمددكم ربكم بخمسة آلاف من
الملائكة مسوّمين ) [ آل عمران : 125 ] وإذا حاربت العدوّ الباطن كان مددك الملك ) إن
عبادي ليس لك عليهم سلطان ) [ الحجر : 42 ] ومحاربة العدو الباطن أولى لأن العدو الظاهر
إن غلب بقي الدين واليقين وكنا مأجورين ، وإن غلب العدو الباطن كنا مفتونين ، ومن قتله
العدو الظاهر كان شهيداً ، ومن قتله العدو الباطن كان طريداً ، ولا خلاص من شره إلا بأن
يقول : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " .(1/21)
" صفحة رقم 22 "
السادسة : قال الله تعالى : " يا عبدي قلبك بستاني وجنتي بستانك فلما لم تبخل عليّ
ببستانك بل أنزلت معرفتي فيه لم أبخل عليك ببستاني وأنزلك فيه " . وههنا لطيفة وهي
أن الله تعالى كأنه يقول للعبد أنت الذي أنزلت سلطان المعرفة في حجرة قلبك ومن أراد أن
ينزل سلطاناً في حجرة نفسه يجب عليه كنس الحجرة وتنظيفها فنظف حجرة قلبك من تلوث
الوسوسة وقل : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " .
السابعة : أقسم في حق أبويك أنه لمن الناصحين فدلاهما بغرور ، وأقسم فيك
لأغوينهم أجمعين. فما ظنك بعاقبة معاملته معك فقل : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " .
الثامنة : إنما اختص اسم الله للاستعاذة به من بين سائر الأسماء لأن العدو كلما كان أشد
احتيج إلى عدة أكثر ، والاسم الجامع لجميع الصفات الكمالية إنما هو الله ؛ فكأن العبد قال :
أعوذ بالقادر العالم الحكيم الذي لا يرضى بشيء من المنكرات من الشيطان الرجيم .
العاشرة : يقول الله تعالى : " عبدي إنه يراك وأنت لا تراه فينفذ كيده فيك " . فتمسك
بمن يرى الشيطان ولا يراه الشيطان ، وقل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
الحادية عشرة : الألف واللام في " الشيطان " للجنس لتفيد الاستعاذة من هذا الجنس
مطلقاً مرئياً وغير مرئي ، ولو جعل للعهد جاز وتدخل ذريته فيه تبعاً .
الثانية عشرة : الشيطان بعيد وأنت قريب ) ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) [ ق : 16 ]
فكما أن الشيطان لا يجعله الله قريباً لقوله تعالى : ( ولن تجد لسنة الله تبديلاً ) [ الأحزاب
62 والفتح : 23 ] فاعرف أنه لا يجعلك الله تعالى بعيداً حين جعلك قريباً .
الثالثة عشرة : إن الشيطان رجيم ، وإن الله رحمن رحيم ، فاحذر من الشيطان الرجيم
لتصل إلى الرحمن الرحيم .
الرابعة عشرة : الشيطان عدوّ غائب ؛ ) إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم (
[ الأعراف : 27 ] والله تعالى حبيب غالب ) والله غالب أمره ) [ يوسف : 21 ] فإذا قصدك
العدوّ الغائب فافزع إلى الحبيب الغالب .(1/22)
" صفحة رقم 23 "
المقدمة الثالثة في مسائل مهمة
المسألة الأولى : القراآت السبع متواترة لا بمعنى أن سبب تواترها إطباق القراء السبعة
عليها ، بل بمعنى أن ثبوت التواتر بالنسبة إلى المتفق على قراءته من القرآن كثبوته بالنسبة
إلى كل من المختلف في قراءته ، ولا مدخل للقارئ في ذلك إلا من حيث أن مباشرته
لقراءته أكثر من مباشرته لغيرها حتى نسبت إليه. وإنما قلنا : إن القراآت متواترة لأنه لو لم
تكن كذلك لكان بعض القرآن غير متواتر كملك ومالك ونحوهما ؛ إذ لا سبيل إلى كون
كليهما غير متواتر ، فإن أحدهما قرآن بالاتفاق ، وتخصيص أحدهما بأنه متواتر دون الآخر
تحكُّم باطل لاستوائهما والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوها .
الثانية : اتفقوا على أنه لا تجوز القراءة في الصلاة بالوجوه الشاذة ، لأن الدليل ينفي
جواز القراءة بها مطلقاً لأنها لو كانت من القرآن لبلغت في الشهرة إلى حدّ التواتر عدلنا عن
الدليل في جواز القراءة خارج الصلاة للاحتمال ، فوجب أن تبقى قراءتها في الصلاة على
أصل المنع .
الثالثة : السبعة الأحرف التي نزل بها القرآن في قوله : " إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف ، لكل آية منه ظهر وبطن ولكل حدّ مطلع " . عند أكثر العلماء أنها سبع لغات
القرآن لغة لا تعرفها قريش لقوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم (
[ إبراهيم : 4 ] وذلك أن قريشاً تجاور البيت ، وكانت أحياء العرب تأتي إليهم للحج
ويستمعون لغاتهم ويختارون من كل لغة أحسنها ، فصفا كلامهم واجتمع لهم مع ذلك العلم
بلغة غيرهم. ومما يدل على أن السبعة الأحرف هي سبع لغات متفقة المعنى ما رُوي عن
ابن سيرين أن ابن مسعود قال : اقرءوا القرآن على سبعة أحرف وهو كقول أحدكم هَلُمْ(1/23)
" صفحة رقم 24 "
وتعال وأقبل. وقال بعضهم : إنها سبع قبائل من العرب قريش وقيس وتميم وهذيل وأسد
وخزاعة وكنانة لمجاورتهم قريشاً. وقيل سبع لغات من أي لغة كانت من لغات العرب
مختلفة الألفاظ متفقة المعاني لقوله : " إنه قد وسع لي أن أقرئ كل قوم بلغتهم " .
وقيل : معناه أن يقول من صفات الرب تبارك وتعالى مكان قوله غفوراً رحيماً عزيزاً حكيماً
سميعاً بصيراً لما رُوي أنه قال : " اقرءوا القرآن على سبعة أحرف ما لم تختموا مغفرة
بعذاب أو عذاباً بمغفرة ، أو جنة بنار أو ناراً بجنة " . وقيل : إن لفظ " السبعة " في الخبر جاء
على جهة التمثيل ، لأنه لو جاء في كلمة أكثر من سبع قراءات جاز أن يقرأ بها. وعن
مالك بن أنس أنه كان يذهب في معنى " السبعة الأحرف " إلى أنه كالجمع والتوحيد في مثل :
) وتمت كلمة ربك ( و " كلمات ربك " [ الأنعام : 115 ؛ والأعراف : 137 ؛ وهود : 119 ] ؛
كالتذكير والتأنيث في مثل : ( ولا يُقبل ( ولا " تُقبل " [ البقرة : 48 ] ؛ وكوجوه الإعراب في
مثل : ( هل من خالق غيرُ الله ( و " غير الله " [ فاطر : 3 ] ؛ وكوجوه التصريف في مثل :
) يَعرشِون ( و " يُعرشون " [ الأعراف : 137 ] ؛ وكاختلاف الأدوات في مثل قوله : ( ولكن
الشياطين ) [ البقرة : 102 ] بالتشديد ونصب ما بعدها ، وبالتخفيف والرفع ؛ وكاختلاف
اللفظ في الحروف نحو : ( يعلمون ( بالتاء والياء [ يونس : 123 ] ، و ) ننشزها ) [ البقرة :
259 ] بالراء والزاي ؛ وكالتخفيف والتفخيم والإمالة والمدّ والقصر والهمز وتركه والإظهار
والإدغام ونحوها. وذهب جماعة إلى حملها على المعاني والأحكام التي ينتظمهما القرآن
دون الألفاظ من حلال وحرام ، ووعد ووعيد ، وأمر ونهي ، ومواعظ وأمثال واحتجاج ،
وغير ذلك ، واستبعده المحققون من قبل أن الأخبار الواردة في مخاصمة الصحابة في القراءة
تدلّ على أن اختلافهم كان في اللفظ دون المعنى .
قال بعض العلماء : إني تدبرت الوجوه التي تتخالف بها لغات العرب فوجدتها على
سبعة أنحاء لا تزيد ولا تنقص وبجميع ذلك نزل القرآن .
الوجه الأول : إبدال لفظ بلفظ ك " الحوت " ب " السمك " وبالعكس ، و ) كالعهن
المنفوش ) [ المعارج : 9 ؛ والقارعة : 5 ] قرأها ابن مسعود " كالصوف المنفوش " . الثاني :
إبدال حرف بحرف ك ) التابوت ( و " التابوة " [ البقرة : 248 ؛ وطه : 39 ]. الثالث : تقديم
وتأخير إما في الكلمة نحو " سلب زيد ثوبه " و " سلب ثوب زيد " ، وإما في الحروف نحو :
) أفلم ييأس الذين ) [ الرعد : 31 ] و " أفلم يأيس " . الرابع : زيادة حرف أو نقصانه نحو :
) مَالِيَه ) [ الحاقة : 28 ] و ) سُلطانِيَه ) [ الحاقة : 29 ] و ) فلا تَكُ في مرية ) [ هود : 109 ] .
الخامس : اختلاف حركات البناء نحو ) تحسبنّ ) [ آل عمران : 169 و 188 ؛ وإبراهيم : 42(1/24)
" صفحة رقم 25 "
و 47 ؛ والنور : 57 ] بفتح السين وكسرها. السادس : اختلاف الإعراب نحو : ( ما هذا
بشراً ) [ يوسف : 31 ] وقرأ ابن مسعود " بشرٌ " بالرفع. السابع : التفخيم والإمالة ؛ وهذا
اختلاف في اللحن والتزيين لا في نفس اللغة ، والتفخيم أعلى وأشهر عند فصحاء العرب .
فهذه الوجوه السبعة التي بها اختلفت لغات العرب قد أنزل الله باختلافها القرآن متفرقاً
فيه ليعلم بذلك أن من زلّ عن ظاهر التلاوة بمثله ، أو من تعذّر عليه ترك عادته فخرج إلى
نحو مما قد نزل به فليس بملوم ولا معاقب عليه. وكل هذا فيما إذا لم تختلف فيه المعاني ؛
فإن قيل : فما قولكم في القراآت التي تختلف بها المعاني ؟ قلنا : إنها صحيحة منزلة من
عند الله ولكنها خارجة من هذه السبعة الأحرف ، وليس يجوز أن يكون فيما أنزل الله من
الألفاظ التي تختلف معانيها ما يجري اختلافها مجرى التضاد والتناقض ، لكن مجرى التغاير
الذي لا تضاد فيه. ثم إنها تتجه على وجوه : فمنها أن يختلف بها الحكم الشرعي على
المبادلة بمنزلة قوله : ( وأرجلكم ) [ المائدة : 6 ] بالجر والنصب جميعاً ، وإحدى القراءتين
تقتضي فرض المسح والأخرى فرض الغسل ، وقد بينهما رسول الله : فجعل المسح
للابس الخف في وقته ، والغسل لحاسر الرجل وهذا الضرب هو الذي لا تجوز قراءته إلا إذا
تواتر نقله وثبت من الشارع بيانه ، وليس يعذر من زل في مثله عما هو المنزل حتى يراجع
الصواب ويفزع إلى الاستغفار. وقد يكون ما يختلف الحكم فيه على غير المبادلة لكن على
الجمع بين الأمرين بمنزلة ) ولا تقربوهّن حتى يطهرن ) [ البقرة : 222 ] من الطهر و " حتى
يطّهرن " مشددة الطاء من التطهُّر ، فإن القراءتين ههنا تقتضيان حكمين مختلفين يلزم الجمع
بينهما ، وذلك أن الحائض لا يقربها زوجها حتى تطهر بانقطاع حيضها وحتى تطهر
بالاغتسال. ولا تجوز القراءة في أمثال هذه إلا بالنقل الظاهر. ومن زل في مثله إلى ما
يقتضي أمراً وقد علم ثبوته ولم يقرأ به ، لم يلزمه فيه حرج كقوله تعالى : ( ولا تقربوا الزنا (
[ الإسراء : 32 ] لو صحّفه أحد فقرأه " الربا " بالراء ، والباء من الربا في المال ، فإنه منهي عنه
كالزنا ؛ فإن كان عدوله عن ظاهر التلاوة على سبيل التعمُّد فهو ملوم على ذلك. وأما التضاد
والتنافي فغير موجود في كتاب الله. والنسخ ليس في هذا القبيل لأن اتحاد الزمان شرط
التنافي وعند ورود الناسخ ينتهي المنسوخ ، ويتبين أن في علم الله حكم المنسوخ كان مؤجلاً
إلى ورود الناسخ ، والله أعلم .
وقوله : " لكل آية ظهر وبطن " أي ظاهر وباطن ، فالظاهر ما يعرفه العلماء والباطن
ما يخفى عليهم. فنقول في ذلك كما أمرنا ونكل علمه إلى الله تعالى وقيل : هو أن نؤمن به
باطناً كما نؤمن به ظاهراً. وقوله : " ولكل حد مطلع " أي لكل طرف من حدود الله التي يوقف(1/25)
" صفحة رقم 26 "
هنالك ولا يتجاوز عنه من مأمور أو منهي أو مباح ، مصعد ومأتي يؤتى منه ويفهم كما هو ، أو
مقدار من الثواب والعقاب يعانيه في الآخرة ويطلع عليه ، كما قال عمر : " لو أن لي ما في
الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع " يعني ما يشرف عليه من أمر الله بعد
الموت .(1/26)
" صفحة رقم 27 "
المقدمة الرابعة في كيفية جمع القرآن
روى عن زيد بن ثابت أنه قال : " أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وإذا عنده عمر .
فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال : إن القتل قد استحرّ بقراء القرآن يوم اليمامة وإني أخشى أن
يستحرّ القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن .
قال : فقلت : كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ؛ فقال لي : هو والله خير. فلم يزل
عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له فرأيت فيه الذي رأى عمر. قال زيد بن
ثابت : قال لي أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتَّهمك قد كنت تكتب الوحي
لرسول الله فتتبَّعِ القرآن فاجمَعّهُ فتتبعتُ القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف ومن
صدور الرجال ، وكانت الصحف عند أبي بكر حتى مات ، ثم كانت عند عمر حتى مات ، ثم
كانت عند حفصة مدّة إلى أن أرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إليّ بالصحف ننسخها في
المصاحف ثم نردها عليك. فأرسلت إلى عثمان إلى زيد بن ثابت وإلى
عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، فأمرهم أن ينسخوا
الصحف في المصاحف. ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة : ما اختلفتم فيه أنتم وزيد فاكتبوه
بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم. قال : ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث
عثمان في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف وأمر بما سوى ذلك من القرآن أن يحرق
أو يخرق. قال زيد بن ثابت : فرأيت أصحاب محمد يقولون : أحسن والله عثمان ، أحسن
والله عثمان. وقال عليّ : لو وليت لفعلت في المصاحف الذي فعل عثمان. إلا أن
عبد الله بن مسعود كره أن ولي زيد بن ثابت نسخ المصاحف ، فقال : يا معشر المسلمين
أأعزل عن نسخ كتاب الله ويولاها رجل ، والله ، لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر ،
يعني زيداً ، فكان أوّل من أمر بجمع القرآن في المصحف أبو بكر مخافة أن يضيع منه شيء
غير أنه لم يجمع الناس عليه. وكان الناس يقرءون بقرآات مختلفة على سبيل ما أقرأهم(1/27)
" صفحة رقم 28 "
رسول الله وأصحابه إلى وقت عثمان. ثم إن عثمان جمع الناس على مصحف واحد
وحرف واحد ، ولذلك نسب المصحف إليه وجعل ذلك إماماً .
واعلم أن القرآن كان مجموعاً على عهد رسول الله فإنه ما أنزلت آية إلا وقد أمر
رسول الله من كان يكتب له أن يضعها في موضع كذا من سورة كذا ، ولا نزلت سورة إلا
وقد أمر رسول الله الكاتب أن يضعها بجنب سورة كذا. روي عن ابن عباس قال : كان
رسول الله إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب فقال : ضعوا هذه السورة في
الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا. وعن أنس قال : جمع القرآن على عهد رسول الله
أربعة من الأنصار : أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وأبو زيد ، وزيد. قيل لأنس : من أبو زيد ؟
قال : أحد عمومتي. غير أنهم لم يكونوا قد جمعوها فيمن بين الدفتين ولم يلزموا القراء
توالي سورها وذلك أن الواحد منهم إذا حفظ سورة أنزلت على رسول الله أو كتبها ، ثم
خرج في سرية فنزلت في وقت مغيبه سورة ، فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد
رجوعه وكتابته ويتتبع ما فاته على حسب ما يتسهل له ، فيقع فيما يكتبه تقديم وتأخير من هذا
الوجه. وقد كان منهم من يعتمد على حفظه فلا يكتب على ما كان من عادة العرب في حفظ
أنسابها وأشعار شعرائها من غير كتابة. ومنهم من كان كتبها في مواضع مختلفة من قرطاس
وكتف وعسب ثقة منهم ما كانوا يعهدونه من جد المسلمين في حفظ القرآن ، فلا يرون
بأكثرهم حاجة إلى مصحف ينظر فيه. فلما مضى رسول الله لسبيله ، وجند
المهاجرون والأنصار أجناداً فتفرقوا في أقطار الدنيا واستحرّ القتل في بعضهم ، كما مر ،
خيف حينئذ أن يتطرق إليه ضياع فأمروا بجمعه في المصحف .(1/28)
" صفحة رقم 29 "
المقدمة الخامسة في معاني المصحف والكتاب والقرآن
والسورة والآية والكلمة والحرف وغير ذلك
المصحف : مفعل من أصحف أي جمع فيه الصحف ، والصحف جمع الصحيفة ،
والصحيفة قطعة من جلد أو ورق يكتب فيه. وقد يقال : " مصحف " بكسر الميم. وروي أن
أبا بكر الصديق استشار الناس بعد جمع القرآن في اسمه فسمَّاه مصحفاً. والكتاب معناه ضم
الحروف الدالة على معنى بعضها إلى بعض لأنه مصدر " كتب " أي جمع. قال الله تعالى :
) أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ) [ المجادلة : 22 ] أي جمع حتى آمنوا بجميع ما يجب
عليهم. فالكتاب فعل الكاتب ، ولكنه يسمى الشيء باسم الفعل نحو : هذا الدرهم ضرب
الأمير ، وهذا خلق الله. والقرآن اسم للكتاب المنزل على نبينا محمد ، كما أن التوراة اسم
للكتاب المنزل على موسى ، والإنجيل للمنزل على عيسى ، والزبور للمنزل على داود عليه
السلام. والقرآن يهمز ولا يهمز ؛ فمن همزه ، وهو الأكثر ، فوزنه " فعلان " مثل قربان .
والتركيب يدلّ على الجمع والضم ، ومنه " القرء " للحيض لاجتماع الدم في ذلك الوقت ،
ومنه قولهم : قرأت الماء في الحوض. فالقرآن نزل شيئاً بعد شيء فلما جمع بعضه إلى
بعض سمي " قرآناً " . وقيل : سمي " قرآنا " لأنه جمع السورة وضمها. قال تعالى : ( إن علينا
جمعه وقرآنه ) [ القيامة : 17 ] أي تأليفه وضم بعضه إلى بعض. وقولك : " قرأت " معناه
جمعت الحروف بعضها إلى بعض. ومن لم يهمز القرآن ، وهو قراءة أهل مكة ، فإما على
تخفيف الهمزة فأصله كما مر ، وإما على أن وزنه " فعال " من " قرنت " والنون لام الكلمة ؛
سمي بذلك لأنه قرن السورة وما فيها بعضها إلى بعض. وقيل : إن " القرآن " اسم موضوع على
" فعال " من غير اشتقاق كالتوراة والإنجيل. ويسمى القرآن " فرقاناً " لأنه يفرق بين الحق
والباطل ، والمؤمن والكافر ، والحلال والحرام .
وأما السورة من القرآن فإنها تهمز ولا تهمز وهذا أكثر وعليه القراءة. والسورة اسم
لآي جمعت وقرنت بعضها إلى بعض حتى تمت وكملت وبلغت في الطول المقدار الذي(1/29)
" صفحة رقم 30 "
أراد الله تعالى ، ثم فصل بينهما وبين سورة أخرى ب " بسم الله الرحمن الرحيم " . ولا تكون
السورة إلا معروف المبتدأ معلوم المنتهى. قيل : اشتقاقها من سورة البناء والمدينة ، لأن
السور يوضع بعضه فوق بعض حتى ينتهى إلى الارتفاع الذي يراد ، فالقرآن أيضاً وضع آية
إلى جنب آية حتى بلغت السورة في عدد الآي المبلغ الذي أراد الله تعالى. وقيل : سميت
سورة لأنها وصفت بالعلو والرفعة ، كما أن سور المدينة سُمِّي سوراً لارتفاعه. قال النابغة :
ألم تر أن الله أعطاك سورة
ترى كل ملك دونها يتذبذبُ
أي شرفاً ورفعة. وقيل سميت سورة لإحاطتها بما فيها من الآيات كما أن سور
المدينة محيط بمسكنها وأبنيتها. وجمع سورة القرآن سور بفتح الواو مثل " جملة وجمل " ،
وجمع سورة البناء " سور " بالسكون مثل " صوفة وصوف " . ومن همز " سورة " جعلها من
أسأرت في الإناء سؤراً أي أفضلت منه بقية ، ومنه " سؤر الدواب " إذ كلها قطعة من القرآن
على حدة .
وأما الآية فقد قال جمع من العلماء : إنها في القرآن عبارة عن كلام متصل إلى انقطاعه
وانقطاع معناه " فصلاً فصلاً " ، ولا يخفى توقف الآية على التوقيف. وقال غيرهم : معناها
العلامة ، لأنها تدل على نفسها بانفصالها عن الآية المتقدمة عليها والمتأخرة عنها. وقيل
معناه " جماعة حروف " من قولهم : " خرج القوم بآيتهم " ، أي بجماعتهم ولم يدعوا وراءهم
شيئاً. وقيل : معناها " العجيبة " لأنها عجيبة لمباينتها كلام المخلوقين من قولهم : " فلان آية
من الآيات " واختلف في وزنها ، فقال الفراء : وزنها " فعلة " بالفتح وبسكون العين ، وأصلها
" آية " فاستثقلوا التشديد فأتبعوه الفتحة التي قبله ؛ وقال الخليل وأصحابه : وزنها " فعلة "
بالفتح والأصل " أيية " قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وقال الكسائي : أصلها " آيية "
" فاعلة " كضاربة وكان يلزمه للياء الإدغام على نحو " دابة وخاصة " ويكون مستثقلاً فحذفوا
إحدى الياءين .
وأما الكلمة ، فإن تراكيب ك ل م تفيد القوة والشدة وتقاليب هذه الحروف الثلاثة
بحسب الاشتقاق الكبير ستة ، واحد مهمل والبواقي معتبرة ؛ منها " ك ل م " فمنه الكلام لأنه
يقرع السمع ويؤثر فيه ، وأيضاً يؤثر في الذهن بواسطة إفادة المعنى ، ومنه الكلم للجرح وفيه
شدة ؛ ومنها " ك ل م " لأن الكامل أقوى من الناقص ؛ ومنها " ل ك م " ومعنى الشدة فلي اللاكم
واضح ، ومنها " م ك ل " ومنه " بئر مكول " إذا قلَّ ماؤها ، وإذا كان كذلك كان ورودها
مكروهاً فيحصل نوع شدة عند ورودها ، وأيضاً إنها تدل على شدة منابعها ؛ ومنها " م ل ك "(1/30)
" صفحة رقم 31 "
ملكت العجين إذا أنعمت عجنه ، ومنه " ملك الإنسان " لأنه نوع قوة. ولفظ " الكلمة " قد
يستعمل في اللفظة الواحدة وقد يراد بها الكلام الكثير المرتبط بعضه ببعض ، ومنه قولهم
للقصيدة " كلمة " ومنه " كلمة الشهادة " و " الكلمة الطيبة صدقة " . ولأن المجاز خير من
الاشتراك فإطلاق الكلمة على الكلام المركب مجاز إما من باب إطلاق الجزء على الكل ،
وإما من باب المشابهة ، لأن الكلام المرتبط يشبه المفرد في الوحدة. وأفعال الله تعالى
كلماته إما لأنه حدث بقوله ) كن ( أو لأنه حدث في زمان قليل كما تحدث الكلمة كذلك .
وعند النحويين الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد. وفائدة القيود تذكر في ذلك العلم والكلام
والكلمات. والأشاعرة يثبتون الكلام النفسي ويقولون :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
وقد تسمى الكلمات والعبارات أحاديث لأن كل واحدة منها تحدث عقيب صاحبتها ،
قال تعالى : ( فليأتوا بحديث مثله ) [ الطور : 34 ] وجمع الكلمة " كلم " والتاء في الكلمة
ليست للوحدة كاللبنة واللبن ، والرطبة والرطب ، لأن الرطب واللبن مذكر ، والكلم مؤنث .
وتصغير رطب " رطيب " ، وتصغير " كلم " " كُلَيْمَات " بالرد إلى كلمة ، ثم جمعه بالألف
والتاء. وقد يكون الكلام مصدراً بمعنى التكليم كالسلامة بمعنى التلسليم ، قال تعالى : ( يسمعون
كلام الله ثم يحرفونه ) [ البقرة : 75 ] فسّره ابن عباس بتكليم الله موسى وقت المناجاة
وأما الحرف ، فهو الواحد من حرف المعجم سُمِّي " حرفاً " لقلته ودقته ، ولذلك
قيل : " حرف الشيء " لطرفه ، لأنه آخره والقليل منه. والحرف أيضاً الناقة المهزولة ، وقد يقال
للسمينة أيضاً حرف فهو من الأضداد. والحرف اللغة أيضاً ، قال عليه السلام : " أنزل القرآن
على سبعة أحرف " . والحرف أيضاً القراءة بكمالها والقصيدة بتمامها. والحرف أيضاً أحد
أقسام الكلمة ، وذلك أن الكلمة إن احتاجت في الدلالة على معناها الإفرادي إلى ضميمة
نحو " من وقد " فهو حرف ، وإلا فإن كانت في أصل الوضع بهيئتها التصريفية على أحد
الأزمنة الثلاثة الماضي والحال والاستقبال فهو فعل نحو " نصر وينصر " ، وإلا فهو اسم
كالإنسان فإنّ معناه لا يقترن بالزمان أصلاً ، ومثل " اليوم والساعة والزمان " فإن الزمان كال
معناه ، ومثل " الصبوح والغبوق " لأن الزمان جزء معناه ، ومثل " علم وجهل وضرب " فإن(1/31)
" صفحة رقم 32 "
معناه يدل على الزمان عقلاً لا بحسب الهيئة ، ومثل " ضارب ومضروب " فإنه لو سلم أن
معناه يدل على الزمان بحسب الهيئة إذ لكل منهما هيئة مخصوصة لكنها ليست في أصل
الوضع ولا يخرج من حد الفعل نحو عسى مما لا يدل على زمان لأن تجرده عن الزمان
عرض لغرض الإنشاء ، ولا الفعل المستقبل لكونه معناه مقترناً بزمانين الحال والاستقبال لأن
قولنا بأحد الأزمنة تحديد لأدنى درجات الاقتران ولو سلم أنه يجب الاقتران بأحد الأزمنة
فقط فذلك في أصل الوضع ولا مانع من اقترانه بعد ذلك بزمان آخر مجازاً .(1/32)
" صفحة رقم 33 "
المقدمة السادسة في ذكر السبع الطول والمثاني والمئين والطواسيم
والحواميم والمفصّل والمسبحات وغير ذلك
فالسبع الطول ، مضمومة الطاء مفتوحة الواو وجمع الطولي كالفضلى والفضل ، هي
البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ، والأنفال مع التوبة لأنهما نزلتا جميعاً
في مغازي رسول الله وكانتا تدعيان القرينتين ولذلك لم يفصل بينهما بالبسملة. وقال
بعضهم : السابعة من السبع سورة يونس لا الأنفال مع التوبة. وأما المثاني فسبع سور تتلو
السبع الطول : أولها سورة يونس وآخرها سورة النحل ، لأنها ثنت الطول أي تلتها ، واحدها
مثنى مثل معنى ومعان. وقد يكون المثاني سور القرآن كلها طوالها وقصارها من قوله
تعالى : ( كتاباً متشابهاً مثاني ) [ الزمر : 33 ] وقوله : ( ولقد آتيناك سبعاً من المثاني (
[ الحجر : 87 ]. وقيل : المثاني في هذه الآية آيات الفاتحة لأنها نزلت مرتين أو لأنها تثنى في
كل صلاة. وأما المئون فهن سبع : أولها سورة بني إسرائيل وآخرها سورة المؤمنون ، لأن
كل سورة منها نحو من مائة آية ، وقيل : المئون ما ولي السبع الطول ثم المثاني بعدها ،
وقيل : إن ما بعد السبع الطول من المئين إلى الحواميم ، وبعد الحواميم المفصل. وأما
الطواسيم فإن شئت قلت هكذا ، وإن شئت قلت الطواسين قال الراجز :
وبالطواسين التي قد ثلثت
وفي الحديث : " وأعطيت طه والطواسيم من ألواح موسى ، وأعطيت فاتحة الكتاب " .
وأما الحواميم فإن شئت قلت هكذا وإن شئت قلت آل حم. قال ابن عباس : إن لكل شيء
لباباً وإن لباب القرآن آل حم وقال : الحواميم. فكأن من قال : " آل حم " نسب السور كلها إلى
" حم " وهو من أسماء الله تعالى بدليل قوله : " إن بيتم الليلة فقولوا حم لا ينصرون "
وتسمى الحواميم عرائس القرآن ؛ عن عاصم عن زر بن حبيش الأسدي قال : قرأت على
علي بن أبي طالب القرآن في المسجد الجامع بالكوفة فلما بلغت الحواميم قال : يا زر بن
حبيش عرائس القرآن ، فلما بلغت رأس العشرين من حم عسق ) والذين آمنوا وعملوا(1/33)
" صفحة رقم 34 "
الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير (
[ الشورى : 22 ] بكى حتى ارتفع نحيبه ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : يا زر أمن على
دعائي ، ثم قال : اللهم إني أسألك إخبات المخبتين وإخلاص الموقنين ومرافقة الأبرار
واستحقاق حقائق الإيمان ، والغنيمة من كل بر ، والسلامة من كل إثم ووجوب رحمتك
وعزائم مغفرتك ، والفوز بالجنة والخلاص من النار. يا زر إذا ختمت القرآن فادع بهؤلاء
الدعوات فإن حبيبي رسول الله أمرني أن أدعو بهن عند ختم القرآن. وأما المفصل فما
بعد الحواميم من قصار السور إلى آخر القرآن لكثرة التفصيل فيها بالبسملة. وأما
المسجات ، فسور الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن والأعلى ، لأن في فواتحهن ما
يدل على التسبيح. وفي الحديث كان رسول الله لا ينام حتى يقرأ المسبحات ويقول :
" إن فيها آية كألف آية " . وأفضل المسبحات ) سبح ربك الأعلى ) [ الأعلى : 1 ] فقد كان
العلماء يقرءون هذه السورة في التهجد والجمعة ويتعرفون بركتها. وأما المقشقتان فسورة
الكافرون والإخلاص ، لأنهما تبرئان من النفاق والشرك. يقال : قشقشه إذا برأه ، وقشقش
المريض من علته إذا أفاق منها وبرئ. وأما المعوّذتان فالفلق والناس وقد يضم إليهما
الإخلاص فيقال المعوذات .(1/34)
" صفحة رقم 35 "
المقدمة السابعة في ذكر الحروف
التي كتب بعضها على خلاف بعض في المصحف وهي في الأصل واحدة
فأول ذلك " بسم الله " كتب بحذف " الألف " التي قبل " السين " وكتب ) اقرأ باسم
ربِّك ) [ العلق : 1 ] و ) سبِّح اسمَ ربِّك ) [ الأعلى : 1 ] ، و ) بئس الاسم الفسوق (
[ الحجرات : 11 ] ، ومنه ) اسمه ( بالألف. والأصل في ذلك كله واحد وهو أن يكتب
بالألف ، وإنما حذفت من " باسم الله " فقط لأنها ألف وصل ساقطة من اللفظ. كثيراً قد كثر
استعمال الناس إياها في صدور الكتب وفواتح السور وعند كل أمر يبدأ به ، فأمنوا أن يجهل
القارئ معناها. وكتب " فيما " موصولاً في كل القرآن إلى في " البقرة " ) في ما فعلن في
أنفسهنَّ بالمعروف ) [ الآية : 234 ] ، وفيها [ سورة البقرة ]. ) في ما فعلن في أنفسهنَّ ن
معروف ) [ الآية : 240 ] ؛ وفي " الأنعام " : ( في ما أوحيَ إليّ محرماً ) [ الآية : 145 ] وفيها
[ سورة الأنعام ] ( ليبلوكم في ما آتاكم ) [ الآية : 165 ] ؛ وفي " الأنفال " ) في ما أخذتم عذاب
عظيم ) [ الآية : 68 ] ؛ وفي " الأنبياء " ) في ما اشتهت أنفسهم ) [ الآية : 102 ] ؛ وفي " النور "
) في ما أفضتم ) [ الآية : 14 ] ؛ وفي الشعراء في ما ههنا آمنين وفي الروم في ما رزقناكم
وفي " الزمّر " ) في ما هم فيه يختلفون ) [ الآية : 3 ] ؛ وفيها [ سورة الزمر ] ( ف ما كانوا فيه
يختلفون ) [ الآية : 46 ] ؛ وفي الواقعة ) في ما لا تعلمون ) [ الآية : 61 ]. فذلكن اثنا عشر
حرفاً مقطوع ، وما سوى ذلك موصول .
وكتب " ممَّا " موصولاً في كل القرآن إلا ثلاثة مواضع : في " النساء " ) فمن ما ملكت
أيمانكم ) [ الآية : 25 ] ، وفي " الروم " ) مِن مَا ملكت أيمانكم ) [ الآية : 28 ] ، وفي
" المنافقين " ) مِن مَا رزقناكم ) [ الآية : 10 ]. وكتب " أنما " موصولاً في كل القرآن إلا في(1/35)
" صفحة رقم 36 "
" الحج " ) وأنّ ما تدعون من دونه هو الباطل ) [ الآية : 62 ] ، وفي " لقمان " ) وأن ما تدعون
من دونه الباطل ) [ الآية : 30 ] ، وفيها سورة [ سورة الحج ] ( ولو أن ما في الأرض ) [ الآية : 27 ] .
وكتب " إنما " موصولة في كل القرآن إلا في " الأنعام " ) إن ما توعدون لآتٍ ) [ الآية : 134 ]
وكتب " لكي لا " مقطوعة في كل القرآن إلا ثلاثة مواضع : في " الحج " ) لكيلا يعلم ) [ الآية :
5 ] ، وفي " الأحزاب " ) لكي يكون عليك حرج ) [ الآية : 50 ] ، وفي " الحديد " ) لكيلا
تأسوا ) [ الآية : 23 ]. وكتب " بئس ما " مقطوعاً حيث كان إلا ثلاثة مواضع : في " البقرة "
) بئسما يأمركم به إيمانكم ) [ الآية : 93 ] ، وفيها [ سورة البقرة ] ( ولبئسما شروا به أنفسهم (
[ الآية : 102 ] ، وفي " الأعراف " ) بئسما خلفتموني ) [ الآية : 150 ]. وكتب " أينما "
مقطوعاً في جميع القرآن إلا أربعة مواضع : في " البقرة " ) فأينما تولوا ) [ الآية : 115 ] ، وفي
" النحل " ) أينما يوجهه ) [ الآية : 76 ] ، وفي " الشعراء " ) أينما كنتم ) [ الآية : 92 ] ، وفي
" الأحزاب " ) أينما تقفوا ) [ الآية : 61 ] .
وكتب " ألاَّ " موصولاً في كل القرآن إلاّ عشرة مواضع : في " الأعراف " ) أن لا أقول
على الله إلا الحق ) [ الآية : 105 ] ، وفيها [ سورة الأعراف ] ( أن لا تقولوا على الله إلا الحق (
[ الآية : 169 ] ، وفي " التوبة " ) أن لا ملجأ من الله إلا إليه ) [ الآية : 118 ] ، وفي " هود " ) أن
لا تعبدوا إلا الله ) [ الآية : 26 ] ، فيها [ سورة هود ] ( وأن لا إلا هو ) [ الآية : 14 ] ، وفي
" الحج " ) وأن لا تشرك بي شيئاً ) [ الآية : 26 ] ، وفي " يس " ) أن لا تعبدوا الشيطان ) [ الآية : 60 ] ، وفي " الدخان " ) وأن لا تعلوا على الله ) [ الآية : 19 ] وفي " الممتحنة " ) أن لا يشركن
بالله شيئاً ) [ الآية : 12 ] ، وفي القلم ) أن لا يدخلنها اليوم ) [ الآية : 24 ] ، واختلف في
" يوسف " ) ألا تعبدوا إلا إياه ) [ الآية : 40 ]. وما سواهن فهو " ألاّ " مدغماً بغير " نون "
وكتب " إلاّ " بإسقاط ال " نون " في كل القرآن من غير استثناء مثل : ( إلاّ تفعلوه (
[ الأنفال : 73 ] و ) إلاَّ تغفر لي ) [ هود : 47 ]. وكتب " ألم " موصولاً في كل القرآن إلا في
" الأنعام ) أن لم يكن ربّك ) [ الآية : 131 ] ، وفي " البلد " ) أن لم يَرَهُ أحد ) [ الآية : 7 ] .
وكتب في " هود " ) فإلَّمْ يستجيبوا لكم ) [ الآية : 14 ] موصولاً مدغماً ، وفي القصص " ) فإن
لم يستجيبوا لك ) [ الآية : 50 ] مقطوعاً. وكتب " أَمَّنْ " موصولاً في كل القرآن إلا أربعة
مواضع : في سورة النساء " النساء " ) أم من يكون عليهم وكيلاً ( وفي " التوبة " ) أم من أسس بنيانه ( .
وفي " الصافات " ) أَمْ مَّنْ خلقنا ) [ الآية : 11 ] ، وفي " حم السجدة " ) أم مَّنْ يأتي آمنا ((1/36)
" صفحة رقم 37 "
[ فصلت : 40 ] ج وكتب " إمَّا " و " أمَّا " موزصولاً إلا في " الرعد " ) وأن ما نرينك ) [ الآية :
40 ]. وكتب " عمَّا " موصولاً في " الأعراف " ) عن مَّا نهوا عنه ) [ الآية : 166 ]. وكتب " أن
لَّن " مقطوعاً إلا ثلاث مواضع : في " الكهف " ) ألَّن نجعل لكم موعداً ) [ الآية : 38 ] ، وفي " سبحان " ) كلّ خَبَتْ ) [ الإسراء : 97 ] ، وفي " الملك " ) كل ما لأُلِقيَ فيها ) [ الآية : 8 ] ، وفي " نوح " ) كلّ
ما دعوتهم ) [ الآية : 7 ]. وكتب " يومهم " موصولاً إلا في " المؤمن " ) يوم هم بارزون (
[ غافر : 16 ] ، وفي " الذاريات " ) يوم هم على النار يفتنون ) [ الآية : 13 ] .
وكتبت " الرحمة " في مواضع القرآن بالهاء إلا سبعة مواضع : في " البقرة " ) أولئك
يرجون رحمت الله ) [ الآية : 218 ] ، وفي " الأعراف " ) إن رحمت الله قريب ) [ الآية : 56 ] ،
وفي " هود " ) رحمت الله وبركاته ) [ الآية : 73 ] ، وفي " مريم " ) ذكر رحمت ربِّك ) [ الآية :
2 ]. وفي " الروم " ) إلى آثار رحمت الله ) [ الآية : 50 ] ، وفي " الزخرف " ) أهم يقسمون
رحمت ربك ) [ الآية : 32 ] ، فإنها [ المواضع السبعة ] بالتاء. وكتبت " النعمة " بالهاء إلا أحد
عشر موضعاً : في " البقرة " ) واذكروا نعمت الله عليكم ) [ الآية : 231 ] ، وفي " آل عمران "
) واذكروا نعمت الله عليكم ) [ الآية : 103 ] ، وفي " المائدة " ) واذكروا نعمت الله عليكم إذ
همَّ ) [ الآية : 7 ] ، وفي " إبراهيم " ) بدّلوا نعمت الله كفراً ) [ الآية : 28 ] ، وفيها [ سورة
إبراهيم ] ( وإن تعدوا نعمت الله ) [ الآية : 34 ] ، وفي " النحل " ) وبنعمت الله هم يكفرون (
[ الآية : 72 ] ، وفيها [ سورة النحل ] ( يعرفون نعمت الله ) [ الآية : 83 ] ، وفيها [ سورة النحل ]
) واشكروا نعمت الله ) [ الآية : 114 ] ، وفي " لقمان " ) في البحر بنعمت الله ) [ الآية : 31 ] ،
وفي " الملائكة " ) اذكروا نعمت الله ) [ فاطر : 3 ] ، وفي " الطور " ) بنعمت ربِّك بكاهن (
[ الآية : 29 ] .
وكتب " امرأة " بالهاء إلا سبعة مواضع : في " آل عمران " ) إذ قلت امرأة عمران (
[ الآية : 35 ] ، وفي " يوسف " ) امرأة العزيز تراود فتاها ) [ الآية : 30 ] ، وفيها سورة
يوسف ] ( امرأة العزيز الآن ) [ الآية : 51 ] ، وفي " القصص " ) وقالت امرأت فرعون (
[ الآية : 9 ] ، وفي " التحريم " ) امرأت نوحٍ وامرأت لوطٍ ) [ الآية : 10 ] و ) امرأت فرعون (
[ الآية : 11 ]. وكتب " سنَّة " بالهاء في كل القرآن إلا خمسة مواضع : في " الأنفال " ) مضت
سنّت الأوّلين ) [ الآية : 38 ] ، وفي " فاطر " ) إلا سنّت الأوّلين فلن تجد لسنَّت الله تبديلاً ولن
تجد لسنّت الله تحويلاً ) [ الآية : 43 ] ، وفي " المؤمن " ) سنَّت الله التي قد خلت ) [ غافر :(1/37)
" صفحة رقم 38 "
85 ]. وكتب " معصية " بالهاء حيث كانت إلا موضعين : في " المجادلة " ) ومعصيت
الرسول ) [ الآيتان : 8 و 9 ]. وكتب " لعنة " بالهاء في كل القرآن إلا في " آل عمران " ) فنجعل
لعنت الله ) [ الآية : 61 ] ، وفي " النور " ) أنّ لعنت الله ) [ الآية : 7 ]. وكتب " جنة " بالهاء إلى في
" الواقعة " ) وجنَّت نعيم ) [ الآية : 89 ]. وكتب " شجرة " بالهاء إلا في " الدخان " ) إن شجرت
الزقُّوم ) [ الآية : 43 ]. وكتب " قرّة " بالهاء إلا في " القصص " ) قرّت عين لي ولك ) [ الآية :
9 ]. وكتب " بقية " بالهاء إلا في " هود " ) بقيَّت الله ) [ الآية : 86 ]. وكتب " من ثمرة " بالهاء
إلا في " حم السجدة " ) من ثمرات من أكمامها ) [ فصلت : 47 ]. وكتب " كلمة " بالهاء إلا
في أربعة مواضع : في " الأنعام " ) وتمت كلمت ربِّك ) [ الآية : 115 ] ، وفي " يونس " حرفان
) كلمت وبك ) [ الآيتان : 33 و 96 ] ، وفي " المؤمن " ) حقّت كلمت ربّك ) [ غافر : 6 ] .
وكتب ) غيابت الجب ( بالتاء [ يوسف : 10 و 15 ] ، ) فهم على بيِّنت منه ( بالتاء
[ فاطر : 40 ]. وكتب كل ما في القرآن من ذكر " الآية " بالهاء إلا في " العنكبوت " ) لولا أنزل
عليه آيت ) [ الآية : 50 ] فإنها بالتاء. وكتب ) فطرت ) [ الروم : 30 ] و ) عفريت ) [ النمل
39 ] و ) اللات والعزى ) [ النجم : 19 ] و ) لاتت حين مناص ) [ ص : 3 ] و ) ذات بهجة (
[ النحل : 60 ] و ) هيهات ) [ المؤمنون : 36 ] و ) مريم ابنت عمران ) [ التحريم : 12 ]
و ) مرضات ) [ البقرة : 207 و 265 ، والنساء : 114 ، والتحريم : 1 ] كلها بالتاء. وكتب
" الملأ " بالألف إلا أربعة مواضع : في " المؤمنون " ) فقال الملؤ الذين كفروا ) [ الآية : 24 ] ،
وفي " النمل " ) يا أيها الملؤ إني ) [ الآية : 29 ] و ) يا أيها الملؤ أفتوني ) [ الآية : 32 ] و ) يا
أيها الملؤ أيكم يأتيني ) [ الآية : 38 ] ، فإنها كتبت الواو. وكتب في " البقرة " ) يبصط (
[ الآية : 245 ] بالصاد ، وما سواه السين. وكتب في " البقرة " ) بسطة ) [ الآية : 247 ]
بالسين ، وفي " الأعراف " [ الآية : 69 ] بالصاد. وكتب في " آل عمران " ) منهم تقية ) [ الآية :
28 ] بالياء ، و ) حقّ تقاته ) [ الآية : 102 ] بالألف. وكتب في أول " يوسف " و " الزخرف "
) قرآناً عربياً ( بغير ألف ، وسائر القرآن ) قرآناً ( بألف .
وكتب في الأعراف " [ الآية : 112 ] و " يونس " [ الآية : 79 ] ( بكل سحر عليم ( بغير
ألف ، وفي " الشعراء " ) سحار عليم ) [ الآية : 37 ] بالألف بعد الحاء. وكتب في " الذاريات "
) ساحر أو مجنون ) [ الآية : 39 ] بالألف ، وما سواه بغير ألف. وكتب في " يونس " ) لننظر
كيف تعلمون ) [ الآية : 14 ] بنون واحدة. واختلف في قوله : ( إنّا لننصر رسلنا ( ففي
" المؤمن " [ غافر : 51 ]. وكتب في " يونس " ) ننج المؤمنين ) [ الآية : 103 ] بنونين وحذف
الياء ، وفي آخر " يوسف " ) فنجي من تشاء ) [ الآية : 110 ] بنون واحدة ، وفي " الأنبياء " (1/38)
" صفحة رقم 39 "
) وكذلك نجي المؤمنين ) [ الآية : 88 ] بالياء وبنون واحدة. وكتب جميع ما في القرآن من
ذكر ال " أيدي " بياء واحدة إلا في " الذاريات " ) السماء بنيناها بأييد ) [ الآية : 47 ] فإنها
كتبت بياءين ، والأصل كتبه بياء واحدة. وكتب " الن " بغير ألف في كل القرآن إلا في
" الجن " ) فمن يستمع الآن ) [ الآية : 9 ] فإنه بالألف. وكتب في " حم السجدة " ) سموات (
[ فصلت : 12 ] بالألف. وكتب في " البقرة " ) خطبكم ( بحرف واحد بين الطاء
والكاف ، وفي " الأعراف " ) خطييكم ) [ الآية : 261 ] بحرفين بينهما .
وكتب " رأ " بغير ياء في كل القرآن إلا في " النجم " ) لقد رأى من آيات ربّه الكبرى (
[ الآية : 18 ] و ) وما كذب الفؤاد ما رأى ) [ الآية : 11 ]. وكتب " الن " بغير ألف في كل القرآن إلا فيء
" الجن " ) فمن يستمع الآن ) [ الآية : 9 ] فإنه بالألف. وكتب في " حم السجدة " ) سموات (
[ فصلت : 12 ] بالألف ، وما سواه كتب " سموت " بغير ألف. وكتب في أول " سبأ " ) علم
الغيب ) [ الآية : 3 ] بغير ألف. وكتب في " البقرة " ) خطبكم ( بحرف واحد بين الطاء
والكاف ، وفي " الأعراف " ) خطييكم ) [ الآية : 261 ] بحرفين بينهما .
وكتب " رأ " بغير ياء في القرآن إلا في " النجم " ) لقد رأى من آيات ربّه الكبرى (
[ الآية : 18 ] و ) ما كذب الفؤاد ما رأى ) [ الآية : 11 ]. وكتب في " يونس " ) وما تغني
الآيات ( بالياء على الأصل ، وفي " القمر " ) فما تغن النذر ) [ الآية : 5 ] بغير ياء على
اللفظ. وكتب في " البقرة " ) يؤتي الحكمة ) [ الآية : 269 ] بالياء ، وفي " النساء " ) وسوف
يؤت الله ) [ الآية : 146 ] بغير ياء. وكتب ) ويمح الله الباطل ) [ الشورى : 24 ] بغير واو ،
و ) يمحوا الله ما يشاء ) [ الرعد : 39 ] بالواو والألف. وكتب الداع بغير ياء حيث كان إلا
قوله أجيبوا داعي الله وكتب " ثمود " بالألف في حال النصب وهي أربعة مواضع : في
" هود " [ الآية : 68 ] ، و " الفرقان " [ الآية : 38 ] ، و " العنكبوت " [ الآية : 38 ] ، و " النجم "
[ الآية : 51 ]. وكتب ) ثمود الناقة ) [ الإسراء : 59 ] بغير ألف. وكتب في " النمل " ) وما
أنت بهادي ) [ الآية : 81 ] بالياء ، وفي " الروم " ) بهاد ) [ الآية : 53 ] بغير ياء ، والأصل فيهما
الياء. وكتب في " الحج " ) ولؤلؤاً ) [ الآية : 23 ] بألف ، وفي " فاطر " [ الآية : 150 ]
بالألف مقطوعاً ، وفي " طه " ) يا بنؤم ( بالواو موصولا ، وكتب في " الحجز " [ الآية : 78 ]
و " ق " [ الآية : 14 ] ( أصحاب الأيكة ( بالألف ، وفي " الشعراء " [ الآية : 176 ] و " ص "
[ الآية : 13 ] ( ليكة ( بغير ألف .
وكتب في " يوسف " ) لذو علم لما علمناه ) [ الآية : 68 ] ، وفي " المؤمن " ) ذو
العرش ) [ غافر : 15 ] ، وفي " السجدة " ) لذو مغفرة وذو عقاب أليم ) [ فصلت : 43 ] ، وفي
" الجمعة " ) ذو الفضل العليم ) [ الآية : 4 ] ، وفي " البرج " ) ذو العرش ) [ الآية : 15 ]
بغير ألف في هذه المواضع ، وما سواها " ذوا " بالألف. وكتب ( الرِّبوا " بواو بعدها ألف في
كل القرآن إلا قوله : ( وما آتيتم من ربا ) [ الروم : 39 ] فإنه بغير واو. وكتب ) لدا الباب (
[ يوسف : 25 ] بالألف ، و ) لدى الحناجر ) [ غافر : 18 ] بالياء. وكتب ) ولا أوضعوا
خلالكم ) [ التوبة : 47 ] و ) لا أذبحنه ) [ النمل : 21 ] بزيادة ألف ، وفي مصاحف الشام ) ولا(1/39)
" صفحة رقم 40 "
أمة مؤمنة ) [ البقرة : 221 ] بزيادة ألف أيضاً. وكتب ) أية المؤمنون ) [ النور : 31 ] و ) أيَّة
الساحر ) [ الزخرف : 49 ] و ) أيَّة الثقلان ) [ الرحمن : 31 ] بغير ألف ، وما سواها " يا أيها (
و " يا أيتها " بالألف. وكتب في " الأحزاب " ) الظنونا ) [ الآية : 10 ] و ) الرسولا ) [ الآية :
66 ] و ) السبيلا ) [ الآية : 67 ] بالألف ، وفي " الفرقان " ) أم هم ضلّوا السبيل ) [ الآية : 17 ]
وفي " الأحزاب " ) وهو يهدي السبيل ) [ الآية : 4 ] وهما رأس آية. وكتب في " الإنسان "
) قواريراً ) [ الآية : 15 ] بالألف ، ) قوارير من فضة ) [ الآية : 16 ] بغير ألف .
وكتب في " الأنعام " ) أئنكم لتشهدون ) [ الآية : 19 ] ، وفي " الأعراف " ) أئنكم لتأنون
الرجال ) [ الآية : 81 ] ، وفي " العنكبوت " ) أئنكم لتأتون الرجال ) [ الآية : 29 ] ، وفي " حم
السجدة " ) أئنكم لتكفرون ) [ فصلت : 9 ] بالياء ، وما سواها بغير ياء. وكتب في " الواقعة " ) أئذا (
) أءن لنا لأجراً ) [ الآية : 113 ] بغير ياء ، وفي " الشعراء " ) أئن لنا لأجراً ) [ الآية : 41 ] بالياء. وكتب في " النمل " ) أئنا لمخرجون ) [ الآية : 67 ] بالياء ، وكذلك في " الصافات "
) أئنا لتاركوا ) [ الآية : 36 ] ، وما سواهما فهو " أءنا " بغير ياء. وكتب في " الواقعة " ) أئذا (
[ الآية : 47 ] بالياء ، وفي سائر القرآن " أءذا " بغير ياء. وكتب في " هود " ) في أموالنا ما
نشاء ) [ الآية : 87 ] بالألف بعد الواو ، ومثله في " الأنعام " ) يأتيهم أنباء ) [ الآية : 5 ] ، وفيها
[ سورة الأنعام ] ( أنهم فيكم شركاء ) [ الآية : 94 ]. وفي " حم عسق " ) أم لهم شركاء (
[ الشورى : 21 ] ، وفي " الروم " ) من شركائهم شفعاء ) [ الآية : 13 ] ، وفي " إبراهيم " ) فقال
الضعفاء ) [ الآية : 21 ] ، وفي " الشعراء " ) فسيأتيهم أنباء ) [ الآية : 6 ] وفيها [ سورة الشعراء ]
أيضا ) أن يعلمه علماء ) [ الآية : 197 ] ، وفي " فاطر " ) من عباده العلماء ) [ الآية : 28 ] ،
وفي " الصافات " ) لهو البلاء ) [ الآية : 106 ]. وفي " حم " الأولى ) وما دعاء الكافرين (
[ غافر : 50 ] ، وفي " الدخان " ) ما فيه يلؤُا ) [ الآية : 33 ] بالواو ، وفي " الممتحنة " ) إِنَّا
برآؤاٌ ) [ الآية : 4 ]. وكتب " جزاؤ " بالواو إلا في " الكهف " ) فله جزاء الحسنى ) [ الآية :
88 ] .
وكتب ) إن أمرؤا هلك ) [ النساء : 176 ] ، و ) يتفيَّؤا ظلاله ) [ النحل : 48 ] ، و ) يعبؤا
بكم ) [ الفرقان : 77 ] ، و " ) أتوكؤا عليها ) [ طه : 18 ] ، و ) تفتؤا تذكر ) [ يوسف : 85 ] ،
و ) ويدرؤا عنها ) [ النور : 8 ] ، و ) نبؤا الذين ) [ التوبة : 70 ؛ إبراهيم : 9 ؛ والتغابن : 5 ] ،
و ) نبؤا الخصم ) [ ص : 21 ] ، و ) ينشَّؤا في الحلية ) [ الزخرف : 18 ] ، و ) لا تظمؤا فيها (
[ طه : 119 ] ، و ) يبدؤا الخلق ) [ يونس : 4 و 34 : النمل : 64 ؛ والروم : 11 و 27 ] ؛ وما
أشبهها بواو وألف ليقوّوا بها الهمزة المضمومة ، أو على لغة من لا يهمز ، ولو كتب كلها
بالواو وحدها أو بالألف وحدها لجاز وكتب في " الأنعام " ) من نبإي المرسلين ) [ الآية :(1/40)
" صفحة رقم 41 "
34 ] بياء بعد الهمزة ، وكذلك في " يونس " ) تلقاءي نفسي ) [ الآية : 15 ] ، وفي " النحل "
) وإيتاءي ذي القربى ) [ الآية : 90 ] ، وفي " طه " ) ومن آناءي الليل ) [ الآية : 130 ] ، وفي
" حم عسق " ) أو من وراءى حجاب ) [ الشورى : 51 ] .
وكتب ما في القرآن من كل ذوات الواو بالألف مثل " دعا ، عفا ، وتلا " إلا ) دحيها (
[ النازعات : 30 ] و ) تليها ) [ الشمس : 2 ] ، و ) ضحيها ) [ الشمس : 6 ] ، و ) سجى (
[ الضحى : 2 ] ، و ) ما زكى ) [ النور : 21 ] ، وذوات الياء يكتب بالياء مثل " هدى ، ورمى ، وقضى "
إلا أحرفا هي : ( ومضا مثل الأولين ) [ الزخرف : 8 ] ، ) وجنا الجنتين دان ) [ الرحمن : 54 ]
و ) طغا الماء ) [ الحاقة : 11 ] ، و ) أقصا المدينة ) [ القصص : 20 ؛ ويس : 20 ] ، و ) أحيا الناس (
[ المائدة : 32 ]. وكل ياءين اجتمعتا في كلمة مثل " الدنيا " و " العليا " جعلت الأخيرة ألفاً
كراهة الجمع بين الياءين إلا في قوله تعالى " يحيى " و " أمات " و " أحيي " في بعض
المصاحف. وكتب " الزكوة " و " الحيوة " و " منوة " و " مشكوة " و " بالغدوة " بالواو. وكتب
" الصلوة " بالواو إلا في " الأنعام " ) وهي على صلاتهم يحافظون ) [ الآية : 92 ] ( وصلاتي
ونسكي ) [ الآية : 162 ] ، وفي " الأنفال " ) وما كان صلاتهم ) [ الآية : 35 ] ، وفي أول
" المؤمنين ) في صلاتهم ساهون ) [ الماعون : 5 ]. وكتب ) فإذا لا يؤتون الناس نقيراً (
[ النساء : 53 ] ، ) وليكونا من الصاغرين ) [ يوسف : 32 ] ، و ) لنسفعا بالناصية ) [ العلق :
15 ] ، بالألف والوقف عليها بالألف. وكتب في " البقرة " ) واخشوني ولأتمَّ ) [ الآية : 150 ]
بالياء ، وفي " المائدة " ) واخشون اليوم ) [ الآية : 3 ] ( واخشونِ ولا ) [ الآية : 44 ] بغير ياء .
وكتب في " يوسف " ) ومن اتبعني وسبحان الله ) [ الآية : 108 ] بالياء ، وفي " آل
عمران " ) ومن اتبعنِ وقل ) [ الآية : 20 ] بغير ياء. وكتب في " سبحان الذي " ) لئن آخرتن (
[ الآية : 10 ] بغير ياء وفي المنافقون ) لولا أخرتني ( بالياء. وكتب في يوسف ) ما نبغي (
[ الآية : 65 ] بالياء ، وفي " الكهف " ) ما نبغي ) [ الآية : 64 ] بغير ياء ، وفي " هود " ) يوم
يأتِ لا تكلم ) [ الآية : 105 ] بغير ياء وفي " النحل " ) يوم تأتي كل نفس ) [ الآية : 111 ]
بالياء ، وفي " الدخان " ) يوم تأتي السماءُ ) [ الآية : 10 ] بالياء. وفي " الأنعام " ) وقد هدان (
[ الآية : 80 ] بغير ياء ، و ) إنني هداني ) [ الآية : 161 ] بالياء وفي " الأعراف " ) ثم كيدون (
[ الآية : 195 ] بغير ياء وفي " هود " ) فكيدوني جميعاً ) [ الآية : 55 ] بالياء. وفي " هود "
) فلا تسألن ) [ الآية : 46 ] بغير ياء ، وفي " الكهف " ) فلا تسألني ) [ الآية : 70 ] بالياء. وفي(1/41)
" صفحة رقم 42 "
" الكهف " ) أن يهدين ربي ) [ الآية : 34 ] بغير ياء ، وفي " القصص " ) أن يهديني سواء
السبيل ) [ الآية : 22 ] بالياء. وفي " طه " ) فاتبعوني وأطليعوا أمري ) [ الآية : 90 ] بالياء ، وفي
" الزخرف " ) واتَّبعون هذا ) [ الآية : 61 ] بغير ياء. وكذلك في " المؤمن " وفي " الأعراف "
) فهو المهتدي ) [ غافر : 38 ؛ والأعراف : 178 ] بالياء ، وفي " سبحان الذي " وسورة الكهف
) فهو المهتدِ ] [ الإسراء : 97 ؛ والكهف : 17 ] بغير ياء. وفي " إبراهيم " ) قل لعبادي الذين
آمنوا ) [ الآية : 31 ] بالياء ، وفي " الزمر " ) فبشر عبادِ الذين ) [ الآية : 17 ] بغير ياء .
وكتب " الذي " و " الذين " بلام واحدة ، و " اللذان " و " اللذين " بلامين. وكتب " جزاء "
بغير واو و " هزوا " و " كفوا " بالواو. وكتب ) بين المرء ) [ البقرة : 152 ؛ والأنفال : 24 ] ،
و ) جزء مقسوم ن ) [ الحجر : 44 ] ، و ) يخرج الخبا ) [ النمل : 25 ] ، و ) ملا الأرض ) [ آل
عمران : 91 ] ، و ) دف ) [ النحل : 5 ] بإسقاط الهمزة .
ومن غرائب الهجاء ونوادره ما كتب في " الفرقان " ) وعتو عتواً كبيراً ) [ الآية : 21 ]
بغير ألف ، وفي " سبأ " ) والذين سعو ) [ الآية : 5 ] بغير ألف ، وفي " الحشر " ) والذين تبوؤ
الدار ) [ الآية : 9 ] بواوين من غير ألف ، وفي " المعصرات " ) كنت تواباً ) [ النبأ : 40 ] بغير
ألف ، وفي " القلم " ) بأييكم المفتون ) [ الآية : 6 ] بياءين ، وفي " آل عمران " ) أفاين مات (
[ الآية : 144 ] بالياء ، وفي " الأنبياء " ) أفإن مت ) [ الآية : 34 ] بغير ياء. وكتب ) أثاقلتم (
[ التوبة : 38 ] ونحوه بالألف. وكتب ) فادرتم ) [ البقرة : 72 ] ليس بين الدال والراء ، ولا
بين الراء والتاء ، ألف في جميع المصاحف. وكتب في " الحاقة " لبيان الحركة ) كتاب (
[ الآية : 19 ] و ) حسابيه ) [ الآيتان : 20 و 26 ] و ) ماليه ) [ الآية : 28 ] و ) سلطانيه ) [ الآية :
29 ] ، وفي " القارعة " ) ماهية ) [ الآية : 10 ] بإثبات الهاء. واختلف في ) لم يتسنَّه (
[ البقرة : 259 ] و ) فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] أن الهاء فيها لبيان الحركة أو لغير ذلك
وكتب في سورة النساء ) فمال هؤلاء القوم ) [ الآية : 78 ] ، وفي " الكهف " ) مال هذا
الكتاب ) [ الآية : 49 ] ، وفي " الفرقان " ) مال هذا الرسول ) [ الآية : 7 ] ، وفي " المعارج "
) فمال الذين كفروا ) [ الآية : 36 ] باللام مع " ما " مقطوع عما بعدها .
واعلم أن هجاء المصحف كثير وقد ذكرنا منها ما هو أنفع للقارئ وأكثر فائدة. وأما
الحركات كلها فقد راعيناها إلا ما شاء الله في كتابة متن القرآن من هذا الكتاب كما بلغنا
عمن تقدمنا من السلف الصالحين والعلماء المتقين ورووا أنهم وجدوها في الإمام كذلك ،
وستراها في مواضعها إن شاء الله. وإنما كتبت هذه الحروف بعضها خلاف بعض وفي
الأصل واحدة ، لأن الكتابة بالوجهين كانت جائزة عندهم فكتبوا بعضها على وجه بعضها(1/42)
" صفحة رقم 43 "
على وجه آخر جمعاً بين المذهبين ، على أنهم كتبوا أكثرها على الأصل. وكل ما كتب في
المصحف على أصل لا يقاس عليه غيره من الكلام ، لأن القرآن يلزمه لكثرة الاستعمال ما لا
يلزم غيره. واتباع المصحف في هجائه واجب ومن طعن في شيء من هجائه فهو كالطاعن
في تلاوته لأنه بالهجاء يتلى ، والفائدة للقارئ في معرفته أن يكون على يقين أن الذي يقرأ
هو القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد بلا خلل فيه من جهة من الجهات وقال
جماعة من الأئمة : إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتاب أن يتبعوا هذا الرسم في
خط المصحف فإنه رسم زيد بن ثابت وكان أمين رسول الله ، وكاتب وحيه ، وعلم من
هذا العلم بدعوة النبي ما لم يعلم غيره فما كتب شيئاً من ذلك إلا العلة لطيفة وحكمة
بليغة ، وإن قصر عنها رأينا. ألا ترى أنه لو كتب على صلواتهم وان صلواتك بالألف بعد
الواو أو بالألف من غير واو لما دل ذلك إلا على جه واحد وقراءة واحدة ؟ وكذلك
) وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ( وكتب ) وسيعلم الكفر ( بغير ألف قبل الفاء ولا بعدها
ليدل على القراءتين والله تعالى أعلم .(1/43)
" صفحة رقم 44 "
المقدمة الثامنة في أقسام الوقف
الوقف قطع الكلمة اسماً أو فعلاً أو حرفاً عما بعدها ولو فرضاً وله عند أكثر الأئمة
خمس مراتب : لازم ، ومطلق وجائز ، ومجوز لوجه ، ومرخص ضرورة .
فاللازم من الوقف ما لو وصل طرفاه غير المرام وشنع الكلام ، كقوله تعالى : ( وما
هم بمؤمنين ) [ البقرة : 8 ] إذ لو وصل بقوله ) يخادعون الله ) [ البقرة : 9 ] صارت الجملة
صفة " للمؤمنين " ، فانتفى الخداع عنهم وتقرَّر الإيمان خالصاً عن الخداع ، كما تقول : ما هو
بمؤمن مخادع. ومراد الله جل ذكره نفي الإيمان وإثبات الخداع. وفي نظائر ذلك كثرة
يوصلك المرور بها إلى العثور عليها .
والمطلق ما يحسن الابتداء بما بعده ؛ كالاسم المبتدأ به ، ونحوه ) الله يجتبي إليه من
يشاء ) [ الشورى : 13 ] وكالفعل المستأنف مع السين ، نحو ) سيقول السفهاء ) [ البقرة :
142 ] ( سيجعل الله به عسر يسراً ) [ الطلاق : 9 ] وبغير السين ، نحو يعبدونني لا
يشركون بي شيئاً ) [ النور : 55 ] إلى غير ذلك من النظائر .
والجائز ما يتجاذب فيه طرفا الوصل والوقف ، مثل ) وما أنزلَ من قبلك ) [ النساء :
60 ] ، لأن واو العطف تقتضي الوصل ، وتقديم المفعول على الفعل يقطع النظم فإن
التقدير : ويوقنون بالآخرة .
والجائز لوجه ، مثل ) أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ) [ البقرة : 86 ] لأن
الفاء في قوله ) فلا يخفف عنهم ) [ البقرة : 86 ] والتعقيب يتضمن معنى الجواب والجزاء ؛
وذلك يوجب الوصل. إلا أن نظم الفعل على الاستئناف يرى للفصل وجهاً .
والمرخص ضرورة ، ما لا يستغني ما بعده عما قبله ، لكن يرخص الوقف ضرورة انقطاع النفس لطول الكلام ، ولا يلزمه الوصل بالعود ، لأن ما بعده جملة مفهومة ، كقوله
) والسماء بناء ) [ البقرة : 22 ] لأن قوله " وأنزل " لا يستغني عن سياق الكلام ؛ فإن فاعله(1/44)
" صفحة رقم 45 "
ضميره يعود إلى الصريح المذكور قبله. غير أنها جملة مفهومة لكون الضمير مستكناً ، وإن
كان لا يبرز إلى النطق. وأما ما لا يجوز الوقف عليه ففي مواجبه ومواقعه كثرة. وسيتلى
عليك مواقع الفصل والوصل في جميع القرآن مع علل ذلك مفصلة إن شاء الله تعالى .
وبعضهم قسم مراتب الوقوف إلى ثلاث : التام ، والكافي ، والحسن. ولا مشاحة في
الاصطلاحات بعد رعاية المعنى. وليكن علامة اللازم " م " وعلامة المطلق " ط " والجائز
" ج " ، والمجوز " ز " والمرخص " ص " ، وما لا وقف عليه فعلامته " لا " وعلامة الآية دائرة
صغيرة هكذا " ه " . وإنما التزمنا إيراد هذه الوقوف لدقة مسلكها وبلوغها في الغموض إلى
حيث قصروا البلاغة على معرفة الفصل و الوصل ، إلا أن ذلك بحسب الصياغة وما نحن فيه
بطرق الصناعة وكل منهما تابع لارتباط المعنى بالمعنى وانفصاله عنه بالكل أو بالبعض .
وسيتلى عليك تفاصيلها وبالله التوفيق .(1/45)
" صفحة رقم 46 "
المقدمة التاسعة في تقسيمات يعرف منها اصطلاحات مهمة
اللفظ إما أن يعتبر دلالته على تمام مسماه ، أو على جزء مسماه ، أو على لازمه
الذهني. والأول : دلالة مطابقة كدلالة البيت على مجموع الحائط والسقف ، والثاني : دلالة
تضمن كدلالة البيت على السقف أو الحائط ؛ والثالث : دلالة الالتزام كدلالة السقف على
الحائط. والدلالة الأولى وضعية صرفة ، والباقيتان بمشاركة من الوضع والعقل .
تقسيم آخر : اللفظ إما أن يقصد بجزء منه دلالة على حزء معناه ، وهو المركب ،
كعبد الله غير علم ؛ أو لا يقصد وهو المفرد ، ويشمل ما لا جزء له أصلاً ، مثل ق علماً ،
وما كان له جزء ولكن لا يدل على معنى أصلاً ، نحو زيد ؛ وما كان له جزء دال على معنى
لكن لا في المسمى ، نحو : أسد الله علماً لشخص إنساني ، وما له جزء دالّ على معنى
في ذلك المسمى لكنه لم يقصد ، مثل عبد الله علماً له .
تقسيم آخر : اللفظ المفرد باعتبار وحدته ووحدة مدلوله وتعددهما أربعة أقسام :
الأول : اللفظ واحد والمدلول واحد. الثاني : مقابل ذلك أي اللفظ كثير والمعنى كثير .
الثالث : اللفظ واحد والمعنى كثير. الرابع : عكسه المعنى واحد واللفظ كثير .
فالأول : إن اشترك في مفهومه كثيرون مجرداً عن سبب من خارج فهو الكلي ، ويقال
له اسم الجنس وهو أقسام ستة ، لأنه إما موجود أو معدوم. والموجود إما واحد أو كثير .
والواحد إما أن يكون مثله ممكناً كالشمس ، أو غير ممكن كالإله. والكثير إما متناء
كالكواكب ، أو غير متناهٍ كالعدد. والمعدوم إما ممكن الوجود في الخارج كجبل من ذهب ،
أو غير ممكن كشريك الإلى. وعلى التقارير ، فإن تفاوت وقوعه على أفراده بأن يكون
لبعضها أولى أو أوّل أو أشد ، كالوجود للخالق والمخلوق ، فإن وقوعه على الخالق أوّل
وأولى وأشد ، وكالأبيض على الثلج والعاج ؛ فإن وقوعه على الثلج أشد. فاللفظ مشكك لأنه
يشكك بالنسبة إلى السامع في أنه متواطئ نظراً إلى اشتراك الكل في أصل المعنى ، أو(1/46)
" صفحة رقم 47 "
مشترك نظراً إلى اختلافها في ذلك. وإن لم يكن في وقوعه تافوت فمتواطئ ، كالإنسان
بالنسبة إلى أفراده فإنّ كلها متوافقة في الإنسانية مستوية فيها. وإن لم يشترك في مفهومه
كثيرون فهو الجزئي : علم إن استقل في الدلالة بحيث لا يحتاج إلى أمر ينضم إليه من قرينة
التخاطب والتكلم وتقدم الذكر ولام العهد والإشارة ، مضمر ، إن احتاج إلى إحدى القرائن
الثلاث الأول ، ومبهم إن احتاج إلى شيء من الباقيتين. والعلم إما اسم كإبراهيم وموسى
وعيسى ، وإما أن يكون لقباً اشتهر المسمى به مدحاً أو ذماً كإسرائيل ، أو كنية ويختص بما
في أوله الأب أو الأم أو البنت أو الابن نحو : أبي لهب ، وأم القرى ، وابنة عمران ، وابن
مريم. وقد يكون العلم علماً لجنس بأسره بحيث لا يكون بعض أفراده الخارجة أولى بذلك
من بعض ، لكونه للحقيقة الذهنية ليس فيها معنى الاستغراق ولا الوحدة الخارجية. وإذا
أطلق على فرد من أفراده الخارجية ، نحو هذا أسامة مقبلاً ، فليس ذلك بالوضع بل لمطابقة
الحقيقة الذهنية لكل فرد خارجي مطابقة كل كلي طبيعي لجزيئاته. فهذه تمام أقسام القسم
الأول ، وهو أن اللفظ واحد والمعنى واحد .
الثاني : من الأربعة متباينة ، كالإنسان والفرس .
الثالث : إن كان اللفظ حقيقة للمتعدد من مدلولاته بأن كل موضوعاً للجميع
فمشترك ، وإلا فمنقول إن نقل من الموضوع له إلى معنى آخر لعلاقة واشتهر فيه : عرفي إن
كان الناقل هو العرف العام ، واصطلاحي إن كان العرف الخاص ، وشرعي إن كان الشرع .
وإلا فبالنسبة إلى المنقول عنه حقيقة ، وبالنسبة إلى المنقول إليه مجاز إن انتقل من الملزوم
إلى اللازم ، وكناية إن كان العكس ، وإن نقل لا لعلاقة فمرتجل .
الرابع : من الأقسام : مترادفة ، كالليث والأسد .
ولا يخفى أن القسمين الأولين والقسم الرابع ثلاثتها نصوص في معناها ؛ أما الأول
فلاتحاد المعنى الموجب لعدم احتمال الغير وهو معنى النص. وأما المتكثر في اللفظ
والمعنى ، فلأنه حينئذ يكون لكل معنى لفظ فيتحد المعنى فلا يحتمل اللفظ غير ذلك. وأما
الرابع فلاشتراط الاتحاد في المعنى. وأما القسم الثالث ، وهو أن اللفظ واحد والمعنى
كثير ، فينقسم إلى مجمل وظاهر ومؤوّل لأن اللفظ بالنسبة إلى تلك المعاني إن كان متساوي
الدلالة فهو المجمل وبإزائه المبين ، وإن كانت متفاوتة فالراجح هو الظاهر والمرجوح هو
المؤوّل .
فالأول كقول تعالى : ( ثلاثة قروء ) [ البقرة : 228 ] ، فإن دلالة القرء بالنسبة إلى الطهر
والحيض على السواء .(1/47)
" صفحة رقم 48 "
والثاني نحو ) أقيموا الصلاة ) [ الأنعام : 72 ] فإن الأمر كما يحتمل الوجوب يحتمل
الندب ، والصلاة كما يحتمل ذات الأركان يحتمل الدعاء ، إلا أن الأمر بالنسبة إلى الوجوب
راجح ، والصلاة بالنسبة إلى الهيآت المخصوصة راجحة .
والثالث نحو ) يد الله فوق أيديهم ) [ الفتح : 10 ] فإن اليد تحتمل القدرة والجارحة
لكنها بالنسبة إلى القدرة مرجوحة فالرجحان مشترك بين النص والظاهر ويسمى بالمحكم ،
وعدم الرجحان مشترك بين المجمل احتمالاً مرجوحاً ، والمجمل يتميز بكونه غير مرجوح ،
والمؤوّل مرجوح ، والتأمل اشتقاقه من آل يؤول أي رجح. وفي الاصطلاح ، كما تقرر ،
حمل الظاهر على المحتمل المرجوح فيشمل التأويل الفاسد والتأويل الصحيح ؛ فإن أريد
التأويل الصحيح فقط فقد زيد في الرسم بدليل يصيره راجحاً أي بحسب ذلك الدليل وإن
كان مرجوحاً بحسب مفهوم اللفظ وضعاً أو عرفاً كما قلنا في اليد بمعنى القدرة .
وإذا عرفت الأقسام الأربعة بأسرها فنقول : كلٌّ منها قد يكون مشتقاً إن وُجد له أصل
يرجع إليه كالموجود والضارب بالإضافة إلى الوجود والضرب ؛ فإن معنى الاشتقاق أن تحدّ
بين اللفظين تناسباً في المعنى والتركيب ، فترد أحدهما إلى الآخر. وقد يكون غير مشتق إن
فقد له أصل كالوجود والإنسان. وغير المشتق صفة إن دلّ على معنى قائم بالذات كالعلم
والكتابة ، وغير صفة إن لم يدل كالجسم مثلاً .
تنببيه : العلاقة المعتبرة في المجاز إنما تقع بحكم ا لاستقراء على نيف وعشرين وجهاً ؛
منها الاشتراك في صفة ظاهرة كالأسد على الرجل الشجاع لا على الأبخر لخفاء ذلك. وهذا
معظم أنواع المجاز لأنه إطلاق اسم الملزوم على اللازم. وأكثر المجازات بل جميعها يرجع
إلى ذلك. ومنها الاشتراك في الشكل كالإنسان للصورة المنقوشة. ومنها كونه آئلاً إلى ذلك
كالخمر للعصير ، أو كائناً عليه كالعبد على من أعتق. ومنها المجاورة مثل جرى الميزاب إذ
الجاري في الحقيقة هو الماء لا الميزاب المجاور له. ومنها إطلاق اسم الحال على المحل
مثل ) فأما الذين ابيضَّت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) [ آل عمران : 107 ] أي
في الجنة لأنها محل الرحمة. ومنها عكسه كقوله : " لا يفضض الله فالك " أي أسنانك ، إذ
الفم محل الأسنان. ومنها إطلاق اسم السبب على المسبب كقوله : " بلوا أرحامكم ولو
بالسلام " أي صلوها فإنهم لما رأوا بعض الأشياء يتصل بالنداوة استعار البل للوصل .
ومنها عكس ذلك كقولهم للخمر إثم ، ليكون الإثم مسبباً عنها. ومنها إطلاق الكل على
الجزء ، نحو ) يجعلون أصابعهم في آذانهم ) [ البقرة : 19 ] أي أناملهم. ومنها العكس نحو(1/48)
" صفحة رقم 49 "
) كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] أي ذاته. ومنها اسم المطلق على المقيَّد
كقوله :
فيا ليت كل اثنين بينهما هوى
من الناس قبل اليوم يلتقيان
أي قبل يوم القيامة : ومنها العكس كقول شريح : أصبحت ونصف الخلق علي
غضبان ، يريد المحكوم عليهم وظاهر أنهم ليسوا النصف سواء. ومنها
العكس ، كقوله سبحانه حكاية عن محمد ) وأنا أول المسلمين ) [ الأنعام : 163 ] لأن
الأنبياء قبله كانوا كذلك. ومنها كون المضاف محذوفاً نحو ) واسئل القرية ( ] يوسف : 82 ]
ومنها كون المضاف إليه محذوفاً كقوله : " أنا ابن رجلاً وطلاع الثنايا " . أي أنا ابن رجل جلاً .
ومنها إطلاق اسم آلة الشيء عليه مثل ) واجعل لي لسان صدق ) [ الشعراء : 84 ] أي ذكراً حسناً ،
لأن لسان آلة الذكر. ومنها إطلاق اسم الشيء على بدله ، كما يقال : فلان أكل الدم ، أي
ديته قال : " يأكلون كل ليلة إكافاً " . أي ثمن إكاف. ومنها إطلاق النكرة للعموم كقوله اسم أحد
قائل ) علمت نفس ما أحضرت ) [ التكوير : 14 ] أي كل نفس. ومنها إطلاق اسم أحد
الضدين على الآخر مثل ) وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] إذ جزاء السيئة حسنة ،
ومنه قوله : قاتلة الله ما أحسن ما قال ، يريدون الدعاء له. ومنها إطلاق المعرَّف باللام
وإرادة واحد منكر كقوله تعالى : ( ادخلوا الباب سجداً ) [ النساء : 154 ] ، أي باباً من أبوابها
وسيجيء ، ومنها الحذف نحو ) يبين الله لكم أن تضلوا ) [ النساء : 176 ] ، أي لئلا تضلوا .
ومنها الزيادة نحو ) ليس كمثله شيء ) [ الشورى : 11 ] .
واعلم أن المجاز بالحقيقة فرع من فروع التشبيه ، لأنك إذا قلت : زيد أسد ، فكأنك
قلت : زيد كالأسد في الجراءة ، فيستدعي مشبهاً ومشبهاً به ووجه شبه بينهما .
والمشبه والمشبه به قد يكونان حسيين كقولك : خدّه كالورد ؛ أو عقليين كالعلم إذا
شبه بالحياة ؛ أو أحدهما محسوساً والآخر معقولاً كالعطر إذا شبه بخلق كريم ، أو كالعدل
إذا شبه بالقسطاس ، والخياليات كالشقيق إذا شبه بأعلام ياقوت منشرة ملزوزة في قرن ،
والوهميات في قولك : نطقت الحال بشيء هو لها شبيه باللسان ، فإنه صورة وهمية محضة .
وكذا الوجدانيات كاللذة والألم والشبع والجوع ملحقة بالعقليات .
ووجه التشبيه إما أن يكون أمراً واحداً أو لا ، وحينئذ إما أن لا يكون في حكم الواحد
كما إذا شبهت إنساناً بالشمس في حسن الطلعة ونباهة الشأن وعلو الرتبة ، أو يكون. وذلك(1/49)
" صفحة رقم 50 "
لكونه إما حقيقة ملتئمة من أوصاف ، كسقط النار إذا شبه بعين الديك في الهيئة الحاصلة من
الحمرة والشكل الكروي والمقدار المخصوص ، وإما أوصافاً مقصوداً من مجموعها هيئة
واحدة كقوله :
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فليس المراد تشبيه النقع بالليل ثم تشبيه السيوف بالكواكب ، إنما المراد تشبيه الهئية
الحاصلة من النقع الأسود والسيوف البيض حال كون السيوف متفرقات فيه ، بالهيئة الحاصلة
من الليل المظلم والكواكب المشرقة في جوانب منه. ويسمى هذا تشبيه المركب بالمركب .
ومتى كان وجه التشبيه وصفاً غير حقيقي وكان منتزعاً من عدة أمور خص باسم التمثيل كما
في قوله عز من قائل : ( مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ( الآية : [ البقرة : 17 ] وسيجيء
تفسيرها .
ثم إن التشبيه التمثيلي إذا فشا استعماله على سبيل الاستعارة لا غير سميَّ مثلاً ،
كقولك لمن تردد في أمر : يقدّم رجلاً ويؤخر أخرى. وذلك أن الاستعارة هي أن تذكر أحد
طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر مدَّعياً دخول المشبه في جنس المشبه به ، دالاً على
ذلك بإثباتك للمشبه ما يخصّ المشبه به ، كما تقول : في الحمام أسد ، وأنت تريد به الشجاع
مدَّعياً أنه من جنس الأسد ، فتثبت للشجاع ما يخصّ المشبه به وهو اسم جنسه ، أعني الأسد
مع سدّ طريق التشبيه بإفراده في الذكر ، لأن التشبيه لا بد له من طرفين : مشبه ومشبه به .
فإذا أفردت بالذكر أحدهما فكأنك قد سددت طريق التشبيه .
فإذن الاستعارة نوع من المجاز لأن المستعار له ، وهو زيد مثلاً في قولك : زيد أسد ،
يبرز في معرض المستعار منه ، وهو الأسد ، نظراً إلى الدعوى. وهذا شأن العارية. وإنما
جرأهم على الدعوى ما رأوا بينهما من الاشتراك في اللازم وهو الشجاعة. والاستعارة في
نحو : عندي أسد ، إذا لم تعقب بصفات ملائمة أو تفريع كلام لا تكون مجردة ولا مرشحة
لفقد موضوعي التجريد والترشيح. وإنما يلحقها التجريد والترشيح إذا عقبت بذلك. فمتى
عقبت بصفات ملائمة للمستعار له سميت مجردة ، نحو : ساورت أسداً شاكي السلاح طويل
القناة. وإذا عقبت بصفات ملائمة للمستعار منه سميت مرشحة ، نحو : ساورت أسداً وافي
البراثن هصوراً .
وقد بقي من الاصطلاحات قولهم : هذا عام أو خاص أو مطلق أو مقيد. فالعام : ما
دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقاً ضربة. فقولنا " ما دل " ليشمل العموم باللفظ(1/50)
" صفحة رقم 51 "
والمعنى جميعاً ، فإن العموم من عوارض المعاني أيضاً حقيقة ، كقولهم : عم المطر
والخصب ، وكذلك المعنى الكلي كالإنسان لشموله الجزيئات التي تحته. وقولنا " على
مسميات " ليخرج المسمى وليدخل في العام المعدوم والمستحيل ، إذ لو قلنا " على أشياء "
لخرجنا بناءً على أنهما ليسا بشيء : وقولنا " باعتبار أمراً اشتركت تلك المسميات فيه " ليخرج
نحو عشرة وغيرها من أسماء العدد النكرات ، فإنها وإن دلت على مسميات هي آحادها لكن
لا باعتبار أمر اشتركت هي فيه بل باعتبار وضع اسم العدد للمجموع. وكذا الكلام في كل
ذي أجزاء حسية أو عقلية. وقولنا " مطلقاً " ليخرج الرجال المعهودون فإنها بقرينة العهد ،
و " ضربة " احتراز من نحو رجل فإنه وإن دل على مسميات باعتبار كون كل منها ذكراً من بني
آدم مطلقاً ، لكن لا دفعة بل سبيل البدل. ولهذا يخرج نحو رجال .
إذا تأملت فهذا حدّ العام والخاص بخلافه ، وهو ما دل لا على مسميات إلى آخره .
فمن صيغ العموم أسماء الشرط والاستفهام مثل " من وما " والموصلات نحو " الذي
والتي " ، والجموع المعرّفة تعريف جنس ك " الرجال والمسلمات " والجموع المضافة نحو
" عبيدي أحرار " ، اسم الجنس المضاف أو المعرف تعريف الجنس مثل " غلامي والغلام " ،
والنكرة في سياق النفي نحو ما في الدار أحد. والتخصيص قصر العام على بعض مسمياته .
وقد يطلق التخصيص أيضاً على قصر اللفظ على بعض ما يتناوله وإن لم يكن ذلك اللفظ
عاماً. كما يطلق عليه أيضاً أنه عام لتعدُّده وتكثره وإن لم يكن من صيغ العموم كعشرة
والمسلمين للمعهودين ، وكضمائر الجمع. ولا يستقيم تخصيصٌ إلا فيما يستقيم توكيده بكل
لكونه ذا أجزاء يصح افتراقها حسًّا أو حكماً ، إلا النكرة مثل قوله تعالى ) تلك عشرة كاملة (
[ البقرة : 196 ] ونحو : جاءني رجال كرماء .
والمخصَّص أحد أربعة أشياء : الأول الاستثناء ب " إلا " ونحوها. والثاني الشرط ، وهو
ما يتوقف تأثير المؤثر عليه لا وجود كالإحصان ، فإنه يتوقف عليه اقتضاؤم الرجم لا وجود
الزنا. والثالث الصفة ، مثل ) فتحرير رقبة مؤمنة ) [ النساء : 92 ] والرابع الغاية نحو ) أتموا
الصيام إلى الليل ) [ البقرة : 187 ] هذا هو التخصيص بالمتصل. وقد يخص بالمنفصل
وذلك إما العقل كقوله تعالى ) الله خلق كل شيء ) [ الرعد : 16 ، والزمر : 62 ] وإما الحس
نحو : أوتيت من كل شيء. وإما الدليل السمعي كقوله تعالى ) والمطلقات يتربصن بأنفسهن
ثلاية قروء ) [ البقرة : 228 ] خصصته الآية الآخرى ) وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن
حملهن ) [ الطلاق : 4 ] و ) يوصيكم الله في أولادكم ) [ النساء : 11 ] خصصه قوله :
" القاتل لا يرث " .(1/51)
" صفحة رقم 52 "
والمطلق هو اللفظ الدال على الماهية ، من حيث هي هي. ويلزم منه تمكن المأمور
من الإتيان بفرد منها ، أي فرد كان ، لأنه لا يمكن الإتيان بالماهية إلا بالإتيان بفود منها .
وذلك إما في معرض الأمر مثل : اعتق رقبة ، أو مصدر الأمر كقوله تعالى ) فتحرير رقبة (
[ النساء : 92 ] أو الإخبار عن المستقبل مثل سأعتق رقبة. ولا يتصور الإطلاق في معرض
الخبر المتعلق بالماضي ، مثل رأيت رجلاً ، ضرورة تعينه بإسناد الرؤية إليه .
والمقيَّد بخلاف المطلق فهو لفظ دال على مدلول غير شائع في جنسه فيدخل فيه الدال
على المتعين مطلقاً ، نحو زيد وهو الرجل وأنا وأنت ، والدال على الشائع لا في جنسه بل
في أفراده كالعام فهو مقيد لغة لا اصطلاحاً. ويطلق المقيد على ما أخرج من شياع بوجه بأن
يذكر الدال على الماهية بوصف زائد عليها ك ) رقبة مؤمنة ) [ النساء : 92 ] ، فإنها ، وإن
كانت مطلقة في جنسها من حيث هي رقبة مؤمنة ، إلا أنها مقيدة بالنسبة إلى مطلق الرقبة ،
فهي مطلقة من وجه ومقيدة من وجه. وتقييد المطلق شبيه بتخصيص العام. فيجوز التقييد
بالمتصل ، استثاء كان أو صفة أو شرطاً أو غاية أو بدل بعض ، وبالمنفصل ، عقلاً كان أو
نقلاً كتاباً وسنة .
وتقسيم آخر : التركيب المفيد أعني الكلام ، قسمان : أحدهما الذي يحتمل أن يقال
التخيير أو الوضع. أما التخيير فيراد به الإباحة. وأما الاقتضاء فإما اقتضاء فعل مع امتناع
الترك وهو الوجوب ، أو مع جواز الترك وهو الندب ؛ وإما اقتضاء ترك مع امتناع الفعل ،
وهو الحظر والتحريم ، أو مع جوازه وهو الكراهة ؛ وأما الوضع فيراد به ما جعله الشارع
بوضعه دليلاً على شيء كدلوك الشمس على وجوب الصلاة ، أو سبباً لشيء كالزنا لوجوب
الحد ، أو شرطاً كالوضوء لصحة الصلاة .(1/52)
" صفحة رقم 53 "
وأما الصحة والبطلان أو الحكم بها فأمر عقلي لا حكم شرعي ، لأن صحة العبادات
إما كون الفعل مسقطاً للقضاء كالفقهاء ، وإما موافقة أمر الشرع كالمتكلمين. ولا شك أن
العبادات إذا اشتملت على أركانها وشرائطها حَكَم العقل بصحتها بكل من التفسيرين سواء
حكم الشارع بها أو لا. والصحة في المعاملات أيضاً حكم عقلي لأنها فيها كون الشيء
بحيث يترتّب عليه أثر. وإذا كان البيع مشتملاً على الأسباب والشرائط وارتفاع الموانع حكم
العقل بترتب أثره عليه سواء حكم الشرع بها أو لم يحكم. وقس البطلان والفساد على ما
قلنا. وكل حكم ثبت على خلاف الدليل لعذر فهو رخصة ؛ كحل الميتة للمضطر ، والقصر
والفطر للمسافر واجباً ومندوباً ومباحاً وإلا فعزيمة .
وإذا عرفت ما ذكرنا من التقسيمات لا يخفى عليك المقصود من إيرادها لأن معاني
كتاب الله تعالى منها محكم ومتشابه ، ومنها مجمل ومبين ، ويندرج فيهما المنسوخ والناسخ
باعتبار ، لأن النسخ بيان انتهاء أمد الحكم الشرعي ؛ ومنها عام وخاص ، ومنها مطلق
ومقيد ومنها أمر ونهي ؛ ومنها ظاهر ومؤوّل ؛ ومنها حقيقة ومجاز ؛ ومنها تشبيه وتمثيل ؛
ومنها كناية وتصريح ؛ ومنها الكلي والجزئي ، ومنها الخبر والطلب بأقسامهما ؛ ومنها
الأحكم بأصنافها. ولا ريب أن تصوّر هذه الاصطلاحات وتذكرها في علم التفسير أمر مهم
والله أعلم .(1/53)
" صفحة رقم 54 "
المقدمة العاشرة في أن كلام الله تعالى قديم أو لا
ذكر قوم من أئمة الأمة أن كلام الله تعالى قديم بعد أن عنوا بكلامه هذه الحروف
المنتظمة المسموعة أما أن كلامه تعالى هو هذه الحروف فلقوله تعالى ) وإن أحدٌ من
المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) [ التوبة : 6 ]. ومعلوم أن المسموع ليس إلا
هذه الحروف. وأما أنها قديمة فلأن الكلام صفة الله تعالى ، ومن المحال قيام الحادث
بالقديم. وأيضاً كلّ حادث متغيِّر والتغير على ذات الله تعالى وصفاته محال. وزعم قوم أن
الكلام المؤلف من الحروف والأصوات يمتنع أن يكون قديماً بالبديهة ؛ وكيف لا وإنها
أصوات تحدث قارئها يئاً بعد شيء فلو قلنا : إنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بأن
الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى ، وحالَّة في بدن هذه الإنسان وهذا معلوم
الفساد. وجمع قوم بين المذهبين فقالوا : للشيء وجودٌ في الأعيان ، ووجودٌ في الأذهان ،
ووجود في العبارة ، ووجود في الكتابة. فللقرآن وجود عيني وهو القائم بذات الله تعالى ،
وأنه قديم لا محالة لا يتطرق إليه شيء من سمات النقص ؛ ووجود ذهني كالحفاظ للقرآن ،
ووجود في العبارة وهو على لسان القارئ ؛ ووجود كتابي وهو المثبت في المصاحف. ولا
ريب أن القرآن من حيثيات هذه الوجودات حادث بل القرآن إنما يطلق على المحفوظ
والمتلو والمكتوب بالمجاز من حيث إنها دالة على الكلام القائم بذات الله تعالى .
واعلم أنه لا برهان على أن كل وصوت فإنه يقوم بجسم ولا على أن كلّ حرف فإنما
يقدر عليه ذو حاجة بل لعل في ذلك الشاهد فقط. فالكلام للقديم كمال قديم نطق وسمع
وبصر ولا آلة ولا جارحة كما أنه إدراك وعلم من غير ما قوى وعضو ، ومن لم يدركه كما
ينبغي لم يدرك إدراكه كما ينبغي فلا يلومن إلا نفسه. كلامه كتاب ، وكتابه صواب ، وقوله
فصل ، وحكمه عدل ، ونوره ظهور ، ووجوده شهود ، وعيانه بيان ، والكفر بما سواه إيمان
) كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) [ الرحمن : 26 و 27 ] .(1/54)
" صفحة رقم 55 "
المقدمة الحادية عشرة في كيفية استنباط المسائل الكثيرة
من الألفاظ القليلة
إذا شرعنا مثلاً في تفسير قول القائل " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فههنا مباحث
لفظية ومباحث معنوية .
أما اللفظية فمنها ما يتعلق بالقراءة ، ومنها ما يتعلق باللغة ، ومنها ما يتعلق بعلم
الاشتقاق ، ومنها ما يتعلق بعلم الصرف ، ومنها ما يتعلق بالنحو ، ومنها ما يتعلق بعلم البديع
أعني المحسنات اللفظية .
وأما المعنوية فمنها ما يتعلق بالمعاني ، ومنها ما يتعلق بالبيان ، ومنها ما يتعلق
بالاستدلال ، ومنها ما يتعلق بأصول الدين ، ومنها ما يتعلق بأصول الفقه ، ومنها ما يتعلق
بالفقه ، ومنها ما يتعلق بعلم الأحوال .
أما القراءة فكما مر. وأما اللغة فإذا قلنا العوذ كذا ، واسم الله معنا كذا والشيطان
كذا ، والرجيم كذا ، والباء ومن واللام معانيها ههنا كذا ، فكل واحد منها مسألة. وأما الاشتقاق
فإن اعتبرنا الاشتقاق الكبير وقلنا : إن التراكيب الستة الممكنة من ع و د هل هي مستعملة أو
مهملة ؟ وكذا كل من تراكيب ال ش ط ن ، أو ش ي ط ، ومن تراكيب ر ج م ، وإذا كانت
مستعملة ، فأصل المعنى في كل من المستعملات كيف يعتبر فيحصل مسائل كثيرة ، وإن
اعتبرنا الاشتقاق الصغير فهل للعوذ معنى آخر غير الالتجاء وإن كان فما له الاشتراك بينهما
أي شيء هو ؟ فيحصل مسائل .
وأما الصرف فكأن نقول : " أعوذ " فعل مضارع متكلم وأصله أعوذ مثل أطلب ، فقلت
الضمة من الواو إلى ما قبلها تخفيفاً. والله أصله الإله كالناس أصله الإناس فعال بمعنى
مفعول ، نقلت الكسرة من الهمزة إلى اللام وحذفت الهمزة للتخفيف فاجتمعت لامان
فأسكنت الأولى وأدغمت في الثانية. وقالوا : يا ألله ، في النداء خاصة بالقطع لأنها كالعوض
من المحذوقة ، فكأنك قلت : يا إله. وقيل : أصله لاه ، ألحقوا بها الألف واللام وأنشدوا :(1/55)
" صفحة رقم 56 "
كحلفة من أبي رياح
يسمعها لاهه الكبار
ولو عد هذه المسألة من اللغة جاز ، لأنها غير قياس. والشيطان فعلان أو فيعال ،
والرجيم فعيل بمعنى مفعول ، وكلاهما للمبالغة. فهذه مسائل .
وأما النحو ف " أعوذ " فعل فاعله ضمير المتكلم المستتر وهو أنا ، والمجموع جملة
فعلية. وبالله متعلق به. وكذا من الشيطان الرجيم ، نحو سرت من البصرة إلى الكوفة
والرجيم صفة للشيطان معرف مثله ، وشيطان منصرف لأنه اسم جنس لا علم. فهذه مسائل .
وأما البديع فإن نقول : إنما اختير الرجيم دون اللعين أو المرجوم مثلاً ليوافق الفاصلة
الأخرى وهو الرحيم إذا ابتدأ القارئ بعد الاستعاذة بالبسملة ، وهو الأكثر ، مع أن أول
القرآن أيضاً البسملة واعتبار الاستعاذة ههنا أولى ليكون تجنيساً خطياً وترصيعاً .
وأما المعاني فأن نقول : إنما اختير المضارع على الماضي ليدل على الاستمرار
والدوام. أي : شأني أني أعوذ ، كقولك : يشرب الخطيب. وإنما لم يقل : أنا أعوذ وأنا
عائذ ، وإن كانت الجملة الاسمية تدل على الثبات ، لأن المراد أني على تجدد هذا القول
مني لحظة فلحظة ثابت مستمر ، لا أن عوذي مستمر. ويمكن أن يقال : المراد أني أعوذ في
حال القراءة لقوله تعالى ) فإذا قرأت القرآن فاستعذ ) [ النحل : 98 ] فتعين إيراد لفظ
المضارع لأنه مشترك بين الحال والاستقبال. وإنما لم يقل " بالله أعوذ " ليفيد الحصر ، كما
يقال في " بسم الله أبتدئ " لأن الاستعاذة ههنا أهم امتثالاً للأمر ، ولأنه لا يعوذ إلا
بالانقطاع عن الغير والتبري عن سوى الحق جل ذكره ، فلا حاجة إلى التخصيص ولأنه
موافق لما ورد في القرآن ) فاستعذ بالله ) [ النحل : 98 ]. وإنما اختير اسم " الله " لأنه كالعلم
والمقام مقام إحضار له في ذهن السامع بعينه ليكون أدل على انقطاعه عما سواه. وإنما ذكر
" الشيطان " معرفاً باللام الجنسي ليدل على هذه الحقيقة التي هي مادة كل شر ، ويشمل كل
فرد منها ضرورة وجود الحقيقة في أي فرد يفرض. ولو أريد العهد أيضاً جاز كما مر. ولو
نكرت بأن قلت : " من شيطان رجيم " لم يفد العموم وإن قلت : " من كل شيطان " لأطلت ،
والمقام مقام اختصار. وإنما وصف ب " الرجيم " لأن المقام مقام تأكيد وذم ، ولا ذم أبلغ من
البعد عن حضرة من هو منشأ كل كمال ومصدر كل خير .
وأما البيان ، فإن قوله " أعوذ " معناه ألتصق. ولا ريب أن الالتصاق بالله محال لأن ذلك
من شأن الأجسام. والمراد : ألتصق برحمة الله وفضله. فهو إذن مجاز لغوي. وفي نفس
الالتصاق أيضاً بعد تقدير الرحمة تجوز بعيد على ما لا يخفى. ولو أريد بالشيطان شيطان
الإنس أيضاً ويثبت كون اللفظ موضوعاً لشيطان الجن فقد كان استعارة. وإذا قدّرنا(1/56)
" صفحة رقم 57 "
الاستعاذة من شر الشيطان ، كما مر ، كان مجازاً بالنقصان أيضاً .
وأما ما يتعلق بالاستدلال فإما من جهة التصور وإما من جهة التصديق. أما الأول فنحو
كيفية اقتناص التصورات الواقعة في التركيب من مفهوم العوذ ومفهوم اسم الله ومفهوم
الشيطان ومفهوم الرجيم وأن كلا منها كيف يعرف بالحد أو الرسم ؛ فإن عرف بالحد فكيف
يرتب جنسه وفصله ؟ وإن عرف بالرسم فكيف يركب لوازمه ؟ وأما معرفة الجنس والفصل
واللوازم أنفسها لكل منها فمن الأمور العامة. وأما الثاني فإن قولنا : " أعوذ " لفظه خبر ومعناه
إما دعاء أي الله أعذني ، ، وإما إنشاء نحو بعت واشتريت. وإذا كان كذلك فلا يتطرق إليه
احتمال الصدق والكذب فلا يحتاج إلى البرهان على أحدهما. واستعمال الخبر في معنى
الطلب من مسائل علم المعاني أيضاً .
وأما ما يتعلق بأصول الدين فأن تعلم ذات الله تعالى وصفاته من أنه قادر مختار عليم
إلى غير ذلك من الصفات التي بها يتمكن المستعاذ به من دفع المضار والشرور عن
المستعيذ بحيث لا يمنعه مانع ولا يغلبه منازع ، وتصور الشيطان ولوازمه وكيفية وسوسته
بنحو مما سبق في المقدمة الثانية .
وأما ما يتعلق بأصول الفقه فأن يعرف أن الاستعاذة الواردة في الكتابة والسنة واجبة أ
لا بل مندوبة ، وإن كانت واجبة فتتكرر بتكرر القراءة أم لا ، وإنها تقتضي الفور أو تحتمل
التراخي. وأما ما يتعلق بالفقه فإنها تستحب في الصلاة أم لا ، وإن استحبت فتجوز في
المكتوبة أم لا ، وإن جازت ففي كل ركعة أم في الأولى وحدها ، ويسر بها أم يجهر ؟
وأما ما يتعلق بعلم الأحوال فكالنكت التي ذيلنا بها المقدمة الثانية وأنها لا تكاد
تنحصر. فهكذا يجب أن تستنبط المسائل من كل كلام يراد تفسيره من غير أن يتخطى في
شيء من ذلك إلى ما ليس من العلم ، كأن تقول في كل قراءة الاستعاذة ، والقراآت
المشهورة سبع هي كذا وكذا ، ورواة كل قراءة من هم وما منشأ كل قراءة ؟ وفي الصرف أنه
معرفة أحوال الكلم التي ليست بإعراب. ومن جملة الأحوال صيغة المضارع وما معناها ،
وما حد الفعل والكلمة ؟ إلى غير ذلك من قواعد الصرف بل ما فوق ذلك من مباحث الحرف
والصوت بل مقولة الكيف. وفي النحو أن التركيب مشتمل على الاسم والفعل والحرف ،
والاسم معرب منصرف وغير منصرف ، ومبني ، وما سبب الإعراب والبناء والصرف ومنع
الصرف ، وأنواع الإعراب كم هي ؟ وكل منها يختص بأي شيء من الفاعل والمفعول(1/57)
" صفحة رقم 58 "
والمضاف إليه ولم يختص بكل صنف ما يختص ، وأصناف الفعل كم هي ؟ وأصناف
الحرف كم هي ، ولا سيما حروف الجر ، وما معنى كل منها ؟ إلى غير ذلك .
وبالجملة فمن كل علم يؤخذ نكت مخصوصة بهذه المادة يلزمنا إيرادها فقط إذ لو
تعدينا إلى ما فوق ذلك من القواعد والقوانين لزم إيراد كل العلوم أو أكثرها في تفسير كلام
واحد ، وإنه محال شنيع إذ يلزم تداخل العلوم واضطراب القوانين. وأيضاً لو فسر " الشيطان
الرجيم " بما يلزمه من أنواع الضلالات والجهالات والعقائد الفاسدة والمذاهب الباطلة في
الملة الإسلامية وغيرها ، أو فسر بما هو مباين عنه كأنواع الافات وأصناف المخافات حتى
يلزم تكثير المسائل ، لم يخل عن التعسف والإعنات. ومن ارتكب شيئاً من ذلك فقد نطق
بالخلف وزاغ من الجادة وانحرف عن سواء السبيل. نعم لو أورد طرف من الاصطلاحات أو
المسائل على سبيل التصوير من غير إشارة إلى مآخذها الأصلية ودلائلها الكلية إلا نادراً ،
جاز ما لم يتجاوز حد الضرورة ومقدار الواجب ، كما أشرنا إليها في المقدمات. وقد بقي
مما يمكن أن يعد من المقدمات ذكر ابتداء الوحي وكيفية نزول القرآن شيئاً بعد شيء ، وبيان
كيفية إعجاز القرآن. ونحن قد رأينا الأليق بها إيرادها في مواضعها إذا أفضت النوبة إليها .
فلنشرع الآن في المقصود وهو التفسير المسمى بغرائب القرآن ورغائب الفرقان والله
المستعان وعليه التكلان .(1/58)
" صفحة رقم 59 "
سورة الفاتحة
سورة فاتحة الكتاب مكية ويقال مدنية وهي سبع آيات إلا أن المكي والكوفي عدّا التسمية آية دون أنعمت عليهم ومذهب المدني والبصري والشامي بالعكس وكلماتها خمس وعشرون وحروفها مائة وثلاثة وعشرون .
( الفاتحة : ( 1 - 7 ) بسم الله الرحمن . . . .
" بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " ( القراآت : ( مالك ) : بالألف سهل ويعقوب وعاصم وعلي وخلف ، والباقون ملك : ( الرحيم مالك ( مدغماً : أبو عمرو ، كذلك يدغم كل حرفين التقيا من كلمتين إذا كانا من جنس واحد مثل ) قال لهم ) [ البقرة : 249 ] أو مخرج واحد مثل ) ولتأت طائفة ) [ النساء : 102 ] أو قريبي المخرج مثل ) خلقكم ) [ لقمان : 28 ] و ) لقد جاءكم ) [ البقرة : 92 ] سواء كان الحرف المدغم ساكناً مثل ) أنبتت سبع سنابل ) [ البقرة : 261 ] ويسمى بالإدغام الصغير ، أو متحركاً فأسكن للإدغام مثل ) قيل لهم ) [ البقرة : 11 ] و ) لذهب بسمعهم ) [ البقرة : 20 ] ويسمى بالإدغام الكبير إلا أن يكون مضاعفاً نحو ) أحل لكم ) [ البقرة : 187 ] و ) مس سقر ) [ القمر : 48 ] أو منقوصاً مثل ) وما كنت ترجو ) [ القصص : 86 ] و ) كنت تراباً ) [ النبأ : 40 ] ونعني بالمنقوص الأجوف المحذوف العين أو مفتوحاً قبله ساكن مثل ) البحر لتأكلوا ) [ النحل : 14 ] و ) الحمير لتركبوها ) [ النحل : 8 ] إلا في مواضع أربعة ) كاد تزيغ ) [ التوبة : 117 ] و ) قال رب ) [ المؤمنون : 26 ] في كل القرآن و ) الصلاة طرفي النهار ) [ هود : 114 ] و ) بعد توكيدها ) [ النحل : 91 ] أو يكون الإظهار أخف من الإدغام نحو ) أفأنت تهدي ) [ يونس : 43 ] ( أفأنت تسمع ) [ الزخرف : 40 ] وعن يعقوب إدغام الجنسين في جميع(1/59)
" صفحة رقم 60 "
القرآن إذا التقيا من كلمتين .
( الصراط ) بإشمام الراء ههنا وفي جميع القرآن : حمزة .
وعن يعقوب بالسين في كل القرآن ، وعن الكسائي بإشمام السين كل القرآن ، والباقون بالصاد .
( عليهم ) : وإليهم ولديهم بضم الهاآت كل القرآن : حمزة وسهل ويعقوب .
ضم كل ميم جمع يزيد وابن كثير غير ورش ، بضم الميم عند ألف القطع فقط نحو ) أأنذرتهم أم ) [ يس : 10 ] .
الوقوف : العالمين ( لا ) لاتصال الصفة بالموصوف .
الرحيم ( لا ) لذلك .
الدين ( ط ) للعدول عن الغائب إلى المخاطب .
نستعين ( ط ) لابتداء الدعاء .
المستقيم ( لا ) لاتصال البدل بالمبدل .
أنعمت عليهم ( لا ) لاتصال البدل أو الصفة .
الضالين .
التفسير : روي عن جندب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ ) وعن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ) فذكر العلماء أن النهي عن تفسير القرآن بالرأي لا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط ، أو المراد به أمر آخر ، وباطل أن يكون المراد به أن لا يتكلم أحد في تفسير القرآن إلا بما سمعه فإن الصحابة رضي الله عنهم قد فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه .
وليس كل ما قالوه سمعوه ، كيف وقد دعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لابن عباس ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) فإن كان التأويل مسموعاً كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك ؟ وإنما النهي يحمل على وجهين : أحدهما : أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأوّل القرآن على وفق هواه ليحتج على تصحيح غرضه ، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى .
وهذا قد يكون مع العلم بأن المراد من الآية ليس ذلك ، ولكن يلبس على خصمه .
وقد يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويترجح ذلك الجانب برأيه وهواه ، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه .
وقد يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلاً من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما(1/60)
" صفحة رقم 61 "
أريد به كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول : المراد بفرعون في قوله تعالى ) اذهب إلى فرعون إنه طغى ) [ النازعات : 17 ] هو النفس .
الوجه الثاني : أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغريب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير .
فالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير أوّلاً ليتقي به مواضع الغلط ، ثم بعد ذلك يتسع للتفهم والاستنباط .
والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة كقوله تعالى ) وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها ) [ الإسراء : 59 ] معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها .
فالناظر إلى ظاهر العربية يظن المراد أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن عمياء ، وما يدري بما ظلموا وإنهم ظلموا غيرهم أو أنفسهم .
وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي إليه ما دام على قوانين العلوم العربية والقواعد الأصلية والفرعية .
واعلم أن مقتضى الديانة أن لا يؤوّل المسلم شيئاً من القرآن والحديث بالمعاني بحيث تبطل الأعيان التي فسرها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، والسلف الصالح مثل : الجنة والنار والصراط والميزان والحور والقصور والأنهار والأشجار والثمار وغيرها ، ولكنه يجب أن يثبت تلك الأعيان كما جاءت .
ثم إن فهم منها حقائق أخرى ورموزاً ولطائف بحسب ما كوشف فلا بأس ، فإن الله تعالى ما خلق شيئاً في عالم الصورة إلا وله نظير في عالم المعنى ، وما خلق شيئاً في عالم المعنى وهو الآخرة إلا وله حقيقة في عالم الحق وهو غيب الغيب ، وما خلق في العالمين شيئاً إلا وله أنموذج في عالم الإنسان والله تعالى أعلم .
والتفسير أصله الكشف والإظهار وكذلك سائر تقاليبه .
من ذلك : سفرت المرأة كشفت عن وجهها ، والسفر لأنه يكشف به عن وجوه الحوائج ، ومنه السرف لأنه يكشف به عن ماله حينئذ .
والرفس لأنه يكشف عن عضوه ، وانكشاف حال المقيد في رسفانه واضح .
فمن التفسير ما يتعلق باللغة ومنه ما يتعلق بالصرف أو النحو أو المعاني أو البيان إلى غير ذلك من العلوم كما أشرنا إلى ذلك في آخر المقدمة العاشرة ، ومنه أسباب النزول وذكر القصص والأخبار وغير ذلك .
ونحن على أن نورد بعد القرآن مع الترجمة القراءة ثم الوقوف ثم أسباب النزول ثم التفسير الشامل لجميع ذلك ، ثم التأويل إن كان ، ولم نذكره في التفسير ونذكر منه ما هو أقرب إلى الإمكان والله المستعان .
فلنشتغل بتفسير الفاتحة فنقول : في البسملة مسائل : الأولى : الجار والمجرور لا بد له من متعلق وليس بمذكور فيكون مقدراً وأنه يكون فعلاً أو اسماً فيه رائحة الفعل .
وعلى التقديرين فإما أن يقدر مقدماً أو مؤخراً نحو : أبدأ(1/61)
" صفحة رقم 62 "
بسم الله ، أو ابتدائي بسم الله ، أو بسم الله أبتدئ ، أو بسم الله ابتدائي أو الابتداء ، وتقدير الفعل أولى من تقدير الاسم لأن كل فاعل يبدأ في فعله ببسم الله يكون مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له ، فيكون المراد أن إنشاء ذلك الفعل إنما هو على اسم الله فيقدر ههنا بسم الله أقرأ أو أتلو أو أبدأ ، لأن الذي يتلو التسمية مقروء ومبدوء به كما أن المسافر إذا حل وارتحل فقال : بسم الله متبركاً ، كان المعنى بسم الله أحل أو ارتحل وكذلك الذابح .
ونظيره في حذف متعلق الجار قولهم في الدعاء للمعرس : بالرفاء والبنين ، أي بالرفاء أعرست ، وتقدير المحذوف متأخر أولي على نحو قوله تعالى ) بسم الله مجريها ومرساها ) [ هود : 41 ] لأن تقديم ذكر الله أدخل في التعظيم ، ولأن ما هو السابق في الوجود يستحق السبق في الذكر ولهذا قال المحققون : ما رأينا شيئاً إلا ورأينا الله تعالى قبله .
ولأنهم كانوا يبدأون بأسماء آلهتهم فيقول : باسم اللات باسم العزى ، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عز وجل بالابتداء وذلك بتقديمه وتأخير الفعل كما في ) إياك نعبد ( صرح بتقديم الاسم إرادة الاختصاص .
قال في الكشاف : وإنما قدم الفعل في ) اقرأ باسم ربك ) [ العلق : 1 ] لأن تقديم الفعل هناك أوقع لأنهما أول سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم .
وقال صاحب المفتاح : الصواب أن يقال : معنى إقرأ أوجد القراءة ، ثم يكون باسم ربك متعلقاً باقرأ الثاني .
وذكر في معنى تعلق اسم الله بالقراءة وجهان : إما تعلق القلم بالكتبة في قولك ( كتبت بالقلم ) كان فعله لا يجيء معتداً به شرعاً إلا بعد تصديره بذكر الله قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر ) وإما تعلق الدهن بالإنبات في قوله تعالى ) تنبت بالدهن ) [ المؤمنون : 20 ] أي متبركاً باسم الله أقرأ كما في قوله ( بالرفاء والبنين ) أي أعرست متلبساً بالرفاء وهذا أعرب وأحسن .
أما كونه أدخل في العربية فلأنه لا يعرفه إلا من له دربة بفنون الاستعمالات بخلاف الأول فإنه مبتذل .
وأما كونه أحسن فلأن جعل اسم الله كالآلة خروج عن الأدب ، لأن الآلة من حيث إنها آلة غير مقصود بالذات ، واسم الله تعالى عند الموحد أهم شيء وأنه مقول على ألسنة العباد تعليماً لهم كيف يتبركون باسمه وكيف يعظمونه ، وكذلك الحمد لله رب العالمين إلى آخره .
الثانية : أنهم استحسنوا تفخيم اللام وتغليظها من لفظ ( الله ) بعد الفتحة والضمة دون الكسرة أما الأول فللفرق بينه وبين لفظ اللات في الذكر ، ولأن التفخيم مشعر بالتعظيم ، ولأن اللام الرقيقة تذكر بطرف اللسان والغليظة تذكر بكل اللسان فكان العمل فيه أكثر ، فيكون أدخل في الثواب وهذا كما جاء في التوراة : أحبب ربك بكل قلبك .
وأما الثاني فلأن النقل من الكسرة إلى اللام الغليظة ثقيل على اللسان لكونه كالصعود بعد الانحدار .
وإنما لم يعدّوا اللام الغليظة حرفاً والرقيقة حرفاً آخر كما عدوا الدال حرفاً والطاء حرفاً آخر مع أن(1/62)
" صفحة رقم 63 "
نسبة الرقيقة إلى الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء ، فإن الدال بطرف اللسان والطاء بكل اللسان ، لإطراد استعمال الغليظة مكان كل دقيقة ما لم يعق عائق الكسرة وعدم إطراد الطاء مكان كل دال .
الثالثة : طولوا الباء من بسم الله إما للدلالة على همزة الوصل المحذوفة ، وإما لأنهم أرادوا أن لا يستفتحوا كتاب الله إلا بحرف معظم .
وكان يقول عمر بن عبدالعزيز لكتابه : طولوا الباء وأظهروا السين ودوّروا الميم تعظيماً لكتاب الله .
وقال أهل الإشارة : الباء حرف منخفض في الصورة ، فلما اتصل بكتابة لفظ ( الله ) ارتفعت واستعملت .
فلا يبعد أن القلب إذا اتصل بحضرة الله يرتفع حاله ويعلو شأنه .
الرابعة : إبقاء لام التعريف في الخط على أصله في لفظ الله كما في سائر الأسماء المعرفة ، وأما حذف الألف قبل الهاء فلكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة في الصورة عند الكتابة ولأنه يشبه اللات في الكتابة .
قال أهل الإشارة : الأصل في قولنا ( الله ) الإله وهو ستة أحرف ويبقى بعد التصرف أربعة في اللفظ : ألف ولامان وهاء ، فالهمزة من أقصى الحلق ، واللام من طرف اللسان ، والهاء من أقصى الحلق ، وهذه حال العبد يبتدئ من النكرة والجهالة ويترقى قليلاً قليلاً في مقامات العبودية حتى إذا وصل إلى آخر مراتب الوسع والطاقة ودخل في عالم المكاشفات والأنوار ، أخذ يرجع قليلاً قليلاً حتى ينتهي إلى الفناء في بحر التوحيد كما قيل : النهاية رجوع إلى البداية .
وأما حذف الألف قبل النون من لفظ ( الرحمن ) فهو جائز في الخط ولو كتب كان أحسن .
الخامسة : الاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون ، وهو عند البصريين في الأصل سمو بدليل تكسيره على أسماء وتصغيره على سميّ وتصريفه على سميت ونحوه ، فاشتقاقه من السمو وهو العلو مناسب لأن التسمية تنويه بالمسمى وإشادة بذكره .
وقيل : لأن اللفظ معرف للمعنى ، والمعرف متقدم على المعرف في المعلومية فهو عالٍ عليه حذفوا عجزه كما في ( يد ) و ( دم ) فبقي حرفان أولهما متحرك والثاني ساكن ، فلما حرك الساكن للإعراب أسكن المتحرك للاعتدال فاحتيج إلى همزة الوصل إذ كان دأبهم أن يبتدؤا بالمتحرك ويقفوا على الساكن حذراً من اللكنة والبشاعة .
ومنهم من لم يزد الهمزة وأبقى السين بحاله فيقول : سم كما قال : باسم الذي في كل سورة سمه .
وقد يضم السين فيقال : ( سم ) كأن الأصل عنده ( سمو ) .
وعند الكوفيين اشتقاق الاسم من الوسم والسمة ، لأن الاسم كالعلامة المعرّفة .
وزيف بأنه لو كان كذلك لكان تصغيره وسيماً وحجمه أوساماً .(1/63)
" صفحة رقم 64 "
السادسة : قال بعض المتكلمين ومنهم الأشعري : إن الاسم غير المسمى وغير التسمية وهو حق ، لأن الاسم قد يكون موجوداً والمسمى معدوماً كلفظ المعدوم والمنفي ونحو ذلك ، وقد يكون بالعكس كالحقائق التي لم توضع لها أسماء ، ولأنّ الأسماء قد تكون كثيرة مع كون المسمى واحداً كالأسماء المترادفة وكأسماء الله التسعة والتسعين ، أو بالعكس كالأسماء المشتركة ، ولأن كون الاسم اسماً للمسمى وكونه المسمى مسمى له من باب الإضافة كالمالكية والمملوكية ، والمضافان متغايران لا محالة .
ولا يشكل ذلك بكون الشخص عالماً بنفسه لأنهما متغايران اعتباراً ، ولأن الاسم أصوات وحروف هي أعراض غير باقية والمسمى قد يكون باقياً بل واجب الوجود لذاته ، ولأنه لا يلزم من التلفظ بالعسل وجود الحلاوة في اللسان ، ومن التلفظ بالنار وجود الحرارة .
وقال المعتزلة : الاسم نفس المسمى لقوله تعالى ) تبارك اسم ربك ) [ الرحمن : 78 ] مكان ( تبارك ربك ) : والجواب أنه كما يجب علينا تنزيه ذات الله تعالى من النقائص يجب تنزيه اسمه مما لا ينبغي .
وأيضاً قد يزاد لفظ الاسم مجازاً كقوله : إلى الحول ثم اسم السلام عليكما .
قالوا : إذا قال الرجل : زينب طالق .
وكان له زوجة مسماة بزينب طلقت شرعاً .
قلنا : المراد الذات التي يعبر عنها بهذا اللفظ طالق فلهذا وقع الطلاق عليها ، والتسمية أيضاً مغايرة للمسمى وللاسم لأنها عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف الذات المعنية ، وذلك التعيين معناه قصد الواضع وإرادته ، والاسم عبارة عن ذلك اللفظ المعين فافترقا .
السابعة : وضع الأسماء والأفعال سابق على وضع الحروف ، لأن الحروف رابطة بينهما .
والظاهر أن وضع الأسماء سابق على وضع الأفعال لأن الاسم لفظ دال على الماهية والفعل لفظ دال على حصول الماهية لشيء من الأشياء في زمان معين ، فكأن الاسم مفرد والفعل مركب والمفرد سابق على المركب طبعاً فيكون سابقاً عليه وضعاً .
وأيضاً الفعل مفتقر إلى الفاعل ، والفاعل لا يفتقر إلى الفعل .
وأيضاً الاسم مستغن في الإفادة عن الفعل دون العكس ، والأظهر أن أسماء الماهيات سابقة بالرتبة على الأسماء المشتقات ، لأن الأولى مفردة والثانية مركبة ، ويشبه أن تكون أسماء الصفات سابقة بالرتبة على أسماء الذوات القائمة بأنفسها لأنا لا نعرف الذوات إلا بتوسط الصفات القائمة بها والمعروف معلوم قبل المعرّف فيناسب السبق في الذكر .
الثامنة : أقسام الأسماء الواقعة على المسميات تسعة : أولها : لاسم الواقع على الذات .
ثانيها : الاسم الواقع على الشيء بحسب جزء من أجزائه كاليحوان على الإنسان ثالثها : الواقع عليه بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كالأسود والحارّ .
رابعها : الوقع عليه بحسب صفة(1/64)
" صفحة رقم 65 "
إضافية كقولنا للشيء إنه معلوم ومفهوم ومالك ومملوك .
خامسها : الواقع عليه بحسب صفة سلبية كالأعمى والفقير .
سادسها : الواقع عليه بحسب صفة حقيقية مع صفة إضافية كالعالم والقادر عند القائل بأن العلم صفة حقيقية ، ولها إضافة إلى المعلومات وكذا القدرة .
سابعها : صفة حقيقية مع صفة سلبية كالمفهوم من مجموع قولنا قادر لا يعجز عن شيء وعالم لا يجهل شيئاً .
ثامنها : صفة إضافية مع صفة سلبية كالأول ، فإن معناه سابق غير مسبوق .
تاسعها صفة حقيقية مع صفة إضافية وصفة سلبية ، فهذه أقسام الأسماء لا تكاد تجد اسماً خارجاً عنها ، سواء كان لله تعالى أو لمخلوقاته .
التاسعة : هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا ؟ ذكر بعضهم أن حقيقته تعالى لما كانت غير مدركة للبشر فكيف يوضع له اسم مخصوص بذاته ؟ وما الفائدة في ذلك ؟ أقول : لا ريب أن الإدراك التام عبارة عن الإحاطة التامة ، والمحاط لا يمكن أن يحيط بمحيطه أبداً ، وأنه تعالى بكل شيء محيط فلا يدركه شيء مما دونه كما ينبغي ، إلا أن وضع الاسم للذات لا ينافي عدم إدراكه كما ينبغي ، وإنما ينافي عدم إدراكه مطلقاً .
فيجوز أن يقال الشيء الذي تدرك منه هذه الآثار واللوازم مسمى بهذا اللفظ ، وأيضاً إذا كان الواضع هو الله تعالى وأنه يدرك ذاته لا محالة على ما هو عليه ، فله أن يضع لذاته اسماً مخصوصاً لا يشاركه فيه غيره حقيقة ، وإذا كان وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ممكناً فينبغي أن يكون ذلك الاسم أعظم الأسماء وذلك الذكر أشرف الأذكار ، لأن شرف العلم والذكر بشرف المعلوم والمذكور .
فلو اتفق لعبد من عبيده المقربين الوقوف على ذلك الاسم حال ما يكون قد تجلى له معناه ، لم يبعد أن تنقاد له عوالم الجسمانيات والروحانيات .
ثم القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه .
منهم من قال : هو ذو الجلال والإكرام ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام ) ورد بأن الجلال من الصفات السلبية والإكرام من الإضافية ، ومن البين أن حقيقته المخصوصة مغايرة للسلوب والإضافات .
ومنهم من يقول : إنه الحي القيوم لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) لأبيّ بن كعب حين قال له : ما أعظم آية في كتاب الله ؟ فقال : الله لا إله إلا هو الحي القيوم .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ليهنك العلم يا أبا المنذر ) .
وزيف بأن الحي هو الدرّاك الفعال وهذا ليس فيه عظمة ولأنه صفة ، وأما القيوم فمعناه كونه قائماً بنفسه مقوّماً لغيره ، والأول مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره ، والثاني إضافي .
ومنهم من قال : إن أسماء الله تعالى كلها عظيمة لا ينبغي أن يفاوت بينها ، ورد بما مرّ من أن اسم الذات(1/65)
" صفحة رقم 66 "
أشرف من اسم الصفة ، ومنهم من قال : إن الإسم الأعظم هو الله وهذا أقرب ، لأنا سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم العلم في حقه سبحانه ، وإذا كان كذلك كان دالاً على ذاته المخصوصة ، ويؤيد ذلك ما روت أسماء بنت زيد أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين ) وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ) [ البقرة : 163 ] وفاتحه سورة آل عمران ) ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) [ آل عمران : 1 - 2 ] ( وعن بريدة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سمع رجلاً يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .
فقال : ( ) والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي بهن أجاب وإذا سئل به أعطى. ( ولا شك أن اسم الله في الآية والحديث أصل والصفات مرتبة عليه هذا ، وأما الاسم الدال على المسمى بحسب جزء من أجزائه فمحال في حق الله تعالى ، لأن ذاته تعالى مبرأ عن شائبة التركيب بوجه من الوجوه .
وأما الاسم الدال بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته المخصوصة ، فتلك الصفة إما أن تكون هي الوجود ، وإما أن تكون كيفية من كيفيات الوجود ، وإما أن تكون صفة أخرى مغايرة للوجود ولكيفيات الوجود ، فهذه ثلاثة أقسام : القسم الأول : الأسماء الدالة على الوجود منها الشيء ويجوز إطلاقه على الله تعالى عند الأكثرين لقوله تعالى ) قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم ( ) كل شيء هالك إلا وجهه ) [ الأنعام : 19 ] أي ذاته .
وفي الخبر ) كان الله ولم يكن شيء غيره ( ولأن الشيء عبارة عما يصح أن يعلم ويخبر عنه وذاته تعالى كذلك .
حجة المخالف قوله تعالى ) الله خالق كل شيء ) [ الرعد : 16 ] فلو كان الله تعالى شيئاً لزم أن يكون خالق نفسه .
ومثله ) وهو على كل شيء قدير ) [ التغابن : 1 ] قلنا : خص بالدليل العقلي .
قالوا : ليس من صفات المدح .
قلنا : نعم هو خير من لا شيء ، وإن كان سائر الأشياء مشتركة معه في ذلك كالموجود والكريم والحليم ، فإن كلاً منها مدح بالنسبة إلى من لا وجود له ولا كرم ولا حلم ، بل الشيء بالحقيقة هو وباقي الأشياء شيئيتها مستعارة كوجودها ومنها الموجود .
وأطبق المسلمون على جواز إطلاقه عليه تعالى وكيف لا ؟ ومعنى قول الموحد لا إله إلا الله أي لا إله في الوجود إلا الله .
ومنها الذات ولا شك في جواز إطلاقه عليه إذ يصدق على كل حقيقة أنها ذات الصفات أي صاحبة الصفات القائمة بها ، ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن إبراهيم لم يكذّب إلا في ثلاث : ثنتين في ذات الله ( - أي في(1/66)
" صفحة رقم 67 "
طلب مرضاته ومنها النفس قال تعالى : ( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ) [ المائدة : 116 ] وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أنت كما أثنيت على نفسك ( أي على ذاتك وحقيقتك .
ومنها الشخص قال : ( لا شخص أغير من الله تعالى ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ( ) ولا شخص أحب إليه العذْر من الله ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين ( ) ولا شخص أحب إليه المدحة من الله ( والمراد بالشخص الحقيقة المتعينة الممتازة عما عداها .
ومنها النور قال عز من قائل : ( الله نور السماوات والأرض ) [ النور : 35 ] وليس المراد به ما يشبه الكيفية المبصرة وإنما المراد أنه الظاهر في نفسه المظهر لغيره .
وإذ لا ظهور ولا إظهار فوق ظهوره وإظهاره فإنه واجب الوجود لذاته أزلاً وأبداً ، ومخرج جميع الممكنات من العدم إلى الوجود .
فإذن هو نور الأنوار تعالى وتقدس ، وسوف يأتيك تمام التحقيق إذا وصلنا إلى سورة النور وهو أعلم بحقائق الأمور .
ومنها الصورة وقد ورد في الخبر ( أن الله خلق آدم على صورته ) فقيل : معناه خلق آدم على صورته التي كان علهيا يعني ما تولد من نطفة ودم وما كان جنيناً ، ورضيعاً بل خلقه الله تعالى رجلاً كاملاً دفعة واحدة .
وقيل في حديث آخر ( لا تقبحوا الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن ) المراد من الصورة الصفة كما بقال : صورة هذه المسألة كذا أي خلقه على صفته في كونه خليفة في أرضه متصرفاً في جميع الأجسام الأرضية كما أنه تعالى نافذ القدرة في جميع العالم .
ويمكن أن يقال : الصورة إشارة إلى وجه المناسبة التي ينبغي أن تكون بين كل علة ومعلولها ، فإن الظلمة لا تصدر عن النور وبالعكس ، وكنا قد كتبنا في هذا رسالة .
ومنها الجوهر وأنه لا يطلق عليه بمعنى موجود لا في موضوع ، أي إذا وجد كان وجودهن بحيث لا يحتاج إلى محل يقوم به ويستغني المحل عنه ، لأن ذلك ينبئ عن كون وجوده زائداً على ماهيته .
وإنما يمكن أن يطلق عليه بمعنى آخر وهو كونه قائماً بذاته غير مفتقر غلى شيء في شيء أصلاً لكن الإذن الشرعي حيث لم يرد بذلك وجب الامتناع عنه .
ومنها الجسم ولا يطلقه عليه إلا المجسمة ، فإن أرادوا الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة فمحال للزوم التركيب والتجزي ، وإن أرادوا معنى يليق بذاته من كونه موجوداً قائماً بالنفس غنياً عن المحل فالإذن الشرعي لم يرد به فلزم الامتناع .
ومنها الماهية والآنية أي الحقيقة التي يسأل عنها بما هي(1/67)
" صفحة رقم 68 "
وثبوته الدال عليه لفظ ( ان ) ، ولا بأس بإطلاقهما عليه إذا أريد بهما الحقيقة والذات المخصوصة إلا من حيث الشرع .
ومنها الحق فإنه تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم ، إما بحسب ذاته فلأنه الموجود الذي يمتنع عدمه وزواله ، والحق يقال بإزاء الباطل والباطل يقال للمعدوم قال لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل .
وإما بحسب ما يقال إن هذا الخبر حق وصدق فهذا الخبر أحق وأصدق ، وإما بحسب ما يقال إن هذا الإعتقاد حق فلأن اعتقاد وجوده ووجوبه أصوب الاعتقادات المطابقة .
القسم الثاني في الأسماء الدالة على كيفية الوجود منها القديم وهو في اللغة يفيد طول المدة ، وفي الشرع يرادفه الأزلي ، ويراد بهما ما لا أول له في الطرف الماضي كالأبدي في الطرف المستقبل .
وكذا السرمدي واشتقاقه من السرد التوالي والتعاقب ، زيدت الميم للمبالغة .
ونعني بالنسبة في هذه الألفاظ أنه تعالى منسوب إلى عدم البداية والنهاية في كلا طرفي الامتداد الوهمي المسمى بالزمان .
ومنها الممتد والمستمر ونعني بهما تلاحق الأجزاء وتعاقب الأبعاض ، ولا يخفى أن أمثال هذه الألفاظ إنما يصح إطلاقها بالحقيقة على الزمان والزمانيات ، وأما في حق الله جل ذكره فلا يصح إلا بالمجاز بعد التوقيف .
ومنها الباقي قال تعالى : ( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) [ الرحمن : 26 ، 27 ] وأنه تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم .
ومنها الدائم وهو كالباقي .
ومنها واجب الوجود لذاته أي ذاته اقتضى وجوده ، وما بالذات لا ينفك عنه أبداً فهو ممتنع الفناء والعدم أزلاً وأبداً ولهذا قيل : خداي معناه خوداي أي أنه جاء بنفسه .
ومنها الكائن قال تعالى : ( وكان الله عليماً حكيماً ) [ الفتح : 4 ] وفي بعض الأدعية المأثورة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا كائناً قبل كل كون ، ويا حاضراً مع كل كون ، ويا باقياً بعد انقضاء كل كون ) واعلم : أن لفظة ( كان ) تفيد الحصول والثبوت والوجود ، إلا أن هذا قسمان : منه ما يفيد حصول الشيء في نفسه ، ومنه ما يفيد حصول موصوفية شيء بشيء .
والأول يتم باستناده إلى ذلك الشيء وهي التامة ، والثاني لا يتم إلا بذكر شيئين وهي الناقصة نحو : كان زيد عالماً أي حصل موصوفية زيد بالعلم وكلا القسمين يجوز إطلاقه عليه تعالى .
القسم الثالث في الصفات الحقيقية المغايرة للوجود ولكيفيات الوجود .
الفلاسفة والمعتزلة أنكروا قيام مثل هذه الصفات بذات الله تعالى أشد إنكار لأن واجب الوجود لذاته يجب أن يكون واحداً من جميع جهاته ، ولأن تلك الصفة لو كانت واجبة الوجود لزم شريك للباري مع أن الجمع بين الوجود وبين كونه صفة للغير ، والصفة مفتقرة غلى الموصوف محال ، وإن كانت ممكنة الوجود فلها علة موجدة ، ومحال أن يكون هو الله تعالى(1/68)
" صفحة رقم 69 "
لأنه قابل لها فلا يكون فاعلاً لها ، ولأن ذاته لو كانت كافية في تحصيل تلك الصفة فتكون ذاته بدون تلك الصفة كاملة في العلية وهو المطلوب ، وإن لم تكن كافية لزم النقص المنافي لوجوب الوجود .
حجة المثبتين أن إله العالم يجب أن يكون عالماً قادراً حياً ، ثم إنا ندرك التفرقة بين قولنا : ( ذات الله تعالى ذات ) وبين قولنا : ( ذاته عالم قادر ) وذلك يدل على المغايرة بين الذات وهذه الصفات .
وإذا قلنا بإثبات الصفة الحقيقية فنقول : العلم صفة يلزمها كونها متعلقة بالمعلوم ، والقدرة صفة يلزمها صحة تعلقها بإيجاد المقدور .
والصفة الحقيقية العارية عن النسب والإضافات في حقه تعالى ليست إلا صفة الحياة إن لم نقل إنها عبارة عن الدرّاكية والفعالية ، بل يقال : إنها صفة باعتبارها يصح أن عالماً وقادراً ، والتحقيق أن الحياة عبارة عن كون الشيء بحيث يصدر عنه ما من شأنه أن يصدر عنه كما ينبغي أن يصدر عنه ، ولا ريب أن واجب الوجود تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم ، لأن وجوب الوجود يقتضي اتصافه بجميع الصفات الكمالية وصدور الأشياء الممكنة عنه على النحو الأفضل ? ولهذا مدح الله تعالى به نفسه قائلاً ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) [ البقرة : 255 ] ( وعنت الوجوه للحي القيوم ) [ طه : 111 ] وأما الأسماء الدالة على الصفات الإضافية ، فمنها التكوين وهو عند المعتزلة والأشعري نفس المكوّن .
وقال غيرهم : إنه غيره .
حجة الأولين أن الصفة المسماة بالتكوين إما أن تؤثر على سبيل الصحة وهي القدرة لا غير ، أو على سبيل الوجوب .
ويلزم كونه موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار .
وأيضاً إن كانت قديمة لزم قدم الآثار ، وإن كانت حادثة افتقرت إلى تكوين آخر وتسلسل الآخرون .
قالوا : كونه خالقاً رازقاً ليس عبارة عن الصفة الإضافية فقط ، بل هو عبارة عن صفة حقيقية موصوفة بصفة إضافية ? لأن المعقول من كونه موجداً مغاير للمعقول من كونه قادراً ، فإن القادر على الفعل قد يوجد وقد لا يوجد .
ومنها كونه تعالى معلوماً ومذكوراً مسبحاً ممجداً فيقال : يا أيها المسبح بكل لسان ، ويا أيها الممدوح عند كل إنسان ، ويا أيها المرجوع إليه في كل حين وأوان .
ولما كان هذا النوع من الإضافات غير متناه كانت الأسماء الممكنة لله بحسب هذا النوع من الصفات غير متناهية .
ومنها ألفاظ متقاربة تدل على مجرد كونه موجداً مثل الموجد ومعناه المؤثر في الموجود ، والمحدث وهو أخص لأنه الذي جعله موجوداً بعد العدم ، والمكوّن وهو كالموجد والمنشئ ومعناه ينشئ على التدريج والمبدع والمخترع ويفهم منهما الإيجاد الدفعي ، وكذا الفاطر مثل الصانع ويفهم منه تكلف ، وأما الخلق فهو التقدير وأنه في حق الله تعالى يرجع إلى العلم ، وأما الباري فهو الذي يحدثه على الوجه الموافق للمصلحة .
يقال : برى القلم إذا أصلحه وجعله موافقاً لغرض معين .
ومنها ألفاظ تدل على إيجاد شيء بعينه وأنها تكاد تكون غير متناهية .
ومنها ألفاظ تدل على إيجاد النوع الفلاني لأجل الحكمة(1/69)
" صفحة رقم 70 "
الفلانية ، فإذا خلق المنافع سمي نافعاً ، وإذا خلق الألم سمي ضاراً ، وإذا خلق الحياة سمي محيياً ، وإذا خلق الموت سمي مميتاً ، وإذا خصهم بالإكرام سمي براً باسطاً ، وإذا جازى الذنوب بالعقاب سمي منتقماً ، وإذا ترك ذلك الجزاء سمي عفوّاً غفوراً رحماناً رحيماً ، وإذا حصل المنع والإعطاء في المال سمي قابضاً باسطاً ، وإذا حصلا في الجاه والحشمة سمي خافضاً رافعاً .
وأما الصفات السلبية فمنها ما يعود إلى الذات كقولنا إنه ليس جوهراً ولا جسماً ولا مكانياً ولا زمانياً ولا حالاً ولا محلاً ولا مفتقراً إلى شيء غيره ، تعالى في ذاته وفي صفاته ? وإنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .
ومنها ما يعود إلى الصفات ، ولا يخفى أن كل صفة من صفات النقص يجب تنزيه الله عنها ، وذلك إما راجع إلى أضداد العلم كنفي النوم ) لا تأخذه سنة ولا نوم ) [ البقرة : 255 ] وكنفي النسيان ) وما كان ربك نسياً ) [ سبأ : 3 ] وكأن لا يمنعه العلم ببعض المعلومات عن العلم بغيره لا يشغله شأن عن شأن .
وإما راجع غلى أضداد القدرة ككونه منزهاً في أفعاله عن التعب والنصب ) وما مسنا من لغوب ) [ ق : 38 ] وإنه لا يحتاج في فعله إلى الآلات وتقديم المادة والمدّة ) إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [ النحل : 40 ] وأنه لا يتفاوت في قدرته القليل والكثير ) وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب ) [ النحل : 77 ] وأنه لا تنتهي قدرته ) إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ) [ إبراهيم : 19 ] وإما راجع إلى صفة الوحدة كنفي الأنداد والأضداد ) ليس كمثله شيء ) [ الشورى : 11 ] ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ) [ المؤمنون : 91 ] أو إلى صفة الاستغناء ) وهو يطعم ولا يُطْعَم وهو يجير ولا يجار عليه ) [ الأنعام : 14 ] ومنها ما يعود إلا الأفعال لا يخلق الباطل ) وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ) [ ص : 27 ] لا يخلق اللعب ) وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ) [ الأنبياء : 17 ] لا يخلق العبث ) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً ) [ المؤمنون : 115 ] لا يرضى بالكفر ، لا يريد الظلم ، لا يحب الفساد لا يؤذي من غير سابقة جرم ) ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ) [ النساء : 146 ] لا ينتفع بطاعات المطيعين ولا يتضرر بمعاصي المذنبين ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) [ الإسراء : 7 ] ليس لأحد أن يعترض عليه في أفعاله وأحكامه ) لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون ) [ الأنبياء : 23 ] ( يخلف الميعاد ) [ آل عمران : 9 ] ومن أسماء السلوب القدوس والسلام لأنه منزه وسالم من نقائص الإمكان .(1/70)
" صفحة رقم 71 "
ومنها العزيز وهو الذي لا يوجد له نظير أو لا يغلبه شيء ، والحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة ولا يمنع من إيصال الرحمة ، والصبور الذي لا يعاقب المسيء مع القدرة عليه ، وربما يفرق بينهما بأن المكلف يأمن العقوبة في صفة الحليم دون صفة الصبور .
وأما الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية فمنها : القادر والقدير والمقتدر والمالك والملك ومالك الملك والمليك والقوي وذو القوة ومعانيها ترجع إلى القدرة ومنها ما يرجع إلى العلم ) ولا يحيطون بشيء من علمه ) [ البقرة : 255 ] ( عالم الغيب والشهادة ) [ التغابن : 18 ] ( وهو بكل شيء عليم ) [ البقرة : 29 ] ( علام الغيوب ) [ المائدة : 109 ] ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] ( علم الله أنكم كنتم تختانون ) [ البقرة : 187 ] ( والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ) [ النحل : 19 ] ( وعلم آدم الأسماء ) [ البقرة : 31 ] ولم يرد علامة وإن كان يفيد المبالغة لأن ذلك بتأويل أمة أو جماعة .
والخبير يقرب من العليم وكذا الشهيد إذا فسر بكونه مشاهداً لها ، وإذ أخذ من الشهادة كان من وصف الكلام .
والحكمة تشارك العلم من حيث إنه إدراك حقائق الأشياء كما هي وتباينه بأنها أيضاً صدور الأشياء عنه كما ينبغي واللطيف قد يراد به إيصال المنافع إلى الغير بطرق خفية عجيبة ، والتحقيق أنه الذي ينفذ تصرفه في جميع الأشياء .
ومنها ما يرجع إلى الكلام ) وكلم الله موسى تكليماً ) [ النساء : 164 ] ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً ) [ الشورى : 51 ] ( وإذ قال ربك ) [ البقرة : 30 ] ( ما يبدل القول لديَّ ) [ ق : 30 ] ( ومن أصدق من الله قيلاً ) [ النساء : 122 ] ( إنما أمره ) [ يس : 81 ] ( إن الله يأمركم ) [ النساء : 58 ] ( وعد الله حقاً ) [ النساء : 122 ] ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 9 ] ( وكان الله شاكراً عليماً ) [ النساء : 147 ] ( كان سعيكم مشكوراً ) [ الدهر : 22 ] وذلك أنه أثنى على عبده بمثل قوله ) كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون ) [ الذاريات : 18 ، 19 ] وهذا صورة الشكر .
ومنها ما يرجع إلى الإرادات ) يريد الله بكم اليسر ) [ البقرة : 185 ] رضي الله عنهم أي صار مريداً لأفعالهم ) يحبهم ويحبونه ) [ المائدة : 54 ] ( والله يحب المطهرين ) [ التوبة : 108 ] يريد إيصال الخير إليهم ) كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً ) [ الإسراء : 38 ] .
الأشعرية : الكراهية عبارة عن إرادة عدم الفعل .
المعتزلة : له صفة أخرى غير الإرادة .
ومنها ما يرجع إلى السمع والبصر ) إنني معكما أسمع وأرى ) [ طه : 46 ] ( إنه هو السميع البصير ) [ الإسراء : 1 ] ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) [ الأنعام : 103 ] وأما الصفات الإضافية مع السلبية فكالأول لأنه مركب من معنيين : أحدهما أنه سابق على غيره ، والثاني لا يسبق عليه غيرهن وكألآخر فإنه الذي يبقى بعد غيره ولا يبقى بعد غيرهن ، وكالقيوم فإنه(1/71)
" صفحة رقم 72 "
الذي يفتقر إليه غيره ولا يفتقر إلى غيره ، والظاهر إضافة محضة وكذا الباطن ، أي أنه ظاهر بحسب الدلائل باطن بحسب الماهية .
وأما الاسم الدال على مجموع الذات والصفات الحقيقية والإضافية والسلبية فالإله ، ولا يجوز إطلاق هذا اللفظ في الإسلام على غير الله وأما الله ، فسيأتي أنه اسم علم .
وقد بقي ههنا أسماء يطلقها عليه تعالى أهل التشبيه ككونه متحيزاً أو حالاً في المتحيز استبعاداً منهم أنه كيف يكون موجود خالياً عن كلا الوصفين وهو عند أهل التقديس محال للزوم الافتقار ، اللهم إلا أن ياقل استصحاب المكان لا يستلزم الافتقار إلى المكان ومنها العظيم والكبير وهما متقاربان لقوله تعالى في موضع ) وهو العلي العظيم ) [ البقرة : 255 ] وفي آخر ) وهو العلي الكبير ) [ سبأ : 23 ] وقد يفرق بينهما بأنه ورد ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ) والرداء أرفع من الإزار .
وأيضاً اختص تحريم الصلاة بالله أكبر دون الله أعظم .
ولا ريب أن إطلاق العظمة والكبر على الله تعالى بحسب الحجمية والمقدار كما للأجسام محال للزوم التبعيض والتجزئة .
ومنها العلي والمتعالي ? فإن العلو بالمعنى المستلزم للتمكن محال على الله فإما أن يراد بمثل هذه الألفاظ مزيد الرتبة والشرف على الممكنات ، وإما أن يقال : إنا نطلق هذه الأسماء للإذن الشرعي فنكل معانيها إلى مراد الله تعالى ، وإما أن نستمد في إدراكها بضرب من الكشف والعيان .
( العاشر في الأسماء المضمرة ) قال عز من قائل : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا ) [ طه : 14 ] ولا يصح لغيره هذا الذكر إلا حكاية .
وما جاء من قول بعض أهل الكمال : أنا من أهوى ومن أهوى أنا .
إشارة إلى كمال المحبة وغاية إرادة الاتصاف بصفة المحبوب وفناء إرادته في إرادته ، وقال : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) [ الأنبياء : 87 ] ولا يصح هذا إلا من العبد بشرط الحضور والمشاهدة .
وقال ) لا إله إلا هو ) [ البقرة : 255 ] وإنما يصح هذا من الغائبين .
واعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب والبعد وكمال التجلي ونقصانه ، فكل حاضر غائب بالنسبة إلى ما فوق تلك الدرجة ، ورب غائب حاضر كما قيل :
أيا غائباً حاضراً في الفؤاد
سلام على الغائب الحاضر(1/72)
" صفحة رقم 73 "
وفي لفظة ( هو ) أسرار عجيبة منها : أن العبد إذا قال : يا هو فكأنه يقول : ما للتراب ورب الأرباب ؟ وما المناسبة بين المتولد من النطفة والدم وبين الموصوف بالأزلية والقدم ؟ فلهذا ينادي نداء الغائبين ويقول : يا هو .
ومنها أنه إذا قال : يا هو فقد حكم على كل ما سوى الله تعالى بأنه نفي محض ، لأنه لو حصل في الوجود شيئان لكان قوله ( هو ) صالحاً لهما جميعاً فلا يتعين النداء .
ومنها إذا قال : يا رحمن فكأنه يتذكر رحمته أو يطلب رحمته ? وكذا إذا قال : يا كريم وغيره من الصفات .
فأما إذا قال : ( يا هو ) فكأنه استغرق في بحر العرفان وفني عما سوى الذات .
ومنها إذا قال : ( يا هو ) فكأنه يقول : أجلّ حضرتك أن أمدحك ، وأثني عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك وهي صفات الجلال نحو : لا جسم ولا جوهر ولا عرض ولا في المحل ، أو بإسناد كمالات الممكنات إليك وهي صفات الإكرام ككونه مرتباً للموجودات على النحو الأكمل ، بل لا أمدحك ولا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي .
ومنها أن هذا الذكر يفيد أن المنادي بسيط محض لا طريق إلى تصوره إلا بالإشارة العقلية .
ومنها أن العبد كأنه دهش حتى ذهل عن كل ما يوصف به مالكه إلا عن هذه الإشارة .
ولاختصاص هذا الذكر بهذه الأسرار ذكر الغزالي لا إله إلا الله توحيد العوام ، ولا إله إلا هو توحيد الخواص .
وذلك أن قوله ( لا هو ) معناه كل شيء هالك ? وقوله ( إلا هو ) معناه إلا وجهه .
ومن جملة الأذكار الشريفة : يا هو يا من لا هو إلا هو ، يا أزل يا أبد يا دهر يا ديهور يا من هو الحي الذي لا يموت .
ولقد لقنني بعض المشايخ من الذكر : يا هو يا من هو هو يا من لا هو إلا هو يا من لا هو بلا هو غلا هو .
فالأول فناء عما سوى الله ، والثاني فناء في الله ، والثالث فناء عما سوى الذات ، والرابع فناء عن الفناء عما سوى الذات .
الحادي عشر في بقية مباحث الأسماء
اختلفوا في أسماء الله تعالى توقيفية أم لا .
فمال بعضهم إلى التوقيف لأنا نصف الله تعالى بكونه عالماً ولا نصفه بكونه طبيباً وفقيهاً ومستيقناً ، فلولا أن أسماءه توقيفية لوصف بمثلها وإن كان على سبيل التجوز .
القائلون بعدم التوقيف احتجوا بأن أسماء الله تعالى وصفاته مذكورة بالفارسية والتركية وأن شيئاً منها لم يرد في القرآن ولا في الأخبار ، مع أن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها .
والجواب أن عدم التوقيف في غير اللغة العربية لا يوجب عدمه في العربية ، وبأن الله تعالى قال : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) [ الأعراف : 180 ] وكل اسم دل على صفات الكمال ونعوت الجلال كان حسناً ويجوز إطلاقه .
والجواب أنه يجوز ولكن بعد التوقيف لم قلتم إنه ليس كذلك ؟ والغزالي فرق بين(1/73)
" صفحة رقم 74 "
اسم الذات وبين أسماء الصفات فمنع الأول وجوّز الثاني .
واعلم أنه قد ورد في القرآن ألفاظ دالة على معانٍ لا يمكن إثباتها بالحقيقة في حق الله تعالى منها : الاستهزاء ) الله بالله أن أكون من الجاهلين ) [ البقرة : 67 ] .
ومنها المكر ) ومكروا ومكر الله ) [ آل عمران : 54 ] ومنها الغضب ) وغضب الله عليهم ) [ الفتح : 6 ] ومنها التعجب ) بل عجبت ويسخرون ) [ الصافات : 12 ] فيمن قرأ بضم التاء .
والتعجب حالة للقلب تعرض عند الجهل بسبب الشيء ومنها التكبر ) الجبار المتكبر ) [ الحشر : 23 ] ومنها الحياء ) إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ) [ البقرة : 26 ] والحياء تغير يعرض للقلب والوجه عند فعل شيء قبيح .
والقانون في تصحيح هذه الألفاظ أن يقال لكل واحدة من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية وآثار تصدر منها في النهاية مثاله : الغضب حالة تحصل في القلب عند غليان دمه وسخونة مزاجه ، والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه .
فالغضب في حقه تعالى محمول على الأثر الحاصل في النهاية لا الأمر الكائن في البداية ? وقس على هذا .
قيل : إن لله تعالى أربعة آلاف اسم ، ألف منها في القرآن والأخبار ، وألف في التوراة ، وألف في الإنجيل ، وألف في الزبور .
وقد يقال : ألف آخر في اللوح المحفوظ ولم يصل ذلك إلى البشر وهذا غير مستبعد ، فإن أقسام صفات الله تعالى بحسب السلوب والإضافات لا تكاد تنحصر ، وكل من كان اطلاعه على آثار حكمة الله تعالى في تدبير العالم العلوي والعالم السفلي أكثر كان اطلاعه على أسماء الله أكثر .
وإن قلنا : إن له بكل مخلوق اسماً وكذا بكل خاصية ومنفعة فيه كمنافع الأعضاء والحيوان والنبات والأحجار ، خرجت الأسماء عن حيز العد والإحصاء كما قال عز من قائل : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ إبراهيم : 34 ] فإن قلت : إنا نرى في كتب العزائم أذكاراً غير معلومة ورقى غير مفهومة وقد تكون كتابتها أيضاً غير معلومة ، فما بال تلك الأذكار والرقى ؟ قلت : لا نشك أن تلك الكلمات إن لم تدل على شيء أصلاً لم تفد ، وإن دلت فأحسن أحوال تلك الكلمات أن تكون شيئاً من هذه الأدعية .
ولا ريب أن الأذكار المعلومة أدخل في التأثير من قراءة تلك المجهولات ، إلا أن أكثر الناس إذا قرأوا هذه الأذكار المعلومة ولم يكن لهم نفوس مشرقة تجذب بهم إلى عالم القدس ويلوح عليهم أثر الإلهيات ، لم يكد يظهر عليهم شروق أنوارها ولهذا قد ورد ( رب تال للقرآن والقرآن يلعنه ) نعوذ بالله من هذه الحالة .
أما إذا قرأوا تلك الألفاظ المجهولة ولم يفهموا منها شيئاً وحصلت عندهم أوهام أنها كلمات عالية ، استولى الفزع والرعب على قلوبهم فيحصل لهم بهذا السبب نوع تجرد عن الجسمانيات وتوجه إلى الروحانيات فتتأثر نفوسهم وتؤثر ، وهذا وجه مناسب في قراءة الرقى المجهولة .
واعلم أن(1/74)
" صفحة رقم 75 "
بين الخلق وبين أسماء الله تعالى مناسبات عجيبة ، والنفوس مختلفة والجنسية علة الضم ? فكل اسم يغلب معناه على بعض النفوس فإذا واظب صاحبه على ذلك الاسم كان انتفاعه به أسرع والله الموفق .
حكي أن الشيخ أبا النجيب البغدادي كان يأمر المريد بالأربعين مرة أو مرتين بقدر ما يرى مصلحته فيه ، ثم يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين .
وكان ينظر إلى وجهه فإن رآه عديم التأثر عند قراءتها عليه قال له : اخرج إلى السوق واشتغل بمهمات الدنيا فإنك ما خلقت لهذا الطريق ، وإن رآه تأثر مزيد تأثر عند سماع اسم خاص أمره بالمواظبة على ذلك الذكر وقال : إن أبواب المكاشفات تنفتح عليك من هذا الطريق .
وذلك أن الرياضة والمجاهدة لا تغلب النفوس عن أحوالها الفطرية ، ولكنها تضعف بحيث لا تستولي على الإنسان ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ) ( الأرواح جنود مجندة ) ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) فهذا تمام البحث عن مطلق الأسماء .
( الثاني عشر في الأبحاث المختصة باسم الله ) المختار عند الخليل ومتابعيه وعند أكثر الأصوليين والفقهاء أن هذا اللفظ ليس بمشتق ألبتة ، وأنه اسم علم له سبحانه وتعالى .
لأنه لو كان مشتقاً لكان معناه معنى كلياً لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه ، وحينئذ لا يكون قولنا ( إلا الله ) موجباً للتوحيد المحض .
فلا يدخل الكافر بقوله : ( أشهد أن لا إله إلا الله ) في الإسلام كما لو قال : ( أشهد أن لا إله إلا الرحمن ) أو ( إلا الملك ) لا يدخل بذلك في الإسلام بالاتفاق .
وأيضاً الترتيب العقلي ذكر الذات ثم تعقيبه بالصفات نحو : زيد الفقيه الأصولي النحوي .
ثم إنا نقول : الله الرحمن الرحيم العالم القادر ولا نقول بالعكس ، فدل ذلك على أن ( الله ) اسم علم .
وقراءة من قرأ ) إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ) [ إبراهيم : 1 ، 2 ] بخفض اسم الله ليست لأجل أن جعله وصفاً وإنما هو للبيان ، فوازنه وزان قولك : ( مررت بالعالم الفاضل الكامل زيد ) .
وأيضاً قال تعالى : ( هل تعلم له سمياً ) [ مريم : 65 ] وليس المراد به الصفة والإلزام خلاف الواقع ، فوجب أن يكون المراد اسم العلم وليس ذلك إلا الله .
حجة القائلين باشتقاقه قوله عز من قائل(1/75)
" صفحة رقم 76 "
) وهو الله في السموات وفي الأرض ) [ الأنعام : 3 ] فإنه لا يجوز أن يقال هو زيد في البلد وإنما يقال هو العالم في البلد .
قلنا : لم لا يجوز أن يكون ذلك جارياً مجرى قولك ( هو زيد الذي لا نظير له في البلد ) ؟ قالوا : لما كانت الإشارة ممتنعة في حقه تعالى ، كان اسم العلم له ممتنعاً .
وأيضاً العلم للتمييز ولا مشاركة فلا حاجة إلى التمييز .
قلنا : وضع العلم لتعيين الذات المعينة ولا حاجة فيه إلى الإشارة الحسية ، ولا يتوقف على حصول الشركة ، وكأن النزاع بين الفريقين لفظي ، لأن القائلين بالاشتقاق متفقون على أن الإله مشتق من أله لالفتح إلاهة أي عبد عبادة ، وأنه اسم جنس كالرجل والفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا ، وكذلك السنة على عاما لقحط والبيت على الكعبة والكتاب على كتاب سيبويه .
وأما ( الله ) بحذف الهمزة فمختص بالمعبود الحق لم يطلق على غيره .
وينبغي أن يكون المراد من كون الله تعالى معبوداً كونه مستحقاً ومستأهلاً لأن يعبده كل من سواه كما يليق بحال العابد ، فإن اللائق بحال المعبود لا يقدر عليه أحد من المخلوقات .
ولا يخفى أن الاستحقاق والاستئهال حاصل له أزلاً وأبداً ، فيكون إلهاً أزلاً وأبداً وإن كل من سواه عابد له بقدر استعداده وعلى حسب حاله ، حتى النبات والجماد والكافر والفاسق ) وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) [ الإسراء : 44 ] ( إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا ) [ مريم : 93 ] والعبد الصالح من يعبد الله تعالى لذاته لا لغرض رغبة في الثواب ورهبة من العقاب ، حتى لو فرض حصول المرغوب أو فقد المرهوب لم يكن عابداً ، ومع ذلك فينبغي أن يقطع النظر عن عبادته أيضاً .
وقيل : اشتقاقه من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه .
فالنفوس لا تسكن إلا إليه تعالى ? والعقول لا تقف إلا لديه ، لأن الكمال محبوب لذاته ) ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا ) [ الرعد : 28 - 29 ] وقيل : من الوله وهو ذهاب العقل سواء فيه الواصلون إلى ساحل بحر العرفان والواقفون في ظلمات الجهالة وتيه الخذلان .
وقيل : من لاه ارتفع لأنه تعالى ارتفع عن مشابهة الممكانات ومناسبة المحدثات .
وقيل : من أله في الشيء إذا تحير فيه ، لأن العقل وقف بين إقدام على إثبات ذاته نظراً إلى وجود مصنوعاته ، وبين تكذيب لنفسه لتعاليه عن ضبط وهمه وحسه ، فلم يبق إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف العجز عن إدراك كنه الجلال والجمال ، وههنا العجز عن درك الإدراك إدراك .
وقيل : من لاه يلوه إذا احتجب ، لأنه بكنه صمديته محتجب عن العقول .
فإنا إنما(1/76)
" صفحة رقم 77 "
نستدلّ على كون الشعاع مستفاداً من الشمس بدورانه معها وجوداً وعدماً وشروقاً وأفولاً ? ولو كانت الشمس ثابتة في كبد السماء لما حصل اطمئنان يكون الشعاع مستفاداً منها ، ولما كان ذاته تعالى باقياً على حاله وكذا الممكنات التابعة له ، فربما يخطر ببال الضعفاء أن هذه الأشياء موجودة بذواتها فلا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال ظهوره ، فالحق محتجب والخلق محجوب .
وقيل : من أله الفصيل إذا ولع بأمه ، لأن العباد مولعون بالتضرع إليه في البليات ) وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ) [ الروم : 33 ] هذا شأن الناقصين ، وأما الكاملون فهو جليسهم وأنيسهم أبداً .
شكا بعض المريدين كثرة الوسواس فقال الشيخ : كنت حدّاداً عشر سنين وقصاراً عشراً وبواباً عشراً .
فقيل : وكيف وما رأينا منك ؟ قال : القلب كالحديد ألينه بنار الخوف عشراً أسل سيف ( لا إله إلا الله ) فلم أترك حتى يخرج منه حب غير الله ويدخل فيه حب الله ، فلما خلت عرصة القلب من غيره وقويت فيه محبته سقطت من بحر عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب فبقي في تلك القطرة وفني عن الكل ولم يبق فيه إلا محض سر ( لا إله إلا الله ) .
وقيل : من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره .
والمجير للخلائق من كره المضارّ هو الله ) وهو يجير ولا يجار عليه ) [ المؤمنون : 88 ] ومن لطائف اسم الله أنك إذا لم تتلفظ بالهمزة بقي ( الله ) ) ولله جنود السموات والأرض ) [ الفتح : 4 ] فإن تركت من هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة ( له ) ) له ما في السموات وما في الأرض ) [ البقرة : 255 ] وإن تركت اللام الباقية أيضاً بقي الهاء المضمومة من ( هو ) ) قل هو الله أحد ) [ الإخلاص : 1 ] والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع هما هم .
هذا بحسب اللفظ ، وأما بحسب لامعنى فإذا دعوت الله به فكأنك دعوته بجميع الصفات بخلاف سائر الأسماء ولهذا صحت كلمة الشهادة به فقط والله تعالى أعلم .
( الثالث عشر فيما يتعلق بالرحمن الرحيم ) الرحمن فعلان من رحم ، والرحيم فعيل منه واشتقاقه من الرحمة وهي ترك عقوبة من يستحقها أو إرادة الخير لأهله وأصله الرقة والتعطف ومنه الرحم لرقتها وانعطافها على ما فيها .
واختلف في منع صرف رحمن إذ ليس له مؤنث على فعلى كعطشى ، ولا على فعلانة كندمانة ، فمن شرط في منع صرف فعلان صفة وجود فعلي صرفه ، ومن شرط فيه انتفاء فعلانة لم يصرفه ، وإذا تشاقط الدليلان للتعارض فللصرف وجه ، وهو أن الأصل في الأسماء الصرف ولمنع الصرف وجه وهو(1/77)
" صفحة رقم 78 "
القياس على أخوته من بابه نحو : عطشان وغرثان .
وزعم قوم أنهما بمعنى واحد كندمان ونديم ، وجمع بينهما للتأكيد والاتساع كقولهم جاد مجدّ قال طرفة .
متى أدن منه ينأ عني ويبعد
وقال قوم : الرحمن أشد مبالغة استدلالاً بالزيادة في اللفظ على الزيادة في المعنى .
قالوا : ولهذا جاء رحمن الدنيا عمت المؤمن والكافر والبر والفاجر ، وفي الآخرة اختصت بالمؤمنين .
فالرحمن خاص اللفظ عام المعنى والرحيم بالعكس .
أما خصوص الرحمن فمن حيث لا يسمى به إلا الله تعالى لأنه من الصفات الغالبة كالدبران والعيوق ، وأما عمومه فمن حيث إنه يشمل جميع الموجودات من طريق الخلق والرزق والنفع .
وأما عموم الرحيم فاشتراك تسمية الخلق به ، وأما خصوصه فرجوعه إلى اللطف بالمؤمنين والتوفيق .
الضحاك : الرحمن بأهل السماء حيث أسكنهم السموات وطوقهم الطاعات وأنطق ألسنتهم بأنواع التسبيحات وجنبهم الآفات وقطع عنهم المطامع واللذات ، والرحيم بأهل الأرض حيث أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب .
فقال عكرمة : الرحمن برحمة واحدة والرحيم بمائة رحمة كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن لله تعالى مائة رحمة وإنه أنزل منها رحمة واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه فيها يتعاطفون وبها يتراحمون وأخر تسعاً وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة ) قال ابن المبارك : الرحمن الذي إذا سئل أعطى ، والرحيم الذي إذا لم يسأل غضب .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من لم يسأل الله يغضب عليه ) الرحمن بالنعماء وهي ما أعطى وحبا ؟ والرحيم بالأواء وهي ما صرف وزوى .
الرحمن بالإنقاذ من النار ) وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) [ آل عمران : 103 ] والرحيم بإدخالهم الجنان ) ادخلوها بسلام آمنين ) [ الحجر : 46 ] الرحمن الراحم القادر على كشف الضر ، والرحيم الراحم وإن لم يقدر على كشف الضر .
وتسمية مسيلمة الكذاب بالرحمن تعنت منهم واقتطاع من أسماء الله تعالى .
قال عطاء : ولذلك قرنه الله تعالى بالرحيم لأن هذا المجموع لم يسم غيره .
وإنما قدم الرحمن وهو الأعلى على الرحيم ، والعادة التدرج من الأدنى إلى الأعلى ، لأن الرحمن يتناول عظائم النعم وأصولها ، فإردافه بالرحيم كالتتمة ليتناول ما دق منها ولطف .
واعلم أن الأشياء التي أنعم الله تعالى بها على الخلق أربعة أقسام :(1/78)
" صفحة رقم 79 "
الأول : ما يكون نافعاً وضرورياً معاً وذلك في الدنيا التنفس ، فإنه لو انقطع لحظة واحدة مات ، وفي الآخرة معرفة الله فإنها إذا زالت عن القلب لحظة واحدة مات القلب واستوجب عذاب الأبد .
الثاني : أن يكون نافعاً لا ضرورياً كالمال في الدنيا وكسائر العلوم والمعارف في الآخرة .
الثالث : أن يكون ضرورياً لا نافعاً كالآفات والعلل ولا نظير لهذا القسم في الآخرة الرابع : أن لا يكون نافعاً ولا ضرورياً كالفقر في الدنيا والعذاب في الآخرة .
وبالجملة فكل نعمة أو نقمة دنيوية أو أخروية فإنما تصل إلى العبد أو تندفع عنه برحمة الله تعالى وفضله من غير شائبة غرض ولا ضميمة علة ، لأنه الجواد المطلق والغني الذي لا يفتقر ? فينبغي أن لا يرجى إلا رحمته ولا يخشى إلا عقابه .
( الرابع عشر في نكت شريفة ) .
الأولى : كل العلوم تندرج في الكتب الأربعة ، وعلومها في القرآن ، وعلوم القرآن في الفاتحة ، وعلوم الفاتحة في ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، وعلومها في الباء ، من بسم الله ، وذلك أن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب ، وهذه الباء للإلصاق ، فهو يوصل العبد إلى الرب وهو نهاية المطلب وأقصى الأمد .
وقيل : إنما وقع ابتداء كتاب الله تعالى بالباء دون الألف لأن الألف تطاول وترفع والباء انكسر وتساقط ومن تواضع لله رفعه الله .
الثانية : مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه ، فشكا إلى الله فدله على عشب في المفازة فأكله فعوفي بإذن الله ، ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه ، فقال : يا رب أكلته أوّلاً فاشتفيت به وأكلته ثانياً فضرني .
فقال : لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء .
وفي الثانية : ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض .
أما علمت أن الدنيا كلها سم وترياقها اسمي .
الثالثة : باتت رابعة ليلة في التهجد والصلاة ، فلما انفجر الصبح نامت فدخل السارق دارها وأخذ ثيابها ، وقصد الباب فلم يهتد إلى الباب فوضعها فوجد الباب ، وفعل ذلك ثلاث مرات فنودي من زاوية البيت : ضع القماش واخرج فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان .
الرابعة : كان بعض العارفين يرعى غنماً فحضر في غنمه الذئب ولا يضر أغنامه ، فمر عليه رجل وناداه متى اصطلح الغنم والذئب ؟ قال الراعي : من حين اصطلح الراعي مع الله .
الخامسة : روي أن فرعون قبل أن ادعى الإلهية قصد أو أمر أن يكتب باسم الله على بابه الخارج ، فلما ادعى الإلهية وأرسل الله إليه موسى ودعا فلم ير به أثر الرشد قال : إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيراً ، فقال تعالى : يا موسى لعلك تريد إهلاكه ، أنت تنظر إلى كفره(1/79)
" صفحة رقم 80 "
وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه .
والنكتة أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمناً من الهلاك وإن كان كافراً ، فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون حاله ؟ السادسة : سمى نفسه رحماناً ورحيماً فكيف لا يرحم ؟ روي أن سائلاً وقف على باب رفيع فسأل شيئاً فأعطي قليلاً فجاء بفأس وأخذ يخرب الباب ، فقيل له : لم تفعل ؟ قال : إما أن تجعل الباب لائقاً بالعطية أو العطية لائقة بالباب .
إلهي كما أثبت في أول كتابك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين من فضلك .
السابعة : إذا اشترى العبيد شيئاً من الدواب أو المتاع وضعوا عليه سمة الملك لئلا يطمع فيه العدوّ ، فالله تعالى يقول : عبدي عدوّك الشيطان فإذا شرعت في عمل وطاعة فاجعل عليها سمتي وقل : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .
الثامنة : اجعل ذكر الله قرينك حتى لا تبعد عنه في أحوالك .
روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دفع خاتماً إلى أبي بكر وقال : اكتب فيه ( لا إله إلا الله ) فدفعه إلى النقاش وقال : اكتب فيه ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فكتب النقاش ذلك ، فأتى أبو بكر بذلك الخاتم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فرأى النبي فيه ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبو بكر الصديق ) فقال : يا أبا بكر ما هذه الزوائد ؟ فقال : يا رسول الله ما رضيت أن أفرق اسمك من اسم الله فما رضي الله أن يفرق اسمي عن اسمك .
التاسعة : أن نوحاً ( صلى الله عليه وسلم ) لما ركب السفينة قال : ( بسم الله مجريها ومرساها ) [ هود : 41 ] فنجا بنصف هذه الكلمة ، فما ظنك بمن واظب على الكلمة طول عمره كيف يبقى محروماً عن النجاة ؟ العاشرة : الناس ثلاثة : سابق بالخيرات ومقتصد وظالم لنفسه .
فقال : الله للسابقين الرحمن للمقتصدين ، الرحيم للظالمين .
الله معطي العطاء ، الرحمن المتجاوز عن زلات الأولياء ، الرحيم الساتر لعيوب الأغنياء .
يعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك ، ولو علمت المرأة لجفتك ، ولو علمت الأمة لأقدمت على الفرار ، ولو علم الجار لسعى في تخريب الدار .
الله يوجب ولايته ) الله ولي الذين آمنوا ) [ البقرة : 257 ] الرحمن يستدعي محبته ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً ) [ مريم : 96 ] الرحيم يفيض رحمته ) وكان بالمؤمنين رحيماً ) [ الأحزاب : 43 ] هو رحيم بهم في ستة مواضع : في القبر وحسراته ، والقيامة وظلماته ، وقراءة الكتب وفزعاته ، والصراط ومخافاته ، والنار ودركاته والجنة ودرجاته .(1/80)
" صفحة رقم 81 "
الحادية عشرة : مر عيسى عليه السلام بقبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتاً ، فلما انصرف من حاجته مر بالقبر فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق من نور .
فتعجب من ذلك فصلى ودعا الله فأوحى الله تعالى إليه : يا عيسى ، كان هذا العبد عاصياً وكان قد ترك امرأة حبلى فولدت وربت ولده حتى كبر فسلمته إلى الكتاب فلقنه المعلم ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فاستحييت من عبدي أن أعذبه بناري في بطن الأرض وولده يذكر اسمي على ظهر الأرض .
الثانية عشرة : كتب عارف ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وأوصى أن تجعل في كفنه .
فقيل له في ذلك ؟ فقال : أقول يوم القيامة : إلهي بعثت كتاباً وجعلت عنوانه ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فعاملني بعنوان كتابك .
الثالثة عشرة : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) تسعة عشر حرفاً والزبانية تسعة عشر ، فالله تعالى يدفع بليتهم بهذه الحروف التسعة عشر .
الرابعة عشرة : اليوم بليلته أربع وعشرون ساعة ، ثم فرض خمس صلوات في خمس ساعات فبقي التسعة عشرة ساعة لا تستغرق بذكر الله تعالى ، وهذه التسعة عشر حرفاً تقع كفارات للذنوب الواقعة في تلك التسع عشرة .
الخامسة عشرة : لما كانت سورة التوبة مشتملة على القتال والبراءة لم يكتب في أولها ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وأيضاً السنة أن يقال عند الذبح : ( بسم الله والله أكبر ) ولا يقال : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فلما وفقك الله لذكر هذه الكلمات كل يوم سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة دل ذلك على أنه ما خلقك للقتل والعذاب وإنما خلقك للرحمة والثواب .
السادسة عشرة : قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من رفع قرطاساً من الأرض فيه بسم الله الرحمن الرحيم إجلالاً لله تعالى كتب عند الله من الصدّيقين وخفف عن والديه وإن كانا من المشركين ) وعن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أول ما نزلت هذه الآية على آدم قال : أمن ذريتي من العذاب ما داموا على قراءتها ، ثم رفعت فأنزلت على إبراهيم عليه السلام فتلاها وهو في كفة المنجنيق فجعل الله عليه النار برداً وسلاماً ، ثم رفعت بعده فما أنزلت إلا على سليمان وعندها قالت الملائكة : الآن تم والله ملكك ، ثم رفعت فأنزلها الله تعالى عليّ ، ثم يأتي أمتي يوم القيامة وهم يقولون : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فإذا وضعت أعمالهم في الميزان ترجحت حسناتهم .
وعن أبي هريرة(1/81)
" صفحة رقم 82 "
أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يا أبا هريرة إذا توضأت فقل : ( بسم الله الرحمن الرحيم ( فإن حفظتك لا يستريحون أن يكتبوا لك الحسنات حتى تفرغ ، وإذا غشيت أهلك فقل : ( بسم الله الرحمن الرحيم ( فإن حفظتك يكتبون لك الحسنات حتى تغتسل من الجنابة ، فإن حصل من تلك المواقعة ولد كتبت له من الحسنات بعدد نفس ذلك الولد وبعدد أنفاس أعقابه إن كان له عقب حتى لا يبقى منهم أحد .
يا أبا هريرة إذا ركبت دابة فقل : ( باسم الله والحمد لله ( يكتب لك الحسنات حتى تخرج منها ) وعن أنس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا بسم الله الرحمن الرحيم ) والإشارة فيه إذا صار هذا الاسم حجاباً بينك وبين أعدائك من الجن في الدنيا أفلا يصير حجاباً بينك وبين الزبانية في العقبى ؟
كانت لنفسي أهواء مفرّقة
فاستجمعت إذ رأتك النفس أهوائي
فصار يحسدني من كنت أحسده
وصرت مولى الورى مذ صرت مولاي
تركت للناس دنياهم ودينهم
شغلاً بذكرك يا ديني ودنيائي
هذا تمام الكلام في تفسير البسملة .
وأما تفسير الفاتحة ففيه أيضاً مسائل : الأولى : في اسماء هذه السورة وهي كثيرة ? وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى .
فالأول : فاتحة الكتاب سميت بذلك لأنه يفتتح بها في المصاحف وفي التعليم وفي القراءة في الصلاة ، ولأن الحمد فاتحة كل كتاب كما هي فاتحة القرآن .
وقيل : لأنها أول سورة نزلت من السماء .
الثاني : سورة الحمد لأن أولها الحمد الثالث : أم الكتاب وأم القرآن لأنها أصل القرآن وأصل كل كتاب منزل لاشتمالها على الإلهيات والمعاد وإثبات القضاء والقدر والنبوات ، أو لأن فيها حاصل جميع الكتب السماوية وذلك هو الثناء على الله والاشتغال بالخدمة والطاعة وطلب المكاشفات والمشاهدات ، أو لأن المقصود من جميع العلوم معرفة عزة الربوبية وذلة العبودية ، أو لأنها أفضل سور القرآن كما أن مكة وهي أم القرى أشرف البلدان ، أو أصل لجميع البلدان حيث دحيت من تحتها ، وكما أن الحمى سميت أم ملدم لأنهم جعلوها معظم الأوجاع واللدم الضرب .(1/82)
" صفحة رقم 83 "
الرابع : السبع المثاني لأنها سبع آيات ولأنها تثنى في كل صلاة ، أو لأن نصفها ثناء العبد للرب والنصف الآخر إعطاء الرب العبد ، أو لأنها مستثناة لهذه الأمة قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة والإنجيل ولا في الزبور مثل هذه السورة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم ) أو لأنها نزلت مرتين ، أو لأنها أثنية ومدائح لله تعالى .
الخامس : الوافية لأنها تجب قراءة كلها ولا يجزئ بعضها في الصلاة .
السادس : الكافية قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضاً عنها ) السابع : الشفاء والشافية لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فاتحة الكتاب شفاء من كل سقم ) الثامن : الأساس لأنها أول سورة القرآن فهي كالأساس ، أو لأنها تشتمل على أسا العبادات والمطالب .
قال الشعبي : سمعت عبد الله بن عباس يقول : أساس الكتب القرآن ? وأساس القرآن فاتحة الكتاب ، وأساس الفاتحة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالأساس تشف بإذن الله تعالى .
التاسع : الصلاة قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكاية عن الله تعالى : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) .
يعني الفاتحة وهو من باب تسمية الشيء بمعظم أركانه .
ومنه يعلم وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة .
العاشر : سورة تعليم المسألة لأن الله تعالى علم عباده فيها آداب السؤال فبدأ بالثناء ثم بالإخلاص ثم بالدعاء .
الحادي عشر : سورة الكنز لما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش ولهذا قال أكثر العلماء : إنها مكية وخطؤا مجاهداً في قوله : إنها مدنية ، وكيف لا ؟ وقد صح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث أبي بن كعب أنها من أول ما نزل من القرآن وأنها السبع المثاني ، وسورة الحجر مكية بلا خلاف وفيها قوله تعالى : ( ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ) [ الحجر : 87 ] ولا يسعنا القول بأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لبث بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب .
وقد جمع طائفة من العلماء بين القولين فقالوا إنها(1/83)
" صفحة رقم 84 "
نزلت بمكة مرة وبالمدينة أخرى ، وعلى هذا فإنها لم تثبت في المصحف مرتين لأنه لم يقع التواتر على نزولها مرتين .
ومن فضائل هذه السورة أنه لم يوجد فيها الثاء وهو الثبور ) لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً ) [ الفرقان : 14 ] والجيم وهو جهنم ) وإن جهنم لموعدهم أجمعين ) [ الحجر : 43 ] والخاء وهو الخزي ) يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) [ التحريم : 8 ] والزاء وهو الزفير والزقوم .
والشين وهو الشهيق ) لهم فيها زفير وشهيق ) [ هود : 106 ] والظاء وهو لظى ) كلا إنها لظى ) [ المعارج : 15 ] والفاء وهو الفراق ) ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون ) [ الروم : 14 ] فلما أسقط الله تعالى من الفاتحة هذه الحروف الدالة على العذاب وهي بعدد أبواب جهنم لقوله تعالى : ( لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ) [ الحجر : 44 ] غلب على الظن أن من قرأ الفاتحة نجا من جهنم ودخول أبوابها وتخلص من دركات النار وعذابها .
الثانية : في المباحث اللفظية .
الحمد مبتدأ والله خبره أي الحمد ثابت لله .
وأصله النصب الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله كقولهم شكراً وعجباً وسبحانك ومعاذ الله ، فعدل إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره نحو قوله تعالى ) قالوا سلاماً قال سلام ) [ الذاريات : 25 ] ولهذا كان تحية إبراهيم عليه السلام أحسن من تحيتهم كما جاء ) وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها ( .
[ النساء : 86 ] ومما يدل على أن أصله النصب أن قوله ) إياك نعبد وإياك نستعين ( بيان لحمدهم فكأنه قيل : كيف يحمدون ؟ فقيل : إياك نعبد .
والأصل توافق الجملتين .
واللام في ( الحمد ) لتعريف الجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو والاستغراق وهم لأنه لو سلم كونه اللام للاستغراق فحمد أبويه مثلاً لا يدخل فيه .
وأيضاً نحو نحمد الله لا يفهم منه إلا حقيقة الحمد من حيث هي فكذا ما ناب منابه وهو الحمد لله .
وقرأ بعضهم بكسر الدال إتباعاً ، وبعضهم بضم اللام .
الرب المالك ، ربه يربه فهو رب ، أو مصدر وصف به للمبالغة كالعدل .
وهو مطلقاً مختص بالله تعالى ، ومضافاً يجوز إطلاقه على غيره نحو : رب الدار ) ارجع إلى ربك ) [ يوسف : 50 ] وقرئ بالنصب على المدح أو بتقدير نحمد .
والعالم اسم موضوع للجمع كالأنام والرهط ، وهو ما يعقل من الملائكة والثقلين قاله ابن عباس والأكثرون .
وقيل : كل ما علم به الخالق من الجواهر والأعراض كقوله تعالى ) قال فرعون وما رب العالمين قال(1/84)
" صفحة رقم 85 "
رب السموات والأرض وما بينهما ) [ الشعراء : 23 ، 24 ] فعلى الأول مشتق من العلم وخصوا بالذكر للتغليب ، وعلى الثاني من العلامة وجمع ليشمل كل جنس مما سمي به ، وجمع بالواو والنون تغليباً لما فيه من صفات العقلاء .
) مالك يوم الدين ( صفة أخرى .
واليوم هو المدة من طلوع نصف جرم الشمس إلى غروب نصف جرمها ، أو من ابتداء طلوعها إلى غروب كلها ، أو من طلوع الفجر الثاني إلى غروبها ، وهذا في عرف الشرع .
ويراد به في الآية الوقت لعدم الشمس ثمة .
والدين الجزاء بالخير والشر ( كما تدين تدان ) وإضافة اسم الفاعل إلى الظرف اتساع وإجراء للظرف مجرى المفعول به مثل : يا سارق الليلة أهل الدار .
وإنما أفادت التعريف حتى جاز وقوعه صفة للمعرفة لأنه إما بمعنى الماضي نحو ) ونادى أصحاب الأعراف ) [ الأعراف : 48 ] ( وسيق الذين اتقوا ربهم ) [ الزمر : 73 ] أو بمعنى الاستمرار نحو : زيد مالك العبيد .
فيكون بمعنى من يملك المفيد للاستمرار نحو : فلان يعطي ويمنع .
وحينئذ لا تعمل ، فتكون الإضافة حقيقية ، وقرئ بنصب الكاف ورفعها مدحاً ، وبسكون اللام مخفف ملك مكسور اللام وبجعله فعلاً ماضياً ونصب يوم ومليك رفعاً ونصباً وجراً .
( إيا ) ضمير منصوب منفصل ولا محل لكاف الخطاب نحو ( أرأيتك ) وهو مذهب الأخفش والمحققين وحكاية الخليل ( إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب ) شاذ .
والأصل نعبدك ونستعينك ، فلما قدم الضمير المتصل للاختصاص صار منفصلاً .
وقرئ إياك بتخفيف الياء ، وأياك بفتح الهمزة والتشديد ، وهياك بقلب الهمزة هاء ، قال طفيل :
فهياك والأمر الذي إن تراحبت
موارده ضاقت عليك مصادره
فإن قيل : لم عدل عن الغيبة إلى الخطاب ؟ قلنا : هذا يسمى الالتفات في علم البيان وذلك على عادة افتنانهم في الكلام والتنقل أسلوب إلى أسلوب تطرية لنشاط السامع .
وقد يختص مواقعه بفوائد وسننظم لك في سلك التقرير فائدته في هذا الموضع .
والعبادة أقصى غاية الخضوع .
طريق معبد أي مذلل ، وثوب ذو عبدة في غاية الصفاقة وقوة النسج هدى يتعدى باللام أو بإلى ) إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) [ الإسراء : 9 ] ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) [ الشورى : 52 ] فعومل معاملة اختار في قوله تعالى ) واختار موسى قومه ) [ الأعراف : 155 ] والأصل فيه الإمالة ومنه ) إنا هدنا إليك ) [ الأعراف : 156 ] أي ملنا والهدية لأنها تمال من ملك إلى ملك والهدي للذي يساق إلى الحرم أي أمل(1/85)
" صفحة رقم 86 "
قلوبنا إلى الحق .
والصراط الجادة ، وأصله السين من سرط الشيء ابتلعه لأنه يسرط السابلة إذا سلكوه كما سمي لقماً لأنه يلتقمهم ، ومثله مسيطر ومصيطر .
والصراط يذكر ويؤنث كالطريق والسبيل و ) صراط الذين أنعمت عليهم ( بدل الكل من ) الصراط المستقيم ( وفائدته التوكيد كقولك : هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان ؟ ويكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك : هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل ، لأنك بينت ذكره مجملاً أوّلاً ومفصلاً ثانياً .
وقراءة ابن مسعود ) صراط من أنعمت عليهم وغير المغضوب ( بدل من ( الذين ) أو صفة .
وإنما جاز وقوعه صفة للمعرفة لأنه تعريف الذين كلاّ تعريف كقوله : ( ولقد أمر على اللئيم يسبني ) .
أو لأن المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم فهو كقولك : عليك بالحركة غير السكون ويجوز أن يكون بدلاً وإن كان نكرة من معرفة ولا نعت للإفادة .
والفرق بين عليهم الأولى والثانية ، أن الأولى محلها النصب على المفعولية ، والثانية محلها الرفع على أنها مفعول أقيم مقام الفاعل .
وأصل النعمة المبالغة والزيادة يقال : دققت الدواء فأنعمت دقه أي بالغت في دقه .
وكل ما في القرآن من ذكر النعمة بكسر النون فهي المنة والعطية .
والنعمة بفتح النون التنعم وسعة العيش ) ونعمة كانوا فيها فاكهين ) [ الدخان : 27 ] والغضب في اللغة الشدة وقد عرفت معناه بحسب إطلاقه على الخلق وعلى الخالق .
وأصل الضلال الغيبوبة ضل الماء في اللبن إذا غاب فيه ، وضل الكافر غاب عن الحق .
قال تعالى : ( أئذا ضللنا في الأرض ) [ السجدة : 10 ] و ( غير ) ههنا بمعنى ( لا ) و ( لا ) بمعنى ( غير ) ولذلك جاز عطف أحدهما على الآخر .
تقول : أنا زيداً غير ضارب كما تقول : أنا زيداً لا ضارب .
ويعضده ما قرئ وغير الضالين وقرأ أيوب السختياني ولا الضالين بالهمزة كما قرأ عمرو بن عبيد ) ولا جأنّ ( وآمين مداً وقصراً معناه استجب ، كما أن رويد معناه أمهل .
وعن ابن عباس عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معناه إفعل .
( الثالث في المباحث الفقهية ) .
البحث الأول : أجمع الأكثرون ومنهم الشافعي على أن قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة وإن ترك منها حرفا واحداً وهو يحسنها لم تصح صلاته .
وعند أبي حنيفة قراءتها غير واجبة لنا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) واظب طول عمره على قراءتها في الصلاة فتجب علينا لقوله تعالى ) فاتبعوه ) [ الأنعام : 153 ] وأيضاً أقيموا الصلاة معناه الصلاة التي أتى بها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، لكنه كان يقرأ الفاتحة فيها فتجب .
وأيضاً روي في ذلك أخبار كثيرة ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) ( كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج )(1/86)
" صفحة رقم 87 "
وروى رفاعة بن مالك أن رجلاً دخل المسجد وصلى ، فلما فرغ من صلاته وذكر الخبر إلى أن قال الرجل : علمني الصلاة يا رسول الله .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا توجهت إلى القبلة فكبر واقرأ بفاتحة الكتاب ) وظاهر الأمر للوجوب ولا سيما في معرض التعليم .
وأيضاً الخلفاء الراشدون واظبوا على قراءتها طول العمر وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) وأيضاً المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور وذلك غير جائز إن لم تكن واجبة فثبت أنها واجبة .
حجة أبي حنيفة ) فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) [ المزمل : 20 ] قلنا : الفاتحة هي المتيسرة المحفوظة على جميع الألسنة .
ثم قال : إذا قرأ آية واحدة كفت مثل ) الم ( أو ) حم ) [ الدخان : 1 ] ( والطور ( و ) مدهامتان ) [ الرحمن : 64 ] .
أبو يوسف ومحمد : لا بد من قراءة ثلاث آيات أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين .
البحث الثاني : قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وإنما كتبت للفصل والتبرك وهو مذهب أبي حنيفة ومن تابعه ، ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة .
وقراء مكة والكوفة وفقهاؤهما على أنها آية من كل سورة وعليه الشافعي وأصحابه لما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاتحة الكتاب فعد ( بسم الله الرحمن الرحيم ) آية ، ( الحمد لله رب العالمين ) آية ، ( الرحمن الرحيم ) آية ، ( مالك يوم الدين ) آية ، ( إياك نعبد وإياك نستعين ) آية ، ( اهدنا الصراط المستقيم ) آية ( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) آية .
وعن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن ) بسم الله الرحمن الرحيم ( وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري ؟ فقلت : بلى فقال : بأي شيء تفتتح القرآن إذ افتتحت الصلاة ؟ قلت : ببسم الله الرحمن الرحيم .
قال : هي هي .
وبإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال له : كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة ؟ قال : أقول ) الحمد لله ( قال : قل ) بسم الله الرحمن الرحيم ( وبإسناده عن علي بن أبي طالب أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ ) بسم الله الرحمن الرحيم ( وكان يقول : من ترك قراءتها فقد نقص في صلاته وبإسناده عن ابن عباس في قوله ) ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ) [ الحجر : 87 ] قال : فاتحة الكتاب .
فقيل لابن عباس : فأين السابع ؟ فقال : ( بسم الله الرحمن الرحيم ( .
وعن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال :(1/87)
" صفحة رقم 88 "
يقول الله سبحانه ) قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين .
فإذا قال العبد ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قال الله : مجدني عبدي وإذا قال : ( الحمد لله رب العالمين ) قال الله : حمدني عبدي وإذا قال : ( الرحمن الرحيم ) قال الله : أثنى عليّ عبدي وإذا قال : ( مالك يوم الدين ) قال الله : فوّض إلي عبدي وإذا قال : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) قال الله : هذا بيني وبين عبدي وإذا قال : ( اهدنا الصراط المستقيم ) قال الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ( إلى غير ذلك من الأخبار .
وأيضاً التسمية مكتوبة بخط القرآن في مصاحف السلف مع توصيتهم بتجريد القرآن عما ليس منه ولذلك لم يثبتوا ) آمين ( .
وأيضاً قال ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي بن كعب : ما أعظم آية في كتاب الله ؟ قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فصدّقه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
ومعلوم أنها ليست آية تامة في قوله ) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) [ النمل : 30 ] فتكون آية في غير هذا الموضع .
وأيضاً إن أكثر الأنبياء أوجبوا على أنفسهم الابتداء بذكر الله قال نوح عند ركوب السفينة : ( باسم الله مجريها ومرساها ) [ هود : 41 ] وكتب سليمان إلى بلقيس ) بسم الله الرحمن الرحيم ( وقوله ( إنه من سليمان ( من قول بلقيس قبل فتح الكتاب ، فلما فتحت الكتاب قرأت التسمية فقالت : ( وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ( ولما ثبت الابتداء بالتسمية في حقهم ثبت في حق نبينا أيضاً ) أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] وعن عبد الله بن مسعود قال : كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى تنزل ) بسم الله الرحمن الرحيم ( .
وعن ابن عمر قال : نزلت ) بسم الله الرحمن الرحيم ( في كل سورة .
وأيضاً البسملة من القرآن في النمل ثم إنا نراه مكرراً بخط القرآن فوجب أن نعتقد كونه من القرآن مثل ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ) [ الرحمن : 13 ] ( ويل يومئذ للمكذبين ) [ المرسلات : 15 ] حجة المخالف خبر أبي هريرة أيضاً في رواية أخرى قال : ( يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد ( الحمد لله رب العالمين ) يقول الله حمدني عبدي ( إلى آخره .
قال : لم يذكر التسمية ، ولو كانت آية من الفاتحة لذكرها .
قلنا : إذا تعارضت الروايتان فالترجيح للمثبت لا للنافي .
قالوا : التنصيف إنما يحصل إذا لم تعد التسمية آية حتى يحصل للرب ثلاث آيات ونصف وللعبد ثلاث ونصف من ) إياك نستعين ( إلى آخر السورة .
أما إذا قلنا التسمية آية صار القسم الأول أربع آيات ونصفاً فينخرم التنصيف .
قلنا : نحن نعد التسمية آية ولا نعد ) أنعمت عليهم ( وهذا أولى رعاية لتشابه المقاطع ، ولأن غير صفة أو بدل ويختل الكلام بجعله(1/88)
" صفحة رقم 89 "
منقطعاً عما قبله لأن طلب الاهتداء بصراط المنعم عليهم لا يجوز إلا بشرط كون المنعم عليه غير مغضوب عليه ولا ضالاً بدليل قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً ) [ إبراهيم : 28 ] فهذا المجموع كلام واحد ، وهذا بخلاف ) الرحمن الرحيم ( فإنا لو قطعنا النظر عن الصفة كان الكلام مع الموصوف غير مختل النظام .
قالوا : روت عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين .
قلنا : قال الشافعي : لعل عائشة جعلت ( الحمد لله رب العالمين ) اسماً لهذه السورة كما يقال قرأ فلان ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ) .
قالوا : لو كانت من الفاتحة لزم التكرار في ( الرحمن الرحيم ) قلنا : التكرار للتأكيد غير عزيز في القرآن .
فإن قيل : إذا عد التسمية آية من كل سورة على ما يروى عن ابن عباس ، فمن تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله .
فما وجه ما روي عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في سورة الملك : إنها ثلاثون آية وفي الكوثر إنها ثلاث آيات مع أن العدد حاصل بدون التسمية ؟ قلنا : إما أن تعد التسمية مع ما بعدها آية وذلك غير بعيد ، ألا ترى أن قوله ( الحمد لله رب العالمين ) آية تامة ، وفي قوله ) وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] بعض آية ؟ وإما أن يراد ما هو خاصة الكوثر ثلاث آيات ، فإن التسمية كالشيء المشترك فيه بين السور .
البحث الثالث : عن أحمد بن حنبل أن التسمية آية من الفاتحة ، ويسرّ بها في كل ركعة .
أبو حنيفة : ليست بآية ويسر بها .
مالك : لا ينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سراً ولا جهراً .
الشافعي : آية ويجهر بها لأنها بعد ما ثبت كونها من الفاتحة والقرآن لا يعقل فرق بينها وبين باقي الفاتحة حتى يسر بهذه ويجهر بذلك .
وأيضاً إنه ثناء على الله وذكر له فوجب أن يكون الإعلان به مشروعاً لقوله عز من قائل ) فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً ) [ البقرة : 200 ] وأيضاً الإخفاء والسر إنما يليق بما فيه نقيصة ومثلبة لا بما فيه مفخرة وفضيلة .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( طوبى لمن مات ولسانه رطب من ذكر الله ) وكان علي بن أبي طالب يقول : يا من ذكره شرف للذاكرين .
وكان مذهبه الجهر بها في جميع الصلوات ، وقد ثبت هذا منه تواتراً ومن اقتدى به لن يضل .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اللهم أدر الحق معه حيث دار ) وروى البيهقي في السنن الكبرى عن أبي هريرة قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم .
وروي عن عمر وابنه وابن عباس وابن الزبير مثل ذلك ، وروى الشافعي بإسناده أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود ، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار : يا معاوية سرقت من(1/89)
" صفحة رقم 90 "
الصلاة أين ( بسم الله الرحمن الرحيم ) أين التكبير عند الركوع والسجود ؟ ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير .
قال : وكان معاوية شديد الشكيمة ذا شوكة ، فلولا أن الجهر بالتسمية كان مقرراً عند كل الصحابة لم يجسروا على ذلك حجة المخالف ما روى البخاري في صحيحه عن أنس قال : صليت خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين .
وفي رواية ولم أسمع أحداً منهم قال : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وفي رواية ولم يجهر أحد منهم ببسم الله الرحمن الرحيم .
وعن عبد الله بن المغفل أنه قال : سمعني أبي وأنا أقول ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال : أي بني ، إياك والحدث في الإسلام وقد صليت خلف أبي بكر فقال : ( الحمد لله رب العالمين ) وصليت خلف عمر فقال : ( الحمد لله رب العالمين ) وصليت خلف عثمان فقال : ( الحمد لله رب العالمين ) فإذا صليت فقل ( ) الحمد لله رب العالمين ( .
والجواب أن حديث أنس معارض بما يروى عنه أيضاً أن معاوية لما ترك التسمية في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار .
وروى أيضاً أبو قلابة عن أنس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم .
ويروى أيضاً أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به قال : لا أدري هذه المسألة ، وإذا اضطررت الروايات عنه وجب الرجوع إلى سائر الدلائل .
وأيضاً ففيها تهمة أخرى وهي أن علياً رضي الله عنه كان يبالغ في الجهر بالتسمية ، فلما كان زمن بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعياً في إبطال آثار علي بن أبي طالب ، فلعل أنساً خاف منهم فلهذا اضطربت أقواله .
وأيضاً من المعلوم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقدم أولى الأحلام والنهي والأكابر والعلماء على غيرهم ، ولا شك أن علياً وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالاً من أنس وابن المغفل وأقرب موقفاً ، وأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان يبالغ في الجهر لقوله تعالى ) ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً ) [ الإسراء : 110 ] فلهذا لم يسمعا .
ورواية المثبت أولى من رواية النافي ، والدلائل العقلية معنا ويؤيدها عمل علي بن أبي طالب كما مر .
البحث الرابع : تقديم التسمية على الوضوء سنة عند عامة العلماء وليست بواجبة خلافاً لبعض أهل الظاهر حيث قالوا : لو تركها عمداً أو سهواً لم تصح صلاته لنا قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) توضأ كما أمرك الله ( والتسمية غير مذكورة في آية الوضوء .
والصحيح عندنا أن الجنب والحائض لا يقولها بقصد القراءة ، والتسمية عند الذبح وعند الرمي إلى الصيد وعند إرسال الكلب مستحبة ، فلو تركها عامداً أو ناسياً ، لم تحرم الذبيحة عند الشافعي ولكن تركها عمداً مكروه ، وعند أبي حنيفة إن ترك التسمية عمداً لم يحل ، وإن نسي حل .
والعلماء أجمعوا على أنه يستحب أن لا يشرع في عمل من الأعمال إلا أن يقول : باسم الله ، فإذا نام قال باسم الله ، وإذا انتبه قال : باسم الله ، وإذا قام من المقام قال : باسم الله ، وإذا أكل أو شرب قال(1/90)
" صفحة رقم 91 "
: باسم الله ، وإذا أعطى أو أخذ قال : باسم الله ، ويستحب للقابلة إذا أخذت الولد من الأم أن تقول باسم الله وهذا أول أحواله من الدنيا وإذا مات وأدخل القبر قيل باسم الله وهذا آخر أحواله من الدنيا ، وإذا قام من القبر قال : باسم الله ، وإذا حضر الموقف قال : باسم الله ، فلا جرم يدخل الجنة ببركة اسم الله .
البحث الخامس : قال الشافعي : ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها .
وقال أبو حنيفة : إنها كافية في حق القادر والعاجز .
وقال أبو يوسف ومحمد : كافية في حق العاجز لا القادر لنا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) والخلفاء من بعده وجميع الصحابة ما قرأوا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي فوجب علينا اتباعهم ، وكيف يجوز عاقل قيام الترجمة بأي لغة كانت وهي كلام البشر مقام كلام خالق القوى والقدر ؟ وقالوا : وروي عن عبدالله بن مسعود أنه كان يعلم رجلاً أن شجرة الزقوم طعام الأثيم والرجل لا يحسنه .
فقال : قل طعام الفاجر ، ثم قال عبدالله : ليس الخطأ في القرآن أن تقرأ مكان العليم الحكيم إنما الخطأ بأن تضع آية الرحمة مكان آية العذاب .
قلنا : الظن بابن مسعود غير ذلك .
قالوا ) وإنه لفي زبر الأولين ) [ الشعراء : 196 ] ( إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ) [ الأعلى : 18 ، 19 ] ولا ريب أن القرآن بهذا اللفظ ما كان في زبر الأولين لكن بالعبرية والسريانية .
قلنا إن القصص والمواعظ موجودة لا باللفظ بل بالمعنى ، ولا يلزم من ذلك أن يكون الموجود فيها قرآناً ، فإن النظم المعجز جزء من ماهية القرآن والكل بدون الجزء مستحيل .
البحث السادس : الشافعي في القول الجديد قال : تجب قراءة الفاتحة على المقتدي سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها .
وفي القديم : تجب إذا أسر الإمام ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك وأحمد أبو حنيفة : تكره القراءة خلف الإمام بكل حال لنا قوله تعالى ) فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) [ المزمل : 20 ] وقوله : ( ا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) يشمل المنفرد والمقتدي ، وأيضاً روى الترمذي في جامعه بإسناده عن عبادة بن الصامت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى الصبح فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف ( صلى الله عليه وسلم ) قال : إني أراكم تقرأون خلف إمامكم قلنا : أي والله ، قال : لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها .
قال : وهذا حديث حسن .
وأيضاً قراءتها لا تبطل الصلاة عندهم ولكن يجوّزون تركها ويبطلها عدم القراءة عندنا ، فالأحوط قراءتها .
احتج المخالف بقوله تعالى ) وإذا قرئ القرآن(1/91)
" صفحة رقم 92 "
فاستمعوا له وأنصتوا } [ الأعراف : 204 ] وبأخبار بين ضعفها البيهقي في كتابه ، ونحن نقول : أما القرآن فمخصوص بغير الفاتحة لما مر ، وأما الأخبار فهب أنها صحيحة إلا أن الترجيح معنا لأن الاشتغال بقراءة القرآن من أعظم الطاعات ولأنه أحوط .
البحث السابع : مذهب الشافعي أن الفاتحة واجبة في كل ركعة فإن تركها في ركعة بطت صلاته ، وبه قال أبو بكر وعمر وعلي عليهم السلام وابن مسعود ومعظم الصحابة ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرأوها في كل ركعة ، ولأنه قال للأعرابي الذي علمه الصلاة وكذلك فأفعل في كل ركعة .
وعن أبي سعيد الخدري أنه قال : أمرنا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة فريضة كانت أو نافلة .
وأيضاً القراءة في كل ركعة أحوط فيجب المصير إليها .
وقيل : غير واجبة أصلاً ، وقيل : تجب في كل صلاة في ركعة واحدة فقط وبه يحصل امتثال قوله ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) وعند أبي حنيفة القراءة تجب في الركعتين الأوليين لقول عائشة : فرضت الصلاة في الأصل ركعتين فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر .
فهما أصل والزائد تبع .
قلنا : ما ذكرنا أحوط ، وقيل : تجب الفاتحة في الأوليين وتكره في الآخرتين .
وعند مالك تجب في أكثر الركعات ، ففي الثنائية فيهما وفي الثلاثية في اثنتين وفي الرباعية في ثلاث .
البحث الثامن : إذا ثبت أن القراءة شرط في الصلاة فلو تركها أو حرفاً من حروفها عمداً بطلت صلاته وكذا سهواً على الجديد .
وما روي أن عمر بن الخطاب صلى المغرب فترك القراءة فقيل له : تركت القراءة .
قال : كيف كان الركوع والسجود ؟ قالوا : حسناً .
قال : فلا بأس ، معارض بما روى الشعبي عنه أنه أعاد الصلاة .
وأيضاً لعله ترك الجهر بالقراءة لا نفس القراءة .
البحث التاسع : يجب رعاية الترتيب في أجزاء الفاتحة وما وقع غير مرتب فغير محسوب .
البحث العاشر : إن لم يحفظ شيئاً من الفاتحة قرأ بقدرها من غيرها من القرآن ، ثم من ذكر من الأذكار ، ثم عليه مثل وقفة بقدرها فإن تعلم قرأ ما لم يفرغ منه .
البحث الحادي عشر : نقل عن ابن مسعود أنه كان ينكر أن تكون الفاتحة والمعوذتان من جملة القرآن والظن به أن هذا النقل عنه كذب وإلا فجحد المتواتر كيف يليق بحاله ؟(1/92)
" صفحة رقم 93 "
الرابع فيما يختص بتفسير الحمد لله من الفوائد .
الفائدة الأولى في الفرق بين الحمد والمدح والشكر .
المدح للحي ولغير الحي كاللؤلؤة والياقوتة الثمينة ، والحمد للحي فقط .
والمدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده ، والحمد إنما يكون بعد الإحسان .
والمدح قد يكون منهياً عنه قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( احثوا التراب في وجوه المداحين ) والحمد مأمور به مطلقاً قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من لم يحمد الناس لم يحمد الله ) والمدح عبارة عن القول الدال على أنه مختص بنوع من أنواع الفضائل باختياره وبغير اختياره ، والحمد قول دال على أنه مختص بفضيلة اختيارية معينة وهي فضيلة الإنعام إليك وإلى غيرك ، ولا بد أن يكون على جهة التفضيل لا على سبيل التهكم والاستهزاء ، والشكر على النعمة الواصلة إليك خاصة وهو باللسان ، وقد يكون بالقلب والجوارح قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا
والحمد باللسان وحده فهو إحدى شعب الشكر ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده ) وإنما جعله رأس الشكر لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها أشيع لها وأدل على مكانها من الإعتقاد وأداء الجوارح لخفاء عمل القلب ، وما في عمل الجوارح من الاحتمال بخلاف عمل اللسان وهو النطق الذي يفصح عن كل خفي .
والحمد نقيضه الذم ولهذا قيل : الشعير يؤكل ويذم .
والمدح نقيضه الهجاء ، والشكر نقيضه الكفران ، إذا عرفت ذلك فنقول : إذا قال المدح لله لم يدل ذلك على كونه تعالى فاعلاً مختاراً لما مر أن المدح قد يكون لغير المختار .
ولو قال : الشكر لله كان ثناء بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل .
وإذا قال : الحمد لله فكأنه يقول سواء أعطيتني أو لم تعطني فإنعامك واصل إلى كل العالمين وأنت مستحق للحمد العظيم ، ولا ريب أن هذا أولى .
وقيل : الحمد لله على ما دفع من البلاء ، فكأنه يقول : أنا شاكر لأدنى النعمتين فكيف بأعلاهما ؟ ويمكن أن يقال : إن المنع غير متناه والإعطاء متناه ، والابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له أولى ، وأيضاً دفع الضرر أهم من جلب النفع فتقديمه أحرى .
الثانية : لو قال : أحمد الله أفاد كون ذلك القائل على حمده ، وإذا قال : الحمد لله أفاد أنه كان محموداً قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين .
وأيضاً الحمد لله معناه أن مطلق الحمد(1/93)
" صفحة رقم 94 "
والثناء حق الله وملكه كما ينبئ عنه اللام الجنسية واللام الجارة وذلك بسبب كثرة إيلائه أنواع آلائه على عبيده وإمائه .
ولا يخفى أن هذا أولى من أن يحمده شخص واحد فقط ، ولهذا لو سئلت هل حصل لفلان عليك نعمة ؟ فإن قلت نعم فقد حمدته ولكن حمداً ضعيفاً ، ولو قلت في الجواب بل نعمه على كل الخلائق كان أكمل .
فإن قيل : أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه ؟ فالأستاذ يستحق الحمد من التلميذ ، والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من لم يحمد الناس لم يحمد الله ) ؟ قلنا : المنعم في الحقيقة هو الله لأنه خلق تلك الداعية في ذلك المنعم بعد أن خلق تلك النعمة وسلط المنعم عليها ومكن المنعم عليه من الانتفاع وأمنه من فوات الانقطاع ، ولهذا قال عز من قائل ) وما بكم من نعمة فمن الله ) [ النحل : 53 ] وأيضاً كل مخلوق ينعم على غيره فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضاً إما ثواباً أو ثناء ، أو تحصيل خلق أو تخلصاً من رذيلة البخل .
وطالب العوض لا يكون منعماً ولا مستحقاً للحمد في الحقيقة ، أما الله سبحانه فإنه كامل لذاته والكامل لذاته لا يطلب الكمال ، لأن تحصيل الحاصل محال فكان عطاؤه جوداً محضاً ، فثبت أن لا مستحق للحمد إلا الله تعالى .
الثالثة : إنما لم يقل ( احمدوا الله ) لأن الإنسان عاجز عن الإتيان بحمد الله وشكره فلم يحسن أن يكلف فوق ما يستطيعه ، وذلك أن نعم الله على العباد غير محصورة ) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ إبراهيم : 34 ] وإذا امتنع الوقوف عليها امتنع اقتداره على الشكر والثناء اللائق بها .
وأيضاً إنما يمكنه القيام بحمد الله وشكره إذا أقدره الله على ذلك الحمد والشكر وخلق في قلبه داعية ذلك وأزال عنه العوائق والصوارف ، وكل ذلك إنعام من الله فيتسلسل .
وأيضاً الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل إنعام المنعم بشكر نفسه ، ومن اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعمة الله فقد أشرك ، وهذا معنى قول الواسطي ( الشكر شرك ) أما إذا قال : ( الحمد لله ) فالمعنى أن كمال الحمد حقه وملكه سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا .
ونقل أن داود عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك علي وهو أن توفقني لذلك الشكر ؟ فقال : يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك .
الرابعة : عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا أنعم الله على عبد فقال : ( الحمد لله يقول الله تعالى : انظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له ( ومعناه أن ما أنعم الله على العبد شيء واحد ، وإذا قال : الحمد لك فمعناه المحامد التي أتى بها الأولون والآخرون من الملائكة(1/94)
" صفحة رقم 95 "
والثقلين لله تعالى ، وكذا المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قوله تعالى ) دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيّتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] وإلى أبد الآبدين ودهر الداهرين فالمنعم به متناه والحمد غير متناه ، وإذا أسقط المتناهي من غير المتناهي بقي غير المتناهي .
فالذي بقي للعبد طاعات غير متناهية فلا بد من مقابلتها بنعم غير متناهية ، فلهذا يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي .
الخامسة : لا شك أن الوجود خير من العدم ، وأن وجود كل ما سوى الله فإنه حصل بإيجاد الله وجوده ، فإنعام الله تعالى واصل إلى كل من سواه ، فإذا قال العبد : ( الحمد لله ) فكأنه قال : الحمد لله على كل مخلوق خلقه ، وعلى كل محدث أحدثه من نور وظلمة وسكون وحركة وعرش وكرسي وجني وإنسي وذات وصفة وجسم وعرض من أزل الآزال إلى أبد الآباد ، وأنا أشهد أنها بأسرها لك لا شركة لأحد فيها معك .
السادسة : التسبيح مقدم على التحميد لأنه يقال : سبحان الله والحمد لله .
فما السبب في وقع البداءة بالتحميد ؟ والجواب أن التسبيح داخل في التحميد دون العكس ، فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص ، والتحميد يدل على كونه محسناً إلى العباد ، ولا يكون محسناً إليهم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات ليعلم مواقع الحاجات وإلا إذا كان قادراً على المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه ، وإلا إذا كان غنياً في نفسه وإلا شغله حاجة نفسه عن حاجة غيره ، فثبت أن كونه محسناً لا يتم إلا بعد كونه منزهاً عن النقائص والآفات .
السابعة : الحمد له تعلق بالماضي وهو وقوعه شكراً على النعم السابقة ، وتعلق بالمستقبل وهو اقتضاء تجدد النعم لقوله تعالى ) لئن شكرتم لأزيدنكم ) [ إبراهيم : 7 ] فبالأول يغلق عنك أبواب النيران ، وبالثاني يفتح لك أبواب الجنان ، فإن الحمد لله ثمانية أحرف بعدد أبواب الجنة .
الثامنة : الحمد لله كلمة جليلة لكنه يجب أن تذكر في موضعها ليحصل المقصود .
قال السري : منذ ثلاثين سنة أستغفر الله لقولي مرة واحدة الحمد لله .
وذلك أنه وقع الحريق في بغداد وأحرقت دكاكين الناس فأخبروني واحد أن دكاني لم يحترق فقلت : الحمد لله .
وكان من حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك ، فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة .
فالحمد على نعم الدين أفضل من الحمد على نعم الدنيا ، والحمد على أعمال القلوب أولى من الحمد على أعمال الجوارح ، والحمد على النعم من حيث إنها عطية المنعم أولى من الحمد عليها من حيث هي نعم ، فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يقع الحمد في موضعه اللائق به .(1/95)
" صفحة رقم 96 "
التاسعة : أول ما بلغ الروح إلى سرة آدم عطس فقال : ( الحمد لله رب العالمين ) وآخر دعوى أهل الجنة ( الحمد لله رب العالمين ) .
ففاتحة العالم مبنية على الحمد وخاتمته مبنية على الحمد ، فاجتهد أن يكون أول أعمالك وآخرك مقروناً بكلمة الحمد .
العاشرة : لا يحسن عندنا أن يقدّر قولوا : ( الحمد لله ) لأن الإضمار خلاف القياس ، ولأن الولد إذا قال لولده : أعمل كذا وكذا فلم يمتثل كان عاقاً ، فالأولى أن يقول الأمر الفلاني ينبغي أن يفعل .
ثم إن كان الولد باراً فإنه يجيبه ويطيعه وإن كان عاقاً كان إثمه أقل ، فكذلك إذا قال : الحمد لله فمن كان مطيعاً حمده ومن كان عاصياً كان إثمه أقل ، بخلاف ما لو قدر ( قولوا الحمد لله ) .
الحادية عشرة : شنعت الجبرية على المعتزلة ومن يجري مجراهم بأنكم تثبتون للعبد فعلاً واختياراً ، واستحقاق الحمد إنما يكون على أشرف النعم وهو الإيمان ، فلو كان الإيمان بفعل العبد لكان المستحق للحمد هو العبد .
والجواب أن الإيمان باختيار العبد لكن الاختيار أيضاً مستند إلى الله تعالى فاستحق الحمد لذلك .
وشنعت المعتزلة على الجبرية بأن قوله ( الحمد لله ) لا يتم إلا على مذهبنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبح في فعله ولا جور في قضيته ، وعندكم لا قبح إلا وهو فعله ، ولا جور إلا وهو حكمه .
والجواب أن القبح والجور إنما يثبتان لو أمكن تصور الفعل المخصوص في القابل المخصوص أحسن وأتم مما صدر لكنه محال ، فإنه تعالى حكيم وكل ما يصدر عن الحكيم كان على أفضل ما يمكن بالنسبة إلى المحل المخصوص .
الثانية عشرة : اختلفوا في أن شكر المنعم واجب عقلاً أو شرعاً .
فمنهم من قال عقلاً ومن جملة أدلتهم قوله ( الحمد لله ) فإنه يدل على ثبوت الاستحقاق على الإطلاق ، وأيضاً عقبه بقوله ( رب العالمين ) وترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف ، فدل ذلك على أن استحقاقه للحمد ثابت بكونه رباً للعالمين قبل مجيء الشرع وبعده .
والجواب أن استحقاقه لمثل هذا الحمد عرفناه من قبل الشرع .
واعلم أن الحمد سبيله سبيل سائر الأذكار والعبادات في أنها إنما يؤتى بها لا لأن الله تعالى مستكمل بها ولا لأنه تعالى مجازي بها ، ولكنها لتحقيق نسبة العبودية وإضافة الإمكان الله حسبي الخامس في فوائد قوله رب العالمين .
الأولى : الموجود إما واجب لذاته وهو الله سبحانه وتعالى فقط ، وإما ممكن لذاته وهو كل ما سواه ويسمى العالم كما مر ، وذلك إما متحيز أو صفة للمتحيز أو لا هذا ولا ذاك .(1/96)
" صفحة رقم 97 "
القسم الأوّل : إن كان قابلاً للقسمة فهو الجسم وإلا فالجوهر الفرد .
فالجسم إما علوي أو سفلي ، والعلوي كالسماويات ويندرج فيها العرش والكرسي وسدرة المنتهى واللوح والقلم والجنة والكواكب ، والسفلي إما بسيط وهو العناصر الأربعة : الأرض بما عليها وفيها والماء وهو البحر المحيط وما يتشعب منه في القدر المكشوف من الأرض ، والهواء ومنه كرة البخار وكرة النسيم ومنه الهواء الصافي والنار .
وإما مركب وهو المعادن والنبات والحيوان على تباين أنواعها وأصنافها .
القسم الثاني : الأعراض بأجناسها وأنواعها .
القسم الثالث : الأرواح وهي إما سفلية خيرة كالجن ، أو شريرة كالشياطين .
وإما علوية متعلقة بالأجسام كملائكة السموات قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما في السموات موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد ) أو غير متعلقة وهي الملائكة المقربون ) وما يعلم جنود ربك إلا هو ) [ المدثر : 31 ] ولأن كل موجود سوى الواجب يحتاج إلى الواجب في الوجود .
وفي البقاء أيضاً فهو إله العالمين من حيث إنه أخرجها من العدم إلى الوجود ، ورب العالمين من حيث إنه يبقيها حال استقرارها .
فكل من كان أكثر إحاطة بأحوال الموجودات وتفاصيلها كان أكثر وقوفاً على تفسير قوله ) رب العالمين ( .
الثانية : المربي قسمان : أحدهما أن يربي ليربح عليهم ، والثاني أن يربي ليربحوا عليه .
والأول شأن المخلوقين الذين غرضهم من التربية إما ثواب أو ثناء أو تعصب أو غير ذلك ، والثاني دأب الحق سبحانه وتعالى كما قال : ( خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم ) وكيف لا يربحون عليه وأنه متعال عن الاستكمال منزه عن أن يحدث في خزائنه بسبب التربية والإفادة والإفاضة اختلال يحب الملحين في الدعاء ) ويزيد في الخلق ما يشاء ) [ فاطر : 1 ] يكفي علمه من المقال ويغني كرمه عن السؤال ) وسع كل شيء علماً ) [ طه : 98 ] ويربي كل حي كرماً وحلماً ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) [ المؤمنون : 12 ، 13 ، 14 ] ( فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأباً متاعاً لكم ولأنعامكم ) [ عبس : 24 - 32 ] ( ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وجعلنا سراجاً وهاجاً وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً لنخرج به حباً ونباتاً وجناتٍ ألفافاً ) [ النبأ : 6 - 16 ] .
الثالثة : لما كان الله أحسن الأسماء عقبه بأكمل الصفات وهو ) رب العالمين ( إذ(1/97)
" صفحة رقم 98 "
معناه أن وجود ما سواه فائض عن تربيته ، وإحسانه وجوده وامتنانه ، فالأول يدل على التمام والثاني على أنه فوق التمام .
الرابعة : رب العالمين ثم إنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وهو الله الواحد الأحد الصمد ، وأنت تخدمه كأنّ لك أرباباً غيره فما إنصافك أيها الإنسان ؟ ) قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن ) [ الأنبياء : 42 ] خلقت لعبادة الرب فلا تهدم حقيقتك بمعصية الرب ? الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب .
السادس : في فوائد قوله ) الرحمن الرحيم ( الأولى : الرحمن بما لا يتصور صدوره من العباد ، والرحيم بما يقدر عليه العباد ، أنا الرحمن لأنك تسلم إليّ نطفة مذرة فأسلمها إليك صورة حسنة ، أنا الرحيم لأنك تسلم إليّ طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة .
الثانية : ذهب بعضهم إلى ملك فقال : جئتك لمهم يسير .
فقال : أطلب المهم اليسير من الرجل اليسير .
فكأن الله تعالى يقول : لو اقتصرت على الرحمن لاحتشمت مني ولتعذر عليك سؤالي الأمور اليسيرة ، فأنا الرحمن لتطلب مني الأمور العظيمة ، وأنا الرحيم لتطلب مني شراك نعلك وملح قدرك .
الثالثة : الولد إذا أهمل حال ولده ولم يؤدبه ظن أن ذلك رحمة وهو في الحقيقة عذاب .
من لم يؤدبه الأبوان أدبه الملوان ، وعكسه حال من تقطع يده لأكلة فيها ، أو يضرب لتعليم حرفة ، أو لتأدب بخصلة شريفة .
فكل ما في العالم من محنة وبلية فهو في الحقيقة رحمة ونعمة ) وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ) [ البقرة : 216 ] وقصة موسى مع الخضر كما تجيء في موضعها تؤيد ما ذكرناه ، والحكيم المحقق هو الذي يبني الأمور على الحقائق لا على الظواهر ، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير .
الرابعة : أعطى مريم عليها السلام رحمة ) ولنجعله آية للناس ورحمة منه ) [ مريم : 21 ] فصارت سبباً لنجاتها من توبيخ الكفار والفجار ، وأعطانا رحمة ) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107 ] فكيف لا ننجو بسببه من عذاب النار .
الخامسة : وصف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالرحمة فكان من حاله أنه لما كسرت أسنانه قال : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعملون ، وأنه يوم القيامة يقول : أمتي أمتي .
فلما وصف نفسه بكونه(1/98)
" صفحة رقم 99 "
رحماناً رحيماً أيضاً فكأنه يقول : الرحمة الواحدة لا تكفي لصلاح المخلوقات فذرني وعبيدي فإني أنا الرحمن الرحيم ، رحمتي غير متناهية ومعصيتهم متناهية والمتناهي لا يدرك غير المتناهي فستغرق معصيتهم في بحار رحمتي ) ولسوف يعطيك ربك فترضى ) [ الضحى : 5 ] .
السادسة : حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال : كنت ضيفاً لبعض القوم ، فقدم المائدة فنزل غراب وسلب رغيفاً فاتبعته تعجباً ، فنزل في بعض التلال فإذا هو برجل مقيد مشدود اليدين ، فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه .
وعن ذي النون أنه قال : كنت في البيت إذ وقعت في قلبي داعية أن أخرج البيت ، فانتهيت إلى شط النيل فرأيت عقرباً قوياً يعدو ? فلما وصل إلى النيل فإذا هو بضفدع على طرف النهر ، فقفز العقرب عليه وأخذ الضفدع يسبح ، فركبت السفينة فاتبعته حتى إذا وصل الضفدع إلى الطرف الآخر نزل العقرب عن ظهره وأخذ يعدو ، فتبعته فرأيت شاباً نائماً تحت شجرة وعنده أفعى يقصده ، فلما قرب الأفعى من ذلك الشاب وصلت العقرب إلى الأفعى ولدغتها والأفعى أيضاً لدغتها وماتتا معاً .
وفي أدعية العرب : يا رازق النعاب في عشه .
وحكايته أن ولد الغراب لما يخرج من البيض يكون كأنه قطعة لحم فتهجره أمه تنفراً منه ، حتى إذا خرج ريشه عادت إليه ? فيبعث الله تعالى إليه في تلك المدة ذباباً يغتذي به .
وروي أن فتى قربت وفاته واعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا الله ، فأتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبروه ، فقام فدخل عليه وكان يعرض عليه الشهادة ولا يعمل لسانه فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : أما كان يصلي أما كان يزكي أما كان يصوم ؟ فقالوا : بلى .
فقال : فهل عق والدته ؟ قالوا : نعم .
فقال : هاتوا أمه .
فأتي بعجوز عوراء .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : هلا عفوت عنه ؟ فقالت : لا أعفو عنه لأنه لطمني ففقأ عيني .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : هاتوا بالحطب والنار فقالت : وما تصنع بالنار ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : أحرقه بالنار بين يديك جزاء بما عمل .
فقالت : عفوت عفوت أللنار حملته تسعة أشهر أللنار أرضعته سنتين فأين رحمة الأم ؟ فعند ذلك انطلق لسانه وذكر ( أشهد أن لا إله إلا الله ) والنكتة أنها كانت رحيمة فقط ولم تجوّز الإحراق ، فالرحمن الرحيم كيف يجوز إحراق عبد واظب على ذكر الحمن الرحيم سبعين سنة ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الإنس والجن والطير والبهائم والهوام فيها يتعاطفون ويتراحمون ، وأخر تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة ) ولعل هذا على سبيل التفهيم والتمثيل وإلا فكرمه بلا غاية ورحمته بلا نهاية .(1/99)
" صفحة رقم 100 "
السابع : في فوائد قوله ( مالك يوم الدين ) .
الأولى : من قضية العدالة الفرق بين المحسن والمسيء ، والمطبع والعاصي ? والموافق والمخالف ، ولا يظهر ذلك إلا في يوم الجزاء ) إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ) [ طه : 15 ] ( يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) [ الزلزلة : 6 - 8 ] روي أنه يجاء برجل يوم القيامة وينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة ألبتة ، فأتيه النداء يا فلان ادخل الجنة بعملك .
فيقول : إلهي ماذا عملت ؟ فيقول الله : ألست لما كنت نائماً تقلب من جني إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك ( الله ) ، ثم غلبك النوم ف يالحال فنسيت ؟ أما أنا فلا تأخذني سنة ولا نوم ، فما نسيت ذلك .
ويجاء برجل وتوزن حسناته بسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة ( أن لا غله إلا الله ) فلا يثقل مع ذكر الله غيره .
واعلم أن حقوق الله تعالى على المسامحة لأنه غني عن العالمين ، وأما حقوق العباد فهي أولى بالاحتراز عنها .
روي عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أتدرون ما المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال : إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار ) الثانية : من قرأ ( مالك ) احتج بوجوه : الأول أن فيه حرفاً زائداً فيكون ثوابه أكثر .
الثاني : في القيامة ملوك ولا مالك إلا الله .
الثالث : المالكية سبب لإطلاق التصرف والملكية ليست كذلك .
الرابع : العبد أدون حالاً من الرعية فيكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية .
الخامس : الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك بالاختيار بخلاف المملوك .
السادس : الملك يجب عليه رعاية حال الرعية ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) ولا يجب على الرعية خدمة الملك ، أما المملوك فيجب عليه خدمة مالكه وأن لا يستقل في الأمر إلا بإذنه حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة ، ويصير مسافراً(1/100)
" صفحة رقم 101 "
إذا نوى مولاه السفر ، ومقيماً إذا نوى الإقامة .
حجة من قرأ ( ملك ) أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكاً ، والملك لا يكون إلا أعلاهم شأناً .
وأيضاً ) قل أعوذ برب الناس ملك الناس ) [ الناس : 1 ، 2 ] لم يقرأ فيه غير ( ملك ) فتعين .
وأيضاً الملك أقصر ومالك يلزم منه تطويل الأمل فإنه يمكن أن يدركه الموت قبل تمام التلفظ به .
وأجيب بأن العزم يقوم مقام الفعل لو مات قبل الإتمام ، كما لو نوى بعد غروب الشمس صوم يوم يجب صومه بخلاف ما لو نوى في النهار عن الغد .
ثم يتفرع على كل من القراءتين أحكام ، أما المتفرعة على الأول فقراءة ( مالك ) أرجى من قراءة ( ملك ) لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأساً برأس ، والمالك يطلب العبد منه الكسوة والطعام والتربية والإنعام ( يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم .
يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ( والملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه ، والملك لا يختار من العسكر إلا كل قوي سويّ ويترك من كان مريضاً عاجزاً ، والمالك إن مرض عبده عالجه ، وإن ضعف أعانه .
الملك له هيبة وسياسة ، والمالك له رأفة ورحمة واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة .
وأما المتفرعة على الثانية فإنه في الدنيا ملك الملوك ) قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ) [ آل عمران : 26 ] وفي الآخرة لا ملك إلا هو ) لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) [ غافر : 16 ] وملكه لا يشبه ملك المخلوقين لأنهم إذ بذلوا قلَّت خزائنهم ونفدت ذخائرهم ، وأنه سبحانه كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكاً .
فإن أعطاك عشرة أولاد زاد في ملكه عشرة أعبد .
ومن لوازم ملكه كمال الرحمة فلهذا قرن بقوله ) ملك يوم الدين ( قوله ) رب العالمين الرحمن الرحيم ( ومثله ) الملك يومئذ الحق للرحمن ) [ الفرقان : 26 ] ( قل أعوذ برب الناس ملك الناس ) [ الناس : 1 ، 2 ] فمن اتصف بهذه الصفة من ملوك الدنيا صدق عليه أنه ظل الله في الأرض .
الكفر سبب لخراب العالم ) تكاد السموات بتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا .
أن دعوا للرحمن ولداً ) [ مريم : 90 ] والطاعة تتضمن صلاح المعاش والمعاد ) من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) [ النحل : 97 ] فعلى الناس أن يطيعوا ملوكهم ? وعلى الملوك أن يطيعوا مالك الملك حتى تنتظم أمور معاشهم ومعادهم لما وصف نفسه بأنه ) ملك يوم الدين ( أظهر للعالمين كمال عدله بنفي الظلم تارة ) وما ربك بظلام للعبيد ) [ ق : 29 ] وبثبوت العدل أخرى ) ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ) [ الأنبياء : 47 ] فلا(1/101)
" صفحة رقم 102 "
خلة للملك أعم نفعاً وأتم وقعاً من أن يكون عادلاً .
ومن هنا تظهر البركة في العالم أو ترتفع إن كان السلطان عادلاً أو جائراً .
يحكى أن أنوشروان خرج يوماً إلى الصيد وانقطع عن عسكره واستولى عليه العطش ، فرأى بستاناً فيه رمان .
فلما دخله قال لصبي فيه : أعطني رمانة ، فأعطاه فعصرها وأخرج منها ماء كثيراً ، فشربه وأعجبه ذلك ، فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه .
ثم قال لذلك الصبي : أعطني رمانة أخرى ، فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصاً .
فقال : أيها الصبي ، لم صار الرمان هكذا ؟ فقال الصبي : فلعل ملك البلد عزم علىا لظلم فلشؤم ظلمه صار هكذا ، فتاب أنوشروان في قلبه وأناب ? وقال للصبي : أعطني رمانة أخرى فعصرها فوجدها أطيب من الأولى فقال للصبي : لم بدلت هذه الحالة ؟ فقال : لعل الملك تاب عن ظلمه .
فلما وجد أنوشروان مقالة الصبي مطابقة لأحواله في قلبه تاب بالكلية ، فكان من ميامن عدله أن ورد في حقه قول نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ( ولدت في زمن الملك العادل ) .
الثالثة : كونه مالكاً وملكاً معناه أنه قادر على ترجيح جانب وجود الممكنات على عدمها ، وأنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة كما يشاء من غير مانع ولا منازع .
وعلى قضية الحكمة والعدالة فهو الملك الحق وأنه ملك يوم الدين أيضاً ، لأن القدرة على إحياء الخلق بعد إماتتهم والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس لا يختص به أحد غيره ? فإذا كان الحشر والنشور لا يتأتى إلا بعلم يتعلق بجميع المعلومات وقدرة تنفذ في كل الممكنات ، فلا مالك ليوم الدين إلا الله .
فإن قيل : لا يكون مالكاً إلا إذا كان المملوك موجوداً لكن القيامة غير موجودة فينبغي أن يقال ( مالك يوم الدين ) بالتنوين بدليل أنه لو قال : أنا قاتل زيد كان إقراراً ، ولو قال : أنا قاتل زيداً كان تهديداً .
قلنا : لما كان قيام القيامة أمراً حقاً لا يجوز الإخلال به في الحكمة ، جعل وجوده كالشيء القائم في الحال .
ولو قيل : من مات فقد قامت قيامته زال السؤال .
الرابعة : قالت القدرية : إن كان الكل من الله فثواب الرجل على ما لم يعمله عبث وعقابه على ما لم يفعله ظلم ، فيبطل كونه مالكاً ليوم الدين .
قلنا : خلق الجنة وخلق اهلاً لها ، وخلق النار وخلق أهلاً لها ، وذلك أن له صفة لطف وصفة قهر كما ينبغي لكل ملك .
فخلق لكل صفة مظهراً ولا يسأل عما يفعل ، لأن كل سؤال ينقلب فهو باطل .
الخامسة : في هذه السورة من أسماء الله تعالى خمسة : الله ، الرب ، الرحمن ؟ الرحيم ، المالك .
كنه يقول : خلقتك أولاً فأنا الله ، ثم ربيتك بأصناف النعم فأنا الرب ، ثم(1/102)
" صفحة رقم 103 "
عصيت فسترت عليك فأنا الرحمن ، ثم تبت فغفرت لك فأنا الرحيم ، ثم أجازيك بما عملت فأنا مالك يوم الدين وذكر الرحمن الرحيم مرة في التسمية ومرة أخرى في السورة دليل على أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأوصاف ، ومع ذلك عقبها بقوله ( مالك يوم الدين ) كيلا يغتروا بها .
ونظيره ) غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ) [ غافر : 3 ] .
السادسة الحمد والمدح والتعظيم فيما بين الناس إنما يكون لكونه كاملاً في ذاته وإن لم يكن له إحسان إليك ، وإما لكونه محسناً إليك ، وإما رجاء وطمعاً في المستقبل ، وإما خوفاً ورهبة ، فكأنه سبحانه يقول : إن كنتم تعظمون للكمال الذاتي فاحمدوني فإني أنا الله ? وإن كنتم تعظمون للإحسان السالف فأنا رب العالمين ، وإن كنتم تعظمون للإحسان المترقب فأنا الرحمن الرحيم ، وإن كنتم تعظمون رهبة عن العقاب فأنا مالك يوم الدين .
الثامن : في فوائد قوله ( إياك نعبد ) .
الأولى : لا شك أن تقديم المفعول مفيد للاختصاص أي لا نعبد أحداً سواك والحاكم فيه الذوق السليم .
واستحقاق هذا الاختصاص لله تعالى ظاهر ، لأن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم فلا تليق إلا لمن صدر منه غاية الإنعام وهوا لله تعالى .
وذلك أن للعبد أحوالاً ثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل .
أما الماضي فقد كان معدوماً فأوجده ) وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً ) [ مريم : 9 ] ( أو من كان ميتاً فأحييناه ) [ الأنعام : 122 ] ( وكنتم أمواتاً فأحياكم ) [ البقرة : 28 ] وكان جاهلاً فعلمه ) أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً ) [ النحل : 78 ] ثم أسمعه وأبصره وأعقله ) وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) [ الملك : 23 ] فهو إله بهذه المعاني .
وأما الحاضر فحاجاته كثيرة ، ووجوه افتقاره غير محصورة من أول عمره إلى آخره مع انفتاح أبواب المعصية وانخلاع ربقة الطاعة ، فهو رب رحمن رحيم من هذه الوجوه .
وأما المستقبل فأموره المتعلقة بما بعد الموت وأنه مالك يوم الدين بهذه الحيثية ، فلا مفزع للعبد في شيء من أحواله إلا إليه ، فلا يستحق عبادة العبد إلا هو .
وأيضاً ثبت بالدلائل القاطعة وجوب كونه تعالى عالماً قادراً جواداً غنياً حكيماً إلى غير ذلك من الصفات الكمالية ، وأما كون غيره من الفلكيات والطبائع والنفوس كذلك فمشكوك فيه وإن كنا نجزم بأنه لا تأثير لها فوجب طرح المشكوك والأخذ باليقين ، فلا معبود بالحق إلا الله سبحانه ، وأيضاً العبودية ذلة ومهانة ، فكلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية أهنأ وأمرأ .
ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها وأولاها بالصفات العلى ؟ فعبوديته أولى ، وأيضاً كل ما سوى الواجب الغني ممكن فقير ، والفقير مشغول بحاجة نفسه(1/103)
" صفحة رقم 104 "
فلا يمكنه إفادة غيره .
فدافع الحاجات هو الله فلا يستحق العبادة إلا هو ) وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [ الإسراء : 23 ] .
الثانية : تقديم ذكر الله تعالى يورث الخشية والمهابة حتى لا يلتفت في العبادة يميناً وشمالاً ولا يعرفه ، فصرع الأستاذ مراراً فقيل له : فلان الأستاذ فانصرع في الحال وما ذاك إلا لاحتشامه بعد عرفانه .
وأيضاً ذكره تعالى أوّلاً مما يورث العبد قوة يسهل بها عليه ثقل العبودية فوجب تقديمه ، كما أن من أراد حمل ثقيل يقدم عليه دواء أو غذاء بعينه على ذلك ، كما أن العاشق يسهل عليه جميع الآلام عند حضور معشوقه .
وأيضاً ) إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) [ الأعراف : 201 ] فالنفس إذا مسها طائف الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة طلع لها جلال الله من مشرق ( إياك نعبد ) فتصير مبصرة مستعدة لأداء حق العبودية .
وأيضاً إن بدأ بالعبادة فض إبليس قلبه أن المعبود من هو فيلقي في نفسه وساوس ، أما إذا غير هذا الترتيب وقال : ( إياك نعبد ) كان بعيداً عن احتمال الشرك .
وأيضاً الواجب لذاته متقدم في الوجود فيناسب أن يكون مقدماً في الذكر .
وأيضاً المحققون نظرهم على المعبود لا على العبادة ، وعلى المنعم لا على النعمة ، ولهذا قيل لبني إسرائيل ) اذكروا نعمتي ) [ البقرة : 40 ] ولأمة محمد ) اذكروني ) [ البقرة : 152 ] فذكر المعبود عندهم أولى من ذكر العبادة .
الثالثة : النون في قوله ( نعبد ) فيه وجوه من الحكمة منها : أنه تشريف من الله تعالى للعبد حيث لقنه لفظاً ينبئ عن التعظيم والتكريم كقوله حكاية عن نفسه ) نحن نقص عليك أحسن القصص ) [ يوسف : 2 ] كأنه قال : لما أظهرت عبوديتي ولم تستنكف أن تكون عبداً ليّ جعلناك أمة ) إن إبراهيم كان أمة ) [ النحل : 120 ] ومنها أنه لو قال : إياك أعبد كان إخباراً عن كونه عبداً فقط ، ولما قال : ( إياك نعبد ) صار معناه إني واحد من عبيدك ، ولا ريب أن الثاني أدخل في الأدب والتواضع .
ومنها أن يكون تنبيهاً على أن الصلاة بالجماعة أولى قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها ) وههنا نكتة وهي أن الإنسان إذا أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة كيلا يتأذى منه جاره ، وإذا كان ثواب الجماعة لا يفي بهذا القدر من الإيذاء فكيف يفي بما هو أكثر من ذلك إيذاء للمسلمين من الغيبة والتهمة والنميمة والسعاية وسائر أنواع الظلم ؟ ومنها أن يكون المراد أعبدك والملائكة معي والحاضرون بل جميع عبادك الصالحين .
ومنها أن المؤمنين إخوة فكأن الله تعالى قال : لما أثنيت عليّ بقولك ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين )(1/104)
" صفحة رقم 105 "
ارتفعت منزلتك عندنا ، فلا تقتصر على إصلاح حالك بل عليك بالسعي في إصلاح حال جميع إخوانك فقل : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) .
ومنها أن العبد يقول : إلهي عبادتي مخلوطة بالتقصير وإني أخلطها بعبادة جميع العابدين ، فلا يليق بكرمك أن تميز بين العبادات ، ولا أن ترد الكل وفيها عبادة الأنبياء والأولياء بل الملائكة المقربين .
وهذا كما أن الرجل إذا باع من غيره عشرة أعبد ، فالمشتري إما أن يقبل الكل أو يرد الكل وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة .
الرابعة : من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها وثقل عليه الاشتغال بغيرها لأن الكمال محبوب لذاته وأكمل أحوال الإنسان اشتغاله بخدمة مولاه ، فإنه يستنير قلبه بنوره ويشرق عليه من جماله ولهذا قد ورد ( من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ) وأيضاً التكاليف أمانة ) إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ) [ الأحزاب : 72 ] وأداء الأمانة واجب عقلاً وشرعاً ) إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) [ النساء : 58 ] الأمانات من أحد الجانبين سبب لأدائها من الجانب الآخر .
قال بعض الصحابة : أتى أعرابي باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينةن والوقار ودعا بما شاء فتعجبنا ، فلما خرج لم يجد الناقة فقال : إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي ؟ قال الرواي : فزدنا تعجباً ، فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) لابن عباس : ( يا غلام احفظ الله في الخلوات يحفظك في الفلوات ) وأيضاً الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى دار السرور ? وركون من الخلق إلى حضرة الحق ، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة .
( يحكى ) عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف وتفرق الناس وهو في الصلاة فلم يشعر به .
ووقعت الأكلة في بعض أعضاء عبد الله بن الزبير واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو فقطع وهو في الصلاة ولم يشعر به .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره أزيزاً كأزيز المرجل .
ومن استبعد فليقرأ قوله تعالى ) فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن ) [ يوسف : 31 ] فإذا كان لجمال البشر مثل هذا التأثير فكيف جلال الله وعظمته إذا تجلى على قلب الموحد العابد ؟ وقد تحدث الحيرة والدهش عن رؤية بعض السلاطين فكيف إذا كان الوقوف بين يدي رب العالمين ؟ واعلم أن العبادة لها ثلاث درجات ، لأنه إما أن يعبد الله رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه ، ويختص باسم الزاهد حيث يعرض عن متاع الدنيا وطيباتها طمعاً فيما هو أشرف منها وأدوم ، وهذه مرتية نازلة عند المحققين .
وإما أن يعبد الله تشرفاً بعبادته أو بقبول تكاليفه أو بالانتساب إليه ، وهذه مرتبة متوسطة وتسمى بالعبودية .
وإما أن(1/105)
" صفحة رقم 106 "
يعبد الله لكونه إلهاً ولكونه عبداً له ، والإلهية توجب العزة والهيبة ، والعبودية تقتضي الخضوع والذلة ، وهذه أعلى الدرجات وتسمى بالعبودية وإليها الإشارة بقول المصلي : أصلي لله فإنه لو قال : أصلي لثواب الله أو هرباً من عقابه فسدت صلاته .
( يحكى ) أن عابداً في بني إسرائيل اعتزل وعبد الله تعالى سبعين سنة ، فأرسل الله تعالى إليه ملكاً فقال : إن عبادتك غير مقبولة فلا تشق على نفسك ولا تجاهد ، فأجاب العابد بأن الذي عليّ هو العبودية وإني لا أزال أفعل ما عليّ ، فأما القبول وعدم القبول فموكول إلى المعبود .
فرجع الملك فقال الله : بم أجاب العابد ؟ فقال : أنت أعلم يا رب ، إنه قال كذا وكذا .
فقال الله تعالى : ارجع إليه وقل له : قبلنا طاعتك بسبب ثبات نيتك .
والتحقيق أن إثبات نسبة الإمكان هو قصارى مجهود العابدين ونهاية مطامح أبصار العارفين .
وفي العبادة انشراح صدور المؤمنين وإنها عاقبة حال المتقين .
قال عز من قائل ) ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون .
فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين .
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [ الحجر : 97 - 99 ] ولأن العبودية أشرف المقامات .
مدح الله تعالى نبيه في قوله ) سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً ) [ الإسراء : 1 ] وافتخر عيسى بذلك أول ما نطق فقال : ( إني عبد الله ) [ مريم : 30 ] وكان عليّ يقول : كفاني فخراً أن أكون لك عبداً وكفاني شرفاً أن تكون لي رباً .
اللهم إني وجدتك إلهاً كما أردت ، فاجعلني عبداً كما أردت .
ومنهم من قال : العبودية أشرف من الرسالة ، فبالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق ، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق ، وبالعبودية ينعزل عن التصرفات ، وبالرسالة يقبل على التصرفات ، ولهذا نال شرف التقدم في قول الموحد ( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ) ) لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملائكة المقربون ) [ النساء : 172 ] .
التاسع : في فوائد قوله ( وإياك نستعين ) الأولى : لا شك أن للعبد قدرة بها يتمكن من الفعل والترك ، وإنما يحصل الرجحان بمرجح .
ولو كان ذلك المرجح من عند العبد عاد التقسيم ، فلا بد أن ينتهي إلى الله تعالى .
وأيضاً كل الخلائق يطلبون طريق الحق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب ، ولا يفوز به إلا بعضهم ، فليس ذلك إلا بإعانة الحق .
وأيضاً قد يطلب الإنسان حاجة من غيره ويدافعه مدة مديدة ثم يقضي حاجته ، فإلقاء تلك الداعية في القلب ليس إلا من الله ، فثبت أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله .
وتظهر فائدة الاستعانة في أنه ربما جعل الله تعالى ذلك واسطة إلى نيل المطلوب كالشبع الحاصل عقيب أكل الطعام ونحوه ، فيسقط اعتراض الجبري والقدري فافهم .(1/106)
" صفحة رقم 107 "
الثانية : لقائل أن يقول : الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع فيه لا بعده ? فهلا قدّمت الاستعانة على ذكر العبادة ؟ والجواب كأنه يقول : شرعت في العبادة فأستعين بك على إتمامها حتى لا يمنعني مانع ولا يعارضني صارف ، فإن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن .
وأيضاً إن قيل : الاستعانة مطلقة تتناول كل مستعان فيه فذكر العبادة كالوسيلة إلى طلب الإعانة على الحوائج وتقديم الوسيلة مناسب .
الثالثة : لا أريد بالإعانة غيرك إقتداء بالخليل ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قيد نمروذ يديه ورجليه ورماه إلى النار فجاءه جبرائيل وقال : هل لك حاجة ؟ فقال له : أما إليك فلا .
قال : فاسأل الله .
قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي .
وهنا نكتة وهي أن المؤمن في الصلاة مقيدة رجلاه عن المشي ، ويداه عن البطش ، ولسانه إلا عن القراءة والذكر ، فكما أن الله قال ) يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ) [ الأنبياء : 69 ] فكذلك تقول له نار جهنم : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي .
الرابعة : لا أستعين غيرك لأن الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته ، فأنا أقطع الواسطة ولا أنظر إلا إلى إعانتك .
الخامسة : ( إياك نعبد ) تورث العجب بالعبادة فأردفه بقوله ( وإياك نستعين ) لإزالة ذلك .
السادسة : ههنا مقامان : معرفة الربوبية ومعرفة العبودية ، وعند اجتماعهما يحصل الربط المذكور في قوله ) أوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [ البقرة : 40 ] أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) فانتقال العبد من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلهاً ، وحصول الفوائد للعبد حال وجوده يدل على كونه رباً رحماناً رحيماً ، وأحوال معادة تدل على أنه مالك يوم الدين ، وأما معرفة العبودية فمبدؤها ( إياك نعبد ) وكمالها ( إياك نستعين ) في جميع المطالب ، وإذا تم الوفاء بالعهدين ترتبت عليه الثمرة وهو قوله : ( اهدنا ) إلى آخره .
وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه .
السابعة : في الالتفات الوارد في السورة وجوه : منها أن المصلي كان أجنبياً عند الشروع في الصلاة ، فلا جرم أثنى على الله بالألفاظ الغائبة إلى قوله : ( مالك يوم الدين ) .
ثم الله تعالى كأنه يقول : حمدتني وأقررت بأني إله ، رب العالمين ، رحمن رحيم ، مالك يوم الدين ، فنعم العبد أنت يا عبد .
رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل ( إياك نعبد ) .
ومنها أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام من كونه(1/107)
" صفحة رقم 108 "
رباً لا يخرج شيء من ملكوته منعماً على الخلق بأنواع النعم - جلائلها ودقائقها - مالكاً للأمر كله في العاقبة ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بغاية الخضوع والاستعانة في المهام ? فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل ( إياك ) يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة ، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به .
ومنها أن الدعاء بالحضور أولى كما أن الثناء في الغيبة أوقع وأحرى ، وهكذا فعل الأنبياء عليهم السلام ) ربنا ظلمنا أنفسنا ) [ الأعراف : 23 ] ( رب هب لي حكماً ) [ الشعراء : 83 ] ( رب زدني علماً ) [ طه : 114 ] ( ربي أرني ) [ الأعراف : 143 ] ( رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين ) [ الأنبياء : 89 ] ومنها أنه إذا شرع في الصلاة نوى القربة فأثنى على الله بما هو أهله ، فاستجاب الله دعاءه في تحصيل تلك القربة ونقله إلى مقام الحضور من مقام الغيبة .
الثامنة : اعلم أن المشركين طوائف ، منهم من اتخذ إلهه من الأجسام المعدنية كالحجر والذهب والفضة والنحاس ، ومنهم من اتخذه من النبات كالشجر المعين ، ومنهم من اتخذه من الإنسان كعبدة المسيح وعزير ، ومنهم من اتخذه من الأجسام البسيطة ، إما السفلية كعبدة النار وهم المجوس ، أو العلوية كعبدة الشمس والقمر وسائر الكواكب .
ومنهم من قال : مدبر العالم نور وظلمة وهم الثنوية ، ومنهم من قال : الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح من الأرواح الفلكية يدبره وكذا لكل نوع من أنواع هذا العالم ، فيتخذون لتلك الأرواح صوراً وتماثيل ويعبدونها وهم عبدة الملائكة .
ومنهم من قال : للعالم إلهان ، أحدهما خير وهو الله ، والآخر شرير وهو إبليس .
إذا عرفت ذلك فنقول : قد مر أن ( الحمد لله ) يتضمن التسبيح له وسائر الصفات منبئة عن سبب إثبات جميع أنواع ( الحمد لله ) ( وإياك نعبد ) يدل على التوحيد المحض والبراءة من كل ما يعبد من دون الله ، وأن الله أكبر من جميع المعبودين ، فيقوم مقام قوله ( لا إله إلا الله والله أكبر ) ( وإياك نستعين ) يدل على قوله ( لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) فثبت أن سورة الفاتحة مشتملة إلى هنا على الذكر المشهور ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) .
العاشر في فوائد قوله ( اهدنا الصراط المستقيم ) .
الأولى : سئل أن طلب الهداية من المؤمن وهو مهدي تحصيل للحاصل .
وأجيب بأن المراد منه صراط الأولين في تحمل ما يشق ، وكان تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى .
يحكى أن نوحاً عليه السلام كان يضرب في كل يوم مرات بحيث يغشى عليه وكان(1/108)
" صفحة رقم 109 "
يقول : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون .
أيضاً إن في كل خلق من الأخلاق طرفي إفراط وتفريط هما مذمومان ، والحق هو الوسط والصواب .
فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مهتدياً ، لكنه لا بد مع ذلك من حصول الملكات والأخلاق الفاضلة التي هي وسط بين الطرفين ومستقيم بين المنحرفين .
ففي القوة الشهوية طرف الإفراط فجور وطرف التفريط خمود وهما مذمومان ، والوسط وهو استعمالها في مواضعها على قضية العدالة والشريعة محمود وهو العفة ، وكذا في القوة الغضبية طرفا التهور والجبن مذمومان والوسط وهو اشجاعة محمود ، وفي القوة النفسانية الجربزة والبله مذمومان والوسط وهو الحكمة محمود .
وبالجملة فإنه يحصل من توسيط استعمال القوة الشهوية الحياء والرفق والصبر والقناعة والورع والحرية والسخاء ، ومن توابع السخاء الكرم والإيثاء والعفو والمروءة والمسامحة ، ويلزم من توسط استعمال القوة الغضبية كبر النفس وعلو الهمة والثبات والحلم والسكون والتحمل والتواضع والحمية والرقة ، ومن توسط استعمال القوة النطقية الذكاء وسرعة الفهم وصفاء الذهن وسهولة التعلم وحسن التعقل والتحفظ والتذكر ، ويحصل من كمال التوسط في القوى الثلاث كمال العدالة ويتبعها الصداقة والألفة والوفاء والشفقة وصلة الرحم والمكافأة وحسن الشركة والتسليم والتوكل وتعظيم المعبود الحق وملائكته وأنبيائه وأولي الأمر والانقياد لأوامرهم ونواهيهم .
والتقوى تكمل هذه المعاني وتتممها ، ولأن القوة النطقية ذاتية للإنسان ، والشهوية والغضبية حصلتا له بواسطة التعلقِ البدني ، فكمال التوسط في الطقية أن يستعملها بحيث لا يمكن أزيد منها .
وكمال التوسط في الأخريين أن يستعملهما بحيث لا يمكن أقل من ذلك ليفضي غلى تحصيل سعادة الدارين .
وأيضاً العلم النظري يقبل الزيادة بمعنى تواصل أوقاته وقلة الفترات ، وبمعنى زيادة الأدلة فليس من علم بدليل كمن علم بأدلة ، فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلالة على وجود الله وعلمه وقدرته ، وجوده ورحمته وحكمته .
وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلاً عن سائر الدلائل فكأنه يقول : عرفنا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وعلمك وقدرتك .
وأيضاً قد يراد بالصراط المستقيم الاقتداء بالأنبياء ، وهو أن يكون الإنسان معرضاً عما سوى الله مقبلاً بكلية قلبه وفكره وذكره على الله ، حتى لو أمر بذبح ولده كيونس ، ولو أمر بتلمذة من هو أعلم منه بعد بلوغه أعلى منصب ائتمر كموسى مع الخضر .
وعن خباب قال : شكونا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه ويجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون(1/109)
" صفحة رقم 110 "
لحمه وعظمه ما يصدّه ذلك عن دينه .
وأيضاً كأن العبد يقول : الأحباب يدعونني إلى طريق ، والأعداء إلى طريق ثانٍ ، والشيطان إلى ثالث .
وكذا القول في الشهوة والغضب والاعتقادات والآراء ، والعقل ضعيف ، والعمر قصير ، والقضاء عسير ، فاهدني هذا الطريق السوي الذي لا أزيغ به .
حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله ، فإذا أعرابي على ناقة له .
فقال : يا شيخ إلى أين ؟ فقال : إلى بيت الله .
قال : كأنك مجنون ، لا أرى لك مركباً ولا زاداً والسفر طويل فقال إبراهيم : إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها .
قال : وما هي ؟ قال : إذا نزلت عليّ بلية ركبت مركب الصبر ، وإذا أسديت إليّ نعمة ركبت مركب الشكر ، وإذا ألم بي القضاء ركبت مركب الرضا ، وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى .
فقال الأعرابي : سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل .
وقيل : الصراط القرآن أو الإسلام وليس بشيء ، إذ يصير المعنى اهدنا صراط المتقدمين ، مع أنه لم يكن لهم قرآن ولا إسلام ، اللهم إلا أن يراد أصول هذه الشريعة وقوانينها كما قال ) فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] .
وعن علي كرم الله وجهه : ثبتنا على الهداية كقوله ) ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ) [ آل عمران : 8 ] فكم من عالم يزل ومهتد يضل .
وفي اختيار لفظ الصراط دون الطريق أو السبيل ، تذكير للصراط الذي هو الجسر الممدود بين طرفي جهنم ، سهل الله تعالى علينا عبوره ووروده .
الثانية : إنما قبل ( اهدنا ) بلفظ الجمع لن الدعاء متى كان أعم كان إلى الإجابة أقرب ? ولهذا قال بعض العلماء لتلميذه : إذا قلت قبل القراءة ( رضي الله عنك ، وعن جماعة المسلمين ) فإياك وأن تنساني في قولك ( وعن جماعة المسلمين ) فإن ذلك أوقع عندي من قولك ( رضي الله عنك ) ، لأن هذا تخصيص بالدعاء ويجوز أن لا يقبل ، وأما قولك ( وعن المسلمين ) فإنه أرجى لأنه لا بد أن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة ، وإذا أجاب الله دعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي .
ومن هنا ورد في السنة أن يصلي على النبي صلى الله علبه وسلم قبل كل دعاء وبعده ، لأن الدعاء في الطرفين مستجاب ألبتة لأنه في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيستجاب الوسط بتبعية ذلك لا محالة .
وأيضاً قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها ) .
قالوا : يا رسول الله ، ومن لنا بتلك الألسنة ؟ قال : ( يدعو بعضكم لبعض لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك ) وأيضاً ( الحمد لله ) شامل لحمد جميع الحامدين ، و ( إياك نعبد ) لعبادة الجميع ، ( وإياك نستعين ) لاستعانة الكل ، فلا جرم لما طلب الهداية طلبها للكل كما طلب الاقتداء بالصالحين جميعاً في قوله : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) والفرار من الطالحين جميعاً في قوله : ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) .
وإذاكان كذلك في الدنيا(1/110)
" صفحة رقم 111 "
يرجى أن يكون كذلك في الآخرة ) ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً ) [ النساء : 69 ] .
الثالثة : الخط المستقيم أقرب خط يصل بين النقطتين ? والعبد عاجز فلا يليق بضعفه إلا الطريق المستقيم .
وأيضاً المستقيم واحد وما سواه معوجة يشبه بعضها بعضاً في الاعوجاج ، فكان أبعد من الخوف وأقرب إلى الخلاص .
وأيضاً ميل الطباع إلى الاستقامة أكثري فلهذه الأسباب سئل الصراط المستقيم .
الحادي عشر في فوائد قوله ( صراط الذين أنعمت عليهم ) الأولى : حد النعمة بأنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، لأنه لو قصد الفاعل منفعة نفسه أولاً على جهة الإحسان لم يكن نعمة فلا يستحق الشكر .
ثم نقول : كل ما يصل إلى الخلق من نفع أو دفع ضر فهو من الله تعالى لقوله ) وما بكم من نعمة فمن الله ) [ النحل : 53 ] ولأن الواصل من جهة غير الله ينتهي إليه أيضاً لأنه الخالق لتلك النعمة ؟ وكذلك للمنعم ولداعية ذلك الإنعام فيه .
والنعم الواصلة إلينا بطاعاتنا هي أيضاً من الله تعالى لأنها بتوفيقه وإعانته بأن أتاح الأسباب وأزاح الأعذار .
وأول نعمة من الله تعالى على عبيده نعمة الحياة التي بها يمكن الانتفاع بالمنافع والاحتراز عن المضارّ قال تعالى : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ) [ البقرة : 28 ] ثم عقب ذلك بقوله ) هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ) [ البقرة : 29 ] .
الثانية : هل لله تعالى على الكافر نعمة أم لا ؟ أنكر ذلك بعض أصحابنا لوجوه منها : قوله ( صراط الذين أنعمت عليهم ) فإنه لو كان له على الكفار نعمة لزم طلب صراط الكفار لأن المبدل منه وهو الصراط المستقيم في حكم المنحى .
والجواب أن قوله ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) يدفع ذلك ، ومنها قوله ) ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ) [ آل عمران : 178 ] والجواب أنه لا يلزم من أن لا يكون الإملاء خيراً ونعمة لهم أن لا يكون أصل الحياة وسائر أسباب الانتفاع نعمة ، فإن الإملاء تأخير النقمة بعد ثبوت استحقاقها ، فما قبل هذه الحالة لا يكون كذلك .
على أن نفس الإملاء أيضاً تمتيع حالي ) قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار ) [ البقرة : 126 ] وليس هذا كمن جعل السم في الحلواء على ما ظن ، وإنما هو كمن ناول شخصاً حلواء لذيذة غير مسمومة ولكن ذلك الشخص لفساد مزاجه أو لاستعماله الحلواء لا كما ينبغي أفسد مزاج الحلواء أيضاً وصيره كالسم القاتل بالنسبة إليه ، ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( نعم(1/111)
" صفحة رقم 112 "
المال الصالح للرجل الصالح ) وكيف لا تعم نعم الله تعالى وقد قال على العموم : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون .
الذي جعل لكم الأرض قراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء ) [ البقرة : 21 ، 22 ] وقال : ( وكنتم أمواتاً فأحياكم ) [ البقرة : 28 ] كل ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم .
وقال : ( وقليل من عبادي الشكور ) [ سبأ : 13 ] ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) [ الأعراف : 17 ] والشكر لا يكون إلا بعد النعمة .
الثالثة : ما المراد بالنعمة المذكورة في قوله ( أنعمت عليهم ) ؟ قلنا : يتناول كل من كان لله عليه نعمة دينية ودنيوية .
ثم إنه يخرج بقوله ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) كل من عليه نعمة دنيوية فقط ويبقى الذين أنعم الله عليهم في الدنيا والآخرة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
وكما أن أصل النعم الدنيوية هي الحياة المستتبعة لكل المنافع ، فكذلك أصل النعم الدينية هو الإيمان المستلزم لجميع الخيرات والسعادات .
وكما أن كمال البدن بالحياة فكمال النفس بالإيمان وموتها بفقده ) إنك لا تسمع الموتى ) [ النمل : 80 ] ( وما أنت بمسمع من في القبور ) [ فاطر : 22 ] وكما أن حياة البدن من الله فكذا الإيمان منه وبتوفيقه .
وإضافة الإيمان إلى العبد إضافة الأثر غلى القابل وبذلك القبول يستأهل الثواب .
والمؤمن لا يبقى مخلداً في النار ، فإن من شرفه الله تعالى بأعظم الأنعام لن يعاقبه بأشد الآلام ، فما الإنعام إلا بالإتمام .
قيل : لو كان رعاية الأصلح على الله واجباً لم يكن ذلك إنعاماً لأن أداء الواجب لا يسمى إنعاماً .
قلت : النزاع لفظي لأن الأصلح لا بد أن يصدر عنه ، ولا يليق بحكمته وكماله خلاف ذلك ثم ما شئت فسمه .
الثاني عشر في فوائد قوله ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) الأولى : من المغضوب عليهم ومن الضالون ؟ قلت : المغضوب عليهم هم المائلون في كل خلق أو اعتقاد إلى طرف التفريط ومنهم اليهود ، والضالون هم المائلون إلى طرف الإفراط ومنهم النصارى .
وإنما خص الأولون بالغضب عليهم لأن الغضب يلزمه البعد والطرد ، والمفرّط في شيء هو المعرض عنه غير مجد بطائل فهو بعيد عن ذلك .
وأما المفرط فقد اقبل عليه وجاوز حد الاعتدال ، فغاب عن المقصود ومني بالحرمان ) كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ) [ الأنعام : 71 ] فاليهود فرطوا في شأن نبي الله ولم يطيعوه وآذوه حتى قالوا بعد أن نجاهم الله من عدوّهم ) يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) [ الأعراف : 138 ] ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) [ البقرة : 55 ] ولهذا قال عز(1/112)
" صفحة رقم 113 "
من قائل ) يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا ) [ الأحزاب : 69 ] والنصارى أفرطوا وقالوا ) المسيح ابن الله ) [ التوبة : 30 ] ( إن الله ثالث ثلاثة ) [ المائدة : 73 ] روي عن عدي بن حاتم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( غير المغضوب عليهم اليهود والضالون النصارى ) وتصديق ذلك من كتاب الله حيث قال في اليهود ) وباءوا بغضب من الله ) [ آل عمران : 112 ] وفي النصارى ) وضلوا عن سواء السبيل ) [ المائدة : 77 ] هذا شأن الفريقين .
وأما المؤمنون فطلبوا الوسط بين المنحرفين وذلك من لطف الله تعالى بهم وفضله عليهم ) وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) [ البقرة : 143 ] ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) [ آل عمران : 110 ] وخير الأمور أوسطها .
الثانية : الآية تدل على أن أحداً من الملائكة والأنبياء ما أقدم على عمل أو اعتقاد يخالف الحق وإلا لكان ضالاً لقوله تعالى ) فماذا بعد الحق إلا الضلال ) [ يونس : 32 ] يصلح للاقتداء به والاهتداء بطريقه .
الثالثة : ما الفائدة في أن عدل من أن يقول اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلى ما عدل ؟ قلت : الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) فقوله ( صراط الذين أنعمت عليهم ) يدل على الرجاء ، وباقي الآية يدل على الخوف ، فيكمل الإيمان بطرفيه وركنيه .
الثالث عشر : في تفسير السورة مجموعة وفيه مناهج : المنهج الأول نسبة عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، ونسبة الأصل إلى الفرع ، والنور إلى الظلمة ، فكل شاهد .
فله في الغائب أصل وإلا كان كسراب زائل وخيال باطل ، وكل غائب فله في الشاهد مثال وإلا كان كشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل ، وكل شريف فهو بالنسبة غلى ما دونه مطاع كما قال عز من قائل ) ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ) [ التكوير : 20 ، 21 ] والمطاع في عالم الروحانيات مطاع في عالم الجسمانيات ? والمطاع في عالم الأرواح هو المصدر ، والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر .
ولا بد من أن يكون بينهما ملاقاة ومجانسة وبهما تتم سعادة الدارين لأنهما يدعوان إلى الله بالرسالة .
وحاصل الدعوة أمور سبعة تشتمل عليها خواتيم سورة البقرة ، أربعة منها تتعلق بالمبدأ وهي معرفة الربوبية أعني معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله ) آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله ) [ البقرة :(1/113)
" صفحة رقم 114 "
85 ] واثنان منها تتعلق بالوسط أحدهما مبدأ العبودية ) وقالوا سمعنا وأطعنا ) [ البقرة : 285 ] والثاني كمال العبودية وهو الالتجاء إلى الله وطلب المغفرة منه ) غفرانك ربنا ) [ البقرة : 285 ] وواحد يتعلق بالمعاد وهو الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب ) وإليك المصير ) [ البقرة : 285 ] ويتفرع على هذه المراتب سبع مراتب في الدعاء والتضرع أولها ) ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) [ البقرة : 286 ] فضد النسيان هو الذكر ) واذكر ربك إذا نسيت ) [ الكهف : 24 ] وهذا الذكر إنما يحصل بقوله ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .
وثانيها ) ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ) [ البقرة : 286 ] ودفع الإصر والثقل يوجب ( الحمد لله رب العالمين ) .
وثالثها : ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) [ البقرة : 286 ] .
ذلك إشارة إلى كمال رحمته ( الرحمن الرحيم ) ورابعها ) واعف عنا ) [ البقرة : 286 ] لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين ( مالك يوم الدين ) .
وخامسها ) واغفر لنا ) [ البقرة : 286 ] لأنا التجأنا بكليتنا إليك وتوكلنا في جميع الأمور عليك ( إياك نعبد وإياك نستعين ) .
وسادسها ) وارحمنا ) [ البقرة : 286 ] لأنا طلبنا الهداية منك ( اهدنا الصراط المستقيم ) وسابعها ) أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) [ البقرة : 286 ] ( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) .
فهذه المراتب ذكرها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج ، فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة ، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر غلى المصدر كما نزلت في عهد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من المصدر إلى المظهر ، فلهذا السبب قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الصلاة معراج المؤمن ) المنهج الثاني : المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة : الشهوة والغضب والهوى .
الشهوة بهيمية ، والغضب سبعية ، والهوى شيطانية أرضية ، ولهذا قال : فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منها ، والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه .
قال تعالى ) وينهي عن الفحشاء ) [ النحل : 9 ] أي الشهوة ، والمنكر الغضب ، والبغي الهوى ? فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه ، وبالغضب ظالماً لغيره ، وبالهوى لربه ، ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه ، فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله ، والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً ، والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه ) ونتيجة الشهوة الحرص والبخل ، ونتيجة الغضب العجب والكبر ، ونتيجة الهوى الكفر والبدعة .
ويحصل من اجتماع هذه الست في بني آدم خصلة سابعة هي الحسد وهو نهاية الأخلاق الذميمة ، كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة ، ولهذا السبب ختم الله تعالى مجامع الشرور الإنسانية بالحسد في قوله تعالى :(1/114)
" صفحة رقم 115 "
) ومن شر حاسد إذا حسد ) [ الفلق : 5 ] كما ختم جوامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة في قوله ) يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ) [ الناس : 5 ، 6 ] روي أن إبليس أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون : من هذا ؟ قال : إبليس ولو كنت إلهاً ما جهلت .
فلما دخل قال فرعون : أتعرف في الأرض شراً مني ومنك ؟ قال : نعم ، الحاسد ، وبالحسد وقعت فيما وقعت .
ثم نقول : الأسماء الثلاثة في التسمية دافعة للأخلاق الثلاثة الأصلية ، والآيات السبع التي هي الفاتحة دافعة للأخلاق السبعة ، بيان ذلك من عرف الله تباعد عنه شيطان الهوى ) أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) [ الجاثية : 23 ] يا موسى خالف هواك فإني ما خلقت خلقاً نازعني في ملكي إلا هواك .
ومن عرف أنه رحمن لم يغضب لأن منشأ الغضب طلب الولاية والولاية للرحمن ) الملك يومئذ الحق للرحمن ) [ الفرقان : 26 ] ومن عرف أنه رحيم صحح نسبته إليه فلا يظلم نفسه ولا يلطخها بالأفعال البهيمية .
وأما الفاتحة فإذا قال ( الحمد لله ) فقد شكر الله واكتفى بالحاصل فزالت شهوته ، ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد وبخله فيما وجد ، ومن عرف أنه ( مالك يوم الدين ) بعد أن عرف إنه ( الرحمن الرحيم ) زال غضبه ، ومن قال : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) زال كبره بالأول وعجبه بالثاني ، وإذا قال ( اهدنا الصراط المستقيم ) اندفع عنه شيطان الهوى ، وإذا قال ( صراط الذين أنعمت عليهم ) زال عنه كفره ، وإذا قال ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) اندفعت بدعته ، وإذا زالت عنه الأخلاق الستة اندفع عنه الحسد ، ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة ، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة .
وهنا نكتة دقيقة تتعلق بالرب والإله وبسببها ختم القرآن عليها ، كأنه قال : إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل أعوذ برب الناس ، وإن أتاك من قبل الغضب فقل ملك الناس ، وإن أتاك من قبل الهوى فقل إله الناس .
المنهج الثالث : في أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يفتقر إليه الإنسان في معرفة المبدأ والوسط والمعاد ( الحمد لله ) إشارة إلى إثبات الصانع المختار العليم الحكيم المستحق للحمد والثناء والتعظيم .
( رب العالمين ) يدل على أن ذلك الإله واحد وأن كل العالمين ملكه وملكه وليس في العالم إله سواه ، ولهذا جاء في القرآن الاستدلال بخلق الخلائق كثيراً ) قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت ) [ البقرة : 285 ] ( الذي خلقني فهو يهدين ) [ الشعراء : 78 ] ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) [ طه : 50 ] ( ربكم ورب آبائكم الأولين ) [ الشعراء : 26 ] ( اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) [ البقرة : 21 ] ( اقرأ باسم ربك الذي خلق .
خلق الإنسان من علق ) [ العلق : 1 ، 2 ] وهذه الحالة كما أنها(1/115)
" صفحة رقم 116 "
في نفسها دليل على وجود الرب فكذلك هي في نفسها إنعام عظيم ، وذلك أن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع ، وكل منها مطابق للمطلوب وموافق للغرض كما يشهد به علم تشريح الأبدان .
فلا أحق بالحمد والثناء من هذا المنعم المنان الكريم الرحمن الرحيم الذي شمل إحسانه قبل الموت وعند الموت وبعد الموت .
( مالك يوم الدين ) يدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يقدر بعد هذا اليوم يوماً آخر يظهر فيه تمييز المحسن من المسيء والمظلوم من الظالم ، وههنا تمت معرفة الربوبية .
ثم إن قوله ( إياك نعبد ) إشارة إلى الأمور التي لا بد من معرفتها في تقرير العبودية وهي نوعان : الأعمال والآثار المتفرعة على الأعمال أما الأعمال فلها ركنان : أحجهما الإتيان بالعبادة وهو قوله ( إياك نعبد ) والثاني علمه بأنه لا يمكنه ذلك إلا بإعانة الله وهو قوله ( وإياك نستعين ) .
وأما الآثار المتفرعة على الأعمال فهي حصول الهداية والتحلي بالأخلاق الفاضلة المتوسطة بين الطرفين المستقيمة بين المنحرفين ( اهدنا الصراط المستقيم ) إلى آخره وفي قوله ( صراط الذين أنعمت عليهم ) دليل على أن الاستضاءة بأنوار أرباب الكمال خلة محمودة وسنة مرضية ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) ) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [ آل عمران : 31 ] وفي قوله ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) إشارة إلى أن التجنب عن مرافقة اصحاب البدع والأهواء واجب .
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
والجمر يوضع في الرماد فيخمد
المنهج الرابع : قال ( صلى الله عليه وسلم ) حكاية عن الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد ( بسم الله الرحمن الرحيم ) يقول الله : ذكرني عبدي .
وإذا قال : ( الحمد لله رب العالمين ) يقول الله : حمدني عبدي وإذا قال : ( الرحمن الرحيم ) يقول الله : عظمني عبدي .
وإذا قال : ( مالك يوم الدين ) يقول الله : مجدني عبدي - وفي رواية فوض إلي عبدي - وإذا قال : ( إياك نعبد ) يقول الله : عبدني عبدي وإذا قال : ( وإياك نستعين ) يقول الله : توكّل عليّ عبدي - وفي رواية وإذا قال : ( اهدنا الصراط المستقيم ) يقول الله : هذا لعبدي ما سأل فقوله ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ) إشارة إلى أن أهم مهمات العبد أن يستنير(1/116)
" صفحة رقم 117 "
قلبه بمعرفة الربوبية ثم بمعرفة العبودية ، لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد ) وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] ( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [ البقرة : 40 ] فلا جرم أنزل الله تعالى هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه العبد في الوفاء بذلك العهد وقوله ( إذا قال العبد : بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله ذكرني عبدي ) مناسب لقوله تعالى ) فاذكروني أذكركم ( ( أنا جليس من ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ) والذكر مقام عالٍ شريف ذكره الله تعالى في القرآن كثيراً ) يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً ) [ الأحزاب : 41 ] ( واذكر ربك في نفسك ) [ الأعراف : 205 ] ( تذكروا فإذا هم مبصرون ) [ الأعراف : 201 ] ( الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ) [ آل عمران : 191 ] ولهذا وقع الإبتداء به .
وقوله ( ذكرني عبدي ) دل على أن ذاته المخصوصة صارت مذكورة بقوله ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وهذا يدل على أن الله اسم علم .
وقوله ( إذا قال : الله رب العالمين يقول الله : حمدني عبدي ) يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر لأنه أو كلام في أول خلق العالم حيث قالت الملائكة : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) [ البقرة : 30 ] وآخر كلام في الجنة ) وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] ولأن الفكر في ذات الله تعالى غير ممكن ( تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله ) وكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر فيحمد الله تعالى أكثر ، فقوله ( حمدني عبدي ) شهادة من الله تعالى على وقوف العبد بعقله وفكره على وجوه فضله وإنعامه في ترتيب العالم وتربية العالمين ، وأنه أقر بقلبه ولسانه بكرمه وإحسانه .
قوله ( وإذا قال : الرحمن الرحيم ) ( يقول الله : عظمني عبدي ) يدل ذلك على أن الإله الكامل المكمل المنزه عن الشريك والنظير والمثل والند والضد ، هو في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده .
ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام وهو التعظيم لله .
وقوله ( وإذا قال : مالك يوم الدين يقول الله : مجدني عبدي ) أي نزهني وقدسني عن الظلم وعن شبهة الظلم حيث قضيت معاداً يحشر إليه العباد ويقضي فيه بين الظالم والمظلوم والقوي والضعيف .
أيحسب الظالم في ظلمه
أهمله القادر أم أمهلا
ما أهملوه بل لهم موعد
لن يجدوا من دونه موئلا(1/117)
" صفحة رقم 118 "
وقوله ( وإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين عبدي ) معناه أن ( إياك نعبد ) يدل على إقدام العبد على الطاعة والعبادة ولا يتم ذلك إلا بإعانة الله بخلق داعية فيه خالصة عن المعارض ، فإن العبد غير مستقل بالإتيان بذلك العمل فهو المراد من قوله ( وإياك نستعين ) وقوله ( وإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم يقول الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) تقريره أن أهل العلم مختلفون بالنفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية أو أكثرها ? وفي المعاد والنبوات وغيرها مع استواء الكل في العقل والنظر .
فالاهتداء إلى ما هو الحق في الأمر نفسه ليس إلا بهداية الله تعالى وإرشاده كما قالت الملائكة ) سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ) [ البقرة : 32 ] وقال إبراهيم عليه السلام ) لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ) [ الأنعام : 77 ] وقال موسى ) رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري ) [ طه : 25 ، 26 ] .
المنهج الخامس : آيات الفاتحة سبع والأعمال المحسوسة في الصلاة أيضاً سبعة : القيام والركوع والانتصاب منه والسجود الأول والانتصاب منه والسجود الثاني والقعدة .
فهذه الأعمال كالشخص والفاتحة لها كالروح ، وإنما يحصل الكمال عند اتصال الروح بالجسد ، فقوله ( بسم الله الرحمن الرحيم ) بإزاء القيام ، ألا ترى أن الباء في بسم الله لما اتصل باسم الله حصل قائماً مرتفعاً .
وأيضاً التسمية لبداية الأمور كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله أبتر ( والقيام أيضاً أول الأعمال .
وقوله ( الحمد لله رب العالمين ( بإزاء الركوع لأن الحمد في مقام التوحيد نظراً إلى الحق وغلى الخلق والمنعم والنعمة ، لأنه الثناء على الله بسبب الإنعام الصادر منه إلى العبد ، فهو حالة متوسطة بين الإعراض والاستغراق ، كما أن الركوع متوسط بين القيام والسجود ، وأيضاً ذكر النعم الكثيرة مما يثقل الظهر فينحني وقوله ( الرحمن الرحيم ( مناسب للانتصاب ، لأن العبد لما تضرع إلى الله بالركوع فاللائق برحمته أن يرده إلى الانتصاب ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إذا قال العبد : سمع الله لمن حمده نظر الله إليه بالرحمة ( وقوله ( مالك يوم الدين ( مناسب للسجدة الأولى لدلالته على كمال القهر والجلال والكبرياء وذلك يوجب الخوف الشديد المستتبع لغاية الخضوع .
وقوله ( إياك نعبد وإياك نستعين ( مناسب للقعدة بين السجدتين لأن إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت و ) إياك نستعين ( استعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية ، وقوله ( اهدنا الصراط المستقيم ( سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية ليدل على نهاية الخشوع .
وقوله ( صراط الذين أنعمت عليهم ( إلخ .
مناسب للقعود لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابله الله بالإكرام والقعود بين يديه وحينئذ يقرأ ) التحيات لله ( كما أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) قرأها في معراجه فالصلاة معراج المؤمن .(1/118)
" صفحة رقم 119 "
المنهج السادس : آيات الفاتحة سبع وأعمال الصلاة المحسومة سبعة كما تقدم ، ومراتب خلق الإنسان سبع ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) [ المؤمنون : 12 - 14 ] فنور آيات الفاتحة يسري إلى الأعمال السبعة ، ونور الأعمال السبعة يسري إلى هذه المراتب فيحصل في القلب نور على نور ، ثم ينعكس إلى وجه المؤمن ) من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ( .
المنهج السابع : إنه كان لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معراجان : من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم من المسجد الأقصى إلى عالم الملكوت .
هذا في عالم الحس ، وأما في عالم الأزواج ، فمن الشهادة إلى الغيب ، ثم من الغيب إلى غيب الغيب ، فهذا بمنزلة قوسين متلاصقين ، فتخطاهما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان قاب قوسين .
وقوله ( أو أدنى ) إشارة إلى فنائه في نفسه .
والمراد بعالم الشهادة كل ما يتعلق بعالم الجسم والجسمانيات ، وبعالم الأرواح ما فوق ذلك من الأزواج السفلية ، ثم المتعلقة بسماء سماء إلى الملائكة الحافين من حول العرش ، ثم إلى حملة العرش ومن عند الله الذين طعامهم ذكر الله وشرابهم محبته وأنسهم بالثناء عليه ولذتهم في خدمته ) لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) [ الأنبياء : 19 ، 20 ] وهكذا يتصاعد إلى أن ينتهي إلى نور الأنوار وروح الأرواح ولا يعلم تفاصيلها إلا الله أو من ارتضاه ، والمقصود أن نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) لما عرج وأراد أن يرجع قال رب العزة : المسافر إذا عاد إلى وطنه أتحف أصحابه وإن تحفة أمتك الصلاة الجامعة بين المعراجين الجسماني بالأفعال والروحاني بالأذكار .
فليكن المصلي ثوبه طاهراً وبدنه طاهراً لأنه بالوادي المقدس طوى .
وأيضاً عنده ملك وشيطان ، ودين ودنيا ، وعقل وهوى ، وخير وشر ، وصدق وكذب ، وحق وباطل ، وحلم وطيش ، وقناعة وحرص ، وسائر الأخلاق المتضادة والصفات المتنافية ، فلينظر أيها يختار فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة ، اختار الصديق صحبة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يفارقه في الدنيا وفي القبر ويكون معه في القيامة وفي الجنة ، وصحب كلب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا والآخرة قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) [ التوبة : 119 ] ثم إذا تطهر فليرفع يديه إشارة إلى توديع الدنيا والآخرة وليوجه قلبه وروحه وسره إلى الله ثم ليقل ( الله أكبر ) أي من كل الموجودات بل هو أكبر من أن يقاس إليه غيره بأنه أكبر منه ، ثم ليقل ( سبحانك اللهم وبحمدك ) وفي هذا المقام ينكشف له نور سبحات الجلال ، ثم ليقل ( تبارك اسمك ) إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام ليطالع حقيقة الأزل في القدم وحقيقة الأبد في البقاء ، (1/119)
" صفحة رقم 120 "
فيتجلى له نور الأزل والأبد ، ثم ليقل ( وتعالى جدك ) إشارة إلى أنه أعلى وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور ، ثم ليقل ( ولا إله غيرك ) إشارة إلى أن صفات الجلال وسمات الكمال له تعالى لا لغيره فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو وفي الحقيقة لا هو إلا هو ، وههنا بكل اللسان وتدهش الألباب ، ثم عد أيها المصلي إلى نفسك وحالك وقل ( وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ) فقولك ( سبحانك اللهم وبحمدك ) معراج الملائكة المقربين حيث قالوا ) ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) [ البقرة : 30 ] وهو أيضاً معراج محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن معراجه مفتتح بقوله ( سبحانك اللهم وبحمدك ) وقوله ( وجهت وجهي ) معراج الخليل ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقولك ( إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي ) معراج الحبيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
فقد جمع المصلي بين معراج الملائكة المقربين ومعراج عظماء الأنبياء والمرسلين ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) لتدفع العجب عن نفسك ، وفي هذه المقام يفتح لك أحد أبواب الجنة وهو باب المعرفة ، وبقولك ( بسم الله الرحمن الرحيم ) يفتح باب الذكر ، وبقولك ( الحمد لله رب العالمين ) يفتح باب الشكر ، وبقولك ( الرحمن الرحيم ) يفتح باب الرجاء ، وبقولك ( مالك يوم الدين ) يفتح باب الخوف ، وبقولك ( إياك نعبد وإياك نستعين ) يفتح باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية وبقولك ( اهدنا الصراط المستقيم ) يفتح باب الدعاء والتضرع ) ادعوني أسبتجب لكم ) [ غافر : 60 ] وبقولك : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) الخ .
يفتح باب الاقتداء بالأرواح الطيبة والاهتداء بأنوارهم ، فجنات المعارف الربانية انفتحت لك أبوابها الثمانية بهذه المقاليد الروحانية ، فهذا بيان المعراج الروحاني في الصلاة ، وأما الجسماني فأولى المراتب أن تقوم بين يدي الله كقيام أصحاب الكهف ) إذا قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض ) [ الكهف : 14 ] بل قيام أهل القيامة ) يوم يقوم الناس لرب العالمين ) [ المطففين : 6 ] ثم اقرأ ( سبحانك اللهم وبحمدك ) ثم ( وجهت وجهي ) ثم ( الفاتحة ) وبعدها ( ما تيسر لك من القرآن ) واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها ، وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين وهذا سر قوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) واعلم أن نفسك إلى الآن جارية مجرى خشية عرضتها على نار خوف الجلال فلانت ، فاجعلها منحنية بالركوع ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى ، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض طاعة الله إلى نفسك ( فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ) فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بغاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو وقل : ( سبحان ربي الأعلى ) فإذا سجدت ثانية حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة. . .
ركوع واحد وسجدتان ، (1/120)
" صفحة رقم 121 "
فبالركوع تنجو من عقبة الشهوات ، وبالسجود الأول من عقبة العضب الذي هو رئيس المؤذيات ، وبالسجود الثاني تنجو من عقبة الهوى الداعي إلى كل المضلات .
فإذا تجاوزت هذه الصفات وتخلصت عن هذه الدركات ، وصلت إلى الدرجات العاليات وملكت الباقيات الصالحات ، وانتهيت إلى عقبة جلال مدبر الأرض والسموات ، فقل عند ذلك ( التحيات المباركات ) باللسان ، و ( الصلوات ) بالأركان و ( الطيبات ) بالجنان وقوة الإيمان بالله ، فيصعد نور روحك وينزل نور روح محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيتلاقى الروحان ويحصل هناك الروح والريحان فقل ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ) فعند ذلك يقول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) فكأنه قيل لك : بم نلت هذه الكرامات ؟ فقل : بقولي : ( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً رسول الله ) فقيل : إن محمداً الذي هداك أي شيء هديتك له ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقل ( اللهم صل على محمد وآل محمد ) ، فقيل لك : إن إبراهيم صلى اللهع ليه وسلم وهو الذي قال ) ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم ) [ البقرة : 129 ] فما جزاؤك له ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقل ( كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين ) فيقال لك : هذه الخيرات من محمد وإبراهيم أو من الله ؟ فقل : بل من الحميد المجيد ( إنك حميد مجيد ) .
ثم إن العبد إذا ذكر الله تعالى بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة ( إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه ) فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى العبد فقال الله تعالى : إن الملائكة اشتاقوا إلى زيارتك وقد جاؤوك زائرين فابدأ بالسلام عليهم لتكون من السابقين ? فقل عن اليمين وعن الشمال ( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) فلا جرم إذا دخل المصلون الجنة فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتهم فنعم عقبى الدار .
المنهج الثامن : أعظم المخلوقين جلالة ومهابة المكان والزمان ، فالمكان فضاء لا نهاية له ، وخلاء لا غاية له ، والزمان امتداد وهمي شبيه بنهر خرج من قعر جبل الأزل فامتد ودخل في قعر الأبد ، فلا يعرف لانفجاره مبدأ ولا لاستقراره منزل .
فالأول والآخر صفة الزمان ، والظاهر والباطن صفة المكان ، وكمال هذه الأربعة ( الرحمن الرحيم ) فالحق سبحانه وسع المكان ظاهراً وباطناً ، ووسع الزمان أولاً وآخراً ، وهو منزه عن الافتقار إلى المكان والزمان ، فإنه كان ولا مكان ولا زمان ، فعقد المكان بالكرسي ) وسع كرسيه السموات والأرض ) [ البقرة : 255 ] وعقد الزمان بالعرش ) وكان عرشه على الماء ) [ هود : 7 ] لأن جري الزمان يشبه جري الماء ، فالعلو صفة الكرسي ) وسع كرسيه ) [ البقرة : 255 ] والعظمة صفة العرش ) رب العرش العظيم ) [ التوبة : 129 ] وكمال العلو والعظمة لله ) ولا يؤده(1/121)
" صفحة رقم 122 "
حفظهما وهو العلي العظيم ) [ البقرة : 255 ] والعلو والعظمة درجات الكمال إلا أن العظمة أقوى وفوق الكل درجة الكبرياء ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ) ولا يخفى أن الرداء أعظم من الإزار وفوق جميع الصفات صفة الجلال وهي تقدسه في هويته المخصوصة عن مناسبة الممكنات وبه استحق الإلهية ، ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام ) وفي التنزيل ) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) [ الرحمن : 27 ] فالمصلي يبتغي وجه الله ، والداخل على السلطان يجب أن يتطهر من الأدناس والأرجاس ، وأولى المراتب التطهر من دنس الذنوب ) توبوا إلى الله توبة نصوحاً ) [ التحريم : 8 ] ثم من الدنيا حلالها وحرامها وهو الزهد ، ثم من الكونين الدنيا والآخرة وهو مقام المعرفة ، ثم من الالتفات إلى أعماله وهو مقام الإخلاص ، ثم من الالتفات إلى عدم الالتفات وهو مقام المحسنين ، ثم من الالتفات إلى كل ما سوى الله وهو مقام الصديقين ، ثم قم قائماً ) فأقم وجهك للدين حنيفاً ( ، [ الروم : 30 ] واستحضر في نفسك جميع أقسام العالم من الروحانيات والجسمانيات فقل ( الله أكبر ) أي من الكل كما مر ، أو من لا يراني ولا يسمع كلامي كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) أو أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأفهامهم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : التوحيد أن لا تتوهمه أو أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته فإذا قلت ( الله أكبر ) فأجل طرف عقلك في ميادين جلال الله وقل ( سبحانك اللهم وبحمدك ) ثم قل ( وجهت وجهي ) ثم انتقل غلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لكي تبصر فيها عجائب الدنيا والآخرة ، وتطلع منها على أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والكتب الإلهية والشرائع النبوية فتصل إلى الشريعة ومنها إلى الطريقة ومنها إلىالحقيقة وتشاهد درجات الكاملين ودركات الناقصين ، فإذا قلت ( بسم الله الرحمن الرحيم ) أبصرت به الدنيا فباسمه قامت السموات والأرضون ، وإذا قلت ( الحمد لله رب العالمين ) أبصرت به الآخرة فبالحمد قامت الآخرة ) وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] وإذا قلت ( الرحمن الرحيم ) أبصرت به عالم الجمال المشتمل على أصول النعم وفروع النوال ، وإذا قلت ( مالك يوم الدين ) أبصرت به عالم الجلال وما يحصل هناك من الأحوال والأهوال ، وإذا قلت(1/122)
" صفحة رقم 123 "
( إياك نعبد ) أبصرت به عالم الشريعة ، وإذا قلت ( وإياك نستعين ) أبصرت به عالم الطريقة ، وإذا قلت ( اهدنا الصراط المستقيم ) أبصرت به عالم الحقيقة وإذا قلت ( صراط الذين أنعمت عليهم ) أبصرت به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات ، وإذا قلت ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) لاحظت دركات أهل التفريط والإفراط فإذا انكشفت لك هذه المقامات فلا تظن أنك قد بلغت الغايات بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء ولنفسك بالهوان وقل ( الله أكبر ) ثم انزل من صفة الكبرياء غلى العظمة وقل ( سبحان ربي العظيم ) ثم انتصب ثانياً وادع لمن وقف موفقك وحمد حمدك وقل ( سمع الله لمن حمده ) فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم .
ولا تكبير في هذا المقام لأن التكبير من الكبرياء والهيبة والخوف وهذا مقام الشفاعة ، ثم عد إلى التكبير وانحدر به إلى غاية العلو وقل ( سبحان ربي الأعلى ) لأن السجود أكثر تواضعاً .
روي أن لله ملكاً تحت العرش اسمه حزقيل .
فأوحى إليه أيها الملك طر فطار ثلاثين ألف سنة ، ثم ثلاثين ألف سنة ، فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني فأوحى الله إليه : لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ إلى الطرف الثاني منا لعرش .
فقال الملك عند ذلك : سبحان ربي الأعلى .
أما فوائد السجدتين فالأولى الأزل والثانية الأبد ? والقعدة بينهما هي الدنيا ، فتعرف بأزليته أنه لا أول له فتسجد له ، وبأبديته أنه لا آخر له فتسجد له ثانياً .
وأيضاً الأولى فناء الدنيا في الآخرة ، والثانية فناء الآخرة في جلال الله تعالى ، وأيضاً الأولى فناء الكل في أنفسها ، والثانية بقاؤها ببقائه ، وأيضاً الأولى انقياد عالم الشهادة لقدرته ، والثانية انقياد عالم الأرواح لعزته ) ألا له الخلق والأمر ) [ الأعراف : 54 ] وأيضاً الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته ، والثانية سجدة الخوف مما فاتنا من أداء حقوق كبريائه .
وأيضاً صلاة القاعدة على النصف من صلاة القائم فتواضع السجدتين بإزاء تواضع ركوع واحد ، وأيضاً ليكونا شاهدين للعبد على أداء العبادة ، وأيضاً ليناسب الوجود الأخذ من الوحدة غلى الكثرة ومن الفردية إلى الزوجية ، وأيضاً الانتصاب صفة الإنسان والانحناء صفة الأنعام والجثوم صفة النبات .
ففي الركوع هضم للنفس بمرتبة واحدة ، وفي السجود بمرتبتين ، ولعل ما فاتنا من الفوائد أكثر مما أدركنا .
المنهج التاسع في اللطائف : عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) سأل ربه فقال : ما جزاء من حمدك ؟ فقال تعالى : الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته .
فقال أهل التحقيق : من ههنا جعلها الله فاتحة كتابه وخاتمة كلام أحبائه في جنته ) وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] وعن علي عليه السلام أن أول ما خلق الله العقل من نوره المكنون ، ثم قال له : تكلم فقال : الحمد لله فقال الرب : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعز عليّ منك .
ونقل عن(1/123)
" صفحة رقم 124 "
آدم عليه السلام لما عطس قال : الحمد لله فأول كلام لفاتحة المحدثات الحمد ، وأول كلام لخاتمة المحدثات الحمد ، فلا جرم جعلها الله تعالى فاتحة كتابه .
وأيضاً أول كلام الله ( الحمد لله ) وآخر أنبيائه محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين الأول والآخر مناسبة ، فجعل ( الحمد لله ) أول آية من كتاب محمد رسول الله ، ولما كان كذلك وضع لمحمد رسول الله من كلمة الحمد اسمان : محمد وأحمد .
وعند هذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا في السماء أحمد وفي الأرض محمد ) فأهل السماء في تحميد الله ورسوله أحمدهم ، والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال : ( فأولئك كان سعيهم مشكوراً ) [ الإسراء : 19 ] ورسول الله محمدهم .
أخرى : الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالرحمة والنعمة ، فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال فلهذا قال ( سبقت رحمتي غضبي ) .
أخرى : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اسمه أحمد أي أكثر الحامدين حمداً فوجب أن تكون رحمة الله في حقه أكثر فلهذا جاء رحمة للعالمين .
أخرى : إن من أسماء رسول الله اسمه أحمد أي أكثر الحامدين حمداً فوجب أن تكون رحمة الله في حقه أكثر فلهذا جاء رحمة للعالمين .
أخرى : إن من أسماء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سوى اسمه محمد وأحمد الحامد والمحمود على ما جاء في الروايات ، وكلها تدل على الرحمة ، لأن الحمد يتضمن النعمة فقال تعالى : ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ) [ الحجر : 49 ] فقوله ( نبئ ) إشارة إلى محمد وهو مذكور قل العباد ، والياء في قوله ( عبادي ) ضمير الله سبحانه .
وكذا في ( أني ) و ( أنا ) و ( الغفور ) و ( الرحيم ) صفتان لله ، فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع خمسة أسماء تدل على الرحمة ، وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تعالى تدل على الرحمة ، ورحمة الرسول كثيرة ) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107 ] ورحمة الله تعالى غير متناهية ) ورحمتي وسعت كل شيء ) [ الأعراف : 156 ] فكيف يضيع المذنب فيما بين هذه الأصناف من الرحمة ؟ .
أخرى : في الفاتحة عشرة اشياء ، خمسة من صفات الربوبية : الله الرب الرحمن الرحيم المالك ، وخمسة من صفات العبودية : العبادة الاستعانة طلب الهداية طلب الاستقامة طلب النعمة في قوله ( أنعمت عليهم ) وكأنه قيل ( إياك نعبد ) لأنك أنت الله ( وإياك نستعين ) يا رب اهدنا يا رحمن ، وارزقنا الاستقامة يا رحيم ، وأفض علينا سجال فضلك يا مالك .(1/124)
" صفحة رقم 125 "
أخرى : الإنسان مركب من خمسة أشياء : بدن ونفس شيطانية ونفس سبعية ونفس بهيمية وجوهر ملكي عقلي .
فتجلى اسم الله للجوهر الملكي فاطمأن إليه ) ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [ الرعد : 28 ] وتجلى للنفس الشيطانية باسم الرب فلان وانقاد لطاعة الديان ) رب أعوذ بك من همزات الشياطين ) [ المؤمنون : 97 ] وتجلى للنفس السبعية باسم الرحمن وهو مركب من القهر واللطف ) الملك يومئذ الحق للرحمن ) [ الفرقان : 26 ] فترك الخصومة والعدوان .
وتجلى للنفس البهيمية باسم الرحيم ) أحل لكم الطيبات ) [ المائدة : 4 ] فترك العصيان ، وتجلى للأبدان بصفة القهر والمالكية لأن البدن غليظ كثيف فيحتاج إلى قهر شديد ) لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) [ غافر : 16 ] فدان .
فلمكان هذه التجليات انغلقت له أبواب النيران وفتحت عليه أبواب الجنان ورجع القهقرى كما جاء ? فلطاعة الأبدان قال : ( إياك نعبد ) ولطاعة النفس السبعية قال : ( اهدنا وأرشدنا وعلى دينك ثبتنا ) ولطاعة النفس الشيطانية طلب الاستقامة فقال : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ولجوهره العقلي الملكي طلب مرافقة الأرواح المقدسة لا المدنسة فقال : ( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) .
أخرى : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فشهادة أن لا إله إلا الله من تجلي نور اسم الله ، وإقام الصلاة من تجلي نور اسم الرب لأن الرب من التربية ، والعبد يربي أمانة عدد الصلاة ، وإيتاء الزكاة من تجلي اسم الرحمن لأن الزكاة سببها الرحمة على الفقراء ، وصوم رمضان من تجلي اسم الرحيم لأن الصائم إذا جاع يذكر جوع الفقراء فيعطيهم ( يحكى ) أن يوسف حين تمكن من مصر كان لا يشبع فقيل له في ذلك ؟ فقال : أخاف أن أشبع فأنسى الجياع .
وأيضاً الصائم يرحم نفسه لأنه إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات ، فعند الموت يسهل عليه مفارقتها .
ووجوب الحج من تجلي اسم ( مالك يوم الدين ) لأن الحج يوجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد وذلك يشبه سفر القيامة .
وأيضاً الحاج يكون عارياً حافياً حاسراً وهو يشبه أحوال القيامة .
أخرى : الحواس خمس ولكل أدب فأدب البصر ) ما زاغ البصر وما طغى ) [ النجم : 17 ] ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) [ الحشر : 2 ] وأدب السمع ) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) [ الزمر : 18 ] وأدب الذوق ) يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ) [ المؤمنون : 51 ] وأدب الشم ) وإني لأجد ريح يوسف ) [ يوسف : 94 ] وأدب المس ) والذين هم(1/125)
" صفحة رقم 126 "
لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) [ المؤمنون : 6 ] فاستعن بأنوار الأسماء الخمسة : الله الرب الرحمن الرحيم المالك ، على تأديب هذه الحواس الخمس .
أخرى : الشطر الأول من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة لله فيفيض أنوارها على الأسرار ، والشطر الثاني مشتمل على الصفات الخمس للعبد فتصعد منها أسراره إلى تلك الأنوار ويحصل للعبد معراج في قراءته ، وتقرير الأسرار أن حاجة العبد إما لدفع ضر أو جلب خير ، وكل منهما إما في الدنيا وإما في الآخرة ، فهذه أربعة ، وههنا قسم خامس هو الأشرف وذلك الإقبال على طاعة الله وعبوديته لا لأجل رغبة أو رهبة ، فإن شاهدت نور اسم الله لم تطلب منه شيئاً سوى الله ، وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة ، وإن طالعت نور الرحمن طلبت منه خيرات الدنيا ، وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه العصمة عن مضار الآخرة ، وإن طالعت نور ( مالك يوم الدين ) طلبت منه الصون عن آفات الدنيا الموقعة في عذاب الآخرة أعاذنا الله منها .
أخرى : للتجلي ثلاث مراتب : تجلي الذات ) قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) [ الأنعام : 91 ] وهذا لعظماء الأنبياء والملائكة المقربين وهذه نهاية الأحوال ويدل عليه اسم الله ، وتجلي الصفات وهو في أواسط الأحوال ويكون للأولياء وأولي الألباب ) الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً ) [ آل عمران : 191 ] ويدل عليه اسم الرحمن .
وتجلي الأفعال والآيات وهو في بداية الأحوال ويكون لعامة العباد ) الذي جعل لكم الأرض مهداً وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهي ) [ طه : 53 - 54 ] ويدل علي لفظ الرحيم ) ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً ) [ غافر : 7 ] .
أخرى : في الفاتحة كلمتان مضافتان إلى اسم الله ( بسم الله ) و ( الحمد لله ) بسم الله لبداية الأمور والحمد لله لخواتيم الأمور ، ( بسم الله ) ذكر ( والحمد لله ) شكر بسم الله أستحق الرحمة رحمن الدنيا ، وبالحمد لله أستحق رحمة أخرى رحيم الآخرة .
كلمتان أضيف إليهما اسمان لله ( رب العالمين ) ( مالك يوم الدين ) فالربوبية لبداية حالهم ) ألست بربكم قالوا بلى ) [ الأعراف : 172 ] والملك لنهاية حالهم ) لمن الملك لله الواحد القهار ) [ غافر : 16 ] وبينهما اسمان مطلقان لوسط حالهم ( الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) .(1/126)
" صفحة رقم 127 "
المنهج العاشر : للخلق خمس أحوال : أولها : الإيجاد والتكوين والإبداع ويدل عليه اسم الله .
وثانيها : التربية في مصالح الدنيا ويدل عليه اسم الرب .
وثالثها : التربية في معرفة المبدأ ويدل عليها اسم الرحمن .
ورابعها : في معرفة المعاد ويدل عليها اسم الرحيم كي يقدم علىما ينبغي ويحجم عما لا ينبغي .
وخامسها : نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى المعاد ويدل عليه اسم ( مالك يوم الدين ) ثم إن العبد إذا انتفع بهذه الأسماء صار من أهل المشاهدة فقال : ( إياك نعبد ) لأنك أنت الله الخالق ( وإياك نستعين ) لأنك أنت الرب الرازق ( إياك نعبد ) لأنك الرحمن ( وإياك نستعين ) لأنك الرحيم ( إياك نعبد ) لأنك الملك ( وإياك نستعين ) لأنك المالك ، ( إياك نعبد ) لأنا ننتقل من دار الشرور إلى دار السرور ولا بد من زاد وخير الزاد العبادة ، ( وإياك نستعين ) لأن الذي نكتسب بقوتنا وقدرتنا لا يكفينا فإن السفر طويل والزاد قليل .
ثم إذا حصل الزاد بإعانتك فالشقة شاسعة والطرق كثيرة ، فلا طريق إلا أن يطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق ( اهدنا الصراط المستقيم ) .
ثم إنه لا بد لسالك الطريق الطويل من رفيق ودليل ( صراط الذين أنعمت عليهم ) فالأنبياء أدلاء والصديقون والشهداء والصالحون رفقاء ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين لأن الحجب قسمان : نارية وهي الدنيا بما فيها ، ونورية وهي ما سواها .
اللهم ادفع عنا كل ما يحجب بينك وبيننا إنك رب العالمين ومالك يوم الدين .(1/127)
" صفحة رقم 128 "
سورة البقرة
( سورة البقرة وقد يقال السورة التي تذكر فيها البقرة مدنية غير آية نزلت يوم عرفة بمنى قوله تعالى
واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله
حروفها 25500 كلماتها 6121 آياتها عند أهل الكوفة 286 ( ( البقرة : ( 1 - 5 ) الم
" الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " ( القراآت : ( لا ريب ) بالمد خلف والعجلي عن حمزة وخلف لنفسه ، وكذلك قوله تعالى ) لا خير ( و ) لا جرم ( وذلك لاجتماع الفتحة مع الألف أو لتأكيد معنى النفي للجنس ( فيهى ) ابن كثير ، وكذلك يشبع كل هاء كناية في جميع القرآن .
( هدى للمتقين ) مدغماً من غير غنة : حمزة وعلي وخلف ويزيد وورش من طريق النجاري ، والهاشمي عن ابن كثير .
وكذلك يدغمون النون الساكنة والتنوين في الراء حيث وقعت .
أبو عمرو بالوجهين : إدغام الغنة وإظهارها ، والباقون بإظهار الغنة .
ولا خلاف بين القراء في إدغام أصل النون والتنوين في اللام والواو والراء والياء والميم ، وإنما الخلاف بينهم في إظهار الغنة وإسقاطها وهي صوت الخيشوم ( يؤمنون ) غير مهموز : أبو عمرو ويزيد وورش والأعشى وحمزة في الوقف ، وكذلك ما أشبههما من الأفعال إلا في أحرف يسيرة تذكر في مواضعها .
الباقون : بالهمز .
( باب في المد ) ( بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) بالمد : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن ذكوان ، فلا يفرقون بين مدّ الكلمة والكلمتين .
وكذلك روى ورش عن نافع .
والباقون يفرقون فيمدون الكلمة ولا يمدون بين الكلمتين .
فأطول الناس مداً ورش عن نافع ، وحمزة وخلف في اختياره والأعشى ، ومدهم بمنزلة أربع ألفات .
وأوسطهم مداً علي وابن ذكوان وعاصم غير الأعشى ، وأقصرهم مداً ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير ورش وأبو عمرو وسهل ويعقوب وهشام .
وأصل المد ألف ساكنة على قدر فتحة فيك فتحاً تاماً ، وبالآخرة بترك الهمزة ونقلها إلى الساكن الذي قبلها حيث كان ورش ، وكذلك حمزة في الوقف فإن مذهبه أن يقف على كل كلمة مهموزة بغير همزة ( باب السكتة )(1/128)
" صفحة رقم 129 "
روي عن حمزة وحماد والشموني أنهم يسكتون على كل حرف ساكن بعده همزة سكتة لطيفة نحو : الأرض ، والأنهار ، وقالوا : آمنا ، وأشباه ذلك .
والسبب فيه التمكين والمبالغة في تحقيقها ، لأن الهمزة بعد السكتة كالمبتدأ بها .
والاختيار في الكلمة الواحدة أن لا تسكت على ساكن غير لام التعريف احترازاً عن قطع الكلمة .
الوقوف : ( ألّم ) ( ج ) للاختلاف ( لا ريب ) ج على حذف خبر ( لا تقديره لا ريب فيه ، ثم يستأنف ) فيه هدى ( ومن وصل جعل فيه خبر ) لا ( أو وصف ريب وحذف خبر ) لا ( تقديره ) لا ريب فيه عند المؤمنين ( .
والوقف على التقديرين على ) فيه ( و ) هدى ( خبر مبتدأ محذوف أي هو هدى ، ومن جعل ) هدى ( حالاً للكتاب بإعمال معنى الإشارة في ) ذلك على تقدير : أشير إلى الكتاب هادياً لم يقف قبل ( هدى للمتقين ) ( لا ) لأن الذين صفتهم ( ينفقون ) لا للعطف ، ليدخل عبد الله بن سلام وأصحابه في المتقين ، فإن القرآن لهم هدى ، وليدخل الصحابة المؤمنون بالغيب في ثناء الهدى ووعد الفلاح .
ولو ابتدأ ( والذين ) كان ( أولئك على هدى ) خبرهم مختصاً بهم .
واختص هدى القرآن واسم التقوى بالذين يؤمنون بالغيب .
( من قبلك ) ج لاختلاف النظم بتقديم المفعول .
( يوقنون ) ( ط ) لأن أولئك مبتدأ وليس بخبر عما قبله ، وكذلك على كل آية وقف بها إلا ما أعلم بعلامة ( لا ) المفلحون .
التفسير وفيه أبحاث : البحث الأول في ( ألم ) اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها في قولهم ( ألف ، با ، تا ، ثا ) أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم ، لأن الضاد مثلاً لفظ مفرد دال بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه غير مقترن بأحد الأزمنة ، وذلك المعنى هو الحرف الأول من ضرب مثلاً ، فيكون لفظ الضاد اسماً ، ولهذا قد يتصرف في بعضها بالإمالة نحو ( با ، تا ) وبالتفخيم نحو ( با ، تا ) وبالتعريف والتنكير والجمع والتصغير والوصف والإسناد إليه والإضافة .
وقولهم ( با ، تا ، ثا ) متهجاة ومقصورة نحو ( لا ) ثم قولهم كتبت باء بالمد نحو كتبت ( لا ) لا يدل على أنها حروف مثل ( لا ) : فإنهم إنما قالوا كذلك في التهجي لكثرة الاستعمال واستدعائها التخفيف ، والذي رواه ابن مسعود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف ) وأيضاً ما وقع في عبارات المتقدمين أنها حروف التهجي خليق بأن يصرف غلى التسامح والتجوز لأنه اسم للحرف وهما متلازمان ، أو لأن الحرف قد يطلق على الكلمة تسمية للجنس باسم النوع .
ويحكى عن الخليل أنه سأل أصحابه : كيف تنطقون بالباء التي في ضرب ، والكاف التي في ذلك ؟ فقالوا : نقول باء ، كاف .
فقال : إنما جئتم بالاسم لا الحرف .
وقال : أقول : ب ، ك .
ثم إنهم راعوا في هذه(1/129)
" صفحة رقم 130 "
التسمية لطيفة ، وهي أنهم جعلوا المسمى صدر كل اسم منها إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها ، لأنه لا يكون إلا ساكناً .
ومما يضاهيها في إبداع اللفظ دلالة على المعنى البسملة والحيعلة والتهليل ونحوها .
وحكم هذه الأسماء سكون الإعجاز ما لم تلها العوامل فيقال : ألف ، لام ، ميم موقوفاً عليها لفقد مقتضى الإعراب نحو .
واحد ، اثنان ، ثلاثة ، دار ، ثوب ، جارية .
فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب نحو : هذه ألف ، وكتبت ألفاً ، ونظرت إلى ألف .
والدليل على أن سكونها وقف وليس ببناء أنها لو بنيت لحذي بها حذر ( كيف ) و ( أين ) و ( هؤلاء ) ولم يقل صاد ، قاف ، نون .
مجموعاً فيها بين الساكنين .
وللناس في ( الم ) وما يجري مجراه من فواتح السور قولان : أحدهما أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله به ، والتخاطب بالحروف المفردة سنة الأحباب في سنن المحاب ، فهو سر الحبيب مع الحبيب بحيث لا يطلع عليه الرقيب :
بين المحبين سر ليس يفشيه
قول ولا قلم لخلق يحكيه
عن أبي بكر ، في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور .
وعن علي كرم الله وجهه : إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي ، وقال بعض العارفين : العلم كبحر أجري منه واد ، ثم أجري من الوادي نهر ، ثم أجري من النهر جدول ، ثم أجري من الجدول ساقية .
فالوادي لا يحتمل البحر ، والنهر لا يحتمل الوادي ، ولهذا قال عز من قائل : ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) [ الرعد : 17 ] فبحور العلم عند الله تعالى فأعطى الرسل منها أودية ، ثم أعطى الرسل من أوديتهم أنهاراً غلى العلماء ، ثم أعطى العلماء إلى العامة جداول صغاراً على قدر طاقتهم ، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم ، وهذا مأخوذ مما ورد في الخبر ( للعلماء سر وللخلفاء سر وللأنبياء سر وللملائكة سر ولله من بعد ذلك كله سر .
فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم ، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم ، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم ، ولو اطلع الأنبياء على سر الملائكة لاتهموهم ، ولو اطلع الملائكة على سر الله لطاحوا حائرين وبادوا بائدين ) والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش .
وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال : سر الله فلا تطلبوه .
وعن ابن عباس أنه قال : عجزت العلماء عن إدراكها .
وقيل : هو من المتشابه .
وزيف هذا القول بنحو قوله تعالى ) أفلا يتدبرون القرآن ) [ النساء : 82 ] ( تبياناً لكل شيء ) [ النحل : 89 ] ( هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] وإنما يمكن التدبر ويكون تبياناً وهدى إذا كان مفهوماً ، وبقول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إني تركت(1/130)
" صفحة رقم 131 "
فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي ) فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم ؟ وأيضاً لا يخاطب المكلف بما لا يفهم كما لا يخاطب العربي بالعجمي ، ولا يجوز التحدي بما لا يكون معلوماً ، وعرض بقوله تعالى ) وما يعلم تأويله إلا الله ) [ آل عمران : 7 ] والوقف هنا لأن الراسخين لو كانوا عالمين بتأويله كان الإيمان به كالإيمان بالمحكم ، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح ، ولا يكون في قوله ) كل من عند ربنا ) [ آل عمران : 7 ] فائدة على ما لا يخفى ، وبقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديم ) وقد روينا عن أكابر الصحابة ما روينا .
وأيضاً الأفعال التي كلفنا بها منها ما يظهر وجه الحكمة فيه كالصلاة فإن فيها تواضعاً للمعبود والصوم ففيه كسر الشهوة والزكاة ففيها سد خلة المساكين ، ومنها ما لا يظهر فيه الحكمة ككثير من أفعال الحج ، ويحسن من الله تعالى الأمر بالنوعين لظهور الامتثال بهما ، بل كمال الانقياد في النوع الثاني أظهر وأكثر لأنه تعبد محض .
فلم لا يجوز أن يكون في الأقوال أيضاً مثل ذلك ، مع أن فيه فائدة أخرى هي اشتغال السر بذكر الله والتفكير في كلامه ؟ القول الثاني : إن المراد من هذه الفواتح معلوم ، ثم اختلفوا على وجوه : الأول : أنها أسماء وهو قول أكثر المتكلمين واختاره الخليل وسيبويه ، كما سموا بلام والد حارثة بن لام الطائي ، وكقولهم للنحاس صاد ، وللسحاب عين ، وللجبل قاف ، وللحوت نون ، وسعود تمام الكلام في هذا القول .
الثاني : أنها أسماء الله تعالى .
روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول : يا كَهيعَصَ ، يا حمَ عَسَقَ ، ويقرب منه ما روي عن سعيد بن جبير أنها أبعاض أسماء الله تعالى ، فإن ( الر ، حم ، ن ) مجموعها اسم ( الرحمن ) لكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في الجميع .
الثالث : أنها أسماء القرآن وهو قول الكلبي والسدي وقتادة .
الرابع : كل واحد من الحروف دال على اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته ، فالألف إشارة إلى أنه أحد أول آخر أزلي أبدي ، واللام إشارة غلى أنه لطيف ، والميم إلى أنه مجيد ملك منان ، وفي ( كَهيعَصَ ) الكاف كاف لعباده ، والهاء هاد ، والياء من الحكيم والعين عالم ، والصاد صادق .
أو الكاف محمول على الكبير والكريم .
والياء على أنه مجير ، والعين على العزيز والعدل ، ويروى هذا عن ابن عباس .
وعنه أيضاً في ( ألم ) أنا الله أعلم ، وفي ( المص ) أنا الله أعلم وأفصل ، وفي ( المر ) أنا الله أرى .
الخامس : أنها صفات الأفعال .
الألف آلاؤه ، واللام لطفه ، والميم مجده ، قاله محمد بن كعب القرظي .
السادس : الألف من الله ، واللام من(1/131)
" صفحة رقم 132 "
جبرائيل ، والميم من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
أي أنزل الله الكتاب بواسطة جبرائيل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
السابع : الألف أنا ، واللام لي ، والميم مني قاله بعض الصوفية .
الثامن : أن ورودها مسرودة هكذا على نمط التعديد ليكون كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدى بالقرآن ، أي إن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ، فلولا أنه كلام خالق القدر لم يعجز معشر البشر عن الإتيان بمثل الكوثر قاله المبرد وجم غفير .
والتاسع : كأنه تعالى يقول اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك ، وهذا على طريقة تعليم الصبيان قاله عبد العزيز بن يحيى .
العاشر : إن الكفار لما قالوا ) لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) [ فصلت : 26 ] أنزل الله تعالى هذه الأحرف رغبة في إصغائهم ليهجم عليهم القرآن من حيث لا يشعرون قاله أبو روق وقطرب .
الحادي عشر : قول أبي العالية إنه حساب على ما روى ابن عباس أنه مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يتلو سورة البقرة ( الم ذلك الكتاب ) ثم أتى أخوة حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن الم وقالوا : ننشدك الله الذي لا إله إلا هو ، أحق أنها أتتك من السماء ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : نعم ، كذلك نزلت فقال حيي : إن كنت صادقاً إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين ، ثم قال : كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى مدته إحدى وسبعون سنة ؟ فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
فقال حيي : فهل غير ذلك ؟ فقال : نعم ) المص ( فقال حيي : مائة وإحدى وستون فهل غير هذه ؟ فقال : نعم ) الر ( قال حيي : نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة فهل غير هذا ؟ قال : نعم ) المر ( قال حيي : ندري بأي أقوالك نأخذ فقال أبو ياسر : أما أنا فأشهد أن أنبياءنا قد أخبروا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون ، فإن كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً فيما يقوله إني لأراه يستجمع له هذا كله ، فقام اليهود وقالوا : اشتبه علينا أمرك فأنزل الله تعالى ) هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) [ آل عمران : 7 ] .
الثاني عشر : تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر .
الثالث عشر : قول الأخفش إن الله تعالى أقسم بهذه الجروف المعجمة لشرفها من حيث إنها أصول اللغات ، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه ، واقتصر على البعض والمراد الكل كما تقول : قرأت الحمد وتريد السورة كلها ، أقسم الله بها أن هذا الكتاب هو المثبت في اللوح المحفوظ .
الرابع عشر : أن النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام ، الأميون وأهل الخط ، والكتاب بخلاف النطق بأسامي الحروف فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ ، فلما أخبر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بها من غير تعلم خط وقراءة كان ذلك دليلاً على أنه استفاد ذلك من قبل الوحي .
الخامس عشر : قال(1/132)
" صفحة رقم 133 "
القاضي الماوردي : معناه ألم بكم ذلك الكتاب أي نزل ، وهذا لا يتأتى في كل فاتحة .
السادس عشر : الألف إشارة غلى ما لا بد منه من الاستقامة على الشريعة في أول الأمر ) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) [ فصلت : 30 ] واللام إشارة إلى الحاصل عند المجاهدات وهو رعاية الطريقة ) والذين جاهدوا فينا ) [ العنكبوت : 69 ] والميم إشارة إلى صيرورة العبد في مقام المحبة كالدائرة التي يكون نهايتها عين بدايتها وهو مقام الفناء في الله بالكلية وهو الحقيقة ) قل الله ثم ذرهم ) [ الأنعام : 91 ] .
السابع عشر : الألف من أقصى الحلق ، واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج ، والميم من الشفة وهو آخر المخارج ، أي أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي إلا لله .
الثامن عشر : سمعت بعض الشيعة يقول : هذه الفواتح إذا حذف منها المكررات يبقى ما يمكن أن تركب منه على صراط حق نمسكه ، وهذا غريب مع أنه متكلف فلهذا أوردته .
واعلم أن الباقي من الفواتح بعد حذف المكرر أربعة عشر ، نصف عدد حروف المعجم بعد الكسر .
وقد أورد الله الفواتح في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم ، وهذه الباقية تشتمل على أصناف أجناس الحروف .
من المهموسة نصفها ، الصاد والكاف والهاء والسين والحاء ، ومن المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون ، ومن الشديد نصفها ا ك ط ق ، ومن الرخوة نصفها لمر صعهسحين ، ومن المطبقة نصفها ص ط ، ومن المنفتحة نصفها الر كهوس ج ق ي ن ، ومن المستعلية نصفها ق ص ط .
ومن المنخفضة نصفها الم ر ك ه ي ع س ح ن ، ومن حروف القلقة نصفها ق ط .
وأكثر ألفاظ القرآن من هذه الحروف ، وهذا دليل على أن الله تعالى عدّد علىلا العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم تبكيتاً لهم وإظهاراً لعجزهم كما مر في الوجه الثامن ، ويؤيد ذلك أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين والله أعلم .
التاسع عشر : قيل : معناه ألست بربكم .
الألف واللام من أوله والميم من آخره أي أخذت منكم كتاب العهد في يوم الميثاق .
والمختار من هذه الأقوال عند الأكثرين القول بأنها أسماء السور ، ثم إنه عورض بوجوه : الأول : أنا نجد سوراً كثيرة اتفقت في التسمية بالم وحم والمقصود من العلم رفع الاشتباه .
الثاني : لو كانت أسماء لاشتهرت وتواترت .
الثالث : العرب لم يتجاوزوا بما سموا به مجموع اسمين نحو : معد يكرب وبعلبك ، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة ، فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغتهم .
الرابع : لو كانت أسماء لاشتهرت السور بها ، لكنها اشتهرت بغيرها نحو سورة البقرة وآل عمران .
الخامس : هذه الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على الشيء بالرتبة ، واسم الشيء متأخر عن الشيء ، فلزم أن يكون متقدماً متأخراً معاً وهو محال .
وليس هذا لتسميتهم صاد للحرف الأول منه ، (1/133)
" صفحة رقم 134 "
فإن هذا كتسمية المفرد بالمؤلف فلا يلزم إلا تأخر المركب عن المفرد بوجهين ، وهذا تسمية المؤلف بالمفرد ويلزم المحال المذكور .
وأجيب عن الأول بما يجاب عن الأعلام المشتركة من أنها ليست بوضع واحد ، مع أنه لا يبعد أن تجعل مشتركاً حتى يتميز كل واحد من الآخر بعلامة أخرى لحكمة خفية .
و عن الثاني بأن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام التي تتوفر الدواعي على نقلها .
وعن الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب ، ولكن إذا جعلت اسماً واحداً فأما منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية نحو برق نحره ، وكما لو سمي ببيت شعر أو بطائفة من أسماء حروف المعجم .
وعن الرابع أنه لا يبعد أن يصير اللقب أشهر من الاسم .
وعن الخامس أن تأخر ما هو متقدم باعتبار آخر غير مستحيل ، وفي لسان الصوفية أن هيئة الصلاة ثلاث : القيام والركوع والسجود .
فالألف إشارة إلى القيام ، واللام إلى الركوع ، والميم إلى السجود أي من قرأ فاتحة الكتاب في الصلاة التي هي معراج المؤمن شرفه الله بالهداية في قوله ) هدى للمتقين ( وعلى هذا فيكون ذلك الكتاب إشارة إلى الفاتحة لأنها أم الكتاب .
ثم إن هذه الأسماء ضربان : أحدهما ما لا يتأتى فيه الإعراب نحو ) كَهيعَصَ ( ) المر ( وثانيهما ما يتأتى فيه الإعراب لكونه اسماً فرداً كصاد وقاف ونون ، أو اسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحمَ وطسَ ويسَ فإنها موازنة لقابيل وهابيل ، وكقولك طسم إذا فتح نونها صار كدرابجرد .
فالنوع الأول محكي ليس غلا ، والثاني فيه أمران الإعراب والحكاية ، فإذا أعرب منع الصرف للعملية والتأنيث قال الشاعر :
يذكرني حاميم والرمح شاجر
فهلا تلا حاميم قبل التقدم ؟
والحكاية أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته نحو قولك ( بدأت بالحمد لله ) قال ذو الرمة :
سمعت الناس ينتجعون غيثاً
فقلت لصيدح انتجعي بلالاً
وأما من قرأ صاد وقاف ونون مفتوحات فبفعل مضمر نحو ( اذكر ) أو حركت لالتقاء الساكنين .
واستكره جعلها مقسماً بها على طريق قولهم ( نعم الله لأفعلن ) على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم ، لأن القرآن والقلم بعدها محلوف بهما .
واستكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم عليه واحد ولهذا قال الخليل : الواو الثانية في قوله عز من قائل ) والليل إذا يغشى .
والنهار إذا تجلى ) [ الليل : 1 ، 2 ] واو العطف لا القسم نحو ( وحياتي ثم حياتك لأفعلن ) ولو كان انقضى قسمه بالأول على شيء لجاز أن يستعمل كلاماً آخر نحو ( بالله لأفعلن تالله لأخرجن ) ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى جعل ( الواو ) للعطف لمخالفة الثاني(1/134)
" صفحة رقم 135 "
الأول في الإعراب ، اللهم إلا أن تقدر مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها فقد جاء عنهم ( الله لأفعلن ) مجروراً غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة ، وأما من قرأ صاد وقاف بالكسر فلالتقاء الساكنين .
وهذه الفواتح جاءت في المصحف مكتوبة على صور الحروف أنفسها لا على صور أساميها ، لأن المألوف أنه إذا قيل للكاتب اكتب ( صاد ) مثلاً فإنه يكتب مسماها ص .
وأيضاً اشتهار أمرها بأن المراد بها هنا الأسامي لا المسميات أمن وقوع اللبس فيها ، وأيضاً خطان لا يقاسان ، خط المصحف لأنه سنة ، وخط العروض لأن المعتبر هناك الملفوظ .
ومن لم يجعل هذه الفواتح أسماء السور فلا محل لها عنده كما لا محل للجمل المبتدأة والمفردات المعدودة ، ومن جعلها أسماء للسور فسنخبرك عن تأليفها مع ما بعدها الله حسبي .
البحث الثاني في قوله .
( ذلك الكتاب ) وفيه مسائل : الأولى : إنما صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد لأنه وقعت الإشارة بذلك إلى ( الم ) بعد ما سبق التكلم به ، والمنقضي في حكم المتباعد ولهذا يحسب الحاسب ثم يقول فذلك كذا ، أو لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً : احتفظ بذلك ، أو لأنه وإن كان حاضراً نظراً إلى ألفاظه لكنه غائب نظراً إلى أسراره وحقائقه ، أو لأنه على مقتضى الوضع اللغوي لا العرفي ، أو لأنه إشارة غلى ما نزل بمكة قبل سورة البقرة .
وقد يسمى بعض القرآن قرآناً ، أو لأنه إشارة إلى ما وعد به الرسول عند مبعثه ) إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ) [ المزمل : 5 ] أو لأنه إشارة إلى ما أخبر به الأنبياء أن الله سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل ، أو المراد أن هذا المنزل هو ذلك المثبت في اللوح المحفوظ كقوله ) وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) [ الزخرف : 4 ] .
الثانية : إنما ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة في بعض الوجوه نظراً إلى صفته وهو الكتاب كقولك ( هند ذلك الإنسان ) قال الذبياني :
نبئت نعمي على الهجران عاتبة
سقياً ورعياً لذاك العاتب الزاري
وإن جعلت الكتاب خبراً فنظراً إلى أن ذلك في معناه ومسماه فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير كما أجري عليه في التأنيث في قولهم : ( من كان أمك ) .
الثالثة : للقرآن أسماء كثيرة منها : الكتاب - وقد تقدم - ومنها الفرقان ) تبارك الذي نزل الفرقان ) [ الفرقان : 1 ] لأنه نزل متفرقاً في نيف وعشرين سنة ، أو لأنه يفرق بين الحق والباطل .
ومنها التذكرة والذكرى والذكر ) وإنه لتذكرة للمتقين ) [ الحاقة : 48 ] ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ((1/135)
" صفحة رقم 136 "
[ الذاريات : 55 ] ( وإنه لذكر لك ولقومك ) [ الزخرف : 44 ] أي ذكر من الله تعالى به ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه أو شرف وفخر .
ومنها التنزيل ) وإنه لتنزيل رب العالمين ) [ الشعراء : 192 ] ومنها الحديث ) الله نزل أحسن الحديث ) [ الزمر : 23 ] شبهه بما يتحدث به فإن الله تعالى خاطب به المكلفين .
ومنها الموعظة ) قد جاءتكم موعظة من ربكم ) [ يونس : 57 ] ومنها الحكم والحكمة والحكيم والمحكم ) وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ) [ الرعد : 37 ] ( حكمة بالغة ) [ القمر : 5 ] ( يسَ والقرآن الحكيم ) [ يس : 1 ، 2 ] ( كتاب أحكمت أياته ) [ فصلت : 2 ] ومنها الشفاء والرحمة ) وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) [ الإسراء : 82 ] ومنها الهدى والهادي ) هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) [ الإسراء : 9 ] ومنها الصراط المستقيم ) وأن هذا صراطي مستقيماً ) [ الأنعام : 153 ] ومنها حبل الله ) واعتصموا بحبل الله جميعاً ) [ آل عمران : 103 ] ومنها الروح ) وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ) [ الشورى : 52 ] لأنه سبب لحياة الأرواح .
ومنها القصص ) إن هذا لهو القصص الحق ) [ آل عمران : 62 ] ومنها البيان والتبيان والمبين ) هذا بيان للناس ) [ آل عمران : 138 ] ( تبياناً لكل شيء ) [ النحل : 89 ] ( تلك آيات الكتاب المبين ) [ يوسف : 1 ] ومنها البصائر ) هذا بصائر من ربكم ) [ الأعراف : 203 ] ومنها الفصل ) إنه لقول فصل ) [ الطارق : 13 ] ومنها النجوم ) فلا أقسم بمواقع النجوم ) [ الواقعة : 75 ] لأنه نزل نجماً نجماً .
ومنها المثاني ) مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ) [ الزمر : 23 ] لأنه يثنى فيه القصص والأخبار .
ومنها النعمة ) وأما بنعمة ربك فحدث ) [ الضحى : 11 ] قال ابن عباس : أي القرآن .
ومنها البرهان ) قد جاءكم برهان من ربكم ) [ النساء : 174 ] ومنها البشير والنذير ) قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً ) [ فصلت : 3 ، 4 ] ومنها القيم ) قيماً لينذر بأساً شديداً ) [ الكهف : 2 ] ومنها المهيمن ) مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ) [ المائدة : 48 ] ومنها النور ) واتبعوا النور الذي أنزل معه ) [ الأعراف : 157 ] ومنها الحق ) وإنه لحق اليقين ) [ الحاقة : 51 ] ومنها العزيز ) وإنه لكتاب عزيز ) [ فصلت : 41 ] ومنها الكريم ) إنه لقرآن كريم ) [ الواقعة : 77 ] ومنها العظيم ) ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم ) [ الحجر : 87 ] ومنها المبارك ) كتاب أنزلناه إليك مبارك ) [ ص : 29 ] فهذه جملة الأسماء وسيجيء تفاسيرها في مواضعها .
الرابعة : في تأليف ذلك الكتاب مع ( الم ) اسماً للسورة ففي التأليف وجوه : أن يكون ( الم ) مبتدأ أو ( ذلك ) مبتدأ ثانياً ( والكتاب ) خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول أي هو الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتاباً كما تقول : هو الرجل أي الكامل في الرجولية وكقوله : هم القوم كل(1/136)
" صفحة رقم 137 "
القوم يا أم خالد .
وأن يكون الكتاب صفة ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود ، وأن يكون ( الم ) خبر مبتدأ محذوف أي هذه ( الم ) ، ويكون ( ذلك ) خبراً ثانياً أو بدلاً على أن الكتاب صفة ، وأن يكون هذه ( الم ) جملة ، ( ذلك الكتاب ) جملة أخرى ، وفقد العاطف لأن الثانية بيان للأولى .
وإن جعلت ( الم ) بمنزلة الصوت كان ( ذلك ) مبتدأ خبره ( الكتاب ) أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل ، أو ( الكتاب ) صفة والخبر ما بعده ، أو قدر مبتدأ محذوف أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف ( ذلك الكتاب ) .
وفي قراءة عبد الله بن مسعود ( الم تنزيل الكتاب ) .
البحث الثالث في قوله ( لا ريب فيه ) الريب مصدر رابني وحقيقته قلق النفس .
روى الحسن بن علي عليه السلام عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة أي كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس ، وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له .
ومنه ريب الزمان لنوائبه المقلقة ، وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر بظبي حاقف أي معوج مضطجع وهم محرومون فقال : لا يريبه أحد بشيء أي لا يزعجه .
والحاصل أن الريب شك وزيادة ظن سوء ، فإن قلت : كيف نفي الريب على سبيل الاستغراق ، وكم من شقي مرتاب فيه ؟ قلت : ما نفي أن أحداً لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه ومثله ) وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) [ البقرة : 23 ] لم يقل ( وإذا كنتم ) مع وقوع الشك منهم في الواقع دلالة على أن الشك فيه مما لا ينبغي أن يوجد إلا على سبيل الفرض والتقدير ، ولو فرض فوجه إزالته أن يجردوا أنفسهم ويبرزوا قواهم في البلاغة هل تتم للمعارضة أن تتضاءل دونها .
فإن قلت : فهلا قدم الظرف على اريب كما قدم على الغول في قوله تعالى ) لا فيها غَوْل ) [ الصافات : 47 ] قلنا : لأن المقصود منها ليس إلا نفس الريب عنه وإثبات أنه حق وصدق ، ولو عكس لأفاد ذلك مع ما ليس بمراد ولا هو بصادق في نفس الأمر وهو التعريض بأن ريباً في غيره من الكتب كما أن في قوله : ( لا فيها غول ) [ الصافات : 47 ] تعريضاً بأن خمور الدنيا تغتال العقول .
وقرأ أبو الشعثاء ( لا ريب ) فيه بالرفع .
قيل : والفرق بينها وبين المشهورة ، أن المشهورة توجب الاستغراق ، وهذه تجوزه .
ويمكن أن يقال : كلاهما يوجب الاستغراق إلا أن الأول بطريق نفي الماهية ، والثاني لأن قوله ( لا ريب ) جواب قول القائل هل ريب فيه ، وهذا يفيد ثبوت فرد واحد فنقيضه يكون سلب جميع الأفراد .(1/137)
" صفحة رقم 138 "
البحث الرابع في قوله ( هدى للمتقين ) وفيه مسائل : الأولى : في حقيقة الهدى هو مصدر على فعل كالسرى وهو على الأصح عبارة عن الدلالة .
وقيل : بشرط كونها موصلة إلى البغية بدليل وقوعه في مقابل الضلالة ) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) [ البقرة : 16 ] ولأنه يقال مهدي في معرض المدح .
فلو احتمل أن يقال هدى فلم يهتد لم يكن مدحاً ، ولأن مطاوعه ( اهتدى ) فيلزمه .
وأجيب بأن مقابل الضلالة الاهتداء لا الهدى .
وبأن قولنا ( مهدي ) إنما أفاد المدح لأنه من المعلوم أن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت كالعدم ، وبالمنع من أن اهتدى لازم هدى لزوماً كلياً إذ يصح في العرف أن يقال : هديته فلم يهتد ، قال عز من قائل : ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) [ فصلت : 17 ] وقال بعضهم : الهدى الاهتداء ، فإن زعم مطلقاً فخطأ لوقوع صفة للقرآن ، وإن زعم حيناً فصحيح لوقوعه في مقابلة الضلالة .
الثانية : المتقي اسم فاعل من وقاه فاتقى .
والوقاية فرط الصيانة ، وهذه الدابة تقي من وجئها إذا أصابها طلع من غلظ الأرض ورقة الحافر فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء .
وهو في الشرع المؤتمر للمأمورات المجتنب عن المحظورات .
واختلف في الصغائر أنه إذا لم يتقها فهل يستحق هذا الاسم ؟ روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس ) فحقيقة التقوى الخشية ) يا أيها الناس اتقوا ربكم ) [ لقمان : 33 ] وقد يراد بها الإيمان ) وألزمهم كلمة التقوى ) [ الفتح : 26 ] أي التوحيد .
وقد يراد التوبة ) ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا ) [ الأعراف : 96 ] أي تابوا .
وقد يراد الطاعة ) أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ) [ النحل : 2 ] وقد يراد ترك المعصية ) وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله ) [ البقرة : 189 ] وقد يراد الإخلاص ) فإنها من تقوى القلوب ) [ الحج : 32 ] أي من إخلاصها والتقوى مقام شريف ) إن الله مع الذين اتقوا ) [ النحل : 128 ] ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) [ البقرة : 197 ] ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) [ الحجرات : 13 ] وعن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده ) وقال علي عليه السلام : التقوى ترك الإصرار على المعصية ، وترك الاغترار بالطاعة .
وعن إبراهيم بن أدهم : أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً ، ولا الملائكة المقربون في أفعالك عيباً ، ولا ملك العرش في سرك عيباً .
الواقدي : أن تزين سرك للحق كما زينت ظهرك للخلق .
ويقال : التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك .
ولله در القائل : خل الذنوب صغيرها .
وكبيرها فهو التقي .(1/138)
" صفحة رقم 139 "
كن مثل ماش في طري
ق الشوق يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة
إن الجبال من الحصى
وفي قوله ( هدى للمتقين ) ثم في موضع آخر ) شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس ) [ البقرة : 185 ] دليل على أن الناس محصورون في المتقين ، والباقون ) كالأنعام بل هم أضل ) [ الأعراف : 179 ] .
الثالثة : لم اختص كون القرآن هدى للمتقين ، وأيضاً المتقي مهتد فكيف يهتدي ثانياً ؟ والجواب أن المتقين لما كانوا هم المنتفعين بالهداية خصوا بالذكر مدحاً لهم كقوله تعالى ) إنما أنت منذر من يخشاها ) [ النازعات : 45 ] ( إنما تنذر من اتبع الذكر ) [ يس : 11 ] مع أنه ( صلى الله عليه وسلم ) منذر كل الناس .
وأيضاً قوله ( هدى للمتقين ) كقولك للعزيز المكرم ( أعزك الله وأكرمك ) تريد طلب الزيادة واستدامة ما هو ثابت فيه .
وبوجه آخر سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين نحو ( من قتل قتيلاً فله سلبه ) فهذا مجاز من باب تسمية الشيء بما هو آيل إليه واللطف فيه أنه لو قال هدى للصائرين غلى التقوى بعد افضلال كان إطناباً في غير موضعه ، فإن تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده هو اللائق بالمقام ، فاختص الكلام فإجرائه على الطريقة التي ذكرنا .
فإن قلت : كيف وصفت القرآن بأنه كله هدى وفيه مجمل ومتشابه لا يهتدي فيه إلى المقصود إلا بحكم العقل ، فيكون الهدى في ذلك للعقل لا للقرآن ؟ ومما يؤكد ما قلنا ، ما نقل عن علي عليه السلام أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولاً غلى الخوارج : لا تحتج عليهم بالقرآن فإنه خصم ذو وجهين .
ولهذا كان فرق الإسلام المحق منهم والمبطل يحتجون به ، قلنا : المتشابه لما لم ينفك عما يبين المراد معه على التعيين عقلاً كان أو سمعاً صار كله هدى .
فإن قيل : كل ما يتوقف صحة كون القرآن هدى على صحته كمعرفة الله تعالى وصفاته وكمعرفة النبوة ، فالقرآن ليس هدى فيه فكيف جعل هدى على الإطلاق ؟ قلنا : المراد كونه هدى في تعريف الشرائع والمطلق لا يقتضي العموم ، أو كونه هدى في تأكيد ما في العقول أيضاً فيعم .
الرابعة : محل ( هدى للمتقين ) الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر مع ( لا ريب فيه ) لذلك أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدم خبراً عنه ، ويجوز أن ينتصب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أنه يقال : ( الم ) جملة(1/139)
" صفحة رقم 140 "
برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها ، و ( ذلك الكتاب ) جملة ثانية ، و ( لا ريب فيه ) ثالثة ، و ( هدى للمتقين ) رابعة .
وفقد العاطف بينها لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بحجرة بعض ، لأنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير غليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريراً لجهة التحدي ، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان تسجيلاً بكماله ، فلا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، ثم في كل من الجمل نكتة ذات جزالة .
ففي الأولى الحذف والرمز غلى الغرض بألطف وجه وأرشقه كما مر في الوجه الثامن ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة أي الكتاب الذي يستأهل أن يقال له الكتاب ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر الذي هو هدى موضع هاد وإيراده منكراً والإيجاز في ذكر المتقين .
البحث الخامس في قوله تعالى ) الذين يؤمنون بالغيب ( .
الآية وفيه مسائل : الأولى : ( ) الذين يؤمنون ( إما موصول بالمتقين صفة ، أو نصب على المدح ، أو رفع كذلك بتقدير أعني الذين ، أو هم الذين ، أو مرفوع بالابتداء مخبر عنه ) بأولئك على هدى ( .
الثانية : ( الذين يؤمنون ( على تقدير كونه صفة يكون إما وارداً بياناً وكشفاً وذلك إذا فسر المتقي بأنه الذي يفعل الحسنات ويجتنب السيئات ، لأن الإيمان أساس الحسنات والصلاة أم العبادات البدنية قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الصلاة عمادة الدين ( ) وبين العبد وبين الكفر ترك الصلاة ( والزكاة أفضل العبادات المالية قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الزكاة قنطرة الإسلام ( فاختصر الكلام اختصاراً بذكر ما هو كالعنوان لسائر الطاعات وكالأصول لبواقي الحسنات ويندرج فيها اجتناب الفواحش والمنكرات لقوله عز من قائل ) إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) [ العنكبوت : 45 ] وإما مسرودة مع المتقين مفيدة غير فائدتها وذلك إذا فسر المتقي بالمجتنب عن المعاصي فقط .
ثم إنه يكون قد وصف بالإيمان وهو فعل القلب وبأداء الصلاة والزكاة وهما من أفعال الجوارح ، وهذا ترتيب مناسب لأن لوح القلب يجب تخليته عن النقوش الفاسدة أولاً ، ثم تحليته بالعقائد الحقة والأخلاق الحميدة ، وإما معدودة عداً على سبيل المدح والثناء وذلك إذا فرض المتقي موسوماً بهذه السمات ، مشهوراً بهذه(1/140)
" صفحة رقم 141 "
الصفات ، غير محتاج لذلك إلى البيان والإيضاح كصفات الله الجارية عليه تعالى تمجيداً وتعظيماً .
الثالثة الإيمان إفعال من الأمن .
يقال : أمنته وآمنته غيري .
ثم يقال : أمنه إذا صدقه .
وحقيقته أمنه التكذيب .
والمخالفة والتعدية بالباء لتضمينه معنى أقر واعتبر ووثق به .
قال في التفسير الكبير : اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان على أربعة أقوال : الأول : قول المعتزلة والخوارج والزيدية وأهل الحديث أنه اسم لأفعال القلوب واللسان والجوارح ، لكن المعتزلة قالوا : الإيمان إذا عدي بالباء فمعناه التصديق على تضمين الإقرار أو الوثوق كما مر من حيث اللغة وأما غذا ذكر مطلقاً فمنقول إلى معنى آخر وهو أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه ويصدقه بعمله .
فمن أخل بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق ، ومن أخل بالشهادة فهو كافر ، ومن أخل بالعمل فهو فاسق .
ثم اختلفوا فبعضهم - كواصل بن عطاء والقاضي عبد الجبار - قالوا : الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة ، أو من باب الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات .
وبعضهم - كأبي علي وأبي هاشم - إنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل ، وبعضهم - كالنظام - إنه عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد .
ثم يحتمل أن يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد ، فالمؤمن عند الله من اجتنب كل الكبائر ، والمؤمن عندنا من اجتنب كل ما ورد فيه الوعيد .
والخوارج قالوا : الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلاً عقلياً أو نقلياً من الكتاب والسنة ، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً .
فمجموع هذه الأشياء هو الإيمان وترك خصلة من هذه الخصال كفر ، وأهل الحديث ذكروا وجهين : الأول : أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة .
وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة .
وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ، ثم كل معصية بعده كفر على حدة ، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار ، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجحود والإنكار .
الثاني : أن الإيمان اسم للطاعات كلها فريضة أو نافلة إلا أنه إذا ترك فريضة انتقض إيمانه ، وإن ترك نافلة لم ينتقض .
ومنهم من قال : الإيمان اسم للفرائض دون النوافل .
( القول الثاني ) : قول من قال الإيمان بالقلب واللسان معاً .
ثم اختلفوا على مذاهب : الأول : أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالجنان وهو مذهب أبي حنيفة وعامة الفقهاء ، ثم اختلفوا في موضعين : أحدهما في حقيقة هذه المعرفة ، فمنهم من قال : هي الإعتقاد الجازم سواء كان اعتقاداً تقليدياً أو علماً صادراً عن الدليل وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلد مسلم ، ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال .
وثانيهما في أن العلم المعتبر في تحقق الإيمان علم بماذا ؟ قال(1/141)
" صفحة رقم 142 "
بعض المتكلمين : هو العلم بالله وبصفاته على سبيل التمام والكمال ، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى فلا جرم أقدم كل طائفة على تكفير من عداها من الطوائف ، والإنصاف أن المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فعلى هذا العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم أو بذاته أو مرئياً وغير مرئي لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان .
والمذهب الثاني : أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً وهو مذهب أبي الحسن الأشعري وبشر المريسي ، والمراد من التصديق الكلام القائم بالنفس .
المذهب الثالث : كلام بعض الصوفية الإيمان إقرار باللسان وإخلاص بالقلب .
( القول الثالث ) : قول من قال الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط ، فمن هؤلاء من قال : الإيمان معرفة الله بالقلب حتى إن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقر به فهو مؤمن كامل الإيمان وهو قول جهم بن صفوان ، وزعم أن معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر غير داخلة في حقيقة الإيمان .
وحكى الكعبي عنه أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
ومنهم من قال : الإيمان مجرد التصديق بالقلب .
( القول الرابع ) .
قول من قال الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ، ثم منهم من قال : شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب .
ومنهم من قال : لا حاجة بنا إلى هذا الشرط أيضاً بل المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة يثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة وهذا قول الكرامية ، ثم قال الإمام رحمه الله تعالى : عندي أن الإيمان عبارة عن التصديق بكل ما عرف بالضرورة كونه من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع الإعتقاد فههنا قيود : الأول أن الإيمان عبارة عن التصديق ، وذلك أن الإيمان أكثر الألفاظ دوراناً على ألسنة المسلمين ، فلو صار منقولاً إلى غير مسماه الأصلي لتوفرت الدواعي على نقل هذا النقل وتواتر وليس كذلك .
وأيضاً الإيمان المعدّى بالباء على أصله اتفاقاً ، فغير المعدى ايضاً يكون كذلك كلما ذكر الله تعالى الإيمان في القرآن اضافه إلى القلب ) وقلبه مطمئن بالإيمان ) [ النحل : 106 ] ( كتب في قلوبهم الإيمان ) [ المجادلة : 22 ] ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) [ الحجرات : 14 ] وأيضاً قرن الإيمان بالعمل الصالح ، ولو كان العمل داخلاً في الإيمان لزم التكرار .
وأيضاً قرن الإيمان بالمعاصي ) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) [ الأنعام : 83 ] ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) [ الحجرات : 9 ] ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ) [ الأنفال : 72 ] ومع عظيم الوعيد في ترك الهجرة .
قال ابن عباس في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص ) [ البقرة : 178 ] إنما يجب القصاص على القاتل المتعمد ، ومع ذلك يدخل في الخطاب .
ثم قال : ( فمن عفى له من أخيه شيء ) [ البقرة : 178 ] وهذه الأخوة ليست إلا(1/142)
" صفحة رقم 143 "
أخوة الإيمان ) إنما المؤمنون إخوة ) [ الحجرات : 10 ] ثم قال : ( ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ) [ البقرة : 178 ] وهذا لا يليق إلا بالمؤمن .
القيد الثاني : أن الإيمان ليس عبارة عن تصديق اللسان لقوله تعالى ) ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) [ البقرة : 108 ] .
القيد الثالث : ليس عبارة عن مطلق التصديق لأن من صدق بالجبت والطاغوت لا يسمى مؤمناً .
القيد الرابع : لا يشترط التصديق بجميع صفات الله تعالى لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اعتقها فإنها مؤمنة ) بعد قوله عليه الصلاة والسلام لها أين الله ؟ قالت : في السماء .
ويعلم مما ذكرنا أن من عرف الله بالدليل ، ولما تم العرفان مات ووجد من الوقت ما أمكنه التلفظ بكلمة الشهادة لكنه لم يتلفظ بها كان مؤمناً ، وكان الامتناع عن النطق جارياً مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان ، وبهذا حكم الغزالي رضي الله عنه قلت : - وبالله التوفيق - : التحقيق في المقام أن للإيمان وجوداً في الأعيان ووجوداً في الأذهان ووجوداً في العبارة .
ولا ريب أن الوجود العيني لكل شيء هو الأصل ، وباقي الوجودات فرع وتابع .
فالوجود العيني للإيمان هو النور الحاصل للقلب بسبب ارتفاع الحجاب بينه وبين الحق جل ذكره ) الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) [ البقرة : 257 ] وهذا النور قابل للقوة والضعف والاشتداد والنقص كسائر الأنوار ) وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ) [ الأنفال : 2 ] كلما ارتفع حجاب ازداد نوراً فيتقوى الإيمان ويتكامل إلى أن ينبسط نوره فينشرح الصدر ويطلع على حقائق الأشياء وتتجلى له الغيوب وغيوب الغيوب فيعرف كل شيء في موضعه ، فيظهر له صدق الأنبياء عليهم السلام ولا سيما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم النبيين في جميع ما أخبروا عنه إجمالاً أو تفصيلاً على حسب نوره ، وبمقدار انشراح صدره ، وينبعث من قلبه داعية العمل بكل مأمور والاجتناب عن كل محظور ، فينضاف غلى نور معرفته أنوار الأخلاق الفاضلة والملكات الحميدة ) نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ) [ التحريم : 8 ] ( نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ) [ النور : 35 ] وأما الوجود الذهني فبملاحظة المؤمن لهذا النور ومطالعته له ولمواقعه ، وأما الوجود اللفظي فخلاصته ما اصطلح عليه الشارع بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولا يخفى أن مجرد التلفظ بقولنا ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من غير النور المذكور لا يفيد إلا كما يفيد للعطشان التلفظ بالماء الزلال دون التروي به ، إلا أن التعبير عما في الضمير لما لم يتيسر إلا بواسطة النطق المفصح عن كل خفي والمعرب عن كل مشتبه ، كان للتلفظ بكلمة الشهادة ولعدم التلفظ بها مدخل عظيم في الحكم بإيمان المرء وكفره ، فصح جعل ذلك وما ينخرط في سلكه من العلامات ، كعدم لبس الغيار وشد الزنار دليلاً عليهما ، وتفويض أمر الباطن(1/143)
" صفحة رقم 144 "
إلى عالم الخفيات المطلع على السرائر والنيات ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) .
الرابعة : يجوز أن يكون بالغيب صلة للإيمان أي يعترفون أو يثقون به ، وعلى هذا يكون الغيب بمعنى الغائب ما تسمية بالمصدر كما سمى الشاهد بالشهادة قال الله تعالى : ( عالم الغيب والشهادة ) [ الرعد : 9 ؛ المؤمنون : 92 ؛ التغابن : 18 ] والعرب تسمي المطئمن من الأرض غيباً ، وإما أن يكون مخفف فيعل والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير ، وإنما نعلم منه نحن ما أعلمناه أو نصب لنا دليل عليه ، ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال : فلان يعلم الغيب ، وذلك نحو الصانع وصفاته والنبوات وما يتعلق بها والبعث والنشور والحساب والوعد والوعيد وغير ذلك .
ويجوز أن يكون بالغيب حالاً ، والغيب بمعنى الغيبة والخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته متلبسين بالغيب نحو ) الذين يخشون ربهم بالغيب ) [ الأنبياء : 49 ] ( ليعلم أني لم أخنه بالغيب ) [ يوسف : 52 ] وفيه تعريض بالمنافقين حيث إن باطنهم يخالف ظاهرهم وغيبتهم تباين حضورهم ) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ) [ البقرة : 14 ] وقال بعض الشيعة : المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعد الله في القرآن .
وورد في الخبر ) وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض ) [ النور : 55 ] ( لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أمتي يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ) الخامسة : معنى إقامة الصلاة أحد ثلاثة اشياء : إما تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها من أقام العود إذا قومه ، وإما الدوام عليها والمحافظة ) والذين هم على صلاتهم دائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون ) [ المعارج : 23 ، 24 ] من قامت السوق إذا نفقت وأقامها .
قال الأسدي : أقامت غزالة سوق الضراب .
لأهل العراقين حولاً قميطاً .
غزالة اسم امرأة شبيب الخارجي ، قتله الحجاج فحاربته سنة تامة .
والضراب القتال ، والعراقان الكوفة والبصرة ، وقميطاً أي كاملاً لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ، وإما التجلد والتشمر لأدائها وأن لا يكون في مؤديها فتور عنها ولا توان من قولهم : قام في الأمر(1/144)
" صفحة رقم 145 "
خلاف تقاعد عنه ، فعبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت ، والقنوت القيام - وبالركوع والسجود والتسبيح ) يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي ) [ آل عمران : 43 ] ( فلولا أنه كان من المسبحين ) [ الصافات : 143 ] ولا يخفى أن إقامة الصلاة بجميع هذه المعاني تستحق المدح والثناء .
السادسة : الصلاة في عرف الشرع عبارة عن إلهيات والأقوال المخصوصة التي مفتتحها التحريم ومختتمها التسليم فرضاً كانت أو نفلاً ، إلا أنه يحتمل أن يقال المراد بها في الآية الفرض لأن الفلاح قد نيط بها في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) وللأعرابي أفلح والله إن صدق بعد قول الأعرابي ( والله لا أزيد على هذه ولا أنقص ) أي على الصلوات المفروضة .
واشتقاقها لغة إما من الصلاة بمعنى الدعاء قال الأعشى :
وقابلها الريح في دنها
وصلى على دنها وارتسم
أي وضع عليها الرسم وهو الخاتم وإما من قولهم ( صليت العصا بالنار ) إذا لينتها وقومتها قال :
فلا تعجل بأمرك واستدمه
فما صلي عصاك كمستديم
والمصلي يسعى في تعديل ظاهره وتقويم باطنه كالخشب الذي يعرض على النار .
وإما من قولهم ( صلى الفرس ) إذا جاء مصلياً أي ملازماً للسابق ، لأن رأسه عند صلاة ، والصلا ما عن يمين الذنب وشماله ، والمصلي ملازم لفعله من حين شروعه إلى أوان فراغه .
والصلاة اسم وضع موضع المصدر يقال : صليت صلاة ولا يقال تصلية .
قال في الكشاف : الصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى .
وكتبها بالواو على لفظ المفخم .
وحقيقة صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده ، ولا يخفى ما فيه من التعسف .
السابعة : الرزق لغة هو ما ينتفع به ، فيشمل الحلال والحرام والمأكول وغيره والمملوك وغيره ، والمعتزلة ومن يجري مجراهم زادوا قيداً آخر وهو أن لا يكون ممنوعاً عن الانتفاع به ، وعلى هذا لا يكون الحرام عندهم رزقاً .
قال في الكشاف : إسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال المطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله تعالى ويسمى رزقاً منه .
وأدخل ( من ) التبعيضية صيانة لهم وكفاً عن الإسراف والتبذير المنهي عنه ، وقدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم كأنه قال : ويخصون بعض المال الحلال بالتصدق به ، والحق أن التمكين من الانتفاع بالمرزوق مسند إلى الله تعالى على الإطلاق ، إذ كل بقدرته إلا أن مذهب المعتزلة غلى الأدب أقرب ، ولا سيما في هذا المقام ليستحقوا المدح بالإنفاق منه .
الثامنة : أنفق الشيء وأنفده أخوان ، وكل ما فاؤه نون وعينه فاء يدل على معنى الخروج والذهاب ، وما يقرب منه ويدخل في هذا الإنفاق الواجب من الزكاة التي هي أخت الصلاة وشقيقتها ، ومن الإنفاق على النفس وعلى من تجب نفقته ، ومن الإنفاق في الجهاد .
ويمكن أن يتناول(1/145)
" صفحة رقم 146 "
كل منفق في سبيل الخير للإطلاق قال تعالى ) وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت ) [ المنافقون : 10 ] والمراد به الصدقة لقوله ) فأصدّق وأكن من الصالحين ) [ المنافقون : 10 ] .
البحث السادس : في قوله تعالى و ( الذين يؤمنون ) الآية .
وفيه مسائل : الأولى : يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه الذين اشتمل إيمانهم على كل وحي نزل من عند الله ، سالف أو مترقب سبيله سبيل السالف لكونه معقوداً بعضه ببعض ومربوطاً آتيه بماضيه ، وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ، وأن النار لن تمسهم إلا اياماً معدودات ، وأن أهل الجنة لا يتلذذون إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ ونحو ذلك .
فيكون المعطوف غير المعطوف عليه إما مغايرة المباينة وذلك إذا أريد بالأولين كل من آمن ابتداء بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) من غير إيمان قبل ذلك بموسى وعيسى عليهما السلام ، وإما مغايرة الخاص للعام وذلك إذا أريد بالأولين كل من آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما السلام أو لم يكن .
ويكون السبب في ذكر هذا الخاص بعد العام إثبات شرف لهم وترغيباً لأمثالهم في الدين ، ويحتمل أن يراد بهؤلاء الأولون ، ووسط العاطف على معنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه كقوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
يا لهف زيابة للحارث ال
صابح فالغانم فالآئب
الثانية : قال في التفسير الكبير : المراد من إنزال الوحي أن جبريل سمع في السماء كلاماً لله تعالى فنزل على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كما يقال : نزلت رسالة الأمير من القصر .
والرسالة لا تنزل لكن المستمع يستمع الرسالة في علو فينزل فيؤدي في سفل .
وقول الأمير لا يفارق ذاته ، ولكن السامع يسمع فينزل ويؤدي بلفظ نفسه .
قال : فإن قيل : كيف سمع جبريل كلام الله وكلامه ليس حرفاً ولا صوتاً عندكم ؟ قلنا : يحتمل أن يخلق الله له سمعاً لكلامه ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم .
ويجوز أن يكون خلق الله في اللوح المحفوظ كتابه بهذا النظم المخصوص فقرأه جبرائيل فحفظه ، ويجوز أن يخلق أصواتاً مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فيتلقفه جبرائيل ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام .
وأقول : إنك إذا تأملت ما أشرت إليه في المقدمة العاشرة من مقدمات الكتاب انكشف لك الغطاء عن هذه المسالة .
الثالثة : الإيمان بجميع الكتب السماوية أعني التصديق بها واجب ، لأن الفلاح منوط(1/146)
" صفحة رقم 147 "
بذلك .
فيجب تحصيل العلم بما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) التفصيل ليقوم بواجبه علماً وعملاً ، لكنه فرض كفاية لقوله تعالى ) وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ) [ التوبة : 122 ] الآية .
وأما المنزل على الأنبياء المتقدمين فالإيمان به واجب على الجملة لن الله تعالى ما تعبدنا الآن به حتى يلزمنا معرفتها مفصلة ، لكنها إن عرفنا شيئاً من تفاصيلها فهناك يجب علينا الإيمان بتلك التفاصيل .
الرابعة : الآخرة صفة الدار تلك الدار الآخرة وهي من الصفات الغالبة تأنيث الآخر نقيض الأول وكذلك الدنيا تأنيث الأدنى لأنها أقرب ، واليقين هو العلم بالشيء ضرورة أو استدلالاً بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه ، ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه متيقن ولا يقال تيقنت أن السماء فوقي أو أني موجود .
وفي تقديم الآخرة وبناء ( يوقنون ) على ( هم ) تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته ومن غير إيقان ، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل على محمد وعلى غيره من الأنبياء ، وهذا في معرض المدح ومعلوم أنه لا يمدح بتيقن وجود الآخرة فقط ، بل به وبما يتبعه من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة والكافرين النار .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا عجباً كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه ، وعجباً ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الآخرة ، وعجباً ممن ينكر البعث والنشور وهو كل يوم يموت ويحيا - يعني النوم واليقظة - وعجباً ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور ، وعجباً من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة ) .
البحث السابع : في قوله تعالى ( أولئك على هدى من ربهم ) الآية وفيه مسائل : الأولى : في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه : أحدها نوى الابتداء ( بالذين يؤمنون بالغيب ) على سبيل الاستئناف و ( أولئك على هدى ) الجملة خبره ، كأنه لما قيل ( هدى للمتقين ) فخص المتقون بأن الكتاب لهم هدى ، اتجه لسائل أن يسأل فيقول : ما بال المتقين مخصوصين بذلك ؟ فأجيب بأن الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم أحقاء بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح .
وهذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث نحو : قد أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان ، وتارة بإعادة صفته مثل : أحسنت غلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك .
فيكون الاستئناف بإعادة صفته مثل : أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك .
فيكون الاستئناف بإعادة الصفة كما في الآية أحسن وأبلغ لنطوائها على بيان الموجب وتلخيصه .
وثانيها : أن يجعل ( الذين ) و ( الذين ) تابعاً للمتقين ، ويقع الاستئناف على ( أولئك ) كأنه قيل : ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى ؟ فقيل : أولئك الموصوفون غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً .
وثالثها : أن يجعل الموصول الأول صفة للمتقين ويرفع الثاني على الابتداء ، و ( أولئك )(1/147)
" صفحة رقم 148 "
خبره ، ويكون اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون في أنهم سيفلحون عند الله تعالى والفضل من هذه الوجوه لأولها لأن الكلام المبني على السؤال والجواب أكثر فائدة ، ولأن الاستئناف بإعادة الصفة أبلغ ولأن السؤال على الوجه الأخير كالضائع ، لأن موجبات اختصاصهم بالهدى قد علمت .
وأيضاً إنه يجعل الموصولين تابعاً والوجه الأول يجعل الموصول الأول ركناً من الكلام .
الثانية : الاستعلاء في قوله ( على هدى ) مثل لتمكنهم من الهدى كقولهم ( هو على الحق وفلان على الباطل ) وقد يصرح بذلك فيقال : جعل الغواية مركباً ، وامتطى الحق ، واقتعد غارب الهوى .
ومعنى ( هدى من ربهم أي نحوه من عنده وأوتوه من قبله ، وهو إما اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير والترقي من الأفضل لأفضل ، وإما الإرشاد إلى الدليل الموجب للثبات على ما اعتقدوه والدوام على ما عملوه .
ونكر ) هدى ( ليفيد ضرباً من المبالغة أي هدى لا يبلغ كنهه .
قال الهذلي :
فلا وأبي الطير المربة بالضحى
على خالد لقد وقعت على لحم
أي لحم وأي لحم .
وأربّ بالمكان إذا أقام به ، والأب مقحم للاستعظام إذ الكنى إنما بعضهم الهدى من الله كثير ولا يبصره إلا بصير ولا يعمل به إلا يسير ، ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء ولا يهتدي بها إلا العلماء ؟ الثالثة : في تكرير ( أولئك ) تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح فتميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين .
ووسط العاطف بينهما لاختلاف خبريهما بخلاف قوله ) أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ) [ الأعراف : 179 ] فإن التسجيل عليهم بالغفلة وعدّهم من جملة الأنعام شيء واحد .
الرابعة : ( هم ) فصل وفائدته بعد الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة التوكيد ، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره .
ويحتمل أن يكون ( هم ) مبتدأ و ( المفلحون ) خبره ، والجملة خبر ( أولئك ) .
الخامسة : المفلح الفائز بالبغية ، والمفلج بالجيم مثله كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر .
وكذلك أخواته في الفاء والعين تدل على معنى الشق والفتح نحو : فلق ، وفلذ ، ومنه(1/148)
" صفحة رقم 149 "
سمي الزارع فلاحاً .
ومعنى التعريف في ( المفلحون ) إما العهد أي المتقون هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة ، أو الجنس على معنى أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة كما تقول لصاحبك : هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام إن زيداً هو هو .
فانظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة ، فإن في ذكره أيذاناً بأن ما يرد عقيبه .
فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عددت لهم ، وتكرير اسم الإشارة وتعريف المفلحين وتوسيط الفصل ، اللهم زينا بلباس التقوى واحشرنا في زمرة من صدّرت بذكرهم أولى الزهراوين .
قد ورد في الخبر ( يحشر الناس يوم القيامة ) ثم يقول الله عز وجل لهم : ( طالما كنتم تتكلمون وأنا ساكت فاسكتوا اليوم حتى أتكلم ، إني رفعت نسباً وأبيتم إلا أنسابكم قلت : إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأبيتم أنتم فقلتم : لا بل فلان ابن فلان ، فرفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي ، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم ، فسيعلم أهل الجمع من أصحاب الكرم أين المتقون ) فليأخذ العاقل بحكمة الله تعالى وهو نوط الثواب وتعليق العقاب بالعمل الصالحوالسيء إلا بما هو غير مضبوط من عفوه عن بعض المذنبين وردّة طاعة بعض المطيعين ، كما أن حكمته لما اقتضت ترتب الشبع والري على الأكل والشرب لم يعهد الاتكال على ما يمكن أن يقع بالنسبة إلى قدرته من إشباع شخص أو إروائه من غير تناول الطعام والشراب أو بالعكس ، وهذه نكتة شريفة ينتفع بها من وفق لها إن شاء الله .
( البقرة : ( 6 - 7 ) إن الذين كفروا . . . .
" إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم " ( القراآت : ( أأنذرتهم ) بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن ذكوان .
وروى الحلواني عن هشام ( آءنذرتهم ) بهمزتين بينهما مدة ، والباقون يهمزون الأولى ويلينون الثانية .
والتليين جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركة الهمزة .
( وعلى أبصارهم ) ممالة : أبو عمرو وعلي غير ليث وابن حمدون وحمدويه وحمزة ، وفي رواية ابن سعدان وأبي عمرو .
كذلك قوله عز وجل ) بقنطار ( و ) بالأسحار ( و ) كالفخار ( و ) الغار ( و ) من أنصار ( و ) أشعارها ( وأشباه ذلك حيث كان يعني إذا كان قبل الألف حرف مانع وبعدها راء مكسورة في موضع اللام ، لأن الراء المكسورة تغلب الحروف المستعلية .
( غشاوة ) بالفصل .
وقرأ حمزة في رواية خلف وابن سعدان وخلف لنفسه .
وأبو إسحق إبراهيم بن أحمد عن أبي الحرث عن علي وورش من طريق البخاري مدغمة(1/149)
" صفحة رقم 150 "
النون والتنوين في الواو في جميع القرآن .
( عظيم ) بالإشمام في الوقف ، وكذلك إذا كانت الكلمة مكسورة : حمزة وعلي وخلف وهو الاختيار عندنا .
الوقوف : ( لا يؤمنون ) ( 5 ) ( على سمعهم ) ( ط ) لأن الواو للاستئناف .
( غشاوة ) ( ز ) لأن الجملتين وإن اتفقتا نظماً فالأولى بيان وصف موجود ، والثانية إثبات عذاب موعود .
( عظيم ) ( 5 ) التفسير : وفيه مسائل : الأولى : فيما يتعلق بأن أما عمله من نصب الاسم ورفع الخبر فمعلوم من علم النحو .
وأما فائدته فما ذكره المبرد في جواب الكندي من أن قولهم ( عبد الله قائم ) إخبار عن قيامه ، وقولهم : ( إن عبد الله قائم ) جواب عن سؤال سائل ، وقولهم : ( إن عبد الله لقائم ) جواب عن إنكار منكر لقيامه .
وقد يضاف إليه القسم أيضاً نحو ( والله إن عبد الله لقائم .
قال أبو نواس :
عليك باليأس من الناس
إن غنى نفسك في اليأس
حسن موقع ) إن ( لأن الغالب على الناس خلاف هذا الظن ، وقد يجيء إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لم يوجد كقولك ) إنه كان مني إليه إحسان فقابلني بالسوء ( وكأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ فيما توهمت كقوله تعالى حكاية عن أم مريم ) قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت ) [ آل عمران : 36 ] وكذلك قول نوح ) رب إن قومي كذبون ) [ الشعراء : 117 ] .
الثانية : لما قدم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم الموجبة لامتداحه إياهم بها ، عقب ذلك بذكر أضدادهم وهم المردة من الكفار الذين لا ينجع فيهم الهدى وسواء عليهم الإنذار وعدمه .
وإنما فقد العاطف بين القصتين خلاف ما في نحو قوله تعالى ) إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ) [ الانفطار : 13 ، 14 ] لتباين الجملتين ههنا في الغرض والأسلوب ، إذ الأولى مسبوقة بذكر الكتاب وإنه هدى للمتقين ، والثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت ، وذلك إذا جعلت ( الذين يؤمنون ) مبتدأ و ( أولئك ) خبره ، لأن الكلام المبتدأ على سبيل الاستئناف مبني على تقدير سؤال ، وذلك إدراج له في حكم المتقين وتصييره تبعاً له في المعنى ، فحكمه حكم الأول .
وكذا إذا جعلت الموصول الثاني مبتدأ و ( أولئك ) خبره ، لأن الجملة برأسها من مستتبعات ( هدى للمتقين ) لارتباط بينهما من حيث المعنى .
الثالثة : التعريف في ( الذين ) إما أن يراد به ناس معهودون بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم ، وإما أن يراد به الجنس متناولاً كل من صمم على كفره(1/150)
" صفحة رقم 151 "
تصميماً لا يرعوي بعده فقط دون من عداهم من الكفار الذين أسلموا بدليل الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم .
الرابعة : الكفر نقيض الإيمان فيختلف تعريفه باختلاف تعريف الإيمان ، وقد تقدم .
وأصل الكفر الستر والتغطية ومنه الكافر لأنه يستر الحق ويجحده ، والزارع كافر لأنه يستر الحب ، والليل المظلم كافر لأنه بظلمته يستر كل شيء ، والكافر الذي كفر درعه بثوب أي غطى ولبسه فوقه .
قال في التفسير الكبير : ( كفروا ) إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي فيقتضي كون المخبر عنه متقدماً على ذلك الإخبار .
فللمعتزلة أن يحتجوا بهذا على أن كلام الله محدث ، فإن القديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير .
قلت : التحقيق في هذا وأمثاله أن كلامه تعالى أزلي إلا أن حكمته في باب التفهيم والتعليم اقتضت أن يكون كلامه على حسب وصوله إلى السامعين ضرورة كونهم متزمنين ، فكل ما هو متقدم على زمان الوصول وقع الإخبار عنه في الأزل بلفظ الماضي ، وكل ما هو متأخر عن زمان الوصول وقع الإخبار عنه بلفظ المستقبل نحو ) لتدخلن المسجد الحرام ) [ الفتح : 27 ] ( سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) [ آل عمران : 151 ] وإلا اختل نظام التفاهم والتخاطب .
ومن هذا يعلم أن قوله ) سنلقي ( ليس كونه مستقبلاً بالنظر إلى الأزل مقصوداً بالنسبة إلى المخاطبين ، وإنما المقصود استقباله بالنظر إلى زمان نزول الآية فافهم .
الخامسة : ( سواء ) اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ) تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) [ آل عمران : 64 ] ( في أربعة أيام سواء للسائلين ) [ فصلت : 10 ] يعني مستوية ، وارتفاعه على أنه خبر ( إن ) و ( أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) في موضع الفاعل أي مستو عليهم إنذارك وعدمه نحو : إن زيداً مختصم أخوه وابن عمه .
ويحتمل أن يكون أأنذرتهم أم لم تنذرهم ( في موضع الابتداء ، و ) سواء ( خبر مقدم ، والجملة خبر ) إن ( .
و إنما صح وقوع الفعل مخبراً عنه مع أنه أبداً خبر نظراً إلى المعنى كقولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن .
معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن ، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل ، فإن ) أن ( مع الفعل في تقدير المصدر على الفعل وهو النهي ، وقد جردت الهمزة .
و ) أم ( لمعنى الاستواء وسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً .
قال سيبويه : هذا مثل قولهم ) اللهم اغفر لنا أيتها العصابة ( يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام ، كما أن ذاك جرى على صورة النداء ولا نداء .
ومعنى الاستواء في الداخل عليهما ) الهمزة ( و ) أم ( استواؤهما في ع لم المستفهم ، لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن لكن لا بعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين .
والحاصل أن الاستفهام يلزمه معنيان :(1/151)
" صفحة رقم 152 "
أحدهما استواء طرفي الحكم في ذهن المستفهم ، والثاني طلب معرفة أحدهما فجرد هذا الترتيب لمعنى الاستواء وسلخ عنه الطلب .
وفائدة العدول عن العبارة الأصلية وهي سواء عليهم الإنذار وعدمه ، أن يعلم أن قطع الرجاء وحصول اليأس عنهم إنما حصل بعد إصرارهم وكانوا قبل ذلك مرجواً منهم الإيمان ، لا في علم الله تعالى بل في علمنا ، فنزلت الآية بحسب ما يليق بحالنا في باب التقرير والتصوير .
أو نقول : فائدته أن يعلم أن استواء الطرفين بلغ مبلغاً يصح أن يستفهم عنه لكونه خالياً عن شوب التخمين وترجيح أحد الطرفين بوجه ، فإن قول القائل ) الإنذار وعدمه مستويان عليهم ( يمكن أن يحمل على التقريب لا التحقيق ، بخلاف ما لو أخبر عن الأمرين بطريق الهمزة وأم فافهم .
والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي ، وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن المقام مقام المبالغة ، وتأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع .
وقوله ( لا يؤمنون ( إما جملة مؤكدة للتي قبلها ، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض .
السادسة : الختم والكتم أخوان ، لأن في الاستيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية لئلا يتوصل غليه ولا يطلع عليه .
والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لما يشتمل عليه كالعصابة والعمامة .
والقلب يراد به تارة اللحم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو محل الروح الحيواني الذي هو منشأ الحس والحركة وينبعث منه إلى سائر الأعضاء بتوسط الأوردة والشرايين ، ويراد به تارة اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنساناً وبها يستعد لامتثال الأوامر والنواهي والقيام بمواجب التكاليف ) إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ) [ ق : 37 ] .
وهي من عالم الأمر الذي لا يتوقف وجوده على مادة ومدة بعد إرادة موجده له ) إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [ النحل : 40 ] .
كما أن البدن بل اللحم الصنوبري من عالم الخلق الذي هو نقيض ذلك ) ألا له الخلق والأمر ) [ الأعراف : 54 ] .
وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة ) ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) [ الشمس : 7 ، 8 ] وبالروح ) قل الروح من أمر ربي ) [ الإسراء : 85 ] ( ونفخت فيه من روحي ) [ ص : 72 ] والسمع قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ ، تدرك صورة ما يتأدى إليه بتموج الهواء المنضغط بين قارع المحصور الراكد في تجويف الصماخ ويموّجه بشكل نفسه وتماس أمواج تلك الحركة تلك العصبة فتسمع قاله ابن سينا .
ولعل هذا في الشاهد فقط ، وأما البصر فقال ابن سينا : هي قوة مرتبة في العصبة ا لمجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام(1/152)
" صفحة رقم 153 "
ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصيقلية .
وزعم غيره أن البصر يخرج منه شيء فيلاقي المبصر ويأخذ صورته من خارج ويكون من ذلك إبصار .
وفي الأكثر يسمون ذلك الخارج شعاعاً .
والحق عندي أن نسبة البصر غلى العين نسبة البصيرة غلى القلب ، ولكل من العين والقلب نور .
أما نور العين فمنطبع فيها لأنه من عالم الخلق ، فهو نور جزئي ومدركه جزئي ، وأما نور القلب فمفارق لأنه من عالم الأمر ، وهو نور كلي ومدركه كلي .
وإدراك كل منهما عبارة عن وقوع مدركه في ذلك النور ، ولكل منهما بل لكل فرد من كل منهما حد ينتهي إليه بحسب شدته وضعفه .
ويتدرج في الضعف بحسب تباعد المرئي حتى لا يدركه ، أو يدركه أصغر مما هو عليه .
ولا يلزم من قولنا ( إن للبصر نوراً يقع في المرئي ) أن يشتد النور إذا اجتمع بصراء كثيرة في موضع واحد قياساً على أنوار الكواكب والسرج ، فإن ذلك الانضمام من خواص الأنوار المحسوسات ، والملزومات المختلفة لا تستدعي الاشتراك في اللوازم .
وهذا القدر من التحقيق في تفسير القلب والسمع والبصر كافٍ بحسب المقام .
ثم اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية ، إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم لقوله تعالى ) وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) [ الجاثية : 23 ] ولهذا يوقف على ( سمعهم ) دون ( قلوبهم ) .
وفي تكرير الجار إيذان باستقلال الختم على كل من القلب والسمع ، وإنما وحد السمع لوجوه منها : أمن اللبس كما في قوله : كلوا في بعض بطنكم تعفوا .
فإن زمانكم زمن خميص .
إذ لا يلتبس أن لكل واحد بطناً ، ولهذا إذا لم يؤمن نحو فرسهم وثوبهم والمراد الجمع رفضوه .
ومنها أن السمع في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فلمح الأصل ، ولهذا جمع الأذن في قوله ) وفي آذاننا وقر ) [ فصلت : 5 ] .
ومنها أن يقدر مضاف محذوف أي على حواس سمعهم ، ومنها الاستدلال بما قبله وبما بعده على أن المراد به الجمع مثل ) عن اليمين والشمائل ) [ النحل : 48 ] ( يخرجهم من الظلمات إلى النور ) [ البقرة : 257 ] .
السابعة : من الناس من قال : السمع أفضل من البصر ، لتقديمه في اللفظ ولأنه شرط النبوة .
فما بعث رسول اصم بخلاف البصر فمن الأنبياء من كان مبتلى بالعمى ، ولأن السمع سبب وصول المعارف ونتائج العقول إلى الفهم ، والبصر سبب وصول المحسوسات إلى المبصر .
ولأن السمع يتصرف في الجهات الست دون البصر ، ولأن فاقد السمع في الأصل فاقد النطق ، بخلاف فاقد البصر .
ومنهم من فضل البصر لأن متعلق الأبصار النور ، ومتعلق الأسماع الريح .
والبصر يرى من بعيد دون السمع ، ولأن عجائب الله تعالى في تخليق العين أكثر منها في تخليق السمع .
وقد اسمع الله كلامه موسى من غير سبق سؤال ونوقش في(1/153)
" صفحة رقم 154 "
الرؤية وفي المثل ( ليس وراء العيان بيان ) .
وفي العين جمال الوجه دون السمع .
والحق أن من فقد حساً فقد فقد علماً وهو المتوقف على ذلك الحس .
ولا ريب أن معظم العلوم يتوقف تحصيلها على البصر والإرشاد ، والتعليم على الإطلاق يتوقف على السمع .
فكل من الحواس في موضعه ضروري ، وتفضيل البعض على البعض تطويل بلا طائل ، فسبحان من دقت في كل مصنوع حكمته وأحسن كل شيء خلقه .
الثامنة : الآية الأولى فيها الإخبار بأن الذين كفروا لا يؤمنون ، والإنذار وعدمه عليهم سيان .
والآية الثانية فيها بيان السبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم والتغشية ، فاحتج أهل السنة بالآيتين ونظائرهما على تكليف ما لا يطاق ، وعلى أن الله تعالى هو الذي خلق فيهم الداعية الموجبة للكفر وختم على قلوبهم وسمعهم ومنعهم عن قبول الحق والصدق ، وكل بتقديره ولا يسأل عما يفعل .
وأما المعتزلة وأمثالهم فيقولون : كيف ينشئ فيهم الكفر ثم يقول : لم تكفرون ؟ وخلق فيهم ما به لبس الحق بالباطل ثم يقول لم تلبسون الحق بالباطل ؟ ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن الكفر باختيار العبد وقدرته .
فتأولوا الآية على انها جارية مجرى قولهم ( فلان مجبول على كذا أو مفطور عليه ) يريدون أنه بليغ في الثبات عليه ، أو على أنها تمثيل لحال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليه حتى دخلوا في زمرة الأنعام لا تعي شيئاً ولا تفقه كقولهم ( سال به الوادي ) إذا هلك ، و ( طارت به العنقاء ) إذا أطال الغيبة .
وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته ، وإنما مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي ، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء ، والشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر .
إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب في قولهم ( بنى الأمير المدينة ) أو أنهم لما ترقى أمرهم في التصميم على الكفر إلى حدّ لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء ، ثم لم يقسرهم الله ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض من التكليف ، عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم .
أو يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكماً بهم من قولهم ) قلوبنا في اكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ) [ فصلت : 5 ] ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن ت كفير المعتزلة في هذه المسألة فقال : لا ، لأنهم نزهوه عما يشبه الظلم والقبيح ولا يليق بالحكمة .
وسئل عن أهل الجبر فقال : لا ، لأنهم عظموه حتى لا يكون لغيره قدرة وتأثير وإيجاد .
وزعم الإمام فخر الدين أن إثبات الإله يلجئ إلى القول بالجبر لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع ، وإثبات الرسول يلجئ إلى القول بالقدر لأنه لو لم يقدر العبد(1/154)
" صفحة رقم 155 "
على الفعل فأيّ فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب ؟ أو نقول : لما رجعنا إلى الفطرة السليمة وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه يترجح أحدهما على الآخر إلا المرجح ، وهذا يقتضي الجبر .
ونجد تفرقة ضرورية بين حركات الإنسان الاختيارية وبين حركات الجمادات والحركات الاضطرارية ، وذلك يقتضي مذهب الاعتزال فلذلك بقيت هذه المسألة في حيز الإشكال .
قلت - وبالله تعالى التوفيق - : عندي أن المسألة في غاية الاستنارة والسطوع إذا لوحظت المبادئ ورتبت المقدمات ، فإن مبدأ الكل لو لم يكن قادراً على كل الممكنات وخرج شيء من الأشياء عن علمه وقدرته وتأثيره وإيجاده بواسطة أو بغير واسطة لم يصلح لمبدئية الكل .
فالهداية والضلالة ، والإيمان والكفر ، والخير والشر ، والنفع والضر ، وسائر المتقابلات ، كلها مستندة ومنتهية إلى قدرته وتأثيره وعلمه ورادته .
والآيات الناطقة بصحة هذه القضية كقوله تعالى ) ولو شاء لهداكم أجمعين ) [ النحل : 9 ] ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ) [ السجدة : 13 ] ( قل كل من عند الله ) [ النساء : 78 ] كثيرة .
وكذا الأحاديث ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) ( كل شيء بقدر حتى العحز والكيس ) ( احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى ) الحديث .
فهذه القضية مطابقة للعقل والنقل ، وبقي الجواب عن اعتراضات المخالف .
أما حكاية التنزيه عن الظلم والقبائح فأقول : لا ريب أنه تعالى منزه عن جميع القبائح ، ولكن لا بالوجه الذي يذكره المخالف إذ يلزم منه النقص من جهة أخرى وهو الخلل في مبدئيته للكل وفي كونه مالك الملك .
بل الوجه أن يقال : إن لله تعالى صفتي لطف وقهر ، ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك .
ولا سيما ملك الملوك ، كذلك ، غذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ، ومن منع ذلك كابر وعاند .
ولا بد لكل من الوصفين من مظهر ، فالملائكة ومن ضاهاهم من الأخيار مظاهر اللطف ، والشياطين ومن والاهم من الأشرار مظاهر القهر ، ومظاهر اللطف هم أهل الجنة والأعمال المستتبعة لها ، ومظاهر القهر هم أهل النار والأفعال المعقبة إياها .
وههنا سر وهو أن اللطف والقهر والجنة والنار إنما يصح وجود كل من كل منهما بوجود الآخر ، (1/155)
" صفحة رقم 156 "
فلولا القهر لم يتحقق اللطف ، ولولا النار لم تثبت الجنة ، كما أنه لولا الألم لم تتبين اللذة ، ولولا الجوع والعطش لم يظهر الشبع والري .
ولله در القائل : ( وبضدها تتبين الأشياء ) .
فخلق الله تعالى للجنة خلقاً يعملون بعمل أهل الجنة ، وللنار خلقاً يعملون بعمل أهل النار .
ولا اعتراض لأحد عليها في تخصيص كل من الفريقين بما خصصوا به فإنه لو عكس الأمر لكان الاعتراض بحاله .
وههنا تظهر حقيقة الشقاوة والسعادة ) فمنهم شقي وسعيد ) [ هود : 105 ] الآية : وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات ، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ) الحديث .
وإذا تؤمل فيما قلت ، ظهر أن لا وجه بعد ذلك لإسناد الظلم والقبائح إليه تعالى ، لأن هذا الترتيب والتمييز من لوازم الوجود والإيجاد كما يشهد به العقل الصريح ، ولا سيما عند المخالف القائل بالتحسين والتقبيح العقليين .
وليت شعري لم لا ينسب الظلم إلى الملك المجازي حيث يجعل بعض من تحت تصرفه وزيراً قريباً وبعضهم كناساً بعيداً لأن كلاّ منهما من ضرورات المملكة ، وينسب الظلم إليه تعالى في تخصيص كل من عبيده بما خصص به ، مع أن كلاً منهم ضروري في مقامه ؟ فهذا القائل بهدم بناء حكمته ، تعالى ، ويدعي أنه يحفظه فأفسد حين أصلح .
وأما قوله ( أي فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب ) ففي غاية السخافة ، لأنا لما بينا أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فكيف يبقى للمعترض أن يقول : لما جعل الله تعالى الشيء الفلاني سبباً وواسطة للشيء الفلاني ؟ كما أنه ليس له أن يقول مثلاً لم جعل الشمس سبباً لإنارة الأرض ؟ غاية ما في الباب أن يقول إذا علم الله تعالى أن الكافر لا يؤمن فلم يأمره بالإيمان ويبعث إليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأقول : فائدة بعث الأنبياء وإنزال الكتب بالحقيقة ترجع إلى المؤمنين الذين جعل الله بعثهم وإنزالها سبباً وواسطة لاهتدائهم ) إنما أنت منذر من يخشاها ) [ النازعات : 45 ] كما أن فائدة نور الشمس تعود إلى أصحاب العيون الصحاح .
وأما فائدة ذلك بالنسبة إلى المختوم على قلوبهم فكفائدة نور الشمس بالنسبة إلى الأكمة ) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) [ التوبة : 125 ] غاية ذلك إلزام الحجة(1/156)
" صفحة رقم 157 "
وإقامة البنية عليهم ظاهراً ) لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً ) [ القصص : 47 ] وهو بالحقيقة النعي عليهم بأنهم في أصل الخلقة ناقصون أشقياء .
وهذا المعنى ربما لا يظهر لهم أيضاً لغلاية نقصانهم كما أن الأكمة ربما لا يصدق البصراء ولا يعرف أن التقصير والنقصان منه ، وأن سائر الشرائط من محاذاة المرئي وظهور النير موجودة وإنما يعرف نقصانهم أرباب الأبصار .
وأما حديث التفرقة الضرورية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية كالرعشة مثلاً فأقول : لا ريب أن للإنسان إرادات وقوى بها يتم له حصول الملائم واجتناب المنافي ، إلا أن تلك الإرادات والقوى مستندة غلى الله تعالى ، فكأنه لا اختيار له .
والتفرقة المذكورة سببها في أن الرعشة نقصت واسطة هي الداعية ، وفي الحركة المسماة بالاختيارية زادت واسطة فافهم هذه الحقائق والإشارات واستعن بها في سائر ما يقرع سمعك من هذا القبيل ، فلعلنا لا نكررها في كل موضع حذراً من التطويل .
ومن لم يستضئ بمصباح لا يستفيد بإصباح ) والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) [ الأحزاب : 4 ] .
التاسعة : العذاب مثل النكال ؛ بناء ومعنى ، لأنك تقول : أعزب عن الشيء إذا امسك عنه كما تقول : نكل عنه .
ومنه العذاب لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده .
ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذاباً وإن لم يكن نكالاً أي عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة .
والفرق بين العظيم والكبير ، أن العظيم نقيض الحقير ، والكبير نقيض الصغير ، ويستعملان في المعاني والأعيان جميعاً .
تقول : رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره .
ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ، وهو غطاء التعامي عن آيات الله .
ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله نعوذ بالله منه .
العاشرة : ااتفق المسلمون أكثرهم على أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار .
وقال بعضهم : لا يحسن ، وفسروا قوله ( ولهم عذاب عظيم ) وكذا كل وعيد ورد في القرآن بأنهم يستحقون ذلك ، لكن كرمه يوجب عليه العفو .
وذكروا أيضاً دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح كقولهم : التعذيب ضرر خالٍ عن المنفعة لأن الله تعالى منزه عن ذلك والعبد يتضرر به ، ولو سلم أنه ينتفع به فالله قادر على إيصال النفع إليه من غير توسط ذلك العذاب ، والضرر خال عن المنافع قبيح بالبديهة .
وكقولهم : علم أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان ، فتكليفه أمراً متى لم يفعل ترتب عليه العذاب ، وما كان مستعقباً للضرر من غير نفع كان قبيحاً ، فلم يبق غلا أن يقال : لم يوجد هذا التكليف ، أو وجد لكنه لا يستعقب العقاب .(1/157)
" صفحة رقم 158 "
وكقولهم : إنه سبحانه هو الخالق لداعية المعصية ، فيقبح أن يعاقب عليها .
وكقولهم : إن العبد لو واظب على الكفر طول عمره فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه .
أترى هذا الكرم العظيم ما بقي في الآخرة ، أو سلبت عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون عن معاصيهم ، وإذا تابوا فلم لا يقبل الله منهم توبتهم ؟ ولم كان في الدنيا بحيث قال : ( ادعوني أستجب لكم ) [ غافر : 60 ] وفي الآخرة بحيث لا يجيب دعاءهم إلا بقوله ) اخسئوا فيها ولا تكلمون ) [ المؤمنون : 108 ] وأجيب بأن تعذيبهم نقل إلينا بالتواتر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلا مصير إلى إنكاره ، والشبه التي تمسكتم بها تنهدم بانهدام قاعدة الحسن والقبح .
وأقول : قد بينت بالبرهان النير في المسالة الثامنة أن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى ، وكل ما تقتضيه حكمته وكماله كان حسناً .
ومن ظن أنه قبيح كان الخلل في عقله وقصور في فهمه ، فلا قبيح في النظر إلا وهو حسن من جهات أخرى لا يعلمها إلا منشئها وموجدها .
وهل يستقبح أحد وقوع بعض الأحجار للملوك تيجاناً وبعضها للحشوش جدراناً ، أو وقوع بعض من الحديد سيفاً يتقلده الناس وبعضه نعلاً يطؤها الأفراس ، حيث يرى كلاً منهما في مصالح الوجود ضرورياً ؟ ثم العذاب وهو بالحقيقة البعد من الله تعالى لازم للكفر والعصيان ، والملزوم لا ينفك من اللازم .
وأما سبب عدم انتفاع الكافر والعاصي بالإيمان والتوبة بعد المفارقة ، فذلك أن محل الكسب هو الدنيا ، والتكليف بامتثال الأوامر والنواهي إنما وقع فيها .
فليس لأحد أن يؤخر الامتثال إلى الآخرة .
ألا ترى أنه لو قال طبيب حاذق لمريض : اشرب الدواء الفلاني في اليوم الفلاني فقصر وأخر حتى إذا مضى وقته وأشرف على الهلاك قال : إني أشرب الآن ، لم ينفعه ذلك الدواء ولا يسعه إلا الهلاك ؟ وكذا لو قال ملك لواحد : افعل الأمر الفلاني في هذا الوقت ففعله في وقت آخر لم يعد ممتثلاً ولا ينفعه الائتمار به لأن غرض الامتثال قد فات ، ولا سيما إذا فعل بعد أن يرى أمارات الغضب وعلامات العذاب ) فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده ، وخسر هنالك الكافرون ) [ غافر : 85 ] .
صدق الله العظيم .
( البقرة : ( 8 - 16 ) ومن الناس من . . . .
" ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا(1/158)
" صفحة رقم 159 "
خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين " ( القراآت : و ( من الناس ) ممالة .
قرأ قتيبة ونصير في القرآن ما كان مكسوراً .
( من يقول ) مدغمة النون والتنوين في الياء حيث وقعت : حمزة وعلي وخلف وورش من طريق النجاري .
( بمؤمنين ) غير مهموز : أبو عمرو وغير شجاع ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف وكذلك ما أشبهها من الأسماء .
( وما يخادعون ) : أبو عمرو وابن كثير ونافع .
( فزادهم الله ) وبابه مما كان ماضياً بالإمالة : حمزة ونصير وابن ذكوان من طريق مجاهد والنقاش بن الأخرم ههنا بالإمالة فقط .
( يكذبون ) خفيفاً : عاصم وحمزة وعلي وخلف .
قيل ) وغيض ( ) وجيء ( بالإشمام : علي وهشام ورويس .
( السفهاء ألا ) بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر .
( السفهاء ولا ) بقلب الثانية واواً : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وأبو جعفر ونافع .
( السفهاء وألا ) بقلب الأولى واواً .
روى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة : وكذلك ما أشبهها مما اختلف الهمزتان فيها إلا أن تكون الأولى منهما مفتوحة مثل ) شهداء إذ ( ) وجاء إخوة ( وأشباه ذلك .
( مشتهزءون ) بترك الهمزة في الحالين : يزيد وافق حمزة في الوقف وكذلك ما أشبهها ، وعن حمزة في الوقف وجهان : الحذف والتليين شبه الياء والواو .
( طغيانهم ) حيث كان بالإمالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو .
( بالهدى ) وما أشبهها من الأسماء والأفعال من ذوات الياء بالإمالة : حمزة وعلي وخلف .
وقرأ أهل المدينة بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب ، وكذلك كل كلمة تجوز الإمالة فيها وذلك طبعهم وعادتهم .
الوقوف : ( بمؤمنين ) ( م ) لما مر في المقدمة الثامنة : ( آمنوا ) ( ج ) لعطف الجملتين المتفقتين مع ابتداء النفي .
( يشعرون ) ( ط ) للآية وانقطاع النظم والمعنى ، فإن تعلق الجار بما بعده .
( مرض ) ( لا ) لأن الفاء للجزاء وكان تأكيداً لما في قلوبهم .
( مرضاً ) ( ج ) لعطف الجملتين المختلفتين .
( يكذبون ) ( 5 ) في ( الأرض ) ( لا ) لأن ( قالوا ) جواب ( إذا ) وعامله .
( مصلحون ) ( 5 ) ( لا يشعرون ) ( 5 ) ك ( كما آمن السفهاء ) ( ط ) للابتداء بكلمة التنبيه ، ومن وصل فليعجل رد السفه عليهم ( لا يعلمون ) ( 5 ) ( آمنا ) ( ج ) لتبدل وجه الكلام معنى مع أن الوصل أولى لبيان حالتيهم المتناقضتين وهو المقصود ( شياطينهم ) ( لا ) لأن ( قالوا ) جواب ( إذاً ) ( معكم ) ( لا ) تحرزاً عن قول ما لا يقوله مسلم ، وإن جاز الابتداء بإنما .
( مستهزءون ) ( 5 ) ( يعمهون ) ( 5 ) ( بالهدى ) ( ص ) لانقطاع النفس ولا يلزم العود لأن ما بعده بدون ما قبله مفهوم ( مهتدين )(1/159)
" صفحة رقم 160 "
التفسير : وفيه مباحث : المبحث الأول : في قوله تعالى ( ومن الناس من يقول ) الآية .
وفيه مسائل : الأولى : عن مجاهد قال : أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين ، وآيتان بعدها نزلتا في الكافرين ، وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين .
فأقول : أحوال القلب أربع : الإعتقاد المطابق عن الدليل وهو العلم ، والاعتقاد المطابق لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد المحق ، والاعتقاد غير المطابق وهو الجهل ، وخلو القلب عن كل ذلك .
وأحوال اللسان ثلاث : الإقرار والإنكار والسكوت .
كل منها بالاختيار أو بالاضطرار ، فيحصل من التراكيب أربعة وعشرون قسماً فلنتكلم في الأحوال القلبية ونجعل البواقي تبعاً لها في الذكر .
( النوع الأول ) : العرفان القلبي إن انضم إليه الإقرار باللسان اختياراً فصاحبه مؤمن حقاً بالاتفاق ، أو اضطراراً فهو منافق ، لأنه لولا الخوف لما أقرّ ، فهو بقلبه منكر مكذب وجوب الإقرار .
وإن انضم إليه الإنكار اضطراراً فهو مسلم لقوله تعالى ) إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) [ النحل : 106 ] أو اختياراً فهو كافر معاند .
وإن انضم إليه السكوت اضطراراً فمسلم حقاً لأنه خاف ، أو كما عرف مات فجأة فيكون معذوراً أو اختياراً فمسلم أيضاً عند الغزالي وعند كثير من الأئمة لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) .
( النوع الثاني ) الإعتقاد التقليدي إن وجد معه الإقرار اختياراً فهو المسالة المشهورة من أن المقلد مؤمن أم لا ، والأكثرون على إيمانه .
أو اضطراراً فمنافق بالطريق الأولى كما مر في النوع الأول .
وإن وجد معه الإنكار اختياراً فلا شك في كفره ، أو اضطراراً فمسلم عند من يحكم بإيمان المقلد .
وإن وجد معه السكوت اضطراراً فمسلم بناء على إسلام المقلد ، أو ا ختياراً فكافر معاند .
النوع الثالث ) : الإنكار القلبي مع الإقرار اللساني إن كان اضطراراً نفاق ، وكذا اختياراً لأنه أظهر خلاف ما أضمر .
ومع الإنكار اللساني كفر كيف كان ، وكذا مع السكوت .
( النوع الرابع ) : القلب الخالي عن جميع الاعتقادات مع الإقرار اللساني إن كان اختياراً ، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر لكنه فعل ما لا يجوز له حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا .
وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر ، أما إذا كان اضطرارياً فلا يكفر صاحبه لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً .
والقلب الخالي مع الإنكار اللساني كيف كان نفاق ، والقلب الخالي مع اللسان الخالي إن كان في مهلة النظر فذلك هو الواجب ، وإن كان خارجاً عن مهلة النظر وجب(1/160)
" صفحة رقم 161 "
تكفيره ولا نفاق .
فظهر من التقسيم أن المنافق هو الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ظاهره أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره ، ومنه ( النافقاء إحدى حجرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها ) فإذا أتى من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي خرج .
الثانية : زعم قوم أن الكفر الأصلي أقبح من النفاق ، لأن الكافر جاهل بالقلب كاذب باللسان ، والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان .
وقال الآخرون : المنافق أيضاً كاذب باللسان لأنه يخبر عن كونه على ذلك الإعتقاد مع أنه ليس عليه .
قال عز من قائل : ( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) [ المنافقون : 1 ] وأيضاً إنه قصد التلبيس والكافر الأصلي لا يقصد ذلك .
وأيضاً الكافر الأصلي على طبع الرجال ، والمنافق على طبيعة الخنائي .
وأيضاً الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه ، والمنافق رضي بالكذب .
وأيضاً المنافق ضم إلى الكفر الاستهزاء والخداع دون الكافر الأصلي ، ولغلظ كفر المنافقين قال الله تعالى : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) [ النساء : 145 ] ووصف حال الكفار في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية ، نعى عليهم فيها خبثهم ونكرهم وفضحهم وسفههم واستجهلهم واتهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً وضرب لهم الأمثال الشنيعة .
الثالثة : قصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة ( الذين كفروا ) كما تعطف الجملة على الجملة .
وأصل ناس أناس بدليل إنسان وإنس وأناسي .
حذفت الهمزة تخفيفاً ، مع لام التعريف كاللازم .
وقوله ( إن المنايا يطلعن على الإناس الآمنينا ) قليل .
ونويس من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان .
سموا بذلك لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم .
ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول كما يقال وزن ق أفعل وهو اسم جمع كرخال للأنثى من أولاد الضأن .
وأما الذي مفرده رخل بكسر الراء فرخال بكسر الراء .
( ومن ) في ( من يقول ) موصوفة إن جعلت اللام في الناس للجنس كقوله ) من المؤمنين رجال ) [ الأحزاب : 23 ] ليكون معنى الكلام أن في جنس الإنس طائفة كيت وكيت ، فيعود فائدة الكلام إلى الوصف .
وإن لم يكن مفيداً من حيث الحمل لأن الطائفة الموصوفة تكون لا محالة من الناس ، ولا يجوز أن تكون ( من ) موصولة حينئذ ، لأن الصلة تكون جملة معلومة الانتساب إلى الموصول فتبطل فائدة الوصف ، فيبقى الكلام غير مفيد رأساً .
وإن جعلت اللام للعهد فمن تكون موصولة نحو ) ومنهم الذين يؤذون النبي ((1/161)
" صفحة رقم 162 "
[ التوبة : 61 ] وتكون اللام إشارة إلى الذين كفروا لما ذكرهم ، ولا يجوز أن تكون ( من ) موصوفة إذ ذاك ، لأن فائدة الكلام تعود إلى الوصف أيضاً ، ولكن لا يجاوبه نظم الكلام إذ يصير المعنى أن من المختوم على قلوبهم طائفة يقولون كيت وكيت وما هم بمؤمنين .
ومن البين أن مدلول قوله ( وما هم بمؤمنين ) معلوم من حال المطبوع على قلوبهم فيقع ذكره ضائعاً ، والضمير العائد إلى ( من ) يكون موحداً تارة باعتبار اللفظ نحو ) ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة ) [ الأنعام : 25 ] ومجموعاً أخرى باعتبار المعنى مثل ) ومنهم من يستمعون إليك ) [ يونس : 42 ] وقد اجتمع الاعتباران في الآية في ( يقول ) و ( آمنا ) .
وإنما اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر لأنهما قطرا الإيمان ، ومن أحاط بهما فقد حاز الإيمان بحذافيره .
وفي تكرير الباء إيذان بأنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام .
فإن قلت : إن كان هؤلاء المنافقون من المشركين فظاهر عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر ، وإن كانوا من اليهود فكيف يصح ذلك ؟ قلت : إيمان اليهود بالله ليس بإيمان لقولهم ( عزير ابن الله ) وكذلك إيمانهم باليوم الآخر لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته .
فقولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق بل على عقيدتهم فهو كفر لا إيمان .
فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة واستهزاء وتخييلاً للمسلمين أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي كان خبثاً إلى خبث وكفراً إلى كفر .
والمراد باليوم الآخر إما طرف الأبد الذي لا ينقطع لأنه متأخر عن الأوقات المنقضية ، أو الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، لأنه آخر الأوقات المحدودة التي لا حد للوقت بعده .
فإن قلت : كيف طابق قوله ( وما هم بمؤمنين ) قولهم ( آمنا ) والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل ، والثاني بالعكس ؟ قلت : لما أتوا بالجملة الفعلية ليكون معناها أحدثنا الدخول في الإيمان لتروج دعواهم الكاذبة ، جيء بالجملة الأسمية ليفيد نفي ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل ألبت والقطع وأنهم ليس لهم استئهال أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين ، فكان هذا أوكد وأبلغ من أن يقال : إنهم لم يؤمنوا .
ونظير الآية قوله تعالى ) يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ) [ البقرة : 167 ] .
ثم إن قوله ( وما هم بمؤمنين ) يحتمل أن يكون مقيداً وترك لدلالة التقييد في ( آمنا ) .
ويحتمل الإطلاق أي أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط ، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر ولا من الإيمان بغيرهما .
البحث الثاني : في قوله ) يخادعون الله ( إلى ) يكذبون ( .
أعلم أن الله ذكر من قبائح أفعال المنافقين أربعة أشياء : أحدها المخادعة وأصلها(1/162)
" صفحة رقم 163 "
الإخفاء ، ومنه سميت الخزانة المخدع .
والأخدعان عرفان في العنق خفيان .
وخدع الضب خدعاً إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلاً .
والخديعة مذمومة لأنها إظهار ما يوهم السداد والسلامة وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير أو التخلص منه ، فهي بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسية .
فإن قيل : مخادعة الله والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا يخفى عليه خافية لا يخدع ، والحكيم الحليم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع ، والمؤمنين وإن جاز أن يخدعوا كما قال ذو الرمة :
تلك الفتاة التي علقتها عرضاً
إن الحليم ذا الإسلام يختلب
لم يجز أن يخدعوا .
قلنا : كانت صورة صنعهم مع الله - حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون - صورة صنع الخادعين ، وصورة صنع الله معهم - حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل من النار - صورة صنع الخادع ، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم - حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم .
ويحتمل أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن الله ممن يصح خداعه ، لأنه من كان ادعاؤه الإيمان بالله تعالى نفاقاً لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته ، فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله مخدوعاً ومصاباً بالمكروه من وجه خفي ، أو تجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم .
ويحتمل أن يذكر الله ويراد الرسول لأنه خليفته والناطق بأوامره ونواهيه مع عباده ) إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) [ الفتح : 10 ] .
ويحتمل أن يكون من قولهم ( أعجبني زيد وكرمه ) فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله ، وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص .
ولما كان المؤمنون من الله بمكان سلك بهم هذا المسلك ومثله ) والله ورسوله أحق أن يرضوه ) [ التوبة : 62 ] ( إن الذين يؤذون الله ورسوله ) [ الأحزاب : 57 ] وقولهم ( علمت زيداً فاضلاً ) الغرض ذكر الإحاطة بفضل زيد ، لأن زيداً كان معلوماً له قديماً كأنه قيل : علمت فضل زيد ولكن ذكره توطئة وتمهيداً .
ووجه الاختصار بخادعت على واحد أن يقال : عني به فعلت إلا أنه أخرج في زنة ( فاعلت ) لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة ، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه .
( ويخادعون ) بيان ليقول ، ويجوز أن يكون مستأنفاً كأن قيل : ولم يدعون الإيمان كاذبين ؟ فقيل : يخادعون .
وكان غرضهم من الخداع الدفع عن أنفسهم أحكام الكفار من القتل والنهب وتعظيم المسلمين إياهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم واطلاعهم على أسرار المسلمين لاختلاطهم بهم .
والسؤال الذي يذكر ههنا من أنه تعالى لم أبقى المنافق على(1/163)
" صفحة رقم 164 "
حاله من النفاق ولم يظهر أمره حتى لا يصل من أغراض الخداع إلى ما وصل ؟ وأرد على استبقاء الكفار وسائر أعداء الدين ، بل على استبقاء إبليس وذريته وتنحل العقدة في الجميع بما سلف لنا من الحقائق ولا سيما في تفسير قوله تعالى ) ختم الله على قلوبهم ) [ البقرة : 7 ] وقراءة من قرأ ) وما يخادعون إلا أنفسهم ) [ البقرة : 9 ] أي وما يعاملون تلك المعاملة المضاهية لمعاملة المخادعين إلا أنفسهم ، لأن مكرهاً يحيق بهم ودائرتها تدور عليهم لأن الله تعالى يدفع ضرر الخداع عن المؤمنين ويصرفه إليهم كقوله ) إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ) [ النساء : 142 ] ويحتمل أن يراد حقيقة المخادعة لأنهم يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل ، وأنفسهم أيضاً تمنيهم وتحدثهم بالأكاذيب .
وأن يراد ( وما يخدعون ) فجيء به على لفظ يفاعلون للمبالغة .
والنفس ذات الشيء وحقيقته ولا يختص بالأجسام لقوله تعالى ) تعلم ما في نفسي ) [ المائدة : 116 ] والشعور علم الشيء علم حس ومشاعر الإنسان حواسه .
والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس ، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له .
والمرض حالة توجب وقوع الخلل في الأفعال الصادرة عن موضوعها ، واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة بأن يراد الألم كما تقول : في جوفه مرض .
ومجازاً بأن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الإعتقاد والغل والحسد والميل إلى المعاصي ، فإن صدورهم كانت تغلي على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين غلاً وحنقاً ) وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) [ آل عمران : 119 ] وناهيك بما كان من ابن أبي ، وقول سعد بن عبادة لرسول له ( صلى الله عليه وسلم ) اعف عنه يا رسول الله واصفح ، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة - وذلك شيء منظوم بالجواهر شبه التاج - أي يجعلوه ملكاً ، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك .
أو يراد ما يداخل قلوبهم من الضعف والخور لأنهم كانوا يطمعون أن ريح الإسلام تهب حيناً ثم تركد ، فكانت تقوى قلوبهم بذلك الطمع .
فلما شاهدوا شوكة المسلمين وإعلاء كلمة الحق وما قذف الله في قلوبهم من الرعب ضعفت جبناً وخوراً .
ومعنى زيادة الله إياهم مرضاً أنه كلما أنزل على رسوله الوحي فكفروا به ازدادوا كفراً إلى كفرهم ، فأسند الفعل إلى المسبب له كما أسند إلى السورة في قوله ) فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) [ التوبة : 125 ] وهذا كما قال الحكيم : البدن الغير النقي كلما فدوته زدته شراً .
وكلما زاد رسوله نصرة وتبسطاً ازدادوا حسداً وبغضاً .
ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع ، ويحتمل أن يقال : الغل والحسد قد يفضي إلى تغير مزاج القلب ويؤدي إلى تلف صاحبه كقوله :(1/164)
" صفحة رقم 165 "
اصبر على مضض الحسو
د فإن صبرك قاتله
النار تأكل نفسها
إن لم تجد ما تأكله
فإفضاء صاحبه إلى الهلاك هو المعني بالزيادة .
والأليم الوجيع .
ووصف العذاب به على طريقة قولهم ( جد جده ) والألم بالحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد .
والمراد بكذبهم قولهم ( آمنا بالله وباليوم الآخر ) .
وفي ترتب الوعيد على الكذب دليل على قبح الكذب وسماحته .
وما يروى عن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كذب ثلاث كذبات أحدها قوله ) إني سقيم ) [ الصافات : 89 ] وثانيها قوله لسارة حين أراد أن يغصبها ظالم ( إنها أختي ) وثالثها قوله ) بل فعله كبيرهم هذا ) [ الأنبياء : 63 ] فالمراد التعريض ( إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ) ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به .
والكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به ، وقد يعتبر فيه علم المخبر بكون المخبر عنه مخالفاً للخبر ، والصدق نقيضه .
وقراءة من قرأ ( يكذبون ) بالتشديد إما من كذبه الذي هو نقيض صدقه ، وإما من كذب الذي هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل ( صدق ) نحو : بان الشيء وبين الشيء ومنه قوله :
قد بين الصبح لذي عينين
أو بمعنى الكثرة نحو ( موتت البهائم ) ، أو من قولهم ( كذب الوحشي إذا جرى شوطاً ثم وقف لينظر ما وراءه ) لأن المنافق متوقف متردد في أمره مذبذب بين ذلك .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ) وما في قوله ( بما كانوا ) مصدرية أي بكذبهم ، وكان مقحمة لتفيد الثبوت والدوام أي بسبب أن هذا شأنهم وهجيراهم .
البحث الثالث : في قوله تعالى ( وإذا قيل لهم لا تفسدو في الأرض ) إلى قوله ( ولكن لا يشعرون .(1/165)
" صفحة رقم 166 "
هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين .
فقوله ) وإذا قيل ( إما معطوف على ) كانوا يكذبون ( أي ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وبما كانوا إذا قيل لهم كذا قالوا كذا ، وإما على ) يقول ( أي ومن الناس من إذا قيل له .
ويحتمل أن يقال الواو للاستئناف ، وإسناد ) قيل ( إلى ) لا تفسدوا ( و ) آمنوا ( ليس من إسناد الفعل إلى الفعل فإنه لا يصح ، ولكنه إسناد إلى لفظ الفعل .
أي وإذا قيل لهم هذا القول نحو : زعموا مطية الكذب .
والقائل لهم إما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك نصحهم فأجابوا بما يحقق غيمانهم وأنهم في الصلاح ، وإما بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبل منهم ويعظمهم ، وإما بعض المؤمنين ، ولا يجوز أن يكون القائل ممن لا يختص بالدين .
والفساد خروج الشيء عن أن يكون منتفعاً به ، ونقيضه الصلاح وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة .
عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي أن المراد بالإفساد المنهي عنه إظهار معصية الله تعالى ، فإن الشرائع سنن موضوعة بين العباد ، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه ، فحقنت الدماء وضبطت الأموال وحفظت الفروج وكان ذلك صلاح الأرض وأهلها .
وأما إذا أهملت الشريعة وأقدم كل واحد على ما يهواه ، اشتعلت نوائر الفتن من كل جانب ، وحدثت المفاسد .
وقيل : هو مداراة المنافقين الكافرين ومخالطتهم إياهم لأنهم إذا مالوا إلى الكفار مع أنهم في الظاهر مؤمنون ، أوْهَمَ ذلك ضعف أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه فيصير سبباً لطمع الكفار في المؤمنين ، فتهيج الفتن والحروب .
وقيل : كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه ويلقون الشبه ويفشون أسرار المؤمنين ، ولما نهوا عن الإفساد في الأرض كان قولهم ) إنما نحن مصلحون ( كالمقابل له .
فههنا احتمالات : أحدها : أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين ، فزعموا أنهم مصلحون .
وثانيها : إذا فسر الإفساد بموالاتهم الكافرين أن يكون مرادهم أن الغرض من تلك الموالاة هو الإصلاح بين المسلمين كقولهم فيما حكى الله سبحانه ) إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً ) [ النساء : 62 ] وثالثها : أن يكون المراد إنكار إذاعة أسرار المسلمين ونسبة أنفسهم إلى الاستقامة والسداد ، وجيء بأداة القصر دلالة على أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت ، أي حالنا مقصورة على الإصلاح لا تتعداه إلى غيره .
( وألا ) مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي ، فيفيد التنبيه على تحقيق ما بعدها كقوله تعالى ) أليس ذلك بقادر ) [ القيامة : 40 ] ولإفادتها التحقيق لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم .
وأختها التي هي ( أما ) من مقدمات اليمين وطلائعها .
قال :
أما والذي أبكى وأضحك والذي
أمات وأحيا والذي أمره الأمر(1/166)
" صفحة رقم 167 "
رد الله ما ادعوه من الانضمام في زمرة المصلحين أبلغ رد من جهة الاستئناف ، فإن ادعاءهم ذلك مع توغلهم في الفساد مما يشوق السامع أن يعرف ما حكمهم ، فرد الله عليهم .
وكان وروده بدون الواو هو المطابق ، ومن جهة ما في ( ألا ) وفي ( أن ) من التأكيد ، ومن قبيل تعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله ( لا يشعرون ) .
البحث الرابع : في قوله ( وإذا قيل لهم آمنوا ) الآية .
هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين ، وذلك أن المؤمنين أتوهم في النصيحة من وجهين : أحدهما : تقبيح ما كانوا عليه مما يجرّ إلى الفساد والفتنة ، والثاني : دعوتهم إلى الطريقة المثلى من اتباع ذوي الأحلام .
وبعبارة أخرى أمرهم أولاً بالتخلية عما لا ينبغي ، وثانياً بالتحلية بما ينبغي لأن كمال حال الإنسان في هاتين .
وكان من جوابهم فيما بينهم أو للقائل أن سفهوهم لتمادي سفههم ، وفي هذا تسلية للعالم إذا لم يعرف حقه الجاهل .
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
وما في ( كما ) يجوز أن تكون كافة تصحح دخول الجار على الفعل وتفيد تشبيه مضمون الجملة بالجملة كقولك : يكتب زيد كما يكتب عمرو ، أو زيد صديقي كما عمرو أخي .
ويجوز أن تكون مصدرية مثلها في ) بما رحبت ) [ التوبة : 25 ، 118 ] واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومن معه وهم ناس معهودون أي ليكن إيمانكم ثابتاً كما أن إيمان هؤلاء ثابت ، أو ليحصل إيمانكم كحصول إيمان هؤلاء ، أو آمنوا كما آمن عبد الله بن سلام وأتباعه لأنهم من جلدتهم أي كما آمن أصحابكم .
ويحتمل أن تكون للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية من الإقرار اللساني الناشئ عن الإعتقاد القلبي ، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس ومن عداهم كالنسناس في عدم التمييز بين الحق والباطل .
والاستفهام في ( أنؤمن ) في معنى الإنكار ، واللام في ( السفهاء ) مشار بها إلى الناس كقولك لصاحبك : إن زيداً قد سعى بك .
فتقول : أوقد فعل السفيه ؟ أو للجنس وينطوي تحته الجاري ذكرهم على زعمهم لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه وهو ضد الحلم ، وأصله الخفة والحركة يقال : تسفهت الريح الشجر إذا مالت به ، قال ذو الرمة :
جرين كما اهتزت رماح تسفهت
أعاليها مر الرياح النواسم
وإنما سفهو المؤمنين مع رجحان عقول أهل الإيمان ، لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر(1/167)
" صفحة رقم 168 "
الصحيح اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق ، ولأنهم كانوا في رياسة وثروة وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موالٍ كصهيب وبلال وخباب ، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم كما قال قوم نوح ) وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ) [ هود : 27 ] أو أرادوا عبد الله بن سلام وأشياعه لما غائهم من إسلامهم وفتَّ في أعضائهم .
عن أنس أنه سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو في أرض مخترف ، فاتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي .
فما أوّل أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أخبرني بهن جبريل آنفاً .
أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت .
وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الوالد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت ) .
قال : أشهد أن لا إله غلا الله وأنك رسول الله يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني .
فجاءت اليهود فقال : أي رجل عبد الله فيكم ؟ قالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا .
قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام .
قالوا : أعاذه الله من ذلك .
فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
فقالوا : شرنا وابن شرنا فانتقصوه .
قال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله .
ثم إن الله تعالى ألقى عليهم هذا اللقب مقروناً بالمؤكدات التي بيناها في قوله ( ألا إنهم هم المفسدون ) وذلك أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفه فهو السفيه ، وكذا من باع آخرته بدنياه .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ) .
وأيضاً من السفه معاداة المحمديين ) يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ) [ الصف : 8 ] .
كالطود يحقر نطحة الأوعال
إنما فصلت هذه الآية ( بلا يعلمون ) والتي قبلها ( بلا يشعرون ) لأن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري ، وأما النفاق وما يؤول إليه من الفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات ، وخصوصاً عند العرب في جاهليتهم .
وما كان قائماً بينهم من التحارب والتجاذب فهو كالمحسوس المشاهد ، ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له .(1/168)
" صفحة رقم 169 "
البحث الخامس : في قوله ) وإذا لقوا الذين آمنوا ( الآيات .
هذا هو النوع الرابع من قبائح أفعالهم ، والفرق بين هذه الآية وبين قوله ( ومن الناس من يقول آمنا ) أن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم ، وهذه في بيان معاملتهم مع المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم .
عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه ، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عبد الله بن أبي : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم .
فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال : مرحباً بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الغار ، الباذل نفسه وماله ، ثم أخذ بيد عمر فقال : مرحباً بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله ، ثم أخذ بيد علي عليه السلام فقال : مرحباً بابن عم رسول الله وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله .
ثم افترقوا فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت ، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت ، فأثنوا عليه خيراً .
فرجع المسلمون إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبروه بذلك فنزلت .
ويقال : لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه .
وخلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه ، ويجوز أن يكون من خلال بمعنى مضى ، وخلاك ذم أي عداك ومضى عنك ، ومنه القرون الخالية ، أو من خلوت به إذا سخرت منه وهو من قولك ( خلا فلان بعرض فلان ) عبث به ، ومعناه إذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول : أحمد إليك فلاناً أو أذمه إليك أي أنهي إليك حمدي لفلان أو ذمي .
وعن ابن عباس : إني أحمد إليك عسل الإحليل أي أعلمكم أنه أمر محمود .
وشياطينهم رؤساؤهم وأكابرهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم .
وهم إما أكابر المنافقين فالقائلون .
إنا معكم أي مصاحبوكم وموافقوكم على أمر دينكم أصاغرهم ، وإما أكابر الكافرين فالقائلون يحتمل أن يكون جميع المنافقين .
وإنما فسرنا الشياطين بالرؤساء لأنهم هم القادرون على الإفساد في الأرض ، وإنما خاطبوا المؤمنين بأضعف الجملتين وهي الفعلية ، وشياطينهم بأقواهما أعني الاسمية المحققة بان لأنهم في ادعاء حدوث الإيمان الناشئ عن صميم القلب منهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان كاملون ، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه وهكذا كل قول لم يصدر عن صدق رغبة وباعث داخلي ، وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على وجه التوكيد وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار القائلين ( ربنا إننا آمنا ) وإما مخاطبة إخوانهم فعن وفور نشاط ورغبة وفي حيز القبول والرواج فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد ، وإنما فقد العاطف بين قوله ( إنا معكم ) وبين قوله ( إنما نحن مستهزءون ) الأوّل معناه الثبات على الكفر ، والثاني ردّ للإسلام .
لأن المستهزئ بالشيء منكر له دافع ، ودفع نقيض الشيء إثبات وتأكيد للشيء .
أو لأن الثاني بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر ، أو لأنه(1/169)
" صفحة رقم 170 "
استئناف كأنه قيل : ما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام ؟ فقالوا : إنما نحن مستهزءون .
والاستهزاء السخرية والاستخفاف ، وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع .
ثم إن الله تعالى أجابهم بأشياء : أحدها قول الله ( يستهزئ بهم ) وهو استئناف في غاية الجزالة والفخامة ، كأنه سئل ما مصير أمرهم وعقبى حالهم ؟ فقيل : الله يستهزئ بهم .
وفي الالتفات من الحكاية إلى المظهر ، أن الله عز وجل هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي استهزاؤهم بالنسبة غلى ذلك كالعدم .
وفي تخصيص الله بالذكر مع قرينة أن المؤمنين هم الذين استهزئ بهم دلالة على أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين ، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله .
فإن قيل : الاستهزاء جهالة ) قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) [ البقرة : 67 ] فما معنى استهزاء الله بهم ؟ قلنا : معناه إنزال الهوان والحقارة بهم وهو المقصد الأقصى للمستهزئ ، أو سمي جزاء الاستهزاء استهزاء مثل ) فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) [ البقرة : 194 ] أو عاملهم الله معاملة المستهزئ في الدنيا لأنه كان يطلع الرسول على أسرارهم مع كونهم مبالغين في إخفائها ، وفي الآخرة على ما روي عن ابن عباس : إذا دخل المؤمنون الجنة والكافرون النار ، فتح الله من الجنة باباً على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين ، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحاً أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة - وأهل الجنة ينظرون إليهم - فإذا وصلوا غلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب فذلك قوله تعالى ) فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون ) [ المطففين : 34 ] فهذا هو الاستهزاء ، وإنما لم يقل الله مستهزئ ليكون طبقاً لقوله ( إنما نحن مستهزءُون ) لأن المراد تجدد الاستهزاء بهم وقتاً بعد وقت ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم ونزول الآيات في شأنهم ) أو لايرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ) [ التوبة : 26 ] ( يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون ) [ التوبة : 64 ] وثانيها قوله و ( ويمدهم في طغيانهم ) هو من مد الجيش أمده إذا زاده وألحق به ما يقوّيه ، وكذلك مد الدواة والسراج زادهما ما يصلحهما .
وإنما قلنا : إنه من المدد لا من المد في العمر والإمهال لقراءة نافع في موضع آخر ) وإخوانهم يمدونهم في الغي ) [ الأعراف : 202 ] على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له مع اللام كأملى له قاله في الكشاف ، وهو مخالف لنقل الجوهري مده في غيه أي أمهله .
والطغيان الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتوّ ، ومعنى مدد الله تعالى إياهم في الطغيان يعرف من تفسير ) ختم الله على قلوبهم ( وقد يوجه بأنه لما منعهم ألطافه التي منحها المؤمنين بقيت قلوبهم يتزايد الرين والظلمة فيها تزايد الانشراح والنور في صدور المؤمنين ، فسمي ذلك التزايد مدداً .(1/170)
" صفحة رقم 171 "
أو بأنه لم يقسرهم ، أو بأنه أسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره ، ولا يخفى ما في هذا التوجيه من التكلف ، لأنه انتهاء الكل إلى مسبب الأسباب .
ومن هذا القبيل ما قيل : إن النكتة في غضافة الطغيان إليهم هي أن يعلم أن التمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم ، وأن الله بريء منه ، فإن الانتهاء إلى الله تعالى لما كان ضرورياً فكيف يتبرأ من ذلك ؟ ( ويعمهون ) في موضع الحال .
والعمه كالعمى ، إلا أن العمى في البصر وفي الرأي ، والعمه في الرأي خاصة وهو التحير والتردد لا يدري أين يتوجه .
وثالثها : قوله ( أولئك الذي اشتروا الضلالة بالهدى ) أي اختاروها عليه واستبدلوها به ، وهذه استعارة لأن الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر قال أبو النجم :
أخذت بالجمة رأساً أزعرا
وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمراً جيدراً
كما اشترى الملم إذ تنصرا
وعن وهب قال الله تعالى فيما يعيب به بني إسرائيل : تفقهون لغير الدين ، وتعلمون لغير العمل ، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة .
جعلوا لتمكنهم من الهدى بحسب الفطرة الإنسانية الشخصية كأنه في أيديهم ، فتركوه واستبدلوا به الضلالة وهي الجور عن القصد وفقد الاهتداء .
وفي المثل ( ضل دريص نفقة ) أي جحره ، والدرص ولد الفأرة ونحوها ، يضرب لمن يعيا بأمره .
فاستعيرت الضلالة للذهاب عن الصواب في الدين .
والربح الفضل على راس المال ، والتجارة مصدر وإنما أسند الخسران إليها وهو لصاحبها إسناداً مجازياً لملابسة التجارة بالمشترين .
وقد يقال : ربح عبدك وخسرت جاريتك مجازاً إذا دلت الحال .
ولما ذكر الله سبحانه شراء الضلالة بالهدى مجازاً أتبعه ما يشاكله ويواخيه من الربح والتجارة لتكون الاستعارة مرشحة كقوله :
ولما رأيت النسر عز ابن دأية
وعشش في وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب بالنسر ، والشعر الفاحم بالغراب ، أتبعه ذكر التعشيش والوكر .
( وما كانوا مهتدين ) لطرق التجارة لأن مطلوب التاجر في متصرفاته شيئان : سلامة رأس المال والربح .
وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً ، لأن رأس مالهم كان هو الهدى فلم يبق لهم مع الضلالة ، والضلالة أمر عدمي فلا عوض ولا معوّض ، فلا ربح ولا رأس المال .
وهكذا حال من يدعي الإرادة ولا يخرج من العادة ويريد الجمع بين مقاصد الدنيا ومصالح الدين ، كالمنافق أراد الجمع بين عشرة الكفار وصحبة المسلمين ، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، وإذا أقبل الليل من ههنا أدبر النهار من ههنا نعوذ بالله من الغواية ، ونسأله أن يعصمنا من الضلالة بعد الهداية .(1/171)
" صفحة رقم 172 "
( البقرة : ( 17 - 20 ) مثلهم كمثل الذي . . . .
" مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير " ( القراآت : ( آذانهم ) وبابه بالإمالة : نصير وأبو عمر .
( بالكافرين ) وما أشبهها مما كان في محل الخفض بالإمالة : أبو عمر وقتيبة ونصير وأبو عمرو ويعقوب غير روح .
( شاء الله ) حيث كان بالإمالة : حمزة وعلي وخلف وابن ذكوان .
الوقوف : ( ناراً ) ( لا ) لأن جواب ( لما ) منتظر لما فيها من معنى الشرط مع دخول فاء التعقيب فيها .
( لا يبصرون ) ( 5 ) ( لا يرجعون ) ( 5 ) للعطف بأو وهو للتخيير ، ومعنى التخيير لا يبقى مع الفصل .
ومن جعل ( أو ) بمعنى الواو جاز وقفه لعطفه الجملتين مع أنها رأس آية .
وقد اعترضت بينهما آية على تقدير ومثلهم كصيب .
( وبرق ) ( ج ) لأن قوله ( يجعلون ) يحتمل أن يكون خبر المحذوف ، أي هم يجعلون ، أو حالاً عامله معنى التشبيه في الكاف ، وذو الحال محذوف أي كأصحاب صيب .
( الموت ) ( ط ) ( بالكافرين ) ( 5 ) ( أبصارهم ) ( ط ) لأن كلما استئناف .
( فيه ) ( لا ) لأن تمام المقصود بيان الحال المضاد للحال الأول ( قاموا ) ( ط ) و ( أبصارهم ) ( ط ) ( قدير ) ( 5 ) .
التفسير : لما جاء بحقيقة صفة المنافقين عقبها بضرب المثل تتميماً للبيان .
ولضرب الأمثال شأن ليس بالخفي في رفع الأستار عن الحقائق حتى يبرز المتخيل في معرض اليقين ، والغائب كأنه شاهد ، وفيه تبكيت للخصم الألد .
ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتبه أمثاله ) وتلك الأمثال نضربها للناس ) [ الحشر : 21 ] وفشت في كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مثل الدنيا مثل ظلك إن طلبته تباعد وإن تركته تتابع ) ( مثل الجليس الصالح كمثل الداري ) وأمثال العرب أكثر من أن تحصى ، حتى صنف فيها ككتب مشهورة .
والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثيل وهو النظير ، ثم قيل للقول السائر المشبه مضربه بمورده مثل .
ولا يخلو من غرابة ، ومن ثم حوفظ عليه من التغيير .
وأما ههنا فاستعير المثل للحال أو الصفة أو القصة التي فيها غرابة ولها شأن ، شبهت حالهم العجيبة الشأن من حيث إنهم أوتوا ضرباً من الهدى بحسب الفطرة ، ولما(1/172)
" صفحة رقم 173 "
نطقت به ألسنتهم من كلمة الإسلام فحقنوا دماءهم وأموالهم عاجلاً ، ثم لم يتوصلوا بذلك إلى نعيم الأبد باستبطانهم الكفر فيؤل حالهم غلى أنواع الحسرات وأصناف العقوبات بحال الذي استوقد ناراً في توجه الطمع إلى تسني المطلوب بسبب مباشرة أسبابه القريبة مع تعقب الحرمان والخيبة لانقلاب الأسباب .
والمراد بالذي استوقد إما جمع كقوله ) وخضتم كالذي خاضوا ) [ التوبة : 69 ] وحذف النون لاستطالته بصلته ، أو قصد جنس المستوقدين ، أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد ناراً ، ولولا عود الضمير إلى الذي مجموعاً في قوله ( بنورهم وتركهم ) لم يحتج إلى التكلفات المذكورة ، على أنه يمكن أن يشبه قصة جماعة بقصة شخص واحد نحو ، ) مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار ) [ الجمعة : 5 ] ووقود النار سطوعها وارتفاع لهبها ، وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضاً .
والنار جوهر لطيف مضيء حارّ محرق ، والنور ضوءها وضوء كل نير واشتقاقها من نار ينور إذا نفر ، لأن فيها حركة واضطراباً والإضاءة فرط الإنارة ) جعل الشمس ضياء والقمر نوراً ) [ يونس : 5 ] وهي في الآية متعدية ، ويحتمل أن تكون غير متعدية ، مسندة إلى ما حوله ، والتأنيث للحمل على المعنى ، لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء ، أو يستتر في الفعل اللازم ضمير النار ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها على أن ( ما ) مزيدة أو موصولة في معنى الأمكنة ، و ( حوله ) نصب على الظرف ، وتأليفه للدوران والإطافة ، والعام حول لأنه يدور .
وجواب ( لما ذهب الله بنورهم ) فالضمير يعود إلى الذي استوقد نظراً غلى المعنى ، كما أن الضمير في ( حوله ) راجع إليه من حيث اللفظ .
وقيل : الأولى أن يقال : جوابه محذوف مثل ) فلما ذهبوا به ( لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من الذكر في أداء المعنى ، كأنه قيل : فلما أضاءت ما حوله كان ما كان من حصولهم خابطين في ظلام متحيرين خائبين فيها بعد الكدح في إحياء النار .
ثم إن سائلاً كأنه يسأل : ما بالهم قد اشبهت حالهم حال هذا المستوقد ؟ فقيل له : ذهب الله بنورهم أي بنور المنافقين ، وعلى هذا يحتمل أن يكون الذي مفرداً ، ويمكن أن يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان أي مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ، وكمثل الذي ذهب الله بنورهم .
ومعنى إسناد الفعل إلى الله أنه إذا أطفئت النار بسبب سماوي كريح أو مطر فقد أطفأها الله وذهب بنور المستوقد ، أو يكون المستوقد مستوقد نار لا يرضاها الله .
ثم إما أن تكون ناراً مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام ، وتلك النار ، متقاصرة مدة اشتعالها وإضاءتها ، فمنافعها الدنيوية قليلة البقاء ، وللباطل صولة ، ثم تضمحل ، ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت .
ونار العرفج مثل لثروة كل طماح ) كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ) [ المائدة : 64 ] وإما ناراً حقيقية أوقدها الغواة(1/173)
" صفحة رقم 174 "
ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي ويهتدوا بها في طرق العيش فأطفأها الله وخيب أمانيهم .
وإنما لم يقل ذهب الله بضوئهم على سياق ( فلما أضاءت ) لأن ذكر النور أبلغ في الغرض وهو إزالة النور عنهم رأساً وطمسه أصلاً ، فإن الضوء شدة النور وزيادته ، وذهاب الأصل يوجب زوال الزيادة عليه دون العكس .
والفرق بين ( أذهبه ) و ( ذهب به ) أن معنى ( أذهبه ) أزاله وجعله ذاهباً ، ويقال : ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه .
وذهب السلطان بماله أخذه وأمسكه .
وما يمسك الله فلا مرسل له ، فهو أبلغ من الإذهاب ، وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد ، وإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب كقول عنترة : ( فتركته جزر السباع ينشنه ) ومنه قوله تعالى ) وتركهم في ظلمات ( والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير ، وقيل : عرض ينافي النور واشتقاقها من قولهم ( ما ظلمك أن تفعل كذا ) أي ما منعك وشغلك لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية .
وفي جمع الظلمة وتنكيرها وإتباعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان ، وفي قوله ( لا يبصرون ) دلالة على أن الظلمة بلغت مبلغاً يبهت معها الواصفون .
وكذا في إسقاط مفعول ( لا يبصرون ) وجعله من قبيل المتروك المطرح الذي لا يلتفت إلاى إخطاره بالبال ، لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعدٍ أصلاً .
ومحل ( لا يبصرون ) إما جر صفة لظلمات أي لا يبصرون فيها شيئاً ، وإما نصب مفعولاً ثانياً ، أو حالاً من هم مثل ) ويذرهم في طغيانهم يعمهون ) [ الأعراف : 186 ] أي حال كونهم ليسوا من أهل الأبصار .
عن سعيد بن جبير : نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واستفتاحهم به على مشركي العرب ، فلما خرج كفروا به .
وكان انتظارهم له كإيقاد النار ، وكفرهم به بعد ظهوره كزوال ذلك النور ثم إنه كان من المعلوم من حالهم أنهم يسمعون وينطقون ويبصرون ، لكنهم شبهوا بمن إيفت مشاعرهم فقيل لهم : صم بكم عمي ، حيث سدوا عن الإصاغة إلى الحق مسامعهم ، وأبوا أن تنطق به ألسنتهم ، وأن ينظروا ويستبصروا بعيونهم .
وإنما قلنا : إن ما في الآية تشبيه لا استعارة مع أن المشبه مطوي ذكره كما هو حق الاستعارة ، لأن ذلك في حكم المنطوق به وإلا بقي الخبر بلا مبتدأ .
ومعنى ( لا يرجعون ) لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها تسجيلاً عليهم بالطبع ، أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وإلى حيث ابتدؤا منه كيف يرجعون .
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متأخر عنه ولا متقدم(1/174)
" صفحة رقم 175 "
ومثله حال مريد طريقة الذي له بداية ولازم خلوته وصحبته حتى شرقت له من صفات القلب شوارق الشوق ، وبرقت له من أنوار الروح بوارق الذوق ، فطرقته الهواجس وأزعجته الوساوس فيرجع القهقري إلى ما كان من حضيض عالم الطبيعة ، فغابت شمسه وأظلمت نفسه وفضل عن يومه أمسه .
ثم إن الله تعالى ضرب للمنافقين مثلاً آخر ليكون كشفاً لحالهم بعد كشف ، وإيضاحاً غب إيضاح ، لأن المقام مقام تفصيل وإشباع .
فيكون تقدير الكلام ( مثل المنافقين كمثل المستوقدين أو كمثل ذوي صيب ) على معنى أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين فإنهما سواء في صحة التشبيه بهما ، فأنت مخير في التشبيه بأيتهما شئت أو بهما جميعاً نحو : جالس الحسن أو ابن سيرين .
والتمثيلان جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفردة ، لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به ، بل تراعى الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام وهي أنهم في مقام الطمع في حصول المطالب .
ونجح المآرب لا يحظون إلا بضد المطموع فيه من مجرد مقاساة الأهوال وشدائد الأحوال ، ولا يخفى أن التمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ، ولذلك أخرج تدرجاً من الأهون إلى الأغلظ ، وإنما قدرنا المضاف المحذوف حيث قلنا : أو كمثل ذوي صيب مع أنه لا يلزم في التشبيه المركب أن يلي حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به .
ألا ترى إلى قوله تعالى ) إنما مثل الحياة الدنيا كماء ) [ يونس : 24 ] كيف ولي الماء الكاف إذ التشبيه مركب ، لأن الضمير في ( يجعلون ) لا بد له من راجع هذا هو التحقيق .
وقد يقال : شبه دين الإسلام بالصيب ، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ، وما يحوم حوله من شبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيب الكفرة من الإفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق .
وعلى هذا يكون تقدير المضاف ضرورياً ليصبح تشبيه المنافقين بهم ، ويكون المعنى ( مثلهم كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة ، فلقوا منها ما لقوا ) ويكون ذكر المشبهات مطوياً على سنن الاستعارة .
والصيب المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع .
ويقال للسحاب : صيب أيضاً .
وتنكير صيب للدلالة على أنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول .
والسماء هذه المظلة ، والفائدة في ذكره ، والصيب لا يكون إلا من السماء ، أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوب من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق ، ولكنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء .
وكما جاء بصيب وفيه مبالغات من جهة التركيب من ص وب والبناء على ( فيعل ) والتنكير أمد ذلك بأن جعله مطبقاً ، واعلم أنه إذا وقعت القوى الفلكية على العناصر بإذن الله تعالى فحركتها(1/175)
" صفحة رقم 176 "
وخالطتها ، حصل من اختلاطها موجودات شتى .
فإذا هيج الفلك بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية ، أو دخن من الأجسام الأرضية وأثار شيئاً بين البخار والدخان من الأجسام المائية والأرضية .
أما الدخان فإنه قد يتعدى صعوده حيز الهواء إلى أن يوافي تخوم النار فيشتعل ، وربما سرى فيه الاشتعال فتراءى كأن كوكباً يقذف به ، وربما لم يشتعل بل احترق وثبت فيه الاحتراق فرأيت العلامات الهائلة الحمرة والسواد .
وأما البخار الصاعد فمنه ما يلطف ويرتفع جداً فيتراكم وتكثر مدته في أقصى الهواء عند منقطع الشعاع ، فيبرد فيكثف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحاباً والقاطر مطراً .
ومنه ما يقصر لثقله عن الارتفاع بل يبرد سريعاً ، فينزل كما يوافيه برد الليل قبل أن يتراكم سحاباً وهذا هو الطل ، وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب ، فنزل وكان ثلجاً ، وربما جمد البخار الغير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل ، فنزل وكان صقيعاً وهو ما يسقط بالليل من السماء شبيهاً بالثلج ، وربما جمد البخار بعدما استحال قطرات ماء فكان برداً .
وإنما يكون جموده في الشتاء وقد فارق السحاب ، وفي الربيع وهو داخل السحاب ، وذلك إذا سخن خارجه فبطنت البرودة إلى داخله فتكاثف داخله واستحال ماء وأجمده شدة البرودة ، وربما تكاثف الهواء نفسه لشدة البرد فاستحال سحاباً فاستحال مطراً .
وأما الجواهر البخارية والدخانية المركبة من مادتي الرطوبة واليبوسة ، فمنها ما يتخلص من الأرض فتكون منها الرياح وإذا تصعدت فتميز البخار من الدخان انعقد البخار سحاباً فبرد فتغلغل فيه الدخان طلباً للنفوذ غلى العلو فحصل من تغلغله فيه ضرب من الرعد وهو صوت ريح عاصفة في سحاب كثيف ، وربما امتد ذلك التغلغل لكثرة وصول المواد ، ويكون أعالي السحاب أكثف لأن البرد هناك أشد ، أو يكون هناك ريح مقاومة تعوقها عن النفوذ فيندفع إلى أسفل وقد أشعلته المحاكة والحركة ناراً تبرق فتشق السحاب شعلة كجمر يطفأ فيسمع من ذلك ضرب من الرعد .
وإن كان قوياً شديداً غليظ المادة كان صاعقة ، وربما وجد مندفعاً فيه سهل الانشقاق فخرج بلا رعد واشتعال .
فهذا القدر من الحقائق في هذا المقام لا ضير في معرفتها بعد أن يعتقد انتهاء أسبابها إلى مدبر الكل سبحانه وتعالى .
ولنرجع غلى ما كنا فيه فنقول : ارتفع ( ظلمات ) بالظرف على الاتفاق من سيبويه والأخفش لاعتماده على موصوف .
والصيب إن كان سحاباً فظلماته سمجته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل ، وإن كان مطراً فظلماته تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر وظلمة إظلال الغمام مع ظلمة الليل .
ثم إن كان الصيب سحاباً فكونه مكاناً للرعد والبرق ظاهر ، وإن كان مطراً فكونهما متلبسين به في الجملة سوغ ذلك ، وإنما لم يجمع الرعد والبرق كما قال البحتري :(1/176)
" صفحة رقم 177 "
يا عارضاً متلفعاً ببروده
يختال بين بروقه ورعوده
وكما قيل ظلمات لأنهما في الأصل مصدران فروعي حكم الأصل ، ويمكن أن يراد بهما الحدث كأنه قيل : وإرعاد وإبراق .
ونكرت هذه الأشياء لأن المراد أنواع منها كأنه قيل في ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف .
وجاز رجوع الضمير في ( يجعلون ) إلى أصحاب الصيب لأنه في حكم المذكور .
قال حسان :
يسقون من ورد البريص عليهم
بردى يصفق بالرحيق السلسل
ذكر يصفق لأن المعنى ماء بردى وهي واد بدمشق .
والبريص نهر من أنهارها .
ويصفق أي يمزج والرحيق الخمر .
ولا محل لقوله ( يجعلون ) لكونه مستأنفاً كأنه قيل : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد ؟ فقيل : يجعلون أصابعهم .
ثم سئل : فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق ؟ فاجيب ( يكاد البرق يخطف أبصارهم ) وإنما لم يقل أناملهم مع أنها هي التي تجعل في الآذان لأن في ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل ، ولأن اسم الكل قد يطلق على البعض نحو ) فاقطعوا أيديهما ) [ المائدة : 38 ] والمراد إلى الرسغ .
وليس بعض الأصابع - كالمسبحة مثلاً بجعلها في الأذن - أولى من بعض حتى يقال لم ذكر العام والمراد الخاص ؟ وقوله ( من الصواعق ) أي من أجل الصواعق نحو : سقاه من العيمة .
وقد تحصل مما ذكرنا أن الصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه ، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود .
يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ، ثم طفئت .
ويقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته .
فصعق أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق ، وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد ، أو للرعد والتاء للمبالغة كما في الرواية ، أو مصدراً كالعافية والكاذبة .
( وحذر الموت ) مفعول له كقوله :
وأغفر عوراء الكريم ادخاره
وأعرض عن شتم اللئيم تكرماً
والموت فساد بنية الحيوان .
وقيل : عرض معاقب للحياة لا يصح معه إحساس .
وإحاطة الله بالكافرين مجاز أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة ، والجملة معترضة لا محل لها .
( يكاد ) من أفعال المقاربة .
كاد يفعل كذا يكاد كوداً ومكاداً(1/177)
" صفحة رقم 178 "
ومكادة وضعت لمقاربة الشيء ، فعل أو لم يفعل .
فمجرده ينبئ عن نفي الفعل ، ومقرونه بالجحد ينبئ عن وقوع الفعل .
وخبر كاد فعل مضارع بغير ( أن ) وهو ههنا ( يخطف ) والبرق اسمه والخطف الأخذ بسرعة ، ( كلما أضاء لهم ) استئناف ثالث كأنه قيل : كيف يصنعون في حالتي خفوق البرق وفتوره ؟ وأضاء إما متعد بمعنى كلما نور لهم ممشى ومسلكاً أخذوه والمفعول محذوف ، وإما غير متعد بمعنى كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره .
والمشي جنس الحركة المخصوصة وفوقها السعي وفوقه العدو .
( وأظلم ) إما لازم وهو الظاهر ، وإما متعد منقول من ظلم الليل أي أظلم البرق الطريق عليهم بأن فتر عن لمعانه ، ومعنى ( قاموا ) وقفوا وثبتوا في مكانهم من قام الماء جمد .
وإنما قيل مع الإضاءة ( كلما ) ومع الإظلام ( إذا ) لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه ، وكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها فخطوا خطوات يسيرة ، وليس كذلك التوقف والتحبس ، ولو شاء الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم ، وفي الضوء البرق فأعماهم .
ومفعول ( شاء ) محذوف ، لأن الجواب يدل عليه .
والمعنى ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها ، وهذا الحذف في ( شاء ) و ( أراد ) كثير لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كقوله :
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته
عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
وقال عز من قائل ) لو أرذنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه ) [ الأنبياء : 17 ] وكلمة ( لو ) تفيد انتفاء الثاني لانتفاء الأول .
وقد تجيء للمبالغة كقوله ( نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ) والمراد أنعدم العصيان ثابت على كل حال لأنه على تقدير عدم الخوف ثابت ، فعلى تقدير الخوف أولى .
والشيء أعم العام كما أن الله أخص الخاص ، يجري على الجوهر والعرض والقديم والحادث بل على المعدوم والمحال .
وهذا العام مخصوص بدليل العقل ، فمن الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل والواجب وجوده لذاته ، وأما الممكن فإبقاؤه على العدم وكذا إيجاده وإبقاؤه على وجوده ، لأن جميع ذلك بقدرة القادر فلا يستغنى آناً من الآنات ولحظة من اللحظات عن تأثير القادر فيه .
وقدرة كل قادر على مقدار قوته واستطاعته ، ونقضيها العجز .
فلا قادر بالحق إلا هو سبحانه وتعالى .
( البقرة : ( 21 - 22 ) يا أيها الناس . . . .
" يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " ( القراآت : ( خلقكم ) مدغماً : أبو عمرو وكذلك كل ما كان قبلها متحرك .
وازاد(1/178)
" صفحة رقم 179 "
عباس كل ما كان قبلها ساكن مثل ) ما خلقكم ( ) وصديقكم ( و ) بورقكم ( و ) ميثاقكم ( وأشباه ذلك .
قال ابن مجاهد : يدغمها بإظهار صوت القاف .
وقال غيره - وهو ابن مهران - لا يظهر ذلك وكل صواب .
الوقوف : ( تتقون ) ( 5 ) لأن ( الذي ) صفة الرب تعالى .
( بناء ) ( ص ) لعطف الجملتين المتفقتين ( لكم ) ( ج ) لانقطاع النظم مع فاء التعيب .
( تعلمون ) ( 5 ) .
التفسير : لما قدم الله تعالى أحكام فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم ومجاري أمورهم عاجلاً وآجلاً ، أقبل عليهم بالخطاب وهو من جملة الالتفات الذي يورث الكلام رونقاً وبهاء ويزيد السامع هزة ونشاطاً .
ومن لطائف المقام أنه تعالى كأنه يقول : جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أولاً ، والآن أزيد في إكرامك وتقريبك فأخاطبك من غير واسطة ، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة شرف المخاطبة والمكالمة .
وفيه إشعار بأن العبد مهما اشتغل بالعبودية زاد قرباً وحضوراً .
وأيضاً الآيات المتقدمة حكايات أحوالهم وهذه أمر وتكليف وفيه كلفة ومشقة ، فلا بد من راحة وهي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته ، فيستطاب التكليف بالتكليم حينئذ ويستلذ هذا .
وقد صح الإسناد عن علقمة أن كل شيء نزل فيه ( يا أيها الناس ) فهو مكي و ( يا أيها الذين آمنوا ) فهو مدني فقوله ) يا أيها الناس اعبدوا ربكم ( خطاب لمشركي مكة بحسب هذا النقل ، وإن كان من الجائز أن يخاطب المؤمنون باسم جنسهم ويؤمروا بالاستمرار على العبادة والازدياد منها .
( ويا ) حرف وضع لأجل التخفيف مقام أنادي الإنشائية لا الإخبارية .
وههنا نكتة وهي أن أقوى المراتب الاسم ، وأضعفها الحرف ، فظن قوم أنه لا يأتلف الاسم بالحرف ، فكذا أقوى الموجودات هو الحق سبحانه وأضعفها البشر ) وخلق الإنسان ضعيفاً ) [ النساء : 28 ] فقالت الملائكة : ما للتراب ورب الأرباب ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) [ البقرة : 30 ] فقيل لهم : قد يأتلف الاسم مع الحرف في حال النداء ، فكذا البشر يصلح لحضرة الرب حال التضرع والدعاء ) ادعوني أستجب لكم ) [ غافر : 60 ] [ البقرة : 186 ] ( فاذكروني أذكركم ) [ البقرة : 152 ] و ( يا ) وضع في أصله لنداء ما ليس بقريب حقيقة أو تقديراً لكونه ساهياً أو غافلاً أو نائماً ، أو لتبعيد المنادي نفسه عن ساحة عزة المنادى هضماً واستقصاراً كقول الداعي في جؤاره : يا رب يا الله .
مع أنه أقرب إليه من حبل الوريد ، ليتحقق الإجابة بمقتضى قوله ( أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ) وقد ينادي القريب .
( 3 ) المقاطن في غير هذه الصورة بيا ويكون المراد به أن الخطاب الذي يتلوه معنيّ به جداً نحو ) يا أيها الذين آمنوا ) [ البقرة : 183 ] ( يا عبادي ((1/179)
" صفحة رقم 180 "
[ الزمر : 53 ] ( يا أيها النبي ) [ الأحزاب : 45 ] لأن ما يعقبها أمور عظام وخطوب جسام من الأوامر والنواهي والعظات ، عليهم أن يتيقظوا لها ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم غليها .
وأي وصلة غلى نداء ما فيه الألف واللام ، وهو اسم مبهم يوصف باسم جنس ليصح المقصود بالنداء مع ضرب من التأكيد المستفاد من الإبهام ثم التوضيح .
وفي حرف التنبيه المقحم فائدتان : معاضدة حرف النداء بتأكيد معناه ووقوعها عوضاً مما يستحقه أي من الإضافة .
ثم إن قلنا : إن الخطاب عام لجميع المكلفين لأن الجمع المعرف باللام يفيد العموم بدليل صحة تأكيده ( بكل ) و ( أجمعون ) في مثل قوله ) فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) [ ص : 73 ] ، بدليل صحة الاستثناء ، فالأقرب أنه لا يتناول إلا الموجودين في ذلك العصر ، وإنما يتناول الذين سيوجدون بدليل منفصل هو ما عرف بالتواتر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، أن حكم الموجودين في عصره حكم من سيوجد إلى قيام الساعة .
وإن قلنا : إن الخطاب لمشركي مكة فيدخل سائر الناس بالتبعية على قياس ما قلنا .
والمراد من قوله ( اعبدوا ) صححوا نسبة العبادة ، وذلك بأن يعرف نفسه بالإمكان ليعرف ربه بالوجوب ، ويعرف نفسه بالمملوكية ليعرف ربه بالمالكية ، ويعرف نفسه بالمقهورية والمقدورية ليعرف ربه بالقاهرية والقادرية ، ويعرف نفسه بالمأمورية والذلة ليعرف ربه بالآمرية والعزة ، فلا يتجاوز حده ولا يعكس هذه القضايا فلا يرى لنفسه تصرفاً بوجه من الوجوه ولا قدرة بنوع من الأنواع ، وإنما يكون عبداً ذليلاً ماثلاً بين يدي مولاه ، طائعاً له بكل ما يأمره وينهاه ، لأنه إذا تصور كونه عبداً فلا بد أن يطلب لنفسه سيداً ، وإذا وجد السيد فلا محالة يوطن نفسه لطاعته وانقياده ، ولا يرى مخالفته في شيء أصلاً ) إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) [ البقرة : 131 ] وإلا لم تصح نسبة عبوديته .
عن الأصمعي أنه أتى بغلام ليشتريه فقال له : ما اسمك ؟ قال : ما تسميني قال : أي شيء تأكل ؟ قال : ما تطعمني .
قال : ما تشرب ؟ قال : ما تسقيني قال : تريد أن أشتريك ؟ قال : العبد لا يكون له إرادة والأمر بالعبادة بهذا المعنى يشمل الكافر والمؤمن وكل من فيه أهلية الخطاب ، ويندرج فيه المبادي والنهايات والأصول والفروع .
ثم إنه تعالى لما علم القصور البشري وضعف قواهم الفطرية والفكرية أرشدهم إليه ونبههم عليه بقوله ( ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) واعلم أن الطريق إلى معرفة الواجب سبحانه وتعالى بعد ما قلنا من الرجوع إلى النفس والتنبه لسمة العبودية ، إما الإمكان أو الحدوث أو مجموعهما ، وكل منهما في الجواهر أو في الأعراض أما الاستدلال بإمكان الذوات فإليه الإشارة بقوله تعالى ) والله الغني وأنتم الفقراء ) [ محمد : 38 ] ( وأن إلى ربك المنتهى ) [ النجم : 42 ] وأما(1/180)
" صفحة رقم 181 "
الاستدلال بإمكان الصفات فإليه الإشارة بقوله ) خلق الله السموات والأرض ) [ العنكبوت : 44 ] ( الذي جعل لكم الأرض فراشاً ( وبحدوث الأجسام قول إبراهيم عليه السلام ) لا أحب الآفلين ) [ الأنعام : 76 ] وبحدوث الأعراض دلائل الأنفس ودلائل الآفاق ، فإن كل أحد يعلم بالضرورة أنه كان معدوماً قبل ذلك ، والموجود بعد العدم له موجد وليس هو نفسه ولا الأبوان ولا سائر الناس لعجز الكل ، ولا طبائع الفصول والأفلاك الآفلات في أفق الإمكان فهو شيء غير تسم بسمة الحدوث والنقصان ، وهذا الطريق هو أقرب الطرق إلى الأفهام ، فلهذا أورده الله تعالى في فاتحة كتابه لينتفع به الخاص والعام مع أن فيه تذكيراً لنعمه السابقة وعطيته السابغة عليهم وعلى آبائهم ، وتذكير النعم مما يوجب المحبة والميل إلى الإنصاف وترك الجدال .
وأما قوله ( لعلكم تتقون ) ففيه بحثان : الأول : كلمة ( لعل ) للترجي أو الإشفاق ولا يحصلان إلا عند الجهل بالعاقبة وهو على الله محال والجواب أن الترجي راجع إلى العباد لا إلى الله تعالى كقوله ) لعله يتذكر أو يخشى ( أي اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه ، ثم الله عالم بما يؤول إليه أمره .
وأيضاً فمن ديدن الملوك أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم لإنجازها على أن يقولوا ( عسى ) و ( لعل ) ، وحينئذ لا يبقى لطالب ما عندهم شك في الفوز والنجاح بالمطلوب ، أو جاء على طريق الأطماع دون التحقيق لئلا يتكل العباد مثل ) توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيآتكم ) [ التحريم : 8 ] وقع ( لعل ) موقع المجاز لا الحقيقة لأن الله عز وجل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف ، وركب فيهم العقول والشهوات وأزاح العلة في إقدارهم وتمكينهم ، وهداهم النجدين وأراد منهم الخير والتقوى ، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المترجي بين أن يفعل وبين أن لا يفعل ، ونظيره ) ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ) [ الملك : 2 ] وهذا الجواب مبني على أن قوله ( لعلكم ) متعلق ( بخلفكم ) مثل ) وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] لا ب ( اعبدوا ) وقيل : ( لعل ) بمعنى ( كي ) ووجه بأنها للأطماع والكريم الرحيم إذا أطمع فعل ، فجرى إطماعه مجرى وعده المحتوم فلهذا قيل : إنها بمعنى ( كي ) قال القفال : في ( لعل ) معنى التكرير والتأكيد إذ اللام للإبتداء نحو ( لقد ) ، ولقولهم علك أن تفعل كذا و ( عل ) يفيد التكرير ومنه العلل بعد النهل .
فقول القاتل ( افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك ) معناه افعله فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه .(1/181)
" صفحة رقم 182 "
( البحث الثاني ) : إذا كانت العبادة تقوى فقوله ( لعلكم تتقون ) جار مجرى قوله : اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون واتقوا ربكم لعلكم تتقون .
والجواب المنع من اتحاد مفهوميهما وخصوصاً على ما فسرنا إذ المعنى يعود إلى قولنا صححوا نسبة العبودية لتتصفوا بصفة التقوى وهي الاجتناب عن المعاصي فقط ، أو هو مع الإتيان بالأوامر ، وأما قوله : ( هو الذي جعل لكم الأرض فراشاً ( الآية .
فنقول : فيه لفظ ( الذي ) مع صلته ، إما أن يكون في محل النصب بدلاً من ( الذي خلقكم ) أو على المدح والتعظيم ، وإما أن يكون رفعاً على المدح أيضاً أي ( هو الذي ) ، وكلمة ( الذي ) موضوعة للإشارة إلى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة .
فقوله ( جعل لكم الأرض فراشاً ) قضية معلومة فأدخل عليها ( الذي ) كي ينتبهوا للجاعل ويعترفوا به .
والحاصل أنه تعلى عدد في هذا المقام عليهم خمسة دلائل ( اثنين من الأنفس وهما خلقهم وخلق أصولهم ، وثلاثة من الآفاق جعل الأرض فراشاً والسماء بناء والأمور الحاصلة من مجموعهما وهي إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات بسببه ، وسبب هذا الترتيب ظاهر لأن أقرب الأشياء غلى الإنسان نفسه ، ثم ما منه منشؤه وأصله ، ثم الأرض التي هي مكانة ومستقره ، يقعدون عليها وينامون ويتقلبون كما يتقلب أحدهم على فراشه ، ثم السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المبنيّة على هذا القرار ، ثم ما يحصل من شبه الازدواج بين المقلة والمظلة من إنزال الماء عليها والإخراج به من بطنها أشباه النسل من الحيوان من ألوان الغذاء وأنواع الثمار رزقاً لبني آدم .
وأيضاً خلق المكلفين أحياء قادرين ، أصل لجميع النعم .
وأما خلق الأرض والسماء فذاك إنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة ، وذكر الأصول مقدم على ذكر الفروع .
وأيضاً كل ما في السماء والأرض من الدلائل على وجود الصانع فهو حاصل في الإنسان بزيادة الحياة والقدرة والشهوة والعقل ، ولما كانت وجوه الدلالة فيه أتم كان تقديمه في الذكر أهم .
( وههنا مسائل ) : الأولى في منافع الأرض : الفراش اسم لما يفرش كالمهاد لما يمهد والبساط لما يبسط ، وليس من ضرورات الافتراش أن يكون سطحها مستوياً كالفراش على ما ظن ، فسواء كانت كذلك أو على شكل الكرة فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع لعظم جرمها وتباعد أطرافها .
ولكنه لا يتم الافتراش عليها ما لم تكن ساكنة في حيزها الطبيعي وهو وسط الأفلاك ، لأن الثقال بالطبع تميل إلى تحت كما أن الخفاف بالطبع تميل إلى فوق ، والفوق من جميع الجوانب ما يلي السماء ، والتحت ما يلي المركز ، فكما أنه يستبعد صعود الأرض(1/182)
" صفحة رقم 183 "
فيما يلينا إلى جهة السماء ، فليستبعد هبوطها في مقابلة ذلك ، لأن ذلك الهبوط سعود أيضاً إلى السماء ، فإذن لا حاجة في سكون الأرض وقرارها في حيزها إلى علاقة من فوقها ، ولا إلى دعامة من تحتها ، بل يكفي في ذلك ما أعطاها خالقها وركز فيها من الميل الطبيعي إلى الوسط الحقيقي بقدرته واختياره ) إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ) [ فاطر : 41 ] ومما منَّ الله تعالى به على عباده في خلق الأرض أنها لم تجعل في غاية الصلابة كالحجر ، ولا في غاية اللين والانغمار كالماء ، ليسهل النوم والمشي عليها ، وأمكنت الزراعة واتخاذ الأبنية منها ويتأتى حفر الآبار وإجراء الأنهار .
ومنها أنها لم تخلق في نهاية اللطافة والشفيف لتستقر الأنوار عليها وتسخن منها فيمكن جوارها .
ومنها أن جعلت بارزة بعضها من الماء مع أن طبعها الغوص فيه لتصلح لتعيش الحيوانات البرية عليها ، وسبب انكشاف ما برز منها وهو قريب من ربعها أنها لم تخلق صحيحة الاستدارة بل خلقت هي والماء بحيث إذا انجذب الماء بطبعه إلى المواضع الغائرة والمنخفضة منها بقي شيء منها مكشوفاً ، وصار مجموع الأرض والماء بمنزلة كرة واحدة يدل على ذلك فيما بين الخافقين .
تقدم طلوع الكواكب وغروبها للمشرقين على طلوعها وغروبها للمغربين ، وفيما بين الشمال والجنوب ازدياد ارتفاع القطب الظاهر وانحطاط الخفي للواغلين في الشمال ، وبالعكس للواغلين في الجنوب ، وتركب الاختلافين لمن يسير على سمت بين السمتين إلى غير ذلك من الأعراض الخاصة بالاستدارة يستوي في ذلك راكب البر وراكب البحر .
ونتوء الجبال وإن شمخت لا يخرجها عن أصل الاستدارة لأنها بمنزلة الخشونة القادحة في ملاسة الكرة لا في استدارتها .
ومنها الأشياء المتولدة فيها من المعادن والنبات والحيوان والآثار العلوية والسفلية ، ولا يعلم تفاصيلها غلا موجدها .
ومنها أن يتخمر الرطب به فيحصل التماسك في أبدان المركبات .
ومنها اختلاف بقاعها في الرخاوة والصلابة والدماثة والوعورة بحسب اختلاف الأعراض والحاجات ) وفي الأرض قطع متجاورات ) [ الرعد : 4 ] ومنها اختلاف ألوانها ) ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ) [ فاطر : 27 ] ومنها انصداعها بالنبات ) والأرض ذات الصدع ) [ الطارق : 12 ] ومنها جذبها للماء المنزل من السماء ) وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض ) [ المؤمنون : 18 ] ومنها العيون والأنهار العظام التي فيها ) والأرض مددناها ) [ ق : 7 ] ومنها أن لها طبع الكرم والسماحة تأخذ واحدة وترد سبعمائة ) كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) [ البقرة : 261 ] ومنها حياتها وموتها ) وآية لهم الأرض الميتة أحييناها ) [ يس : 33 ] ومنها الدواب المختلفة ) وبث فيها من كل دابة ) [ البقرة : 164 ] ومنها النباتات المتنوعة ) وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ) [ ق : 7 ] فاختلاف ألوانها دلالة ، واختلاف طعومها دلالة ، واختلاف(1/183)
" صفحة رقم 184 "
روائحها دلالة ، فمنها قوت البشر ، ومنها قوت البهائم ) كلوا وارعوا أنعامكم ) [ طه : 54 ] ومنها الطعام ، ومنها الإدام ، ومنها الدواء ، ومنها الفواكه ، ومنها كسوة البشر نباتية كالقطن والكتان ، وحيوانية كالشعر والصوف والإبريسم والجلود .
ومنها الأحجار المختلفة بعضها للزينة وبعضها للأبنية ، فانظر إلى الحجر الذي يستخرج منه النار مع كثرته ، وانظر إلى الياقوت الأحمر مع عزته ، وانظر إلى كثرة النفع بذلك الحقير وقلة النفع بهذا الخطير .
ومنها ما أودع الله تعالى فيها من المعادن الشريفة كالذهب والفضة ، ثم تأمل أن البشر استنبطوا الحرف الدقيقة والصنائع الجليلة واستخرجوا السمك من قعر البحر ، واستنزلوا الطير من أوج الهواء ، لكن عجزوا عن اتخاذ الذهب والفضة .
والسبب فيه أن معظم فائدتهما ترجع إلى الثمنية ، وهذه الفائدة لا تحصل إلا عند العزة والقدرة على اتخاذهما تبطل هذه الحكمة فلذلك ضرب الله دونهما باباً مسدوداً ، ومن ههنا اشتهر في الألسنة ( من طلب المال بالكيمياء أفلس ) .
ومنها ما يوجد على الجبال والأراضي من الأشجار الصالحة للبناء والسقف ثم الحطب ، وما أشد الحاجة غليه في الخبز والطبخ .
ولعل ما تركنا من المنافع أكثر مما عددنا ، فإذا تأمل العاقل في هذه الغرائب والعجائب اعترف بمدبر حكيم ومقدر عليم إن كان ممن يسمع ويعي ويبصر ويعتبر .
الثانية في منافع السماء : البناء مصدر سمي به المبني بيتاً كان أو قبة أو خباء ، وأبنية العرب أخبيتهم ، ومنه بنى على امرأته لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديداً .
ثم إن الله تعالى زين السماء الدنيا بالمصابيح ) ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ) [ الملك : 5 ] وبالقمر ) وجعل القمر فيهن نوراً ) [ نوح : 16 ] وبالشمس ) وجعل الشمس سراجاً ) [ نوح : 16 ] وبالعرش ) رب العرش العظيم ) [ التوبة : 129 ] وبالكرسي ) وسع كرسيه السموات والأرض ) [ البقرة : 255 ] وباللوح ) في لوح محفوظ ) [ البروج : 22 ] وبالقلم ) ن والقلم ) [ القلم : 1 ] وسماها سقفاً محفوظاً وسبعاص طباقاً وسبعاً شداداً .
وذكر أن خلقها مشتمل على حكم بليغة وغايات صحيحة ) ربنا ما خلقت هذا باطلاً ) [ آل عمران : 191 ] ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا ) [ ص : 27 ] وجعلها مصعد الأعمال ومهبط الأنوار وقبلة الدعاء ومحل الضياء والصفاء ، وجعل لونها أنفع الألوان وهو المستنير ، وشكلها أفضل الأشكال وهو المستدير ، ونجومها رجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، وقيض للشمس طلوعاً يسهل معه التقلب لقضاء الأوطار في الأطراف ، وغروباً يصلح معه الهدوء والقرار في الأكنان لتحصيل الراحة وانبعاث القوة(1/184)
" صفحة رقم 185 "
الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء ، وأيضاً لولا الطلوع لنجمدت المياه وغلبت البرودة والكثافة وأفضت غلى خمود الحرارة الغريزية وانكسار سورتها ، ولولا الغروب لحميت الأرض حتى يحترق كل من عليها من حيوان ونبات ، فهي بمنزلة سراج يوضع لأهل بيت بمقدار حاجتهم ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا .
فصار النور والظلمة على تضادّهما متظاهرين على ما فيه صلاح قطان الأرض ، وههنا نكتة ، كأن الله تعالى يقول : لو وقفت الشمس في جانب من السماء فالغني قد يرفع بناءه على كوة الفقير الجار فلا يصل النور إلى الفقير ، لكني أدير الفلك وأسيرها حتى يجد الفقير نصيبه كما وجد الغني نصيبه .
أما ارتفاع الشمس وانحطاطها فقد جعله الله سبباً لإقامة الفصول الأربعة .
ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد منه مواد الثمار ، ويلطف الهواء ويكثر السحاب والمطر وتقوى أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزية في البواطن .
وفي الربيع تتحرك الطباع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء ، وينوّر الشجر ويهيج الحيوان للفساد .
وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار وتتحلل فضول الأبدان ويجف وجه الأرض ويتهيأ للعمارة والزراعة .
وفي الخريف يظهر البرد واليبس فتدرك الثمار وتستعد الأبدان قليلاً قليلاً للشتاء .
وأما القمر فهو تلو الشمس وخليفتها وبه يعلم عدد السنين والحساب ويضبط المواقيت الشرعية ، ومنه تحصيل النماء والرواء ، وقد جعل الله تعالى في طلوعه مصلحة وفي غيبته مصلحة .
يحكى أن أعرابياً نام عن جملة ليلاً ففقده ، فلما طلع القمر وجده فنظر إلى القمر فقال : إن الله صوّرك ونوّرك وعلى البروج دوّرك ، فإذا شاء نورك وإذا شاء كوّرك ، فلا أعلم مزيداً أساله لك ، ولئن أهديت إليّ سروراً لقد أهدى الله إليك نوراً ثم أنشأ يقول :
ماذا أقول وقولي فيك ذو قصر
وقد كفيتني التفصيل والجملا
إن قلت لا زلت مرفوعاً فأنت كذا
أو قلت زانك ربي فهو قد فعلا
وقد كان في العرب من يذم القمر ويقول : القمر يدرك الهارب ، ويهتك العاشق ، ويبلي الكتاب ، ويهرم الشاب ، وينسي ذكر الأحباب ، ويقرب الدين ، ويدني الحين .
وكيفية ارتباط القمر وسائر الكواكب بالشمس وكمية حركتها وبيان اختلافات أوضاعها وعلل كل منها ، فن برأسه لا يحتمل إيراده ههنا .
قال الجاحظ : إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعدّ فيه كل ما يحتاج إليه .
فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة كالمصابيح ، والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه ، وضروب النبات مهيآت لمنافعه ، وصنوف الحيوان متصرفة في مصالحه ، فهذه جملة واضحة دالة على أن(1/185)
" صفحة رقم 186 "
العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية .
الثالثة في أن السماء أفضل أم الأرض : قال بعضهم : السماء أفضل لأنها متعبد الملائكة وما فيها بقعة عصي الله فيها ، ولما أتى آدم عليه السلام بتلك المعصية أهبط من الجنة وقال الله تعالى : لا يسكن في جواري من عصاني .
وقال تعالى : ( وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً ) [ الأنبياء : 32 ] وقال : ( تبارك الذي جعل في السماء بروجا ) [ الفرقان : 61 ] وورد في الأكثر ذكر السماء مقدماً على ذكر الأرض .
والسماويات مؤثرة والأرضيات متأثرة ، والمؤثر أشرف من المتأثر .
وقال آخرون : بل الأرض أفضل لأنه تعالى وصف بقاعاً من الأرض بالبركة ) إن أوّل بيت وضع للناس الذي ببكة مباركاً ) [ آل عمران : 96 ] ( في البقعة المباركة [ القصص : 3 ] ( إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ) [ الإسراء : 1 ] ( مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ) [ الأعراف : 137 ] يعني أرض الشام .
ووصف جملة الأرض بالبركة ) وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام ) [ فصلت : 10 ] فإن قيل : وأيّ بركة في المفاوز المهلكة ؟ قلنا : إنها مساكن الوحوش ومرعاها ، ومساكن الناس إذا احتاجوا إليها ، ومساكن خلق لا يعلمهم إلا الله تعالى ، فلهذه البركات قال تعالى : ( وفي الأرض آيات للموقنين ) [ الذاريات : 20 ] تشريفاً لهم لأنهم هم المنتفعون بها كما قال : ( هدى للمتقين ( وخلق الأنبياء من الأرض ) منها خلقناكم ) [ طه : 55 ] وأودعهم فيها ) وفيها نعيدكم ) [ طه : 55 ] وأكرم نبيه المصطفى فجعل الأرض كلها له مسجداً وطهوراً .
ولما خلق الله الأرض وكانت كالصدفة والدرة المودعة فيها آدم عليه السلام وأولاده ، ثم علم الله أصناف حاجاتهم قال : يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال : ( أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً ) [ عبس : 25 ، 26 ] ( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم ) [ إبراهيم : 32 ] يا عبدي إن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة ، ولو أني خلقت الأرض منهما هل كان يحصل منها هذه المنافع ؟ ثم إني جعلت هذه الأشياء في الدنيا مع أنها سجن لك ، فكيف الحال في الجنة ؟ فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم ، لأن الأم تسقيك نوعاً واحداً من اللبن ، والأرض تطعمك ألواناً من الأطعمة .
ثم قال : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ) [ طه : 55 ] معناه نردكم إلى هذه الأم وهذا ليس بوعيد ، لأن المرء لا يتوعد بأمه وذلك لأن مقامك من الأم التي ولدتك أضيق من مقامك من الأرض ، ثم إنك كنت في بطن الأم الصغرى تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش ، فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى ؟ ولكن الشرط أن تدخل بطن الأم الكبرى كما كنت في بطن الأم الصغرى ، ما كانت لك زلة فضلاً من أن يكون لك كبيرة ، بل كنت مطيعاً لله ، فحيث دعاك مرة بالخروج(1/186)
" صفحة رقم 187 "
إلى الدنيا خرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك ، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك .
الرابعة : معنى إخراج الثمرات بالماء وإنما خرجت بقدرة الله ومشيئته أنه جعل الماء سبباً في خروجها ومادة لها كالنطفة في خلق الولد وهو قادر على إنشاء الأشياء بلا أسباب ومواد كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد ، ولكن له في هذا التدريج والتسبب حكماً يتبصر بها من يستبصر ، ويتفطن بها من يعتبر و ( من ) في ( من الثمرات ) للتبعيض .
كما أنه قصد بتنكير ( ماء ) و ( رزقاً ) معنى البعضية لأنه مفرد في سياق الإثبات ، فكأنه قيل : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم وهذا معنى صحيح ، لأنه لم ينزل من السماء الماء كله ، ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات ، ولا جعل الرزق كله في الثمرات فيكون كل الثمرات بعض الرزق فضلاً عن بعضها .
ويجوز أن تكون للبيان كقولك ( أنفقت من الدراهم ألفاً ) .
ثم إن كانت ( من ) للتبعيض كان انتصاب ( رزقا ) بأنه مفعول له ، وإن كانت للبيان كان مفعولاً لا ( خرج ) و ( لكم ) صفة جارية على الرزق إن أريد به العين ، وإن جعل مصدراً فهو مفعول به ، كأنه قيل : رزقاً إياكم .
وإنما قيل : ( الثمرات ) على لفظ القلة وإن كان الثمر المخرج بماء السماء جماً كثيراً لأنه قصد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك ( فلان أدركت ثمرة بستانه ) تريد ثماره كقولهم للقصيدة ( كلمة ) وللقرية ( مدرة ) ، أو لأن القلة وضعت موضع الكثرة نحو ) ثلاثة قروء ) [ البقرة : 228 ] أو تنبيهاً على قلة ثمار الدنيا في جنب ثمار الآخرة .
الخامسة : قوله ( فلا تجعلوا ) إما أن يتعلق بالأمر أي اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له أنداداً ، لأن أصل العبادة وأساسها التوحيد ، وأن لا يجعل لله ند ولا شريك ، أو ب ( لعل ) فتنصب ( تجعلوا ) بعده مثل ) لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع ) [ غافر : 37 ] في رواية حفص عن عاصم .
أو ( بالذي جعل لكم ) إذا رفعته على الابتداء ، أي هو الذي نصب لكم هذه الأدلة القاطعة والآيات الناطقة بالوحدانية فلا تتخذوا له تعالى شركاء .
والند المثل ، ولا يقال إلا للمثل المخالف المنادّ من ناددت الرجل خالفته ونافرته ، وندّ ندوداً إذا نفر .
ومعنى قول الموحد ( ليس لله ند ولا ضد ) نفي ما يسد مسده ونفي ما ينافيه .
وقوله ( وأنتم تعلمون ) بترك المفعول معناه وأنتم من أهل العلم والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال .
وهكذا كانت العرب خصوصاً قطان الحرم من قريش وكنانة ، لا يشق غبارهم في الدهاء والفطنة .
والتوبيخ فيه آكد أي أنتم العرافون المميزون ، ثم ما أنتم عليه في أمر(1/187)
" صفحة رقم 188 "
ديانتكم من جعل الأصنام لله أنداداً هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل .
ويجوز أن يقدر : وأنتم تعلمون أنه لا يماثل ، أو وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت ، وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله كقوله ) هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ) [ الروم : 4 ] واعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكاً يساويه في الوجوب والعلم والقدرة والحكمة ، ولكن الثنوية يثبتون إلهين : حكيم يفعل الخير ، وسفيه يفعل الشر .
أما اتخاذ معبود سوى الله ففي الذاهبين إليه كثرة : الفريق الأول : عبدة الكواكب وهم الصابئة فإنهم يقولون : إن الله تعالى خلق هذه الكواكب وهي المدبرات في هذا العلم ، فيجب علينا أن نعبد الكواكب والكواكب تعبد الله تعالى .
والفريق الثاني : عبدة ا لمسيح عليه السلام .
والفريق الثالث : عبدة الأوثان .
فنقول : لا دين أقدم من دين عبدة الأوثان لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عليه السلام ، وهو إنما جاء بالرد عليهم ) وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسراً ) [ نوح : 23 ] ودينهم باقٍ إلى الآن .
والدين الذي هذا شأنه يستحيل أن يعرف فساده بالضرورة ، ولكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السماء والأرض علم ضروري ، فيمتنع إطباق الجمع العظيم عليه ، فوجب أن يكون لهم غرض آخر سوى ذلك .
و العلماء ذكروا فيه وجوهاً : أحدها : ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي أن كثيراً من أهل الصين والهند كانوا يقولون بالله وملائكته ، ويعتقدون أنه جسم ذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وكذا الملائكة ، وأنهم كلهم قد احتجبوا عنا بالسماء ، وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة فيعكفون على عبادتها قاصدين به طلب الزلفى إلى الله تعالى وملائكته ، فعلى هذا السبب في عبادة الأوثان هو اعتقاد الشبه .
وثانيها : ما ذكره أكثر العلماء ، وهو أن الناس لما رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب ، واعتقدوا ارتباط السعادة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس ، بالغوا في تعظيمها .
فمنهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذواتها وهي التي خلقت هذه العوالم ، ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة لله الأكبر لكنها خالقة لهذا العالم ، وأنها الوسائط بين الله والبشر ، فلا جرم اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها .
ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار ، اتخذوا لها اصناماً وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادة تلك الأجرام العالية ، ومتقربين إلى أشباحها الغائبة .
ولما طالت المدة تركوا ذكر الكواكب وتجردوا لعبادة تلك التماثيل ، فهؤلاء بالحقيقة عبدة الكواكب .
وثالثها : أن أصحاب الأحكام كانوا يرتقبون أوقاتاً في السنين المتطاولة نحو الألف والألفين ، ويزعمون(1/188)
" صفحة رقم 189 "
أن من اتخذ طلسماً في ذلك الوقت على وجه خاص فإنه ينتفع به في أحوال مخصوصة نحو السعادة والخصب ودفع الآفات ، وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عظموه لاعتقادهم أنهم ينتفعون به ، فلما بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة ، ثم نسوا مبدأ الأمر بتطاول المدة واشتغلوا بعبادتها .
ورابعها : أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون فيه أنه مستجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله تعالى ، اتخذوا صنماً على صورته وعبدوها على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعاً لهم يوم القيامة عند الله تعالى ) ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [ يونس : 18 ] وخامسها : لعلهم اتخذوها قبلة لصلاتهم وطاعاتهم ويسجدون إليها لا لها كما أنا نسجد إلى القبلة لا للقبلة ، ولما استمرت هذه الحالة ظن جهال القوم أنه يجب عبادتها .
وسادسها : لعلهم كانوا من المجسمة فاعتقدوا جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل .
فهذه هي الوجوه التي يمكن حمل مذهبهم عليها حتى لا يصير بحيث يعلم بطلانه بالضرورة .
فإن قيل : لما رجع حاصل مذاهب عبدة الأوثان إلى الوجوه التي ذكرت ، فما وجه المنع عنها ؟ قلنا : لما تقربوا إليها وعظموها وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله قادرة على مخالفته ومضادته ، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم ، وكما تهكم بهم بلفظ الند ، شنع عليهم واستفظع شأنهم بأن جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ند قط ، ولا يفيد في طريق عبادته إلا الحنيفية والإخلاص ورفع الوسائط من البين .
واعلم أن اليونانيين كانوا قبل خروج الإسكندر عمدوا غلى بناء هياكل لهم معروفة بأسماء القوى الروحانية والأجرام النيرة ، واتخذوها معبودة لهم على حدة .
وقد كان هيكل العلة الأولى وهي عندهم الأمر الإلهي ، وهيكل العقل الصريح ، وهيكل السياسة المطلقة ، وهيكل النفس والصور مدورات كلها ، وكان هيكل زحل مسدساً ، وهيكل المشتري مثلثاً ، وهيكل المريخ مستطيلاً ، وهيكل الشمس مربعاً ، وهيكل الزهرة مثلثاً في جوفه مربع ، وهيكل عطارد مثلثاً في جوفه مستطيل ، وهيكل القمر مثمناً .
وزعم أصحاب التاريخ أن عمرو بن لحيّ لما ساد قومه وترأس على طبقاتهم وولي أمر البيت الحرام ، اتفقت له سفرة إلى البلقاء فرأى قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا : هذه أوثان نستنصر بها فننصر ، ونستسقي بها فنسقي ، فالتمس منهم أن يأتوا بواحد منها فأعطوه الصنم المعروف بهبل ، فصار به إلى مكة ووضعه في الكعبة ، ودعا الناس إلى تعظيمه ، وذلك في أول ملك سابور ذي الأكتاف .
ومن بيوت الأصنام المشهورة ( غمدان ) الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة صنعاء وخربه عثمان بن عفان .
ومنها ( نوبهار ) الذي بناه منوجهير الملك على اسم القمر .
ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل ( ود ) بدومة الجندل لكلب ، و ( سواع ) لبني هذيل ، و ( يغوث )(1/189)
" صفحة رقم 190 "
لمذحج ، و ( يعوق ) لهمدان ، و ( نسر ) بأرض حمير لذي الكلاع ، و ( اللات ) بالطائف لثقيف ، و ( منات ) بيثرب للخزرج ، و ( العزى ) لكنانة بنواحي مكة ، و ( أساف ) و ( نائلة ) على الصفا والمروة .
وكان قصي جد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ينهاهم عن عبادتها ويدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى ، وكذلك زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق قومه وهو الذي يقول :
أرباً واحداً أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعاً
كذلك يفعل الرجل البصير
( البقرة : ( 23 - 24 ) وإن كنتم في . . . .
" وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين " ( القراآت : ما يتعلق بها من ضم ميم الجمع ومن إمالة الناس يعرف مما مر .
الوقوف : ( من مثله ) ( ص ) ( صادقين ) ( والحجارة ) ( ج ) على تقدير هي أعدت للكافرين ، والوصل أجود لأن قوله ( أعدت ) بدل الجملة الأولى في كونها صلة للتي ( للكافرين ) ( 5 ) .
التفسير : لما نبه بالآيتين السابقتين على طريق الاعتراف بوجود الصانع ووحدانيته ، أعقبهما بما يدل على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وحقية ما نزل عليه ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقد ذكر في كون القرآن معجزاً طريقان : الأول : أنه إما أن يكون مساوياً لكلام سائر الفصحاء أو زائداً عليه بما لا ينقض العادة أو بما ينقضها .
والأولان باطلان لأنهم - وهم زعماء وملوك الكلام - تحدّوا بسورة منه مجتمعين أو منفردين ثم لم يأتوا بها مع أنهم كانوا متهالكين في إبطال أمره حتى بذلوا النفوس والأموال ، وارتكبوا المخاوف والمحن ، وكانوا في الحمية والأنفة إلى حد لا يقبلون الحق فكيف الباطل ؟ فتعين القسم الثالث .
الطريق الثاني : أن يقال : إن بلغت السورة المتحدى بها في الفصاحة إلى حد الإعجاز فقد حصل المقصود وإلا فامتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم غلى توهين أمره معجز ، فعلى التقديرين يحصل الإعجاز .
فإن قيل : وما يدريك أنه لن يعارض في مستأنف الزمان وإن لم يعارض إلى الآن ؟ قلت : لأنه لا احتياج إلى المعارضة أشد مما في وقت التحدي ، (1/190)
" صفحة رقم 191 "
وإلا لزم تقرير المبطل المشبه للحق .
وحيث لم تقع المعارضة وقتئذ علم أن لا معارضة ، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله ( ولن تفعلوا ) كما يجيء .
واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها ، وكالملاحة فمدرك الإعجاز هو الذوق .
ومن فسر الإعجاز بأنه صرف الله تعالى البشر عن معارضته ، أو بأنه هو كون أسلوبه مخالفاً لأساليب الكلام ، أو بأنه هو كونه مبرأ عن التناقض ، أو بكونه مشتملاً على الأخبار بالغيوب وبما ينخرط في سلك هذه الآراء ، فقد كذب ابن أخت خالته .
فإنا نقطع أن الاستغراب من سماع القرآن إنما هو من أسلوبه ، ونظمه المؤثر في القلوب تأثيراً لا يمكن إنكاره لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، لا من صرف الله تعالى البشر عن الإتيان بمثله ، كما لو قال أحد : معجزتي أن أضع الساعة يدي على رأسي ويتعذر ذلك عليكم .
وكان كما قال ، جاء الاستغراب من التعذر لا من نفس الفعل .
وأيضاً تسمية كل أسلوب غريب معجزاً باطل ، وكذا تسمية كل كلام مبرإ عن التناقض أو مشتملاً على الغيب ككلام الكهان ونحوهم .
فإن قيل : كيف نعتقد إعجاز القرآن بحيث يعجز عنه الثقلان فقط والزائد غير معلوم الحال ، أو بحيث يعجز عنه المخلوقات بأسرها ؟ قلنا : لا ريب أن الحق هو القسم الثاني ، إلا أن التحدي لم يقع إلا بالقدر الأول وبه يثبت صحة النبوة .
لكن النبي صادق وقد أخبر بأنه كلام الله تعالى ، ونحن نعلم أن كلام صفته وصفته يجب أن تكون في غاية الكمال ونهاية الجلال .
فالقرآن إذاً في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة .
والبلاغة هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حداً له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها ، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها ، وهي فينا كأنها هيئة اجتماعية حاصلة من معرفة قوانين علمي المعاني والبيان .
والفصاحة إما معنوية وهي خلوص الكلام عن التعقيد ، والتعقيد أن يعثر صاحبه فكرك في متصرفه ويشيك طريقك إلى المعنى ويوعر مذهبك نحوه ، حتى يقسم فكرك ويشعب ظنك فلا تدري من أين تتوصل وبأي طريق معناه يتحصل .
وإما لفظية وهي أن تكون الكلمة عربية أصلية ، وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدرب ، واستعمالهم لها أكثر ، وأن تكون أجرى على قوانين اللغة العربية ، وأن تكون سليمة عن التنافر ، عذبة على العذبات ، سلسة على الأسلات .
والحاكم في ذلك هو الذوق السليم والطبع المستقيم ، فقلما ينجع هنالك إلا ذلك .
ثم إنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة تقتضي نقصان الفصاحة ، ومع ذلك فإنه بلغ في الفصاحة النهاية التي لا غاية وراءها ، فدل ذلك على كونه معجزاً .
منها أن فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات كبعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو(1/191)
" صفحة رقم 192 "
طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة ، وليس في القرآن من هذه الأشياء مقدار كثير .
ومنها أنه تعالى راعى طريق الصدق وتبرأ عن الكذب ، وقد قيل : أحسن الشعر أكذبه .
ولهذا كان لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما وتركا سلوك سبيل الكذب والتخيل ترك شعرهما .
ومنها أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح إنما يتفق في بيت أو في بيتين من قصيدة ، والقرآن كله فصيح ككل جزء منه .
ومنها أن الشاعر الفصيح إذا كرر كلامه لم يكن الثاني في الفصاحة بمنزلة الأول ، وكل مكرر في القرآن فهو في نهاية الفصاحة وغاية الملاحة .
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره
هو المسك ما كررته يتضوّع
ومنها أنه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم المنكرات والحث على مكارم الأخلاق والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة ، ولا يخفى ضيق عطن البلاغة في هذه المواد .
ومنها أنهم قالوا : إن شعر امرئ القيس يحسن في النساء وصفة الخيل ، وشعر النابغة عند الخوف ، وشعر الأعشى عند الطرب ووصف الخمر ، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء والقرآن جاء فصيحاً في كل فن من فنون الكلام .
فانظر في الترغيب إلى قوله : ( فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين ) [ السجدة : 17 ] وفي الترهيب ) وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرّعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) [ إبراهيم : 15 - 17 ] وفي الزجر ) فكلاًّ أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا ) [ العنكبوت : 40 ] وفي الوعظ ) أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ) [ الشعراء : 205 ] وفي الإلهيات ) الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ) [ الرعد : 8 ، 9 ] .
ومنها أن القرآن أصل العلوم كلها كعلم الكلام وعلم أصول الفقه وعلم الفقه واللغة والنحو والصرف والنجوم والمعاني والبيان وعلم الأحوال وعلم الأخلاق وما شئت ، ومن يطيق وصف القرآن وبلاغته فإنه كما أن الإتيان بأقصر سورة منه فوق حد البشر فوصفه كما هو فوق طاقة البشر .
( فدع عنك بحرا ضل فيه السوابح ) وإنما قيل : وإن كنتم ( دون إذ كنتم لما عرفت في تفسير ) لا ريب فيه ( .
وإنما اختير ) نزلنا ( على لفظ التنزيل دون الإنزال ، لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم وهو من مجازه لمكان التحدي ، وذلك أنهم كانوا يقولون : لو أنزله الله لأنزله جملة واحدة ) وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ) [ الفرقان : 32 ] أي على خلاف ما(1/192)
" صفحة رقم 193 "
نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقاً شيئاً فشيئاً وحيناً فحيناً حسب ما يعنّ لهم من الأحوال المتجددة والحاجات السانحة ، فقيل لهم : إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج ، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه ، وهلموا نجماً من نجومه أصغر سورة وهي الكوثر ، ومعنى السورة مذكور في المقدمة الرابعة .
وإنما قيل : ( على عبدنا ( دون أن يقال على محمد كقوله ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد ) [ محمد : 2 ] تشريفاً له ( صلى الله عليه وسلم ) وإعلاماً بأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ممن صحح نسبة العبودية المأمور بها في قوله تعالى : ( يا أيها الناس اعبدوا ( وإضافة العبد إلى الضمير أيضاً تؤيد ذلك كقوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) [ الإسراء : 65 ] .
وفيه أن السعادة كل السعادة في نسبة العبدية ، فهي التي توصل إلى العندية ) في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر ) [ القمر : 55 ] ( وأنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي ) وكمال العندية في كمال الحرية عما سوى الله .
وأما فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً ، فمن ذلك أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع واشتملت الأنواع على الأصناف ، كان إفراز كل من صاحبه أحسن ، ولهذا وضع المصنفون كتبهم على الأبواب والفصول ونحوها .
ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثم أخذ في آخر ، كان أنشط له كالمسافر إذا قطع ميلاً أو طوى فرسخاً ، ومن ثم جزأوا القرآن أسباعاً وأجزاء وعشوراً وأخماساً ، ومنها أن الحافظ إذا حفظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيحل في نفسه ، ومنه حديث أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا .
ولهذا كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل .
و ( من مثله ) متعلق بمحذوف أي بسورة كائنة من مثله ، والضمير لما نزلنا أو لعبدنا .
ويجوز أن يتعلق بقوله ( فأتوا ) والضمير للعبد معناه ، فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب والنظم الأنيق ، أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب ولم يقصد إلى مثل ونظير معين ، ولكنه كقول من قال للحجاج وقد توعده بقوله ( لأحملنك على الأدهم مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب ) أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقدرة وبسطة اليد ، ولم يقصد أحداً يجعله مثل الحجاج .
وردّ الضمير على المنزل أوجه وعليه المحققون .
ويروى عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن ، ولأن ذلك يطابق الآيات الأخر ) فأتو بسورة مثله ) [ البقرة : 23 ] ( فأتوا بعشر سور مثله ) [ هود : 13 ] ، ولأن البحث إنما وقع في المنزل لا في المنزل عليه ، إذ المعنى وإن ارتبتم أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم شيئاً مما يماثله .
ولو كان الضمير مردوداً غلى الرسول اقتضى الترتيب أن يقال : وإن ارتبتم في أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) منزل عليه ، فأتوا بسورة ممن يماثله .
وأيضاً لو كان عائداً إلى القرآن اقتضى أن يكونوا عاجزين عن الإتيان بمثله ، مجتمعين أو متفرقين ، أميين أو قارئين .
ولو عاد إلى(1/193)
" صفحة رقم 194 "
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اقتضى أن يكون الشخص الواحد الأمي الذي هو مثله عاجزاً ، ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى ، ولا سيما فإنه يلزم من الوجه الثاني تقرير نقص للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإيهام أنّ الإتيان بالقرآن ممن يكون قارئاً ممكن .
وأيضاً الأول هو الملائم لقوله ( وادعوا شهداءكم ) إذ لو كان المراد فليأت واحد آخر أمي بنحو ما أتى به هذا الواحد ، لم يحتج أن يستظهر بالشهداء وهي جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادات .
والمراد بها إما آلهتهم كأنه قيل : إن كان الأمر كما تقولون من أنها تستحق العبادة لما أنها تنفع وتضر فقد دفعتم في منازعة محمد إلى فاقة شديدة فتعجلوا الاستعانة بها ، وإلا فاعلموا أنكم مبطلون فيكون في الكلام محاجة من جهتين : من جهة إبطال كونها آلهة ، ومن جهة إبطال ما أنكروه من إعجاز القرآن .
وإما أكابرهم ورؤساؤهم أي ادعوهم ليعينوكم على المعارضة ، أو ليحكموا لكم وعليكم .
ومعنى ( دون ) أدنى مكان من الشيء ، ومنه الشيء الدون وهو الحقير ، ودوّن الكتب إذا جمعها بتقليل المسافة بينها .
ويقال هذا دون ذلك إذا كان أحط منه قليلاً ، ودونك هذا أي خذه من دونك أي من أدنى مكان منك ، فاختصر واستعير للتفاوت في الأحوال والرتب .
وقيل : زيد دون عمرو في الشرف والعلم ، ومنه قول من قال لعدوّه وقد كان يثني عليه رياء : أنا دون هذا وفوق ما في نفسك .
واتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وتخطى حكم إلى حكم .
قال الله تعالى : ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) [ آل عمران : 28 ] أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين .
و ( من دون الله ) متعلق ب ( شهداءكم ) أو ب ( ادعوا ) وعلى الأول يحتمل ثلاثة معان : ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق ، أو ادعوا الذين زعمتم أنهم يشهدون لكم بين يدي الله من قول الأعشى :
تريك القذى من دونها وهي دونه
أي تريك القذى قدام الزجاجة والحال أن الخمر قدام القذى لرقتها وصفائها ، وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن المعجز بفصاحته غاية التهكم بهم ، أو ادعوا شهداءكم من دون الله أي من دون أوليائه ومن غير المؤمنين ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله ، وهذا من المساهلة وإرخاء العنان والإشعار بأن شهداءهم - وهم فرسان البلاغة - تأبى بهم الطباع وتجمح بهم الإنسانية والأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحة الفاسد .
وعلى الثاني يحتمل معنيين : ادعوا من دون الله شهداءكم يعني لا تستشهدوا بالله ولا تقولوا الله(1/194)
" صفحة رقم 195 "
يشهد أن ما ندعيه حق كما يقول العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه ، وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم ظاهرة تصحح بها الدعاوى عند الحكام ، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم وانخزالهم ، وأن الحجة قد بهرتهم ولم تبق لهم متشبثاً غير قولهم ( الله يشهد إنا لصادقون ) .
سئل بعض العرب عن نسبه فقال : قرشي والحمد لله ، فقيل له : قولك : ( الحمد لله ) في هذا المقام ريبة .
أو المراد بالشهداء ، الله تعالى ، وكل من له أهلية الحضور من الجن والإنس .
فكأنه قيل لهم ادعوا غير الله من الجن والإنس من أردتم كقوله ) قل لئن اجتمعت الإنس والجن ) [ الإسراء : 88 ] الآية وإنما استثنى الله لأنه القادر وحده على أن يأتي بمثله دون كل شاهد .
واعلم أن التحقيق في التحدي هو أن النبي يقول : إني مخصوص من الله تعالى بمزيد الكرامة والنور ، وجعلني واسطة بينكم وبين هدايتكم فاتبعون أهدكم سبيل الخير والرشاد ، وإن كنتم في ريب مما أقول ، فانظروا إلى هذا الذي أقدر عليه بإظهار الله تعالى إياه على يدي وأنتم لا تقدرون عليه لعدم إقداره ، لتعرفوا أني خصصت بمزيد فضل من عنده وأني صادق فيما أقول ، فإن أنصفوا من أنفسهم بمشيئة الله تعالى ونور هدايته اتبعوه واهتدوا ، وإلا بقوا في الضلالة خائبين .
وكل هذا من عالم الأسباب التي ربط الله تعالى بها الوقائع والحوادث حسب ما أراد ، ولا يلزم من هذا أن يكون للعبد قدرة مستقلة يقع التحدي عليها ، بل الله يهدي من يشاء وكل بقدر .
وقوله ( إن كنتم صادقين ) قيد لقوله ( فأتوا ) ولقوله ( وادعوا ) المعطوف عليه .
ويجوز أن يكون قيداً لقوله ( وادعوا ) لأن قوله ( فأتوا ) مقيد بقوله و ( إن كنتم ) وجواب الشرط الثاني محذوف لدلالة ما قبله وهو مثله عليه التقدير : وإن كنتم في ريب فأتوا ، وإن كنتم صادقين في أن أصنامكم تعينكم ، أو في أن القرآن غير معجز ، فادعوا شهداءكم .
وإنما قلنا : الجواب محذوف ، لأن الجزاء لا يتقدم على الشرط ، فإن للشرط صدر الكلام كالاستفهام ، ولهذا لم يلزم الفاء في قولك ( أنت مكرم إن جئتني ) وإنما تقدم ما يدل عليه ومثله في القرآن كثير فاعتبره في كل موضع .
وأما قوله ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا الآية .
فأقول أولاً : إنها تدل على إعجاز القرآن وصحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من وجوه : أحدها : أنا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا يعادونه ( صلى الله عليه وسلم ) أشد المعاداة ، ويتهالكون في إبطال أمره وفراق الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج منهم من أقوى ما يدل على ذلك .
فإذا انضاف غليه مثل هذا التقريع وهو قوله ) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ( فلو أمكنهم الإتيان بمثله لأتوا به ، وحيث لم يأتوا به ظهر كونه معجزاً .
وثانيها : أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إن كان متهماً عندهم فيما يتعلق بالنبوة ، فقد كان معلوم الحال في وفور العقل .
فلو خاف ( صلى الله عليه وسلم ) عاقبة أمره لتهمة فيه ( صلى الله عليه وسلم ) - حاشاه عن ذلك - لم يبالغ في التحدي إلى هذه الغاية .
وثالثها : أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لو لم(1/195)
" صفحة رقم 196 "
يكن قاطعاً بنبوته لكان يجوز خلافه ، وبتقدير وقوع خلافه يظهر كذبه ، فالمبطل المزوّر لا يقطع في الكلام قطعاً ، وحيث جزم دل على صدقه .
ورابعها : أن قوله ( ولن تفعلوا ) وفي ( لن ) ، تأكيد بليغ في نفي المستقبل إلى يوم الدين ، إخبار بالغيب .
وقد وقع كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأن أحداً لو عارضه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه عادة ، لا سيما والطاعنون فيه ( صلى الله عليه وسلم ) أكثف عدداً من الذابين عنه ( صلى الله عليه وسلم ) .
وإذا لم تقع المعارضة غلى الآن غلب على الظن ، بل حصل الجزم أنها لا تقع أبداً لاستقرار الإسلام وقلة شوكة الطاعنين .
وإنما جيء ب ( إن ) الذي للشك دون ( إذا ) الذي للوجوب والقطع ، مع أن انتفاء إتيانهم بالسورة واجب بناء على حسبانهم وطمعهم ، فإنهم كانوا بعد غير جازمين بالعجز عن المعارضة لاتكالهم على بلاغتهم .
وأيضاً فيه تهكم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاويه : إن غلبتك لم أبق عليك .
وإنما اختير قوله ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) على قوله ( فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله ، طلباً للوجازة ، فإن الإتيان فعل من الأفعال ، وحذف مفعول فعل كثير دون مفعول أتى فهو جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصاراً يغنيك عن طول المكنى عنه ، كما لو قلت : أتيت فلاناً وأعطيته درهماً .
فيقال لك : نعم ما فعلت .
وقوله ( ولن تفعلوا ( جملة معترضة لا محل لها .
وليس الواو للحال وإنما هو للاستئناف .
والمعترضة تجيء بالواو وبدون الواو ، وقد اجتمعتا في قوله : ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) [ الواقعة : 76 ] وإنما لم يقل فإن لم تفعلوا فاتركوا العناد كما هو الظاهر ، لأن اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد ، فوضع موضعه من حيث إنه من نتائجه ، لأن من اتقى النار ترك المعاندة ، ونظيره قول الملك لجيشه : إن أردتم الكرامة عندي فاحذروا سخطي .
يريد فاتبعون وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط ، فهو من باب الكناية .
وفائدته الإيجاز الذي هو من حلية القرآن ، وتهويل شأن العناد بأنه الموجب للنار ، ولهذا شنع يتفظيع أمرها .
والوقود ما ترفع به النار ، وأما المصدر فمضموم وقد جاء فيه الفتح .
فإن قلت : صلة ) الذي ( و ) التي ( يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب ، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة ؟ قلنا : لا يمتنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب ، أو سمعوه من رسول الله ، أو يكون إشارة إلى ما نزلت بمكة قبل نزول هذه بالمدينة وذلك في سورة التحريم ) قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة ) [ التحريم : 6 ] ولهذا عرّفت ههنا مشاراً بها إلى ما عرفوه ثمة أوّلاً ، والمعنى : اتقوا ناراً ممتازة عن غيرها من النيران بأنها لا تتقّد إلا بالناس والحجارة ، أو بأنها توقد بنفس ما يراد إحراقه وإحماؤه ، أو بأنها لإفراط حرها إذا اتصلت بما لا يشتعل به نار اشتعلت وارتفع لهبها .
ولعل لكفار(1/196)
" صفحة رقم 197 "
الجن وشياطينهم ناراً وقودها الشياطين جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب .
والحجارة قيل : هي حجارة الكبريت .
وقيل : هي ما نحتوها أصناماً ) إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) [ الأنبياء : 98 ] لأنهم لما اعتقدوا فيها أنها شفعاؤهم عند الله ، وأنهم ينتفعون بها ويدفعون المضارّ عن أنفسهم ، جعلها الله عذابهم إبلاغاً في إيلامهم وتوريثاً لنقيض مطلوبهم ، ونحوه ما يفعله بالذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ، أي يمنعون حقوقها حيث ) يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهموظهورهم ) [ التوبة : 35 ] والتاء في الحجارة لتأكيد التأنيث في الجماعة نحو : صقورة .
وقد يدور في الخلد من هذه الآية ، ومن قوله ) ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة ) [ البقرة : 74 ] ومن قوله ) نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ) [ الهمزة : 6 ، 7 ] أن المراد بالحجارة هي الأفئدة أي وقودها الناس وقلوبهم .
وتخصيص القلب بالذكر لأنه أشرف الأعضاء وأولى بالإحراق إن كان مقصراً في درك ما خلق الإنسان لأجله .
ومعنى أعدت هيئت وجعلت عدّة لعذابهم ، وإنما فقد العاطف لأنها بدل من الصلة أو استئناف ، كأنه قيل لمن أعدّت هذه النار ؟ فقيل أعدت للكافرين .
( البقرة : ( 25 ) وبشر الذين آمنوا . . . .
" وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون " ( الوقوف : ( الأنهار ) ( ط ) ( رزقاً ) ( لا ) لأن ( قالوا ) جواب ( كلما ) .
( متشابهاً ) ( ط ) ( مطهرة ) ( ج ) ( خالدون ) ( 5 ) .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة وانجر الكلام إلى ذكر عقاب الكافرين ، شفع ذلك بذكر ثواب المؤمنين جرياً على سننه المعهود من ذكر الترغيب مع الترهيب ، وضم البشارة إلى الإنذار والجمع بين الوعد والوعيد والجنة والنار .
وهل هما الآن مخلوقتان أم لا ؟ ظاهر الآية من نحو قوله ) أعدت للمتقين ( ) أعدت للكافرين ( والأحاديث كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث صلاة الخسوف ( إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقوداً ورأيت النار فلم أر كاليوم منظراً قط يدل على وجودهما ) وكذا سكنى آدم وحواء الجنة ، وقد جمع الله في الآية جوامع اللذات من المسكن وهو الجنات ، ومن المطعم وهو(1/197)
" صفحة رقم 198 "
الثمرات ، ومن المنكح وهو الأزواج المطهرات ، ثم زال عنهم نقص الزوال بقوله ) وهم فيها خالدون ( إتماماً للنعمة والحبور وتكميلاً للبهجة والسرور .
والبشارة الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ، ولهذا قال العلماء : إذا قال لعبيده : أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر فبشروه فرادى ، عتق أوّلهم لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره ولو قال : مكان بشرني أخبرني عتقوا جميعاً لأنهم جميعاً أخبروه .
ومنه البشرة لظاهر الجلد ، وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه .
فأما قوله ) فبشرهم بعذاب أليم ) [ آل عمران : 21 ] فمن باب التهكم والاستهزاء ، فإن قيل : علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه ؟ قلنا : ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي ، إنما المتعمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين على جملة وصف عقاب الكافرين ، كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والإرهاق ، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق ، ولك أن تقول معطوف على ) فاتقوا ( كقولك : يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم ، وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم .
وقال بعض المحققين : إنه معطوف على قل مقدراً قبل ) يا أيها الناس ( فإن تقدير القول في القرآن مع وجود القرينة غير عزيز كقوله تعالى ) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا ( أي يقولان : ربنا .
ثم المأمور في قوله ) وبشر ( إما الرسول ، وإما كل من له استئهال أن يبشر .
والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم .
قال الحطيئة :
كيف الهجاء وما تنفك صالحة
من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
واللام للجنس .
والمراد بالصالحات جملة الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف .
واستدل بهذه الآية من قال : إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان ، وإلا لزم التكرار ، ولمن زعم أن الإيمان هو المجموع أن يقول عطف بعض الأجزاء على الكل جائز لغرض من الأغراض كقوله تعالى ) وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل ) [ البقرة : 98 ] ثم ههنا مذاهب : منهم من قال : إن العبد لا يستحق على الطاعة ثواباً ولا على المعصية عقاباً استحقاقاً عقلياً واجباً وهو قول أهل السنة ولا يرد عليه إشكال .
ومنهم من زعم أنه يستحق الثواب بالإيمان والعمل الصالح بشرط أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر ، وبالندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية بدليل قوله ) لئن أشركت ليحبطن عملك ) [ الزمر : 65 ] .
وإنما طوي ذكر هذا الشرط في الآية للعلم به فإنه قد ركز في العقول أن الإحسان إنما يستحق فاعله عليه المثوبة والثناء إذا لم يتعقبه بما يفسده ويذهب بحسنه ، وهذا قول المعتزلة ومن يجري مجراهم .
ومنهم من أحال القول(1/198)
" صفحة رقم 199 "
بالإحباط ، لأن من آمن وعمل صالحاً استحق الثواب الدائم فلو فرض إحباط بكفره لاستحق العقاب الدائم والجميع بينهما محال ، ولا يخفى ضعف هذا المذهب ، فإن الأمور بخواتيمها قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار ) وإنما الأعمال بالخواتيم .
والجنة البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه والتركيب دائر على معنى الستر كأنها فعلة من جنة إذا ستره .
وسميت دار الثواب كلها جنة فيها من الجنان على حسب استحقاقات العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان ، فلهذا نكرت .
والنهر : المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر .
يقال لبردى نهر دمشق ، وللنيل نهر مصر .
واللغة العالية الغالبة النهر بفتح الهاء ومدار التركيب على السعة .
وإسناد الجري إلى الأنهار من الإسناد المجازي ، لأن الجاري هو الماء وكذا من تحتها أي من تحت أشجارها .
وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجارها مظللة والأنهار في خلالها مطردة ، ولولاها كانت كتماثيل لا أرواح فيها ، وصور لا حياة لها .
وإنما عرفت الأنهار لأن المراد بها الجنس كما تقول لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفواكه تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب ، أو يراد بها أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة مثل ) واشتعل الرأس شيباً ) [ مريم : 4 ] أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله ) فيها أنهار من ماء غير آسن ) [ محمد : 15 ] الآية .
و ) كلما رزقوا ( إما صفة ثانية لجنات ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هم كلما رزقوا ، أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس ، فقيل : إن ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا أي أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله .
و ( من ) في ) منها ( وفي ) من ثمرة ( لابتداء الغاية كما لو قلت : رزقني فلان فيقال : من أين ؟ فتقول : من بستانه .
فيقال : من أي ثمرة ؟ فتقول : من الرمان .
فالرزق قد ابتدئ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدئ من ثمرة وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة والرمانة الفذة على هذا التفسير ، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار ، ووجه اخر وهو أن يكون ) من ثمرة ( بياناً على منهاج قولك ( رأيت منك أسداً ) تريد أنت أسد .
وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار والجناة الواحدة ، لأن التفاحة الواحدة مثلاً يصدق عليها أنها رزق ، كما أن نوع التفاح يصدق عليه ذلك ، بخلاف ابتداء الرزق من الجنات فإن ذلك إنما يكون بنوع التفاح أولاً ، وبالذات وبشخصه ثانياً ، وبالعرص لأن(1/199)
" صفحة رقم 200 "
التشخص أمر زائد على حقيقة الشيء فاعلم .
وانتصاب ) رزقاً ( على أنه مفعول ثانٍ ) رزقوا ( ومعنى ) هذا الذي ( أي هذا مثل الذي رزقنا من قبل نحو ( أبو يوسف أبو حنيفة ) لأن ذات الذي رزقوه في الجنة لا تكون هي ذات الذي رزقوه في الدنيا .
والضمير في قوله ) وأتوا به ( يرجع إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً ، لأن قوله ) هذا الذي رزقنا من قبل ( انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين .
والغرض في تشابه ثمر الدنيا وثمر الآخرة أن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل ، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد ، ورأى فيه مزية ظاهرة أفرط ابتهاجه وطال استعجابه وتبين كنه النعمة فيه .
فإذا أبصروا الرمانة والنبقة في الدنيا وحجمها ، ثم أبصروا رمانة الجنة تشبع السكن ، والنبقة كقلال هجر ، كما يرون الشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه ، كان ذلك أبين للفضل وأزيد في التعجب من أن يفاجؤا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما .
وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها ، دليل على تناهي الأمر في ظهور المزية وكمال الاستغراب في كل أوان .
عن مسروق : نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها ، وثمرها أمثال القلال ، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى ، وأنهارها تجري في غير أخدود ، والعنقود اثنا عشر ذراعاً .
ويجوز أن يرجع الضمير في ) أتوا به ( إلى الرزق ، كما أن هذا إشارة غليه .
ويكون المعنى : إن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانساً في نفسه ، إما لتساوي ثوابهم في كل الأوقات في القدر والدرجة حتى لا يزيد ولا ينقص ، وإما لأن الإنسان غذا التذ بشيء وأعجب به لا تتعلق نفسه إلا بمثله فإذا جاءوه بما يشبه الأول من كل الوجوه كان ذلك نهاية اللذة .
وعن الحسن أن الاشتباه في اللون فقط قال : يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ، ثم يؤتى بالأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل .
فيقول الملك : كل ، فاللون واحد والطعم مختلف .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدل الله مكانها مثلها ، فإذا أبصروها والهيئة هيئتها الأولى قالوا ذلك ) ويحتمل أن يقال : إن كمال السعادة ليس إلا في معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله من الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وطبقات الأرواح وعالم السموات ، بحيث يصير روح الإنسان كالمرآة المحاذية لعالم القدس ، ثم إن هذه المعارف تحصل في الدنيا ، ولكن لا يحصل بها كمال الالتذاذ والابتهاج لمكان العلائق البدنية ، وإذا زال العائق بعد الموت وشاهد تلك المعارف قال : هذه هي التي كانت حاصلة لي في الدنيا ، ووجد كمال اللذة والسرور .
وقال أهل التحقيق : الجنة جنة الوصول ، وأشجارها هي الملكات الحميدة والأخلاق الفاضلة ، والثمرات ثمرات المكاشفات(1/200)
" صفحة رقم 201 "
والمشاهدات والأسرار والإشارات والإلهامات وغيرها من المواهب ، وإنهم يشاهدون أحوالاً شتى في صورة واحدة من ثمرات مجاهداتهم ، فيقول بعض المتوسطين منهم : إن هذا المشهد هو الذي شاهدته قبل هذا ، فتكون الصورة تلك الصورة ولكن المعنى حقيقة أخرى ، كما أن موسى شاهد نور الهداية في صورة نار فتكون تارة تلك النار نار صفة غضبية كما كان لموسى ، إذا اشتد غضبه اشتعلت قلنسوته ناراً ، وتارة تكون نار المحبة تقع في محبوبات النفس فتحرقها ، وتارة تكون نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فتحرق عليهم بيت وجودهم فافهم .
وأيضاً ، كل شيء له صورة في الدنيا فله في الآخرة معنى آخر غيبي كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) في دماء الشهداء ( اللون لون الدم والريح ريح المسك ) فاعلم .
وقوله ( وأتوا به متشابهاً ( جملة معترضة تفيد زيادة التقرير كقولك ( فلان أحسن إلى فلان ونعم ما فعل ) والمراد بتطهير الأزواج تطهيرهن من الأقذار والأدناس لا سيما التي تختص بالنساء ، وكذا من الأخلاق الذميمة وعادات السوء .
وهما لغتان فصيحتان ( النساء فعلن ) و ( هن فاعلات ) و ( النساء فعلت ) و ( هي فاعلة ) والمعنى : ولهم جماعة أزواج مطهرة .
وفي ) مطهرة ( فخامة لصفتهن ليست فيما لو قيل طاهرة وهي الإشعار بأن مطهراً طهرهن وليس ذلك إلا الله عز وجل المريد لعباده أن يخولهم كل مزية فيما أعد لهم .
وههنا نكتة وهي ، أن المرأة إذا حاضت فالله تعالى يمنع من مباشرتها قال : ( فاعتزلوا النساء في المحيض ) [ البقرة : 222 ] مع أنها معذورة في تنجسها .
فإذا كانت اللواتي في الجنة مطهرات فلأن يمنعك عنهن ، إذا كانت نجساً بالمعاصي مع أنك غير معذور فيها كان أولى .
وأيضاً من قضى شهوته من الحلال فإنه يمنع من الدخول في المسجد الذي يدخل فيه كل بر وفاجر ، فمن قضى شهوته من الحرام كيف يمكن من دخول الجنة التي لا يسكنها إلا المطهرون ؟ وكفى دليلاً على ذلك بإخراج آدم منها بسبب الزلة الصادرة عنه .
وأيضاً من كان على ثوبهذرة من النجاسة لا تجوز صلاته أو تستكره ، فكيف بمن صلى وعلى قلبه جبال من نجاسات الذنوب والمعاصي ؟ والخلد عند المعتزلة الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع بدليل قوله تعالى ) وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ) [ الأنبياء : 34 ] نفى الخلد عن البشر مع تعمير بعضهم ) ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ) [ الحج : 5 ] وعند الأشاعرة : الخلد هو الثبات الطويل ، دام أو لم يدم .
ولو كان التأبيد داخلاً في مفهوم الخلد كان قوله ) خالدين فيها أبداً ( تكراراً .
ويقال في العرف : حبسه حبساً مخلداً ، أو وقف وقفاً مخلداً .
والحق أن خوف الانقطاع ينغص النعمة وذلك لا يليق بأكرم الأكرمين .(1/201)
" صفحة رقم 202 "
( البقرة : ( 26 - 27 ) إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما . . . . .
" إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون " ( الوقوف : ( فما فوقها ( ( ط ) ) من ربهم ( ( ج ) لأن الجملتين وإن اتفقتا فكلمة ( أما للتفصيل بين الجمل ) مثلاً ( ( م ) لأنه لو وصل صار ما بعده صفة له وليس بصفة إنما هو ابتداء إخبار من الله عز وجل جواباً لهم .
) ويهدي به كثيراً ( ( ط ) ) الفاسقين ( ( لا ) لأن ) الذين ( صفتهم ) ميثاقه ( ( ص ) لعطف المتفقتين ) في الأرض ( ( ص ) ) الخاسرون ( ( 5 ) التفسير : لما بين كون القرآن معجزاً أورد شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك وأجاب عنها .
عن ابن عباس : لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله ) مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ) [ البقرة : 17 ] وقوله ( أو كصيب ) [ البقرة : 19 ] قالوا : الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية .
وعن الحسن وقتادة : لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل ، ضحكت اليهود وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله فنزلت .
والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض ؟ وهذه أمثال العرب بين أيديهم مسيرة في حواضرهم وبواديهم قد تمثلوا فيها بأحقر الأشياء فقالوا : ( أجرأ من الذباب ( و ) أضعف من بعوضة ( و ) كلفتني مخ البعوض ( .
ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة كالزوان حب يخالط البر ، وكحبة خردل ، والمنخل والحصاة والأرضة والدود والزنابير .
قال : مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية ، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة ، فلما نبت الزرع واشتد غلب عليه الزوان .
فقال عبيد الزارع : يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك ؟ فقال : بلى قالوا : فمن أين هذا الزوان ؟ قال : لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان تقلعوا معه حنطة ، دعوهما يتربيان جميعاً حتى الحصاد .
فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزماً ثم يحرق بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الجرين ، وأفسر لكم ، ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة وهو أبو البشر ، والقرية هي العالم ، والحنطة الجيدة النقية هي أبناء الملكوت الذين يعملون بطاعة الله ، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس ، والزوان المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه ، والحصادون هم(1/202)
" صفحة رقم 203 "
الملائكة يتركون الناس حتى تدنو آجالهم فيحصدون أ هل الخير إلى ملكوت الله ، وأهل الشر إلى الهاوية ، وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار فكذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين وجميع عمال الإثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنالك البكاء وصريف الأسنان ، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت ربهم ، من كانت له أذن تسمع فليسمع .
وأضرب لكم مثلاً آخر يشبه ملكوت السماء ، رجل آخر أخذ حبة الخردل وهي أصغر الحبوب فزرعها في قرية ، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول ، وجاء طير السماء فعشش في فروعها ، فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله تعالى أجره وعظمه ورفع ذكره ونجا به من اهتدى .
وقال : لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الطيب ويمسك النخالة ، كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم ، وقال : قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا ينسفها الرباح .
وقال : لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسد ، ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص ، ولكن ادخروا ذخائركم عند الله .
وقال : نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يغزلن ولا يشخصن ، ومنهن ما هو في جوف الحجر الأصم وفي جوف العود ، من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله أفلا تعقلون ؟ وقال : لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ، كذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم .
هذا ونحن نرى أن الإنسان يذكر معنى فلا يلوح كما ينبغي ، فإذا ذكر المثال اتضح وانكشف .
وذلك أن من طبع الخيال حب المحاكاة ، فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال ، وإذا ذكر التشبيه معه أدركه العقل مع معاونة الخيال ، ولا شك أن الثاني يكون أكمل ، وإذا كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح وجب ذكره في الكتاب الذي أنزل تبياناً لكل شيء .
ثم إن الله تعالى هو الذي خلق الكبير والصغير ، وحكمته في كل ما خلق وبرأ عامة بالغة ، وليس الصغير أخف عليه من الكبير ، ولا الكبير أصعب عليه من الصغير .
فالمعتبر إذن ما يليق بالقصة ، فإذا كان اللائق بها الذباب والعنكبوت لخسة مضرب المثل ووهنه ، فكيف يضرب بالفيل وبشيء مستحكم النسج والصفاقة ؟ وهذا مما لا يخفى على من به أدنى مسكة ، ولكن ديدن المحجوج المبهوت دفع الواضح وإنكار المستقيم ،
وكم من عائب قولاً صحيحاً
وآفته من الفهم السقيم
والحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ، ويذم واشتقاقه من الحياة ، يقال : حيي الرجل كما يقال نسي وحشي إذا اشتكى النسا والحشا ، وكأن الحيي صار منتقص القوة منتكس الحياة وقد عرفت في الأسماء الحسنى ، أن أمثال هذه الصفات(1/203)
" صفحة رقم 204 "
إنما يجوز أن تطلق على الله تعالى بعد الإذن الشرعي باعتبار النهايات لا باعتبار المبادئ .
فحديث سلمان قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع غليه العبد يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً ) إنما جاء على سبيل التمثيل لأنه مثل تركه تخييب العبد بترك من يترك رد المحتاج إليه حياء منه .
ومعنى قوله ) إن الله لا يستحيي ( أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها .
ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا : أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت ؟ فجاءت على سبيل المقابلة والطباق ، وهو فن بديع قال أبو تمام :
من مبلغ أفناء يعرب كلها
أني بنيت الجار قبل المنزل
فلولا بناء الدار لم يصح بناء الجار ، وقد استعير الحياء فيما لا يصح فيه :
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه
كرعن بسبت في إناء من الورد
فيصف كثرة مياه الأمطار في طريقه ، وأنه أينما ذهب رأى الماء وكأنه يعرض نفسه على النوق فتستحيي فتكرع فيه مشافر كأنها السبت وهو الجلد المدبوغ بالقرظ ، وشبه الأرض وفيها الماء وحواليه الأزهار بإناء من الورد .
وفيه لغتان : استحييت منه واستحييته وهما محتملتان ههنا .
وضرب المثل اعتماده وصنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم ، وفي الحديث : ضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاتماً من ذهب .
و ( ما ) هذه إبهامية ، إذا اقترنت باسم نكرة زادته شياعاً وعموماً كقولك ( أعطني كتاباً ما ) تريد أي كتاب كان ، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله ) فيما نقضهم ) [ النساء : 155 ] أي مثلاً حقاً أو ألبتة .
وانتصب ) بعوضة ( بأنها عطف بيان و ) مثلاً ( وذلك أن ما يضرب به المثل قد يسمى مثلاً كما يقال : حاتم مثل في الجود .
أو مفعول ل ) يضرب ( و ) مثلاً ( حال عن النكرة مقدمة عليها ، أو انتصبا مفعولين فجرى ( ضرب ) مجرى ( جعل ) .
والبعوض في أصله صفة على فعول من البعض القطع فغلبت ، ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه وفي معناه البضع والعضب .
ومن غرائب خلقه أنه مع صغره أعطي كل ما أعطي الفيل مع كبره ، ففيه إشارة إلى أن خلق أحدهما ليس أصعب من خلق الآخر ، وإشارة إلى حالة الإنسان وكمال استعداده كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله خلق آدم على(1/204)
" صفحة رقم 205 "
صورته ) أي على صفته فأعطاه على ضعفه من كل صفة من صفات جماله وجلاله أنموذجاً ليشاهد في مرآة نفسه جمال صفات ربه .
ومن العجائب أن خرطومه في غاية الصغر ، ومع ذلك مجوف .
ومع فرط صغره وكونه مجوفاً يغوص في جلد الجاموس والفيل على ثخانته كما يضرب الرجل أصبعه في الخبيص ، وذلك لما ركب الله تعالى في رأس خرطومه من السم .
وقوله ( فما فوقها ( أي فالذي هو أعظم منها في الجثة كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب ، فإن القوم أنكروا تمثيل الله بكل هذه الأشياء ، أو أراد فما فوقها في الصغر كجناح البعوضة حيث ضربه ( صلى الله عليه وسلم ) مثلاً للدنيا ، وهذا أولى لأن الآية نزلت في بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير ، فيجب أن يكون المذكور ثانياً أحقر من الأول .
والفاء ههنا تفيد الترتيب في الذكر لأنه يذكر في هذا المقام الأخس فالأخس كقوله :
( يا دار مية بالعلياء فالسند ( لأنه يذكر في تعريف الأمكنة الأخص بعد الأعم ، فكأن العلياء موضع وسيع يشتمل على مواضيع منها السند .
) وأما ( حرف فيه معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء ، وفائدته التوكيد .
تقول : زيد ذاهب .
فإذا قصدت التوكيد وأن الذهاب منه عزيمة قلت : أما زيد فذاهب ولذلك قال سيبويه في تفسيره .
( مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ) وليس مراده من هذا التفسير أن ( أما ) بمعنى ( مهما ) ( كيف ) - وهذه حرف ومهما اسم - بل قصده غلى المعنى البحث أي أن يكن في الدنيا شيء يوجد ذهاب زيد فهذا ، جزم بوقوع ذهابه لأنك جعلت حصول ذهابه لازماً لحصول أي شيء في الدنيا ، وما دامت الدنيا باقية فلا بد من حصول شيء فيها .
ففي إيراد الجملتين مصدرتين به وإن لم يقل فالذين آمنوا يعلمون والذين كفروا يقولون إحماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم أنه الحق ، ونعي على الكافرين ورميهم بالكلمة الحمقاء .
والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره وحق الأمر ثبت ووجب .
والضمير في ) أنه الحق ( للمثل ، أو ل ) أن يضرب ( و ) ماذا ( فيه وجهان : أن يكون ( ذا ) اسماً موصولاً بمعنى الذي ، فيكون كلمتين : ( ما ) مبتدأ وخبره ( ذا ) مع صلته ، وأن تكون ( ذا ) مركبة مع ( ما ) مجعولتين اسماً واحداً ، فيكون منصوب المحل في حكم ( ما ) وحده لو قلت : ما أراد الله ، وجوابه على الأول مرفوع وعلى الثاني منصوب .
وقد يجيء على العكس(1/205)
" صفحة رقم 206 "
كما تقول في جواب من قال : ما رأيت خير ( أي المرئي خير ) .
وفي جواب : ما الذي رأيت خيراً ( أي رأيت خيراً ) .
والإرادة نقيض الكراهة ، قال الإمام الرازي : الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذته .
والمتكلمون أنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر ، لا في الوقوع بل في الإيقاع .
واحترز بهذا القيد الأخير عن القدرة .
واختلفوا في كونه تعالى مريداً مع اتفاق المسلمين على إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى .
فزعم النجار أنه معنى سلبي ومعناه أنه غير ساهٍ ولا مكره .
ومنهم من قال : إنه أمر ثبوتي .
ثم اختلفوا فالجاحظ والكعبي وأبو الحسين البصري : معناه علمه تعالى باشتمال الفعل على المصلحة أو المفسدة ، ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف .
والأشاعرة وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهم : أنه صفة زائدة على العلم .
ثم القسمة في تلك الصفة أنها إما أن تكون ذاتية وهو القول الآخر للنجار ، وإما أن تكون معنوية ، وذلك المعنى إما أن يكون قديماً وهو قول الأشعري ، أو محدثاً وذلك المحدث إما أن يكون قائماً بالله تعالى وهو قول الكرّامية ، أو قائماً بجسمٍ آخر ولم يقل به أحد ، أو موجوداً لا في محل وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما .
وفي قوله ) ماذا أراد الله بهذا مثلاً ( استرذال واستحقار كما قالت عائشة في عبد الله بن عمرو بن العاص حين أفتى بنقض ذوائب النساء في الاغتسال ( يا عجباً لابن عمرو هذا ) محقرة له .
و ) مثلاً ( نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث ( ماذا أردت بهذا جواباً ) ولمن حمل سلاحاً رديئاً ( كيف تنتفع بهذا سلاحاً ) أو على الحال نحو ) هذه ناقة الله لكم آية ) [ هود : 64 ] وقوله ( يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً ( جارٍ مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين ب ) أما ( وأهل الهدى كثير في أنفسهم وحيث يوصفون بالقلة ) وقليل من عبادي الشكور ) [ سبأ : 13 ] ( وقليل ما هم ) [ ص : 64 ] إنما يوصفون به بالقياس إلى أهل الضلال .
وأيضاً فإن المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة .
إن الكرام كثير في البلاد وإن
قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا
وإسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب البعيد ، لأنه لما ضرب المثل ازداد به المؤمنون نوراً إلى نورهم فتسبب لهديهم ، وازدادت الكفرة رجساً إلى رجسهم فتسبب لضلالهم عن الحق .
والفسق الخروج عن القصد قال رؤبة :
فواسقاً عن قصدها جوائر
يذهبن في نجد وغوراً غائراً
والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وهو عند أهل السنة من(1/206)
" صفحة رقم 207 "
أهل الإيمان إلا أنه عاصٍ ، وعند الخوارج كافر ، وعند المعتزلة نازل بين المنزلتين ، لأن حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ، وهو كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته وأن لا تقبل له شهادة .
ومذهب مالك بن أنس والزيدية أن الصلاة لا تجزئ خلفه .
ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة ، وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله تعالى ) بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) [ الحجرات : 11 ] يعني اللمز والتنابز ) إن المنافقين هم الفاسقون ) [ التوبة : 67 ] والنقض : افسخ وفك التركيب .
وإنما ساغ استعمال النقض في إبطال العهد من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين ، وهذا كقولك ( عالم يغترف منه الناس ) فتنبه بالاغتراف من العالم بأنه بحر ، وتسكت عن المستعار لأنك رمزت إليه بذكر شيء من لوازمه .
والعهد : الموثق .
عهد غليه في كذا غذا أوصاه به ووثقه عليه .
والمراد بالناقضين إما كل من ضل وكفر لأنهم نقضوا عهداً أبرمه الله بإراءة ىياته في الآفاق وفي أنفسهم وبما ركز في عقولهم من إقامة البينة على الصانع وعلى توحيده وعلى حقية شريعته بعد إزاحة العلات وإزالة الشبهات ، وإما قوم من أهل الكتاب وقد أخذ عليهم العهد والميثاق في الكتب المنزلة على أنبيائهم بتصديق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبيّن لهم أمره وأمر أمته فنقضوا ذلك وأعرضوا عنه وجحدوا نبوته .
وقيل : عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود : العهد الذي أخذه على جميع ذرية آدم ) وإذ أخذ ربك ) [ الأعراف : 172 ] الآية .
وعهد خص به النبيين أن يبلغو الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه ) وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ) [ الأحزاب : 7 ] وعهد خص به العلماء ) وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) [ آل عمران : 187 ] والضمير في ) ميثاقه ( للعهد .
والميثاق إما مصدر بمعنى التوثقة كالميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة ، أو اسم لما وثقوا به عهد الله من قبوله وإلزامه أنفسهم ، ويجوز ن يرجع الضمير إلى الله اي من بعد توثقته عليهم ، أو من بعد ما وثق الله تعالى به عهده من آياته وكتبه ورسله .
ومعنى قطعهم ما أمر الله به أن يوصل ، إما قطعهم ما بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من القرابة والرحم ، أو قطعهم موالاة المؤمنين إلى موالاة الكافرين ، أو قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاتحاد والاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض .
والأمر طلب الفعل ممن هو دونك وبعثه عليه وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور ، لأن الداعي الذي يدعو إليه من يتولاه شبه بآمر يأمره به ، فقيل له : أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به .
وللأمر حرف واحد وهو اللام الجازم نحو ( ليفعل ) وصيغ مخصوصة للمخاطب نحو ( انزل ) و ( نزال ) و ( صه ) .
وقد يستعمل في الدعاء والالتماس بمعونة القرينة وظاهره للوجوب ، وغيره من الندب أو الإباحة يتوقف على القرينة .
وقوله ( أن يوصل ( بدل الاشتمال من الضمير المجرور ، والجار الذي ينبغي أن يعاد(1/207)
" صفحة رقم 208 "
مقدر تقديره بأن يوصل أي بوصله .
والإفساد في الأرض إما إظهار المعاصي ، وإما التنازع وإثارة الفتن .
) أولئك هم الخاسرون ( لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والإفساد بالإصلاح ، وعقاب هذه الأمور بثوابها ) إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) [ العصر : 2 ، 3 ] الآية .
( البقرة : ( 28 - 29 ) كيف تكفرون بالله . . . .
" كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم "
( القراآت )
فأحياكم ( وبابه بالإمالة : علي .
) ترجعون ( بفتح التاء وكسر الجيم كل القرآن : يعقوب .
وهو بابه بسكون الهاء : أبو جعفر ونافع غير ورش وعلي وأبو عمرو .
الوقوف : ( فأحياكم ( ( ج ) للعدول أي ثم هو يميتكم مع اتحاد مقصود الكلام ) ترجعون ( ( ط ) ) سموات ( ( ط ) ) عليم ( ( 5 ) .
التفسير : هذه الآية مسوقة لبيان التعجب من حال الكفرة ، وذلك أن الاستفهام من علام الغيوب يمتنع إجراؤه على أصله ، فيتولد بمعونة قرائن الأحوال ما ذكرنا .
ووجهه هو أن الكفار حين صدور الكفر منهم لا بد من أن يكونوا على أحد الحالين : إما عالمين بالله وإما جاهلين به فلا ثالثة .
فإذا قيل لهم : كيف تكفرون بالله ؟ ومن المعلوم أن ( كيف ) للسؤال عن الحال وللكفر مزيد اختصاص من بين سائر أحوال الكافر بالعلم بالصانع أو الجهل به ، لأنه لا يمكن تصور كفر الكافر بالصانع مع الذهول عن كونه عالماً بالله أو جاهلاً به ، بخلاف سائر أحواله المتقابلة كالقعود والقيام والسكون والحركة ، فإنه يمكن تصور كفره مع الذهول عنها وإن كان لا ينفك الكافر في الوجود عنها كما لا ينفك من العلم بالصانع أو الجهل به في الوجود .
وتوجه الاستفهام إلى ذلك الذي له مزيد اختصاص فأفاد الاستفهام ، أفي حال العلم بالله تكفرون أم في حال الجهل به ؟ لكن الجهل بعيد عن العاقل ، لأن الحال حال علم بهذه القصة وهي أن كانوا أمواتاً فصاروا أحياء ، وسيكون كذا والحال كذا من الإماتة ، ثم الإحياء ثم الرجع إليه ، فبقي أن يكون الحال حال العلم بالصانع الموجبة للصرف عن الكفر .
فصدور الفعل عمن له صورة اختيار في الترك مع الصارف القوي مظنة تعجب وتعجيب وإنكار وتوبيخ فكأنه قيل : ما أعجب كفركم والحال أنكم عالمون بهذه القصة وهي(1/208)
" صفحة رقم 209 "
أن كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة وهذه مما لا يشك فيها لأنها من المشاهدات ، ثم يحييكم حين ينفخ في الصور أو حين تسألون في القبور ، ثم إليه أي إلى حكمه ترجعون أي بعد الحشر للثواب والعقاب أو من قبوركم .
وهذه القضايا أيضاً مما لا يشك فيها لنصب الأدلة وإزاحة العلة .
والأموات جمع ميت كالأقوال جمع قيل ، وقد يطلق الميت على الجماد كقوله ) بلدة ميتاً ) [ ق : 11 ] ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس .
ويحتمل أن يقال : المراد به خمول الذكر كقوله ) هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ) [ الدهر : 1 ] قال أبو نخيلة السعدي :
وأحييت لي ذكري وما كنت خاملاً
ولكنّ بعض الذكر أنبه من بعض
ولا يخفى أن الآية بالنسبة إلى العامة ، فأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات ) فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) [ البقرة : 259 ] ( فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ) [ البقرة : 242 ] ( ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ) [ البقرة : 56 ] ( وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم ) [ الكهف : 19 ] ( وآتيناه أهله ومثلهم معهم ) [ الأنبياء : 84 ] واعلم أن هذه الآية دالة على أمور منها : اشتمالها على وجود ما يدل على الصانع القادر العلم الحي السميع البصير الغني عما سواه .
ومنها الدلالة على أنه لا قدرة على الإحياة والإماتة إلا الله ، فيبطل قول الدهري ) وما يهلكنا إلا الدهر ) [ الجاثية : 24 ] ومنها الدلالة على صحة الحشر والنشر مع التنبيه على الدليل القطعي الدال عليه ، لأن الإعادة أهون من الإبداء .
ومنها الدلالة على التكليف والترغيب والترهيب ، ومنها الدلالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال : ( فأحياكم ( أي بعقب كونكم نطفاً من غير تخلل حالة أخرى بينهما ، ثم يميتكم بعد انقضاء مهلة الحياة ، ثم بيّن أنه لا يترك على هذا الموت بل لا بد من حياة ثانية للسؤال أو للحشر ، ثم من الرجوع إليه للثواب أو العقاب .
فبين سبحانه أنه بعد ما كان نطفة فإنه أحياه وصوّره أحسن صورة وجعله بشراً سوياً وأكمل عقله وبصره بأنواع المضار والمنافع ، وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور .
ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئاً ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ، ويبقى مدة مديدة في اللحد ) ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) [ المؤمنون : 100 ] ينادي فلا يجيب ، ويستنطق فلا يتكلم ، ثم لا يزوره الأقربون بل ينساه الأهل والبنون .
يمرّ أقاربي بحذاء قبري
كأن أقاربي لم يعرفوني(1/209)
" صفحة رقم 210 "
آلهي إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرة رؤوسنا شاحبة وجوهنا جائعة بطوننا مثقلة من حمل الأوزار ظهورنا بادية لأهل القيامة سوآتنا ، فلا تضغف مصائبنا بإعراضك عنا ، يا واسع المغفرة ، ويا باسط اليدين بالرحمة .
ولما ذكر الله تعالى في الآية الأولى أصل جميع النعم وهو الإحياء الذي من حقه أن يشكر ولا يكفر ، أعقبها بذكر ما هو كالأصل لسائر النعم وهو خلق الأرض بما فيها ، وخلق السماء .
ومعنى ) لكم ( لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم وذلك ظاهر ، وفي دينكم من النظر في عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم ، ومن التذكير بالآخرة وثوابها وعقابها لاشتماله على أسباب الإنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية ، وعلى أسباب الوحشة والألم من النيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف .
فظاهر الآية لا يدل إلا على خلق ما في الأرض لأجلهم دون الأرض .
فإن أريد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما يذكر السماء ويراد به الجهات العلوية جاز أن يراد خلق لكم الأرض وما فيها .
و ) جميعاً ( نصب على الحال من الموصول الثاني وهو ( ما ) أي مجموعة والمجموع الذي جمع من ههنا وههنا وإن لم يجعل كالشيء الواحد ويندرج فيها جميع البسائط من الماء والهواء والنار وجميع المواليد من المعادن والنبات والحيوان وجميع الصنائع والحرف .
وبعضهم يستدل بهذا على أن الأصل في الأشياء الإباحة عقلاً لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها ويمكن أن يقال بل بهذه الآية وإلا كان تصرفاً في ملك الغير من غير إذنه .
ولا يلزم من أنه تعالى خلق ما في الأرض لأجل المكلفين أن يكون فعله معللاً بغرض ، وإن كان لا يخلو من فائدة وغاية ، وإلا كان عبثاً لأنه لا يلزم من استتباع الفعل الغاية أن تكون تلك الغاية علة لعلية فاعلة ، لأن هذا فيما إذا كانت فاعليته ناقصة لتتكمل بتلك الغاية ، أما إذا كانت فاعليته تامة فإنه يوجد الشيء ذا الغاية من غير أن تكون تلك الغاية حاملة له على ذلك ، وهذا فرق دقيق يتنبه له من يسر عليه قيل : إنه تعالى خلق الكل للكل ، فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلاً ، قلنا : قابل الكل بالكل فيقتضي مقابلة الفرد للفرد ، والتعيين يستفاد من دليل منفصل .
والاستواء بمعنى الانتصاب ضد الاعوجاج من صفات الأجسام ، وإنه تعالى منزه عن ذلك .
وأيضاً ( ثم ) تقتضي التراخي ، فلو كان المراد بهذا الاستواء العلو بالمكان لكان ذلك العلو حاصلاً أزلاً ولم يكن متأخراً عن خلق ما في الأرض ، فيجب التأويل .
وتقريره أن يقال : استوى العود إذا اعتدل ، ثم قيل : استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ومنه استعير قوله ) ثم استوى إلى السماء ) [ فصلت : 11 ] أي قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض(1/210)
" صفحة رقم 211 "
من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر .
والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل : ثم استوى إلى فوق ، أو هذا كقولك لآخر ( اعمل هذا الثوب ) وإنما معه غزل .
على أنها كانت دخاناً ثم سواها سبع سموات .
و ( ثم ) ههنا إما للتراخي في الوقت والمراد أنه حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك أي في تضاعيف القصد إليها خلقاً آخر كما قلنا ، أو للتفاوت بين الخلقين .
وفضل خلق السموات على خلق الأرض كقوله ) فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر ) [ المؤمنون : 14 ] وكقوله ) ثم كان من الذين آمنوا ) [ البلد : 17 ] وتفسير هذه الآية في قوله ) قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة ايام سواء للسائلين ) [ فصلت : 9 ، 10 ] يعني تقدير الأرض في يومين ، وتقدير الأقوات في يومين ، كما يقول القائل : من الكوفة غلى المدينة عشرون يوماً ، وإلى مكة ثلاثون يوماً ، يريد أن جميع ذلك هو هذا القدر .
ثم استوى إلى السماء في يومين آخرين ، ومجموع ذلك ستة أيام كما قال ) خلق السموات والأرض في ستة أيام ) [ يونس : 3 ] فإن قيل : أما يناقض هذا قوله ) والأرض بعد ذلك دحاها ) [ النازعات : 30 ] قلنا : أجاب في الكشاف لا ، لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء ، وأما دحوها فمتأخر .
وعن الحسن : خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعه وبسط منه الأرض فذلك قوله ) كانتا رتقاً ) [ الأنبياء : 30 ] وهو الالتزاق ، وزيف بأن الأرض جسم عظيم يمتنع انفكاك خلقها عن التدحية .
وأيضاً قوله تعالى ) خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء ( يدل على أن خلق الأرض وخلق ما فيها مقدم على خلق السماء ، لأن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوّة .
وقال بعض العلماء في دفع التناقض قوله ) والأرض بعد ذلك دحاها ) [ النازعات : 30 ] يقتضي تقدم خلق السماء على الأرض ، ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدمة على خلق الأرض ، وزيف أيضاً بأن قوله ) أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسوّاها .
وأغطش ليلها وأخرج ضحاها .
والأرض بعد ذلك دحاها ) [ النازعات : 27 - 30 ] يقتضي أن يكون خلق السماء وتسويتها مقدماً على تدحية الأرض ، بل على خلقها لأنهما متلازمان .
وحينئذ يعود التناقض والمعتمد عند بعضهم في دفعه أن يقال ( ثم ) ليس للترتيب ههنا ، وإنما هو على جهة تعديد النعم .
مثاله : أن تقول لغيرك : ألست قد أعطيتك نعماً عظيمة ، ثم رفعت قدرك ، ثم دفعت عنك الخصوم ؟ ولعل بعض ما أخرته في الذكر مقدم في الوقوع .(1/211)
" صفحة رقم 212 "
( قلت ) : وهذا صحيح معقول من حيث ابتداء الوجود من الأشرف فالأشرف والألطف فالألطف إن ساعده النقل وإلا فلا إحالة في أنه تعالى خلق الأرض أولاً في غاية الصغر وجعل فيها أصول الجبال ووضع فيها البركة وقدر الأقوات ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعاً ثم دحا الأرض بأن جعلها أعظم مما كانت عليه كهيئتها الآن والله تعالى أعلم .
والضمير في ) سوّاهن ( ضمير مبهم ، و ) سبع سموات ( تفسيره نحو : ربه رجلاً .
وفائدة الإبهام أولاً ثم البيان ثانياً أن الكلام هكذا أوقع في النفس ، لأن المحصول بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب .
وقيل : الضمير راجع إلى السماء ، والسماء في معنى الجنس .
وقيل : جمع سماءة والوجه العربي هو الأول .
ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهن وهو بكل شيء عليم ، فمن ثم خلقهن خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت مع خلق ما في الأرض على حسب الحاجات وكفاء المصالح ، ومقتضى الحكمة والتدبير .
وهذا عام لم يدخله التخصيص قط ، وبه يهدم بناء من زعم أنه غير عالم بالجزئيات ، لأنه تعالى لو لم يعرف تفاصيلها لم تكن مخلوقاته على غاية الإتقان والإحكام ، فسبحانه من خبير يعلم الذرة في الأجواف ، والدرة في الأصداف ، والقطرة في البحر ، والخطرة في النحر ، وعلى هذا يدور نظام العالم وبه يحصل قوام مناهج بني آدم .
ثم إن العقل قد يدل على وجود سبع سموات ، وتخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد ، فأثبت أهل الأرصاد تسعة أفلاك على ما استقر عليه رأيهم ، أولها من الجانب الأعلى للحركة اليومية ، لأن هذه الحركة تشمل جميع الأجرام ، فيجب أن يكون فلكها حاوياً للكل .
وثانيها للثوابت جميعها تحديداً لأدنى الدرجات لاتحاد الحركات وإن كان كونها على أفلاك شتى جائزاً .
والسبعة الباقية للسيارات السبعة جميع ذلك بوجود اختلاف المنظر وعدمه .
وعلى ترتيب خسف بعضها بعضاً ، أولها مما يلينا للقمر وفوقه لعطارد ثم للزهرة ثم للشمس ثم للمريخ ثم للمشتري ثم لزحل .
ونازعهم بعض الناس في زيادة الفلكين الثامن والتاسع فقال : من المحتمل أن تتصل نفس بمجموع السبعة فتحركها حركة الكل ، ثم يكون لكل فلك نفس على حدة تحركه حركته الخاصة به ، وتكون الثوابت على محدب ممثل زحل مثلاً .
وبالجملة فلم يتبين لأحد من الأوائل والأواخر كمية أعداد السموات على ما هي عليه لا عقلاً ولا سمعاً ) وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر ) [ المدثر : 31 ] .
( البقرة : ( 30 ) وإذ قال ربك . . . .
" وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " ((1/212)
" صفحة رقم 213 "
القراآت : ( خليفة ( وأشباهها بالإمالة عند الوقف : أبو عمرو وحمزة وعلي والأعشى والبرجمي إلا أن يكون قبلها من الحروف الموانع السبع وهي : الصاد والضاد والطاء والظاء والغين والخاء والقاف نحو : خاصة ، وفريضة ، وحطة ، وغلظة ، وسبغة ، وصاخة ، وشقة .
وأما العين والحاء والراء فعلى الاختلاف عند أهل المدينة ، فأشدهم إمالة حمزة وعلي ، فأما أبو عمرو والأعشى والبرجمي فإنهم يميلون بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب ) إني أعلم ( بفتح الياء : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو .
الوقوف : ( خليفة ( ( ط ) بناء على أن عامل ( إذ ) محذوف أي اذكر .
ومن جعل ) قالوا ( عامل ( إذ ) وصل .
) الدماء ( ( ج ) لأن انتهاء الاستفهام على قوله ) ويسفك الدماء ( يقتضي الفصل ، واحتمال الواو لمعنى الحال في قوله ) ونحن نسبح بحمدك ( يقتضي الوصل ) ونقدس لك ( ( ط ) ) ما لا تعلمون ( ( 5 ) .
التفسير هذا ابتداء الإخبار عن كيفية خلق آدم عليه السلام وعن كيفية تعظيمه إياه ، فينخرط في سلك ما تقدمه من النعم ، فإن النعمة على الآباء نعمة على الأبناء ، وإذ ههنا مجرد لمعنى الظرفية أي أذكر وقت قول ربك كقوله ) واذكر أخا عاد إذ أنذر ) [ الأحقاف : 21 ] أي وقت إنذاره على أنه بدل من أخا عاد لأن الذكر في ذلك الوقت ممتنع .
والخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو لكل واحد من بني آدم ، ويجوز أن ينتصب ب ) قالوا ( فيكون للمجازاة .
والملائكة جمع ملأك وأصله مألك بتقديم الهمزة من الألوكة هي الرسالة ، ثم قلبت وقدمت اللام فقيل : ملأك ، وجمع على فعائل مثل شمأل وشمائل ، ثم تركت همزة المفرد لكثرة الاستعمال وألقيت حركتها على اللام .
وإلحاق التاء لتأنيث الجمع نحو حجارة وقد لا تلحق .
واعلم أن الملك قبل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالشرف والعلية وإن كان بعده في عقولنا وأذهاننا ، وقد جعله الله واسطة بينه وبين رسله في تبليغ الوحي والشريعة .
وقدم ذكر الإيمان بالملائكة على ذكر الإيمان بالأنبياء ) والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ) [ البقرة : 285 ] ولا خلاف بين العقلاء في أن شرف العالم العلوي بالملائكة كما أن شرف العالم السفلي بوجود الأنبياء فيه .
وللناس في حقيقة الملائكة مذاهب : منهم من زعم أنها أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكل بأشكال مختلفة مسكنها السموات وهو قول أكثر المسلمين ، ومنهم عبدة ا لأوثان القائلون إن الملائكة هي هذه الكواكب الموصوفة بالإسعاد والإنحاس وأنها أحياء ناطقة ، فالمسعدات ملائكة الرحمة والمنحسات ملائكة العذاب .
ومنهم معظم المجوس والثنوية القائلون بالنور والظلمة وإنهما(1/213)
" صفحة رقم 214 "
عندهم جوهران حساسان مختاران قادران ، متضادا النفس والصورة ، مختلفا الفعل والتدبير .
فجوهر النور فاضل خير نقي طيب الريح كريم النفس يسر ولا يضر وينفع ولا يمنع ويحيى ولا يبلى ، وجوهر الظلمة ضد ذلك ، فالنور يولد الأولياء وهم الملائكة لا على سبيل التناكح بل كتولد الحكمة من الحكيم والضوء من المضيء ، وجوهر الظلمة يولد الأعداء وهم الشياطين كتولد السفه من السفيه .
ومنهم القائلون بأنها جواهر غير متحيزة ، ثم اختلفوا فقال بعضهم وهم طوائف من النصارى - إنها هي الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها ، فإن كانت صافية خيرة فالملائكة ، وإن كانت خبيثة كثيفة فالشياطين .
وقال آخرون - وهم الفلاسفة - إنها مخالفة لنوع النفوس الناطقة البشرية ، وإنها أكمل قوة وأكثر علماً ، ونسبتها إلى النفوس البشرية كنسبة الشمس إلى الأضواء ، فمنها نفوس ناطقة فلكية ، ومنها عقول مجردة ومنهم من أثبت أنواعاً أخر من الملائكة وهي الأرضية المدبرة لأحوال العالم السفلي ، خيرها الملائكة وشريرها الشياطين ولكل من الفرق دلائل على ما ذهب إليه يطول ذكرها ههنا .
وقد يستدل عليها اصحاب المجاهدات من جهة المكاشفة وأصحاب الحاجات والضرورات من جهة مشاهدة الآثار العجيبة والهداية إلى المعالجات النادرة الغريبة وتركيب المعجونات واستخراج صنعة الترياقات ، كما يحكى أنه كان لجالينوس وجع في الكبد فرأى في المنام كأن امرأ يأمره أن يفصد الشريان الذي على ظهر كفه اليمنى بين السبابة والإبهام ففعل فعوفي ، ومما يدل على ذلك حال الرؤيا الصادقة .
ولا نزاع ألبتة بين الأنبياء عليهم السلام في إثبات الملائكة وذلك كالأمر المجمع عليه بينهم ، وأما شرح كثرتهم فقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أطّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع ) وروي ( إن بني آدم عشر الجن ، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر ، وهؤلاء كلهم عشر الطيور ، وهؤلاء عشر حيوانات البحر وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الدنيا ، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية ، وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ، ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل ، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرض وما فيها ، فإنها كلها تكون شيئاً يسيراً وقدراً قليلاً ، وما مقدار موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم ، لهم زجل بالتسبيح والتقديس ، (1/214)
" صفحة رقم 215 "
ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ولا يعرف عددهم إلا الله ، ثم مع هؤلاء ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل ( صلى الله عليه وسلم ) والملائكة الذين هم جنود جبريل وهم كلهم سامعون مطيعون لا يستكبرون عن عبادته ولا يسأمون ) وأما أصنافهم فمنهم حملة العرش ) ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) [ الحاقة : 17 ] ومنهم أكابر الملائكة جبرائيل صاحب الوحي والعلم ، وميكائيل صاحب الرزق والغذاء ، وإسرافيل صاحب الصور ، وعزرائيل ملك الموت ، ومنهم ملائكة الجنة ) والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ) [ الرعد : 23 ] ومنهم ملائكة النار ) عليها تسعة عشر ) [ المدثر : 30 ] ومنهم لموكلون ببني آدم عن اليمين وعن الشمال قعيد .
ومنهم الموكلون بأحوال هذا العالم ) والصافات صفا ) [ الصافات : 1 ] وأما أوصافهم فكما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : منهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، وصافون لا يتزايلون ، ومسبحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا فترة الأبدان ولا غفلة النسيان ، ومنهم أمناء على وحيه وألسنة غلى رسله ومختلفون بقضائه وأمره .
منهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه ، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار ركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ، ناكسة دونه أبصارهم ، متلفعون بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة ، لا يتوهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدونه بالأماكن ولا يشيرون إليه بالنظائر .
ثم إنه روى الضحاك عن ابن عباس أنه سبحانه إنما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا محاربين مع إبليس ، لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضاً ، بعث الله إبليس في جند من الملائكة فأخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحر ، فقال تعالى لهم ) إني جاعل في الأرض خليفة ( وقال الأكثرون من الصحابة والتابعين : إنه تعالى قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص ، لأن لفظ الملائكة يفيد العموم والتخصيص خلاف الأصل .
و ) جاعل ( من جعل الذي له مفعولان ، معناه مصير في الأرض خليفة ، وإنما لم يقل إني خالق كما قال ) إني خالق بشراً من طين ( لأنه باعتبار الخلافة من عالم الأمر لا من عالم الخلق .
والظاهر أن الأرض يراد بها ما بين الخافقين ، وقد يروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن الأرض ههنا أرض مكة التي دحيت الأرض من تحتها .
والخليفة من يخلف غيره ويقوم مقامه ، والخليفة اسم يصلح للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وجمعه خلائف مثل :(1/215)
" صفحة رقم 216 "
كريمة وكرائم .
وجاء خلفاء لأنهم جمعوه على إسقاط الهاء مثل : ظريف وظرفاء .
والمراد به آدم ( صلى الله عليه وسلم ) إما لأنه صار خليفة لأولئك الجن الذين تقدموه ، ويروى ذلك عن ابن عباس ، وإما لأنه يخلف الله في الحكم بين خلقه كقوله ) يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ) [ ص : 26 ] وهو المروي عن ابن مسعود والسدي .
وعن الحسن ، أن المراد بالخليفة أبناء آدم لأنه يخلف بعضهم بعضاً ويؤيده قوله ) هو الذي جعلكم خلائف الأرض ) [ فاطر : 39 ] وإنما وحد بتأويل من يخلف أو خلفاً يخلف ، وبالحقيقة الإنسان يخلف جميع المكونات من الروحانيات والجسمانيات والسماويات والأرضيات ، ولا يخلفه شيء منها إذ لم يجتمع في شيء منها ما اجتمع فيه .
وليس للعالم مصباح يضيء بنار نور الله فيظهر أنوار صفاته خلافة عنه إلا مصباح الإنسان ، لأنه أعطى مصباح السر في زجاجة القلب ، والزجاجة في مشكاة الجسد ، وفي زجاجة القلب زيت الروح ) يكاد زيتها يضيء ) [ النور : 35 ] من صفاء العقل ولو لم تمسسه نار النور ، وفي مصباح السر فتيلة الخفاء ، فإذا استنار مصباحه بنار نور الله كان خليفة الله في أرضه ، فيظهر أنوار صفاته في هذا العالم بالعدل والإحسان والرأفة والرحمة واللطف والقهر ، ولا تظهر هذه الصفات لا على الحيوان ولا على الملك فاعلم .
والفائدة في إخبار الملائكة بذلك ، إما تعليم العباد المشاورة في أمورهم وإن كان هو بحكمته البالغة غنياً عن ذلك ، وإما ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا .
واعلم أن الجمهور من علماء الدين على أن الملائكة كلهم معصومون عن جميع الذنوب لقوله تعالى ) يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ) [ النحل : 50 ] فلا شيء من المأمورات بل ومن المنهيات - لأن المنهي مأمور بتركه - إلا ويدخل فيه بدليل صحة الاستثناء وأيضاً لقوله ) بل عباد مكرمون .
لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) [ الأنبياء : 26 ، 27 ] ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) [ الأنبياء : 20 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وطعن فيهم بعض الحشوية بأنهم قالوا أتجعل ، والاعتراض على الله من أعظم الذنوب .
وأيضاً نسبوا بني آدم إلى القتل والفساد وهذا غيبة وهي من أعظم الكبائر .
وأيضاً مدحوا أنفسهم بقولهم ) ونحن نسبح بحمدك ( وهو عجب .
وأيضاً قولهم ) لا علم لنا إلا ما علمتنا ( اعتذار والعذر دليل الذنب .
وأيضاً قوله تعالى ) إن كنتم صادقين ( دل على أنهم كانوا كاذبين فيما قالوه .
وأيضاً قوله ) ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض ( يدل على أنهم كانوا مرتابين في أنه تعالى عالم بكل المعلومات .
وأيضاً علمهم بالإفساد وسفك الدماء إما بالوحي وهو بعيد وإلا لم يكن لإعادة الكلام فائدة ، وإما بالاستنباط والظن وهو منهي ) ولا تقْفُ ما ليس لك به علم ) [ الإسراء : 36 ] وأيضاً قصة هاروت وماروت وأن(1/216)
" صفحة رقم 217 "
إبليس كان من الملائكة المقربين ثم عصى الله وكفر .
والجواب عن اعتراضهم على الله أن غرضهم من ذلك السؤال لم يكن هو الإنكار ولا تنبيه الله على شيء لا يعلمه فإن هذا الإعتقاد كفر ، وإنما المقصود من ذلك أمور منها : أن الإنسان إذا كان قاطعاً بحكمة غيره ثم رآه يفعل فعلاً لا يهتدي ذلك الإنسان إلى وجه الحكمة فيه ، استفهم عن ذلك متعجباً .
فكأنهم قالوا إعطاء هذه النعم العظام من يفسد ويسفك لا تفعله إلا لوجه دقيق وسر غامض فما أبلغ حكمتك ، ومنها أن إبداء الإشكال طلباً للجواب غير محذور ، فكأنه قيل : إلهنا أنت الحكيم الذي لا يفعل السفه ألبتة ، وتمكين السفيه من السفه قبيح من الحكيم ، فكيف يمكن الجمع بين الأمرين ؟ وهذا جواب المعتزلة ، واستدلوا به على أن الملائكة لم يجوزوا صدور القبيح من الله تعالى فكانوا على مذهب أهل العدل قالوا : ومما يؤكد ذلك أنهم أضافوا الفساد وسفك الدماء إلى المخلوقين لا إلى الخالق .
وأيضاً قالوا ) ونحن نسبح بحمدك ( والتسبيح تنزيه ذاته عن صفة الأجسام ) ونقدس لك ( والتقديس تنزيه أفعاله عن صفة الذم ونعت السفه ، ومنها أن الخيرات في هذا العالم غالبة على شرورها ، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير .
فالملائكة نظروا إلى الشرور فأجابهم الله تعالى بقوله ) إني أعلم ما لا تعلمون ( أي من الخيرات الكثيرة التي لا يتركها الحكيم لأجل الشر القليل وهذا جواب الحكيم .
ومنها أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى ، فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه .
ومنها أن قولهم ) أتجعل ( مسالة منهم أن يجعل الأرض أو بعضها لهم إن كان ذلك صلاحاً نحو قول موسى ) أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ) [ الأعراف : 155 ] أي لا تهلك ، فقال تعالى ) إني أعلم ما لا تعلمون ( من صلاحكم وصلاح هؤلاء فبين أن الاختيار لهم السماء ولهؤلاء الأرض ، ليرضى كل فريق بما أختار الله له .
ومنها أن هذا الاستفهام خارج مخرج الإيجاب كقول جرير : ألستم خير من ركب المطايا ؟ أي أنتم كذلك ، غلا لم يكن مدحاً ، فكأنهم قالوا : إنك تفعل ذلك ونحن مع هذا نسبح بحمدك لأنا نعلم في الجملة أنك لا تفعل إلا الصواب والحكمة فقال تعالى ) إني أعلم ما لا تعلمون ( فأنتم علمتم ظاهرهم وهو الفساد والقتل ، وأنا أعلم ظاهرهم وما في باطنهم من الأسرار الخفية التي تقتضي إيجادهم .
وفيه أن استحقاق تلك الخلافة ليس بكثرة الطاعة ولكنه بسابق العناية ، وأنه تعالى غني عن طاعة المطيعين كما أنه لا تضره معصية المذنبين .
والجواب عن الغيبة أن من أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الإشكال ، فلذلك ذكروا الفساد والسفك لا للغيبة .
وعن العجب أن مدح النفس غير ممنوع منه مطلقاً(1/217)
" صفحة رقم 218 "
) وأما بنعمة ربك فحدث ) [ الضحى : 11 ] فكأنهم قالوا ما سألناك للقدح في حكمتك يا رب فإنا نعترف لك بالإلهية والحكمة ، بل لطلب وجه الحكمة .
وعن الاعتذار ، إنه لم يكن للذنب بل لأن ترك السؤال كان أولى .
وروي عن الحسن وقتادة أن الله تعالى لما أخذ في خلق آدم همست الملائكة فيما بينهم وقالوا : ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق ، فلن يخلق خلقاً إلا كنا خلقاً أعظم منه وأكرم عليه ، فلما خلق آدم عليه السلام وفضله عليهم وعلمه الأسماء كلها قال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين في أنه لا يخلق خلقاً إلا وأنتم أفضل منه ، ففزعوا إلى التوبة وقالوا ) سبحانك لا علم لنا غإا ما علمتنا ( ثم إن العلماء ذكروا في إخبار الملائكة عن الفساد والسفك وجوهاً منها : أنهم قالوا ذلك ظناً إما لأنهم قاسوهم على حال الجن الذين كانوا قبل آدم عليه السلام في الأرض وهو مروي عن ابن عباس والكلبي ، وإما لأنهم عرفوا خلقته وعلموا أنه مركب من الأركان المتخالفة والأخلاط المتنافية الموجبة للشهوة التي منها الفساد وللغضب الذي منه سفك الدماء .
ومنها أنهم قالوا ذلك عن اليقين ، ويروى عن ابن مسعود وناس من الصحابة ، وذلك أنه تعالى لما قال للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا : ربنا وما يكون الخليفة ؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً .
فعند ذلك قالوا : ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ أو أنه تعالى كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، أو لأنه لما كتب القلم في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة فلعلهم طالعوا اللوح فعرفوا ذلك ، أو لأن معنى الخليفة غذا كان النائب لله في الحكم والقضاء والاحتياج إلى الحاكم إنما يكون عند التنازع والتظالم ، كان الإخبار عن وجود الخليفة إخباراً عن وقوع الفساد والشر بطريق الالتزام وقيل : لما خلق الله النار خافت الملائكة خوفاً شديداً فقالوا : لم خلقت هذه النار ؟ قال : لمن عصاني من خلقي .
ولم يكن يومئذ لله خلق إلا الملائكة ، ولم يكن في الأرض خلق ألبتة .
فلما قال : إني جاعل في الأرض خليفة ، عرفوا أن المعصية منهم تظهر .
وأما قصة إبليس وهاروت وماروت فسيجيء الكلام فيها .
واختلف الناس في أن الملائكة لهم قدرة على المعاصي والشرور أم لا .
فالفلاسفة وكثير من أهل الجبر قالوا : إنهم خير محض ولا قدرة لهم على الشر .
والمعتزلة أثبتوا لهم قدرة على الأمرين ، لأن قولهم ) أتجعل ( إما معصية أو ترك الأولى ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل ، وأيضاً قال تعالى ) ومن يقل منهم إني إلّه من دونه فذلك نجزيه جهنم ) [ الأنبياء : 29 ] وهذا يقتضي كونهم مزجورين .
وقال ) لا يستكبرون عن عبادته ((1/218)
" صفحة رقم 219 "
[ الأنبياء : 19 ] والمدح بترك الاستكبار إنما يحسن لو كان قدراً على الاستكبار .
ويمكن إلزامهم بأن الثواب عندهم واجب على الله فيمتنع عليه تركه مع أنه يستحق المدح على الثواب .
والواو في ) ونحن نسبح ( للحال كقولك ( أتحسن إلى فلان وأنا أحق بالإحسان ) والتسبيح تبعيد الله من السوء وكذا التقديس ، من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها أو أبعد .
والتبعيد عن السوء إما في الذات ويحصل بنفي الإمكان المستلزم لنفي الكثرة المستلزمة لنفي الجسمية والعرضية والضد والند ، وإما في الصفات بأن يكون مبرءاً عن العجز والجهل والتغيرات محيطاً بكل المعلومات قادراً على كل المقدورات ، وإما في الأفعال بأن لا تكون أفعاله لجلب المنافع ودفع المضار ، يقول الله تعالى : أنا المنزه عن النظير والشريك سبحانه هو الواحد القهار ، أنا المدبر للسموات والأرض سبحان رب السموات والأرض ، أنا المدبر لكل العالمين ، سبحان الله رب العالمين أنا المنزه عن قول الظالمين سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، أنا الغني عن الكل سبحانه هو الغني ، أنا السلطان الذي كل شيء سواي فهو تحت قهري وتسخيري فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ، أنا المنزه عن الصاحبة والولد سبحانه أنى يكون له ولد ، أنا الذي أخلق الولد من غير أب سبحانه ) إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ) [ آل عمران : 47 ] ، أنا الذي سخرت الأنعام القوية للبشر الضعيف ) سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ) [ الزخرف : 13 ] أنا الذي أعلم لا بعلم المعلمين ولا بإرشاد المرشدين ) سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ) [ البقرة : 32 ] أنا الذي أغفر معصية سبعين سنة بتوبة ساعة ) فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس ) [ طه : 130 ] فإن أردت رضوان الله فسبح ) ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ) [ طه : 130 ] وإن أردت الخلاص من النار فسبح ) سبحانك فقنا عذاب النار ) [ آل عمران : 191 ] وإن أردت الفرج من البلاء فسبح ) لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) [ الأنبياء : 87 ] أيها العبد ، واظب على تسبيحي ) وسبحوه بكرة وأصيلاً ) [ الأحزاب : 42 ] وإلا فالضرر يعود إليك ) فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ) [ فصلت : 38 ] يسبح لي الحجر والمجر والرمال والجبال والشجر والدواب والليل والنهار والظلمات والأنوار والجنة والنار والزمان والمكان والعناصر والأركان والأرواح والأجسام ) سبح لله ما في السموات والأرض ) [ الحديد : 1 ] ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] أيها العبد ، أنا الغني عن تسبيح هذه الأشياء ، وهذه الأشياء ليست من الأحياء فلا حاجة بها إلى ثواب هذا(1/219)
" صفحة رقم 220 "
التسبيح ، ولا أضيع ثواب هذه التسبيحات ، فإن ذلك لا يليق بي ) وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ) [ ص : 27 ] لكني أوصل ثواب هذه الأشياء إليك لتعرف أن من اجتهد في خدمتي أجعل كل العالم في خدمته ( وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء ) أيها العبد أذكرني بالعبودية لتنتفع به لا أنا ) سبحان ربك رب العزة عما يصفون ) [ الصافات : 180 ] فإنك إذا ذكرتني في الخلوات ذكرتك في الفلوات ) والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً ) [ الأحزاب : 35 ] أقرضني وإن كنت أنا الغني حتى أرد الواحد عيك عشرة ) إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ) [ التغابن : 17 ] لا حاجة لي إلى العسكر ) ولو يشاء الله لانتصر منهم ) [ محمد : 4 ] ولكن إذا نصرتني نصرتك ) إن تنصروا الله ينصركم ) [ محمد : 7 ] اخدمني ) يا أيها الناس اعبدوا ربكم ) [ البقرة : 21 ] لا لأني أحتاج إلى خدمتك فإني أنا الملك ) ولله ملك السموات والأرض ) [ آل عمران : 189 ] ولكن أصرف في خدمتي عمراً قصيراً لتنال ملكاً كبيراً وخيراً كثيراً ) وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ) [ التوبة : 72 ] .
قوله ) بحمدك ( في موضع الحال أي نسبحك ملتبسين بحمدك ، فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك .
وسئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي الكلام أفضل ؟ فقال : ما اصطفاه الله لملائكته : سبحان الله وبحمده .
ويروى أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت ، وأهل السماء الثالثة ركوع إلى يوم القيامة يقولون : سبحان الحي الذي لا ينام ولا يموت .
وعن ابن عباس وابن مسعود : نسبح أي نصلي ، والتسبيح الصلاة .
وعن مجاهد : نقدس لك نطهر أنفسنا من ذنوبنا وخطايانا ابتغاء لمرضاتك .
وقيل : ظهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك حتى تصير مستغرقة في أنوار معرفتك ) إني أعلم ما لا تعلمون ( معناه لا تعجبوا ولا تغتموا بأن فيهم من يفسد ويسفك فإني أعلم أن فيهم من لو أقسم على الله لأبرَّه ، وأعلم أن معكم إبليس وفي قلبه من الحسد والكبر والنفاق ما فيه ، أو أنكم لما وصفتم أنفسكم بهذه المدائح فأنتم في تسبيح أنفسكم لا في تسبيحي .
اصبروا حتى أخلق البشر فيكون فيهم من يعبدونني ثم يخشونني ، يودون حق العبادات ثم لا(1/220)
" صفحة رقم 221 "
يتكلمون على تلك الطاعات ) إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) [ الأنفال : 2 ] ( والذين هم من خشية ربهم مشفقون ) [ المؤمنون : 57 ] ( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) [ الشعراء : 82 ] ( وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) [ النمل : 19 ] أو أعلم من المصالح في ذلك ما هو خفي عليكم ، ولكم في هذا الإجمال ما يغنيكم عن التفصيل ، فإن أفعالي كلها حكمة ومصلحة ، وإن خفي عليكم وجه كل واحد على أنه قد بين لهم بعض ذلك في قوله :
( البقرة : ( 31 - 33 ) وعلم آدم الأسماء . . . .
" وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون "
( القراآت )
أنبؤني ( وكذلك ) خاطئون ( و ) خاسئين ( و ) فمالئون ( و ) نحن المنشئون ( و ) ليطفؤا ( و ) ليواطؤا ( و ) متكئين ( و ) قل استهزؤا ( و ) متكئاً ( و ) يستنبؤك ( وبابه ) بريأ ( و ) بريؤن ( وبابه ، وكهيئة وأشباه ذلك ، ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو .
) هؤلاء ( ها بغير المد ، أولاء بالمد : يزيد ويعقوب وأوقية ومصعب عن قالون .
قال أبو إسحق : هما كلمتان لا بمدها ويمد أولاء .
) هؤلاءان ( بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر .
وقرأ أبو عمرو والبزي من طريق الهاشمي بترك الهمزة الأولى وإثبات الثانية ، وكذلك في المفتوحتين والمضمومتين .
وقرأ يزيد وورش والقواص وسهل ويعقوب بإثبات الهمزة الأولى وتليين الثانية .
وعن نافع : تليين الأولى وإثبات الثانية ، وكذلك في المضمومتين .
وأما في المفتوحتين فكأبي عمرو .
) أنبئهم ( عن ابن عامر روايتان : مهموزة مكسورة الهاء ، وغير مهموزة مكسورة الهاء .
الوقوف : ( صادقين ( ( 5 ) ) علمتنا ( ( ط ) ) الحكيم ( ( 5 ) ) أنبئهم ( ( ج ) ) بأسمائهم ( ( ج ) لمكان فاء التعقيب .
) بأسمائهم ( ( لا ) لأن ( قال ) جواب ( فلما ) ) تكتمون ( .
التفسير : وفيه أبحاث : الأول : الأشعري والجبائي والكعبي على أن اللغات كلها توقيفية بمعنى أن الله تعالى خلق علماً ضرورياً بتلك الألفاظ وتلك المعاني ، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني بدليل قوله تعالى ) وعلم آدم الأسماء كلها ) لا علم لنا إلا ما علمتنا ( وهذا يدل على أن الملائكة وآدم لا يعلمون إلا بتعليم الله تعالى إياهم .
وخالفهم أصحاب أبي هاشم الذاهبون(1/221)
" صفحة رقم 222 "
إلى أن اللغات اصطلاحية وضعها البشر واحد أو جماعة .
وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن كالأطفال فقالوا : المراد ألهمه وبعث داعيته على الوضع مثل ) وعلمناه صنعة لبوس لكم ) [ الأنبياء : 80 ] .
أي ألهمناه ، أو المراد علمه ما سبق من اصطلاحات قوم كانوا قبل آدم .
وأجيب بأن الأصل عدم العدول عن الظاهر : قالوا ) ثم عرضهم ( يدل على أن المراد بالأسماء المسميات ، فإن عرض الأسماء غير معقول .
فإذن المراد أسماء المسميات فعوض الألف واللام عن المضاف إليه كما في قوله ) واشتعل الرأس شيباً ) [ مريم : 4 ] أي علمه أسماء كل ما خلق من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولده اليوم من العربية والفارسية والرومية وغيرها ، وكان ولد آدم يتكلمون بهذه اللغات ، فلما مات وتفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد بلغة واحدة معينة من تلك اللغات ، فلما مات وتفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد بلغة واحدة معينة من تلك اللغات ، فلما طالت المدة ومضت القرون نسوا سائر اللغات .
ثم لا يبعد بل ينبغي أن يكون الله تعالى قد علمه مع ذلك صفات الأشياء ونعوتها وخواصها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ، لأن اشتقاق الاسم إما من السمة أو من السمو .
فإن كان من السمة فالاسم هو العلامة وصفات الأشياء وخواصها دالة على ماهياتها وعلامة عليها ، وإن كان من السمو فدليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء ، فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول .
وإنما قلنا ينبغي ذلك لأن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من الفضيلة في معرفة أسمائها .
ثم من الحقائق ما يتوقف إدراكها على آلة تدرك بها كالمبصرات والمسموعات وغيرها ، فإذا كان لآدم تلك الآلات وقد عرفها بها ، ولم يكن للملائكة ذلك لزم عجزهم .
وأيضاً العربي لا يحسن منه أن يقول لغيره تكلم بلغتي ، لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات ، بل إن حصل التعليم حصل العلم بها وإلا فلا .
أما العلم بحقائق الأشياء ، فالعقل يتمكن من تحصيله فصح وقوع التحدي به .
وإنما قيل ) ثم عرضهم ( بلفظ الذكور ، لأن في جملة المسميات الملائكة والثقلين وهم العقلاء ، فغلب الكامل على الناقص ، والتذكير على التأنيث .
ومن الناس من تمسك بقوله ) أنبؤني بأسماء هؤلاء ( على جواز تكليف ما لا يطاق وهو ضعيف ، لأنه إنما استنبأهم مع علمه بعجزهم تبكيتاً لهم بدليل قوله ) إن كنتم صادقين ( أي في أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منهم .
وقيل : أي في قولكم إنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون له وتقومون به وهو قول ابن عباس وابن مسعود .
وقيل : أعلموني بأسماء هؤلاء إن علمتم أنكم تكونون صادقين في ذلك الإعلام .
وقيل : أخبروني ولا تقولوا إلا حقاً وصدقاً ، فيكون الغرض منه التوكيد لما نبههم عليه من القصور لأنه متى تمكن في أنفسهم العلم بأنهم إن أخبروا لم يكونوا صادقين ولا لهم إليه سبيل ، لم(1/222)
" صفحة رقم 223 "
يجترءوا على الجواب .
ثم إن الذين اعتقدوا معصية الملائكة في قولهم ) أتجعل ( قالوا : إنهم لما عرفوا خطأهم تابوا واعتذروا بقولهم ) سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ( والذين أنكروا معصيتهم قالوا : إنهم قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز التسليم كأنهم قالوا : لا نعلم إلا ما علمتنا ، فإذا لم تعلمنا ذلك فكيف نعلمه ؟ أو أنهم إنما قالوا ) أتجعل فيها من يفسد فيها ) [ البقرة : 30 ] لأن الله تعالى أعلمهم ذلك .
فكأنهم قالوا : إنك علمتنا أنهم يفسدون في الأرض فقلنا لك : أتجعل .
وأما هذه الأسماء فإنك ما علمتنا فكيف نعلمها ؟ ومعنى سبحانك نسبحك تسبيحاً أي ننزهك تنزيهاً وهو مصدر غير متصرف أي لا يستعمل غلا محذوف الفعل منصوباً على المصدرية ، فإذا استعمل غير مضاف كان ( سبحان ) علماً للتسبيح ، فإن العلمية كما تجري في الأعيان تجري في المعاني .
قالت المعتزلة ههنا : المراد أنه لا علم لنا إلا من جهتك إما بالتعليم وإما بنصب الأدلة .
وقالت الأشاعرة : بل الجميع بالتعليم لأن المؤثر في وجود العلم ليس هو ذات الدليل بل النظر في الدليل ، وأنه يستند إلى توفيق الله تعالى وتسهيله .
ثم احتج أهل الإسلام بالآية ، أنه لا سبيل غلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله ، وأنه لا يمكن التوصل إليها بعلم النجوم والكهانة .
وللمنجم أن يقول للمعتزلي : إذا فسرت التعليم بوضع الدليل فعندي حركات النجوم دلائل خلقها الله تعالى على أحوال هذا العالم ، فيكون من جملة ما علمه الله تعالى أنك أنت العليم بكل المعلومات ، فأمكنك تعليم آدم الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه .
وعن ابن عباس : أن مراد الملائكة من الحكيم أنه هو الذي حكم بجعل آدم خليفة في الأرض .
وقوله ( ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض ( استحضار لقوله تعالى لهم ) إني أعلم ما لا تعلمون ( إلا أنه تعالى جاء به على وجه أبسط وأشرح ، فيندرج فيه علمه بأحوال آدم قبل أن خلقه .
وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها ، فيبطل مذهب هشام ابن الحكم أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وقوعها .
وقد روى الشعبي عن ابن عباس وابن مسعود أنه يريد بقوله ) ما تبدون ( قولهم ) أتجعل فيها من يفسد فيها ( وبقوله ) وما كنتم تكتمون ( ما أسر إبليس في نفسه من الكفر والكبر وأن لا يسجد .
وقيل : لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً فقالوا : ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه ، فهذا هو الذي كتموه .
ويجوز أن يكون هذا القول منهم سراً أسروه بينهم فأبداه بعضهم لبعض وأسروه عن غيرهم ، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان .
والظاهر أنه عام كقوله ) إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ) [ الأنبياء : 11 ] ( إنه يعلم الجهر وما يخفى ) [ الأعلى : 7 ] .
البحث الثاني : قالت المعتزلة : ما ظهر من آدم معجز دل على نبوته في ذلك الوقت(1/223)
" صفحة رقم 224 "
فكان مبعوثاً إلى حواء أو إلى من توجه التحدي إليهم ، لأنهم كانوا رسلاً فقد يجوز الإرسال إلى الرسل كبعثة إبراهيم إلى لوط ( صلى الله عليه وسلم ) واحتجوا بأن حصول ذلك العلم له ناقض العادة ومنع بأن حصول العلم بالأسماء لمن علمه الله ، وعدم حصوله لمن لم يعلمه ليس بناقض للعادة .
وأيضاً أهم علموا أن تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات أو لا ؟ فإن علموا فقد قدروا على المعارضة وإلا فكيف عرفوا أن آدم أصاب فيما ذكر ، اللهم إلا أن يقال : إن لكل صنف منهم لغة من تلك اللغات ، ثم إن جميع الأصناف حضروا وإن آدم عرض عليهم جميع تلك اللغات فكان معجزاً ، أو يقال : إنه تعالى عرفهم قبل أن يسمعوا من آدم تلك الأسماء فاستدلوا به على صدق آدم .
والظاهر أنهم قد عرفوا صدقه بتصديق الله تعالى إياه ، ولئن سلم أنه ظهر منه فعل خارق للعادة فلم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص وهما عندنا جائزان ؟ القاطعون بأنه عليه السلام ما كان نبياً في ذلك الوقت قالوا : صدرت الكبيرة منه بعد ذلك ، والإقدام عليها يوجب الطرد والتحقير ، فوجب أن تكون النبوة متأخرة عنها ، كيف وقد قال عز من قائل ) ثم اجتباه ربه ) [ طه : 122 ] والرسالة هي الاجتباء ، فيكون بعد الزلة .
وأيضاً لو كان رسولاً ، فإن لم يكن مبعوثاً إلى أحد فلا فائدة ، وإن كان مبعوثاً فإما إلى الملائكة - وهم أفضل من البشر عند المعتزلة - ولا يجوز جعل الأدون رسولاً إلى الأشرف ، وإن المرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن ) ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً ) [ الأنعام : 9 ] وإما إلى الأنس ، ولا إنسان إلا حواء ، وإنها عرفت التكليف لا بواسطة آدم بدليل ) ولا تقربا هذه الشجرة ) [ البقرة : 35 ] وإما إلى الجن ، وما كان في السماء أحد من الجن .
البحث الثالث : في فضل العلم : لو كان في الإمكان شيء أشرف من العلم لأظهر الله تعالى فضل آدم بذلك الشيء ، ومما يدل على فضيلته الكتاب والسنة والمعقول .
أما الكتاب فمن ذلك ما يروى عن مقاتل ، أن الحكمة في القرآن على أربعة أوجه : أحدها مواعظ القرآن ) وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ) [ البقرة : 231 ] وثانيها الحكمة بمعنى الفهم والعلم ) وآتيناه الحكم صبيا ) [ مريم : 12 ] ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ) [ لقمان : 12 ] وثالثها الحكمة بمعنى النبوة ) فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ) [ النساء : 54 ] ورابعها القرآن ) يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثير ) [ البقرة : 269 ] وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم .
ومن ذلك أنه تعالى فرق بين سبعة نفر في كتابه ) قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) [ الزمر : 9 ] ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ) [ المائدة : 100 ] ( لا يستوي(1/224)
" صفحة رقم 225 "
أصحاب النار وأصحاب الجنة ) [ الحشر : 20 ] ( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) [ فاطر : 19 - 22 ] فإذا تأملت وجدت كل ذلك مأخوذاً من الفرق بين العالم والجاهل .
ومن ذلك قوله ) أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) [ النساء : 59 ] أي العلماء في أصح الأقوال ، لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء .
ولا ينعكس ) شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم ) [ آل عمران : 18 ] جعلهم في الآيتين في المرتبة الثالثة ، ثم زاد في الإكرام فجعلهم في المرتبة الثانية ) وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) [ آل عمران : 70 ] ( قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) [ الرعد : 43 ] ومن ذلك قوله تعالى ) يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) [ المجادلة : 11 ] ومن ذلك وصفهم بالإيمان ) والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) [ آل عمران : 7 ] وبشهادة التوحيد ) شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم ) [ آل عمران : 18 ] وبالبكاء والسجود والخشوع ) إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرّون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً ) [ الإسراء : 107 - 109 ] وبالخشية ) إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ فاطر : 28 ] .
وأما الأخبار فمنها ما رواه أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين ، فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب العالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة ، وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة ، ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له ، ويمسي ويصبح مغفوراً له ، وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء الله من النار ) وعن أنس أيضاً أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من طلب العلم لغير الله لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله ، ومن طلب العلم لله فهو كالصائم نهاره والقائم ليله ، وإن باباً من العلم يتعلمه الرجل خير له من أن يكون له أبو قبيس ذهباً فينفقه في سبيل الله ) وعن الحسن مرفوعاً ( من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة في الجنة ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( رحمة الله على خلفائي فقيل : يا رسول الله ومن خلفاؤك ؟ قال : الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله ) وعن أبي موسى الأشعري مرفوعاً ( يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول : يا معشر العلماء إني لم أضع نوري فيكم إلا لعلمي بكم ، ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم ، انطلقوا فقد غفرت لكم ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( معلم الخير إذا مات بكى عليه طير السماء ودواب الأرض وحيتان البحر ) وعن أبي هريرة مرفوعاً من صلى خلف عالم من العلماء فكأنما صلى خلف نبي من الأنبياء ( وعن ابن عمر مرفوعاً ) فضل العالم على العابد بسبعين درجة بين كل درجة حضر(1/225)
" صفحة رقم 226 "
الفرس سبعين عاماً ( وذلك أن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم ويزيلها والعابد يقبل على عبادته لا يتوجه إليها ولا يتعرف لها .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن : ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما تطلع عليه الشمس أو تغرب ) وعن ابن مسعود مرفوعاً ( من طلب العلم ليحدث به الناس ابتغاء وجه الله أعطاه الله أجر سبعين نبياً ) وعن عامر الجهني مرفوعاً ( يؤتى بمداد العلماء ودم الشهداء يوم القيامة لا يفضل أحدهما على الآخر ) وفي رواية ( فيرجح مداد العلماء ) وعن أبي واقد الليثي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بينما هو جالس والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر .
فأما أحدهم فرأى فرجة في الحلقة فجلس إليها ، وأما الآخر فجلس خلفهم ، وأما الثالث فإنه رجع وفر .
فلما فرغ ( صلى الله عليه وسلم ) من كلامه قال : ( ألا أخبركم عن النفر الثلاثة ؟ فأما الأول فأوى إلى الله فآواه الله ، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه ) .
وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ) قال الراوي : فأعظم بمرتبة هي الواسطة بين النبوة والشهادة .
وعن أبي هريرة مرفوعاً ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له بالخير ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا سألتم الحوائج فاسألوها الناس .
قيل : يا رسول الله ومن الناس ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إذا سألتم الحوائج فاسالوها الناس .
قيل : يا رسول الله ومن الناس ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : أهل القرآن .
قيل : ثم من ؟ قال : أهل العلم .
قيل : ثم من ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : صباح الوجوه ( قال الراوي : والمراد بأهل القرآن من يحفظ معانيه .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامسة فتهلك ( قال الراوي : وجه التوفيق بين هذه الرواية وبين الرواية الأخرى ) الناس رجلان عالم ومتعلم وسائر الناس همج لا خير فيه ( أن المستمع والمحب بمنزلة المتعلم ، وما أحسن قول بعض الأعراب لولده : كن سبعاً خالساً ، أو ذئباً خانساً ، أو كلباً حارساً ، وإياك أن تكون إنساناً ناقصاً .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يحدث إنساناً فأوحى الله تعالى إليه أنه لم يبق من عمر هذا الرجل الذي تحدثه إلا ساعة - وكان هذا وقت العصر - فأخبره الرسول بذلك فاضطرب الرجل وقال : يا رسول الله دلني على أوفق عمل لي في هذه الساعة .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) اشتغل بالتعلم .
فاشتغل بالتعلم وقبض قبل المغرب ( .
قال الراوي : فلو كان شيء أفضل من العلم لأمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) به في ذلك الوقت .
وأما الآثار ، فإن مصعب بن الزبير قال لابنه : تعلم العلم(1/226)
" صفحة رقم 227 "
فإنه إن يك لك مال كان لك جمالاً ، وإن لم يكن لك مال كان العلم لك مالاً .
وقال علي بن أبي طالب : لا خير في الصمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل .
وقيل : مثل العالم بالله كمثل الشمس لا يزيد ولا ينقص .
وهو الجالس على الحد المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات ، فهو تارة مع الله بالحب له ، وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة ، فإذا رجع من ربه إلى الخلق صار كواحد منهم كأنه لم يعرف الله ، وإذا خلا بربه مشتغلاً بذكره وخدمته فكأنه لا يعرف الخلق ، فهذا سبيل المرسلين والصديقين .
ومثل العالم بالله فقط كمثل القمر يكمل تارة وينقص أخرى ، وهو المستغرق في المعارف الالهية غير متفرغ لتعلم علم الأحكام إلا ما لا بد منه ، ومثل العالم بأمر الله فقط وهو العارف بالحلال والحرام دون أسرار جلال الله ، كمثل السراج يحرق نفسه ويضيء لغيره .
وقال شقيق البلخي : الناس يقومون من مجلسي على ثلاثة أصناف ، وذلك أني أفسر القرآن فأقول عن الله وعن الرسول ، فمن لا يصدقني فهو كافر محض ، ومن ضاق قلبه منه فهو منافق محض ، ومن ندم على ما صنع وعزم على أن لا يذنب كان مؤمناً محضاً .
وقال أيضاً : ثلاثة من النوم يبغضها الله ، وثلاثة من الضحك : النوم بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العتمة ، والنوم في الصلاة ، والنوم عند مجلس الذكر .
والضحك خلف الجنازة ، والضحك في المقابر ، والضحك في مجلس الذكر .
وقيل : العالم أرأف بالتلميذ من الأب والأم ، لأن الآباء والأمهات يحفظونهم من نار الدنيا وآفاتها ، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة وشدائدها .
وقيل لابن مسعود : بم وجدت هذا العلم ؟ قال : بلسان سؤل وقلب عقول .
وقال بعضهم : سل مسألة الحمقى واحفظ حفظ الأكياس .
وقيل : الدنيا بستان تزينت بخمسة أشياء : علم العلماء ، وعدل الأمراء ، وعبادة العباد ، وأمانة التجار ، ونصيحة المحترفين .
فجاء إبليس بخمسة أعلام وأقامها بجنب هذه الخمس .
فجاء بالحسد فركزه في جنب العلم ، وجاء بالجور فركزه بجنب العدل ، وجاء بالرياء فركزه بجنب العبادة ، وجاء بالخيانة فركزها بجنب الأمانة ، وجاء بالغش فركزه بجنب النصيحة .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : العلم أفضل من المال لسبعة أوجه : العلم ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة ، العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص ، المال يحتاج إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه ، إذا مات الرجل خلف ماله والعلم يدخل معه قبره ، المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل إلا للمؤمن ، جميع الناس محتاجون إلى العالم في أمر دينهم ولا يحتاجون إلى صاحب المال ، العلم يقوي الرجل عند المرور على الصراط والمال يمنعه منه .
قال الفقيه أبو الليث : من جلس عند العالم ولا يقدر أن يحفظ من ذلك العلم شيئاً فله سبع(1/227)
" صفحة رقم 228 "
كرامات : ينال فضل المتعلمين ، وكان محبوساً من الذنوب ما دام جالساً عنده ، وإذا خرج من منزله طلباً للعلم نزلت الرحمة عليه ، وإذا جلس في حلقة العلم فنزلت الرحمة عليهم حصل له منها نصيب ، وما دام يكون في الاستماع تكتب له طاعة ، إذا استمع ولم يفهم ضاق قلبه وانكسر فيكون في زمرة ( أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي ) ، إذا رأى إعزاز المسلمين للعالم وإذلالهم للفساق نفر عن الفسق ومال إلى طلب العلم .
وقيل : ثلاثة لا ينبغي للشريف أن يأنف منها وإن كان أميراً : قيامه من مجلسه لأبيه ، وخدمته للعالم الذي يتعلم منه ، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه .
( واعلم ) أن الله تعالى علم سبعة نفر سبعة أشياء : علم آدم الأسماء كلها ، وعلم الخضر علم الفراسة ) وعلمناه من لدنا علماً ) [ الكهف : 65 ] وعلم يوسف علم التعبير ) وعلمتني من تأويل الأحاديث ) [ يوسف : 101 ] وعلم داود صنعة الدرع ) وعلمناه صنعة لبوس لكم ( وعلم سليمان منطق الطير ) علمنا منطق الطير ) [ النمل : 16 ] وعلم عيسى عليه السلام علم التوراة والإنجيل ) ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) [ آل عمران : 48 ] وعلم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) الشرع والتوحيد ) وعلمك ما لم تكن تعلم ) [ النساء : 113 ] فعلم آدم كان سبباً لحصول السجدة والتحية ، وعلم الخضر كان سبباً لوجود تلميذ مثل موسى ويوشع ، وعلم يوسف لوجود الأهل والمملكة ، وعلم سليمان لوجدان بلقيس والغلبة ، وعلم داود للرياسة والملك ، وعلم عيسى لزوال التهمة عن أمه ، وعلم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لوجدان الشفاعة .
ثم نقول : من علم أسماء المخلوقات جد تحية الملائكة ، فمن علم ذات الخالق وصفاته أما يجد تحية الملائكة بل تحية ربه ) سلام قولاً من رب رحيم ) [ يس : 58 ] والخضر وجد بعلم الفراسة صحبة موسى ، فأمة محمد بعلم الحقيقة يجدون صحبة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) [ النساء : 69 ] ويوسف بتأويل الرؤيا نجا من حبس الدنيا ، فمن كان عالماً بتأويل كتاب الله كيف لا ينجو من حبس الشبهات ) ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) [ يونس : 25 ] وأيضاً فإن يوسف عليه السلام ذكر منة الله على نفسه حيث قال ) وعلمتني من تأويل الأحاديث ) [ يوسف : 101 ] فأنت يا عالم ، أما تذكر نعمة الله على نفسك حيث جعلك مفسراً لكلامه ، وسمياً لنفسه ووارثاً لنبيه وداعياً لخلقه وواعظاً لعباده وسراجاً لأهل بلاده وقائداً للخلق إلى جنته وثوابه ، وزاجراً لهم عن ناره وعقابه ، كما جاء في الحديث ( العلماء سادة ، والفقهاء قادة ، ومجالستهم زيادة ) وإن سليمان لم يحتج إلى الهدهد إلا لعلمه بالماء .
( وروي ) عن نافع بن الأزرق أنه قال لابن عباس : كيف اختار سليمان الهدهد لطلب الماء ؟ قال : لأن الأرض له كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها .
فقال نافع : الفخ يغطى له بأصبع من التراب فلا يراه فيقع(1/228)
" صفحة رقم 229 "
فيه فقال ابن عباس : إذا جاء القضاء عمي البصر .
وقال لولده : يا بني عليك بالأدب ، فإنه دليل على المروءة ، وأنس في الوحشة ، وصاحب في الغربة ، وقرين في الحضر ، وصدر في المجلس ، ووسيلة عند انقضاء الوسائل ، وغني عند العدم ، ورفعه للخسيس ، وكمال للشريف ، وجلال للملك .
( وقال ) سقراط : من فضيلة العلم أنك لا تقدر على أن يخدمك فيه أحد كما تجد من يخدمك في سائر الأشياء بل تخدمه بنفسك ، ولا يقدر أحد على سلبه عنك .
وقيل لبعض الحكماء : لا تنظر فغمض عينيه وقيل له : لا تسمع فسد أذنيه ، وقيل له : لا تتكلم فوضع يده على فيه ، وقيل له : لا تعلم فقال : لا أقدر عليه .
وعن بعض الحكماء : عظم العلم في ذاتك ، وصغر الدنيا في عينك ، وكن ضعيفاً عند الهزل ، قوياً عند الجد ، ولا تلم أحداً على فعل يمكن أن يعتذر منه ، ولا ترفع شكايتك إلا إلى من ترى نفعه عندك حتى تكون حكيماً فاضلاً .
ولبعضهم : آفة الزعماء ضعف السياسة ، وآفة العلماء حب الرياسة .
( وأما النكت ) فالمعصية عند الجهل لا يرجى زوالها ، وعند السهو يرجى زوالها انظر إلى زلة آدم فإنه بعلمه استغفر ، والشيطان عصى وبقي في الغي أبداً ، لأن ذلك كان بسبب الجهل ، وإن يوسف عليه السلام لما صار ملكاً احتاج إلى وزير فسأل جبريل عن ذلك فقال : إن ربك يقول لا تختر إلا فلاناً ، فرآه في أسوأ الأحوال .
فقال لجبريل : كيف يصلح لهذا العمل مع سوء حاله ؟ فقال له جبريل : إن ربه عينه لذلك لأنه ذب عنك بعلمه حين قال ) وإن كان قميصه قُدَّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين ) [ يوسف : 27 ] والنكتة أن من ذب عن يوسف استحق الشركة في مملكته ، فمن ذب عن الدين القويم بالبرهان المستقيم فكيف لا يستحق من الله الخير والإحسان ؟ وقيل : أراد واحد خدمة ملك فقال الملك : اذهب وتعلم حتى تصلح لخدمتي فلما شرع في التعلم وذاق لذة العلم ، بعث الملك إليه وقال : اترك التعلم فقد صرت أهلاً لخدمتي .
فقال كنت أهلاً لخدمتك حين لم ترني أهلاً لخدمتك ، وحين رأيتني أهلاً لخدمتك رأيت نفسي أهلاً لخدمة الله ، وذلك لأني كنت أظن أن الباب بابك لجهلي والآن علمت أن الباب باب الرب .
( وقال الحكيم : ( القلب ميت وحياته بالعلم ، والعلم ميت وحياته بالطلب ، والطلب ضعيف وقوته بالمدارسة ، فإذا قوي بالمدارسة فهو محتجب ، وإظهاره بالمناظر وإذا ظهر بالمناظرة فهو عقيم ، ونتاجه بالعمل فإذا زوج العلم بالعمل توالد وتناسل ملكاً أبدياً لا آخر له .
وإن نملة واحدة نالت الرياسة بمسألة واحدة علمتها وذلك قولها ) وهم لا يشعرون ) [ النمل : 18 ] كأنها إشارة إلى تنزيه الأنبياء عن المعصية وإيذاء البريء من غير جرم فقالت : لو حطمكم فإنما يصدر ذلك على سبيل السهو .
فمن علم حقائق الأشياء من الموجودات والمعدومات ، كيف لا يستحق الرياسة في الدين(1/229)
" صفحة رقم 230 "
والدنيا ؟ وإن الكلب المعلم يكون صيده ماهراً ببركة العلم مع أنه نجس في الأصل ، فالنفس الطاهرة في الفطرة إذا تلوثت بأوزار المعصية ، كيف لا تطهر ببركة العلم بالله وبصفاته ؟ وإذا كان السارق عالماً لا تقطع يده لأنه يقول : كان المال وديعة لي ، وكذا الشارب يقول : حسبته حلالاً ، وكذا الزاني يقول : تزوجتها فإنه لا يحد .
وأما الحكايات ، ( يحكى ) أن هارون الرشيد كان بحضرته فقهاء فيهم أبو يوسف فأتي برجل فادعى عليه آخر أنه أخذ من بيتي مالاً بالليل ، ثم أقر الآخذ بذلك في المجلس ، فاتفق العلماء على أنه تقطع يده ، فقال أبو يوسف : لا قطع عليه لأنه أقر بالأخذ ، وإنه لا يوجب القطع بل لا بد من الاعتراف بالسرقة فصدقه الكل في ذلك ثم قالوا للآخذ : أسرقتها ؟ فقال : نعم .
فأجمعوا على القطع لأنه أقر بالسرقة .
فقال أبو يوسف : لا قطع عليه لأنه وإن أقر بالسرقة ، لكن بعدما أوجب الضمان عليه بإقراره بالأخذ ، وإذا أقر بالسرقة بعد ذلك فهو بهذا الإقرار يسقط الضمان عن نفسه فلا يسمع إقراره فتعجب الكل .
( وعن الشعبي ) كنت عند الحجاج فأتي بيحيى بن يعمر - فقيه خراسان - من بلخ مكبلاً في الحديد .
فقال الحجاج : أنت زعمت أن الحسن والحسين من ذرية الرسول ؟ فقال : بلى .
فقال الحجاج : لتأتيني ببينة واضحة من كتاب الله أو لأقطعنك عضواً عضواً .
فقال : آتيك ببينة واضحة من كتاب الله يا حجاج ؟ قال : فتعجب من جرأته بقوله يا حجاج فقال له : ولا تأتيني بهذه الآية ) ندع أبناءنا وأبناءكم ) [ آل عمران : 61 ] فقال : آتيك بها واضحة من كتاب الله .
قال تعالى : ( ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان ( إلى قوله ) وزكريا ويحيى وعيسى ) [ الأنعام : 84 ] فمن أبو عيسى فقد ألحق تعالى عيسى بذرية نوح قال : فأطرق ملياً ثم رفع رأسه فقال : كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله ، حلوا وثاقه وأعطوه من المال كذا .
( ويحكى ) أن جماعة من أهل المدينة جاءوا إلى أبي حنيفة ليناظروه في القراءة خلف الإمام ويبكتوه ويسفهوا عليه ، فقال لهم : لا يمكنني مناظرة الجميع ففوضوا أمر المناظرة إلى أعلمكم لأناظره ، فأشاروا إلى واحد فقال : هذا أعلمكم ؟ قالوا : نعم قال : والمناظرة معه كالمناظرة معكم ؟ قالوا : نعم .
قال : والإلزام عليه كالإلزام عليكم ؟ قالوا : نعم .
قال : وإن ناظرته وألزمته الحجة فقد ألزمتكم الحجة ؟ قالوا : نعم .
قال : وكيف قالوا لأنا رضينا به إماماً فكان قوله قولاً لنا ، قال أبو حنيفة فنحن لما اخترنا الإمام في الصلاة فقراءته قراءة لنا وهو ينوب عنا فأقروا له بالعلم .
ويحكى أن المنصور دعا أبا حنيفة يوماً فقال الربيع وهو يعاديه : يا أمير المؤمنين ، هذا يخالف جدك حيث يقول الاستثناء المنفصل جائز وأبو حنيفة ينكره ، فقال أبو حنيفة : هذا الربيع يقول ليس لك بيعة في رقبة الناس .
فقال : كيف قال إنهم يعقدون البيعة لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل(1/230)
" صفحة رقم 231 "
بيعتهم ؟ فضحك المنصور وقال : إياك يا ربيع وأبا حنيفة ، فلما خرج الربيع قال : سعيت في دمي قال : كنت البادي .
ويحكى أنه دخل اللصوص على رجل وأخذوا متاعه واستحلفوه بالطلاق ثلاثاً أن لا يعلم أحداً .
فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه وليس يقدر أن يتكلم من أجل يمينه ، فجاء الرجل يشاور أبا حنيفة ، فقال : أحضر لي إمام مسجدك وأهل محلتك فأدخلهم جميعاً في دار واحدة وأخرج واحداً واحداً .
فقال للرجل : إن لم يكن لصك فقل : لا ، وإن كان فاسكت .
فلما سكت قبض على اللص ورد الله تعالى عليه جميع ما سرق منه .
ويحكى أنه كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلس أبي حنيفة ، فقال يوماً له : إني أريد التزوج من آل فلان وقد خطبتها إليهم فطلبوا مني من المهر فوق طاقتي .
قال : استقرض وادخل عليها فإن الله تعالى يسهل الأمر عليك بعد ذلك .
فأقرضه أبو حنيفة ذلك القدر ثم قال له بعد الدخول : أظهر أنك تريد الخروج من هذا البلد إلى بلد بعيد ، وأنك تسافر بأهلك معك .
فأظهر الرجل ذلك فاشتد على أهل المرأة وجاءوا إلى أبي حنيفة يشكونه ويستفتونه فقال لهم : له ذلك ، والطريق أن ترضوهبأن تردوا عليه ما أخذتموه فأجابوا إليه ، فقال الزوج : إني أريد شيئاً آخر فوق ذلك .
فقال له أبو حنيفة : ترضى بهذا وإلا أقرت لردل بدين فلا يمكن المسافرة بها حتى تقضي ما عليها ، فقال الرجل : الله الله ، لا يسمعوا بهذا ، فرضي بذلك وحصل ببركة علم أبي حنيفة فرج كل واحد من الخصمين .
وسئل أبو حنيفة عن رجل حلف ليقربن امرأته في نهار رمضان فلم يعرف أحد وجه الجواب .
فقال : يسافر بامرأته بيطؤها نهاراً في رمضان .
وقال بشر المريسي للشافعي : كيف تدعي انعقاد الإجماع مع أهل المشرق والمغرب على شيء واحد - وكانت هذه المناظرة عند الرشيد - فقال الشافعي : هل تعرف إجماع الناس على خلاف هذا الجالس ؟ فأقر به خوفاً وانقطع .
ويحكى أن أعرابياً سأل الحسين بن علي رضي الله عنه حاجة وقال : ( سمعت جدك يقول : إذا سألتم حاجة فاسألوها من أحد أربعة : إما عربياً شريفاً ، أو مولى كريماً ، أو حامل القرآن ، أو صاحب الوجه الصبيح ) فأما العرب فشرفت بجدك ، وأما الكرم فدأبكم وسيرتكم ، وأما القرآن ففي بيوتكم نزل ، وأما الوجه الصبيح فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( إذا أردتم أن تنظروا إليّ فانظروا إلى الحسن والحسين ) رضي الله عنهما .
فقال الحسين رضي الله عنه : ما حاجتك ؟ فكتبها على الأرض .
فقال الحسين رضي الله عنه : سمعت أبي علياً رضي الله عنه يقول : قيمة كل امرئ ما يحسنه .
وسمعت جدي يقول : المعروف بقدر المعرفة فأسألك عن ثلاث مسائل ، إن أحسنت في جواب واحدة فلك ثلث ما عندي ، وإن أجبت عن اثنتين فلك ثلثا ما عندي ، وإن أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي .
وقد حمل إلى الحسين صرة مختومة من العراق فقال : سل ولا قوة إلا بالله .
فقال رضي الله عنه :(1/231)
" صفحة رقم 232 "
أي الأعمال أفضل ؟ قال الأعرابي : الإيمان بالله .
قال : فما نجاة العبد من الهلكة ؟ قال : الثقة بالله ، قال : فما يزين المرء ؟ قال : علم معه حلم .
قال رضي الله عنه : فإن أخطأ ذلك ؟ قال : فمال معه كرم .
قال رضي الله عنه : فإن أخطأ ذلك ؟ قال : ففقر معه صبر .
قال رضي الله عنه : فإن أخطأ ذلك ؟ قال : فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه .
فضحك الحسين رضي الله عنه ورمى بالصرة إليه .
وأما الوجوه العقلية فمنها أن الأمور أربعة أقسام : قسم يرضاه العقل دون الشهوة كمكاره الدنيا ، وقسم عكس ذلك كالمعاصي ، وقسم ترضاه الشهوة والعقل وهو العلم والجنة ، وقسم لا ترضاه الشهوة والعقل وهو الجهل والنار .
فمن رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة ، ومن اشتغل بالعلم فقد خاض في جنة حاضرة ، وكما يعيش يموت وكما يموت يبعث .
ومنها أن اللذة إدراك المحبوب ، وكلما كان المدرك أكمل وأشرف كانت اللذة أكمل وأتم .
ومدرك العقل هو الله تعالى وجميع مخلوقاته من الملائكة والأفلاك والعناصر والمواليد وجميع أحكامه وأوامره وأي معلوم أشرف من ذلك ؟ فلا كمال ولا لذة فوق كمال العلم ولذته ، ولا ألم ولا نقصان مثل ألم الجهل ونقصانه ، ولهذا قال عز من قائل ) اقرأ باسم ربك الذي خلق .
خلق الإنسان من علق .
إقرأ وربك الأكرم .
الذي علم بالقلم .
علم الإنسان ما لم يعلم ) [ العلق : 1 - 5 ] كأنه قال : كنت في أول حالك علقة هي الغاية في الخساسة ، ثم صرت في آخر حالك في غاية الشرف .
وأيضاً ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية ، وهذا يدل على أنه إنما يستحق الأكرمية لأنه أعطى العلم ، فالعلم أشرف عطية وأعظم موهبة .
ومنها أنه تعالى قال ) إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ فاطر : 28 ] فالعلماء من أهل الخشية ، وأهل الخشية أهل الجنة لقوله تعالى ) جزاؤهم عند ربهم جنات عدن ( إلى قوله ) ذلك لمن خشي ربه ) [ البينة : 8 ] فالعلماء من أهل الجنة بل ليس أهل الجنة إلا العلماء وذلك لكلمة إنما المفيدة للحصر ولا جل لام الاختصاص في قوله ) لمن خشي ( والسبب في أن العلماء هم أهل الخشية ، أن من لم يكن عالماً بالشيء استحال أن يكون خائفاً منه .
ثم إن العلم بالذات لا يكفي في الخوف بل لا بد معه من العلم بأمور ثلاثة : أحدها العلم بالقدرة لأن الملك عالم باطلاع رعيته على أفعاله القبيحة لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعه ، وثانيها العلم بكونه عالماً لأن السارق من مال السلطان يعلم قدرته لكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه ، وثالثها العلم بكونه حكيماً فإن المسخرة عند السلطان عالم بكون السلطان قادراً على منعه عالماً بقبائح أفعاله لكنه يعلم أنه قد يرضى بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا(1/232)
" صفحة رقم 233 "
علم كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، قادراً على كل المقدورات ، غير راضٍ بالمنكرات والمحرمات ، فإذن الخوف من لوازم العلم بالله ، وبهذا يعرف نباهة قدر العلم .
ومن هنا أمر حبيبه ( صلى الله عليه وسلم ) بالازدياد منه حيث قال ) وقل رب زدني علماً ) [ طه : 114 ] .
ولم يكتف نبي الله موسى عليه السلام بما علم بل قال للخض ) هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً ) [ الكهف : 66 ] ولم يفتخر سليمان بالمملكة العظيمة بل افتخر بالعلم ) علمنا منطق الطير ) [ النمل : 16 ] ولولا شرف العلم لم يكن للهدهد مع ضعفه أن يتكلم بحضرة سليمان بقوله ) أحطت بما لم تحط به ) [ النمل : 22 ] وهكذا الرجل الساقط إذا تعلم العلم صار نافذ القول على السلاطين ، وما ذاك إلا ببركة العلم .
ومنها أنه صلى االله عليه وسلم قال ( تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة ) وذلك أن التفكر يوصلك إلى الله ، والعبادة توصلك إلى ثواب الله .
وأيضاً التفكر عمل القلب والعبادة عمل الجوارح .
ومنها أن سائر كتب الله ناطقة بفضل العلم ، أما التوراة فقال لموسى : عظم الحكمة فإني لا أجعل الحكمة في قلب عبد إلا وأردت أن أغفر له .
فتعلمها ثم اعمل بها ثم ابذلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة .
وأما الزبور فقال سبحانه لداود : قل لأحبار بني إسرائيل ورهبانهم حادثوا من الناس الأتقياء ، فإن لم تجدوا فيهم تقياً فحادثوا العلماء ، فإن لم تجدوا عالماً فحادثوا العقلاء ، فإن التقي والعلم والعقل ثلاث مراتب ، ما جعلت واحدة منهن في أحد من خلقي وأنا أريد هلاكه ، وإنما قدم سبحانه التقى على العلم ، لأن التقى لا يوجد بدون العلم كما بينا من أن الخشية لا تحصل غلا مع العلم ، والموصوف بالأمرين أشرف من الموصوف بأمر واحد ، ولهذا السر أيضاً قدم العالم على العاقل لأن العالم لا بد وأن يكون عاقلاً ، وأما العاقل فقد لا يكون عالماً ، فالعقل كالبذر والعلم كالشجر والتقوى كالثمر .
وأما الإنجيل فقد قال عز من قائل في السورة السابعة عشرة منه : ويل لمن سمع العلم فلم يطلبه كيف يحشر مع الجهال إلى النار ؟ اطلبوا العلم وتعلموه فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم ، وإن لم يرفعكم لم يضعكم ، وإن لم يغنكم لم يفقركم ، وإن لم ينفعكم لم يضركم .
ولا تقولوا نخاف أن تعلم فلا نعمل ولكن قولوا نرجو أن نعلم فنعمل ، إذ العلم شفيع لصاحبه ، وحق على الله أن لا يخزيه ، وإن الله تعالى يقول يوم القيامة : يا معشر العلماء ، ما ظنكم بربكم ؟ فيقولون : ظننا أن ترحمنا وتغفر لنا فيقول : وإني قد فعلت ، إني استودعتكم حكمتي لا لشر أردته بكم بل لخير أردته بكم ، فادخلوا في صالحي عبادي إلى جنتي برحمتي .
وبالجملة ، فكون العلم صفة شرف وكمال ، وكون الجهل صفة نقصان ، أمر معلوم للعقلاء بالضرورة ، ولذلك لو قيل للرجل العالم يا جاهل تأذى بذلك وإن كان يعلم أنه(1/233)
" صفحة رقم 234 "
كاذب ، ولو قيل للرجل الجاهل يا عالم فرح بذلك وإن كان يعلم أنه ليس كذلك ، والعلم أينما وجد كان صاحبه محترماً معظماً حتى إن غير الإنسان من الحيوان إذا رأى الإنسان احتشمه بعض الاحتشام وانزجر به بعض الانزجار وإن كان ذلك الحيوان أقوى بكثير من الإنسان .
والعلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من دونهم في العلم ، وأن كثيراً ممن كانوا يعاندون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويريدون قتله كانوا إذا وقع بصرهم عليه ألقى الله في قلوبهم الرعب منه فهابوه وانقادوا له .
لو لم تكن فيه آيات مبينة
كانت بداهته تغنيك عن خبر
وما فضل الإنسان على سائر الحيوان إلا لاختصاصه بالمزية النورانية واللطيفة الربانية التي لأجلها صار مستعداً لإدراك حقائق الأشياء والاشتغال بعبادة الله تعالى ، والجاهل كأنه في ظلمة شديدة إذا أخرج يده لم يكد يراها ، والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت ويسبح في بحار المعقولات ، فيطالع الموجودات والمعدوم والواجب والممكن والمحال ، ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض ، والجوهر إلى البسيط والمركب ، ويبالغ في تقسيم كل منها إلى أنواعها وأنواع أنواعها وأجزائها وأجزاء أجزائها والجزء الذي به يشارك غيره ، والجزء الذي به يمتاز عن غيره ، ويعرف أثر كل شيء ومؤثره ومعلوله وعلته ولازمه وملزومه وكليته وجزئيته ، فيصير كالنسخة التي أثبت فيها جميع المعلومات بتفاصيلها وأقسامها ، وأنه في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام كاملاً ومكملاً ، واسطة بين الله وعباده ، ولأمر ما لم يجعل الله سبحانه سائر صفات الجلال من القدرة والإرادة والسمع والبصر والوجوب والقدم والاستغناء عن المكان والحيز جواباً للملائكة وموجباً لسكوتهم ، وإنما جعل تعالى صفة العلم جواباً لهم ثم قال ) إني أعلم ما لا تعلمون ) [ البقرة : 30 ] وهكذا أظهر فضيلة آدم بالعلم بعد افتخارهم بالتسبيح والتقديس .
وإن إبراهيم اشتغل في أول أمره بطلب العلم متنقلاً بفكره من الكوكب إلى القمر ، ومن القمر إلى الشمس ، إلى أن وصل إلى الدليل الباهر والبرهان الظاهر إلى المقصود وهو الملة الحنيفية .
وإن الله تعالى سمى العلم تارة بالحياة ) أوَ من كان ميتاً فأحييناه ) [ الأنعام : 122 ] وتارة بالروح ) وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ) [ الشورى : 52 ] وتارة بالنور ) يهدي الله لنوره من يشاء ) [ النور : 35 ] وضرب المثل العلم بالماء ) أنزل من السماء ماء ) [ الرعد : 17 ] فعلم التوحيد كماء العين لا يجوز تحريكه لئلا يتكدر ، كذلك لا ينبغي طلب كيفية الله كيلا يفضي إلى الكفر ، وعلم الفقه كماء القناة يزداد بالاستنباط والحفر ، وعلم الزهد كماء المطر ينزل صافياً ويتكدر بغبار الهواء ، وكذلك علم الزهد صافٍ ويتكدر بالطبع ، وعلم البدع كماء(1/234)
" صفحة رقم 235 "
السيل يهلك الأحياء ويميت الخلق .
وأما الأخبار والآثار الدالة على وعيد من لم يعمل بعلمه أو طلب العلم لغير ذات الله فمنها : أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ا تجالسوا العلماء إلا إن دعوكم من خمس إلى خمس : من الشك إلى اليقين ، ومن الكبر إلى التواضع ، ومن العداوة إلى النصيحة ، ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الناس كلهم هلكى إلا العالمون ، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون ، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم ) عن عدي بن حاتم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يؤتى بناس يوم القيامة فيؤمر بهم إلى الجنة حتى إذا دنو منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها ، فيرجعون عنها بحسرة ما رجع أحد بمثلها ويقولون : يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا فتودوا ذاك أردت بكم ، كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم ، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين ، تراؤون الناس بخلاف ما تضمرون عليه في قلوبكم .
هبتم الناس ولم تهابوني ، أجللتم الناس ولم تجلوني ، تركتم المعاصي ولم تتركوها لي ، أكنت أهون الناظرين عليكم ؟ فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع ما حرمتكم من النعيم ) وقيل : أطلب أربعة في أربعة : من الموضع السلامة ، ومن الصاحب الكرامة ، ومن المال الفراغة ، ومن العلم المنفعة ، فإذا لم تجد من الموضع السلامة فالسجن خير منه ، وإذا لم تجد من الصاحب الكرامة فالكلب خير منه ، وإذا لم تجد من مالك الفراغة فالمدر خير منه ، وإذا لم تجد من العلم المنفعة فالموت خير منه ، وقيل : لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء : لا يتم الدين إلا بالتقوى ، ولا يتم القول إلا بالفعل ، ولا تتم المروءة إلا بالتواضع ، ولا يتم العلم إلا بالعمل ، فالدين بلا تقوى على الخطر ، والقول بلا فعل كالهذر ، والمروءة بلا تواضع كالشجر بلا ثمر ، والعلم بلا عمل كالغيم بلا مطر ، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لجابر بن عبد الله الأنصاري : قوام الدنيا بأربعة : بعالم يعمل بعلمه ، وجاهل لا يستنكف عن تعلمه ، وغني لا يبخل بماله ، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه .
فإذا لم يعمل العالم بعلمه استنكف الجاهل من تعلمه ، وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه ، فالويل لهم والثبور سبعين مرة .
وقيل : إذا وضعت على سواد عينك جزءاً من الدنيا لا ترى شيئاً ، فإذا وضعت على سويداء قلبك كل الدنيا كيف ترى بقلبك شيئاً ؟ .
البحث الرابع : في حد العلم الأشعري : العلم ما يعلم به .
وربما قال : ما يصير الذات به عالماً .
القاضي : العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه .
القفال : إثبات المعلوم على ما(1/235)
" صفحة رقم 236 "
هو به والكل دائر .
المعتزلة : هو الإعتقاد المقتضي لسكون النفس .
الفلاسفة : صورة حاصلة في النفس مطابقة للمعلوم ، ولا يخفى خروج علم الله تعالى عنهما فإنه لا يطلق هناك النفس ، وفيه مفاسد أخر يطول ذكرها ههنا ، وعند كثير من المحققين : هو بديهي .
وقيل : أصح الحدود ، صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض .
والحق في هذا المقام هو أن نسبة البصيرة إلى مدركاتها كنسبة البصر إلى مدركاته ، فكما أن للبصر نوراً كل ما يقع في ذلك النور فهو مدركه ، فكذا للبصيرة نور كل ما يقع فيه فهو مدركها .
ولا يدرك حقيقة هذا النور ، إلا من له نور ) ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ) [ النور : 40 ] وهكذا إدراكات جميع الأنوار حتى نور الأنوار ، وكلما ازدادت النفس نورية وشروقاً ازداد انبساطها فيقع فيها المعلومات أكثر ، وهكذا يكون الحال في كل مستكمل .
أما إذا كان العالم بحيت تكون كمالاته الممكنة له موجودة معه بالفعل ، فلا تزداد نوريته ، ولا يتجاوز مرتبته في العلم ) وما منا إلا له مقام معلوم ) [ الصافات : 164 ] ثم إن كان التكمال والنور بحيث لا يمكن أكمل منه ولا أنور ، كان جميع الأشياء واقعة في نوره ، بل يكون نوره نافذاً في الكل متصرفاً فيها محيطاً بها أزلاً وأبداً ) ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ) [ سبأ : 3 ] وههنا أسرار أخر لا يجوز التعبير عنها لعزتها يتفطن لبعضها من وفق لها من أهلها .
البحث الخامس في ألفاظ تقرب من العلم .
الأول : الإدراك ، وهو الوصول لأن القوة العاقلة تصل غلى حقيقة المعقول .
الثاني : وهو إدراك بغير استثبات وهو أول مراتب وصول المعقول إلى القوة العاقلة ولهذا لا يوصف به الله تعالى .
الثالث : التصور مشتق من الصورة ، فكأن حقيقة المعقول حلت في العاقلة حلول الشكل في المادة .
الرابع : الحفظ وذلك إذا استحكمت الصورة في العاقلة بحيث لو زالت لتمكنت من استرجاعها .
الخامس : التذكر وهو محاولة استرجاع الصورة المحفوظة ، وإنه بالحقيقة التفات النفس إلى عالمها .
السادس : الذكر وهو وجدان الصورة بعد محاولة استرجاعها ، ولا محالة يكون مسبوقاً بالزوال : قال الشاعر :
الله يعلم أني لست أذكره
وكيف أذكره إذ لست أنساه
ويوصف القول بأنه ذكر لأنه سبب حضور المعنى في النفس قال عز من قائل ) إنا نحن نزلنا الذكر ) [ الحجر : 9 ] .
السابع : المعرفة وقد اختلفوا في تفسيرها .
فمن قائل إنها إدراك الجزئيات ، والعلم إدراك الكليات .
ومن قائل إنها التصور والعلم هو التصديق ، وجعل العرفان أشرف من العلم لأن تصديقنا باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب(1/236)
" صفحة رقم 237 "
الوجود أمر معلوم بالضرورة ، وأما تصور حقيقته فأمر وراء الطاقة البشرية ، وقال بعضهم : من أدرك شيئاً وانحفظ أثره في نفسه ، ثم أدرك ذلك الشيء ثانياً وعرف أن هذا المدرك الذي أدركه ثانياً هو الذي كان قد أدركه أولاً ، فهذا هو المعرفة .
والنفس قبل البدن كانت معترفة بالربوبية إلا أنها في ظلمة العلاقة البدنية قد نسيت مولاها ، فإذا تخلصت من قيد العلاقة عرفت ربها وعرفت أنها كانت عارفة .
الثامن : الفهم وهو تصور الشيء من لفظ المخاطب ، والإفهام هو إيصال المعنى باللفظ غلى فهم السامع .
التاسع : الفقه وهو العلم بغرض المخاطب من خطابه قال تعالى ) لا يكادون يفقهون حديثاً ) [ النساء : 78 ] أي لا يقفون على المقصود الأصلي من التكاليف .
العاشر : العقل وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها ونفعها وضرها حتى يصير مانعاً من الفعل مرة ، ومن الترك أخرى ، فيجري ذلك مجرى عقال الناقة .
ومن هنا قيل : هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين ، والعاقل من عقل عن الله أمره ونهيه .
الحادي عشر : الدراية وهي المعرفة الحاصلة بضرب من الحيلة ، وهي ترتيب المقدمات فلا يصح إطلاقها عليه تعالى .
الثاني عشر : الحكمة وهي اسم لكل علم حسن وعمل صالح ، وهو بالعلم العملي أخص منه بالعلم النظري ، وفي العمل أكثر استعمالاً منه في العلم ، وقيل : هي الاقتداء بالخالق سبحانه بقدر القوة البشرية ، وذلك أن يجتهد أن ينزه علمه عن الجهل ، وعدله عن الجور ، وجوده عن البخل وحلمه عن السفه .
الثالث عشر : علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين .
فعلم اليقين ما كان من طريق النظر والاستدلال ، وعين اليقين ما كان من طريق الكشوف والنوال ، وحق اليقين ما كان متحقق الانفصال عن لوث الصلصال بوروده رائد الوصال .
الرابع عشر : الذهن وهو قوة النفس على اكتساب الحدود والآراء .
الخامس عشر : الفكر وهو انتقال النفس من التصديقات الحاضرة إلى التصديقات المستحضرة .
وقيل : إنه يجري مجرى التضرع إلى الله تعالى في استنزال العلم من عنده .
السادس عشر : الحدس وهو قوة للنفس بها يهتدي بسرعة إلى الحد الأوسط في كل قياس .
السابع عشر : الذكاء وهو شدة هذا الحدس وبلوغه الغاية القصوى ، من ذكت النار اشتعلت .
الثامن عشر : الفطنة وهي التنبه لشيء قصد تعريضه كالأحاجي والرموز .
التاسع عشر : الخاطر وهو حركة النفس نحو تحصيل حق أو حظ .
العشرون : الوهم وهو الإعتقاد المرجوح وقد يقال : إنه الحكم بأمور جزئية غير محسوسة لأشخاص جزئية كحكم السخلة بصداقة الأم وعداوة الذئب .
الحادي والعشرون : الظن وهو الإعتقاد الراجح فإن كان عن أمارة قوية قبل ومدح وعليه مدار أكثر أحوال العالم ، وإن كان عن أمارة ضعيفة ذم ) إن بعض الظن إثم ) [ الحجرات : 12 ] .
الثاني(1/237)
" صفحة رقم 238 "
والعشرون : الخيال وهو عبارة عن الصورة الباقية عن المحسوس بعد غيبته ، وما كان من ذلك في النوم قد يخص باسم الطيف .
الثالث والعشرون : البديهة وهي المعرفة الحاصلة للنفس ابتداء لا بتوسط الفكر مثل : الكل أعظم من الجزء ، وقد يقال لها الأوليات ، الرابع والعشرون : الروية وهي ما كان من المعارف بعد فكر كثير .
الخامس والعشرون : الكياسة وهي تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ) السادس والعشرون : الخبر وهو معرفة تحصل بطريق التجربة وجدت الناس اخبر تقله .
السابع والعشرون : الرأي وهو إجالة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب ، وقد يقال للقضية المستنتجة من الرأي رأي ، والرأي للفكرة كالآلة للصانع ، ولهذا قيل : إياك والرأي الفطير .
الثامن والعشرون : الفراسة وهي اختلاس المعارف من فرس السبع الشاة .
فضرب منها يحصل للإنسان من باطنه ، ولا يعرف له سبب الإصغاء جوهر الروح وهو شبه الإلهام ، وإياه عنى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ( إن في أ متي لمحدثين وإن عمر منهم ) وقد يسمى النفث في الروع ، وضرب يحصل بالاستدلال من الأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة .
وقيل : ( أفمن كان على بينة من ربه ( إشارة إلى الأول ) ويتلوه شاهد منه ) [ هود : 17 ] إلى الثاني والله أعلم .
التأويل : عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله خلق آدم فتجلى فيه ) فبالتجلي علمه التخلق بأخلاقه والاتصاف بصفاته وهذا هو سر الخلافة بالحقيقة ، لأن المراة تكون خليفة المتجلي فيها ) أنبئوني بأسماء هؤلاء ( أي بأسماء هؤلاء المخلوقات دون أسماء الله وصفاته ) إن كنتم صادقين ( في دعوى الفضيلة ، فإن الفضيلة ليست بمجرد الطاعة ، فإن ذرات الموجودات مسبحات بحمدي ، وإنما الأفضلية بالعلم لأن الطاعة من صفات الخلق ، والعلم من صفات الخالق ، والفضل لمن له صفة الحق والخلق جميعاً فيخلف عن الحق بصفاته وعن الخلق بصفاتهم .
وإنما قال ) أنبئهم ( ولم يقل علمهم كقوله تعالى ) وعلم آدم ( لأن الملائكة ليس لهم الترقي في الدرجات والملكوتيات ، لهم شهادة كالجسمانيات لنا ، ولا يتجاوزون ما فوق سدرة المنتهى كما قال جبريل : لو دنوت أنملة لاحترقت .
والجسمانيات مرتبة دون(1/238)
" صفحة رقم 239 "
مرتبتهم فيمكن إنباؤهم بها لأن الجسمانيات لهم كالحيوانيات بالنسبة إلينا .
وأما الالهيات فليس لهم استعداد الترقي إليها ، فلهذا لم يقل أنبئهم بأسمائهم كلها كما قال ) وعلم آدم الأسماء كلها ( لئلا يكون تكليفاً بما لا يطاق ، وإنما كان آدم مخصوصاً بعلم الأسماء واحتاجت الملائكة إليه في إنباء أسمائهم وأسماء غيرهم ، لأنه كان خلاصة العالم ، ولهذا خلق شخصه بعد تمام العالم بما فيه كخلق الثمرة بعد تمام الشجرة .
فكما أن الثمرة تعبر على أجزاء الشجرة كلها حتى تظهر على أعلى الشجرة ، كذلك آدم عبر على أجزاء شجرة الوجود وكان في كل جزء من أجزائها له منفعة ومضرة ومصلحة ومفسدة ، فحصل له من كل من ذلك اسم يلائمه حتى إن أسماء الله تعالى جاءت على وفقه فضلاً عن أسماء غيره ، وذلك أنه لما كان مخلوقاً كان الله خالقاً ، ولما كان مرزوقاً كان الله رازقاً ، ولما كان عبداً كان الله معبوداً ، ولما كان معيوباً كان ستاراً ، ولما كان مذنباً كان غفاراً ، ولما كان تائباً كان تواباً ، ولما كان منتفعاً ومتضرراً كان نافعاً وضاراً ، ولما كان ظالماً كان عادلاً ، ولما كان عليه السلام مظلوماً كان منتقماً وعلى هذا فقس .
( البقرة : ( 34 - 39 ) وإذ قلنا للملائكة . . . .
" وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "
( القراآت )
للملائكة اسجدوا ( برفع الهاء للإتباع : يزيد وقتيبة .
وروى ابن مهران عنهما أنهما يشمان الكاف الكسر ويرفعان الهاء .
وروى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة : الملايكة بغير همز ، وكذلك كل كلمة في وسطها همزة مكسورة إلا قوله ) السائلين ( و ) السائل ( و ) البائس ( فإنهما بالهمز ) شئتما ( وبابه بغير همز : أبو عمر ويزيد والأعشى وورش ، ومن طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف ) فأزالهما ( حمزة ) آدم ( نصب ) كلمات ( رفع ابن كثير ) فلا خوف عليهم ( بالفتح حيث كان : يعقوب ) هداي ( و ) محياي ( و ) مثواي ( بالإمالة كل القرآن على غير ليث .
) النار ( بالإمالة كل القرآن ، وكذلك كل كلمة في آخرها راء مكسورة بعد الألف في موضع اللام من الكلمة قرأها على غير ليث وأبي حمدون وحمدويه والنجاري عن ورش وحمزة في رواية ابن سعدان وأبو(1/239)
" صفحة رقم 240 "
عمرو إلا أنه لا يميل ) الجار ( و ) الغار ( في بعض الروايات .
فروى إبراهيم بن حماد عن اليزيدي ) الجار ( بالإمالة .
وروى ابن مجاهد عن اليزيدي ) الغار ( بالإمالة ، وسائر الروايات عنه بالتفخيم لقلة دورهما .
واختلفوا في وقف أبي عمرو في مثل ) النار ( وأشباه ذلك .
فروى ابن مجاهد والحسن بن عبد الله عن النقاش وكثير من أهل العراق أنه يقف كما يصل ، وروى سلمة بن عاصم أنه يقف بالتفخيم والأول أكثر .
الوقوف : ( إبليس ( ( ط ) لأنه معرف والجملة بعده لا تكون صفة له إلا بواسطة الذي ولا عامل فتجعل الجملة حالاً ) الكافرين ( ( 5 ) ) شئتما ( ( ص ) لاتفاق الجملتين ) الظالمين ( ( 5 ) ) كانا فيه ( ص ) لعطف الجملتين المتفقتين .
) عدو ( ( ج ) لاختلاف الجملتين ) حين ( ( 5 ) ) فتاب عليه ( ( ط ) ) الرحيم ( ( ج ) ) جميعاً ( ( ج ) لابتداء الشرط مع فاء التعقيب ) يحزنون ( ( 5 ) ) النار ( ( ج ) لأن ما بعدها مبتدأ وخبر .
وقيل : الجملة خبر بعد خبر لأولئك ، لأن تمام المقصود بوعيد هو الخلود مثل : الرمان حلو حامض ) خالدون ( ( 5 ) .
التفسير : لما خصص الله تعالى أبانا آدم بالخلافة ثم علمه من العلوم ما ظهر بذلك مزيته على جميع الملائكة ، اقتضت حكمته البالغة أن جعله مسجوداً لهم وهذا مقتضى النسق ههنا ظاهر إلا أن قوله تعالى في موضع آخر ) فإذا سويته فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) [ ص : 72 ] يقتضي أن يكون الأمر بالسجود قبل تسوية خلقه ، وأنه كما صار حياً صار مسجوداً لهم .
وتعليم الأسماء ومناظرته مع الملائكة في ذلك حصل بعد سجدتهم .
والله أعلم بذلك .
ثم إن المسلمين أجمعوا على أن ذلك السجود لم يكن للعبادة لأنه تعالى لا يأمر بالكفر والعبادة لغيره كفر ، فزعم بعض أن السجود كان لله تعالى وآدم كالقبلة .
فقوله ) اسجدوا لآدم ( مثل قولك ( صل للقبلة ) قال حسان بن ثابت :
ما كنت أعرف أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم
وأعرف الناس بالقرآن والسنن ؟
وهو ضعيف لأن المقصود من هذه القسة شرح تعظيم آدم ، وجعله مجرد القبلة لا يفيد كونه أعظم حالاً من الساجد .
وزعم آخرون أن المراد بالسجود الانقياد والخضوع كما هو مقتضى أصل اللغة مثل ) والنجم والشجر يسجدان ) [ الرحمن : 6 ] وزيف بأنه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض ، فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك ، لأن الأصل عدم(1/240)
" صفحة رقم 241 "
التغيير .
وأصح الأقوال أن السجود كان بمعنى وضع الجبهة ولكن لا عبادة بل تكرمة وتحية كالسلام منهم عليه ، وقد كانت الأمم السالفة تفعل ذلك بدل التسليم .
قال قتادة في قوله ) وخروا له سجداً ) [ يوسف : 100 ] كان تحية الناس يومئذ سجود بعضهم لبعض ، ويجوز أن تختلف الرسوم والعادات باختلاف الأزمنة والأوقات .
واختلف في أن إبليس من الملائكة أم لا .
فقال أكثر المتكلمين لا سيما المعتزلة : إنه لم يكن منهم .
وقال كثير من الفقهاء : إنه كان منهم حجة الأولين أنه من الجن لقوله تعالى في الكهف ) إلا إبليس كان من الجن ) [ الآية : 50 ] فلا يكون من الملائكة .
وأيضاً قال ) ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن ) [ سبأ : 40 ] ورد الأول بأن الجن قد يطلق على الملك لاستتاره عن العيون ، وبأن كان يحتمل أن تكون بمعنى صار .
والثاني بأنه لا يلزم من كون الجن في هذه الآية نوعاً مغايراً للملائكة أن يكون في الآية الأولى أيضاً مغايراً ، لاحتمال كونه على مقتضى أصل اللغة وهو الاستتار .
وقالوا : إن إبليس له ذرية لقوله تعالى ) أتتخذونه وذريته أولياء من دوني ) [ الكهف : 50 ] والملائكة لا ذرية لها لأنها تحصل من الذكر والأنثى ولا غناث فيهم لقوله ) وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ) [ الزخرف : 19 ] منكراً عليهم وأيضاً الملائكة معصومون لما سلف ، وإبليس لم يكن كذلك .
وأيضاً إنه من النار ) خلقتني من نار ) [ ص : 76 ] وأنهم من نور لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار ) رواه الزهري عن عروة عن عائشة .
ومن المشهور الذي لا يدفع أن الملائكة روحانيون ، فقيل سموا بذلك لأنهم من الريح أو من الروح .
وأيضاً الملائكة رسل ) جاعل الملائكة رسلاً ) [ فاطر : 1 ] ورسل الله معصومون ) الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] حجة الآخرين أنه استثناه من الملائكة ، وحمله على المتصل أولى ، لأن تخصيص العمومات في كتاب الله أكثر من الاستثناء المنقطع .
قيل : إنه جني واحد مغمور بين ظهراني ألوف من الملائكة فغلبوا عليه ، وهذا لا ينافي كون الاستثناء متصلاً .
وأجيب بأن التغليب إنما يصار إليه إذا كان المغلوب ساقطاً عن درجة ا لاعتبار ، أما إذا كان معظم الحديث فيه فلا يصار إلى التغليب .
وأيضاً لو لم يكن من الملائكة لم يتناوله الخطاب ب ) اسجدوا ( وحينئذ لم يستحق بترك السجود لوماً وتعنيفاً ، ولا يمكن أن يقال إنه نشأ معهم والتصق بهم فتناوله الأمر لما بين في أصول الفقه أن خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدة المخالطة بين الصنفين ، (1/241)
" صفحة رقم 242 "
ولا أن يقال إنه وإن لم يدخل في هذا الأمر إلا أنه تعالى أمره بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله ) ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) [ الأعراف : 12 ] لأن قوله ) أبى واستكبر ( عقيب قوله ) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا ( مشعر بأن المخالفة بسبب هذا الأمر ، هذا ما قيل عن الجانبين .
ومما يناسب تفسير الآية الكلام في أن الأنبياء أفضل من الملائكة أم بالعكس ، قال أكثر أهل السنة بالأول ، ومالت المعتزلة والشيعة إلى الثاني ، واختاره الباقلاني وأبو عبد الله الحليمي من فقهاء أهل السنة .
المعتزلة احتجوا بأمور : أحدها ) ومن عنده لا يستكبرون ) [ الأنبياء : 19 ] وليس المراد عندية المكان والجهة بل عندية القرب والشرف .
وعورض بما حكى عنه سبحانه ( أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي ) بل هذا أبلغ لأن كون الله تعالى عند العبد أدخل في التعظيم من كون العبد عنده .
قالوا : الآية تدل على أنه تعالى يقول الملائكة مع شدة قوتهم واستيلائهم على أجرام السموات والأرض وأمنهم من الهرم والمرض والآفات ، لا يتركون العبودية لحظة واحدة ، فالبشر مع غاية ضعفهم وقصورهم أولى بذلك .
وأجيب بأنه لا نزاع في ذلك ، وإنما النزاع في الأفضلية بمعنى كثرة الثواب .
الثانية : عباداتهم من عبادات البشر فيكون ثوابهم أكثر لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) لعائشة ( أجرك على قدر نصيبك ) ولقوله ( أفضل العبادات أجزها ) أي أشقها .
وأما بيان أن عباداتهم أشق فمن وجهين : أحدهما أنهم سكان السموات وهي جنان ومنتزهات وهم مع ذلك لا يلتفتون إلى نعيمها ويقبلون على طاعاتهم خائفين وجلين وكأنه لا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوماً واحداً فضلاً عن تلك الأعصار المتطاولة ) إن الإنسان ليطغى .
أن رآه استغنى ) [ العلق : 6 ، 7 ] ويؤكده قصة آدم فإنه أطلق له في الجنة جميعها إلا شجرة واحدة ومع ذلك لم يملك نفسه ، والثاني أن انتقال المكلف من نوع عبادة إلى نوع آخر كالانتقال من طعام إلى طعام ، والإقامة على نوع واحد تورث السآمة وهذا شأن الملائكة ) وإنا لنحن الصافون .
وإنا لنحن المسبحون ) [ الصافات : 165 ، 166 ] ومنهم ركوع ومنهم سجود منذ خلقوا .
وعورض الوجه الأول بأن أسباب البلاء مجتمعة على البشر ، ثم إنهم راضون بقضاء الله مواظبون على تكاليفهم ، ولذلك كان العبيد والخدم تطيب قلوبهم بالخدمة حال الرفاهية ، ولا يصبر أحد منهم على مشقة الخدمة إلا من كان في نهاية الإخلاص .
والثاني بأن العادة طبيعية خامسة ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أفضل الصوم صوم داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً )(1/242)
" صفحة رقم 243 "
الثالثة : عباداتهم أدوم ) يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( وخير الأعمال أدومها ، مع أن أعمارهم أكثر .
وعلى الآية سؤال .
روي عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال : قلت لكعب : أرأيت قول الله عز وجل ) لا يفترون ) [ الأنبياء : 20 ] ثم قال ) جاعل الملائكة رسلاً ) [ فاطر : 1 ] أولئك عليهم لعنة الله والملائكة ، أفلا تكون الرسالة واللعن مانعين عن التسبيح ؟ فأجاب بأن التنفس لا يمنعنا من الاشتغال بشيء آخر ، فكذلك التسبيح لهم .
وزيف بأن آلة النفس فينا غير آلة الكلام ، وأما اللعن والتسبيح فهما من جنس الكلام ، فاجتماعهما في آلة واحدة محال .
وأجيب باحتمال أن يكون لهم ألسنة كثيرة يسبحون الله تعالى ببعضها ويلعنون أعداءه ببعض آخر ، وبأن ثناء الله يستلزم تبعيد من اعتقد في الله ما لا ينبغي ، أو المراد لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال : فلان يواظب على الجماعات .
يعنون أنه عازم على أدائها في أوقاتها .
ونوقضت الحجة بأن الطاعة القليلة من الإنسان قد تقع على وجه يستحق بها ثواباً من ثواب طاعاتهم .
الرابعة : أنهم أسبق السابقين في كل العبادات ) والسابقون السابقون .
أولئك المقربون ) [ الواقعة : 10 ، 11 ] ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ) الخامسة : الملائكة رسل إلى الأنبياء ) علمه شديد القوى ) [ النجم : 5 ] ( نزل به الروح الأمين ) [ الشعراء : 193 ] والرسول أفضل من الأمة قياساً على الشاهد .
ومنع بأن هذا إذا كان الرسول حاكماً على المرسل إليهم ومتولياً لأمورهم كالأنبياء المبعوثين إلى أممهم ، أما في مطلق الرسول فلم قلتم إنه كذلك كما لو أرسل الملك عبداً من عبيده إلى وزيره أو إلى ملك آخر .
السادسة : أنهم أتقى من البشر لدوام خوفهم ) يخافون ربهم من فوقهم ) [ النحل : 50 ] مع وجود شهوة الترفع والرياسة فيهم ولهذا قالوا ) أتجعل فيها من يفسد فيها ( وإن لم يكن لهم شهوة الأكل والوقاع ، فوجب أن يكونوا أفضل ) إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) [ الحجرات : 13 ] ورد بأن تقوى الإنسان أكمل فإن لهم مع شهوة الرياسة شهوة البطن والفرج أيضاً .
السابعة : ( لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ) [ النساء : 172 ] خرج الثاني مخرج التأكيد للأول .
ومثل هذا إنما يكون بذكر الأفضل بعد الفاضل .(1/243)
" صفحة رقم 244 "
كقولك : هذا العالم لا يستنكف عن خدمة الوزير ولا الملك .
فيفيد أفضلية الملائكة المقربين في المعاني المصححة للعبودية من نهاية الخضوع والخشوع ما يتبعها مع شدة بطشهم وقوة حالهم .
وعورض بأنه قد يقال هذا العالم لا يستنكف عن خدمة القاضي ولا السلطان ، ولا يفيد إلا أن السلطان أكل من القاضي في بعض الأمور كالقوة والقدرة ، ولا يدل على كونه أكمل من القاضي في سائر الدرجات كالعلم والزهد .
فلم قلتم : إنهم أفضل من البشر في كثرة الثواب ؟ قلت : والحق أن جميع الدرجات مندرجة تحت العبودية كما أشرنا إليه فيما مر ، فيفيد أفضلية الملائكة .
لكن المقربين منهم فقط دون غيرهم ومفضولية المسيح فقط دون غيرهم كمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
الثامنة : ( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين ) [ الأعراف : 20 ] فهذا وإن كان حكاية قول إبليس ، إلا أن آدم وحواء لو لم يعتقدا أفضلية الملك لم يغترا بذلك واعتقادهما حجة .
ورد بأن آدم لعله أخطأ في ذلك الإعتقاد ، إما لأن الزلة جائزة على الأنبياء ، أو لأنه ما كان نبياً في ذلك الوقت ، وأيضاً هب أنه حجة لكنه قبل الزلة لم يكن نبياً فلا يلزم من مفضوليته وقتئذ مفضوليته وقت نبوته ، وإن سلم مفضوليته ونبوته وقتئذ فلا نسلم أن ذلك في باب الثواب بل في باب القدرة والقوة والحسن والجمال .
ونحو ذلك فإنهم خلقوا من الأنوار وآدم خلق من التراب ، فاغتر رغبة فيما لهم من هذه الأمور .
وأيضاً يحتمل أن يكون المراد إلا أن تنقلبا ملكين فيصح استدلالكم ، وأن يكون المراد أن النهي مختص بالملائكة الخالدين دونكما كما يقول أحدنا لغيره : ما نهيت أنت عن كذا إلا أن تكون قلاناً .
ويكون المعنى أن المنهي عنه هو فلان دونك ، فكان غرض إبليس إيهام أنهما لم ينهيا .
وأيضاً غاية ما في الباب أن الآية تدل على مفضولية آدم ولا يلزم منه مفضولية جميع الأنبياء كمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
التاسعة : ( ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ) [ هود : 31 ] أي لا أدعي القدرة على كل المقدورات والعلم بكل المعلومات ، ولا أدعي قدرة مثل قدرة الملك ولا علماً مثل علمهم ، وذلك أنه لم يرد به نفي الصورة لأنه لا يفيد الغرض ، وإنما نفي أن يكون له مثل ما لهم من الصفات الجسمية والقوى العظيمة .
ورد بأنه لا يلزم من عدم الاستواء في كل الصفات حصول الاختلاف في جميعها .
العاشرة : ( ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم ) [ يوسف : 31 ] ولا يخفى أن التشبيه في السيرة من غض البصر وقمع النفس عن المحرمات بدلالة وصفه بالكرم لا في الصورة .(1/244)
" صفحة رقم 245 "
ورد بأن قولها ) فذلكن الذي لمتني فيه ) [ يوسف : 32 ] كالتصريح بأن مراد النساء تعظيم حال يوسف في الحسن والجمال ، فذلك يظهر عذرها في عشقها .
ولئن سلمنا أن التشبيه في الأخلاق المرضية فذلك لا يوجب مفضوليته من جميع الجهات ، على أن قول النساء لا يصلح لأن يكون حجة .
الحادية عشرة : ( وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ) [ الإسراء : 70 ] وذلك أن المخلوقات إما غير المكلفين والإنسان أفضل منهم ، وإما المكلفون وهم الملائكة والإنس والجن والشياطين .
ولا ريب أن الإنس أفضل من الجن والشياطين ، فلو كانوا أفضل من الملك أيضاً لزم كون البشر أفضل من أكل المخلوقات ، فينبغي أن يقال : وفضلناهم على جميع من خلقنا .
ورد بأن كونه أفضل من كثير لا يدل على أنه ليس بأفضل من الباقي إلا بدليل الخطاب وهو غير حجة .
وأيضاً ثبت أن جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم ، ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من المجموع الآخر أن يكون كل واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من أفراد المجموع الثاني .
وأيضاً الكلام في التفضيل الحاصل بسبب الكرامة المذكورة في أول الآية ) ولقد كرمنا بني آدم ) [ الإسراء : 70 ] ولا يلزم من كون الملك أفضل من البشر في تلك الكرامات وهو حسن الصورة والطهارة واستخراج الأعمال العجيبة أن يكونوا أفضل منهم في الأشياء الموجبة للثواب .
الثانية عشرة : الأنبياء ما استغفروا إلا بدأوا بأنفسهم قال نوح ) رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً ( وقال إبراهيم ) رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين ) [ الشعراء : 83 ] ثم قال ) واغفر لأبي ) [ الشعراء : 86 ] وقال لمحمد ) واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) [ محمد : 19 ] والملائكة لم يستغفروا لأنفسهم ولكن طلبوا المغفرة للمؤمنين ) فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ) [ غافر : 7 ] ورد بأن هذا لا يدل إلا على صدور الزلة من البشر وعدم صدورها عنهم ، وهذا لا يوجب أفضليتهم في القرب والثواب علىالإطلاق ومن الناس من قال : استغفارهم للبشر كالعذر عما طعنوا فيهم بقولهم ) أتجعل فيها ) [ البقرة : 30 ] .
الثالثة عشرة : ( وإن عليكم لحافظين ) [ الانفطار : 10 ] ويدخل فيه الأنبياء وغيرهم ، والحافظ للمكلف عن المعصية أفضل من المحفوظ .
وأيضاً جعل كتابتهم حجة للبشر وعليهم فيكونون أفضل .
ورد بأن الحافظ والشاهد قد يكون أدود حالاً من المحفوظ والمشهود .
الرابعة عشرة : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفاً ) [ النبأ : 38 ] والمقصود بيان عظمة(1/245)
" صفحة رقم 246 "
الله وجلاله .
ورد بأن هذا يفيد قوتهم وبطشهم فقط كما يقال : إن السلطان لما جلس وقف حول سريره ملوك الأطراف .
وهذا لا يدل على أنهم أكرم عند السلطان من ولده .
الخامسة عشرة : ( والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ) [ البقرة : 285 ] والتقديم في الذكر يدل على التقديم في الدرجة ولهذا لما قال الشاعر :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
قال عمر بن الخطاب : لو قدمت الإسلام لأجزتك .
ولما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمشركين ، وقع التنازع في تقديم الاسم ، وكذا في كتاب الصلح بين علي ومعاوية .
ومنع من أن الواو لا تفيد الترتيب ، وعورض بتقديم ) تبت ( على ( الإخلاص ) .
السادسة عشرة : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) [ الأحزاب : 56 ] جعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعورض بقوله ) يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه ) [ الأحزاب : 56 ] ولا تشريف بل تتشرف الأمة بذلك .
السابعة عشرة : إن جبرائيل أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن الله تعالى وصفه بست من صفات الكمال ) إنه لقول رسول كريم .
ذي قوة عند ذي العرش مكين .
مطاع ثم أمين ) [ التكوير : 19 - 21 ] ثم وصف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ) وما صاحبكم بمجنون ) [ التكوير : 22 ] وشتان بين الوصفين .
ورد بأنه وإن وصفه ههنا بهذا القدر لاقتضاء المقام ذلك فقط ، فقد وصفه في مواضع أخر بما يليق به ) يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ) [ الأحزاب : 45 ، 46 ] .
الثامنة عشرة : إن جبريل كان معلماً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولغيره من الأنبياء ، لا في العلوم التي لا يتوصل إليها إلا بالعقل .
كالعلم بذات الله تعالى ، بل في العلم بكيفية مخلوقاته وما فيها من العجائب ، والعلم بأحوال العرش والكرسي والجنة والنار وأطباق السموات وأصناف الموجودات وأحوال الأمم الخالية والقرون الماضية ، والمعلم أفضل ) قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) [ الزمر : 9 ] ومنع من كون الملائكة أعلم بدليل قصة آدم ، ولأن تعليم جبريل كان بالحقيقة تعليم الله تعالى ولم يكن جبريل إلا واسطة ، ولئن سلم مزيد علمهم منع كثرة ثوابهم .
التاسعة عشرة : ( ومن يقل منهم إني له من دونه فذلك نجزيه جهنم ) [ الأنبياء : 29 ](1/246)
" صفحة رقم 247 "
وهذه تدل على أنهم بلغوا في الترفع إلى حد لو خالفوا أمر الله لما خالفوه إلا في ادعاء الإلهية .
ورد بأن مزيد قدرتهم لا يوجب مزيد ثوابهم .
العشرون : قال ( صلى الله عليه وسلم ) حكاية عن الرب تعالى ( إذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملائه ) وهذا يدل على أن الملأ الأعلى أشرف .
ورد بعد قبول خبر الواحد أنه لا يلزم منه إلا أن الملأ الأعلى خير من ملأ عوام البشر ، ولا يلزم من ذلك كونهم أفضل من الأنبياء .
واعلم أن الفلاسفة اتفقوا على أن الأرواح السماوية المسماة بالملائكة عندهم أفضل من الأرواح الناطقة البشرية لوجوه : الأول : الملائكة ذواتها بسيطة مبرأة عن الكثرة ، والبشر مركب من النفس والبدن ، ولكل منهما قوى وأجزاء ، والبسيط خير من المركب ، لأن أسباب العدم للمركب أكثر منها للبسيط .
وعورض بأن المستجمع للروحاني والجسماني ينبغي أن يكون أفضل مما له طرف الروحاني فقط ، ولهذا جعل أبو البشر مسجوداً للملائكة ، وبأن الملائكة ليس لها إلا الاستغراق في مقاماتها النورية .
والنفوس البشرية قواها وافية بكلا الطرفين ، ومحيطة بضبط أحوال العالمين فتكون أفضل .
الثاني : الجواهر الروحانية بريئة عن الشهوة والغضب المستلزمين للفساد وسفك الدماء بخلاف البشر .
ورد بأن الخدمة مع كثرة العلائق أدل على الإخلاص .
وأيضاً من البين أن درجتهم حين قالوا ) لا علم لنا إلا ما علمتنا ( أعلى منها حين قالوا ) أتجعل فيها من يفسد فيها ) [ البقرة : 30 ] وما ذاك إلا بسبب الانكسار الحاصل من الزلة ، وهذا في البشر أكثر ، ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) حاكياً عن ربه ( أنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين ) .
الثالث : أنها بريئة من طبيعة القوة فإن كل ما كان ممكناً لها بحسب أنواعها المنحصرة في أشخاصها فقد خرج إلى الفعل والأنبياء ليسوا كذلك ، ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة ) ولا خفاء أن ما بالفعل التام أشرف مما بالقوة .
ورد بأن بعض(1/247)
" صفحة رقم 248 "
الأمور فيها لعلها بالقوة ، ولهذا قيل : إن تحريكاتها للأفلاك لأجل استخراج التعلقات من القوة إلى الفعل كالتحريكات العارضة لأرواحنا الحاملة لقوى الفكر والتخيل ، إلا أن هذا المنع لا يجري في الملائكة المقربين المسماة عندهم بالعقول المجردة ، وإنما يجري في النفوس الفلكية .
الرابع : الروحانيات أبدية الوجود مبرأة عن التغير والفناء ، والنفوس الناطقة البشرية ليست كذلك .
ورد بأنه لا قديم في الوجود إلا الله .
ولئن سلم أنها ممكنة الوجود لذاتها فهي واجبة الوجود بمباديها .
وعورض بما عليه كثير من المحققين أن النفوس البشرية أيضاً أزلية بمباديها وكانت كالظلال تحت العرش يسبحون بحمد ربهم ، إلا أن المبدئ الأول أمرها بالنزول إلى عالم الأجساد وشبكات المواد ، فلما تعلقت بهذه الأجسام عشقتها واستحكم إلفها بها ، فبعث من تلك الظلال أشرفها وأكملها لتخليص تلك الأرواح عن تلك الشبكات ، وهذا هو المراد من باب الحمامة المطوقة المذكورة في كتاب كليلة ودمنة .
الخامس : الروحانيات نورانية علوية لطيفة ، والجسمانيات ظلمانية سفلية كثيفة .
فأين أحدهما من الآخر ؟ ورد بأن الشرف عندنا ليس بالمادة وإنما هو بالانقياد لرب العالمين .
السادس : الأرواح السماوية تفضل الأرضية بقوى العلم والعمل ، أما الأول فبالاتفاق على إحاطة الأرواح السماوية بالمغيبات ، ولأن علومهم فعلية فطرية كلية دائمة تامة ، وعلوم البشر بالضد من ذلك .
وأما العمل فلقوله ) يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) [ الأنبياء : 20 ] واعترض بأن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلى بالجوع .
فلا تكون لذة الملائكة منا لعلم والعمل كلذة البشر لعروض الفترات لهم في أكثر الأوقات بسبب العلائق الجسمانية والحجب الظلمانية ، فهذه المزية من اللذة مما يختص به البشر ، ولعل هذا هو المراد من قوله ) إنا عرضنا الأمانة ) [ الأحزاب : 72 ] الآية .
ولذلك قالت الأطباء : إن الحرارة في حمى الدق أشد منها في حمى الغب .
لكن الحرارة في الدق لما دامت واستقرت بطل الشعور بها ، فهذه الحالة ليست للملائكة لأجل الاستمرار ولا لغير الانسان لعدم الاستعداد فكان الإنسان لها بالمرصاد .
السابع : الروحانيات لها قوة على تقليب الأجسام وتصريف الأجرام ، وقواهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب .
وإنك ترى الخامة اللطيفة تشق الصخرة الصماء ، وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من الجواهر العلوية ، فما ظنك بتلك الجواهر أنفسها والأرواح السفلية ليست كذلك ؟ وما يحكى من قوة الشياطين على الأمور(1/248)
" صفحة رقم 249 "
الصعاب ممنوع ، ولئن سلم فالأرواح العلوية أقدر على ذلك مع أنهم يصرفون قواها إلى منازل العالم السفلي لا فيما هو شر لهم .
واعترض بأنه لا مانع من أن تتفق نفس ناطقة بشرية كاملة مستعلية على الأجرام العنصرية بالتقليب والتصريف .
الثامن : الملائكة لهم اختيارات فائضة من أنوار جلال الله متوجهة إلى الخيرات ، واختيارات البشر مترددة بين جهتي العلو والسفل والخير والشر ، وإنما يتوجه إلى الخير بإعانة الملك على ما ورد في الأخبار من أن لكل إنسان ملكاً يسدده ويهديه ، ويحتمل أن يقال فتكون إذن أعمالهم أشق فيكون ثوابهم أكثر .
التاسع : الأفلاك كالأبدان ، والكواكب كالقلوب ، والملائكة كالأرواح .
فنسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأبدان إلى الأبدان .
وكما أن اختلافات أحوال الأفلاك مباد لحصول الاختلافات في هذا العالم ، فكل أرواح العالم العلوي يجب أن تكونمستولية على أرواح العالم السفلي ، بل تكون عللاً ومبادي لها ، فهذه هي الآبار وهناك المنابع والمعادن ، فكيف يليق بالعقل ادعاء المساواة فضلاً عن الزيادة .
وأجيب بأنه لا مؤثر عندنا إلا الله تعالى .
العاشر : الروحانيات الفلكية مبادئ لروحانيات هذا العالم ومعادلها ، منها نزلت فتوسخت بأوضار الجسمانيات ، ثم تطهرت بالأخلاق الزكية وصعدت إلى عالمها ، ومصدر الشيء ومصعده أشرف ، منه المبدأ وإليه المنتهى .
واعترض بأن هذا مبني على عدم حشر الأجساد ودون ذاك خرط القتاد .
الحادي عشر : أليس أن الأنبياء لا ينطقون إلا عن الوحي ؟ أليس أن الملائكة يعينونهم في المضايق ويهدونهم إلى المصالح كما في قصة لوط وكيوم بدر وحنين ، وكما في قصة نوح في نجر السفينة ؟ فمن أين لكم تفضيل الأنبياء مع افتقارهم إلى الملائكة في كل الأمور ؟ وأجيب بأن أول الفكر آخر العمل ولا يلزم من كون الشيء واسطة أفضليته .
الثاني عشر : القسمة العقلية بأن الأحياء إما خيرة محضة وهم الملائكة ، أو شريرة محضة وهم الشياطين ، أو خيرة من وجه شريرة من وجه آخر وهم البشر ، تحكم بأفضلية الملك .
وكذا التقسيم بالناطق المائت وهو الإنشان ، والناطق غير المائت وهو الملك ، والمائت غير الناطق وهي البهائم ، يرشد إلى أن الإنسان متوسط الرتبة بين الكمال والنقصان .
فالقول : بأنه أفضل قلب للقسمة العقلية ونزاع في ترتيب الوجود .
وأجيب بما مر غير مرة من أن النزاع في كثرة الثواب .(1/249)
" صفحة رقم 250 "
حجة القائلين بفضل الأنبياء على الملائكة ؛ الأول : أن الله تعالى أمر اللائكة بالسجود لآدم وثبت أن آدم لم يكن كالقبلة ، وأمر الأشرف بنهاية التواضع للأدون مستقبح ، والجواب أن القبح العقلي غير ثابت .
الثاني : جعله خليفة له خلافة الولاية كما مر ، وخلق الدنيا متعة لبقائه ، والآخرة مملكة لجزائه ، ولعن إبليس لسبب التكبر عليه ، وجعل الملائكة حفظة أولاده ومنزلين لأرزاقهم ومستغفرين لزلاتهم ، ومع جميع هذه المناصب يقول ( ولدينا مزيد ) فإذن لا نهاية لهذا الشرف والكمال .
الثالث : أنه كان أعلم لقوله ) أنبئهم بأسمائهم ( والأعلم أفضل .
الرابع : ( أن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) [ آل عمران : 33 ] والعالم كل ما سوى الله تعالى ، فيلزم اصطفاؤهم على الملائكة .
ولا يشكل هذا بقوله ) يا بني إسرائيل ( إلى قوله ) فضلتكم على العالمين ) [ البقرة : 47 ] لأن تلك الآية دخلها التخصيص لما يعلم أنهم غير مفضلين على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وههنا لا دليل فوجب إجراؤه على الظاهر من العموم .
الخامس : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107 ] والملائكة من العالمين والتقرير ظاهر .
السادس : عبادة البشر أشق لأن الآدمي له شهوة تدعوه إلى المعصية بخلاف الملائكة ، ولأن الآدمي مأمور بالاستنباط والقياس ) فاعتبروا يا أولي الأبصار ) [ الحشر : 2 ] ولا يخفى ما فيه من المشقة ، والملائكة لا يعلمون إلا بالنص ) لا علم لنا إلا ما علمتنا ( ولما يعرض للآدمي من الشبهات ككون الأفلاك والأنجم أسباباً للحوادث اليومية فيحتاجون إلى دفعها ، والملائكة حيث إنهم يشاهدون عالم الملكوت آمنون من ذلك ، ولأن الشيطان مسلط على الآدمي دون الملك ، وإذا كانت طاعتهم أشق فيكون ثوابهم أكثر .
السابع : خلق للملائكة عقولاً بلا شهوة ، وللبهائم شهوة بلا عقل ، وجمع الأمرين للآدمي .
ثم إذا غلب هواه عقله صار أدون من البهيمة أولئك ) كالأنعام بلهم أضل ) [ الفرقان : 44 ] .
فإذا غلب عقله هواه وجب أن يصير أشرف من الملك اعتباراً لأحد الطرفين بالآخر .
الثامن : الملائكة حفظة بني آدم والمحفوظ أعز من الحافظ .
التاسع : روي أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أركبه على البراق(1/250)
" صفحة رقم 251 "
ليلة المعراج ، ولما وصل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بعض المقامات تخلف عنه جبريل وقال : لو دنوت أنملة لاحترقت .
العاشر : قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن لي وزيرين في السماء ووزيرين في الأرض .
أما اللذان في السماء فجبريل وميكائيل ، وأما اللذان في الأرض فابو بكر وعمر ) فدل على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كالملك وجبريل وميكائيل وزيران ، فهذا تمام الكلام في حجج الفريقين ، وعليك الاختيار بعقلك دون هواك .
ثم إنه تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين وكان من الجائز أن يظن أن به عذراً بيَّن أنه غير ذي عذر بقوله ) أبى ( لأن الإباء هو الامتناع مع الاختيار ولهذا فقد العاطف نحو قولك ( أبشر بما يسرك عيني تختلج ) لا تقول ( فعيني ) لأنها بيان ، ثم إنه جاز أن لا يكون الإباء مع الكبر فعطف عليه ) واستكبر ( ليعرف أن الإباء منضم إلى الاستكبار ، وكان من الجائز أن يظن أن كبره لم يوجب الكفر فأزيل الظن بقوله ) وكان من الكافرين ( .
وللعقلاء ههنا قولان : أحدهما أن إبليس حين اشتغاله بالعابدة كان منافقاً كافراً ، أما عند من يمنع الإحباط فلأن ختمه لما كان على الكفر علم أنه ما كان مؤمناً قط .
وأما عند غيرهم فلما حكاه الشهرستاني في أول الملل والنحل عن شارح الأناجيل الأربعة على شبه منظرة بين إبليس والملائكة بعد الأمر بالسجود قال إبليس لعنه الله : إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق عالم قادر حكيم ، إلا أن لي على مساق حكمه أسئلة ؛ الأول : إنه قد علم قبل خلقي أيّ شيء يصدر عني فلم خلقني ؟ وما الحكمة في خلقه إياي ؟ الثاني : إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته ، فلم كلفني بمعرفته وطاعته ؟ وما الحكمة في التكليف مع أنه لا ينتفع بطاعة ولا يتضرر بمعصية ، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف ؟ الثالث : إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فأطعت وعرفت ، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له ؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك في معرفتي وطاعتي ؟ والرابع : إذ خلقني وكلفني بهذا التكليف على الخصوص فإذا لم أسجد ، فلم لعنني وأخرجني من الجنة وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له في ذلك ولي فيه أعظم الضرر ؟ والخامس : ثم لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة ومن وسوسة آدم بعد أن لو منعني من دخول الجنة استراح مني آدم وبقي خالداً في الجنة ؟ والسادس : إذ خلقني وكلفني عموماً وخصوصاً ولعنني ثم طرقني إلى الجنة ، وكانت الخصومة بيني وبين آدم ، فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا(1/251)
" صفحة رقم 252 "
يرونني ويؤثر فيهم وسوستي ولا يؤثر فيّ حولهم وقوتهم ؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم علىالفطرة وأبقاهم على ذلك فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين كان أحرى بالحكمة ؟ والسابع : سلمت هذا كله ، فلم إن استمهلته أمهلني ، وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح الخلق مني وما بقي شر في العالم ؟ ليس بقاء العالم على نظام الخير خيراً من المتزاجه بالشر ؟ فقال شارح الإنجيل : فأوحى الله تعالى إلى الملائكة قولوا له : أما تسليمك الأول أني الهك وإله الخلق فغير صادق ولا مخلص ، إذ لو صدقت أني إله العالمين ما احتكمت علي وأنا الله الذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل والخلق مسؤولون هذا مذكور في التوراة ومسطور في الإنجيل ، وهذه الشبهات بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذور وليس يعدوها عقائد فرق الزيغ والكفر وإن اختلفت العبارات وتباينت الطرق ، ويرجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالخلق ، وإلى الجنوح إلى الهوى في مقابلة النص ، ولا جواب عنها بالتحقيق إلا الذي ذكره الله تعالى .
فاللعين لما أن حكم العقل على من لا يحتكم عليه العقل ، لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق ، أو حكم الخالق في الخالق .
فالأول غلو كالحلولية وكالغلاة من الشيعة ، والثاني تقصير كالمشبهة وصفوا الخالق بصفات الأجسام ، وكالخوارج نفوا تحكيم الرجال وقالوا : لا حكم إلا لله كقوله ) أأسجد لبشر خلقته من صلصال ) [ الحجر : 33 ] لا أسجد إلا لك .
فالشبهات كلها ناشئة من اللعين ، وتلك في الأول مصدرها ، وهذه في الأخير مظهرها ، ولهذا قال تعالى ) ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوّ مبين ) [ البقرة : 208 ] وشبه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كل فرقة ضالة من هذه الأمة بأمة ضالة من الأمم السالفة فقال ( القدرية مجوس هذه الأمة والمشبهة يهود هذه الأمة ، والرافضة - يعني الغلاة - نصارها ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لتسلكن سبيل الأمم قبلكم حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) القول الثاني أن إبليس كان مؤمناً ثم كفر بعد ذلك ثم كفر بعد ذلك ثم اختلفوا .
فمن قائل معناه ( وكان من الكافرين في علم الله ) أي كان الله عالماً في الأزل بأنه سيكفر .
فصيغة ( كان ) متعلقة بالعلم لا بالمعلوم .
ومن قائل إن ( كان ) بمعنى ( صار ) .
وقيل : لما كفر في وقت معين بعد أن كان مؤمناً فبعد لحظة يصدق عليه أنه كان من الكافرين .
وإنما حكم بكفره على هذا القول الثاني لاستكباره واعتقاده كونه محقاً في ذلك التمرد بدليل قوله ) أنا خير منه ) [ ص : 76 ] وإلا فمجرد المعصية لا يوجب الكفر عندنا(1/252)
" صفحة رقم 253 "
وإن كانت كبيرة ، وكذا عند المعتزلة لأنه وإن خرج عن الإيمان لم يدخل في الكفر .
نعم عند الخوارج الكبيرة موجبة للكفر على الإطلاق .
ثم إن قوله ) من الكافرين ( هل يدل على وجود جمع من الكفرة قبله حتى يكون هو واحداً منهم ؟ قال قوم : إنه يدل على ذلك لأن كلمة ( من ) للتبعيض .
وإنما يذكر البعض الموجود بالإضافة غلى كل موجود لا إلى كل من سيوجد .
ومما يؤكد ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه قال : إنه تعالى خلق خلقاً من الملائكة ثم قال لهم ) إني خالق بشراً من طين ) [ ص : 71 ] قالوا : لا تفعل ذلك .
فبعث الله ناراً فأحرقتهم .
وكان إبليس من أولئك .
وقال آخرون : معنى الآية إنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك ، لأن الكفر كان ظاهراً عند نزول الآية ، أو لأن الإفراد الذهنية تكفي في صحة الجمع .
فإن الحيوان المخلوق أوّلاً يصح أن يقال إنه فرد من أفراد هذا الحيوان أي من أفراد هذه الماهية ، وعلى هذا يكون إبليس أول من سن الكفر وهو قول الأكثرين .
واعلم أن الملائكة المأمورين بالسجود هم كل الملائكة عند أكثر الأئمة ، لأن الجمع المعرف للعموم ويؤكده قوله ) فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) [ ص : 73 ] .
وأيضاً استثناء الشخص الواحد يدل على أن ما عداه داخل في ذلك الحكم .
ومن الناس أنكر ذلك وقال : هم ملائكة الأرض استعظموا أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك ، وأما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الروحانية ، واستحالوا انقياد الأرواح السماوية للنفوس الناطقة .
وقالوا : المأمورون بالسجود القوى الجسمانية البشرية المطيعة للنفس الناطقة .
قوله تعالى ) وقلنا يا آدم اسكن ( الآية الأصح أن هذا الأمر يشتمل على ما هو إباحة لأنه كان مأذوناً في الانتفاع بجميع الجنة ، وعلى ما هو تكليف وتعبد ، فإن المنهي عنه كان حاضراً .
روي عن قتادة أنه قال : إن الله ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابتلى الملائكة بالسجود ، وذلك لأنه كلفه أن يكون في الجنة يأكل منها حيث يشاء ، ونهاه عن شجرة واحدة أن يأكل منها ، فما زال به البلاء حتى وقع فيما نهي عنه .
فإسكانه موضعاً يحصل فيه ما يكون مشتهى له مع منعه عن تناوله من أشد التكاليف .
وإنما لم يقل وهبت منك الجنة لأنه خلق لخلافة الأرض وكان إسكان الجنة كالتقدمة لذلك .
فلو قال رجل لغيره أسكنتك داري .
لا تصير الدار ملكاً له .
وأجمعوا على أن المراد بالزوجة حواء وإن لم يتقدم ذكرها في هذه السورة .
ففي سائر القرآن ما يدل على ذلك وإنها مخلوقة منه ) خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ) [ النساء : 1 ] وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة ، فإن استمتعت بها استمتعت وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها(1/253)
" صفحة رقم 254 "
طلاقها ) وذكر السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة حل فيها وحده وما كان معه من يستأنس به ، فألقى الله تعالى عليه النوم ، ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر ووضع مكانه لحماً وخلق حواء منه ، فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة قاعدة .
فسألها من أنت ؟ قالت امرأة .
قال : ولم خلقت ؟ قالت : لتسكن إليّ .
فقالت له الملائكة امتحاناً لعلمه : ما اسمها ؟ فقال : حواء .
قالوا : ولم ؟ قال : لأنها خلقت من شيء حي .
قيل : فلما أراد آدم مد يده إليها منعته الملائكة وقالوا : أمهرها .
قال : فما صداقها ؟ قالوا : أن تصلي على محمد وآله .
قال : ومن محمد ؟ قالوا : من أولادك خاتم النبيين ولولاه لما خلقت .
وعن ابن عباس قال : بعث الله جنداً من الملائكة فحملوا آدم وحواء عليهما السلام على سرير من ذهب كما يحمل الملوك ولباسهما النور ، على كل واحد منهما إكليل من ذهب مكلل بالياقوت واللؤلؤ ، وعلى آدم منطقة مكللة بالدرّ والياقوت حتى أدخل الجنة .
فهذا الخبر يدل على أ ن حواء خلقت قبل إدخاله الجنة ، والخبر الأول دل على أنها خلقت في الجنة والله أعلم بحقيقة الحال .
ثم هذه الجنة كانت في الأرض أو في السماء ؟ وعلى تقدير كونها في السماء هي دار الثواب أم جنة أخرى ؟ فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني : هي في الأرض وحملا الهبوط على الانتقال من بقعة غلى بقعة كما في قوله تعالى ) اهبطوا مصراً ) [ البقرة : 61 ] قالا : لأن دار الثواب للخلد ولو كان في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله ) هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ) [ طه : 12 ] ولأن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى ) وما هم منها بمخرجين ) [ الحجر : 48 ] ولأن إبليس بعد أن غضب الله عليه كيف يقدر أن يصل إلى جنة الخلد ، ولأن دار الجزاء يدخل المكلف فيها بعد العمل ولا عمل لآدم وقتئذ ، ولأنه تعالى خلقه في الأرض ولم يذكر نقله غلى السماء ولو كان قد نقله لكان ذكره أولى ، لأن ذلك النقل من أعظم النعم .
وقال الجبائي : هي في السماء السابعة ، اهبط منها إلى السماء الدنيا ، ثم منها إلى الأرض .
وقال الجمهور : هي دار الثواب والدليل عليه أن اللام في الجنة ليست للعموم ، لأن السكنى في جميع الجنان محال فهي للعهد ، ولا معهود بين المسلمين إلا دار الثواب ، فوجب صرف اللفظ إليها .
واسكن أمر من السكنى ، والسكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار .
و ( أنت ) تأكيد للمستكنّ في ( اسكن ) ليصح العطف عليه .
و ) رغداً ( وصف للمصدر أي أكلا رغداً واسعاً رافهاً و ) حيث ((1/254)
" صفحة رقم 255 "
للمكان المبهم أي أيُّ مكان من الجنة شئتما ، أو أيّ زمان شئتما ، فإن ( حيث ) قد يعبر به عن زمان مجهول .
وإنما قيل ههنا ) وكلا ( بالواو وفي الأعراف ) فكلا ( لأن كلّ فعل عطف عليه شيء وكان بينهما رابطة السببية يعطف الثاني على الأول بالفاء وإلا فبالواو كقوله تعالى في البقرة ) وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا ) [ البقرة : 58 ] بالفاء ، لأن الدخول سبب الوصول إلى الأكل ، وكأنه قال : وإن دخلتموها أكلتم .
وفي الأعراف ) وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا ) [ الأعراف : 161 ] بالواو لأن السكنى وهي طول اللبث لا يختص وجوده بوجود الأكل ، لأن المجتاز قد يأكل أيضاً ، فلهذا لم يعطف ههنا بافاء إذ المراد اسكن من السكنى ، وأما في الأعراف فالمراد اسكن بمعنى الدخول ثم السكون فصح العطف بالفاء .
والنهي في ) لا تقربا ( للتنزيه أو للتحريم ، الأصح الأول لأن الصيغة وردت في كليهما والأصل عدم الاشتراك فيجعل حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو ترجيح لجانب الترك على الفعل من غير دلالة على المنع من الفعل ، أو الجواز .
لكن الجواز ثابت بحكم الأصل ، فإن الأصل في الأشياء الإباحة ، فإذا ضممنا هذا الأصل إلى مدلول اللفظ صار المجموع دليلاً ع لى التنزيه وهذا أولى ، ليرجع حاصل معصيته إلى ترك الأولى فيكون أقرب إلى عصمة الأنبياء .
وقيل : نهي تحريم قياساً على قوله ) ولا تقربوهن حتى يطهرن ) [ القدرة : 222 ] وقوله ( ولا تقربوا مال اليتيم ) [ الأنعام : 152 ] ولقوله ) فتكونا من الظالمين ( ولأنه استحق الإخراج من الجنة والرجوع إلى التوبة .
والجواب أن التحريم في ) ولا تقربوهن ) [ البقرة : 2 ] بدليل منفصل ، والظلم قد يراد به ترك الأولى ، والإخراج لم يكن بهذا السبب بل لما سيأتي إن شاء الله تعالى .
ثم النهي عن القرب يفيد النهي عن الإكل بطريق الكناية ، فإن القرب إليها من أسباب الأكل منها ، ومما يدل على النهي عن الأكل صريحاً قوله ) فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما ) [ الأعراف : 22 ] .
وروي عن ابن عباس أن الشجرة هي البر والسنبلة ، وفي رواية عنه وعن ابن مسعود أنها الكرم ، وعن مجاهد وقتادة أنها التين ، وعن الربيع بن أنس كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث .
قال المبرد : وأحسب أن كل ما له أغصان وعيدان فالعرب تسميه شجراً ، وقد لا يختص بما له ساق قال تعالى ) وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ) [ الصافات : 146 ] وأصل هذا أنه اسم لكل ما شجر أي أخذ يمنة ويسرة والتشاجر الاختلاف .
واعلم أنه ليس في الظاهر ما يدل على التعيين ، ولا حاجة أيضاً إلى بيانه .
فليس المقصود تعريف الشجرة ، وما لم يكن مقصوداً فذكره لا يجب على الحكيم بل يكون عبثاً ، كما لو أراد أحدنا أن يقيم عذره في التخلف فقال : اشتغلت بضرب غلماني لإساءتهم الأدب .
كان هذا القدر أحسن من أن يذكر عين الغلام واسمه وصفاته ، فلا يظنن أحد أن ههنا تقصيراً في البيان .(1/255)
" صفحة رقم 256 "
) فتكونا ( جزم عطفاً على ) تقربا ( ونصب جواباً للنهي .
) من الظالمين ( من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله .
قوله ) فأزلهما الشيطان ( الآية .
تحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنهما ولفظة ) عن ( في هذه الآية ك ) هي ( في قوله ) وما فعلته عن أمري ) [ الكهف : 482 ] فالضمير للشجرة .
وقيل : أذهبهما وأبعدهما كما تقول : زل عن مرتبته وزلت قدمه .
فالضمير للجنة ، ومن قرأ ) أزالهما ( فهو من الزوال عن المكارم مما كانا فيه أي من النعيم والكرامة ، أو من المكان الذي هو الجنة إن كان الضمير في ) عنها ( الشجرة .
واعلم أن الناس اختلفوا في عصمة الأنبياء عليهم السلام ، والنزاع إما في باب الإعتقاد ، أو في باب التبليغ ، أو في باب الأحكام والفتيا ، أو في ألعالهم وسيرتهم .
أما اعتقادهم الكفر والضلال فغير جائز عند أكثر الأئمة .
وقالت الفضيلية : إنه قد وقع منهم ذنوب والذنب عندهم كفر وشرك ، فلا جرم قالوا بوقوع الكفر منهم .
وأجازت الإمامية عليهم إظهار الكفر على سبيل التقية ، وأما ما يتعلق بالتبليغ فاجتمعت الأمة على عصمتهم عن الكذب والتحريف في ذلك لا عمداً ولا سهواً وإلا ارتفع الوثوق .
ومنهم من جوز ذلك سهواً لأن الاحتراز غير ممكن ، وأما المتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز الخطأ فيه عمداً ، وأما السهو فجوزه بعضهم وأباه آخرون .
وأما المتعلق بأفعالهم فالحشوية جوّزوا الكبائر عنهم عمداً ، وأكثر المعتزلة جوّزوا الصغائر عنهم عمداً إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف ، والجبائي لا يجوّز صغيرة ولا كبيرة على جهة العمد بل على التأويل .
وقيل : لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ ، ولكنهم يؤاخذون به وإن كان ذلك موضوعاً عن أمتهم ، لأن معرفتهم أقوى وهم على التحفظ أقدر .
والشيعة لم يجوّزوا صغيرة ولا كبيرة منهم لا عمداً ولا سهواً ولا على سبيل التأويل والخطأ .
وفي وقت عصمتهم ثلاثة أقوال : فمذهب الشيعة أنهم معصومون من وقت مولدهم ، والمعتزلة من وقت بلوغهم ولم يجوزوا الكفر والكبيرة منهم قبل النبوة ، وبعضهم وأكثر أصحابنا على تجويز ذلك قبل النبوة ، والمختار أنهم لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة لا الكبيرة ولا الصغيرة لوجوه : الأول : لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة مصداقه قوله عز وجل من قائل ) يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ) [ الأحزاب : 30 ]
وصغائر الرجل الكبير كبائر(1/256)
" صفحة رقم 257 "
ولا يجوز أن يكون النبي أقل حالاً من الأمة بالإجماع .
والثاني : وبتقدير إقدامه على الفسق لا يكون مقبول الشهادة لقوله ) إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) [ الحجرات : 6 ] لكنه شاهد عدل من الله بأنه شرع الدين وكذا يوم القيامة ) ويكون الرسول عليكم شهيداً ) [ البقرة : 143 ] .
الثالث : وبتقدير إقدامه على الكبيرة .
يجب زجره وإيذاؤه ، لكنه محرّم ) إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ( .
[ الأحزاب : 57 ] .
الرابع : أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لو أتى بمعصية لوجب علينا الاقتداء به لقوله ) فاتبعوه ) [ الأنعام : 153 ] والجمع بين الوجوب والحرمة محال .
الخامس : نعلم بالبديهة أنه قبيح لا شيء أقبح من نبي رفع الله درجته وجعله خليفة في عباده وبلاده ، ثم إنه يقدم على ما نهاه عنه ترجيحا لهواه حتى يستحق اللعن والعذاب .
السادس : ( أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم ) [ البقرة : 44 ] يكون حينئذ منزلاً في شأنه ، ) وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) [ هود : 88 ] .
السابع : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ) [ الأنبياء : 90 ] واللفظ للعموم فيشمل فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي .
[ ص : 47 ] ( الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ) [ الحج : 75 ] والوصف بالاصطفاء ينافي الذنب .
التاسع : أنه تعالى حكى عن إبليس ) لأ غوينهم أجمعين .
إلا عبادك منهم المخلصين ) [ ص : 82 ، 83 ] والأنبياء من المخلصين لقوله تعالى في حق يوسف ) إنه من عبادنا المخلصين ) [ يوسف : 24 ] وفي حق موسى ) إنه كان مخلصاً ) [ مريم : 51 ] فكذا غيرهما .
العاشر : ( ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ) [ سبأ : 20 ] ولا يخفى وجوب كون الأنبياء منهم وإلا كان غير النبي أفضل من النبي .
الحادي عشر : الخلق قسمان : حزب الله ) ألا إن حزب الله هم المفلحون ) [ المجادلة : 22 ] وحزب الشيطان ) ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ) [ المجادلة : 19 ] والعصاة حزب الشيطان ، فلا يجوز أن يكون النبي عاصياً .
الثاني عشر : النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من الملك كما مر والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ، فالنبي أولى .(1/257)
" صفحة رقم 258 "
الثالث عشر : ( إني جاعلك للناس إماماً ) [ البقرة : 124 ] والإمام من يؤتم به والمذنب لا يجوز الاقتداء به في ذنبه .
الرابع عشر : ( لا ينال عهدي الظالمين ) [ البقرة : 124 ] فإن كان عهد النبوة ثبت المطلوب ، وإن كان عهد الإمامة فالنبي أولى به ، روي أن خزيمة بن ثابت شهد لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على وفق دعواه فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( كيف شهدت لي ) فقال : يا رسول الله إني اصدقك على الوحي النازل عليك من فوق سبع سموات ، أفلا أصدقك في هذا القدر ؟ فصدقه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه وسماه بذي الشهادتين ، ولو كانت المعصية جائزة على الأنبياء لما جازت تلك الشهادة .
المخالف تمسك في باب الإعتقاد بقوله ) هو الذي خلقكم من نفس واحدة ( إلى قوله ) جعلا له شركاء ) [ الأعراف : 190 ] وهذا يقتضي صدور الشرك عنهما .
والجواب ما سيجيء في الأعراف إن شاء الله تعالى ، من أن الخطاب لقريش والمعنى : خلقكم من نفس قضى وجعل من جنسها زوجة عربية ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي .
قالوا : إن إبراهيم لم يكن عالماً بالله ولا باليوم الآخر لقوله ) هذا ربي ) [ الأنعام : 77 ] ( ولكن ليطمئن قلبي ) [ البقرة : 260 ] والجواب : هذا ربي ا ستفهام منه بطريق الإنكار وقوله ( ليطمئن قلبي ( أراد به أن يؤكد علم اليقين بعين اليقين فليس الخبر كالمعاينة .
قالوا : ( فإن كنت في شك ) [ يونس : 94 ] ( فلا تكونن من الممترين ) [ البقرة : 147 ] يدل على أنه كان شاكاً في الوحي قلنا : الخطاب له والمراد الأمة مثل ) يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ) [ الطلاق : 1 ] .
قالوا في باب التبليغ ) سنقرئك فلا تنسى .
إلاّ ما شاء الله ) [ الأعلى : 6 ، 7 ] هذا الاستثناء يدل على النسيان .
والجواب عنه أن هذا النسيان نوع من النسخ كما يجيء في تفسير قوله تعالى ) ما ننسخ من آية أو ننسها ) [ البقرة : 106 ] .
قالوا ) وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) [ الحج : 52 ] والجواب سوف يجيء في سورة الحج إن شاء الله تعالى : قالوا : ( عالم الغيب فلا يظهر ( إلى قوله ) ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ) [ الجن : 26 - 28 ] ولولا الخوف من وقوع التخبيط في الوحي لم يستظهر بالرصد ، قلنا هذا عليكم لا لكم لدلالته على كونهم محفوظين عن التخبط .
قالوا في باب الفتيا ) وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ) [ الأنبياء : 78 ] ( وما كان لنبي أن يكون له أسرى ) [ الأنفال : 67 ] ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) [ التوبة : 43 ] قلنا : الجميع محمول على ترك الأولى ، وسوف يجيء قصة كل في موضعها على أنا نقول شعراً :(1/258)
" صفحة رقم 259 "
يا سائلي عن رسول الله كيف سها
والسهو من كل قلب غافل لا هي
قد غاب عن كل شيء سره فسها
عما سوى الله فالتعظيم لله .
فشغل الأدبي عن الأرفع هو المذموم ، وأما الشغل بالأرفع عن الأدنى فمحمود .
قالوا في الأفعال ) وعصى آدم ربه فغوى ) [ طه : 121 ] والعصيان يوجب الوعيد ) ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم ) [ الجن : 23 ] والغي ضد الرشد ) قد تبين الرشد من الغي ) [ البقرة : 256 ] ، ثم إنه تاب والتوبة دليل الذنب ، وإنه ظالم لقوله ) فتكونا من الظالمين ( والظالم ملعون ) ألا لعنة الله على الظالمين ) [ هود : 18 ] وأنه أخرج من الجنة ، وكل هذه دليل ارتكاب الكبيرة .
والجواب ، المنع من أن هذه الأمور كانت بعد النبوة .
ثم لنفرض أنه صدر ذلك الفعل عن آدم بعد النبوة ، فإقدامه عليه إما أن يكون في حال كونه ناسياً ، أو في حال كونه ذاكراً ، الذاهبون غلى الأول وهم طائفة من المتكلمين احتجوا بقوله ) فنسي ولم نجد له عزماً ) [ طه : 115 ] ومثلوه بالصائم يغفل عن صومه فيأكل في أثناء ذلك السهو عن قصد .
قيل عليه إن قوله ) ما نهاكما وبكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين ) [ الأعراف : 20 ] وقوله ( وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ) [ الأعراف : 21 ] يدل على أنه ما نسي وروي عن ابن عباس أنهما لما أكلا منها وبدت لهما سوآتهما ، خرج آدم فتعلقت به شجرة من شجر الجنة فحبسته فناداه الله تعالى : أفراراً مني ؟ فقال : بل حياء منك .
فقال له : أما كان فيما منحتك من الجنة مندوحة مما حرمت عليك ؟ قال : بلى يا رب ، ولكن وعزتك بما كنت أرى أحداً يحلف بك كاذباً ، فقال : وعزتي لأهبطنك منها ثم لا تنال العيش إلا نكداً .
وأيضاً لو كان ناسياً لما عوتب عليه لأنه قادر على تركه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، رفع القلم عن ثلاث .
وأجيب بالمنع من أن إقدامه على ذلك الفعل إنما وقع عقيب قول إبليس ، لأنه كان عالماً بتمرد إبليس عن سجوده وكونه عدواً له ولزوجه ، ولأنهما لو صدقاه لكانت المعصية في تصديقه أعظم من أكل الشجرة ، لأنه ألقى إليهما سوء الظن بالله وأنه ناصح والرب غاش .
وما روي عن ابن عباس فهو من باب الآحاد ولا يلزم من رفع النسيان عن هذه الأمة رفعه عن غيرهم ، بل لا يلزم من رفعه عن الأمة رفعه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) ( إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم ) وقيل : إن حواء(1/259)
" صفحة رقم 260 "
سقته الخمر فسكر ثم أقدم على ذلك الفعل ، وهذا إنما يصح إذا حملت الشجرة على غير الكرمة حتى يكون مأذوناً في تناول غيرها ، إلا أنه يرد عليه أن خمر الجنة لا تسكر ) لا فيها غول ) [ الصافات : 47 ] .
الذاهبون إلى أنه فعله عامداً أربع فرق : منهم من قال : النهي نهي تنزيه لا تحريم وقد سبق .
ومنهم من قال : كان عمداً من آدم وكان كبيرة مع أن آدم في ذلك الوقت كان نبياً ، وقد عرفت فساده .
ومنهم من قال : فعله عمداً لكن كان معه من أعمال القلب من الإخلاص والوجل والإشفاق ما صيره صغيرة ، وزيف بأن المقدم على ترك الواجب أو فعل المنهي عمداً لا يعذر بدعوى الخوف ، فلا يصح وصف الأنبياء بذلك .
ومنهم - وهو اختيار أكثر المعتزلة - من قال : إنه أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه ، وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة ، بيان الاجتهاد أنه لما قيل له ) ولا تقربا هذه الشجرة ( فلفظ ) هذه قد يشار بها إلى الشخص ، وقد يشار بها إلى النوع كما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ حريراً وذهباً بيده وقال ( هذان حرامان على ذكور أمتي ) .
وتوضأ ثم قال ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) وأراد نوع الحرير والذهب ، ونوع الوضوء .
فمراد الله تعالى من كلمة ) هذا ( ذلك النوع لا الشخص .
وكان آدم ظن أن النهي قد ورد على الشجرة المعينة فتركها ، وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع .
واعترض بأن هذا في أصل اللغة للإشارة الشخصية ، وإذا حمل آدم اللفظ على موضوعه فكيف يعد مخطئاً ؟ وأيضاً هب أن لفظ ) هذا ( متردد بين الشخص والنوع ، فإن كان مع قرينة الإشارة النوعية وقد قصر في معرفتها فيكون مذنباً ، وإن عرفها ومع ذلك أقدم على التناول فكذلك ، وإن لم يكن فيه قرينة فلا يعد مخطئاً .
وأيضاً الأنبياء لا يجوز لهم الاجتهاد لأنهم قادرون على تحصيل اليقين بالوحي ، فالإقدام على الاجتهاد عين المعصية .
وأيضاً هذه المسألة إن كانت قطعية فالخطأ فيها كبيرة ، وإن كانت من الظنيات فإن قلنا : كل مجتهد مصيب .
فلا خطأ ، وإن قلنا المصيب واحد فالمخطئ فيها معذور بالاتفاق .
وأجيب بأن لفظ ) هذا ( يستعمل في الإشارة النوعية أيضاً كما مر ، وبأن آدم لعله قصر في معرفة القرينة أو عرفها ثم نسي لطول المدة ، فلهذا عوتب .
وبأن المسألة القطعية لما نسيها صار النسيان عذراً حتى لا يصير الذنب كبيراً ، وقد تكون ظنية وترتب التشديدات على الخطأ فيها لأن(1/260)
" صفحة رقم 261 "
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد يؤاخذ بما لا يؤاخذ به الأمة .
قيل : وقد يحمل الخطأ في الاجتهاد من جهة أن آدم ظن أن المنهي في قوله ) لا تقربا ( تناولهما معاً ، فيجوز لكل واحد على الانفراد أكله .
فإن قيل : كيف تمكن إبليس من وسوسة آدم مع أن إبليس كان خارج الجنة وآدم فيها ؟ قلت : إما لأنه دخل فم الحية خافياً عن الخزنة ولهذا سقطت قوائم الحية عقوبة لها على ما يروى - وإن كان بعيداً - عن أبي هريرة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ما سالمناهم منذ حاربناهم ، ومن ترك منهم شيئاً خيفة فليس منا .
يعني الحيات .
وإما لأنه دخل الجنة في صورة دابة ، وإما لأنهما كانا يخرجان إلى باب النة وإبليس كان يقرب من الباب ويوسوس ، وإما لأنه كان يدنو من السماء فيكلمهما .
وقيل وسوس لهما على لسان بعض أتباعه لأنهما كانا يعرفان ما عنده من الحسد والبغضاء فيستحيل أن يقبلا قوله عادة .
وإسناد الإذلال والإخراج إلى الشيطان لأنه حصل بسبب منه ، وعن بعض العرفاء أن زلة آدم هب أنها كانت وسوسة إبليس ، فمعصية إبليس بوسوسة من ؟ ولا بد من الانتهاء إلى الذي لا يسأل عما يفعل .
فإن قيل : كيف كانت الوسوسة ؟ قلنا : هي التي حكاها الله تعالى ) ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين ) [ الأعراف : 20 ] فلما لم يفد عدل إلى اليمين ) وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ) [ الأعراف : 21 ] ولكم من شياطين الإنس تراهم يوسوسون إليك على هذا الترتيب أعاذنا الله منهم .
ثم بعد ذلك يحتمل أنهما لم يصدقاه فعدل إلى شغلهما باللذات المباحة حتى استغرقا فيها ونسيا النهي فوقعا فيما وقعا والله أعلم بحقائق الأمور .
) اهبطوا ( خطاب لآدم وحواء وإبليس إما في وقت واحد بناء على أن إبليس قد عاد إلى الجنة لأجل الوسوسة ، وإما لآدم وحواء في وقت وله في آخر قبل ذلك ، وقيل : خطاب لهما وللحية .
وقيل : الصحيح أن الخطاب لهما وذريتهما مرادة أيضاً لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الناس كلهم ، والدليل عليه ما جاء في طه ) اهبطا منها ) [ طه : 123 ] وقوله ( فإما يأتينكم ) [ طه : 123 ] وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم .
و ) اهبطوا ( أمر أو إباحة .
والأشبه الأول لأن مفارقة ما كانا فيه من النعيم إلى دار الهوان أشق التكاليف .
وإنما قيل : إنه تكليف لا عقوبة لما ترتب عليه من الثواب العظيم .
ويمكن أن يقال : نفس الإهباط عقوبة ولا ثواب عليه ، وإنما الثواب على حسب العمل بعد ذلك .
ومعنى ) بعضكم لبعض عدو ) [ طه : 123 ] ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض .
وليست هذه هي العداوة المأمور بها في قوله ) إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ) [ فاطر : 6 ](1/261)
" صفحة رقم 262 "
فلا يدخل تحت الأمر ، بل المراد اهبطوا وسيكون حالكم كذا ، لأن عالم التضاد والتنافي ليس كعالم الأنوار الذي لا تعاند فيه ولا تمانع ) مستقر ( استقرار أو موضع استقرار حالتي الحياة والموت .
) ومتاع ( تمتع بالعيش ) إلى حين ( هو يوم القيامة ، أو حين انقضاء آجالكم .
والحين المدة طويلة أو قصيرة ، ولهذا لو قال : أنت طالق إلى حين .
فمضت لحظة طلقت .
وفي قصة آدم وما جرى عليه بسبب الزلة معتبر عجيب وموعظة بليغة بينة كافية في اجتناب الخطايا واتقاء المآثم ، ولله در القائل :
يا ناظراً يرنو بعيني راقد
ومشاهداً للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي
درك الجنان ودرك فوز العابد
أنسيت أن الله أخرج آدماً
منها إلى الدنيا بذنب واحد ؟
وعن فتح الموصلي : كنا قوماً من أهل الجنة فساقنا إبليس إلى الدنيا ، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها .
تطلب الراحة في دار العنا
خاب من يطلب شيئاً لا يكون
قوله ) فتلقى ( الآية .
أصل التلقي التعرض للقاء ، ثم يوضع موضع الاستقبال للشيء الجائي ، ثم يوضع موضع القبول ، والأخذ ) وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ) [ النمل : 6 ] أي تلقنه ، ثم بعض الأفعال قد يشترك فاعله ومفعوله في صلاحية وصف كل منهما بالفعل فيتعاوضان عمله فيهما .
تقول : بلغني ذاك وبلغته ، وأصابني خير أو نالني وأصبته أو نلته ) وتلقى آدم من ربه كلمات ( أي أخذها ووعاها واستقبلها بالقبول وتلقى آدم كلمات أي جاءته واتصلت به ، ولا يجوز أن يكون معنى التلقي من الرب ، أن الله تعالى عرفه حقيقة التوبة لأن المكلف لا بد أن يعرف ماهية التوبة ، ويتمكن بعقله من تدارك الذنوب فضلاً عن الأنبياء فإذن المراد أنه نبهه على المعصية على وجه آل أمره إلى التوبة ، أو عرّفه وجوب التوبة وكونها مقبولة ، أو ذكره نعمته العظيمة عليه حتى صار من الدواعي القريبة إلى التوبة ، أو علمه كلمات لو حصلت التوبة معهن كمل حالها من قوله تعالى ) ربنا ظلمنا أنفسنا ) [ الأعراف : 23 ] الآية .
وفي رواية ابن عباس أن آدم قال : يا رب ألم تخلقني بيدك ؟ قال : بلى .
قال : يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك ؟ قال : بلى .
قال : يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك ؟ قال : بلى .
قال : ألم تسكني جنتك ؟ قال : بلى .
قال : يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قال : نعم .
وقال النخعي : أتيت ابن عباس فقلت : ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه ؟ قال : علم الله آدم وحوّاء أمر الحج فحجا ، فهي الكلمات(1/262)
" صفحة رقم 263 "
التي تقال في الحج ، فلما فرغا من الحج أوحى الله تعالى إليهما إني قبلت توبتكما .
وعن ابن مسعود : إن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا حين اقترف الخطيئة ( سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك وتعالى جدك ، لا إله إلا أنت ، ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) .
وقالت عائشة : لما أراد تعالى أن يتوب على آدم عليه السلام طاف بالبيت سبعاً ، والبيت يومئذ ربوة حمراء ، فلما صلى الركعتين استقبل البيت وقال : اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي ، اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي ، وأرضني بما قسمت لي .
فأوحى الله تعالى إلى آدم : يا آدم ، قد غفرت لك ذنبك ، ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني به إلا غفرت ذنبه وكشفت همومه وغمومه ونزعت الفقر من عينيه وجاءته الدنيا وهو لا يريدها .
وفي كلام الغزالي : أن التوبة تتحقق من ثلاثة أمور مترتبة : أولها علم ، وثانيها حال ، وثالثها عمل .
فالعلم هو معرفة ما في الذنب من الضرر ، وكونه حجاباً بين العبد ورحمة الرب ، فإذا استحكمت هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات محبوبه ، وتأسف على الفعل الذي كان سبباً لذلك الفوات .
ويسمى ذلك التأسف ندماً ، وهذه الحالة لها تعلق بالماضي وهو تلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر ، وتعلق بالحال وهو ترك الذنب الذي كان ملابساً له ، وتعلق بالمستقبل وهو العزم على أن لا يعود إليه أبداً .
وكثيراً ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ، ويجعل العلم السابق كالمقدمة ، والترك اللاحق كالثمرة ، ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الندم توبة ) وجميع هذه الأمور بتوفيق الله ولطفه إنه هو التوّاب الرحيم .
والتوبة لغة الرجوع فيشترك فيه الرب والعبد ، فإذا وصف بها العبد فالمعنى راجع إلى ربه لأن العاصي هارب عن ربه ، وقد يفارق الرجل خدمة سيده فيقطع السيد معروفه عنه ، فإذا عاد إلى السيد عاد اليسد عليه بإحسانه ومعروفه ، وهذا معنى قبول التوبة من الله وغفران ذنوب العباد ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) ومعنى المبالغة في الثواب أن واحداً من ملوك الدنيا إذا عصاه إنسان ثم تاب قبل توبته ، ثم إذا عاد إلى المعصية وإلى الاعتذار فربما لم يقبل عذره لأن طبعه يمنعه من قبول العذر ، والله تعالى بخلاف ذلك لأنه إنما يقبل التوبة لا لأمر يرجع إلى رقة طبع أو جلب نفع أو دفع ضر ، بل لمحض الإحسان واللطف والرحمة(1/263)
" صفحة رقم 264 "
والجود ، فإن فيضه لا ينقطع ولا تقصير إلا من القابل ، فكلما ارتفع المانع من قبل القابل وصل الفيض إليه لا محالة .
وأيضاً يستحق المبالغة من جهة أخرى وهي كثرة عدد المذنبين المستلزمة لكثرة التائبين المستتبعة لكثرة قبول التوبة ووصفه بالرحمة .
روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاء داود أكثر ، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر ، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود وبكاء نوح إلى بكاء آدم على خطيئته لكان بكاء آدم أكثر ، وإذا آل حال أبينا إلى هذا من خطيئة واحدة فمن أحاطت به خطاياه أحق بالبكاء ) ولذا قال نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة ) فنحن أحق بالاستغفار ، فإن الغين يكاد يكون بالنسبة إلينا ريناً ، وذلك أن الغين شيء يغين أي يغشى القلب ويغطيه بعض التغطية كالغيم الرقيق لا يحجب الشمس ، ولكن يمنع كمال ضوئها .
والرين ما استحكم من ذلك حتى صار القلب ممتنعاً بالكلية عن قبول الحق وذلك صفة الكفار ) كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) [ المطففين : 14 ] .
قيل في تأويل الحديث : إن الله تعالى أطلع نبيه على ما سيكون في أمته من الخلاف والشقاق ، وكان إذا ذكر ذلك وجد غيناً في قلبه فاستغفر لأمته .
قيل : كان ينتقل من حالة إلى حالة أرفع من الأولى فيستغفر مما كان .
وقيل : الغين عبارة عن السكر الذي كان يلحقه في طريق المحبة حتى يصير فانياً عن نفسه بالكلية ، فإذا عاد إلى الصحو استغفر من ذلك الصحو ، وهذا تأويل أرباب الحقيقة .
وقال أهل الظاهر : إن القلب لا ينفك عن الخطرات والشهوات وأنواع الإرادات ، فكان يستعين بالرب تعالى في دفع تلك الخواطر .
وعن ثابت البناني : بلغنا أن إبليس قال : يا رب ، إنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة فسلطني عليه .
فقال سبحانه : جعلت صدورهم مساكن لك .
فقال : رب زدني .
فقال : لا يولد ولد لآدم إلا ولد لك عشرة .
قال : رب زدني .
قال : تجري منه مجرى الدم .
قال : فشكا آدم إلى ربه فقال : يا رب إنك خلقت إبليس وجعلت بيني وبينه عداوة وبغضاء وسلطته علي وأنا لا أطيقه إلا بك .
فقال الله تعالى : لا يولد ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء .
قال : رب زدني .
قال : الحسنة بعشر أمثالها .
قال : رب زدني .
قال : لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغر ، والغرغرة تردد الروح في الحلق .
وسئل ذو النون عن التوبة فقال : إنها اسم جامع لمعان ستة : أولها الندم على ما مضى ، وثانيها العزم على ترك الذنوب في المستقبل ،(1/264)
" صفحة رقم 265 "
وثالثها أداء كل فريضة ضيعتها فيما بينك وبين الله ، والرابع أداء المظالم إلى المخلوقين في أموالهم وأعراضهم ، والخامس إذابة كل لحم ودم نبت من الحرام ، والسادس إذاقة البدن مرارة الطاعات كما ذاق حلاوة المعاصي .
وكان أحمد ابن الحرث يقول : يا صاحب الذنوب ألم يأن لك أن تتوب ، يا صاحب الذنوب إن الذنب في الديوان مكتوب ، يا صاحب الذنوب أنت بها في القبر مكروب ، يا صاحب الذنوب أنت غداً بالذنوب مطلوب .
وإنما اكتفى بذكر توبة آدم دون توبة حواء لأنها كانت تبعاً له كما طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك على أنها قد ذكرت في موضع آخر ) قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ) [ الأعراف : 23 ] الآية .
( قوله ) ) قلنا اهبطوا ( الآية .
قيل : فائدة تكرير الأمر بالهبوط أنهما هبوطان : الأول من الجنة إلى السماء الدنيا ، والثاني من السماء الدنيا إلى الأرض .
وضعف بأنه لو كان كذلك لكان ذكر قوله ) ولكم في الأرض مستقر ( عقيب الهبوط الثاني أولى .
وأيضاً قوله ) منها ( يدل على أن الهبوط الثاني أيضاً من الجنة والأوجه أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة وتابا بعد الأمر بالهبوط ، وقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط يرتفع بزوال الزلة ، فأعيد الأمر مرة ثانية ليعلما أن حكمه باقٍ تحقيقاً للوعد المتقدم في قوله تعالى ) إني جاعل في الأرض خليفة ( ووجه ثالث وهو أن يكون التكرير للتأكيد ، ولما نيط به من زيادة قوله ) فإما يأتينكم ( روي في الأخبار أن آدم هبط بجزيرة سرنديب من الهند ، وحواء بجدة من أرض الحجاز ، وإبليس بالأيلة من نواحي البصرة ، والحية بأصفهان ، فلم يتلاقيا مائة سنة ، ثم ازدلفا أي تقاربا بالمزدلفة ، واجتمعا بجمع وتعارفا بعرفات يوم عرفة ، وتمنيا على الله تعالى المغفرة والتوبة بمنى ، فحصلت أسماء هذه المواضع من هذه المعاني .
وما في ) إما ( مزيدة لتأكيد الشرط ويؤيده لحوق النون المؤكدة والشرط الثاني وجزاؤه مجموعين جواب الشرط الأول .
تبع واتبع بمعنى ، وإنما جاء في طه ) فمن اتبع ) [ طه : 123 ] موافقة لقوله فيها ) يتبعون الداعي ) [ طه : 108 ] وفي الهدى وجهان : أحدهما المراد منه كل دلالة وبيان فيدخل فيه دليل العقل وكل كلام ينزل على نبي ، وفيه تنبيه على نعمة أخرى عظيمة فكأنه قال : وإذ قد أهبطتكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بما يؤديكم مرة أخرى : إلى الجنة مع الدوام الذي لا ينقطع .
عن الحسن : لما أهبط آدم إلى الأرض أوحى الله تعالى إليه : يا آدم ، أربع خصال فيها كل الأمر لك ولولدك : واحدة لي ، وواحدة لولدك ، وواحدة بيني وبينك ، وواحدة بينك وبين الناس .
أما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك فإذا عملت آجرتك ، وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلى الإجابة ، وأما التي بينك وبين الناس فأن(1/265)
" صفحة رقم 266 "
تصحبهم بما تحب أن يصحبوك به .
وقيل : هو رسول وكتاب بدليل ) والذين كفروا كذبوا بآياتنا ) [ البقرة : 39 ] في مقابلة ) فمن تبع هداي ( في الإقدام على ما يلزم والإحجام عما يحرم فإنه سيصير إلى حالة لا خوف فيها ولا حزن .
وهذه الجملة مع اختصارها تجمع شيئاً كثيراً من المعاني ، لأن قوله ) فإما يأتينكم مني هدى ( دخل فيه الإنعام بجميع الأدلة العقلية والشرعية وزيادة البيان ، وجميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل ووجوه التمكين .
وجمع قوله ) فمن تبع هداي ( تأمل الأدلة بحقها والنظر فيها واستنتاج المعارف منها والعمل بها ، وجمع قوله ) فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( جميع ما أعد الله تعالى لأوليائه ، لأن الخوف ألم يحصل للنفس من توقع مكروه ، أو انتظار محذور ، وزواله يتضمن السلامة من جميع الآفات .
والحزن ألم يعرض للنفس لفقد محبوب أو فوات مطلوب ، ونفيه يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات .
وإنما قدم عدم الخوف على عدم الحزن لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على حصول ما ينبغي ، وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف عند الموت ، ولا في القبر ، ولا عند البعث ، ولا عند حضور الموقف ، ولا عند تطاير الكتب ، ولا عند نصب الميزان ، ولا عند الصراط ) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) [ فصلت : 30 ] وقال قوم من المتكلمين : إن أهوال يوم القيامة تعم الكفار والفساق والمؤمنين بدليل قوله تعالى ) يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ) [ الحج : 2 ] ( فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً ) [ المزمل : 17 ] ( يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ) [ المائدة : 109 ] ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) [ الأعراف : 6 ] وفي الحديث ( تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل ، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبه ، ومنهم من يكون إلى ركبتيه ، ومنهم من يكون إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً ، وأشار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيده إلى فيه ) .
وحديث الشفاعة وقول كل نبي ( نفسي نفسي ) إلا نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه يقول ( أمتي أمتي ) مشهور .
قلت : لا ريب أن وعد الله حق ، فمن وعده الأمن يكون آمناً لا محالة ، إلا أن الإنسان خلق ضعيفاً لا يستيقن الأمن الكلي ما لم يصل غلى الجنة ، لأنه لا يطمئن قلبه ما لم ينضم له إلى علم اليقين عين اليقين ، وأيضاً إن جلال الله وعظمته يدهش الإنسان براً كان أو(1/266)
" صفحة رقم 267 "
فاجراً .
وأيضاً ظاهر العمل الصالح لا يفيد اليقين بالجنة ، فلا عمل إلا بالإخلاص ، ولا حكم بالإخلاص إلا لله تعالى ، لأنه من عمل القلب وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء .
ولهذا جاء ( والمخلصون على خطر عظيم ) وكان دأب الصدّيقين أن يخلطوا الطمع بالخوف ، والرغبة بالرهية ، ) يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ) [ السجدة : 16 ] ( ويدعوننا رغباً ورهباً ) [ الأنبياء : 90 ] وقيل : ( لا خوف عليهم ) [ يونس : 62 ] أمامهم فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت ، فآمنهم الله تعالى ثم سلاهم فقال لهم ) ولا هم يحزنون ) [ يونس : 62 ] على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا .
ثم إن الأئمة خصصوا نفي الخوف والحزن بالآخرة ، لأن مجاري الأمور في الدنيا لا تخلو من مواجب الخوف والحزن .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) قلنا : المؤمن الراضي بقضاء الله وقدره لا يرى شيئاً من المكاره مكروهاً ، وإنما مراده مراد حبيبه ) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) [ النساء : 65 ] فبترك الإرادة يصح نسبة العبودية ، وبالرضوان يحصل مفاتيح الجنان ، وتنكشف الهموم والأحزان ، ويتساوى الفقر والوجدان ، وتثبت حقيقة الإيمان ) والذين كفروا ( لجحدهم مولاهم ) وكذبوا بآياتنا ( لإثباتهم حكماً لهم بحسب مشتهاهم وهواهم ) أولئك أصحاب النار ( وملازموها دائماً سرمداً سواء كانوا من الإنس أو من الجن ، أعاذنا الله منها بعميم فضله وجسيم طوله .
التأويل : إنكم تسجدون لله بالطبيعة الملكية الروحانية ) اسجدوا لآدم ( بخلاف الطبيعة تعبداً ورقاً وانقياداً للأمر وامتثالاً للحكم ، اسجدوا له تعظيماً لشأن خلافته وتكريماً لفضيلته المخصوصة به ، فمن سجد له فقد سجد لله تعالى كما قال ) إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ( اسجدوا لآدم لأجل آدم فإن عبادتكم وطاعتكم لا توجب ثواباً لكم ولا تزيد في درجاتكم ، ولكن فائدتها تعود إلى الإنسان لقوله ) يسبحون بمحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ( ولأن الإنسان يقتدي بهم في الطاعة ويتأدب بآدابهم في امتثال الأوامر والانزجار عن الإباء والاستكبار ، كيلا يلحقه من اللعن والبعد ما لحق إبليس ) فسجدوا إلا إبليس ( لأنهم خلقوا من نور ، والنور من شأنه الانقياد والإفاضة ، وأنه خلق من نار والنار من شأنها الاستعلاء طبعاً ) وكان من الكافرين ( لأنه ستر الحق على آدم كما سمي إبليس لأنه أبلس الحق .
) ولا تقربا هذه(1/267)
" صفحة رقم 268 "
الشجرة ( أي أبحت لك نعيم الجنة بما فيها وما كان لك فيها حق لأنك ما عملت بعد عملاً تستحق به الجنة فأعطني هذه الشجرة الواحدة منها وهي كلها لي وأنا خلقتها ، فإن طمعت فيها أيضاً فاعلم أن الإنسان له همة عالية وحرص شديد لا يزال تقول جهنم حرصه ( هل من مزيد ) ولا تمتلئ حتى يضع الجبار فيها قدمه أي سابقة رحمته وعنايته ( سبقت رحمتي غضبي ) .
ثم إنه أبيح له ولزوجه مشتهيات النفس كلها ) فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ( وقيل لهما اقتنعا بها ولا توقدا نار الفتنة على أنفسكما ، ولا تصبا من قربة المحبة ماء المحنة على رأسكما ، ولا تقربا شجرة المحبة وقد غرست لأجله في الحقيقة ) يحبهم ويحبونه ) [ المائدة : 54 ] .
ولكن سبب النهي هو الدلال الذي يقتضيه غاية الجمال .
وأيضاً لو لم ينه عنها فلعله ما فرغ لها لكثرة أنواع المرادات النفسانية وكانت المحبة غذاء روحانياً فذكرها كان كالتحريض عليها فإن الإنسان حريص على ما منع وأيضاً إنه تعالى وسع اسباب الانبساط أولاً ثم ضيق عليه الأمر آخراً .
وأدنيتني حتى إذا ما فتنتني
بقول يحل العصم سهل الأباطح .
تجافيت عني حين لالي حيلة
وغادرت ما غادرت بين الجوانح .
خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأسكنه الجنة في جواره وزوجه حواء حتى شاهد جمال الحق في مرآة وجهه ، وأنبت شجرة المحبة بين يديه ثم منعه عنها وكان في ذلك المنع تذكير وتحريض .
أيضاً كما مر ثم عاتبه بقوله ) فتكونا من الظالمين ( وهذا كما أسكر موسى بأقداح الكلام وأذاقه لذة شراب السماع وقربه نجياً حتى اشتاق إلى جماله وطمع في وصاله وقال ) ربي أرني ) [ الأعراف : 143 ] عاتبه بسطوة ) لن تراني ) [ الأعراف : 143 ] وذلك أن البلاء والولاء توأمان والمحبة والمحنة رضيعا لبان ، والمطلوب كلما كان أرفع كان أعز وأمنع والجمال لا بد له من الدلال ، وبه يتميز العاشق الصادق من المدعي المختال .
) فلما ذاقا ( شجرة الغرام خرجا من دار السلام فما لأهل الغرام ودار السلام ؟ وأين الفارغ السالي من المحب الغالي ؟
فبتنا على رغم الحسود وبيننا
حديث كطيب المسك شيب به الخمر .
فلما أضاء الصبح فرق بيننا
وأي نعيم لا يكدره الدهر ؟ .(1/268)
" صفحة رقم 269 "
وبالجملة ، فلما جاء القضاء ضاق الفضاء ، فلم يمس بعد أن كان مسجود الملك مرفوع السماك إلى السماك مشمول الرعاية موفور العناية حتى نزع عنه لباس الأمن والفراغ ، وبدل باستئناسه الاستيحاش ، تدفعه الملائكة بعنف أن اخرج من غير مكث ولا بحث ، فأزلتهما يد التقدير بحسن التدبير ، وكان الشيطان المسكين كذئب يوسف لطخ خرطومه بدم نصح ، فلما وقعا من القربة في الغربة ، ومن الألفة في الكلفة لما ذاقا من شجرة المحبة المورثة للمحنة استوحشا من كل شيء ، واتخذا عدوّاً بعضكم لبعض عدو ، وهكذا شرط المحبة عداوة ما سوى المحبوب .
فكما أن ذاته لا تقبل الشركة في التعبد ، كذلك لا تقبل الشركة في المحبة .
فلما استقرت حبة المحبة في أرض قلب آدم جعل الأرض مستقر شخصه ليتمتع بتربية بذر المحبة بماء الطاعة والتكليف إلى حين إدراك ثمرة المعرفة ) وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن داود قال : يا رب لم خلقت الخلق ؟ فقال : كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف ) .
ثم إنه بعدما ابتلي بالهبوط بشره بأن وحيه لا ينقطع وهدايته لا ترتفع ، وإن من ربى بذر المحبة بماء الطاعة والطباعة ) فلا خوف عليهم ( في المستقبل ) ولا هم يحزنون ( على ما مضى من الهبوط إلى الأرض ، لأنهم يرجعون بجذبات العناية والهداية إلى ذرى حظائر القدس وبالله التوفيق .
( البقرة : ( 40 - 46 ) يا بني إسرائيل . . . .
" يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون "
( القراآت )
إسرائيل ( بغير همزة حيث كان : يزيد وحمزة في الوقف ) نعمتي ( وكذلك ما بعدها ساكنة الياء : أبو زيد عن المفضل ) فارهبوني ( ) فاتقوني ( بالياء في الحالين : يعقوب ، وكذلك كل ياء محذوفة في الخط عند رأس الآية .
وروى مسبح بن حاتم وابن دريد عن سهل وعباس بالياء في الوصل .
) أول كافر به ( ممالة : قتيبة وأحمد بن فرج الوقوف : ( فارهبون ( ( 5 ) ربع الجزء .
) كافر به ( ( ص ) لاتفاق الجملتين وعلى ) قليلاً ( أجوز لاختلاف النظم بتقديم المفعول .
) فاتقون ( ( 5 ) ) تعلمون ((1/269)
" صفحة رقم 270 "
( 5 ) ) الراكعين ( ( 5 ) ) الكتاب ( ( ط ) ) تعقلون ( ( 5 ) ) الصلاة ( ( ط ) ) خاشعين ( ( لا ) لأن ( الذين ) صفتهم .
) راجعون ( التفسير : أنه تعالى لما أقام دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ، ثم ذكر الإنعامات العامة للبشر ومن جملتها خلق آدم إلى تمام قصته ، أردفها الإنعامات .
الخاصة على أسلاف اليهود ، إلانة لشكيمتهم واستمالة لقلوبهم وتنبيهاً على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من حيث كونه إخباراً بالغيب مدرجاً في مطاوي ذلك ما يرشدهم إلى أصول الأديان ومكارم الأخلاق ، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم غير منصرف للغلمية والعجمية المعتبرة لقب له ، ومعناه صفوة الله .
وقيل : عبد الله ، لأن ( إسر ) بالعبرية هو العبد ، ( وإيل ) الله .
وقوله ( يا بني إسرائيل ( خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب في أيام محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وحد النعمة وما يتعلق بها قد سبق في تفسير الفاتحة .
والعائد من الصلة محذوف أي أنعمت بها عليكم .
قال بعض العارفين : عبيد النعم كثيرة ، وعبيد المنعم قليلون ، فإن الله تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم ، ولما آل الأمر إلى أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ذكرهم المنعم فقال ) اذكرني أذكركم ) [ البقرة : 152 ] عن ابن عباس أنه قال : من نعمه تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون ، وظلل عليهم في التيه الغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وأعطاهم الحجر الذي كان يسقيهم ما شاءوا ، وأعطاهم عموداً من النور أضاء لهم بالليل ، وكانت رؤوسهم لا تتشعت وثيابهم لا تبلى ، وفي تذكير هذه النعم فوائد : منها أن فيها ما يشهد بصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو التوراة والإنجيل والزبور .
ومنها أن كثرة النعم توجب عظم المعصية ، فذكرهم إياها ليحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن .
ومنها أن تذكر النعم الكثيرة يوجب الحياء من إظهار المخالفة .
ومنها أن كثرة النعم تفيد أن المنعم خصهم بها من بين سائر الناس ، ومن خص أحداً بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم كما قيل : إتمام المعروف خير من ابتدائه .
فتذكير النعم السالفة مطمع في النعم الآتية ، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة والمخاصمة .
والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء إذ لولاها لم يبق نسلهم ، ولأن الانتساب إلى آباء خصهم الله تعالى بنعم الدين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد ، ولأنهم إذا علموا أن آباءهم إنما خصوا بهذه النعم لمكان طاعتهم والإعراض عن الكفر والجحود ، رغبوا في هذه الطريقة لأن الابن مجبول على اتباع الأب ( من أشبه أباه فما ظلم ) .
والعهد يضاف إلى المعاهد جميعاً .
يقال : أوفيت بعهدي أي بما عاهدتك عليه ، وأوفيت بعهدك أي بما عاهدتك عليه .
والمعنى : أوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي والطاعة لي أوف بعهدكم أي أرض عنكم وأدخلكم الجنة حكاه الضحاك عن ابن(1/270)
" صفحة رقم 271 "
عباس .
وتحقيقه في قوله تعالى ) إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله ) [ التوبة : 111 ] وقيل : المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأنه سيبعثه ، وإليه الإشارة في قوله ) ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيباً ( إلى قوله ) ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار ) [ المائدة : 12 ] وفي الأعراف ) فسأكتبها للذين يتقون ) [ الأعراف : 156 ] الآية .
وفي آل عمران ) وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم ) [ آل عمران : 81 ] وفي الصف ) وإذ قال عيسى بن مريم ) [ الصف : 6 ] وعن ابن عباس : إن الله كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً ، فمن تبعه وصدق بالتوراة الذي يأتي به أي بالقرآن غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين ، أجراً باتباع ما جاء به موسى وجاءت به سائر أنبياء بني إسرائيل ، وأجراً باتباع ما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) النبي الأمي الذي من ولد إسماعيل وتصديق هذا في القرآن ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ) [ الحديد : 28 ] .
وعن أبي موسى الأشعري مرفوعاً ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ثم آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فله أجران ، ورجل أدّب أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ، ورجر أطاع الله وأطاع سيده فله أجران ) فإن قيل : لو كان الأمر كما قلتم ، فكيف يجوز من جماعتهم جحده ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ قلنا : إما لأن هذا العلم به ( صلى الله عليه وسلم ) كان حاصلاً عند العلماء بكتبهم ولم يكن لهم عدد كثير فجاز منهم كتمانه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإما لأن ذلك النص كان نصاً خفياً لعدم تعيين الزمان والمكان بحيث يعرفه كل أحد ، فجاز وقوع الشكوك والشبهات فيه .
جاء في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة : أن هاجر لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك لله تعالى .
فقال لها : يا هاجر أين تريدين ؟ قالت : أهرب من سيدتي سارة .
فقال : ارجعي إلى سيدتك واخفضي لها فإن الله سيكثر زرعك وذريتك ، وستحبلين وتلدين ابناً تسميه إسماعيل ، من أجل أن الله سمع خشوعك ، وهو يكون عيناً بين الناس وتكون يده فوق الجميع ، ويد بجميع مبسوطة إليه بالخضوع .
فقيل : هذا الكلام خرج مخرج البشارة لأنهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق وأوائل الشام إلا على أتم خوف ، فلما جاء الإسلام استولوا على الخافقين بالإسلام ومازجوا الأمم ووطئوا بلادهم ومازجتهم الأمم وحجوا بيتهم ودخلوا باديتهم بسبب مجاورة الكعبة .(1/271)
" صفحة رقم 272 "
) وإياي فارهبون ( فلا تنقضوا عهدي وهو من قولك : زيد أرهبته أي زيداً رهبت رهبته بتقديم المفعول للاختصاص .
فتقديره : وإياي ارهبوا فارهبون .
وهو أوكد في إفادة الاختصاص من ) إياك نعبد ) [ الفاتحة : 4 ] لمكان الفاء المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها .
أي إن كنتم راهبين شيئاً فارهبون .
ومن قبل التكرير ولأجل الإضمار والتفسير .
والرهبة هي الخوف ، والخوف إما من العقاب وهو نصيب أهل الظاهر ، وإما من الجلال وهو وظيفة أرباب القلوب ، والأول يزول ، والثاني لا يزول .
ومن كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس .
يروى أنه ينادي مناد يوم القيامة : وعزتي وجلالي أني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين ، من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ، ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة .
قوله ) وآمنوا ( معطوف على ) اذكروا ( والمراد ) بما أنزلت ( القرآن و ) مصدقاً ( حال مؤكدة من الراجع المحذوف وفيه تفسيران : أحدهما أن في القرآن أن موسى وعيسى حق ، والتوراة والإنجيل حق ، والتوراة أنزل على موسى ، والإنجيل على عيسى ، فكان الإيمان بالقرآن مؤكداً للإيمان بالتوراة والإنجيل والثاني أنه حصلت البشارة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالقرآن في التوراة والإنجيل ، فكان الإيمان بمحمد والقرآن تصديقاً للتوراة والإنجيل ، والتكذيب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن تكذيباً لهما ، وفي هذا التفسير دلالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من جهة أن شهادة كتب الأنبياء لا تكون إلا حقاً ، ومن جهة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أخبر عن كتبهم ولم يكن له ( صلى الله عليه وسلم ) معرفة بذلك الأمر قبل الوحي ) ولا تكونوا أول كافر به ( ( صلى الله عليه وسلم ) أي أوّل من كفر به ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو أوّل فريق أو فوج كافر به ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو ولا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به كقوله ( كسانا حلة ) أي كل واحد منا .
( وهنا سؤالان ) الأول : كيف جعلوا أوّل من كفر به ( صلى الله عليه وسلم ) وقد سبقهم إلى الكفر به ( صلى الله عليه وسلم ) مشركو العرب ؟ وفي الجواب وجوه : الأوّل : أنه تعريض وأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به ( صلى الله عليه وسلم ) لمعرفتهم به ( صلى الله عليه وسلم ) وبصفته ، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمستفتحين به على الذين كفروا ، وكانوا يعدّون أتباعه أولى الناس كلهم .
فلما بعث كان أمرهم على العكس ) فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) [ البقرة : 89 ] .
والثاني : ولا تكونوا مثل أوّل كافر به يعني من أشرك من أهل مكة أي ولا تكونوا - وأنتم تعرفونه ( صلى الله عليه وسلم ) موصوفاً في التوراة - مثل من لم يعرفه ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه لا كتاب له .
الثالث : ( ولا تكونوا أول كافر به ( من أهل الكتاب ، لأن هؤلاء كانوا أول من كفر به وبالقرآن من بني إسرائيل .
الرابع ) ولا تكونوا أوّل كافر به ( يعني بكتابكم .
يقول ذلك لعلمائهم ، لأن تكذيبكم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) يوجب تكذيبكم بكتابكم .
الخامس : المراد بيان تغليظ كفرهم ، وذلك أن السابق إلى الكفر كفره(1/272)
" صفحة رقم 273 "
غليظ ( من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ) والكافر عن دليل ومعرفة بما يوجب الإيمان كفره أغلظ ممن كفر ولا دليل له على الإيمان ، فاشتركا من هذا الوجه ، فصح إطلاق أحدهما على الآخر .
السادس : ولا تكونوا أوّل من جحد مع المعرفة .
السابع : أوّل فريق كفر من اليهود لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قدم المدينة وبها قريظة والنضير ، فكفروا ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر .
الثامن : ولا تكونوا أول الكافرين به ( صلى الله عليه وسلم ) عند سماعكم بذكره ( صلى الله عليه وسلم ) ، بل تثبتوا وراجعوا عقولكم فيه ( صلى الله عليه وسلم ) .
السؤال الثاني : كأنه يجوز لهم الكفر إذا لم يكونوا أوّل الجواب ليس في ذكر الشيء دلالة على أن ما عداه بخلافه .
وأيضاً في قوله ) وآمنوا ( دلالة على أن كفرهم أولاً وآخراً محظور .
وأيضاً قوله ) ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ( لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير .
وقوله ( رفع السموات بغير عمد ترونها ) [ الرعد : 2 ] لا يدل على وجود عمد لا نراها فكذلك ههنا .
قال المبرد : هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم ، فقيل لهم : لا تكفروا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه سيكون بعدكم كفار ، فلا تكونوا أنتم أول الكفار فإنه يكون عليكم وزر من كفر إلى يوم القيامة .
والاشتراء استعارة للاستبدال كما قلنا في ) اشتروا الضلالة بالهدى ) [ البقرة : 16 ] أي لا تستبدلوا بآياتي ثمناً قليلاً ، وإلا فالثمن هوالمشترى به ، والثمن القليل هو الرياسة التي كانت لهم في قومهم .
خافوا عليها لفوات لو تبعوا دين الإسلام .
وقيل : الثمن هو الرشا التي يأخذها علماؤهم على تحريف الكلم عن مواضعه وتسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع ) وإياي فاتقون ( مثل ) وإياي فارهبون ( وقيل : الاتقاء إنما يكون عند الجزم بحصول ما يتقى عنه ، فكأنه أمرهم بالرهبة .
على أن جواز العقاب قائم ، ثم أمرهم بالتقوى على أن يقين العقاب قائم .
قوله ) ولا تلبسوا ( أمر بترك الإغواء والإضلال كما أن قوله ) وآمنوا ( أمر بترك الكفر والضلال .
ولإضلال الغير طريقان : لأنه إن سمع الدلائل فإضلاله بتشويشها عليه ، وإن لم يسمعها فإضلاله بكتمانها ومنعه من الوصول إليها .
فقوله ) ولا تلبسوا ( إشارة إلى القسم الأول ، وقوله ( وتكتموا ( المجزوم بلا المقدرة للنهي عطفاً على المنهي قبله إشارة إلى القسم الثاني .
والباء التي في ) بالباطل ( إما للوصل كما في قولك ( لبست الشيء بالشيء ) خلطته به ، فكان المعنى : ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل(1/273)
" صفحة رقم 274 "
الذي كتبتم حتى لا يميز بينهما .
وإما للاستعانة كما في ( كتبت بالقلم ) فالمعنى : ولا تجعلوا الحق ملتبساً بباطلكم وهو الشبهات التي توردونها على السامعين .
وذلك أن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانت نصوصاً خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال ، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ويشوّشون وجه الدلالة على المتأملين كقوله ) وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ) [ غافر : 5 ] قيل : ويجوز أن يكون ) وتكتموا ( منصوباً بإضمار ( أن ) ، والواو بمعنى الجمع أي لا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمان الحق نحو ( لا تأكل السمك وتشرب اللبن ) .
قلت : هذا التقدير يوهم أن يكون المحظور هو الجمع بين الأمرين كالجمع بين أكل السمك وشرب اللبن حتى لو أتى بكل منهما منفرداً عن الآخر جاز ، اللهم إلا أن يحال ذلك على القرينة كما في قوله ) ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً ) [ الدهر : 24 ] إذ لا يجوز أن يريد أطع أحدهما لقرينة الإثم والكفر .
) وأنتم تعلمون ( ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم يوم القيامة ( من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها ) والنهي عن اللبس والكتمان وإن قيد بالعلم لم يدل على جوازهما حال عدم العلم ، لأن السبب في ذكره أن الإقدام على لافعل الضار مع العلم بكونه ضاراً أفحش من الإقدام عليه عند الجهل بكونه ضاراً ، والنهي وإن كان خاصاً لكنه عام ، فكل عالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه .
ثم لما أمرهم بذكر نعمته وبالإيمان برسوله وكتابه ونهاهم عن اللبس والكتمان ، بين لهم ما لزمهم من أصول الشرائع فقال ) وأقيموا الصلاة ( أي التي عرفتموها بوصف النبي ، بناء على أنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب .
وأما القائلون بجواز التأخير فقد جوزوا ورود الأمر بالصلاة وإن لم يعرف حقيقتها ، ويكون المقصود أن يوطن السامع نفسه على الامتثال وإن كان لا يعلم أن المأمور به ما هو كما لو قال السيد لعبده : إني آمرك غداً بشيء فلا بد أن تفعله .
ويكون الغرض أن يعزم العبد في الحال على أدائه في الوقت الثاني .
ومعنى الصلاة لغة وشرعاً قد تقدم في أول البقرة .
وأما الزكاة فهي في اللغة ، الزيادة والنماء ، وفي الشرع القدر المخرج من النصاب لأنها تزيد في بركة المخرج عنه ، ويمكن أن يقال : مأخوذة من التطهير من زكى نفسه تزكية إذا مدحها وطهرها من العيوب .
قال تعالى ) خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) [ التوبة : 103 ] فإن المخرج يطهر ما بقي من المال .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليك بالصدقة فإن فيها ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة .
فأما التي في الدنيا فتزيد في(1/274)
" صفحة رقم 275 "
الرزق ، وتكثر المال ، وتعمر الدار .
وأما التي في الآخرة فتستر العورة ، وتصير ظلاً فوق الرأس ، وتكون ستراً من النار ) .
وفي هذا الخطاب مع اليهود دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع .
وفي قوله ) واركعوا مع الراكعين ( وجوه : أحدها أن اليهود لا ركوع في صلاتهم ، فخص الركوع بالذكر تحريضاً لهم على الإتيان بصلاة المسلمين .
وثانيها صلوا مع المصلين فلا تكرار لأن الأول أمر بإقامتها ، والثاني أمر بالجماعة .
وثالثها الركوع والخضوع لغة سواء ، فيكون نهياً عن الاستكبار المذموم وأمراً بالتذلل للمؤمنين ، ثم إنه سبحانه لما أمرهم بالإيمان والشرائع بناء على ما خصهم به من النعم رغبهم في ذلك بناء على مأخذ آخر ، وهو أن التغافل عن أعمال البر مع حث الناس عليها مستقبح في العقول .
والهمزة في ) أتأمرون ( للتقرير مع التقريع ، والتعجيب من حالهم .
والبر اسم جامع لأعمال الخير ، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما وعمل مبرور مرضي .
واختلف في البر ههنا .
قال السدي : إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله ثم يتركونها وينهونهم عن معصية الله ويرتكبونها .
وقال ابن جريج .
تأمرون الناس بالصلاة والزكاة وتتركونهما .
أبو مسلم : كانوا قبل مبعث النبي يخبرون مشركي العرب أن رسولاً سيظهر منكم ويدعو إلى الحق ويرغبونهم في أتباعه ، فلما بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) حسدوه وأعرضوا عن دينه .
الزجاج : يأمرون الناس بالصدقة ويشحون بها .
وقيل : يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يتبعونه .
وقيل : يأمرون غيرهم باتباع التوراة وهم بخالفونها لأنهم وجدوا فيها ما يدل على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم ما آمنوا به .
وقيل : لعل المنافقين من اليهود كانوا يأمرون باتباعه في الظاهر وينكرونه ( صلى الله عليه وسلم ) في الباطن ، فوبخهم الله على ذلك .
والنسيان هو السهو الحادث بعد حصول العلم ، والناسي غير مكلف فكيف يتوجه الذم على ما صدر عنه ؟ فإذن المراد وتغفلون عن حق أنفسكم وتعدلون عما لها فيه من النفع ) وأنتم تتلون الكتاب ( أي التوراة وتدرسونها وتعلمون ما فهيا من أعمال البر ومن نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومن الوعيد على ترك البر ومخالفة القول العمل ) أفلا تعقلون ( ؟ وهو تعجيب للعقلاء من أفعالهم .
وكثيراً ما يحذف الفعل بعد همزة الاستفهام للعلم به والتقدير : أفعلتم ذلك فلا تعقلون .
وقس على هذا نظائره في القرآن فإنها كثيرة .
وللتعجيب وجوه : منها أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى المصالح وتحذيره عن المفاسد ، وإرشاد النفس إليها وتحذيرها منها أهم بشواهد العقل والنقل ، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بما لا يقبله العقل الصحيح .
ومنها(1/275)
" صفحة رقم 276 "
أن مثل هذا الوعظ يصير سبباً للمعصية لأن الناس يقولون لولا أن هذا الواعظ مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المناهي ، فيكون داعياً لهم إلى التهاون بالدين والجرأة على المعاصي ، وهذا مناف للغرض من الوعظ فلا يليق بالعقلاء .
ومنها أن غرض الواعظ ترويج كلامه وتنفيذ مرامه ، فلا خالف إلى ما نهى عنه صار كلامه بمعزل عن القبول وهذا خلاف المعقول .
قال بعضهم : ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر استدلالاً بهذه الآية ، وبقوله تعالى ) لم تقولون ما لا تفعلون ) [ الصف : 2 ] وبأن الزاني بامرأة يقبح منه أن ينكر عليها ، وأجيب بأن المكلف مأمور بشيئين : ترك المعصية ، ومنع الغير عنها ، والإخلال بأحد التكليفين لا يقتضي الإخلال بالآخر .
والذم في الآية مترتب على الشق الثاني وهو نسيان النفس لا على مجموع الأمرين ، قالوا : وحديث القبح ممنوع .
قلت : والحق أنه مكابرة ، فعن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار .
فقلت : يا أخي يا جبريل من هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن في النار رجلاً يتأذى أهل النار بريحه ) .
فقيل : من هو يا رسول الله ؟ قال : ( عالم لا ينتفع بعلمه ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه ) وعن الشعبي : يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون : لم دخلتم النار فإنا دخلنا الجنة بفضل تعليمكم ؟ فقالوا : إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله .
وقيل : من وعظ بقوله ضاع كلامه ، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه .
وقيل : عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل .
روي أن يزيد بن هارون مات - وكان واعظاً زاهداً مات - فرؤي في المنام فقيل : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي ، وأوّل ما سألني منكر ونكير فقالا : من ربك ؟ فقلت : أما تستحيان من شيخ دعا الناس إلى الله كذا وكذا سنة فتقولان له من ربك .
وقيل للشبلي عند النزع : قل لا إله إلا الله .
فقال :
إن بيتاً أنت ساكنه
غير محتاج إلى سرج
ولما أمرهم الله تعالى بالإيمان وترك الإضلال وبالتزام الشرائع وموافقة القول للفعل وكان ذلك شاقاً عليهم لما فيه من ترك الرياسات والإعراض عن المال والجاه ، عالج الله تعالى هذا المرض بقوله ) واستعينوا بالصبر والصلاة ( فكأنه قيل : واستعينوا على ترك ما تحبون من الدنيا والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالصبر أي حبس(1/276)
" صفحة رقم 277 "
النفس عن اللذات ، فإنكم إذا كلفتم أنفسكم ذلك مرنت عليه وخف عليها .
ثم إذا ضممتم الصلاة إلى ذلك كمل الأمر ، لأن المشتغل بالصلاة مشتغل بذكر لطفه وقهره ، فإذا تذكر لطفه مال إلى الطاعة ، وإذا تذكر قهره انتهى عن المعصية .
وقيل : الصبر الصوم لأنه حبس النفس عن المفطرات ومنه يقال : شهر الصبر لشهر رمضان .
ومن حبس نفسه عن قضاء شهوتي البطن والفرج زالت عنه كدورات حب الدنيا ، فإذا انضاف إليه الصلاة استنار القلب بأنوار معرفة الله .
وإنما قدم الصوم على الصلاة لأن تأثير الصوم في إزالة ما لا ينبغي وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي والنفي مقدم على الإثبات .
ويجوز أن يراد بالصلاة الدعاء أي استعينوا على البلاء بالصبر والالتجاء إلى الدعاء والابتهال في دفعه إلى فاطر الأرض والسماء .
وهذا الخطاب وإن كان خاصاً ببني إسرائيل وغلا لزم تفكك النظم ، لكن المعنى على العموم فعلى كل مكلف أن يستعين على حوائجه إلى الله بالصلاة والصبر على تكاليفها مراعياً في ذلك ما يجب من الإخلاص وحسن الأدب واستحضار العلم بأنها انتصاب بين يدي الجبار العالم بالطويات والأسرار ومنه قوله ) وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) [ طه : 132 ] .
ومن خواص الصلاة اندفاع البلايا وانكشاف الغموم والرزايا .
كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .
وإنها أي الصلاة أو الاستعانة أو جميع المأمورات والمنهيات في هذه الآيات لكبيرة لشاقة ثقيلة ) كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ) [ الشورى : 13 ] ( إلا على الخاشعين الذين يظنون ( يعلمون أنهم ملاقو جزاء ربهم وأنهم إلى حكمه راجعون ، فتصدر عنهم الأعمال مع طيب نفس وانشراح صدر ، وهذا بخلاف حال المنافقين الذين غذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً .
فالملحد إذا لم يعتقد في فعلها منفعة لا يواتيه طبعه في الاشتغال بها وإن كان زماناً يسيراً فتثقل عليه ، والموحد حيث اعتقد في فعلها أعظم المنافع وهو الفوز بالنعيم المقيم والخلاص من العذاب الأليم يهون عليه تزجية الأوقات بوظائف العبادات .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي حتى تورّمت قدماه ، ومع ذلك يقول : ( يا بلال روّحنا ) ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) والخشوع والخضوع أخوان وهما التطامن والتواضع ، ومنه الخشعة للأكمة المتواضعة .
وفي الحديث ( كانت الأرض خاشعة على الماء ثم دحيت ) وللظن ههنا تفسيران : أحدهما أنه بمعنى العلم تجوّزاً لأن الظن هو الإعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض ، وتجويز نقيض لقاء الرب أي البعث والنشور كفر فكيف يمدح به ؟ وسبب هذا التجوز أنهما يشتركان في رجحان الإعتقاد ، وإن افترقا بتجويز النقيض وعدمه فصح إطلاق(1/277)
" صفحة رقم 278 "
أحدهما على الآخر ، ولا سيما إذا كان الظن عن أمارة قوية تقرّبه من العلم .
وثانيهما أن الظن بمعناه الحقيقي والمراد بملاقاة الرب ، إما لقاء ثوابه وذلك مظنون لا معلوم ، وإما الموت الذي هو سبب اللقاء ووقته غير معلوم إلا أنه متوقع كل لحظة وقوعاً راجحاً عند المؤمن ، لأنه قطع أمله أو لأنه يحب لقاء ربه ) إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت ) [ الجمعة : 6 ] .
ويحتمل أن يقال : معناه على هذا التفسير الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم بذنوبهم ، فإن الإنسان الخاشع قد يسيء ظنه بنفسه وبأعماله فيغلب على ظنه أنه يلقى الله بذنوبه ، فعند ذلك يتسارع إلى التوبة وذلك من صفات المدح .
وبقي ههنا بحثان : الأول : استدل أهل السنة بالآية على جواز رؤية الله تعالى ، وأنكرها المعتزلة قالوا : اللقاء لا يفيد الرؤية لقوله تعالى ) فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه ) [ التوبة : 77 ] والمنافق لا يرى ربه ، ولقوه ) واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه ) [ البقرة : 223 ] ويشمل الكافر والمؤمن .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ) وأجيب بأن اللقاء في اللغة وصول أحد الجسمين إلى الآخر اتصال التماس ، وهذا اللقاء سبب الإدراك .
فحيث يمتنع حمله على أصله وجب حمله على الإدراك ، لأن إطلاق لفظ السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز .
فإن منع من ذلك أيضاً مانع أضمر بحسب ذلك ، فإن الإضمار خلاف الأصل لا يصار إليه إلا لمانع .
ففي قوله ) إلى يوم يلقونه ) [ التوبة : 77 ] دعت الضرورة إلى إضمار الجزاء ونحوه ، وفي الآية لا ضرورة ، فحمله على الإدراك أولى .
البحث الثاني : المراد من الرجوع إلى الله الرجوع إلى حكمه حيث لا مالك لهم سواه ) لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) [ غافر : 16 ] كما كانوا كذلك في أول الخلق بخلاف أيام حياتهم في الدنيا ، فإنه قد يملك الحكم عليهم ظاهراً غير الله تعالى .
قال المجسمة : الرجوع إلى غير الجسم محال فدل ذلك على كونه تعالى جسماً .
وقال أهل التناسخ : الرجوع إلى الشيء مسبوق بالكون عنده فدلت الآية على كون الأرواح قديمة ولا يخفى جوابهما والله أعلم .(1/278)
" صفحة رقم 279 "
( البقرة : ( 47 - 48 ) يا بني إسرائيل . . . .
" يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون "
( القراآت )
ولا تقبل ( بالتاء الفوقانية ، ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب .
الوقوف : ( العالمين ( ( 5 ) ) ينصرون ( ( 5 ) التفسير : إنما أعاد سبحانه هذا الكلام مرة أخرى توكيداً للحجة وتحذيراً من ترك اتباع ( صلى الله عليه وسلم ) ، كأنه قال : إن لم تطيعوني لأجل سوالف نعمتي عليكم فأطيعوني للخوف من عقابي في المستقبل .
والمراد بالعالمين ههنا الجم الغفير من الناس كقوله ) باركنا فيها للعالمين ) [ الأنبياء : 71 ] .
ويقال : رأيت عالماً من الناس .
يراد الكثرة بقرينة العلم بأنه لم ير كل الناس ، ويمكن أن يكون المراد فضلتكم على عالمي زمانكم ، لأن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك لا يكون من جملة العالمين .
ويحتمل أن يكون لفظ ) العالمين ( عاماً للموجودين ولمن سيوجد لكنه مطلق في الفضل ، والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة .
فالآية تدل على أنهم فضلوا على كل العالمين في أمر ما ، وهذا لا يقتضي أن يكونوا أفضل من كل العالمين في كل الأمور ، فلعل غيرهم يكون أفضل منهم في أكثرها .
وقيل : الخطاب لمؤمني بني إسرائيل لأن عصاتهم مسخوا قردة وخنازير ، وفي جميع ما يخاطب الله تعالى بني إسرائيل تنبيه للعرب لأن الفضيلة بالنبي قد لحقتهم .
وجميع أقاصيص الأنبياء تنبيه وإرشاد ) لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ) [ يوسف : 111 ] .
روي عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول : قد مضى والله بنو إسرائيل وما يعني بما تسمعون غيركم .
واتقاء اليوم هو اتقاء ما يحصل في ذلك اليوم من الشدائد والأهوال ، لأن نفس اليوم لا يتقى .
وقوله ( لا تجزي ( إلى آخر الآية .
الجمل منصوبات المحل صفات متعاقبة لليوم ، والراجع منها إلى الموصوف محذوف تقديره : لا تجزي فيه .
ومنهم من يقول : اتسع فيه فأجرى مجرى المفعول به فحذف الجار وهو ( في ) فبقي لا تجزيه ، ثم حذف الضمير كما حذف في قوله ( أم مال أصابوا ) قال :
فما أدري أغيرهم تناء
وطول العهد أم مال أصابوا
أي أصابوه .
ولا يخفى أن هذا التكلف لا يتمشى في سائر الجمل ، بل يتعين تقدير الجار والمجرور العائد .
ومعنى لا تجزي لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق ، ومنه الحديث في الجذعة ا لتي ضحاها ابن نيار قبل الوقت ( تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك ) و ) شيئاً ((1/279)
" صفحة رقم 280 "
مفعول به ، ويجوز أن يكون في موضع مصدر أي قليلاً من الجزاء مثل ( ولا تظلمون شيئاً ) .
ومعنى تنكير النفس أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس منها شيئاً من الأشياء وهو الإقناط الكلي القاطع للمطامع .
وكذلك قوله ) ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ( أي فدية لأنها معمادلة للمفدى .
وفي الحديث ( ولا يقبل منه صرف ولا عدل ) أي توبة ، لأنها تصرف من الحال الذميمة إلى الحال الحميدة ولا فداء .
والضمير في ) ولا يقبل منها ( يرجع إلى النفس الثانية العاصية غير المجزي عنها وهي التي لا يؤخذ منها عدل .
ومعنى لا تقبل منها شفاعة أنها إن جاءت بشفاعة شفيع لم يقبل منها ، ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى على أنها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها ، كما لا تجزي عنها شيئاً ولو أعطت عدلاً منها لم يؤخذ منها ولا هم ينصرون ، الضمير عائد إلى ما دلت عليه النفس المنكرة من النفوس الكثيرة ، والتذكير بمعنى العباد أو الأناسي مثل ثلاثة أنفس .
وفي وصف اليوم بهذه الصفات تهويل عظيم تنبيه على أن الخطب شديد ، لأنه إذا وقع أحد في كريهة وحاولت أعزته دفاع ذلك عنه ، بدأت بما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية ، فتحمل عنه ما يلزمه وتذب عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوّته ونهاية بطشه .
فإن رأى من لا طاقة له بممانعته عاد بوجوه الضراعة وصنوف الشفاعة وبذل المال والمنال ، فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة ، فإن لم تغن هذه الأمور تعلل بما أمكنه من نصر الإخوان ومدد الأخدان ، فأخبر الله تعالى أن شيئاً من هذه لا يدفع يومئذ عن عذابه .
وفي هذا تحذير من المعاصي وترغيب في تلافي ما فات بالتوبة ، لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك ولا شفاعة ولا نصرة ولا فدية ، علم أنه لا ينفعه إلا الطاعة وتلافي البوادر .
فالآية وإن كانت في بني إسرائيل إلا أنها تعم كل من يحضر ذلك اليوم .
فإن قيل : قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الدية ، وفي موضع آخر من هذه السورة عكست القضية ، فما الحكمة في ذلك ؟ قلنا : من الناس من ميله إلى حب المال أشدّ من ميله إلى علو النفس فيتمسك أوّلاً بالشفيع ثم يستروح إلى بذل المال ، ومنهم من على العكس فيقدم الفدية على الشفاعة ، فتغيير الترتيب إشارة إلى الصنفين والله أعلم .
واعلم أن الشفاعة هي أن يستوهب أحد لأحد شيئاً ويطلب له حاجة من الشفع ضد الوتر ، كأن صاحب الحاجة كان فرداً فصار بالشفيع شفعاً .
ثم إن الأمة أجمعت على أن لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) رتبة الشفاعة في الآخرة ، وعليه يحمل قوله تعالى ) عسى أن يبعثك ربك مقاما محموداً ) [ الإسراء : 79 ] ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) [ الضحى : 5 ] .
وأجمعوا على أنه لا شفاعة للكفار .
بقي الخلاف فيمن عداهم .
فأهل السنة أثبتوا الشفاعة لغير الكفار ،(1/280)
" صفحة رقم 281 "
والمعتزلة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب بقي خالداً في النار ولا شفاعة له وسائر الناس لهم الشفاعة .
قالوا : إن هذه الآية تدل على نفي الشفاعة مطلقاً ، والآيات والأحاديث الدالة على وجود الشفاعة كثيرة ، فعرفنا أن الآية ليست على عمومها ، لكن الآيات الواردة في وعيد صاحب الكبيرة كثيرة كقوله تعالى ) ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها ) [ الجن : 23 ] فخرج غير صاحب الكبيرة وبقيت الآية حجة في الكفار وفي صاحب الكبيرة .
وزعم أهل السنة أن اليهود كانوا يدعون أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا من ذلك .
وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وسوف يجيء سائر حجج الفريقين في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى .
وقالت الفلاسفة في تحقيق الشفاعة : إن واجب الوجود عام الفيض والنقصان من القابل ، وجائز أن لا يكون الشيء مستعداً لقبول الفيض من واجب الوجود إلا أن يكون مستعداً لقبول ذلك الفيض من شيء قبله عن واجب الوجود ، فيكون ذلك الشيء متوسطاً بين الواجب .
وذلك الشيء مثاله في المحسوس الشمس ، فإنها لا تضيء إلا القابل المقابل ، والسقف لما لم يكن مقابلاً لم يكن مستعداً لقبول النور منها ، لكنه لو وضع طست مملوء من الماء الصافي انعكس منه الضوء إلى السقف .
فأرواح الأنبياء كالوسائط بين واجب الوجود وبين أرواح عوام الخلق كالماء بين الشمس وبين السقف ، وهذا يدل على أنه لا واسطة بين الله تعالى وبين عباده أشرف من نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حيث إنه لا شفاعة إلا له .
( البقرة : ( 49 - 53 ) وإذ نجيناكم من . . . .
" وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون "
( القراآت )
سوء العذاب ( و ) سوء الحساب ( بغير همز حيث وقعتا مفتوحتين : الأصبهاني عن ورش .
) وعدنا ( حيث كان أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد .
) موسى ( بالإمالة المفرطة كل القرآن : حمزة وعلي وخلف وعن أبي عمرو وجهان : إن جعلته ( فعلى ) فبالإمالة بين الفتح والكسر ، وإن جعلته على ( مفعل ) فبالفتح لا غير ) ثم اتخذتم ( وبابه بالإظهار : ابن كثير وحفص والمفضل والأعشى والبرجمي .
) والفرقان لعلكم ( مدغماً : عباس ، وكذلك يدغم إذا كان قبل النون حرف من حروف المد واللين وهي الواو والمضموم ما قبلها مثل ) وتكون لكما الكبرياء ( والياء المكسور ما قبلها مثل ) ميثاق النبيين لما ( والألف المفتوح ما قبلها مثل ) وما كان لمؤمن ( وما أشبه ذلك .(1/281)
" صفحة رقم 282 "
الوقوف : ( نساءكم ( ( ط ) ) عظيم ( ( 5 ) ) تنظرون ( ( 5 ) ) ظالمون ( ( 5 ) ) تشكرون ( ( 5 ) ) تهتدون ( ( 5 ) التفسير : إنه سبحانه لما قدّم ذكر النعمة على بني إسرائيل إجمالاً أخذ في تفصيلها واحدة فواحدة ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة كأنه قال : اذكروا نعمتي ، واذكروا إذ نجيناكم ، وإذ فرقنا ، وإذ كان كذا وكذا .
( وإذ ) في جميع هذه القصص بمعنى مجرد الوقت مفعول به ل ( اذكروا ) وأصل الإنجاء والتنجية التخليص ، ومنه النجوة للمكان العالي لأن من صار إليه نجا أي تخلص من أن يعلوه سيل ، أو لأن الموضع تخلص مما انحط عنه .
وأصل آل أهل بدليل أهيل وأهال في تحقيره وتكسيره على الأعرف ، فأبدلت إلى ( أءل ) على خلاف القياس ، ثم إلى ( آل ) وجوباً فالألف فيه بدل عن همزة بدل عن هاء .
ولا يستعمل الآل إلا فيمن له خطر .
يقال ( آل النبي ) ( وآل الملك ) ولا يقال : آل الحائك .
وإنما يقال أهله ، وهكذا لا يقال : آل البلد وآل العلم ، وإنما يقال أهلهما .
وعند الكسائي ، أصله أول بدليل تصغيره على أويل ، كأنهم يؤلون إلى أصل قلبت الواو ألفاً على القياس .
و ) فرعون ( علم لمن ملك العمالقة أولاد عمليق ابن لاوذ بن أرم بن سام بن نوح كقيصر لملك الروم ، وكسرى لملك الفرس ، وخاقان للترك ، وتبع لليمن .
واختلف في اسمه .
فابن جريج : أن اسمه مصعب بن ريان .
وابن إسحق : أنه الوليد بن مصعب .
ولم يكن من الفراعنة أغلظ وأقسى قلباً منه .
وعن وهب بن منبه : أن أهل الكتابين قالوا : إن اسمه قابوس وكان من القبط .
وقيل : إن فرعون يوسف هو فرعون موسى .
وضعف إذ كان بين دخول يوسف مصر وبين دخول موسى أكثر من أربعمائة سنة .
وقال محمد بن إسحاق : هو غير فرعون يوسف وإن اسم فرعون يوسف الريان بن الوليد .
والمراد بآل فرعون أتباعه وأعوانه الذين عزموا على إهلاك بني إسرائيل بأمره .
ولعتوّ الفراعنة اشتقوا ( تفرعن ) فلان إذا عتا وتجبر .
و ) يسومونكم ( من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً .
قال عمرو بن كلثوم :
إذا ما الملك سام الناس خسفاً
أبينا أن نقر الخسف فينا
وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونكم عليه .
والسوء مصدر السيء يقال : أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفجور يراد قبحهما .
ومعنى سوء العذاب والعذاب كله سيئ أشده وأفظعه ، كأنه قبحه بالإضافة إلى سائره ، أو المراد عذاب من غير استحقاق ، لأن العذاب بالاستحقاق حسن واختلف في سوء العذاب فابن إسحق : إنه جعلهم خدماً وخولاً وصنفهم في أعماله ، فمن بان وحارث وزارع ومن لم يكن(1/282)
" صفحة رقم 283 "
ذا عمل وضع عليه جزية يؤديها .
السدي : كان يجعلهم في الأعمال القذرة ككنس الكنيف ونحوه ، ولا ريب أن كون الإنسان تحت تصرف الغير كيف شاء لا سيما إذا استعمله في الأعمال الشاقة القذرة من غير أن يأخذه بهم رأفة وإشفاق ، من أشدّ العذاب ، حتى إن من هذه حاله ربما يتمنى الموت .
سئل حكيم : أي شيء أصعب من الموت ؟ فقال : ما يتمنى فيه الموت .
فبين تعالى عظيم نعمته عليهم بأن نجاهم من ذلك ، ثم أتبع نعمة أخرى فقال ) يذبحون أبناءكم ( ومعناه هم يقتلون الذكور من أولادكم دون الإناث .
والذي دعاهم إلى ذلك أمور منها : أن ذبح الأبناء يقتضي إفناء الرجال وانقطاع النسل بالآخرة .
ومنها أن هلاك الرجال يقتضي فساد معيشة النساء حتى يتمنين الموت من النكد والضر .
ومنها أن قتل الولد عقيب الحمل والكد والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب .
ومنها أن الأبناء أحب وأرغب من البنات ولهذا قيل :
سروران مالهما ثالث
حياة البنين وموت البنات
لقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( دفن البنات من المكرمات ) ومنها أن بقاء النسوان بدون الذكران يوجب صيرورتهن مستفرشات للأعداء ، وذلك نهاية الذل والهوان .
قال بعضهم : المراد بالأبناء الرجال ليطابق النساء ، إذ النساء اسم للبالغات وهو جمع المرأة من غير لفظها .
قالوا : وإنما كان يأمر بقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج عليه والتجمع لإفساد أمره .
والأكثرون على أن المراد بالأبناء الأطفال لظاهر اللفظ ، ولأنه كان يتعذر قتل جميع الرجال على كثرتهم ، ولأنهم كانوا محتاجين إليهم في الأعمال الشاقة ، ولأنه لو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى في اليم معنى .
وإنما لم يقل البنات في مقابلة الأبناء لأنهن لما لم يقتلن كن بصدد أن يبلغن ، فحسن إطلاق اسم النساء عليهن مثل ) إني أراني أعصر خمراً ) [ يوسف : 36 ] عن ابن عباس : أنه وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً ، فخافوا ذلك واتفقت كلمتهم على أعداد رجال معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه ، فلما رأوا أن كبارهم يموتون ، والصغار يذبحون ، خافوا فناءهم وأن لا يجدوا من يباشر الأعمال الشاقة ، فصاروا يقتلون عاماً دون عام .
وعن السدي : أن فرعون رأى ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى استولت على بيوت مصر وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل ، فدعا فرعون الكهنة وسألهم عن ذلك فقالوا : يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القبط على يده .
وقيل : إن المنجمين أخبروا فرعون بذلك وعينوا له السنة ، فلهذا كان يقتل أبناءهم من تلك السنة .
قيل : والأقرب هو الأول ، لأن المستفاد من علم النجوم والتعبير لا يكون أمراً مفصلاً ، وإلا قدح ذلك في كون الإخبار(1/283)
" صفحة رقم 284 "
عن الغيب معجزاً ، بل يكون أمراً جميلاً ، والظاهر من حال العاقل أن لا يقدم على هذا الأمر العظيم بسببه ( قلت ) كون فرعون عاقلاً ممنوع ، فإن من شك في أجلى البديهيات وهو أنه ممكن الوجود ، فعدّه من العقلاء لا يكون من العقل .
ثم قال ذلك القائل : لعل فرعون كان عارفاً بالله وبصدق الأنبياء إلا أنه كان كافراً كفر الجحود والعناد ، أو يقال إنه كان شاكاً متحيراً في دينه وكان يجوّز صدق إبراهيم عليه السلام ، وأقدم على ذلك الفعل احتياطاً .
( قلت ) : إذا أخبر الله تعالى عنه بأنه قال ) أنا ربكم الأعلى ) [ النازعات : 24 ] و ) ما عملت لكم من إله غيري ) [ القصص : 38 ] فلا ضرورة بنا إلى تجويز كونه عارفاً بالله وبصدق الأنبياء وجعل كفره كفر جحود ) ومن أصدق من الله قيلا ) [ النساء : 122 ] ( ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ) [ النور : 40 ] فإن قلت : لم ذكر ) يذبحون ( ههنا بلا ( واو ) ، وفي سورة إبراهيم بواو ؟ فالوجه فيه أنه إذا جعل ) يسومونكم سوء العذاب ( مفسراً بقوله ) يذبحون ( فلا حاجة إلى الواو ، وإذا جعل ) يسومونكم ( مفسراً بسائر التكاليف الشاقة سوى الذبح ، وجعل الذبح شيئاً آخر احتيج إلى الواو .
وإنما جاء ههنا ) يذبحون ( وفي الأعراف ) يقتلون ( بغير واو لأنهما من كلام الله فلم يرد تعداد المحن عليهم .
والذي في إبراهيم من كلام موسى فعدّ المحن عليهم وكان مأموراً بذلك في قوله ) وذكرهم بأيام الله ) [ إبراهيم : 5 ] وقال بعضهم : إن معنى يستحيون يفتشون حياء المرأة أي فرجها ، هل بها حمل أم لا ؟ وفيه تعسف .
والبلاء المحنة إن أشير بذلك إلى صنيع فرعون ، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء ، والحمل على النعمة أولى لأنها هي التي يحسن إضافتها إلى الرب تعالى ، ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم حيث عاينوا إهلاك من حاول إهلاكهم وإذلال من بالغ في إذلالهم .
وههنا نكتة ، وهي أنهم كانوا في نهاية الذل ، وخصهم في غاية الاستيلاء والغلبة ، إلا أنهم كانوا محقين وخصومهم مبطلين ، فانقلب المحق غالباً والمبطل مغلوباً ، فكأنه قيل : لا تغتروا بفقر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقلة أنصاره في الحال ، فإنه سينقلب العز إلى جانبه ( صلى الله عليه وسلم ) ، والذل إلى جانب أعدائه .
وفيه تنبيه على أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء ، فليس للإنسان أن يغتر بعز الدنيا وينسى أمر الآخرة .
قال أهل الإشارة : النفس الأمارة وصفاتها الذميمة وأخلاقها الرديئة تسوم الروح الشريف ذبح أبناء الصفات الروحانية الحميدة واستحياء بعض الصفات القلبية لاستخدامهن في الأعمال القذرة الحيوانية ولا ينجيه من ذلك إلا الله تعالى .
قوله ) وإذ فرقنا ( نعمة أخرى في نعمة أي فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه سالك لكم على عدد الأسباط وكانوا اثني عشر .
ومعنى بكم أنهم كانوا يسلكونه ويتفرق الماء كما يفرق بين الشيئين بما يوسط بينهما ، أو يراد فرقناه بسبب إنجائكم ، أو يكون حالاً(1/284)
" صفحة رقم 285 "
أي ملتبساً بكم .
روي أنه تعالى لما أراد غرق فرعون والقبط وبلغ بهم الحال في معلوم الله تعالى أنه لا يؤمن أحد منهم ، أمر موسى بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ، إما ليخرجوا خلفهم لأجل المال ، وإما لتبقى أموالهم في أيديهم .
ثم نزل جبريل وقال : أخرج ليلاً كما قال تعالى ) وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ) [ الشعراء : 52 ] وكانوا ستمائة ألف ، وكل سبط خمسون ألفاً .
فلما خرجوا وبلغ الخبر فرعون قال : لا تتبعوهم حتى يصيح الديك .
قال الراوي : فوالله ما صاح الليلة ديك .
فلما أصبحوا دعا فرعون بشاة فذبحت ثم قال : لا أفرغ من تناول كبد هذه الشاة حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط .
قال قتادة : فاجتمع إليه ألف ألف ومائتا ألف ، كل واحدٍ منهم على فرس حصان فتبعوهم نهاراً وهو قوله ) فاتبعوهم مشرقين ) [ الشعراء : 60 ] أي بعد طلوع الشمس .
فلما سار بهم موسى إلى البحر قال له يوشع : أين أمرك ربك ؟ فقال له موسى : إلى أمامك .
وأشار إلى البحر - فأقحم يوشع فرسه في البحر وكان يمشي في الماء حتى بلغ الغمر ، فسبح الفرس وهو عليه ، ثم رجع وقال له يا موسى : أين أمرك ربك ؟ فقال : البحر .
فقال : والله ما كذبت وما كذب .
ففعل ذلك ثلاث مرات فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر ، فانشق البحر اثني عشر طريقاً .
فقال له : ادخل ، وكان فيه وحل فهب الصبا نحو البحر حتى صار طريقاً يبساً ، فاتخذ كل سبط منهم طريقاً ودخلوا فيه ، فقالوا لنبيهم : أين أصحابنا لا نراهم ؟ فقال موسى : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم .
قالوا : لا نرضى حتى نراهم .
فقال : اللهم أعني على أخلاقهم السيئة .
فأوحى إليه أن قل بعصاك هكذا ، فقال بها على حيطان المياه فصارت فيها كوى فتراءوا وتسامعوا كلامهم .
ثم اتبعهم فرعون فلما بلغ شاطئ البحر رأى إبليس واقفاً فنهاه عن الدخول فهمّ بأن لا يدخل البحر ، فجاء جبريل على مهرة فتقدم وهو كان على فحل ، فتبعه فرس فرعون ودخل البحر ، فصاح ميكائيل بهم ألحقوا آخركم بأوّلكم ، فلما دخلوا البحر الكلية أمر الله تعالى الماء حتى نزل عليهم فذلك قوله تعالى ) وأغرقنا آل فرعون ( قيل : ذلك اليوم كان يوم عاشوراء ، فصام موسى عليه السلام ذلك اليوم شكراً لله تعالى ، ومعنى قوله ) وأنتم تنظرون ( أنكم ترون التطام أمواج البحر بفرعون وقومه .
وقيل : إن قوم موسى سألوا أن يريهم الله تعالى حالهم ، فسأل موسى ربه فلفظهم البحر ألف ألف ومائة ألف نفس فنظروا إليهم طافين .
وقيل : المراد وأنتم بالقرب منهم .
قال الفراء : وهو مثل قولك ( لقد ضربتك وأهلك ينظرون إليك فما أغاثوك ) تقول ذلك غذا قرب أهله منه وإن كانوا لا يرونه ومعناه راجع إلى العلم .
قال أهل الإشارة : البحر هو الدنيا ، وماؤه شهواتها ولذاتها ، وموسى القلب ، وقومه صفات القلب ، وفرعون النفس الأمارة ، وقومه صفات النفس ، والعصا عصا الذكر ، فينفلق بحر الدنيا بتفليق لا إله إلا الله ، وينشبك ماء شهواته(1/285)
" صفحة رقم 286 "
يميناً وشمالاً ، ويرسل الله تعالى ريح العناية وشمس الهداية على قعر بحر الدنيا فيصير يابساً من ماء الشهوات ، فيخوض موسى القلب وصفاته فيعبرونه وتنجيهم عناية الله إلى ساحل ) وإن إلى ربك المنتهى ) [ النجم : 42 ] ويغرق فرعون النفس وقومه والله تعالى أعلم .
ولما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه ، وعد الله موسى .
ونسبه : موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام .
أن ينزل عليه التوراة وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة ، وإنما قيل أربعين ليلة لأن الشهور غررها بالليالي .
وقال أهل التحقيق : لأن الليلة وقت العبادة والخلوة فخصت بالذكر لشرفها .
ولعدد الأربعين خاصية لن ينكرها أهل الذوق ، ولهذا جاء في الحديث ( من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ) والجنين يتقلب في الأطوار في الأربعينات ، قال أبو العالية : وبلغنا أنه لم يحدث حدثاً في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور .
ولا بد من تقدير مضاف أي انقضاء أربعين كقولك ( اليوم أربعون يوماً منذ خرج فلان ) أي تمام الأربعين .
ومن قرأ ) واعدنا ( من المواعدة فمعناه أن الله تعالى وعده الوحي ووعد هو المجيء للميقات إلى الطور .
وذكر الأربعين ههنا مجمل وتفصيله في الأعراف كقوله : ( ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ) [ البقرة : 196 ] فصل أولاً ثم أجمل .
ومعنى ( ثم ) في قوله ) ثم اتخذتم ( استبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها وعدم مناسبته له ، لأنه تعالى لما وعد موسى حضور الميقات لإنزال التوراة عليه بحضرة السبعين تنبيهاً للحاضرين وتعريفاً للغائبين وإظهاراً لدرجة موسى وسائر بني إسرائيل ، وأتوا عقيب ذلك بأشنع أنواع الجهل والكفر ، كان ذلك في محل التبعيد والتعجيب كما تقول : إنني أحسنت إليك وفعلت كذا وكذا ثم إنك تقصدني بالسوء والإيذاء .
والاتخاذ افتعال من الأخذ إلا أنه أدغم بعد تليين الهمزة وإبدال التاء ، ثم لما كثر استعماله على لفظ الافتعال توهموا أن التاء أصلية فبنوا منه ( فعل ) ( يفعل ) وقالوا : يخذ يتخذ ، وقد أجرى اتخذ مجرى الأفعال القلبية في الدخول على المبتدأ والخبر نحو ( جعل ) و ( صير ) والتقدير : اتخذتم العجل إلهاً إلا أنه حذف الثاني للعلم به ولذكره في مواضع أخر منها في طه ) فقالوا هذا الهكم وإله موسى ) [ طه : 88 ] وقوله من بعده من بعد مضيه غلى الطور .
قال أهل السير : لما ذهب موسى إلى الطور وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحلي التي استعاروها من القبط ، قال لهم هارون : إن هذه الثياب الحلي لا تحل لكم فأحرقوها ، فجمعوا ناراً وأحرقوها .
وكان السامري في مسيره مع(1/286)
" صفحة رقم 287 "
موسى عليه السلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل حين تقدّم في البحر ، فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة .
ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب وصوّر منه عجلاً وألقى فيه ذلك التراب فخرج منه صوت كأنه الخوار ) فقالوا هذا الهكم وإله موسى ) [ طه : 88 ] فاتخذه إلهاً لأنفسهم ، ولهذا وصفهم الله تعالى بالظلم في قوله ) وأنتم ظالمون ( كما قال ) إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13 ] وذلك أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، والمشرك وضع أخس الأشياء مكان أشرف الموجودات .
والواو في ) وأنتم ( إما للحال وإما للاعتراض أي وأنتم قوم من عادتكم الظلم ، وقال أهل التحقيق : إن لكل قوم عجلاً يعبدونه .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة ) وقال ( ما عبد إله أبغض إلى الله من الهوى ) وفيه تقريع لليهود الذين جادلوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعادوه كأنه قال : هؤلاء إنما يفتخرون بأسلافهم ، ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة والجهالة والعناد إلى هذا الحد ، فكيف بهؤلاء الأخلاف ؟ وتسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) مما كان يشاهد من مشركي العرب واليهود والنصارى من الخلاف والمشاقة ) فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ) [ الأحقاف : 35 ] وتحذير للعقلاء من الجهل والتقليد إلى هذه الغاية .
ما أفظع شأن الجهلة المقلدة ، رضوا بأن يكون العجل إلهاً ، وما رضوا بأن يكون البشر نبياً وقد تمعل بعضهم لتصحيح واقعة عبدة العجل حيث استبعد وقوعها منهم مع أنهم شاهدوا تلك المعجزات الباهرة التي تكاد تكون قريبة من حد الإلجاء في الدلالة على الصانع وصدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
إن السامري ألقى إلى القوم أن موسى ( صلى الله عليه وسلم ) إنما قدر على ما ى به لأنه كان يتخذ طلسمات على قوى فلكية فقال للقوم : أنا أتخذ لكم طلسماً مثل طلسمه ، وروّج عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صوت عجيب ، وأطمعهم في صيرورتهم مثل موسى في إتيان الخوارق ، أو لعل القوم كانوا مجسمة وحلولية فجوزوا حلول الإله في الأجسام فوقعوا في تلك الشبهة الركيكة ، وههنا يظهر التفاوت بين أ مة موسى وأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنهم بعد مشاهدة الآيات العظام القريبة من الأفهام عبدوا الأصنام بل الأنعام ، وأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أن معجزتهم القرآن الذي لا يعرف إعجازه إلا بالنظر الدقيق والبحث العميق لم يخالفوا نبيهم طرفة عين ) رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) [ الأحزاب : 23 ] ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) [ النور : 37 ] لا يزيغون عن سواء السبيل ولا يميلون إلى معتقدات أهل الأباطيل ) مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ) [ الفتح : 29 ] .(1/287)
" صفحة رقم 288 "
قوله : ( ثم عفونا عنكم ( أي حين تبتم بأن قتلتم أنفسكم ) من بعد ذلك ( الأمر العظيم الذي ارتكبتموه من اتخاذ العجل ) لعلكم تشكرون ( نعمة العفو .
ومعنى الترجي في كلام الله تعالى قد مر في قوله ) لعلكم تتقون ( الكتاب والفرقان يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل يعني التوراة نحو : رأيت الغيث والليث ، يريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة .
أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان العصا واليد وغيرهما من الآيات ، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام .
وقيل : الفرقان انفراق البحر ، ولا يلزم التكرار لأنه لم يبين هناك أن ذلك لأجل موسى وفي هذه الآية بين ذلك التخصيص على سبيل التنصيص .
وقيل : النصر الذي فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى ) يوم الفرقان ) [ الأنفال : 41 ] يعني يوم بدر .
وقيل : آتينا موسى التوراة ومحمداً الفرقان لكي تهتدوا به يا أهل الكتاب وفيه تعسف .
( البقرة : ( 54 - 57 ) وإذ قال موسى . . . .
" وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون "
( القراآت )
بارئكم ( بالإمالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو من طريق أبي الزعراء ، وعبد الرحمن بن عبدوس .
وقرأ أبو عمرو بالاختلاس ) أنه هو ( مدغماً : أبو عمرو غير عباس ، وكذلك كل ما كان بينهما ياء أو واو ملفوظة مثل ) ومن دونه هو ( ) وأنه هو ( وأشباه ذلك .
) حتى ( حيث كان بالإمالة : نصير والعجلي ) نرى الله ( مكسورة الراء : روى ابن رومي عن عباس وأبو شعيب عن اليزيدي ، وكذلك كل راء بعدها ياء استقبلها ألف ولام مثل ) ولو يرى الذين ( ) والنصارى المسيح ( ) جهرة ( مفتوحة الهاء : قتيبة ) السلوى ( بالإمالة الشديدة : حمزة وعلي وخلف .
وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة وكذلك كل كلمة على مثال ( فعلى ) .
الوقوف : ( فاقتلوا أنفسكم ( ( ط ) ) عند بارئكم ( ( ط ) لأن التقدير ففعلتم ) فتاب عليكم ( ( ط ) ) الرحيم ( ( 5 ) ) تنظرون ( ( 5 ) ) تشكرون ( ( 5 ) ) السلوى ( ( ط ) ) ما رزقناكم ( ط ) ) يظلمون ( 5(1/288)
" صفحة رقم 289 "
التفسير : إنه سبحان نبههم على عظم ذنبهم ثم على ما به يتخلصون منه ، وذلك من أعظم النعم في الدين وأيضاً لما أمرهم بالقتل ورفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكلية ، كان ذلك نعمة في حق أولئك الباقين وفي أعقابهم إلى زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأيضاً لما بين أن توبة أولئك ما تمت إلا بالقتل ، ظهر أن بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لهم نعمة ورحمة لأنه لا يأمرهم بشيء من ذلك متى رجعوا عن كفرهم .
وفيه ترغيب لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في التوبة ، فإن أمة موسى لما رغبوا في تلك التوبة مع نهاية مشقتها على النفس فلأن يرغب أحدنا في مجرد الندم كان أولى .
هذا وقد مر أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه إلا أنه لا بد فيه من تعدي ضرر ، فبين ههنا أن الضرر إنما يعود على أنفسهم فبذلك استحقوا العذاب الأبدي .
والفرق بين الفاءات الثلاثة في الآية ، أن الأولى للتسبيب لا غير لأن الظلم سبب التوبة .
والثانية للتعقيب إما لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم على أن التوبة مفسرة بقتل النفس في شرعهم لا بالندم ، وإما لأن القتل تمام توبة المرتد في شرعهم ، والمعنى فتوبوا فتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم كما أن القاتل عمداً لا تتم توبته في شرعنا إلا بتسليم النفس حتى يرضى أولياء المقتول أو يقتلونه .
ومعنى ) إلى بارئكم ( النهي عن الرياء في التوبة كأنه قيل : لو أظهرتم التوبة لا عن القلب فأنتم ما تبتم إلى الله وإنما تبتم إلى الناس .
وقوله ( ذلكم ( أي القتل ) خير لكم عند بارئكم ( جملة معترضة تفيد التنبيه على أن ضرر الدنيا أهون من عذاب الآخرة إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي .
والموت لا بد واقع فليس في تحمل القتل إلا التقديم والتأخير .
والثالثة هي الفاء الفصيحة أي المفصحة عن محذوف تقديره : فامتثلتم فتاب عليكم .
وعلى هذا يكون الكلام خطاباً من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات ، ويمكن أن يقال : المحذوف شرط منتظم في جملة قول موسى كأنه قال فإن فعلتم فقد تاب عليكم ، وإنما اختص هذا الموضع بذكر البارئ لأن معناه كما مر في الأسماء الذين خلق الخلق على الوجوه الموافقة للمصالح والأغراض ، ففيه تقريع لما كان منهم من ترك عبادة العليم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال المختلفة برآء من التنافر مناسبة للحكم والمقاصد إلى عبادة العجل الذي هو مثل في البلادة والغباوة ، فلا جرم كان جزاؤهم تفكيك ما ركب من خلقهم وتبديل .
من أشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها باتخاذ من لا يقدر على شيء منها .
والمراد بقتل الأنفس إما ما يقتضيه ظاهر اللفظ وهو أن يقتل كل واحد نفسه ، والقتل اسم للفعل المؤدي إلى زهوق الروح في الحال أو في المآل .
وإما قتل بعضهم بعضاً وعليه المفسرون لقوله تعالى ) ولا تقتلوا أنفسكم ) [ النساء : 29 ] ( ولا تلمزوا أنفسكم ) [ الحجرات : 11 ] ( فسلموا على(1/289)
" صفحة رقم 290 "
أنفسكم ) [ النور : 61 ] وذلك أن المؤمنين كنفس واحدة .
ثم اختلفوا فقيل : إنه أمر من لم يعبد العجل من السبعين المختارين لحضور الميقات أن يقتل من عبد العجل منهم .
وقيل : لما أمرهم موسى عليه السلام بالقتل أجابوا فأخذ عليهم المواثيق ليصبرن على القتل فأصبحوا مجتمعين كل قبيلة على حدة ، وأتاهم هارون بالاثني عشر ألفاً الذين ما عبدوا العجل وبأيديهم السيوف فقال : إن هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين للسيوف فاجلسوا بأفنية بيوتكم واتقوا الله واصبروا ، فلعن الله رجلاً قام من مجلسه أو مد طرفه إليهم أو اتقاهم بيد أو رجل ويقولون آمين .
روي أن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه فلم يمكنه المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها ، فجعلوا يقتلونهم إلى المساء .
وقام موسى وهارون يدعوان الله ويقولان : هلكت بنو إسرائيل ، البقية البقية يا الهنا .
فكشفت الضبابة والسحابة ، وأوحى الله تعالى إليه : قد غفرت لمن قتل ، وتبت على من لم يقتل .
قالوا : وكانت القتلى سبعين ألفاً .
وقيل : كانوا قسمين : منهم من عبد العجل ، ومنهم من لم يعبد .
ولكن لم ينكر على من عبده فأمر من لم يشتغل بالإنكار بقتل من اشتغل بالعبادة .
والقائلون بأن العجل عجل الهوى قالوا : معنى قتل الأنفس هو قمع الهوى لأن الهوى حياة النفس .
قوله : ( وإذا قلتم يا موسى ( ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الواقعة كانت قبل أن كلف الله عبدة العجل بالقتل .
قال محمد بن إسحاق : لما رجع موسى عليه السلام من الطور إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه والسامري ما قال وأحرق العجل ونسفه في اليم ، اختار سبعين رجلاً من خيارهم .
فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى : سل ربك حتى نسمع كلامه .
فسأل موسى ذلك فأجابه الله إليه ، فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله ، ودنا موسى عليه السلام من ذلك الغمام حتى دخل فيه فقال للقوم : ادخلوا وعوا .
وكان موسى متى كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني إسرائيل النظر إليه .
وسمع القوم كلام الله مع موسى يقول له : افعل ولا تفعل .
ومن جملة الكلام ( إني أنا الله لا إله إلا أنا ذو بكة ، أخرجتكم من أرض مصر فاعبدوني ولا تعبدوا غيري ) .
فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغمام الذي دخل فيه فقال لالقوم بعد ذلك ) لن نؤمن لك ( أي لن نصدقك ولن نقر بنبوتك ) حتى نرى الله جهرة ( عياناً ، وهي مصدر قولك جهر بالقراءة والدعاء ، كأن الذي يرى بالعين يجاهر بالرؤية ، والذي يرى بالقلب يخافت بها .
وانتصابها على نحو انتصاب ( قعد القرفصاء ) لأن هذه نوع من الرؤية كما أن تلك نوع من القعود ، ويحتمل أن يكون نصبها على الحال بمعنى ذوي جهرة .
ومن قرأ(1/290)
" صفحة رقم 291 "
) جهرة ( بفتح الهاء فإما لأنه مصدر كالغلبة ، وإما لأنه جمع جاهر .
وإنما أكدوا بهذا لئلا يتوهم أن المراد بالرؤية العلم أو التخيل على ما يراه النائم ) فأخذتكم الصاعقة ( وهي ما صعقهم أي أماتهم .
فقيل : نار وقعت من السماء فأحرقتهم ، وقيل : صيحة جاءت من السماء ، وقيل : أرسل الله جنوداً سمعوا بحسها فخروا صعقين ميتين يوماً وليلة .
وصعقة موسى في قوله ) وخر موسى صعقاً ) [ الأعراف : 143 ] لم تكن موتاً ولكن غشية بدليل ) فلما أفاق ) [ الأعراف : 143 ] والظاهر أنه أصابهم ما ينظرون إليه لقوله ) وأنتم تنظرون ( فرفع موسى يديه إلى السماء يدعو ويقول : إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلاً ليكونوا شهودي بقبول توبتهم فأرجع إليهم وليس معي أحد ، فما الذي يقولون فيّ ؟ فلم يزل يدعو حتى رد الله إليهم أرواحهم وذلك قولهم ) ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ( نعمة البعث بعد الموت ، أو نعمة الله بعدما كفرتموها فطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل فقال : لا إلا أن يقتلوا أنفسهم .
وقيل : إن هذه الواقعة كانت بعد القتل .
قال السدي : لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم ، أمر الله أن يأتيه موسى في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادتهم العجل ، فاختار موسى سبعين رجلاً .
فلما أتوا الطور قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وماتوا ، فقام موسى يبكي ويقول : يا رب ، ماذا أقول لبني إسرائيل فإني أمرتهم بالقتل ثم اخترت من بينهم هؤلاء ، فإذا رجعت إليهم ولا يكون معي أحد منهم فماذا أقول لهم ؟ فأوحى الله إلى موسى : إن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل إلهاً .
فقال موسى : إن هي إلا فتنتك .
فأحياهم الله تعالى فقاموا ونظر كل واحد إلى الآخر كيف يحييه الله تعالى .
فقالوا : يا موسى إنك لا تسأل الله شيئاً ، إلا أعطاك ، فادعه يجعلنا أنبياء .
فدعا بذلك فأجاب الله دعوته .
هذا ما قاله المفسرون ، وليس في الآية ما يدل على ترجيح أحد القولين على الآخر ، ولا على أن الذين سألوا الرؤية عبدة العجل أم لا ، والصحيح أن موسى لم يكن من جملة الصعقين في هذه الواقعة لأنه خطاب مشافهة ، ولأنه لو تناوله لوجب تخصيصه بقوله في حق موسى ) فلما أفاق ) [ الأعراف : 143 ] مع أن لفظة ( الإفاقة ) لا تستعمل في الموت .
ثم في الآية فوائد منها : التحذير لمن كان في زمان نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) عن فعل ما يستحق بسببه أن يفعل به ما فعل بأولئك .
ومنها تشبيه جحودهم معجزات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بجحود أسلافهم نبوة موسى عليه السلام مع مشاهدتهم لعظم تلك الآيات ليتنبهوا أنه إنما لا يظهر على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مثلها لعلمه بأنه لو أظهرها لجحودها ، ولو جحدوها لاستحقوا العقاب كما استحقه أسلافهم .
ومنها التسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتثبيت فؤاده كي يصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل .(1/291)
" صفحة رقم 292 "
ومنها إزالة شبهة من يقول إن نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لو صحت لكان أولى الناس بالإيمان به أهل الكتاب ، حيث إنهم عرفوا خبره ، وذلك أنه تعالى بيَّن أن أسلافهم بعد مشاهدة تلك الآيات كانوا يرتدون كل وقت ويتحكمون عليه ، فكيف يتعجب من مخالفتهم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وإن وجدوا في كتبهم أخبار نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) .
و منها لما أخبر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عن هذه القصة مع كونه أمياً ، تبين أن ذلك من الوحي .
بقي ههنا بحث وهو أن المعتزلة استدلوا بالآية على امتناع رؤية الله تعالى لأنها لو كانت أمراً جائز الوقوع لم تنزل بهم العقوبة كما لم تنزل بهم حين التمسوا النقل من قوت إلى قوت في قولهم ) لن نصبر على طعام واحد ) [ البقرة : 61 ] .
وأجيب بأن امتناع رؤيته في الدنيا لا يستلزم امتناع رؤيته في الآخرة الذي هو محل النزاع ، فعل رؤيته تقتضي زوال التكليف عن العبد والدنيا مقام التكليف ، وأيضاً اقتراح دليل زائد على صدق المدعي بعد ثبوته تعنت .
وأيضاً لا يمتنع أن الله تعالى علم أن فيه مفسدة كما علم في إنزال الكتاب من السماء ) يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ) [ النساء : 153 ] فلهذا جاز الاستنكار لأن مطالبة الرؤية جهرة مطالعة الذات غفلة ، وفيه من سوء الأدب وترك الحرمة ما لا يستحسنه قضية العزة والحشمة .
قوله تعالى ) وظللنا ( أي جعلنا الغمام يظلكم وذلك في التيه كما سيجيء في المائدة ، سخر الله لهم السحاب فيسير بسيرهم يظلهم من الشمس والظل ضوء ثان ، وينزل عليه ثوب كالظفر يطول بطوله كما كان لآدم قبل الزلة ، وينزل عليهم المن وهو الترنجبين مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لكل إنسان صاع لا أزيد ، ويبعث الله الجنوب فتحشر عليهم السلوى وهي السماني ، فيذبح الرجل منها ما يكفيه لا أزيد .
مجاهد : المن صمغ حلو .
وهب : هو الخبز السميذ .
الزجاج : هو ما منّ الله تعالى به عليهم ، وهذا كما يروى مرفوعاً ( الكمأة من المن وفيها شفاء للعين ) وقيل : السلوى العسل .
وقيل : طائر أحمر ) كلوا ( على إرادة القول أي وقلنا لهم كلوا ) من طيبات ( من حلالات ) ما رزقناكم ( وهذا للإباحة .
) وما ظلمونا ( يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم فجعلوا موضع الشكر كفراً ، وما ظلمونا فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وما ظلمونا عليه ) ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( لأن وبال الظلم عائد عليهم لا إلى غيرهم ولا إلى الله تعالى .
وإنما قال ههنا وفي الأعراف والتوبة والروم بزيادة لفظة ( كانوا ) لأنها إخبار عن قوم ماتوا وانقرضوا بخلاف قوله في آل عمران ) ولكن أنفسهم يظلمون ) [ آل عمران : 117 ] لأنه مثل ، والله أعلم .(1/292)
" صفحة رقم 293 "
( البقرة : ( 58 - 59 ) وإذ قلنا ادخلوا . . . .
" وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون "
( القراآت )
يغفر لكم ( بضم الياء التحتانية وفتح الفاء : أبو جعفر ونافع وجبلة .
) تغفر لكم ( بضم التاء الفوقانية وفتح الفاء : ابن عامر وأبو زيد عن المفضل .
الباقون ) نغفر ( بالنون وكسر الفاء ) يغفر لكم ( مدغماً كل القرآن : أبو عمرو .
) خطاياكم ( وبابه بالإمالة : علي ) قولاً غير ( بالإخفاء : يزيد وأبو نشيط عن قالون ، وكذلك يخفيان النون والتنوين عند الخاء والغين سواء وسط الكلمة أو أولها .
الوقوف : ( خطاياكم ( ( ط ) ) المحسنين ( ( 5 ) ) يفسقون ( ( 5 ) .
التفسير : القرية مجتمع الناس من قرأت الماء في الحوض أي جمعت .
وبهذا الاعتبار كثيراً ما تطلق القرية على البلدة ، والجمع القرى على غير قياس .
وإنما قياسه من المعتل اللام ( فعال ) نحو : ركوة وركاء ، وظبية وظباء ، والنسبة إليها قروي .
وهو على القياس عند يونس حيث قال : ظبوي في النسبة إلى ظبية ، وعلى خلاف القياس عند الخليل وسيبويه حيث يقولان : ظبي على مثال الصحيح .
والقرية بيت المقدس ، وقيل : أريحاء من قرى الشام .
أمروا بدخولها بعد التيه .
والباب باب القرية ، وقيل : باب القبة التي كانوا يصلون إليها وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى ، أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب تواضعاً وشكراً لله تعالى .
وقيل : السجود أن ينحنوا ويتطامنوا داخلين ليكون دخولهم بإخبات وخشوع .
وقيل : طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فلم يخفضوا ودخلوا متزحفين على أوراكهم من الزحف وهو المشي على الأوراك .
و ) حطة ( فعلة من الحط كالجلسة خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة ، أو أمرك وأصله النصب معناه : اللهم حط عنا ذنوبنا حطة ، فرفعت لإفادة الثبوت كقوله :
شكا إليّ جملي طول السرى
يا جملي ليس إليّ المشتكى
صبر جميل فكلانا مبتلى
الأصل صبراً أي أصبر صبراً .
كان القوم أمروا أن يدخلوا الباب على وجه الخضوع ، وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع(1/293)
" صفحة رقم 294 "
الجوارح والاستغفار باللسان ، وذلك أن التوبة صفة القلب فلا يطلع الغير عليها ، فإذا اشتهر واحد بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب ، لا لأن التوبة لا تتم إلا به إذ الأخرس تصح توبته وإن لم يوجد منه الكلام ، بل لأجل تعريف الغير عدوله عن الذنب إلى التوبة ولإزالة التهمة عن نفسه ، وكذا من عرف بمذهب خطأ ثم تبين له الحق ، فإنه يلزمه أن يعرّف إخوانه الذين عرفوه بالخطأ عدوله عنه لتزول التهمة عنه في الثبات على الباطل ، وليعودوا إلى موالاته بعد معاداته ويحسنوا الظن به .
وعن أبي مسلم الأصفهاني : أن معناه أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها .
وأصل الغفر الستر والتغطية .
ومعنى القراآت في ) نغفر لكم ( واحد ، لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت ، وإذا غفرت فإنما يغفرها الله .
والفعل إذا تقدم الاسم المؤنث وحال بينه وبين الفاعل حائل جاز التذكير والتأنيث .
والخطء الذنب قال تعالى ) إن قتلهم كان خطأ كبيراً ) [ الإسراء : 31 ] تقول منه خطئ يخطأ خطأً وخطأة على فعلة .
والاسم الخطيئة على ( فعيلة ) وجمعها خطايا وأصله خطايء بياء ثم همز ، أبدلت الهمزة ألفاً فانفتحت الياء لأجلها .
) وسنزيد المحسنين ( المفعول الثاني محذوف للعلم به ولمكان الفاصلة أي سنزيدهم إحساناً أو ثواباً أو سعة ، وذلك أن المراد من المحسنين إما من هو محسن بالطاعة في هذا التكليف ، وإما من هو محسن بطاعات أخرى في سائر التكاليف .
وعلى الأول فالزيادة الموجودة إما منفعة دنيوية ، فالمعنى أن المحسن بهذه الطاعة نزيده سعة في الدنيا ونفتح عليه قرى غير هذه القرية ، وإما منفعة دينية أي المحسن بهذا نزيده على غفران الذنوب ثواباً جزيلاً .
وعلى الثاني فالمعنى أنّا نجعل دخولكم الباب سحداً وقولكم ) حطة ( مؤثراً في غفران الذنوب ، ثم إن أتيتم بعد ذلك بطاعات أخرى زدناكم ثواباً .
ويحتمل أن يكون المراد أنهم صنفان : فمن مخطئ تصير الكلمة سبباً لغفرانه ، ومن محسن تصير سبباً لزيادة ثوابه قوله تعالى ) فبدل الذين ظلموا ( قال أبو البقاء : التقدير فبدلوا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم .
يتعدى إلى مفعولين : واحد بنفسه والآخر بالباء .
والذي مع الباء يكون هو المتروك ، والذي بغير باء هو الموجود .
ويجوز أن يكون ( بدل ) بمعنى ( قال ) ، لأن تبديل القول يكون بقول .
والمعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ولم يمتثلوا أمر الله .
وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ معين وهو لفظ حطة فجاءوا بلفظ آخر ، لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به لم يأخذوا به ، كما لو قالوا مكان حطة نستغفرك ونتوب إليك ، أو اللهم اعف عنا ونحو ذلك .
وقيل :(1/294)
" صفحة رقم 295 "
قالوا مكان حطة حنطة .
وقيل : قالوا بالنبطية والنبط قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين حطاً سمقاثاً أي حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم ، وعدولاً عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ، فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا : حبة في شعرة ) وفي تكرير ) الذين ظلموا ( ووضع المظهر موضع المضمر ، زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم ، وهو أن وضعوا غير ما أمروا به مكان ما أمروا به .
والرجز العذاب .
عن ابن عباس : مات بالفجأة منهم أربعة وعشرون ألفاً في ساعة واحدة .
وقال ابن زيد : بعث الله عليهم الطاعون حتى مات من الغداة إلى العشي عشرون ألفاً .
وقيل : سبعون ألفاً .
ومعنى ) من السماء ( يحتمل أن يكون شيئاً نازلاً من جهة العلو كريح ونحوه ، ويحتمل أن يراد من قبل الأمر النازل من عند الله تفظيعاً لشأن العذاب .
والفسق هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته بارتكاب الكبيرة ، فالمراد ) بما كانوا يفسقون ( إما الظلم المذكور وفائدة التكرار التأكيد ، وإما أن يراد أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل .
ونزول الرجز عليهم من السماء بالفسق الذي كانوا يفعلون قبل ذلك التبديل مستمراً إلى أوان هذا الظلم ، وهذا أظهر لزوال التكرير ، ولأن لفظة ( كانوا ) تنبئ عن خصلة مستمرة ، والخصلة الواحدة المعينة لا يتصور فيها الاستمرار .
فلو كان المراد ذلك لقيل بما فسقوا .
وربما احتج أصحاب الشافعي بقوله تعالى ) فبدل الذين ظلموا ( أنه لا يجوز تحريم الصلاة بلفظ التحميد والتعظيم والتسبيح ، ولا تجوز القراءة بالفارسية ، وكذا لا يجوز تبديل ما ورد به التوقيف من الأذكار بغيرها .
وأجيب بأنهم إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى قول آخر يضاد معناه معنى الأول ، فلا جرم استوجبوا الذم .
فأما من غير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك .
ورد بأن ظاهر الآية يتناول كل من بدل قولاً بقول آخر سواء اتفق القولان في المعنى أم لم يتفقا .
( أسئلة ) لم قال في ( البقرة ) ) وإذ قلنا ( وفي ( الأعراف ) ) وإذ قيل ( لأنه صرح بالقائل في أول القرآن إزالة للإبهام ، ولأن الكلام مرتب على قوله ) اذكروا نعمتي ( وفي ( الأعراف )(1/295)
" صفحة رقم 296 "
لم يبق الإبهام .
ولم قال ههنا ) ادخلوا ( وهناك ) اسكنوا ( ؟ لأن الدخول مقدم على السكون ، ( والبقرة ) مقدمة في الذكر على ( الأعراف ) .
ولم قال في ( البقرة ) ) فكلوا ( وفي ( الأعراف ) ) وكلوا ( بالواو ؟ لما بينا في قوله ) وكلا منها رغداً ( .
ولم قال في ( البقرة ) ) خطاياكم ( وفي ( الأعراف ) ) خطيئاتكم ( ؟ لأن الخطايا جمع الكثرة ، والخطيئات جمع السلامة للقلة ، وقد أضاف القول ههنا إلى نفسه فكان اللائق بكرمه غفران الذنوب الكثيرة ، وهناك لم يذكر الفاعل فلم يكن ذكر اللفظ الدال على الكثرة واجباً .
ولمثل هذا الجواب ذكر ههنا ) رغداً ( ليدل على الإنعام الأتم ، ولم يذكر في ( الأعراف ) ، ولم قال ههنا ) وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة ( وفي ( الأعراف ) بالعكس ؟ لأن الواو للجمع المطلق ، ولأن المخاطبين صنفان : محسن ومذنب .
واللائق بالمحسن تقدم العبادة والخضوع ، ثم ذكر التوبة على سبيل هضم النفس وإزالة العجب .
واللائق بالمسيء عكس ذلك ، ولأنه ذكر في هذه السورة ) ادخلوا هذه القرية ( فقدم كيفية الدخول .
ولم قال في ( البقرة ) ) وسنزيد ( وفي ( الأعراف ) ) سنزيد ( ؟ لأنه في ( الأعراف ) ذكر امرين : قول الحطة وهو إشارة إلى التوبة ، ودخول الباب وهو إشارة إلى العبادة .
ثم ذكر جزاءين أحدهما الغفران والآخر الزيادة ، فترك الواو ليفيا توزيع الجزاءين على الشرطين .
وفي ( البقرة ) وقع مجموع المغفرة والزيادة جزاء لمجموع الفعلين ، أعني دخول الباب وقول الحطة ، فاحتيج إلى الواو وأيضاً الاتصال اللفظي حاصل في هذه السورة بين قوله ) وإذ قلنا ( وبين قوله ) وسنزيد ( بخلاف ( الأعراف ) لأن اللائق به في الظاهر سيزاد ، فحذف الواو ليكون استئنافاً للكلام .
وما الفائدة في زيادة كلمة ) منهم ( في الأعراف ؟ لأن أول القصة مبني على التخصيص ) ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [ الأعراف : 159 ] فذكر أن منهم من يفعل ذلك ، ثم عدد صنوف إنعامه وأوامره عليهم ، فلما انتهت القصة قال ) فبدل الذين ظلموا منهم ( فهناك ذكر أمة عادلة وأمة جائرة فصار آخر الكلام مطابقاً لأوله ، وأما في البقرة فلم يذكر في أول الآيات تمييزاً وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة مثل ذلك .
لم قال في ( البقرة ) ) فأنزلنا ( وفي ( الأعراف ) ) فأرسلنا ( لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية ، وذلك إنما يحدث بالآخرة .
وقيل : لأن لفظ الإرسال في ( الأعراف ) أكثر فَرُوعي التناسب .
لم قال في ( البقرة ) ) بما كانوا يفسقون ( وفي ( الأعراف ) ) يظلمون ( لأنه لما بين في البقرة كون الظلم فسقاً اكتفى بذلك البيان في ( الأعراف ) .
وأيضاً إنهم ظلموا أنفسهم وخرجوا عن طاعة الله تعالى ، فوصفهم بالأمرين في موضعبن والله أعلم .(1/296)
" صفحة رقم 297 "
( البقرة : ( 60 - 61 ) وإذ استسقى موسى . . . .
" وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ( القراآت : عامة القراء ) اثنتا عشرة ( بسكون الشين للتخفيف ) عليهم الذلة ( بضم الهاء والميم : حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب ، وكذلك كل ما كان قبل الهاء ياء ساكنة ، وافق سهل إذا كانت قبل لاياء فتحة فقط .
وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء والميم ، الباقون بكسر الهاء وضم الميم .
) النبيين وبابه ( بالهمزة : نافع إلا في موضعين في الأحزاب ) إن وهبت نفسها للنبي ) [ الأحزاب : 5 ] و ) بيوت النبي ) [ الأحزاب : 53 ] إلا فروي غسماعيل وقالون عنه بغير همزة .
الوقوف : ( الحجر ( ( ط ) الحق المحذوف أي فضرب فانفجرت ) عيناً ( ( ط ) ) مشربهم ( ( ط ) ) مفسدين ( ( 5 ) ) وبصلها ( ( ط ) ) هو خير ( ( ط ) ) سألتم ( ( ط ) لأن قوله ) وضربت ( ابتداء إخبار عما يؤل إليه حالهم ) من الله ( ( ط ) ) بغير الحق ( ( ط ) ) يعتدون ( ( 5 ) .
التفسير : جمهور المفسرين سوى أبي مسلم ، على أن هذا الاستسقاء كان في التيه ، عطشوا فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له اضرب بعصاك الحجر ، أما العصا فقال الحسن : كانت عصا أخذها من بعض الأشجار .
وقيل : كانت من الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى ولها شعبتان تتقدان في الظلمة .
وأما الحجر فاللام إما للعهد والإشارة إلى حجر معلوم ، فقد روي أنه حجر طوري حمله معه وكان حجراً مربعاً له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاثة أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول غلى السبط الذي أمر أن يسقيهم وكانوا ستمائة ألف ، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً وقيل : أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا .
وقيل : هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل ورماه بنو إسرائيل بالأدرة ففرّ به ، فقال له جبريل : يقول الله تعالى : ارفع هذا الحجر فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاته .
وإما للجنس أي اضرب الشيء الذي يقال له(1/297)
" صفحة رقم 298 "
الحجر .
وعن الحسن : لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه قال : وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة .
ثم إنه قالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة ؟ فحمل حجراً في مخلاته فحيثما نزلوا القاه ، وأما الصنف والشكل فقيل : كان من رخام وكان ذراعاً في ذراع .
وقيل : مثل رأس الإنسان .
وقيل : له اربعة أوجه كما مر ، وهذا إذا لم يعتبر الفوقاني ومقابله .
وأما الضرب فقيل : كان يضربه بعصاه فينفجر ويضربه بها فييبس فقالوا : إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً ، فأوحى الله تعالى إليه : لا تقرع الحجارة وكلمها تطعك لعلهم يعتبرون .
والفاء في قوله ) فانفجرت ( فاء فصيحة كما سبق في ) فتاب عليكم ) [ البقرة : 54 ] وفي هذا الحذف دلالة على أن موسى لم يتوقف عن اتباع الأمر ، وأنه من انتفاء الشك عنه بحيث لا حاجة غلى الإفصاح به .
والانفجار والانبجاس واحد ومعناه خروج الماء بسعة وكثرة .
وأصل الفجر الشق ومنه الفاجر لأنه يشق عصا المسلمين بمخالفتهم .
وقيل : الانبجاس خروج الماء قليلاً ، ووجه بأن الفجر في الأصل هو الشق ، والبجس الشق الضيق فلا يتناقضان كما لا يتناقض المطلق والمقيد والعام والخاص ، أو لعله انبجس أوّلاً ثم انفجر ثانياً وكذا العيون تظهر الماء قليلاً ثم يكثر لدوام خروجه ، أو لعل حاجتهم تشتد تارة فينفجر وتضعف أخرى فينبجس .
) قد علم كل أناس ( أي كل سبط ) مشربهم ( كأنه أمر كل سبط أن لا يشرب إلا من جدول معين حسماً لمادة التشاجر ، فإن العادة في الرهط الواحد أن لا يقع بينهم من التنازع مثل ما يقع بين المختلفين .
وهذا ايضاً من تمام النعمة عليهم ، وإنما فقد العاطف لأن قوله ) قد علم ( بيان وتفصيل لما أجمل في قوله ) اثنتا عشرة ( كأنه قيل : هذا المجموع مشاع بينهم أو مقسوم فقيل قد علم ) كلوا ( على إرادة القول أي وقلنا أي قال لهم موسى كلوا من المن والسلوى الذي رزقناكم بلا تعب ولا نصب ، واشربوا من هذا الماء .
وقيل : إن الأغذية لا تنبت إلا بالماء ، فلما أعطاهم الماء فكأنما أعطاهم المأكول والمشروب .
والعثو أشد الفساد ، و ) مفسدين ( قيل : نصب على الحال المؤكدة وهو ضعيف ، فإن من شرطها أن تكون مقررة لمضمون جملة اسمية .
وقيل : حال منتقلة ومعناه النهي عن التمادي في حالة الإفساد ، إما مطلقاً أو مقيداً بأنه إن وقع التنازع بسبب ذلك الماء فلا تبالغوا في التنازع .
ويرد على هذا القول أن الإفساد منهي عنه مطلقاً ، وهذا التفسير يقتضي أن يكون المنهي عنه هو التمادي في الإفساد لا نفس الإفساد .
والصحيح أن يقال : إن المنصوبات في نحو قوله عز من قائل ) ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ) ثم وليتم مدبرين ) [ التوبة : 25 ] وفي نحو قولهم(1/298)
" صفحة رقم 299 "
( تعال جائياً وقم قائماً ) من الصفات القائمة مقام المصدر نحو ( أقاعداً وقد سار الركب ) بقي في الآية بحث ، وهو أنه كيف يعقل خروج المياه الكثيرة من الحجر الصغير ؟ والجواب أما علىالقول بالفاعل المختار فظاهر فإن له أن يحدث أيّ فعل خارق شاء من غير أن يطلب له سبب وواسطة ، وأما عند طالب الأسباب والوسائط فإن العناصر الأربعة لها هيولي مشتركة عندهم .
وجوّز وانقلاب صور بعضها إلى بعض ، فجاز استمداد الماء الكامن في الحجر من الهواء المجاور له ، ومثل هذا ما رواه أنس أنه أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بإناء وهو بالزوراء ، فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم .
قال قتادة قلت لأنس : كم كنتم ؟ قال : ثلثمائة أو زهاء ثلثمائة .
بل معجزة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى لأن نبوع الماء من الحجر معهود في الجملة ، أما نبوعه من بين الأصابع فغير معتاد ، قال أهل الإشارة : الروح الإنساني وصفاته في عالم القالب بمثابة موسى وقومه ، وإنه يستسقي ربه لإروائها من ماء الحكمة والمعرفة فيضرب بعصا لا إله إلا الله .
ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نوراً عند استيلاء ظلمات النفس على حجر القلب فيتفجر اثنتا عشرة عيناً من ماء الحكمة بعدد حروف لا إله إلا الله ، قد علم كل سبط من أسباط الإنسان وهي خمس حواس ظاهرة ، وخمس باطنة مع القلب والنفس مشربهم فيستوي في حظه بحسب مشربه .
قوله سبحانه ) وإذ قلتم يا موسى ( الآية .
زعم بعض المفسرين أن هذا السؤال منهم كان معصية ، فإن اللائق بحال المكلف الصبر على ما ساقه الله تعالى إليه خصوصاً إذا كان نعمة وعفواً وصفواً ، ولا سيما إذا كان المسؤول أدون وأحقر .
ولهذا أنكره موسى عليهم ) قال أتستبدلون ( .
وقال الآخرون : إنه غير معصية لأن قوله ) كلوا واشربوا ( عند إنزال المن والسلوى ، وانفجار الماء أمر إباحة لا إيجاب .
ثم إنهم كانوا أهل فلاحة فرغبوا إلى مألوفهم ، ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيساً فوق رغبته فيما لا يعتاد وإن كان شريفاً .
ولعلهم سئموا من التيه فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وغرضهم البلاد .
وأيضاً المواظبة على الطعام الواحد تميت الشهوة وتضعف الهضم ، فيصح أن يكون التبديل مطلوباً للعقلاء ، ولهذا أجابهم الله تعالى إلى ما سألوا ، ولو كان معصية لم يجبهم إلى ذلك ، اللهم إلا أن يكون من قبيل ) ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ) [ الشورى : 20 ] وإنما صح إطلاق الطعام الواحد على المن والسلوى ، لأنهم أرادوا بالوحدة نفي التبدل والاختلاف ، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها ويأكلها كل يوم لا يبدلها .
قيل : لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً .(1/299)
" صفحة رقم 300 "
ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والترفه ، ونحن أهل زراعة ما نريد إلا ما ألفناه .
ومعنى يخرج لنا يوجد ويظهر .
والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر كالنعناع والكرفس والكراث وغير ذلك من أطايب البقول التي يأكلها الناس عادة .
والقثاء الخيار ، والفوم الثوم ، ويدل عليه قراءة عبد الله ) وثومها ( وهو بالعدس والبصل أوفق .
وقال بعضهم : الفوم الحمص لغة شامية ، ويقال : هو الحنطة .
ومنه قولهم ( فوّموا لنا ) أي اختبزوا .
قال الفراء : هي لغة قديمة ) الذي هو أدنى ( أي أقرب منزلة وأدون مقداراً كقولهم في ضده ( هو بعيد المحل وبعيد الهمة ) يعنون الرفعة والعلو ) اهبطوا مصراً ( أي انحدروا إليه من التيه .
يقال : هبط الوادي إذا نزل به ، وهبط منه إذا خرج .
وبلاد التيه ما بين بيت المقدس إلى قنسرين اثنا عشر فرسخاً في ثمانية .
ومصر إما مصر فرعون ، والتنوين فيه في القراآت المعتبرة مع أن فيه العلمية والتأنيث لسكون وسطه كما في نوح ولوط ، وفيهما العلمية والعجمية .
وإما مصر من الأمصار كأنه قيل لهم : ادخلوا بلداً أيّ بلد كان لتحدوا فيه هذه الأشياء .
ولما ذكر الله سبحانه صنوف نعمه على بني إسرائيل إجمالاً ثم تفصيلاً ، أراد أن يبين مآل حالهم ليكون عبرة للنظار وتبصرة لأولي الأبصار وتحذيراً للإنسان عن الجحود والكفران المستتبعين للخزي والهوان فقال ) وضربت عليهم الذلة والمسكنة ( أي جعلت محيطة بهم مشتملة عليهم كالقبة المضروبة على الشخص ، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلصق به .
فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة ، إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية .
وهذا من جملة الأخبار عن الغيب الدال على كون القرآن وحياً نازلاً من السماء على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
هذا حالهم في الدنيا ، وأما حالهم في العقبى فذلك قوله ) وباؤا بغضب من الله ( من قولك ( باء فلان بفلان ) إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته ، أي صاروا أحقاء بغضبه وهو إرادة انتقامه ) ذلك ( الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والخلافة بالغضب ، بسبب كفرهم بآيات الله أي القرآن ، بل وبالتوراة لأن الكفر به مستلزم للكفر بها ، وقتلهم الأنبياء ، وقد قتلت اليهود - لعنوا - شعيباً وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق أي من غير ما شبهة عندهم توجب استحقاق القتل .
فإن الآتي بالباطل قد يكون اعتقده حقاً لشبهة عنت له ، وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلاً .
ولا شك أن الثاني أقبح وأدخل في القحة ، أو كرر للتأكيد نحو ) ومن يدع مع الله الهاً آخر لا برهان له به ) [ المؤمنون : 117 ] ومحال أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان .
والنبيء بالهمزة ( فعيل ) بمعنى فاعل من نبأ بالتخفيف أي أخبر لأنه نبأ عن الله تعالى .
قال سيبويه : ليس أحد من العرب إلا ويقول تنبأ مسيلمة بالهمز ، غير أنهم(1/300)
" صفحة رقم 301 "
تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرية والبرية والخابية إلا أهل مكة ، فإنهم يهمزون هذه الأحرف ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب في ذلك .
وقيل : اصله من نبأت من أرض إلى أرض أي خرجت منها غلى أخرى .
وهذا المعنى أراد الأعرابي بقوله ( يا نبيء الله ) أي يا من خرج من مكة إلى المدينة .
فأنكر عليه ( صلى الله عليه وسلم ) الهمزة .
وقيل : النبي بالإدغام من النبوة وهي ما ارتفع من الأرض ، أي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) شرف على سائر الخلق ( فعيل ) بمعنى ( مفعول ) ، والجمع أنبياء .
وعلى الأول إنما جمع على أنبياء لأن الهمز لما أبدل وألزم الإبدال جمع جمع ما أصل لامه حرف العلة ) ذلك بما عصوا ( تأكيد بتكرير الشيء بغير اللفظ الأول كقول السيد لعبده وقد احتمل منه ذنوباً سلفت منه فعاقبه عند آخرها ( هذا بما عصيتني وخالفت أمري .
هذا بما تجرأت علي واغتررت بحلمي ) ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر والقتل على معنى انهمكوا في العصيان والاعتداء حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتل الأنبياء ، أو تكون الباء بمعنى ( مع ) أي ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا سائر أنواع المعاصي ، واعتدوا حدود الله في كل شيء .
وقيل : هو اعتداؤهم في السبت .
واعلم أنه سبحانه لما ذكر إنزال العقوبة بهم بين سبب ذلك أولاً بما فعلوه في حق الله وهو جهلهم به وجحدهم لنعمه ، ثم ثناه بما يتلوه في العظم وهو قتل الأنبياء ، ثم ثلثه بما يكون منهم من المعاصي المتعدية إلى الغير مثل الاعتداء والظلم وذلك في نهاية الترتيب .
وقيل : الأول إشارة غلى متقدميهم ، والثاني إشارة غلى من كان في عصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكأنه تعالى بيَّن سبب ما نزل بالفريقين من البلاء والمحنة ليظهر للخلائق أن ذلك على قانون العدالة وقضية الحكمة .
فإن قيل : لم قيل ههنا ) ويقتلون النبيين بغير الحق ( وفي ( آل عمران ) ) ويقتلون النبيين بغير حق ) [ آل عمران : 21 ] منكراً ؟ قلت : الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل ما في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق ) فالحق المعرف إشارة إلى هذا ، وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم ، أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره ألبتة .
( البقرة : ( 62 - 66 ) إن الذين آمنوا . . . .
" إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم(1/301)
" صفحة رقم 302 "
الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين "
( القراآت )
النصارى ( بالإمالة : أو عمرو وحمزة وعلي وخلف وورش من طريق النجاري ، والخراز عن هبيرة ، وكذلك كل راء بعدها ياء .
وروى قتيبة بكسر الصاد والراء ، وكذلك قوله ) سكارى ( و ) أسارى ( و ) يوارى ( و ) أوارى ( كلها بإمالة ما قبل الألف ) والصابئين ( بغير همزة : أبو جعفر ونافع وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة .
الوقوف : ( عند ربهم ( ( ز ) لنوع عدول عن إثبات إلى نفي مع اتفاق الجملتين .
و ) يحزنون ( ( 5 ) ) الطور ( ( ط ) لأن التقدير : قلنا لكم خذوا ) تتقون ( ( 5 ) ) من بعد ذلك ( ( ج ) لأن ( لولا ) للابتداء وقد دخل الفاء فيه ) الخاسرين ( ( 5 ) ) خاسئين ( ( 5 ) ( ج ) للآية والعطف بالفاء ) المتقين ( ( 5 ) .
التفسير : قد انجرّ الكلام في الآي المتقدمة غلى وعيد أهل الكتاب ومن يقفو آثارهم ، فقرن به ما يتضمن الوعد جرياً على عادته سبحانه من ذكر الترغيب مع الترهيب فقال ) إن الذين آمنوا ( .
واختلف المفسرون ههنا لأن قوله في آخر الآية ) من آمن ( .
يدل على أن المراد من قوله ) آمنوا ( شيء آخر ، كقوله ) يا أيها الذين آمنوا آمِنوا ) [ النساء : 136 ] .
فعن ابن عباس : المراد أن الذين آمنوا قبل مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بعيسى عليه السلام مع البراءة من أباطيل اليهود والنصارى كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري .
كأنه قيل : إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، والذين كانوا على الدين الباطل لليهود ، والذين كانوا على الدين الباطل للنصارى ، كل من آمن بعد مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالله واليوم الآخر وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلهم أجرهم .
وعن سفيان الثوري : إن الذين آمنوا باللسان دون القلب وهم المنافقون ، والذين تهوّدوا يقال هاد يهود وتهود إذا دخل في اليهودية ، والنصارى ، والصابئين ، كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي ، فلهم كذا .
وقيل : الذين آمنوا هم المؤمنون بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الحقيقة ، وهو عائد إلى الماضي .
وكأنه قيل : إن الذين آمنوا في الماضي ، واليهود والنصارى والصابئين ، كل من آمن منهم وثبت على ذلك في المستقبل واستمر .
واشتقاق اليهود قيل من قولهم ) إنا هدنا إليك ) [ الأعراف : 156 ] أي تبنا(1/302)
" صفحة رقم 303 "
ورجعنا .
عن ابن عباس : وقيل نسبوا إلى يهودا أكبر ولد يعقوب .
وقيل : إنهم يتهودون أي يتحرّكون عند قراءة التوراة .
واشتقاق النصارى قبل من ناصرة قرية كان ينزلها عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج .
وقيل : لتناصرهم فيما بينهم أي لنصرة بعضهم بعضاً .
وقيل : لأن عيسى عليه السلام قال للحواريين من أنصاري إلى الله .
واحد النصارى نصران ، ومؤنثه نصرانة : والياء في نصراني للمبالغة كالتي في أحمري ، والصابئين بالهمزة اشتقاقه من صبأ الرجل يصبأ صبواً إذا خرج من دينه إلى دين آخر .
وكانت العرب يسمون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صابئاً لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) أظهر ديناً على خلاف أديانهم .
عن مجاهد والحسن : هم طائفة من اليهود والمجوس لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم .
وعن قتادة : قوم يعبدون الملائكة ويصلون للشمس كل يوم خمس مرات .
وقيل : وهو الأقرب - إنهم قوم يعبدون الكواكب ثم فيهم قولان : الأوّل أن خالق العالم هو الله سبحانه إلا أنه أمر بتعظيم هذه الأجرام واتخاذها قبلة للصلاة والدعاء .
والثاني أنه سبحانه خلق الأفلاك والكواكب وفوّض التدبير إليها ، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ، ثم إنها تعبد الله سبحانه .
وينسب هذا المذهب إلى الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام ، فبين الله تعالى أن هذه الفرق الأربع إذا آمنوا بالله ويدخل فيه الإيمان بكل ما أوجبه كالإيمان برسله وآمنوا باليوم الآخر وبما وعد فيه ، فإن أجرهم متيقن جار مجرى الحاصل عند الله تعالى .
ومحل ) من آمن ( رفع على أنه مبتدأ خبره ) فلهم أجرهم ( والجملة خبر ( إن ) ، أو نصب على أنه بدل من اسم ( أن ) .
والمعطوفات عليه .
وخبر ( أن ) ) فلهم أجرهم ( والفاء لتضمن من أو الذين معنى الشرط .
قال أهل البرهان : قدم النصارى على الصابئين لأنهم أهل كتاب ، وعكس الترتيب في الحج لأن الصابئين مقدمة على النصارى بالزمان ، وراعى في المائدة المعنيين فقدمهم في اللفظ وأخرهم في التقدير ، لأن تقديره : والصابئون كذلك .
وقوله سبحانه ) وإذا أخذنا ميثاقكم ( مخاطبة فيها معاتبة لاستمالها على تذكير النعم وتقدير المنعم .
وللمفسرين في هذا الميثاق أقوال : أحدها : أنه ما أودع الله العقول من الدلائل الدالة على وجود الصانع وقدرته وحكمته وعلى صدق أنبيائه ورسله وهو أقوى المواثيق والعهود ، لأنه لا يحتمل الخلف والكذب والتبدل بوجه من الوجوه وهو قول الأصم ، وثانيها ما روي عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم أن موسى عليه السلام لما رجع من عند ربه بالألواح ، قرأوا ما فيها من الأخبار والتكاليف الشاقة فكبرت عليهم وأبوا قبولها ، أمر جبرائيل بقلع الطور من أصله ورفعه فظلله فوقهم وقال لهم موسى : إن قبلتم وإلا ألقي عليكم فحينئذ قبلوا وأعطوا الميثاق .
وعن ابن عباس : إن لله ميثاقين الأول ، حين أخرجهم من صلب آدم على أنفسهم ، والثاني أنه تعالى ألزم الناس متابعة الأنبياء .
والمراد ههنا هو هذا العهد .
وإنما قال ) ميثاقكم ( ولم يقل ( مواثيقكم ) للعلم بذلك(1/303)
" صفحة رقم 304 "
كقوله ) يخرجكم طفلاً ) [ غافر : 67 ] أي كل واحد منكم ، أو لأن الميثاق بشيء واحد أخذه من كل واحد منهم .
ولو قال مواثيقكم لأشبه أن يكون لكل منهم ميثاق آخر .
والواو في ) ورفعنا ( إما واو عطف إن جعل الميثاق مقدماً على رفع الجبل كما في قول الأصم وابن عباس ، وإما واو الحال إن جعل مقارناً للرفع ، كأنه قال : وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطور فوقكم والطور .
قيل : الجبل مطلقاً .
وعن ابن عباس : أنه جبل من جبال فلسطين .
وقيل : جبل معهود ، والأقرب أنه الجبل الذي وقعت المناجاة عليه ، وقد يجوز أن ينقله الله تعالى إلى حيث هم فيجعله فوقهم وإن كان بعيداً منهم ، فإن القادر على أن يسكن الجبل في الهواء قادر على أن ينقله إليهم من المكان البعيد .
) خذوا ( على إرادة القول أي وقلنا خذوا ) ما آتيناكم ( من الكتاب ) بقوّة ( بجد وعزيمة غير متكاسلين ولا متثاقلين وقيل : بقوة ربانية ) واذكروا ما فيه ( احفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه ، وإنما لم يحمل على نفس الذكر لأن الذكر الذي هو ضد النسيان من فعل الله فكيف يجوز الأمر به ؟ ) لعلكم تتقون ( رجاء منكم أن تكونوا متقين ، أو قلنا خذوا إرادة أن تتقوا ) ثم توليتم ( معطوف على محذوف أي فقبلتم والتزمتم ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به .
ويمكن أن يقال أخذ الميثاق عبارة عن قبولهم فلا حاجة إلى تقدير ) من بعد ذلك ( أي من بعد القبول والالتزام .
قال القفال : قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة ، فحرفوا التوراة وتركوا العمل به وقتلوا الأنبياء وكفروا بهم وعصوا أمرهم .
ولعل فيها ما اختص به بعضهم دون بعض ، ومنها ما عمله أوائلهم ومنها ما فعله متأخروهم ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى ويعترضون عليه ويلقونه بكل أذى ، ويجاهرون بالمعاصي في عسكره ، حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون ، وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرأونها ، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله ، فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من الكتاب ، وجحودهم لحقه ( صلى الله عليه وسلم ) وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر ) فلولا فضل الله عليكم ورحمته ( بإمهالكم وتأخير العذاب عنكم ) لكنتم من الخاسرين ( أي من الهالكين الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم ، ولكنكم خرجتم من هذا الخسران لأن الله تعالى تفضل عليكم بالإمهال حتى تبتم .
فإن كلمة ( لولا ) تدل على امتناع الثاني لوجود الأول ، فامتنع الخسران لوجود فضل الله .
ويحتمل أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله ) ثم توليتم من بعد ذلك ( ويكون قوله ) فلولا فضل الله ( رجوعاً بالكلام إلى أوّله ، أي لولا لطف الله بكم برفع(1/304)
" صفحة رقم 305 "
الجبل فوقكم لدمتم على ردكم للكتاب ، ولكنه تفضل عليكم ورحمكم ولطف بكم بذلك حتى تبتم .
قوله عز من قائل ) ولقد علمتم ( اللام للابتداء ، ولا تكاد تدخل الماضي بدون قد لأنها ولتأكيد مضمون الجملة الاسمية نحو : لزيد قائم ، أو لتأكيد المضارع نحو : ليضرب زيد .
لكن قد تقرب الماضي من الحال فيصير الماضي كالمضارع مع تناسب معنى ( قد ) .
ومعنى ( اللام ) في التحقيق ، وعند الكوفيين يقدر القسم قبله .
عن ابن عباس : إن هؤلاء القوم كانوا في زمن داود عليه السلام بأيلة على ساحل البحر بين المدينة والشأم ، وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كل أوب في شهر من السنة حتى لا يرى الماء لكثرتها ، وفي غير ذلك الشهر في كل سبت خاصة ، فحفروا حياضاً عند البحر وشرعوا إليها الجداول ، وكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد .
فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم ، ثم إنهم أخذوا السمك واستغنوا بذلك وهم خائفون من العقوبة ، فلما طال العهد استنت الأبناء سنة الآباء واتخذوا الأموال ، فمشى غليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد في السبت فنهوهم فلم ينتهوا وقالوا : نحن في هذا العمل منذ زمان فما زادنا الله به إلا خيراً .
فقيل لهم : لا تغتروا بذلك فربما ينزل بكم العذاب والهلاك .
فأصبح القوم وهم قردة خاسئون فمكثوا ثلاثة أيام ثم ماتوا .
قال بعضهم : وفي الكلام حذف أي ولقد علمتم اعتداء الذين اعتدوا ليكون المذكور من العقوبة جزاء لذلك .
والسبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت والاعتداء فيه ، إما نفس الاصطياد لأنهم أمروا فيه بالتجرد للعبادة فجاوزوا ما حد لهم واشتغلوا بالصيد ، وإما الاصطياد مع استحلاله .
وقوله ( كونوا ( المراد منه سرعة الإيجاد وإظهار القدرة وإن لم يكن هناك قول ) إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [ النحل : 40 ] ( وقردة خاسئين ( خبر ( إن ) أي كونوا جامعين بين القردة ، والخسوء وهو الصغار والطرد .
عن مجاهد أنه مسخ قلوبهم بمعنى الطبع والختم لا أنه مسخ صورهم وهو مثل قوله ) كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) [ الجمعة : 5 ] ونظيره أن يقول الأستاذ للمتعلم البليد الذي لا ينجع فيه تعليمه : كن حماراً .
واحتج بأن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس ، فإذا أبطله وخلق مكانه تركيب القرد رجع حاصل المسخ إلى إعدام الأعراض التي باعتبارها كان ذلك الجسم إنساناً ، وإيجاد أعراض أخر باعتبارها صار قرداً .
وأيضاً لو جوزنا ذلك لم نأمن في كل ما نراه قرداً وكلباً أنه كان إنساناً عاقلاً وذلك شك في المشاهدات .
وأجيب بأن الإنسان ليس هذا الهيكل لتبدله بالسمن والهزال فهو أمر وراء ذلك ، إما جسماني سار في جميع البدن ، أو جزء في جانب من البدن كقلب أو دماغ ، أو(1/305)
" صفحة رقم 306 "
مجرد كما يقوله الفلاسفة .
وعلى التقادير فلا امتناع في بقاء ذلك الشيء مع تطرق التغير إلى هذا الهيكل وهذا هو المسخ ، وبهذا التأويل يجوز في الملك الذي تكون جثته في غاية العظم أن يدخل حجرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولأنه لم يتغير منهم إلا الخلقة والصورة والعقل ، والفهم باقٍ فإنهم يعرفون ما نالهم بشؤم المعصية من تغير الخلقة وتشوّه الصورة وعدم القدرة على النطق وسائر الخواص الإنسانية ، فيتألمون بذلك ويتعذبون ، ثم أولئك القرود بقوا أو أفناهم الله ، وإن بقوا فهذه القرود التي في زماننا من نسلهم أم لا ، الكل جائز عقلاً إلا أن الرواية عن ابن عباس أنهم ما مكثوا إلا ثلاثة أيام ثم هلكوا ) فجعلناها ( أي المسخة أو القردة أو قرية أصحاب السبت أو هذه الأمة ) نكالاً ( عقوبة شديدة رادعة عن الإقدام على المعصية .
والنكول عن اليمين الامتناع عنها .
ولم يقصد بذلك ما يقصده الناس من التشفي وإطفاء نائرة الغيظ ، وإنما جعلناها عبرة لما قبلها ومعها وبعدها من الأمم والقرون ، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها وسيبلغ خبرها إلى الآخرين فيعتبرون ، أو أريد بما بين يديها ما بحضرتها من القرى والأمم ، أو جعلناها عقوبة لجميع ما ارتكبوه قبل هذا الفعل وبعده ، هكذا قال بعضهم ، والأولى عندي أن يقال : جعلناها عقوبة لأجل ذنوب تقدمت المسخة ، ولأجل ذنوب تأخرت عنها ، لأنهم إن لم يكونوا ممسوخين لم ينتهوا عنها فهم في حكم المرتكبين لها .
ولا يلزم من ذلك تجويز العقاب على الذنب المفروض الموهوم لأنه أمر اعتباري ، والعقوبة في نفسها واحدة ثابتة على حالها لم تزدد لأجل الذنب المتأخر شيئاً ، فليس الأمر فيه كمن ضرب عبده لأجل الإباق المتقدم مائة جلدة ، ولأجل الإباق المتأخر المترقب مائة أخرى ، ولكنه كمن قيد عبده أو حبسه لأجل الإباق المتقدم والإباق المترقب والله أعلم ) وموعظة للمتقين ( لأن منفعة الاتعاظ تعود إليهم لا إلى غيرهم مثل ) هدى للمتقين ( أو ليعظ المتقون بعضهم بعضاً .
وقيل : للمتقين الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم .
( البقرة : ( 67 - 74 ) وإذ قال موسى . . . .
" وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون وإذ قتلتم نفسا(1/306)
" صفحة رقم 307 "
فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون "
( القراآت )
يأمركم ( بالاختلاس : أبو عمرو وكذلك كل فعل مستقبل مهموز من ذوات الراء .
) هزؤا ( ساكنة الزاء مهموزة ، حمزة وخلف وعباس والمفضل وإسماعيل .
وقرأ حمزة مبدلة الواو من الهمزة في الوقف لمكان الخط ، وقرأ حفض غير الخراز مثقلاً غير مهموز ، الباقون : مثقلاً مهموزاً ) جئت ( وبابه بغير همزة : أبو عمرو ويزيد والأعشى وحمزة في الوقت ) فأدارأتم ( بغير همزة : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف ، ) عما يعملون ( بالياء التحتانية : ابن كثير .
الوقوف : ( بقرة ( ( ط ) ) هزواً ( ( ط ) ) الجاهلين ( ( 5 ) نصف الجزء ) ما هي ( ( ط ) ) ولا بكر ( ( ط ) لأن التقدير هي عوان ) بين ذلك ( ( ط ) على تقدير قد تبين لكم ) فافعلوا ما تؤمرون ( ( 5 ) ) ما لونها ( ( ط ) ) صفراء ( ( لا ) إلى آخر الآية لأن الجملة صفة بعد صفة ) الناظرين ( ( 5 ) ) ما هي ( ( لا ) لأن التقدير فإن البقر أو لأن البقر إيلاء لعذر تكرار السؤال ) علينا ( ( ط ) ) لمهتدون ( ( 5 ) ) الحرث ( ( ج ) لأن قوله ) مسلمة ( صفة بقرة أو خبر محذوف أي هي مسلمة ) لا شية فيها ( ( ط ) ) جئت بالحق ( ( ط ) لأن التقدير فطلبوها فوجدوها ) فذبحوها ( ( ط ) ) يفعلون ( ( 5 ) ) فادارأتم فيها ( ( ط ) ) يكتمون ( ( 5 ) ج للآية والفاء بعدها ) ببعضها ( ( ط ) لأن التقدير فضربوه فحيي فقيل لهم ) كذلك يحيي الله الموتى ( ) تعقلون ( ( 5 ) ) قسوة ( ( ط ) ) الأنهار ( ( ط ) ) الماء ( ( ط ) ) خشية الله ( ( ط ) لتفصيل دلائل القدرة ) تعملون ( ( 5 ) .
التفسير : عن ابن عباس أن رجلاً من بني إسرائيل قتل قريباً له لكي يرثه ثم رماه في مجمع الطريق ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام ، فاجتهد موسى في تعرف القاتل .
فلما لم يظهر قالوا له : سل لنا ربك حتى يبينه ، فسأله فأوحى الله إليه إن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة .
فعجبوا من ذلك فشددوا على أنفسهم بالاستفهام حالاً بعد حال ، واستقصوا في طلب الوصف ، فلما تعين لم يجدوها بذلك النعت إلا عند يتيم .
وذلك أنه كان في بني إسرائيل(1/307)
" صفحة رقم 308 "
شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال : اللهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر ، وكان براً بوالديه ، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه ، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير ، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة فذبحوها ، وأمر موسى عليه السلام أن يأخذوا عضواً منها فيضربوا به القتيل فصار المقتول حياً وسمى لهم قاتله وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قوداً .
واعلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع بالاتفاق إلا عند مجوّز ت كليف ما لا يطاق ، وأما تأخيره إلى وقت الحاجة فمختلف فيه ، فالمجوزون استدلوا بالآية قالوا : أمروا بذبح بقرة معينة بدليل تعيينها بسؤالهم آخراً ، وبدليل أنه لم يؤمر بمتجدد بل المأمور به في الثانية هو المأمور به في الأولى بالاتفاق ، وبدليل المطابقة لما ذبح .
والمانعون قالوا : معناه اذبحوا أية بقرة شئتم بدليل تنكير بقرة ، وهو ظاهر في أن المراد بقرة غير معينة ، وبدليل أن ابن عباس قال : لو ذبحوا بقرة ما لأجزأهم ، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، وبدليل التعنيف في قوله ) وما كادوا يفعلون ( ولو كانت معينة لما استحقوا التعنيف على السؤال .
وأجيب بأن رك الظاهر يجوز لموجب راجح ، وما نقل عن ابن عباس خبر الواحد ، والتعنيف يجوز أن يكون لتفريطهم في الامتثال بعد حصول البيان التام .
ويتفرع على قول المانعين أن التكليف يكون متغايراً فكلفوا في الأول أيّ بقرة كانت ، وثانياً أن تكون لا فارضاً ولا بكراً بل عواناً ، فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون صفراء ، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون لا ذلولاً تثير الأرض ولا تسقي الحرث .
ثم اختلف القائلون بهذا المذهب .
منهم من قال في التكليف الواقع أخيراً يجب أن يكون مستوفياً كل صفة تقدمت حتى تكون البقرة مع الصفة الأخيرة لا فارضاً ولا بكراً وصفراء فاقعاً لونها .
ومنهم من يقول : إنما يجب كونها بالصفة الأخيرة فقط ، وهذا أشبه بظاهر الكلام إذا كان تكليفاً بعد تكليف ، وإن كان الأول أشبه بالروايات وبطريقة التشديد عليهم عند ترك الامتثال .
وإذا ثبت أن البيان لا يتأخر وأنه تكليف بعد تكليف ، دل على أن الأسهل قد ينسخ بالأشق ، فإن المربي لولده قد يأمره بالسهل اختباراً ، فإذا امتنع الولد منه فقد يرى المصلحة في أن يأمره بالصعب .
ويدل أيضاً على جواز النسخ قبل الفعل وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البداء ، ويدل على وقوع النسخ في شرع موسى عليه السلام ، ويدل أيضاً على أن الزيادة في الخطاب نسخ له .
) أتتخذنا هزواً ( استفهام بطريقة الإنكار ، معناه لا تجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو مهزوءاً بنا ، أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء .
كان القوم ظنوا أنه يداعبهم لأنه من المحتمل أن(1/308)
" صفحة رقم 309 "
موسى عليه السلام أمرهم بذبح البقرة ، وما أعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة وضربوا القتيل ببعضها صار حياً ، فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء .
ويحتمل أنه وإن كان قد تبين لهم كيفية الحال إلا أنهم تعجبوا من أن القتيل كيف يحيا بأن يضرب ببعض أجزاء البقرة .
واختلف العلماء ههنا فعن بعضهم تكفيرهم بهذا القول لأنهم إن شكوا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فقد كفروا ، وإن شكوا في أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام هل هو بأمر الله فقد جوزوا الخيانة على موسى عليه السلام في الوحي ، وذلك أيضاً كفر .
وعن آخرين أنه لا يوجب الكفر لأن المداعبة على الأنبياء جائزة ، فلعلهم ظنوا أنه يداعبهم مداعبة حقة ، أو المراد ما أعجب هذا الجواب كأنك تستهزئ بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء ) من الجاهلين ( إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، فإن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل ، ومنصب النبوّة يجل عن ذلك كما يقول الرجل عند مثل ذلك : أعوذ بالله من عدم العقل وغلبة الهوى ، أو أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين لما في الاستهزاء من نقصان الدين والعقاب الشديد .
وقيل : نفس الهزء قد يسمى جهلاً ، فإن الجهل ضد الحلم ، كما أنه ضد العلم .
ثم إن قيل : إن المأمور بذبحه بقرة معينة في نفسها غير مبينة التعيين حسن موقع سؤالهم ، لأن المأمور به لما كان مجملاً حسن الاستفسار والاستعلام .
أما على قول القائل إنها للعموم فلا بد من بيان أنه ما الذي حملهم على هذا الاستفسار فذكروا وجوهاً أحدها : أنه لما أخبرهم بشأن البقرة تعجبوا وظنوا أن البقرة التي لها مثل هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة ، فلا جرم استقصوا في السؤال عن وصفها كعصا موسى المخصوصة من سائر العصي بتلك الخواص ، إلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك لأن هذه الآية العجيبة لا تكون خاصية البقرة ، بل كانت معجزة يظهرها الله على يد موسى ، أو لعل القوم أرادوا قتل أي بقرة كانت إلا أن القاتل خاف من الفضيحة فألقى شبهة في البين وقال : المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة ، فلما وقعت المنازعة رجعوا إلى موسى ، أو الخطاب وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فسألوا مزيد البيان وإزالة الاحتمال ، إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة .
فإن قيل : السؤال بما هو لطلب الحقيقة والحقيقة لا تعلم إلا بأجزائها ومقوماتها لا بصفاتها الخارجة ، فالجواب بالأوصاف الخارجة لا يكون مطابقاً للسؤال .
قلنا : من البين أن مقصودهم من قولهم ( ما البقرة ) ليس طلب ماهيتها النوعية فإن ذلك كالمفروغ منه عندهم ، وإنما وقع السؤال عن الصفات الذاتية والخواص .
فسبب العدول إما إقامة الحقيقة الشخصية مقام الحقيقة النوعية فإن الشخص من(1/309)
" صفحة رقم 310 "
حيث هو شخص حقيقة أيضاً قد يطلب تصورها ، وإما لأنهم تصوروا أن البقرة التي لها هذه الخاصية العجيبة حقيقتها مغايرة لحقيقة سائر البقرات وإن كانت صورتها موافقة لصورتها ، وإما لأن السؤال عن الجزئيات كزيد وعمرو إنما يكون ب ( من ) إذا كان طلباً للعوارض ، وههنا الجزئي غير ذي عقل فناسب أن يقام ما مقام ( من ) .
الفارض المسنة ، وقد فرضت فروضاً فهي فارض كطالق كأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها .
والبكر الفتية ، وكان الأظهر أنها التي لم تلد كما في الإنسان .
والعوان النصف قال :
نواعم بين أبكار وعون .
وقد غونت وقال :
فإن أتوك وقالوا إنها نصف
فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا
وقد يستدل من هذا على جواز الاجتهاد واستعمال غلبة الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا بطريق الاجتهاد .
وإنما جاز دخول ( بين ) على لفظة ( ذلك ) مع أنه لا يدخل إلا على متعدد ، لأنها في معنى شيئين حيث وقع مشاراً به إلى ما ذكر من الفارض والبكر .
وإنما أشير بذلك غلى مؤنثين وهو للإشارة إلى واحد مذكر على تأويل ما ذكر وما تقدم للاختصار في الكلام ) ما تؤمرون ( مثل : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به .
بمعنى ما تؤمرون به ، أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير ، ولما بين لهم كمال حالها في السن شرعوا في تعرف حال اللون .
والفقوع أشد ما يكون من الصفرة .
يقال في التوكيد أصفر فاقع مثل أسود حالك ، وأحمر قانئ ، وارتفع اللون على أنه فاعل سببي لفاقع .
والفرق بين قولك ( صفراء فاقعة ) و ( صفراء فاقع لونها ) أن في الثاني تأكيداً ليس في الأول ، لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل : شديد الصفرة صفرتها مثل جد جده ، وجنونه مجنون .
وعن وهب : إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها .
والسرور حالة نفسانية تعرض عند اعتقاد أو علم أو ظن بحصول شيء لذيذ أو نافع .
وعن علي عليه السلام : من لبس نعلاً صفراء قل همه لقوله ) سر الناظرين ( وعن الحسن البصري : صفراء فاقع لونها سوداء شديدة السواد ، ولعله مستعار من صفة الإبل لأن سوادها يعلوه صفرة وبه فسر قوله تعالى ) جمالات صفر ) [ المرسلات : 33 ] ( إن البقر(1/310)
" صفحة رقم 311 "
تشابه علينا ( لأن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير ) وإنا إن شاء الله لمهتدون ( عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( والذي نفس محمد بيده لو لم يقولوا إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبداً ) وفيه دليل على أن الاستثناء مندوب في كل عمل صالح يراد تحصيله ، ففيه استعانة بالله وتفويض للأمر إليه ، والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته الأزلية وإرادته السرمدية ، ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن .
والمعنى إنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيلنا أوصافها التي بها تمتاز عما عداها ، أو إنا إن شاء الله على هدى في استقصاء السؤال أي نرجو أنا لسنا على ضلالة فيما نفعله من هذا البحث ، أو إنا إن شاء الله تعريفنا إياها بالزيادة لنا في البيان نهتدي لها ، أو إنا إن شاء الله نهتدي للقاتل ) لا ذلول ( صفة لبقرة مثل لا فارض أي بقرة غير ذلول لم تذلل للكراب وإثارة الأرض ، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحرث .
( لا ) الأولى للنفي والثانية مزيدة للتوكيد ، لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقي ، على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية .
والذل بالكسر اللين ضد الصعوبة ، ودابة ذلول بينة الذل ( فعول ) بمعنى ( فاعل ) ، ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث .
تقول : رجل صبور وامرأة صبور ) مسلمة ( سلمها الله تعالى من العيوب مطلقاً ، أو معفاة من العلم وحشية مرسلة عن الحبس ، أو مخلسة اللون لم يشب صفرتها شيء من الألوان .
وعلى هذا يكون ) لا شية فيها ( كالبيان .
والشية كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره أي لا لون فيها يخالف سائر لونها فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها ، وهي في الأصل مصدر ( وشاة ) إذا خلط بلونه لوناً آخر ، أصلها وشية حذف فاؤها كما هو ( عدة ) و ( زنة ) ) الآن ( اسم للوقت الذي أنت فيه وهو ظرف غير متمكن وقع معرفة ، وليس الألف واللام فيه للتعريف لأنه ليس له ما يشركه وهو يائي ) جئت بالحق ( أي بحقيقة وصف البقرة أو ما بقي إشكال في أمرها فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف ) فذبحوها ( والذبح هو قطع أعلى العنق وهو المستحب في الغنم والبقر .
والنحر هو قطع اللبة أسفل العنق وهو المستحب في الإبل .
والمرعي في الحالتين قطع الحلقوم والمرئ لكن عنق الإبل طويل ، فإذا قطع أعلاه تباطأ الزهوق .
ولا يكره الذبح في الإبل والنحر في البقر والغنم وإن كان خلاف المستحب ) وما كادوا يفعلون ( استبطاء لهم ، وأنهم لكثرة استكشافهم ما كاد ينقطع خيط أشباههم .
وقيل : وما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها .
وقيل : لخوف الفضيحة في ظهور القاتل .
وقد يستدل بهذا على أن الأمر للوجوب بل للفور وإلا لما ترتب هذا الذم على تثاقلهم ) وإذ قتلتم نفساً ( خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم ) فادارأتم فيها ( فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً أي يدفعه ويزحمه ، أو ينفي كل واحد منكم القتل(1/311)
" صفحة رقم 312 "
عن نفسه ويضيفه إلى غيره أو يدفع بعضكم بعضاً عن البراءة ويتهمه .
وأصله تدارأتم أدغمت التاء في الدال فاحتيج إلى همزة الوصل ، ويحتمل أن يرجع الضمير في ( فيها ) إلى القتلة المعلومة من قتلتم ) والله مخرج ( مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتيل .
وقد حكي ما كان مستقبلاً في وقت التدارؤ كما حكي الحاضر في قوله ) وكلبهم باسط ذراعيه ) [ الكهف : 18 ] فلهذا صح عمل اسم الفاعل .
وهذه الجملة معترضة ، وفيها دليل على جواز عموم النص الوارد على السبب الخاص ، لأن هذا يتناول كل المكتومات .
وفيها دليل على أن الله لا يحب الفساد ، وأنه سيجعل إلى زواله سبيلاً ، وأن ما يسّره العبد من خير أو شر ودام ذلك منه فالله سيظهره ، ويعضده قوله ( صلى الله عليه وسلم ) إن عبداً لو أطاع الله من وراء سبعين حجاباً لأظهر الله ذلك على ألسنة الناس ( وكذلك المعصية والضمير في ) اضربوه ( عائد إلى النفس ، والتذكير على تأويل الشخص أو الإنسان ، ويحتمل أن يعود إلى القتيل بدلالة ) قتلتم ( أو ) ما كنتم تكتمون ( واختلف في البعض من البقرة فقيل لسانها ، وقيل : فخذها اليمنى ، وقيل : عجبها ، وقيل : العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الأذن ، وقيل : الأذن ، وقيل : البضعة من بين الكتفين ، والظاهر أنهم كانوا مخيرين بين أيّ بعض أرادوا ، وههنا محذوف بدلالة الفاء الفصيحة والمعنى فضربوه فحيي فقلنا كذلك يحيي الله الموتى .
روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دماً وقال : قتلني فلان وفلان - وهما ابنا عمه - ثم سقط ميتاً فأخذا وقتلا ولم يورّث قاتل بعد ذلك ، ويؤيده قوله نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ) ليس للقاتل من الميراث شيء ( والسر فيه أنه استعجل الميراث فناسب أن يعارض بنقيض مقصوده وهو قول الشافعي .
ولم يفرق بين أن يكون القتل مستحقاً كالعادل إذا قتل الباغي ، أو غير مستحق عمداً كان أو خطأ .
وعند أبي حنيفة لا يرث في العمد والخطأ إلا أن العادل إذا قتل الباغي فإنه يرثه .
وقال مالك : لا يرثه من ديته ويرثه من سائر أمواله .
ومحل ) كذلك ( نصب على المصدر أي يحيي الله الموتى مثل ذلك الإحياء .
وهذا الكلام إما مع الذين حضروا حياة القتيل لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلا أنهم لم يؤمنوا بذلك من طريق العيان والمشاهدة ، وشتان بين عين اليقين وعلم اليقين .
وإما أن يكون مع منكري البعث في زمن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير ) فقلنا ( بعد تقدير ) فضربوه فحيي ( ) ويريكم آياته ( دلائله على أنه قادر على كل شيء .
فدلالة هذه القصة على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإعدام آية ، ودلالتها على صدق موسى عليه السلام(1/312)
" صفحة رقم 313 "
آية ، ودلالتها على براءة ساحة من سوى القاتل آية ، ودلالتها على حشر الأموات آية ، فهي وإن كانت واحدة إلا أنها في الحقيقة آيات عدة .
ويمكن أن يراد بالآيات غير هذه أي مثل هذه الإراءة يريكم سائر الإراآت ، كما أن مثل هذا الإحياء يحيي سائر الأموات .
وفي قوله ) كذلك ( دون أن يقال كهذا تعظيم للمشار غليه بتبعيده كما قلنا في ) ذلك الكتاب ( ) لعلكم تعقلون ( تعملون على قضية عقولكم ، فإن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها إذ لا أثر للمخصصات في ذلك .
فإن قيل : ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أنه قادر على إحيائه ابتداء ؟ قلنا : الفائدة فيه كون الحجة آكد وعن الحيلة أبعد ، فقد كان يجوز لملحد أن يتوهم أن موسى عليه السلام إنما أحياه بضرب من السحر ، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه ، أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب ، ولما في ذبح البقرة من القربان وأداء التكليف واكتساب الثواب والإشعار بحسن تقديم القربة على طلب الحوائج ، وما في التشديد عليهم لأجل تشديدهم من اللطف لهم وللآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر الله على الفور ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة ، والدلالة على بركة البر بالأبوين والإشفاق على الأولاد ، وتجهيل المستهزئ بما لا يعلم تأويله من كلام الحكيم ، وبيان أن من حق المتقرب به إلى الرب أن يكون من أحسن ما يتقرب به ، فتيّ السن حسن اللون بريئاً من العيوب ثميناً نفيساً ( أسمنوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم ) فإن قيل : هلا قدم ذكر القتيل على الأمر بذبح البقرة كما هو حق القصة ؟ قلنا : لأنها كانت تكون حينئذ قصة واحدة ويذهب الغرض في ثنية التقريع بالاستهزاء وترك المبادرة بالامتثال أولاً ، وبقتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية ثانياً ، على أنها دلت على اتحاد القصتين برجوع الضمير في ) ببعضها ( إلى البقرة وهي مذكورة في الأولى .
قوله ) ثم قست قلوبكم ( الآية .
خطاب لأولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى ، أو للذين هم في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من بعد ذلك الإحياء ، أو من بعد ذلك الذي عددنا من جميع الآيات الباهرات والمعجزات الظاهرات .
ومعنى ( ثم ) استبعاد القسوة من بعدما يزجب اللين والرقة .
وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبؤّها عن الاعتبار والاتعاظ فهي كالحجارة مثلها في القسوة ، أو هي أشد قسوة من الحجارة .
فمن عرفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة ، ويجوز أن يقدر مضاف أي هي كالحجارة أو مثل أشد قسوة .
فمن عرفها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى من الحجارة كالحديد مثلاً .
وإنما قيل : أشد قسوة مع إمكان بناء أفعل التفضيل من فعل القسوة ، لكونه أدل على فرط القسوة ، أو لأنه لم يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة كأنه قيل : اشتدت قسوة الحجارة(1/313)
" صفحة رقم 314 "
وقلوبهم أشد قسوة منها ، وحذف هذا الراجع لعدم الالتباس نحو : زيد كريم وعمر أكرم .
وكلمة ( أو ) ههنا ليست للشك ، فعلام الغيوب لا يشك في شيء ، وإنما هي للتخيير بأيهما شئت شبهت فكنت صدوقاً ، ولو جمعت بينهما جاز .
ثم أخذ في بيان فضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة فقال ) وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ( أي إن منها للذي فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الغزير ، وإن منها للذي ينشق انشقاقاً طولاً أو عرضاً فينبع منه الماء وذلك بحسب كثرة المادة وقلتها ، فإن الأبخرة تجمع في باطن الأرض .
ثم إن كان ظاهر الأرض رخواً نفشت وانفصلت ، وإن كان صلباً حجرياً اجتمعت وصارت مياهاً ، ولا يزال يتواتر مددها إلى أن تنشق الأرض من مزاحمتها وتسيل أنهاراً أو عيوناً .
وأما قلوب هؤلاء فلا تنشرح للحق ولا تتأثر من الوعظ والنصح بعد مشاهدة الآيات ومعاينة الدلائل .
ويشقق أصله يتشقق فأدغم التاء في الشين كقولهم ( يذكر ) في ( يتذكر ) ) لما يهبط ( للذي يتردى من أعلى الجبل وذلك من خشية الله ، إما لأنه تعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك كما يروى من تسبيح الحصى في كف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإما لأن الخشية مجاز عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع عما يريد بها من الإهباط والانفصال عن كلها ، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تأتمر ، وقيل : أن يتزلزل من أجل أن تحصل خشية الله في قلوب عباده فيفزعون إليه بالتضرع والدعاء ) وما الله بغافل عما تعملون ( وعيد ، والمعنى أنه بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم فيجازيهم في الدنيا والآخرة ) فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عداً ) [ مريم : 84 ] ووصفه تعالى بأنه ليس بغافل لا يوهم جواز الغفلة عليه لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها مثل ) لا تأخذه سنة ولا نوم ) [ البقرة : 255 ] .
التأويل : ذبح البقرة غشارة إلى ذبح النفس البهيمية ، فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني وهو الجهاد الأكبر موتوا قبل أن تموتوا .
اقتلوني يا ثقاتي
إن في قتلي حياتي
وحياتي في مماتي
ومماتي في حياتي
مت بالإرادة تحيا بالطبيعة .
وقال بعضهم : مت بالطبيعة تحيا بالحقيقة ) ما هي إنها بقرة ( نفس تصلح للذبح بسيف الصدق ) لا فارض ( في سن الشيخوخة فيعجز عن وظائف سلوك الطريق لضعف القوى البدنية كما قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد ) ولا بكر ( في سن شرخ الشباب يستهويه سكره ) عوان بين ذلك ( لقوله ) حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ) [ الأحقاف : 15 ] .
) بقرة صفراء ( إشارة إلى صفرة وجوه أصحاب الرياضيات ) فاقع لونها ( يريد أنها صفرة زين لا صفرة شين فإنها سيماء الصالحين .
) لا ذلول تثير الأرض ( لا تحتمل ذلة الطمع ولا تثير بآلة الحرص أرض الدنيا لطلب زخارفها ومشتهياتها ) ولا تسقي ((1/314)
" صفحة رقم 315 "
حرث الدنيا بماء وجهه عند الخلق وبماء وجاهته عند الخالق ، فيذهب ماؤه عند الحق وعند الخلق ) مسلمة ( من آفات صفاتها ليس فيها علامة طلب غير الله ) وما كادوا يفعلون ( بمقتضى الطبيعة لولا فضل الله وحسن توفيقه .
) وإذ قتلتم نفساً ( يعني القلب ) فادّارأتم ( فاختلفتم أنه كان من الشيطان أم من الدنيا أو من النفس الأمارة ) فقلنا اضربوه ببعضها ( ضرب لسان بقرة النفس المذبوحة بسكين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر فحيي بإذن الله تعالى وقال ) إن النفس لأمارة بالسوء ) [ يوسف : 53 ] ( وأن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ( مراتب القلوب في القسوة مختلفة ، فالتي يتفجر منها الأنهار قلوب يظهر عليها الغليان أنوار الروح يترك اللذات والشهوات بعض الأشياء المشبهة بخرق العادات كما يكون لبعض الرهبانيين والهنود ، والتي تشقق فيخرج منها الماء هي التي يظهر عليها في بعض الأوقات عند انخراق الحجب البشرية من أنوار الروح فيريه بعض الآيات والمعاني المعقولة كما يكون لبعض الحكماء ، والتي تهبط من خشية الله ما يكون لبعض أهل الأديان والملل من قبول عكس أنوار الروح من وراء الحجب فيقع فيها الخوف والخشية ، وهذه المراتب مشتركة بين المسلمين وغيرهم .
والفرق أنها في المسلمين مؤيدة بنور الإيمان فيزيدوا في قربهم وقبولهم ودرجاتهم ، ولغيرهم ليست مؤيدة بالإيمان فيزيدوا في غرورهم وعجبهم وبعدهم واستدراجهم ، والمسلمون مخصوصون بكرامات وفراسات تظهر لهم من تجلي أنوار الحق ورؤية برهانه .
فإراءة الآيات للخواص ) سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) [ فصلت : 53 ] ( ويريكم آياته لعلكم تعقلون ) [ البقرة : 73 ] لكن إراءة البرهان لأخص الخواص كما في حق يوسف ) لولا أن رأى برهان ربه ) [ يوسف : 24 ] سئل الحسن بن منصور عن البرهان فقال : واردات ترد على القلوب فتعجز النفوس عن تكذيبها .
والله أعلم .
( البقرة : ( 75 - 82 ) أفتطمعون أن يؤمنوا . . . .
" أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم(1/315)
" صفحة رقم 316 "
فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون "
( القراآت )
إلا أماني ( حيث كان خفيفاً : يزيد إلا قوله ) تلك أمانيهم ( ) وليس بأمانيكم ولا أماني ( ) وغرتكم الأماني ( فإن أربعتهن بالإسكان عنده ) بأيديهم ( بضم الهاء : يعقوب ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة ) خطيآته ( بالجمع : أبو جعفر ونافع .
الوقوف : ( يعلمون ( ( 5 ) ) آمنا ( ( ج ) والونصل أجوز لبيان حالتيهما المتناقضتين وهو المقصود ) عند ربكم ( ( ط ) ) أفلا تعقلون ( ( 5 ) ) يعلنون ( ( 5 ) ) يظنون ( ( ج ) ) قليلاً ( ( ط ) ) يكسبون ( ( 5 ) ) معدودة ( ( ط ) ) ما لا تعلمون ( ( 5 ) ) النار ( ( ج ) لأن الجملة مبتدأ وخبر بعد خبر .
) خالدون ( ( 5 ) ) الجنة ( ( ج ) ) خالدون ( ( 5 ) .
التفسير : لما ذكر الله سبحانه وتعالى قبائح أسلاف اليهود وسوء معاملتهم مع نبيهم ، أردفها قبائح أخلافهم المعاصرين لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكأنه قيل : إذا كان هذا أفعالهم فيما بينهم ، فكيف تطمعون أيها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنون في أن يؤمنوا أي يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم ؟ كقوله ) فآمن له لوط ( ) وقد كان فريق منهم ( طائفة من أسلافهم ) يسمعون كلام الله ( وهو ما يتلونه من التوراة ) ثم يحرفونه ( كما حرفوا صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وآية الرجم .
وقيل : هم قوم من الذين حضروا الميقات ، سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به ونهى عنه ثم قالوا : سمعنا الله يقول في آخره إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس ) من بعد ما عقلوه ( فهموه وضبطوه بعقولهم من غير ما شبهة ) وهم يعلمون ( أنهم مفترون كذابون .
والمعنى إن كفر هؤلاء وحرفوا فلهم سابقة في ذلك كما تقول للرجل : كيف تطمع أن يفلح فلان وأستاذه فلان يأخذ عنه لا عن غيره ؟ فهؤلاء المقلدة لا يقبلون إلا قول معلميهم وأحبارهم الذين تعمدوا التحريف عناداً أو لضرب من الأغراض الدنيوية ) وإذا لقوا ( أي اليهود قال منافقوهم : آمنا بأنكم على الحق ونشهد أن صاحبكم صادق ، ونجده بنعته وصفته في كتابنا .
) وإذا خلا بعضهم ( الذين لم ينافقوا ) إلى بعض ( الذين نافقوا ) قالوا ( عاتبين عليهم ) أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ( بما بين لكم في التوراة من نعته وصفته مأخوذ من قولهم ( قد فتح على فلان في علم كذا أي رزق ذلك وسهل له طلبه ، أو قال المافقون لعيرهم يرونهم التصلب في دينهم : أتحدثونهم(1/316)
" صفحة رقم 317 "
إنكاراً عليهم أن يفتحوا عليهم شيئاً في كتابهم فينافقون المؤمنين وينافقون اليهود ) ليحاجوكم به عند ربكم ( ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه .
جعلوا محاجتهم به وقولهم ) هو في كتابكم هكذا ( محاجة عند الله .
ألا تراك تقول : هو في كتاب الله كذا وهو عند الله كذا بمعنى واحد ؟ وعن الحسن : ليحاجوكم في ربكم لأن المحاجة فيما ألزم تعالى من اتباع الرسل محاجة فيه أي دينه .
وقال الأصم : يحاجوكم يوم القيامة عند المساءلة فيكون زيادة في توبيخكم ، فكان القوم يعتقدون أن ذلك مما يزيد في فضيحتهم في الآخرة .
وقيل : ليحاجوكم به على وجه الديانة والنصيحة ، لأن من يذكر الحجة على هذا الوجه قد يقول لصاحبه : أزحت علتك عند الله وأقمت عليك الحجة بيني وبين ربي ، فإن قبلت أحسنت إلى نفسك ، وإن جحدت كنت الخاسر الخائب .
وقيل : لتصيروا محجوجين بتلك الدلائل في حكم الله كما يقال : فلان عندي عالم أي في اعتقادي وحكمي .
وهذا عند الشافعي كذا ، وعند أبي حنيفة كذا ) أفلا تعقلون ( أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه فإنكم إذا حدثتموهم بالذي يحاجونكم به رجع وباله عليكم ) أو لا يعلمون أن الله يعلم ( جميع ) ما يسرون وما يعلنون ( ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان ، خوّفهم الله تعالى بذلك لأنهم كانوا يعرفون أن الله يعلم السر والعلانية ) ومنهم أميون ( لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها كأنه منسوب إلى الأم وهو أصل الشيء ، فالأمي على أصل فطرته لم يكتسب علماً وكتابة ) لا يعلمون الكتاب ( التوراة ) إلا أماني ( وأحدها أمنية على أفعولة من مني إذا قدر .
تقول : منه تمنيت الشيء ومنيته غيري تمنية ، لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوّز ما يتمناه ، وأماني اليهود هي أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، وما يمنيهم الأحبار من أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة .
وقيل : الأماني الأكاذيب المختلفة التي سمعوها من علمائهم فقبلوها على التقليد .
يقال : أهذا شيء رويته أم تمنيته أم اختلقته ؟ وذلك أن المختلق يقدر أن كلمة كذا بعد كذا .
وفي الصحاح أنه مقلوب المين وهو الكذب .
وقيل : إلا ما يقرأون من قولهم ( تمنيت الكتاب قرأته ) قال الشاعر يرثي عثمان :
تمنى كتاب الله أوّل ليلة
وآخرها لا في حمام المقادر
والقارئ مقدر الكلمات كالمختلق ، وعلى هذا يكون الاستثناء متصلاً كأنه قيل : لا يعلمون الكتاب إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه ، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه .
ثم إ نهم لا يتمكنون من التدبر والتأمل ، وعلى الأول يكون استثناء منقطعاً .
ومن قرأ ) أماني ((1/317)
" صفحة رقم 318 "
بالتخفيف حذف المد كما يقال مفاتح ) وإن هم إلا يظنون ( كالمحقق لما تقدمه من قوله ) لا يعلمون الكتاب إلا أماني ( ذكر الفرقة الضالة المضلة المحرفة ، ثم الفرقة المنافقين منهم ، ثم الفرقة المجادلة لأهل النفاق ، ثم العوام المقلدة ، ونبه على أنهم في الضلال سواء ، لأن للعالم أن يعمل بعلمه وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن إن كان متمكناً من العلم ولا سيما في أصول الدين ، الويل كلمة يقولها كل مكروب ، وعن ابن عباس : أنه العذاب الأليم .
وعن الثوري : صديد أهل الجحيم .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره ) .
وقال عطاء بن يسار : الويل واد في جهنم ، لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حره .
ولا شبهة في دلالتها على نهاية الوعيد والتهديد ) يكتبون الكتاب ( المحرف ) بأيديهم ( تأكيد كما تقول للمنكر هذا ما كتبته بيمينك .
حكى عنهم أمرين : كتبة الكتاب وإسناده إلى الله .
فالوعيد مرتب على كل منهما وعلى مجموعهما إلا أنه على الثاني أبلغ ولهذا جيء ب ( ثم ) وقوله ( ليشتروا به ثمناً قليلاً ( تنبيه على شقاوتهم ، فإنهم استبدلوا النفع الحقير العاجل الزائل بالأجر العظيم الآجل الدائم ) فويل لهم مما كتبت أيديهم ( أي مما أسلفت من كتبها ما لم يكن يحل لهم ) وويل لهم مما يكسبون ( بذلك بعد من الرشا على التحريف وفي إعادة الويل في الكسب دليل على أن الوعيد كما يلحقهم بسبب الكتبة وإسنادها إلى الله ، فكذلك يلحقهم بسبب أخذ المال عليه ليعلم أن أخذ المال على الباطل محرم وإن كان بالتراضي ) وقالوا لن تمسنا النار ( نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أياماً معدودة قليلة ، وهذا الجزم مما لا سبيل إليه بالعقل ألبتة ، ولا دليل له سمعياً فلا يجزم به عاقل .
والأيام المعدودة قالوا : أربعون يوماً هي أيام عبادة العجل .
وعن مجاهد قالوا : مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوماً لأن يوماً عند الله ألف سنة .
وأيام معدودة ومعدودات كلاهما فصيح مثل الأيام مضت ومضين .
والعهد ههنا يجري مجرى الوعد والخبر ، لأن خبره سبحانه كالعهود المؤكدة منا بالقسم والنذر .
و ) اتخذتم ( استفهام بطريق الإنكار ، وإنه يدل على عدم الدليل السمعي .
) فلن يخلف الله عهده ( لتنزهه سبحانه عن كل نقيصة وخلاف الخبر أنقص النقائص .
فإن قيل : هب أن الخلف في الوعد لؤم ونقيصة ، لكنه في الوعيد كرم ولطف .
قلنا : الخلف من حيث هو كذب قبيح لا يجوّزه كامل ، ولعل للكرم(1/318)
" صفحة رقم 319 "
طريقاً آخر سوى هذا فتأمل .
و ( أم ) إما معادلة بمعنى أي الأمرين كائن على سبيل التقدير لأن العلم واقع بكون أحدهما وهذا من الكامل المنصف نحو ) وأنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) [ سبأ : 8 ] ، ويجوز أن تكون منقطعة بمعنى ( بل أتقولون ) كأنه أعرض عن الاستفهام الأول واستأنف سؤالاً ثانياً .
فالاستفهام الأول لتقرير النفي ، والاستفهام الثاني لتقرير الإثبات .
وفي الآية تنبيه على أن القول بغير دليل باطل وأن كل ما جاز وجوده وعدمه عقلا لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلا بدليل سمعي .
ولا حجة لمنكري القياس وخبر الواحد فيه لأنه لما دل الدليل على وجوب العمل عند حصول الظن المستند إلى القياس أو إلى خبر الواحد ، كان وجوب العمل معلوماً فكان القول به قولاً بالمعلوم ) بلى ( إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله ) لن تمسنا النار ( أي بلى تمسكم أبداً بدليل قوله تعالى ) هم فيها خالدون ( عن ابن عباس : وجد أهل الكتاب ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين فقالوا : لن نعذب في النار إلا ما وجدنا في التوراة ، وإذا كان يوم القيامة أقحموا في النار فساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شفير سقر وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة قال لهم خزنة أهل النار : يا أعداء الله ، زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياماً معدودة ، فقد انقضى العدد وبقي الأبد .
قلت : وفي مثل حالهم ضلال الفلاسفة القائلين بأن الأرواح وإن صارت مكدرة بقبائح أفعال الأشباح ، إلا أنها بعد المفارقة ورجوع العناصر إلى أصلها تصير إلى حظائر القدس ، ولا يزاحمها شيء من قبائح الأعمال إلا أياماً معدودة بقدر فطام الأرواح عن لبان التمتعات الحيوانية ، ثم تتخلص من العذاب وترجع إلى حسن المآب .
ومنهم من زعم أن استيفاء اللذات الحسية يقلل التعلقات الدنيوية ويسهل عروج الروح إلى عالمه العلوي ، وكل هذا خيال فاسد ومتاع كاسد ، وإنه قول من لم يجرب ولم يجد من نفسه أنها كيف تتدنس وتتكدر بالأخلاق الذميمة البثيمية والسبعية ، ويكف تتصفى وتتطهر بالأخلاق الحميدة الروحانية الملكية ، فغمر بصجإ مرآة القلب بحيث لا يبقى فيه شيء من الصفاء الفطري ) كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) [ المطففين : 14 ] فلا يجلوها إلا مرور الدهور وكرور الأعصار .
وقد ينضم الكفر إلى تلك الأخلاق فيبقى خالداً مخلداً في النار ، في ويل طويل وزفير وعويل ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .
والسيئة أصلها سيوئة من ساءه يسوءه سوأ ومساءة ، فقلبت الواو ياء وأدغمت ، وهي من الصفات الغالبة .
وقوله ( سيئة ( يتناول جميع المعاصي صغرت أو كبرت ، فضم إليها شرط آخر وهو كون السيئة محيطة به ليختص بالكبيرة .
ولفظ الإحاطة حقيقة في المجسمات إحاطة السور بالبلد والظرف بالمظروف ، فنقل إلى الخطيئة وهي عرض لمعنيين من جهة أن المحيط يستر(1/319)
" صفحة رقم 320 "
المحاط به .
والكبيرة تستر الطاعات ، ومن جهة أن الكبيرة تحبط الطاعات وتستولي عليها إحاطة العدو بالإنسان بحيث لا يتمكن الإنسان من الخلاص عنهم .
والآية وإن وردت في اليهود فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وبمثلها تتمسك المعتزلة في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر إذا ماتوا قبل التوبة ، وفسر غيرهم الخطيئة المحيطة بالكفر فيه تتحقق الإحاطة التامة .
واعلم أن في المسألة خلافاً لأهل القبلة .
منهم من قطع بوعيدهم إما مؤبداً - وهو قول جمهور المعتزلة والخوارج - وإما منقطعاً - وهو قول بشر المريسي والخالدي ومنهم من قطع بأنه وعيد لهم وينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر .
والذي عليه أكثر الصحابة والتابعين وأهل السنةن والإمامية ، القطع بأنه سبحانه يعفو عن بعض العصاة ، وأنه إذا عذب أحدهم فلا يعذبه أبداً ، لكنا نتوقف في حق البعض المعفو عنه والبعض المعذب على التعيين .
أما المعتزلة فاستدلوا بعمومات وردت في وعيد الفساق كقوله ) ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها ) [ النساء : 14 ] وقوله ( وإن الفجار لفي جحيم ) [ الإنفطار : 14 ] وقوله ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً ) [ النساء : 10 ] ومن الحديث ( من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة .
ومن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) وعن أبي سعيد الخدري قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا دخل النار ) وإذا استحقوا النار ببغضهم فلأن يستحقوا النار بقتلهم أولى .
وأجيب بالمنع من أن هذه الصيغ للعموم بدليل صحة إدخال الكل والبعض عليها نحو : كل من دخل داري فله كذا ، أو بعض من دخل .
ولا يلزم منه تكرير ولا تناقض ، ولأن الأكثر قد يطلق عليه لفظ الكل ، ولاحتمال المخصصات .
القاطعون بنفي العقاب عن أهل الكباشر احتجوا بنحو قوله تعالى ) إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ) [ النحل : 27 ] ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) [ الزمر : 53 ] ( وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ) [ الرعد : 6 ] ( لا يصلاها إلا الأشقى .
الذي كذب وتولى ) [ الليل : 15 ، 16 ] وبالعمومات الواردة في الوعد مثل ) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) [ البقرة : 3 ] الآية .
حكم بافلاح على كل من آمن .
وعورض بعمومات الوعيد .
أما أصحابنا الذين قطعوا بالعفو في حق البعض والتوقف في البعض ، فقد تمسكوا بنحو قوله عز من قائل ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] وبأن عمومات الوعد والوعيد لما تعارضتا فلا بد من الترجيح لجانب الوعد بصرف التأويل إليه ، لأن العفو عن الوعيد مستحسن في العرف ،(1/320)
" صفحة رقم 321 "
وإهمال الوعد باضد .
وأيضاً القرآن مملوء من قوله ) عفواً غفوراً ( ) رحيماً ( ) كريماً ( .
وكذا الأخبار في هذا المعنى تكاد تبلغ حد التواتر .
وأيضاً إن صاحب الكبيرة أتى بما هو أفضل الخيرات وهو الإيمان ، ولم يأت بما هو أقبح القبائح وهو الكفر ، ولا يهدمه ما سوى الكفر منالمعاصي ، ولهذا قال يحيى بن معاذ الرازي : إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة ، فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة ؟ إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات ، كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي ، وإذا دلت الآيات على الوعد والوعيد فلا بد من التوفيق بينهما .
فإما أن يصل العبد إلى دار الثواب ثم إلى دار العقاب وهو باطل بالإجماع ، أو يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار الثواب ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب .
واعلم أن مذهب الأصحاب إلى الأدب أقرب من حيث إنهم يصفونه بصفات الجمال كالعفو والمغفرة ، وبصفات الجلال كالقهر والانتقام ، ولكن لا يوجبون عليه ثواباً ولا عقاباً ، لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
ومن حيث إنهم لا يعينون البعض المستحق للثواب ولا البعض المستحق للعقاب من المسلمين ، لأن فعله مبرأ عن التعلل بلواحق الغايات وسوابق البواعث .
ومذهب المعتزلة إلى الاحتياط أقرب ، فإن من خوّفك حتى تبلغ الأمن خير ممن أمنك حتى تبلغ الجوف .
( البقرة : ( 83 - 86 ) وإذ أخذنا ميثاق . . . .
" وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون "
( القراآت )
لا يعبدون ( بالياء للغيبة .
ابن كثير وحمزة وعلي والمفضل ) القربى ( بالإمالة المفرطة : حمزة وعلي وخلف ، وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة وكذلك كل كلمة على وزن ( فعلى ) ) حسنا ( وصفا : يعقوب وحمزة وعلي وخلف والمفضل ) تظاهرون ((1/321)
" صفحة رقم 322 "
خفيفاً : عاصم وحمزة وعلي وخلف ، وحذف إحدى التاءين للتخفيف ، الباقون بالتشديد ووجهه إدغام التاء في الظاء ) أسارى ( بالإمالة ) تفدوهم ( أبو عمرو وخلف .
) أسارى ( مفخماً ) تفدوهم ( ابن كثير وابن عامر ) أسرى ( بالإمالة ) تفدوهم ( حمزة .
) أسارى ( بالإمالة ) تفادوهم ( علي والنجاري عن ورش والخراز عن هبيرة ، والباقون ) أسارى ( مفخماً ) تفادوهم ( ) تردون ( بتاء الخطاب : أبو زيد عن المفضل ) يعلمون ( بياء الغيبة : ابن كثير ونافع وخلف ويعقوب وأبو بكر وحماد بناء لآخر الكلام على أوّله ، الباقون بالتاء تغليباً للمخاطبين على الغيب .
الوقوف : ( الزكاة ( لأن ( ثم ) لترتيب الأخبار أي مع ذلك توليتم و ) معرضون ( و ) تشهدون ( ( 5 ) ) من ديارهم ( ( ز ) لأن ) تظاهرون ( يشبه استئنافاً ، وكونه حالاً أوجه و ) العدوان ( ( ط ) ) إخراجهم ( ( ط ) ) ببعض ( ( ج ) لابتداء الاستفهام أو النفي مع فاء التعقيب ) الدنيا ( ( ط ) لعطف الجملتين المختلفتين ) العذاب ( ( ط ) ) يعملون ( ( 5 ) ) الآخرة ( ( ز ) لأن الفعل مستأنف وفيه فاء التعقيب للجزاء ) ينصرون ( ( 5 ) .
التفسير : إنه سبحانه كلفهم بأشياء : الأوّل : قوله ) لا تعبدون إلا الله ( من قرأ بياء الغيبة فلأنهم غيب ، ومن قرأ بتاء الخطاب فلحكاية ما خوطبوا به ، وفي إعرابه أقوال : أحدها : أنه إخبار في معنى النهي كقولك ( تذهب إلى فلان ) تريد الأمر وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي كأنه سورع إلى الامتثال فهو يخبر عنه .
ويؤيد هذا القول عطف ) وقولوا ( ) وأقيموا ( عليه .
وثانيها : التقدير أن لا تعبدوا فلما حذفت ( أن ) رفعت كقوله ( ألا أبهذا الزاجري أحضر الوغى ) ويحتمل أن تكون ( أن ) مفسرة وأن تكون مع الفعل بدلاً من الميثاق كأنه قيل : أخذنا ميثاق بني إسرائيل توحيدهم .
وثالثها : هو جواب قوله ) أخذنا ميثاق بني إسرائيل ( إجراء له مجرى القسم كأنه قيل : وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون .
وهذا التكليف بالحقيقة يتضمن جميع ما لا بد منه في الدين ، لأن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره مسبوق بالعلم بذاته سبحانه وبجميع ما يجب له ويستحيل عليه ، ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي والرسالة .
التكليف الثاني : قوله : ( وبالوالدين إحساناً ( معناه يحسنون بالوالدين إحساناً ليناسب ) لا تعبدون ( أو أحسنوا ليناسب ) وقولوا ( ويمكن أن يقدر ( وصيناهم ) عطفاً على ) أخذنا ( وهذا أنسب لمكان الباء ، ولا بد من تقدير القول إما قبل ) لا تعبدوا ( وإما قبل(1/322)
" صفحة رقم 323 "
) أحسنوا ( وإما قبل ) قولوا ( وإنما جعل الإحسان إلى الوالدين تالياً لعبادة الله لوجوه منها : أنهما سبب وجود الولد كما أنهما سبب التربية ، وغير الوالدين قد يكون سبب التربية فقط فلا إنعام بعد إنعام الله تعالى أعظم من إنعام الوالدين .
ومنها أن إنعامهما يشبه إنعام الله تعالى من حيث إنهما لا يطلبان بذلك ثناء ولا ثواباً ) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً ) [ الإنسان : 9 ] .
ومنها أنه تعالى لا يمل من إنعامه على العبد وإن أتى بأعظم الجرائم ، فكذا الوالدان لا يقطعان عنه مواد كرمهما وإن كان غير بارٍ بهما ، ومنها أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح والغبطة ، والله سبحانه يأخذ الحبة فيربيها مثل جبل أحد .
ومنها أن المناسبة والميل والحبة بين الوالد وولده ذاتية حتى عمت جميع الحيوان ، كما أن المناسبة بين الواجب والممكن ذاتية لا عرضية ، وههنا أسرار فليتأمل .
ومنها أ ، ه لا كمال يمكن للولد إلا ويطلبه الوالد لأجله ويريده عليه ، كما أن الله تعالى لا خير يمكن للعبد إلا وهو يريده عليه ، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب ونصب الأدلة وأزاح العلة ، ومن غاية شفقة الوالدين أنهما لا يحسدان ولدهما إذا كان خيراً منهما بل يتمنيان ذلك بخلاف غيرهما فإنه لا يرضى أن يكون غيره خيراً منه .
وتعظيم الوالدين أمر معتبر في جميع الشرائع ومركوز في كل العقول ، وقد ورد ( أطع الوالدين وإن كانا كافرين ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركاً ، ولهذا أطلق الإحسان إليهما في الآية إطلاقاً .
وقد تلطف إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان في قوله ) يا أبت ، يا أبت ( والإحسان إليهما أن يحبهما من صميم القلب ويراعي دقائق الأدب والخدمة والشفقة ويبذل وسعه في رضاهما قولاً وفعلاً ، ولا يمنع أعز أوقاته وكرائم أمواله عنهما ، ويجتهد في تنفيذ وصاياهما ويذكرهما في صالح دعائه كما أرشد الله تعالى إلى جميع ما ذكرنا في قوله ) فلا تقل لهما أف ) [ الإسراء : 23 ] إلى آخر الآية .
التكليف الثالث : الإحسان إلى ذوي القرابة ويعبر عنه بصلة الرحم عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الرحم شجنة من الرحمن قال الله : من وصلك وصلته ومن قطعك قعطعته ) والشجنة الاشتباك أي الرحم مشتقة من الرحمن يعني أنها قرابة من الله مشتبكة كاشتباك العروق والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة ، ولهذا صار كالتابع لحق الوالدين لأن الإنسان إنما يتصل به أقرباؤه بواسطة اتصالهم بالوالدين قال الشافعي : لو أصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث وغير الوارث ، والمحرم وغير المحرم ، والمسلم والكافر ، والذكر والأنثى ، والغني والفقير ، والأجداد والأحفاد ، لا الأبوان والولد(1/323)
" صفحة رقم 324 "
على الأظهر ، لأن الوالد والولد لا يعرفان في العرف بالقريب .
وههنا دقيقة وهي أن العرب يحفظون الأجداد العالية ليرتفع نسبهم ، ونحن لو ترقينا إلى الجد العالي وحسبنا أولاده كثروا ، فلهذا قال الشافعي : نرتقي إلى أقرب جد ينسب هو إليه ويعرف به .
وذكروا في مثاله أنه لو أوصى لأقارب الشافعي فإنا نصرفه إلى أولاد شافع فإنه منسوب إليه ، ولا يدخل فيها أولاد علي والعباس وإن كان شافع وعلي والعباس كلهم أولاد السائب بن عبيد ، والشافعي هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب ابن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف .
قال المحققون : هذا في زمان الشافعي ، وأما في زماننا فلا نصرفه إلا إلى أولاد الشافعي ولا نرتقي إلى بني شافع لأنه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا ، ولا يدخل الأقارب من الأم في وصية العرب لأن قرابة الأم لا تعدها العرب قرابة ولا تفتخر بها أما لو أوصى لذي رحم زيد فيدخل فيه قرابة الأم في وصية العرب والعجم ، لأن لفظ الرحم لا يختص بطرف الأب بحال .
وذهبت طائفة غلى أن الأقوى على ما أجب به العراقيون ومال إليه أبو حنيفة ، هو أن أقارب الأم تدخل في الوصية سواء كانت في وصبة العرب أو وصية العجم ، وتوجيه الفارق ممنوع لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سعد خالي فليرني امرؤ خاله ) .
والإحسان إلى الأقارب قريب من الإحسان إلى الوالدين ، وذلك بأن يجتهد في رضاهم بما تيسر له عرفاً وشرعاً ، وينفق عليهم بالمعروف إن كانوا معسرين وهو موسر .
التكليف الرابع : الإحسان إلى اليتامى واليتيم من الأطفال الذي مات أبوه إلى أن يبلغ الحلم ، فيجب على وليه حفظ ماله واستنماؤه قدر النفقة والزكاة ومؤن الملك بما أمكنه والقيام بمصالحه مع رعاية دقائق الغبطة وقضاء حقوق النصيحة .
قال ابن عباس : يرفق بهم ويدنيهم ويمسح رأسهم .
واليتم في غير الإنسان من قبل أمه ، واليتيم من الدر ما لا أخت له وإنما يجمع ( يتيم ) على ( يتامى ) لأن اليتم لما كان من صفات الابتلاء حمل على الوجع والحبط .
فكما قالوا في وجع وحبط للمنتفخ البطن ، وجاعي وحباطي ، قيل في يتيم يتامى .
وفي الكشاف : إنه أجرى يتيم مجرى الأسماء نحو ( صاحب ) و ( فارس ) فقيل ( يتائم ) ثم ( يتامى ) على القلب وكذا في اليتيمة .
التكليف الخامس : الإحسان إلى المساكين واحدها مسكين أخذ من السكون ، كأن الفقر سكنه ، أو لأنه الدائم السكون إلى الناس ، لأنه لا شيء له كالسكير الدائم السكر وهو أسوأ حالاً من الفقير عند أكثر أهل اللغة وهو قول أبي حنيفة ومالك ، واحتجوا عليه بقوله(1/324)
" صفحة رقم 325 "
تعالى ) أو مسكيناً ذا متربة ) [ البلد : 16 ] وعند الشافعي وأحمد : الأمر بالعكس قالوا : اشتقاق الفقير من فقار الظهر ، كأن فقاره انكسرت لشدة حاجته ، والمسكين قد يملك ما يتعلل به كما في قوله تعالى ) أما السفينة فكانت لمساكين ) [ الكهف : 79 ] ويظهر أثر الخلاف فيما لو أوصى للفقراء دون المساكين أو بالعكس .
والإحسان إلى ذوي القربى واليتامى والمساكين ينبغي أن يكون مغايراً للزكاة لأن العطف يقتضي التغاير .
التكليف السادس : ( وقولوا للناس حسناً ( بالوصف أي قولاً حسناً .
وحسناً على المصدر أي قولاً ذا حسن ، أو قولاً هو الحسن في نفسه لإفراط حسنه ، أو ليحسن قولكم حسناً .
والظاهر أن المخاطبين بذلك هم الذين أخذ ميثاقهم لاتحاد القصة .
قيل : إنه مخصوص إما بتخصيص الناس أي قولوا للمؤمنين حسناً بدليل آية القتال ) أشداء على الكفار رحماء بينهم ) [ الفتح : 29 ] وإما بتخصيص القول أي قولوا للناس حسناً في الدعاء إلى الله والأمر بالمعروف .
وقال أهل الحقيقة : إنه على العموم وذلك أن كلام الناس مع الناس في الأمور الدينية إن كان بالدعوة إلى الإيمان وجب أن يكون بالرفق واللين كما قال لموسى ) فقولا له قولاً ليناً ) [ طه : 44 ] وقال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) [ آل عمران : 159 ] وإن كان بالدعوة إلى الطاعة كالفساق فحسن القول أيضاً معتبر ) أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) [ النحل : 125 ] ( ادفع بالتي هي أحسن ) [ فصلت : 34 ] وأما في الأمور الدنيوية فمن المعلوم أنه إذا أمكن التوصل غلى الغرض باللطيف من القول لم يعدل إلى غيره ، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه ، وما دخل الخرق في شيء غلا شانه ، فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخل تحت هذا القول .
وعن الباقر : قولوا للناس ما تحبون أن يقال لكم .
التكليف السابع والثامن : قوله ) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ( وقد تقدم تفسيرهما .
ولا شك في وجوب هذه التكاليف عليهم بدليل : أخذ الميثاق ، ولأن ظاهر الأمر للوجوب ولترتب الذم عليه بتوليهم ، وهذه التكاليف أيضاً واجبة في شرعنا .
وعن ابن عباس : أن الزكاة نسخت كل حق .
وضعف بأن إغاثة المضطر واجبة وإن لم تجب علينا الزكاة .
واعلم أن التكليف إما بدني أو مالي وكل منهما إما عام أو خاص .
فالبدني العام هو العبادة المطلقة ، وهي أن يكون بكل الجوارح والقوى منقاداً مطيعاً مؤتمراً لأمر الله تعالى ، بحيث لا يرى لنفسه شيئاً من التصرف والاختيار كالعبد الماثل بين يدي مولاه وإليه الإشارة بقوله تعالى ) لا تعبدون إلا الله ( .
والبدني الخاص هو الصلاة وأشار إليه بقوله ) وأقيموا الصلاة ( فللصلاة أوقات مخصوصة وأركان وشروط معدودة .
والمالي الخاص هو الزكاة لتخصصها(1/325)
" صفحة رقم 326 "
بالأصناف الزكوية وبالنصاب وبالحول وغير ذلك .
والمالي العام لكونه منوطاً بالقدرة .
والإمكان سببه إما نسب أولاً ، والنسب إما سابق أو مقارن أو لاحق .
فالسابق الوالدان ، والمقارن الأقارب ، واللاحق اليتامى ، لأنهم أولاد .
وذلك إذا كان الولي جداً أو بمنزلة الأولاد ، وذلك إذا كان الولي غيره .
وغير النسب إما الاحتياج والفقر وهو المساكين ، أو الاشتراك في النوع ، ولا يمكن إلا بالقول الحسن ، وما ينخرط في سلكه من مكارم الأخلاق الفعلية ( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن سعوهم بأخلاقكم ) فالقول الحسن يشمل الأصناف المتقدمة أيضاً بهذا الاعتبار ، وحين هذا الترتيب مما لا مزيد عليه ، وقد كرر أكثر هذه المعاني في سورة النساء بضرب من التأكيد ، فأكد العبادة بقوله ) ولا تشركوا به شيئاً ) [ النساء : 36 ] وأكد الإحسان إلى ذي القربى .
وما يتلوه بتكرير الجار وهو الباء وبضم أصناف أخر وهم الجار وغيره إليهم فكأنه كالتفصيل لقوله ) وقولوا للناس حسناً ( .
قوله تعالى ) ثم توليتم ( قيل الخطاب لمتقدمي بني إسرائيل على طريقة الالتفات ، ووجهه أن أول الكلام معهم فكذا آخره إلا بدليل يوجب الانصراف عن هذا الظاهر ، وقيل : إنه خطاب لمن كان في عصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من اليهود ، كأنه تعالى بين أن تلك المواثيق كما لزمهم التمسك بها فكذلك هي لازمة لكم لأنكم تعلمون ما في التوراة من نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصحة نبوته ، فيلزمكم من الحجة مثل الذي لزمهم وأنتم مع ذلك قد توليتم إلا قليلاً منكم وهم الذين آمنوا وأنتم معرضون .
الواو للاعتراض أي وأنتم قوم من عادتكم الإعراض ، أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أسلافكم .
وقيل : ثم توليتم للمتقدمين وأنتم معرضون للمتأخرين .
وأما قوله تعالى ) وإذ أخذنا ميثاقكم ( فقيل : خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل : المراد أخذنا ميثاق آبائكم .
وقيل : خطاب للأسلاف وتقريع للأخلاف .
وفي قوله ) لا تسفكون دماءكم ( إشكال ، وهو أن الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه فأي فائدة في النهي ؟ والجواب أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت من أهل الهند أنهم يقدرون في قتل النفس التخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور ، وككثير ممن يصعب عليه الزمان ، أو المراد لا يفعل ذلك بعضكم ببعض جعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به أصلاً أو ديناً ، أو أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه ، أو لا تتعرضوا لمقاتلة من يغلبكم فتكونوا قد قتلتم أنفسكم .
) ولا تخرجون أنفسكم ( لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم .
والمراد إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم لأن ذلك مما تعظم فيه الفتنة حتى يقرب من الهلاك .
وإعراب ) لا تسفكون ( و ) لا تخرجون ( على قياس ما تقرر في ) لا تعبدون ( ) ثم أقررتم وأنتم تشهدون ( أي ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم(1/326)
" صفحة رقم 327 "
بلزومه ، وأنتم تشهدون عليها كقولك ( فلان مقر على نفسه بكذا شاهد عليها ) أو اعترفتم بقبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك ، لأنه كان شائعاً فيما بينهم مشهوراً ، وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق .
) ثم أنتم ( معنى ( ثم ) الاستبعاد لما أسند إليهم من القتل ، والاجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم ، وإقرارهم وشهادتهم .
( وأنتم ) مبتدأ و ( هؤلاء ) خبره أي أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرين تنزيلاً لتغير الصفة منزلة تغير الذات كما تقول : خرجت بغير الوجه الذي دخلت به ، و ( تقتلون ) بيان ( لأنتم هؤلاء ) وقيل ( هؤلاء ) موصول بمعنى الذين وهذا عند الكوفيين فإنهم يجوزون كون جميع أسماء الإشارة بمعنى الموصول .
والتظاهر التعاون ، ولما كان الإخراج من الديار وقتل البعض بعضاً مما تعظم به الفتنة واحتيج فيه إلى اقتدار وغلبة ، بيّن تعالى أنهم فعلوه على وجه الاستعانة بمن يظاهرهم على الظلم والعدوان ، وفيه دليل على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه محرمة .
ولا يشكل هذا بتمكين الله تعالى الظالم من الظلم فإنه كما مكنه فقد زجره عنه ونهاه بخلاف معين الظالم فإنه يدعوه إلى الظلم ويحسنه في عينه مع أنه تعالى لا يسأل عما يفعل .
أسرى جمع أسير كجرحى في جريح ، وأسارى جمع أسرى كسكرى وسكارى .
وقيل : أسارى من الجموع التي ترك مفردها كأنه جمع ( إسران ) كعجالى وعجلان .
وقوله ( تفادوهم ( جمهور المفسرين على أنه وصف لهم بما هو طاعة وهو التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ليعودوا إلى كفرهم و ) هو ( ضمير الشأن و ) إخراجهم ( مبتدأ و ) محرم ( خبره والجملة خبر الضمير .
ويجوز أن يكون ) هو ( مبتدأ مبهماً و ) محرم ( خبره و ) إخراجهم ( تفسيره ، ) أفتؤمنون ببعض الكتاب ( أي بالفداء ) وتكفرون ببعض ( أي بالقتال والإجلاء .
وذلك أن قريظة كانوا حلفاء الأوس والنضير كانوا حلفاء الخزرج ، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ، وغذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم ، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فعيرتهم العرب فقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم ؟ فيقولون : أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكنا نستحيي أن يذل حلفاؤنا فذمهم الله تعالى على المناقضة إذا أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض ، ولعلهم صرحوا باعتقاد عدم وجوبه فلهذا سماه كفراً ، وقد تكون المناقضة أدخل في الذم وفي ذلك تنبيه على أنهم في تصديقهم بنبوة موسى مع التكذيب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والحجة في أمرهما على سواء ، يجرون(1/327)
" صفحة رقم 328 "
مجرى طريقة السلف منهم في الإيمان ببعض والكفر ببعض وكل في الميثاق سواء .
الخزي الذل والهوان خزي بالكسر يخزي خزياً أي ذل وهان ، وخزي أيضاً يخزى خزاية أي استحيا فهو خزيان .
فإذا قيل : أخزاه الله .
فالمراد أهانه أو أوقعه موقعاً يستحيي منه وتنكير ( خزي ) يدل على فظاعة شأنه وأنه بلغ مبلغاً لا يكتنه كنهه ، والأظهر أنه غير مختص ببعض الوجوه .
وقيل : هو قتل بني قريظة وأسرهم وإجلاء بني النضير ، وقيل : الجزية ، وعلى هذين القولين يختص الخزي بمن في عصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منهم وبمن يخلفهم دون أسلافهم ، فإن قيل : عذاب منكري الصانع كالدهرية يجب أن يكون أشد ، فكيف يقال في حق اليهود يردون إلى أشد العذاب ؟ قلنا : إما لأن كفر العناد أغلظ ، وإما لأن المراد أشد من الخزي لا الأشد مطلقاً .
وفي قوله : ( وما الله بغافل ( وعيد شديد للعاصين وبشارة عظيمة للمطيعين ، لأن القدرة الكاملة مع عدم الغفلة تدل على وصول الحقوق إلى مستحقها لا محالة .
) أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ( استبدلوها بها ) فلا يخفف عنهم العذاب ( لا ينقطع ولا يفتر بل يدوم على حالة واحدة ) ولا هم ينصرون ( بدفع هذا العذاب عنهم .
وفيه تنبيه على أن الجمع بين تحصيل لذات الدنيا إذا كانت على وفق الهوى لا الشرع ، وبين لذات الآخرة ممتنع يستتبع وجود إحداهما عدم الأخرى والله ولي التوفيق .
التأويل : ( وإذ أخذنا ميثاقكم ( في عهد ) ألست(1/328)
" صفحة رقم 329 "
بربكم ( ) لا تسفكون دماءكم ( بامتثال أوامر الشيطان واتباع خطواته كما قيل :
إلى حتفي مشى قدمي
أرى قدمي أراق دمي
) ولا تخرجون أنفسكم ( من ديار عبوديتكم التي كنتم فيها في أصل الفطرة ) وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم ( لا تقتصرون على ضلالكم بل يعاون بعضكم بعضاً على الإعراض عن حقوق الله والإقبال على حظوظ النفس ) وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ( فمن أسر في قيد الهوى فإنقاذه بالدلالة على الهدى ، ومن أسر في قيد حب الدنيا فخلاصه في كثرة ذكر المولى ، ومن أسر في أيدي الشكوك والشبهات ففداؤه إرشاده إلى اليقين بلوائح البراهين ولوامع البينات ، ومن أسر في حبس وجود فنجاته فيما يحل عنه وثاق الكون ويوصله إلى معبوده ، ومن أسر في قبضة الحق فليس لأسراهم فداء ولا لقتلاهم قود ولا لرهطهم خلاص ولا لقومهم مناص ولا منهم فرار ولا معهم قرار ولا إليهم بغيره سبيل ولا لديهم دليل ) أفتؤمنون ببعض الكتاب ( وهو ما سمعتم في أول الخطاب ) ألست بربكم ( فقلتم بلى ) وتكفرون ببعض ( وهو الذي عاهدتم عليه ألا تعبدوا غير الله من الشيطان والنفس والهوى الله حسبي .
( البقرة : ( 87 - 91 ) ولقد آتينا موسى . . . .
" ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين "
( القراآت )
القدس ( بسكون الدال حيث كان : ابن كثير .
) بئسما ( وبابه بغير همز : أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف .
) ينزل ( خفيفاً : ابن كثير وأبو عمرو وسهل وسعقوب .
الوقوف : ( القدس ( ( ط ) ) استكبرتم ( ( ج ) لتناهي الاستفهام مع تعقب فاء التعقيب بعده ) كذبتم ( ( ز ) لأن ( بل ) إعراض عن الأول وتحقيق للثاني ) يؤمنون ( ( 5 ) ) لما معهم ( ( ط ) ( لأن ) الواو للحال ) كفروا ( ( ج ) لأن ( لما ) متضمنة للشرط وجوابها منتظر والوصل أجوز لأن ( لما ) مكرر وجوابهما متحد ، وقوله : ( وكانوا من قبل ( حال معترض ) كفروا به ( ( ج ) لطول الكلام مع فاء التعقيب ) على غضب ( ( ط ) ) مهين ( ( 5 ) ) لما معهم ( ( ط ) ) مؤمنين ( ( ط ) .
التفسير : لما ذكر سبحانه في آلاي المتقدمة صنيع اليهود في مخالفتهم أمره تعالى ومناقضة حالهم ، أكد ذلك في هذه الآي بذكر نعم أفاضها عليهم ثم إنهم قابلوها بالكفران(1/329)
" صفحة رقم 330 "
ونقيض المقصود زيادة في تبكيتهم .
أما الكتاب فهو التوراة آتاه الله تعالى إياه جملة واحدة .
عن ابن عباس أنها لما نزلت أمر الله موسى بحملها فلم يطق ذلك ، فبعث الله لكل آية منها ملكاً فلم يطيقوا حملها ، فبعث الله لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حملها ، فخففها الله على موسى عليه السلام فحملها .
القفو والتقفية الإتباع وهو من القفا كالتذنيب من الذنب أي أتبعنا على أثره رسلاً كثيرين وهم يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم .
روي أن هؤلاء الرسل كانوا على شريعة واحدة إلى أيام عيسى عليه السلام فإنه جاء بشريعة مجددة ناسخة لأكثر شرع موسى ، وكان المقصود من بعثة ثؤلاء تنفيذ الشريعة السالفة وإحياء بعض ما اندرس منها ومن هنا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ) ( إن الله سيبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدد لها دينها فقيل عيسى بالسريانية أيشوع أي المبارك ، ومريم بمعنى الخادم .
وقيل مريم بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وهو الذي يحب محادثة النساء ومجالستهن ، سمي بذلك لكثرة زيارته لهن وبه فسر قول رؤبة :
قلت لزير لم تصله مريمه
ووزن ) مريم ( عند أهل الصرف ) مفعل ( لأن فعيلاً بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو ) عثير ( للغبار ) وعليب ( اسم واد .
البينات المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك ، أيدناه قويناه من الأيد القوة ، وبروح القدس الروح المقدس كما يقال حاتم الجود ورجل صدق أي بجبريل سمي بذلك لأنه سبب حياة الدين كما أن الروح سبب حياة البدن ، ولأنه الغالب عليه الروحانية ، ولأنه لم تضمه أصلاب الفحول ولا أرحام الأمهات ، وقيل بالإنجيل كما قال ) وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ) [ الشورى : 52 ] لأن العلم سبب حياة القلوب ، وقيل : باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره ، عن ابن عباس وسعيد بن جبير .
وقيل : الروح الذي نفخ فيه ، والقدس والقدوس هو الله ، وإضافة الروح إليه تشريف وتعظيم كما يقال ) بيت الله ( و ) ناقة الله ( .
عن الربيع : وكون الروح ههنا جبريل أظهر لأن اختصاصه بعيسى أكثر لأنه الذي بشر مريم بولادتها وقد تولد عليه السلام من نفخة جبريل في أمه وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار وكان معه حين صعد إلى السماء .
قوله تعالى : ( أفكلما ( وسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به من قوله : ( ولقد(1/330)
" صفحة رقم 331 "
آتينا ( لإفادة التوبيخ والتعجيب من شأنهم ، ويجوز أن تكون الفاء للعطف على مقدر معناه أأرضتم فكلما ) جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ( الباء للتعدية أو بمعنى ) مع ( ، وذلك أنهم كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه وإن تهيأ لهم قتله قتلوه ترفعاً وترؤساً على عامتهم .
وأخذ أموالهم بغير حق يوهمون عوامهم أنهم على الحق والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الباطل ، ويحتجون على ذلك بالتحريف وسوء التأويل ، ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم عليه السلام ) ففريقاً كذبتم ( على التمام وما بقي منه غير مكذب ) وفريقاً تقتلون ( أي ما تيسر لكم قتله بعد على التمام لأنكم تحومون حول قتل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) عند وفاته ( ما زالت أكلة خيبر تعادّني فهذا أوان قطعت أبهري ) .
والعداد اهتياج وجع اللديغ بعد كل سنة ، والأبهر عرق يخرج من القلب إذا انقطع مات صاحبه .
ويجوز أن يراد الحال الماضية لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب كقوله :
فأضربها بلا دهش فخرت
وفائدة تقديم المفعول به على الفعلين بعد رعاية الفاصلة في ) يقتلون ( بيان غاية عنادهم وفرط عتوهم حيث جعلوا الرسل فريقين : أحدهما مخصص بالتكذيب والآخر بالقتل ، كأن وصف الرسالة عندهم هو الذي اقتضى عندهم أحد هذين حتى خص المنعوت به دون سائر الناس بأحد الأمرين ، وهذا نهاية الجهالة حيث استقبلوا أشرف الأصناف لأكرم الأوصاف بغاية الاستخفاف .
غلف جمع أغلف وهو كل ما فيه غلاف ومنه الأغلف للذي لم يختن ، أي قلوبنا مغشاة بأغطية فلا تتأثر من دعوتك لمكان الحائل بينهما .
وقيل : غلف تخفيف غلف بضمتين جمع غلاف أي قلوبنا أوعية للعلم والحكمة فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره لا حاجة بنا إلى شرعك .
) بل لعنهم الله ( رد لقولهم وأن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة ، والتمكن من قبول الحق ولكنهم لعنوا أي طردوا عن رحمة الله وأبعدوا عن الخيرات بسبب كفرهم الذي أحدثوه بعد نصب الأدلة وإزاحة العلة .
وفي هذا لطف للمكلفين أن لا يتسلقوا إلى المعاصي بإبلاء نحو هذا العذر وإبداء مثل هذه الحجة ، ولكن يشمرون عن ساق الاجتهاد ( فكل ميسر لما خلق ) له ) فقليلاً ما يؤمنون ( أي إيماناً قليلاً يؤمنون .
و ( ما ) مزيدة وهو إيمانهم ببعض الكتاب أو بقليل مما كلفوا به .
يؤمنون ، فانتصب بنزع الخافض .
و ( ما ) صفة أي بشيء قليل من الأشياء المكلف بها .(1/331)
" صفحة رقم 332 "
ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم أي لا يؤمنون أصلاً لا قليلاً ولا كثيراً كما يقال : قليلاً ما تفعل .
أي لا تفعل ألبتة .
وذلك أن الإيمان بالله إنما يعبأ به إذا كان مؤمناً بجميع ما أنزل الله ، فإذا فرق بين أوامره فهو عن الإيمان بمعزل .
) ولما جاءهم ( جوابه محذوف وهو نحو : كذبوا به واستهانوا بمجيئه .
ويجوز أن يكون جوابه هو جواب ( لما ) الثانية المكررة للتأكيد لطول الكلام نحو قوله ) فلا تحسبنهم بمفازة ) [ آل عمران : 188 ] بعد قوله ) لا تحسبن ) [ آل عمران : 188 ] .
واتفقوا على أن المراد بالكتاب هو القرآن ، ووجه تصديقه لما معهم ليس هو الموافقة في أصول الشرائع ، لأن جميع كتب الله كذلك ، بل المراد ما يختص بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من العلامات والنعوت والصفات .
والتحقيق أن ذكر الكتاب ههنا كناية عن الرسول لأن الرسول يلزمه الكتاب عرفاً أو مجازاً لأن الكتاب مستلزم للرسول لا محالة يدل على ذلك قوله ) يستخفون على الذين كفروا ) [ البقرة : 89 ] وذلك أن اليهود قبل مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونزول القرآن كانوا يسألون به الفتح والنصرة على المشركين إذا قاتلوهم يقولون : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة .
وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم .
وقيل : معنى يستفتحون يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبياً يبعث منهم قد قرب أوانه .
والسين للمبالغة أي يسألون أنفسهم الفتح عليهم كالسين في ( استعجب ) و ( استخسر ) ، أو يسأل بعضهم بعضاً أن يفتح عليه ، ) فلما جاءهم ما عرفوا من الحق ( وهو نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويجوز أن تكون ( ما ) بمعنى ( من ) نحو : سبحان ما سخركن لنا أي فلما جاءهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) كفروا به ( ، إما لأنهم كانوا يظنون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة مجيء الرسل منهم فيرغبون الناس في دينه ويدعونهم إليه فلما بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) من العرب من ذرية إسماعيل عليه السلام عظم ذلك عليهم فأظهروا التكذيب بغياً وحسداً وعناداً ولدداً ، وإما لأنهم ظنوا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مبعوث إلى العرب خاصة ، وإما لأن اعترافهم بنبوته كان يوجب عليهم زوال رياساتهم ومكاسبهم فأبوا وأصروا على الإنكار .
فكفرهم إذاً كفر عناد ، ) فلعنة الله ( وهي الإبعاد عن الخيرات الحقيقية الباقية ) ) على الكافرين ( أي عليهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أن اللعنة إنما لحقتهم لكفرهم ، واللام للعهد أو للجنس ويدخلون فيه دخولاً أولياً .
فإن قيل : أليس أنه تعالى ذكر ) وقولوا للناس حسناً ) [ البقرة : 83 ] قلنا : العام قد يخص ، وأيضاً لعن من يستحق اللعن حسن ، وأيضاً أولئك بالنسناس أشبه منهم بالناس ) أولئك كالأنعام بل هم أضل ) [ الأعراف : 179 ] ( بئس ) لإنشاء الذم ، وفاعله قد يكون مظهراً نحو ( بئس الرجل زيد ) ، وقد يكون مضمراً يعود إلى معهود ذهني فيفسر حينئذ بنكرة منصوبة وبعدهما المخصوص بالذم(1/332)
" صفحة رقم 333 "
ف ( ما ) نكرة منصوبة مفسرة : لفاعل ( بئس ) أي بئس شيئاً اشتروا به أ نفسهم ، والمخصوص بالذم ) أن يكفروا ( واختلف في إعراب المخصوص فقيل : مبتدأ والجملة قبله خبره .
وقيل خبر مبتدأ محذوف أي هو أن يكفروا .
واشتروا بمعنى باعوا لأن الكفر حاصل تعلق نفوسهم بأبدانهم كما أ ، الثمن حاصل ملك المالك .
وقيل : إن المكلف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله تعالى فأتى بأعمال يظن بها أنها تخلصه من العقاب فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال ، وهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم من العقاب ويوصلهم إلى الثواب ، فقد ظنوا أنهم قد اشتروا أنفسهم بها ، والمراد بما أنزل الله القرآن لأنهم كانوا مؤمنين بغيره .
ثم بين الوجه الذي لأجله اختاروا هذا الكفر فقال ) بغياً ( أي حسداً وطلباً لما ليس لهم ، ولولا هذا البيان لجاز أن يكون الباعث لهم على ذلك الكفر هو الجهل لا البغي ولما كان الباعث على البغي قد يكون وجوهاً شتى بين أن الحامل لهم على البغي هو ) أن ينزل الله من فضله ( الذي هو الوحي ) على من يشاء ( وتقتضي حكمته إرساله وهذا هو اللائق بما حكينا من أنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم يحصل في قومهم ، فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي والحسد ، وعلى هذا يكون الجار المحذوف هو لام الغرض أي لأجل أن ينزل ، ويحتمل أني قال المحذوف على أي حسدوه على أن ينزل .
) فباءوا بغضب على غضب ( لا بد من إثبات سببي غضبين : أحدهما تكذيبهم عيسى وما أنزل عليه ، والثاني تكذيبهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما أنزل عليه ، فصار ذلك سبباً بعد سبب لسخط بعد سخط وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة وأبي العالية وقتادة .
وقيل : الأول لعبادتهم العجل ، والثاني لكتمانهم نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجحدهم نبوته عن السدي .
وقيل : ليس المراد إثبات الغضبين فقط ، بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور متوالية صدرت عنهم كقولهم ) عُزير ابن الله ) [ التوبة : 30 ] ( يد الله مغلولة ) [ المائدة : 64 ] ( إن الله فقير ونحن أغنياء ) [ آل عمران : 181 ] عن عطاء وعبيد بن عمير .
وقيل : المراد تأكيد الغضب وتكثير له لأجل أن هذا الكفر وإن كان واحداً إلا أنه عظيم ، وهو قول أبي مسلم .
ومعنى الغضب في حقه تعالى قد عرفت مراراً أنه عبارة عن لازمه وهو إرادة الانتقام ، وأما تزايده وتكثره فيصح فيه ذلك كصحته في العذاب ، فلا يكون غضبه على من كفر بخصال كثيرة كمن كفر بخصلة واحدة ) وللكافرين عذاب مهين ( من وضع الظاهر مقام المضمر أي ولهم عذاب ، وفائدته ما ذكرنا في قوله ) فلعنة الله على الكافرين ( ووصف العذاب بالمهين والمهين هو المعذب لأن الإهانة لما حصلت مع العذاب جاز أن يجعل ذلك من وصفه لأنها بسبب منه ، ولا يلزم من اقتران العذاب بالإهانة تكرار فقد يكون العذاب ولا إهانة كالوالد(1/333)
" صفحة رقم 334 "
يؤدب ولده ) آمنوا بما أنزل الله ( بكل ما أنزل الله من كتاب وقد يستدل به على عموم ( ما ) ) قالوا نؤمن بما أنزل علينا ( أي بالتوراة وكتب سائر الأنبياء الذين آتوا بتقرير شرع موسى عليه السلام ) ويكفرون بما وراءه ( أي قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة وهو الإنجيل والقرآن ) وهو الحق ( الضمير يعود إلى ( ما وراءه ) أو إلى القرآن فقط .
و ) مصدقاً ( حال مؤكدة لوجود شرطها وهو كونها مقررة لمضمون جملة اسمية ، أو كون مضمونها لازماً لمضمون الجملة الاسمية ، فإن التصديق لازم حقية القرآن فصار كأنه هو والعامل في ) مصدقاً ( محذوف وهو يبدو أو يثبت على الأصح .
وأما الواو في ) وهو الحق ( فيجوز أن تكون معترضة فلا محل للجملة ، ويجوز أن تكون للحال وحينئذ إما أن يكون العامل فيها هو العامل في قوله ) ويكفرون ( على أن كلاً منهما حال بحيالها ، وإما أن يكون العامل فيها هو يكفرون على أنهما حالان متداخلتان .
وفي قوله ) وهو الحق مصدقاً لما معهم ( دلالة على وجوب الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه لما أثبت نبوته بالمعجزات ثم إنه أخبر أن هذا القرآن منزل من عند الله وأنه ( صلى الله عليه وسلم ) أمر المكلفين بالإيمان ، كان الإيمان به واجباً لا محالة ، وعند هذا يظهر أن الإيمان ببعض الأنبياء وبعض الكتب مع الكفر ببعضهم وبعضها محال .
وأيضاً أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يتعلم علماً ولم يقرأ ولم يخط ، ثم إنه ( صلى الله عليه وسلم ) أتى بالقصص والأخبار مطابقة لما في التوراة ، فيعلم بالضرورة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) استفادها من قبل الوحي وأيضاً القرآن يدل على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق التوراة وجب اشتمال التوراة على الأخبار عن نبوته .
فمدعي الإيمان بالتوراة يجب أن يؤمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإلا كان كاذباً .
ثم إنه تعالى بين من وجه آخر كذب دعواهم ، وهو أن التوراة لا تسوغ قتل الأنبياء وأنهم سوغوا ذلك ، وفيه دليل على أن إيراد المناقضة على الخصم الألد جائز .
والكلام وإن كان على وجه الخطاب إلا أن المراد بذلك أسلافهم بدليل ) من قبل ( وتقتلون حكاية حال ماضية .
وأصل ( لم ) لما بإدخال لام التعليل في ( ما ) الاستفهامية ، حذفت الألف للتخفيف أي لأي غرض وبأي حجة كان أسلافكم يقتلون الأنبياء .
وفي قوله ) إن كنتم مؤمنين ( تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم الإيمان ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما تقدمه .
وفيه تنبيه على أن اليهود المعاصرين خرجوا بتكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من الإيمان بالتوراة كما أن أسلافهم خرجوا بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بها والله تعالى أعلم .
التأويل : هذا حال أكثر البطالين المتشبهين بالطالبين يصغون إلى كلمات العلماء الراسخين ، فما استحلته نفوسهم قبلوه ، وما استغربته نبذوه وأنكروه ، فيكذبون فريقاً منهم(1/334)
" صفحة رقم 335 "
فراراً عن تحمل أعباء الطلب ويثيرون الفتنة على فريق بالحسد والإنكار والفتنة أشد من القتل ) وقالوا قلوبنا غلف ( فيه إشارة إلى أن الطالب إذا ابتلى في أثناء الطلب بالرهقة أو الفترة لم يضره ذلك ما دام متمسكاً بالإرادة ، فيرجى رجوعه بإذن الله وبمدد همة الأستاذ والشيخ ، فأما إذا زلت قدمه عن جادة الإرادة وأظهر الإنكار والاعتراض فلن يرجى فلاحه .
) ولما جاءهم كتاب ( فيه إشارة إلى أن أهل كل زمان يتمنون أن يدركوا أحداً من العلماء والأولياء المحظوظين بالعلوم الكسبية واللدنية ويتوسلون بهم إلى الله تعالى عند رفع حوائجهم في صالح دعائهم ويظهرون محبتهم عند الخلق ) فلما وجدوا ( واحداً منهم ) ما عرفوا ( قدره وحسدوه وأظهروا عداوته وما أنصفوه ) فباءوا بغضب ( من رد ولاية الأولياء ) على غضب ( من الله لأوليائه كما جاء في الحديث ( من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ) و ( إنما أنا أغضب لأوليائي كما يغضب الليث لجروه ) والله أعلم بالصواب .
( البقرة : ( 92 - 96 ) ولقد جاءكم موسى . . . .
" ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون "
( القراآت )
ولقد جاءكم ( مدغمة الدال في الجيم كل القرآن : أبو عمرو وحمزة وعلي خلف وهشام ) جاءكم ( وبابه بالإمالة : حمزة وخلف وابن ذكوان ) قلوبهم العجل ( بكسر الهاء والميم : أبو عمرو وسهل ويعقوب ، وقرأ حمزة وعلي وخلف بضم الهاء والميم ، الباقون بكسر الهاء وضم الميم وكذلك كل ما لقي الميم حرف ساكن وقبل الهاء كسرة ) بما تعملون ( بتاء الخطاب : يعقوب .
و الوقوف : ( ظالمون ( ( 5 ) ) الطور ( ( ط ) لتقدير القول ) واسمعوا ( ( ط ) ) بكفرهم ( ( ط ) ) مؤمنين ( ( 5 ) ) صادقين ( ( 5 ) ) أيديهم ( ( ط ) ) بالظالمين ( ( 5 ) ) على حياة ( ( ج ) على تقدير : ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم ، ومن وقف على ) أشركوا ( فتقديره أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا و ) يود ( مستأنف للبيان وإنما لم يدخل(1/335)
" صفحة رقم 336 "
من في الناس وأدخل في الذين أشركوا لأن اليهود من الناس وليسوا من المشركين كقولك ( الياقوت أفضل الحجارة وأفضل من الديباج ) ) سنة ( ( ط ) لأن ما بعده يصلح مستأنفاً وحالاً ) أن يعمر ( ( ط ) ) يعملون ( ( 5 ) .
التفسير : السبب في تكرير قصة اتخاذ العجل ههنا القدح بوجه آخر في قولهم ) نؤمن بما أنزل علينا ) [ البقرة : 91 ] وبيان وصفهم بالعناد والتكذيب تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتثبيتاً له ، فإن قوم موسى عليه السلام بعد ظهور المعجزات الواضحات على يده اتخذوا العجل إلهاً ومع ذلك صبر وثبت على الدعاء إلى ربه والتمسك بدينه وشرعه .
وكرر ذكر رفع الطور للتأكيد ، ولما نيط به من زيادة قولهم ) سمعنا وعصينا ( الدال على نهاية لجاجهم وذلك أنه قال لهم : اسمعوا سماع تقبل وطاعة .
فقالوا : سمعنا ولكن لا سماع طاعة ، وظاهر الآية يدل على أنهم قالوا هذا القول أعني سمعنا وعصينا وعليه الأكثرون .
وعن أبي مسلم أنه يجوز أن يكون المعنى سمعوه وتلقوه بالعصيان ، فعبر عن ذلك بالقول مثل ) قالتا أتينا طائعين ) [ فصلت : 11 ] ( وأشربوا في قلوبهم العجل ( أي تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ .
وقوله تعالى ) في قلوبهم ( بيان لمكان الإشراب كقوله ) إنما يأكلون في بطونهم ناراً ) [ النساء : 10 ] وفي هذه الاستعارة لطيفة وهي أنه كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض فكذا تلك المحبة كانت مادة للقبائح الصادرة عنهم .
وفي قوله ) واشربوا ( دلالة على أن فاعلاً غيرهم فعل ذلك بهم كالسامري وإبليس وشياطين الجن والإنس ، وذلك بسبب كفرهم واعتقادهم التشبيه على الله تعالى ولا ريب أن جميع الأسباب تنتهي إلى الله تعالى وقد عرفت التحقيق في أمثال ذلك مراراً .
) بئسما يأمركم ( المخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئاً يأمركم به إيمانكم بالتوراة عبادة العجل ، فليس في التوراة عبادة العجاجيل .
وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما قال قوم شعيب ) أصلاتك تأمرك ) [ هود : 87 ] وكذلك غضافة الإيمان إليهم .
واعلم أن الإيمان عرض ولا يصح منه الأمر والنهي ، لكن الداعي إلى الفعل والسبب فيه قد يشبه بالأمر كقوله ) إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) [ العنكبوت : 45 ] ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة ( الدار اسم ( كان ) وفي الخبر ثلاثة أوجه : الأول : ( خالصة ( و ) عند ( ظرف لخالصة أو للاستقرار الذي في ) لكم ( ويجوز أن يكون ) عند ( حالاً من الدار والعامل فيها ( كان ) أو الاستقرار .
وأما ) لكم ( فيكون على هذا متعلقاً ب ( كان ) لأنها تعمل في حروف الجر ، ويجوز أن يكون للتبيين فيكون موضعها بعد ) خالصة ( أي خالصة لكم فيتعلق بنفس خالصة ، ويجوز أن يكون صفة لخالصة قدمت عليها فيتعلق حينئذ بمحذوف .
الثاني : أن يكون خبر كان ) لكم ( و ) عند(1/336)
" صفحة رقم 337 "
الله ( ظرف و ) خالصة ( حال والعامل ( كان ) أو الاستقرار .
الثالث : أن يكون ) عند الله ( هو الخبر و ) خالصة ( حال والعامل فيها إما عند ، وما يتعلق به أو ( كان ) أو ( لكم ) وسوغ أن يكون ) عند ( خبر ) كانت لكم ( إذ كان فيه تخصيص وتبيين نحو ) ولم يكن له كفواً أحد ) [ الإخلاص : 4 ] وقوله ( من دون الناس ( نصب ب ) خالصة ( لأنك تقول : خلص كذا من كذا .
والمراد بالدار الآخرة الجنة لأنها هي المطلوبة من الدار الآخرة دون النار .
والمراد بقوله ) عند الله ( الرتبة والمنزلة ، وحمله على عندية المكان ممكن ههنا إذ لعلهم كانوا مشبهة .
ومعنى خالصة لكم أي سالمة خاصة بكم لا حق لأحد فيها سواكم .
( ودون ) ههنا يفيد التجاوز والتخطي في المكان كما تقول لمن وهبته منك ملكاً : هذا لك من دون الناس .
أي لا يتجاوز منك إلى غيرك .
والناس للجنس وقيل للعهد وهم المسلمون والجنس أولى لقوله ) وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ) [ البقرة : 111 ] ولأنه لم يوجد ههنا معهود .
فإن قلت : من أين ثبت أنهم ادعوا ذلك ؟ قلنا : لأنه لا يجوز أن يقال في معرض الاستدلال على الخصم إن كان كذا وكذا فافعل كذا إلا والأول مذهبه ليصح إلزامه بالثاني ، ولقوه تعالى ) وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ) [ البقرة : 111 ] ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) [ المائدة : 18 ] ولما اعتقدوا في أنفسهم أنهم هم المحقون ، لأن النسخ غير جائز عندهم ، ولزعمهم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ويوصلونهم إلى ثواب الله فلهذه الأسباب عظموا شأن أنفسهم وكانوا يفتخرون على العرب ، وربما جعلوه كالحجة في أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المنتظر المبشر به في التوراة منهم لا من العرب ، وكانوا يصرفون الناس بسبب هذه الشبهة عن اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فبين الله تعالى فساد معتقدهم بالآية .
وبيان الملازمة أن متاع الدنيا قليل في جنب نعم الآخرة ، وذلك القليل كان أيضاً منغصاً عليهم بعد ظهور محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومنازعته معهم بالجدال والقتال .
فالموت خير لهم لا محالة لأنه يوصل إلى الخيرات الكثيرة الدائمة الصافية عن النغص ، ولا يفوت إلا القليل النكد .
والوسيلة وإن كانت مكروهة نظراً إلى ذاتها لكنه لا يتركها العاقل نظراً إلى غايتها كالفصد ونحوه .
والنهي عن تمني الموت في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وإن كان ولا بد فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً إليّ وأمتني ما كانت الوفاة خيراً لي ) محمول على تمن سببه عدم الصبر على الضر ونكد العيش كما قال قائل :(1/337)
" صفحة رقم 338 "
ألا موت يباع فأشتريه
فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن روح عبد
تصدق بالوفاة على أخيه
فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقضاء ويدل على الجزع وضيق العطن وينافي قضية التوكل والتسليم ، أو على تمن سببه الجزم بالوصول إلى نعيم الآخرة فإن ذلك خارج عن قانون الأدب ، ونوع من الأخبار بالغيب لا يليق إلا ببعض أولياء الله .
روي أن علياً عليه السلام كان يطوف بين الصفين في غلالة وهي شعار يلبس تحت الثوب وتحت الدرع أيضاً .
فقال له ابنه الحسن : ما هذا بزي المحاربين .
فقال : يا بني ، لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط الموت .
وعن حذيفة أنه رضي الله عنه كان يتمنى الموت ، فلما احتضر قال رضي الله عنه : حبيب جاء على فاقة لا يفلح من ندم .
يعني على التمني .
وقال عمار بصفين : الآن ألاقي الأحبة ، محمداً وحزبه .
وكان كل واحد من العشرة المبشرة بالجنة يحب الموت ويحن إليه لجزمهم بلقاء الله ونيل ثوابه وذلك لمكان البشارة ، فأما أحدنا فلا يليق به تمني الموت إلا على سبيل الرجاء وحسن الظن بالله ( أنا عند ظن عبدي بي ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على الأرض يهودي ) وليس لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيقولوا : إنك تدعي أن الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر ، فارض بأن نقتلك ونقتل أمتك فإنا نراك وأمتك في الضر الشديد والبلاء العظيم ، وبعد الموت تتخلصون إلى دار الكرامة والنعيم ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) بعث لتبليغ الشرائع وتنفيذ الأحكام ولا يتم المقصود إلا بحياته وحياة أمته ، فله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول لأجل هذا لا أرضى بالقتل مع أن المؤمن من هذه الأمة قلما يخلو من النزاع والشوق إلى لقاء ربه ، فاعبد المطيع يحب الرجوع إلى سيده ، والعبد الآبق يكره العود إلى مولاه ، ولهذا جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وبذلوا أرواحهم دون الدين والذب عن الملة الحنيفية ) رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ) [ الأحزاب : 23 ] عن عبادة بن الصامت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة أو بعض أزواجه إنا لنكره الموت قال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه .
وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما(1/338)
" صفحة رقم 339 "
أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه ) ثم إنه تعالى بين انتفاء اللازم بقوله ) ولن يتمنوه أبداً ( وبرهن عليه بقوله ) بما قدمت أيديهم ( أي بما أسلفوا من موجبات النار كالكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالقرآن وكتحريف كتاب الله وسائر قبائح أفعالهم .
وذكر الأيدي مجاز لأن أكثر الأعمال يتم بمباشرة اليد .
وقوله ( ولن يتمنوه أبداً ( من المعجزات لأنه إخبار بالغيب ، وكان كما أخبر به كقوله ) ولن تفعلوا ) [ البقرة : 24 ] وذلك أن التمني ليس من أعمال القلب حتى لا يطلع عليه أحد ، وإنما هو قول الإنسان بلسانه تمنيت أو ليت لي كذا ، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب .
فلو إنهم تمنوا لنقل ذلك كما ينقل سائر الحوادث العظام ، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن أكثر من الذرّ .
وأيضاً لو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا قد تمنينا الموت في قلوبنا ولم ينقل أنهم قالوا ذلك .
وأيضاً لولا أنه تعالى أوحى إليه أنهم لم يتمنوا لم يكن في العقل رخصة الإقدام على مثل هذا الإلزام ، لأنه في غاية السهولة ، وإذا ثبت انتفاء اللازم ثبت انتفاء الملزوم بالضرورة وهو أن لا تكون الدال الآخرة لهم خالصة ، وأما أنها ليست لهم بالاشتراك أيضاً ، فيستفاد من الآية التالية .
وفي قوله ) والله عليم بالظالمين ( إشارة أيضاً إلى ذلك لأنه إذا كان محيطاً بسرهم وعلانيتهم وقد قدموا من القبائح ما قدموا فيجازيهم بما يحقون له .
وفي وضع الظاهر وهو بالظالمين مقام المضمر وهو بهم إشارة أخرى إلى سوء منقلبهم ) وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) [ الشعراء : 227 ] واللام إما للعهد وإما للجنس ، فيشملهم أولاً وغيرهم من الظلمة ثانياً .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله ههنا ) ولن يتمنوه ( وفي سورة الجمعة ) ولا يتمنونه ) [ الجمعة : 7 ] ؟ قلنا : لأن الدعوى هنا كون الدار الآخرة خالصة لهم ، وهناك كونهم أولياء لله من دون الناس ، والأول مطلوب بالذات ، والثاني وسيلة إليه ، فناسب أن ينفي الأول بما هو أبلغ في إفادة النفي وهو ( لن ) ، أو لأن الدعوى الثانية أخص فإنه لا يلزم أن يكون كل من له الدار الآخرة ولياً بمعنى أنه يلي النبي في الكمال والإكمال ، ونفي العام أبعد من نفي الخاص كما أن إثبات الخاص في قولك ( فلان ابن فلان موجود ) أبعد من إثبات العام في قولك ( الإنسان موجود ) .
فحيث كانت الدعوى الأولى أبعد احتيج إلى أداة هي في باب النفي أبلغ .
ثم إنه سبحانه لما أخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم لا يتمنون الموت ، أخبر بعد ذلك أنهم في غاية الحرص على الحياة ، لأن ههنا قسماً ثالثاً وهو أن لا يتمنى(1/339)
" صفحة رقم 340 "
الحياة ولا الموت فقال ) ولتجدنهم أحرص الناس ( مؤكداً باللام والنون والقسم المقدر وهو من وجد بمعنى علم .
وقوله ( على حياة ( بالتنكير لأنه أراد نوعاً من الحياة مخصوصاً وهي الحياة المتطاولة أو حياة وأيّ حياة .
وفي جعلهم أحرص من الذين أشركوا توبيخ عظيم ، لأن المشركين لا يؤمنون بمعاد وعاقبة وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فهي جنتهم ، فلا يستبعد حرصهم عليها .
فإذا ازداد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان خليقاً بالتوبيخ .
وسبب زيادة حرصهم هو علمهم بأنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون غافلون عن ذلك .
وقيل : أراد بالذين أشركوا المجوس لأنهم كانوا يقولون لملوكهم : عش ألف نيروز وألف مهرجان .
وعن ابن عباس : هو قول الأعاجم ( زي هزار سال ) ، ويحسن أن يقال ) ومن الذين أشركوا ( كلام مبتدأ أي ومنهم ناس يودّ على حذف الموصوف كقوله ) وما منا إلا له مقام معلوم ) [ الصافات : 164 ] أي وما منا ملك لقوة الدلالة عليه بذكر ما اشتمل عليه قبله ، فكأنه مذكور ، وعلى هذا يلزم توبيخ اليهود من جهة أخرى وهي انضمامهم في زمرة المشركين وكونهم بعضاً منهم وذلك كقولهم ) عزير ابن الله ) [ التوبة : 30 ] .
وقال أبو مسلم : في الآية تقديم وتأخير أي ولتجدنهم طائفة من الذين أشركوا وأحرص الناس على حياة ، ثم فسر بقوله ) يود أحدهم ( أي كل واحد يغرض لو يعمر .
و ( لو ) في معنى التمني و ) لو يعمر ( حكاية لودادتهم ، وكان يجوز ( لو أعمر ) على الحكاية إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله ) يود أحدهم ( مثل ( حلف بالله ليفعلن ) وتخصيص الألف بالذكر بناء على العرف ولأنه أول عقد يستحيل وقوعه في أعمار بني آدم أو يندر .
والضمير في قوله ) وما هو ( يعود إلى أحدهم و ) أن يعمر ( فاعل ) بمزحزحه ( أي وما أحدهم بمن يزحزحه من العذاب تعميره .
ويجوز أن يكون الضمير لما دل عليه ) يعمر ( من مصدره و ) أن يعمر ( بدل منه كأنه قيل : وما التعمير بمزحزحه من العذاب أن يعمر .
ويجوز أن يكون ) هو ( مبهماً و ) أن يعمر ( موضحه .
والزحزحة المباعدة والتنحية .
) والله بصير بما يعملون ( فيه تهديد لأهل البغي والعناد ، وزجر للعصاة عن الفساد .
والبصر قد يراد به العلم يقال فلان بصير بهذا الأمر أي عارفبه ، وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها ، وكلا الوصفين يصح عليه سبحانه ما لم يثبت له جارحة .
فإن قلنا : إن من الأعمال ما لا يصح أن يرى ، تعين حمل البصر فيه على العلم والله أعلم بالصواب .
وإليه المرجع والمآب .
( البقرة : ( 97 - 101 ) قل من كان . . . .
" قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله(1/340)
" صفحة رقم 341 "
عدو للكافرين ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون "
( القراآت )
جبريل ( مفتوحة الجيم مكسورة الراء غير مهموز : ابن كثير .
وقرأ حمزه وعلي وخلف وعاصم غير حفص ويحيى مفتوحة الراء والجيم مهموزة مشبعاً .
وقرأ يحيى مختلساً .
الباقون : مكسورة الراء والجيم غير مهموز .
) ميكال ( أبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص ، وقرأ أبو جعفر ونافع مختلساً مهموزاً .
الباقون : ميكائيل مهموزاً مشبعاً .
الوقوف : ( للمؤمنين ( ( 5 ) ) للكافرين ( ( 5 ) ) بينات ( ( ج ) لأن هذه الواو للابتداء أو الحال والحال أوجه لاتحاد القصة ) الفاسقون ( ( 5 ) ) فريق منهم ( ( ط ) لأن ( بل ) للإعراض عن الأول ) لا يؤمنون ( ( 5 ) ) أوتوا الكتاب ( ( ط ) قد قيل يوقف لبيان أن كتاب الله مفعول ( نبذ ) لا بدل مما قبله ) لا يعلمون ( ( 5 ) قد يجوز للآية ، والوصل للعطف على ) نبذ ( لإتمام سوء اختيارهم في النبذ والاتباع .
التفسير : هذا نوع آخر من قبائح أفعال اليهود ، والسبب في نزوله أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا من أحبار فدك فقال : يا محمد ، كيف نومك ؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي يجيء في آخر الزمان ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) تنام عيناي ولا ينام قلبي .
قال : صدقت يا محمد ، فأخبرنا عن الولد من الرجل يكون أو من المرأة ؟ فقال : أما العظام والعصب والغضروف فمن الرجل ، وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة .
فقال صدقت .
قال : فما بال الولد يشبه أعمامه دون أخواله ، أو يشبه أخواله دون أعمامه ؟ فقال : أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له .
قال : صدقت .
قال : أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً فطال سقمه فنذر لله نذراً إن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحب الطعام والشراب على نفسه وهو لحمان الإبل وألبانها ) فقالوا : اللهم نعم .
فقال له : بقيت خصلة إن قلتها آمنت بك .
أيّ ملك يأتيك بما تقول عن الله ؟ قال : جبريل قال : ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة ، ورسولنا ميكائيل يأتي باليسر والرخاء .
فإن كان هو يأتيك آمنا بك .
فقال عمر : ما مبدأ هذا العداوة ؟ فقال ابن صوريا : إن الله أنزل على نبينا أن بيت المقدس يخرب في زمان رجل يقال له بختنصر ، ووصفه لنا فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالاً فدفع عنه جبريل وقال : إن سلطكم الله على قتله .
فهذا ليس هو ذاك وإن(1/341)
" صفحة رقم 342 "
لم يكن إياه فعلى أي حق تقتلونه .
ثم إنه كبر وقوي وملك وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدواً .
وأما ميكائيل فإنه عدو لجبريل .
فقال عمر : فإني أشهد أن من كان عدواً لجبريل فهو عدو لميكاكئيل ، وهما عدوان لمن عاداهما ، فأنكر ذلك على عمر فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين .
وقيل : كان لعمر أرض بالمدينة أعلاها ، وكان ممره على مدراس اليهود ، وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم .
فقالوا : يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك .
فقال : والله لا أجيئكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني ، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأرى آثاره في كتابكم .
ثم سألوه فقالوا : من صاحب صاحبكم ؟ فقال عمر : جبريل .
فقالوا : ذاك عدوّنا يطلع محمداً على أسرارنا ، وهو صاحب كل خسف وعذاب ، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلام .
فقال لهم : وما منزلتهما من الله ؟ قالوا : أقرب منزلة جبريل وهو عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، وميكائيل عدوّ لجبريل .
فقال عمر : إن كان كما تقولون فما هما بعدوّين ، ولأنتم أكفر من الحمير .
ومن كان عدواً لأحدهما كان عدواً للآخر ، ومن كان عدواً لهما كان عدواً لله .
ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد وافقك ربك يا عمر ) .
قال : لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر .
وعن مقاتل : زعمت اليهود أن جبريل عدونا أمر بأن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا .
والأقرب في سبب عداوتهم إياه أنه كان ينزل بالقرآن على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كما يشعر بذلك قوله ) فإنه نزله ( أي إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقاً لكتابهم وموافقاً له وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم ، ولذلك كانوا يحرّفونه ويجحدون موافقته له كقولك ( إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه ) أو إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب بين يديه ، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في النزول بما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم .
ويمكن أن يتوجه الجزاء غلى قوله ) بإذن الله ( إلى آخره .
أي إن عاداه أحد فلا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وباختياره وإنما جاء به بإذن الله وأمره الذي لا محيص عنه ولا سبيل إلى مخالفته وجاء به مصدقاً هادياً مبشراً ، فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذوراً ، ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يلزم أن يكون مشكوراً .
فعداوة من هذا سبيله عداوة الله ، ولو أنه تعالى أمر ميكائيل بذلك لانقاد لأمره أيضاً لا محالة ولتوجه الإشكال عليه ، فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة ؟ وجبريل ممتنع من الصرف للعلمية والعجمة بشرطها .
وعن ابن عباس وغيره أن معناه عبد الله ، والضمير في نزله للقرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم مثل قوله تعالى ) ما ترك على ظهرها من دابة ) [ فاطر : 45 ] وهذا النوع من الإضمار فيه(1/342)
" صفحة رقم 343 "
فخامة لشأن صاحبه حيث جعله لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه .
وأكثر الأمة على أن القرآن إنما نزل على محمد لا على قلبه ، لكن خص القلب بالذكر لأن السبب في تمكنه ( صلى الله عليه وسلم ) من الأداء ثباته في قلبه ، فمعنى على قلبك حفظه إياك وفهمه .
وقيل : أي جعل قلبك متصفاً بأخلاق القرآن ومتأدباً بآدابه كما في حديث عائشة ( كان خلقه ( صلى الله عليه وسلم ) القرآن ) وكان حق الكلام أن يقال على قلبي إلا أنه جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل : قل ما تكلمت به من قولي ) من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك ( ومعنى ) مصدقاً لما بين يديه ( موافقاً لما قبله نم كتب الأنبياء فيما يرجع إلى المبادئ والغايات دون الأوساط التي يتطرق إليها الاختلاف بتبدل الأزمان والأوقات .
ومعنى قوله ) وهدى وبشرى ( أن القرآن يشتمل على أمرين .
أحدهما بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأفعال الجوارح فهو من هذا الوجه هدى ، وثانيهما بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه فهو من هذا الوجه بشرى ، والأول مقدم على الثاني في الوجود فقدم في الذكر أيضاً .
ولا ريب أن البشرى تختص بالمؤمنين ، وأما الهدى فلأنهم هم المنتفعون به كما مر في ) هدى للمتقين ( .
ولما بين في الآية المتقدمة أن من كان عدواً لجبريل لأجل أنه نزل القرآن على قلب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجب أن يكون عدواً لله تعالى ، بين في الآية التالية أن من كان عدواً لله وللمخصوصين بكرامته فإن الله يعاديهم وينتقم منهم .
والعداوة بالحقيقة لا تصح إلا فينا لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المضار به ، وهذا التصور يستحيل في حقه تعالى من العاقل المتفطن لا الغافل المتغابي .
فمعنى قوله ) من كان عدواً لله ( أي لأولياء الله كقوله ) إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ) [ المائدة : 33 ] ( إن الذين يؤذون الله ورسوله ) [ الأحزاب : 57 ] .
أو يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وبعدهم عن التمسك بدينه ، لأن العدو لا يكاد يوافق عدوه وينقاد لأمره .
قال أهل التحقيق : عداوتهم لله وملائكته نتيجة عداوة الله لهم ونظره إليهم في الأزل بالقهر ( هؤلاء في النار ولا أبالي ) كما أن محبة المؤمنين لله نتيجة محبة الله إياهم ) يحبهم ويحبونه ) [ المائدة : 54 ] وذلك أن صفات الله تعالى قديمة وصفات الخلق محدثة ، والأولى علة الثانية .
وأفرد الملكان بالذكر دلالة على فضلها كأنهما من جنس آخر ، فإن التغاير في الوصف قد ينزل منزلة التغاير في الذات ، ولأن الآية نزلت فيما يتعلق بهما فحسن أن ينص على اسميهما .
وتقديم جبريل في الذكر يدل على أنه أفضل من ميكائيل وأيضاً أن جبريل ينزل بالوحي والعلم وذلك سبب بقاء الأرواح ، وميكائيل ينزل بالخصب والرزق وهو سبب بقاء الأبدان .
والواو في جبريل وميكائيل بمعنى ( أو ) لأن عداوة أحد هؤلاء توجب عداوة الله كما أن عداوة كلهم توجب ذلك ، ويحتمل أن يكون الواو على الأصل ويعرف ما ذكرنا(1/343)
" صفحة رقم 344 "
من القرينة .
وقوله ( للكافرين ( من وضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أن عداوة هؤلاء كفر .
الآيات البينات هي آيات القرآن ، ولا يبعد أن تشمل سائر معجزاته وإن كان لفظ الإنزال نابياً عنه بضع النبوّ .
ومعنى كون الآية بينة أن العلوم تنقسم إلى ما يكون أقل مقدمات فيكون الوصول إليه أقرب وهذا هو الآية البينة .
والكفر بها إما جحودها مع العلم بصحتها ، وإما جحودها مع الجهل وترك النظر فيها والإعراض عن دلائلها ، وليس في الظاهر تخصيص فيدخل الكل فيه ، والفسق هو خروج الإنسان عما حد له إلى الفساد ويقرب منه الفجور ، لأنه مأخوذ من فجور السد الذي يمنع الماء من أن يصير إلى الموضع الذي يفسد .
عن الحسن : إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره .
ولهذا لا يوصف صاحب الصغيرة بالفسق وإن تجاوز عن أمر الله تعالى كمن فتح من النهر نقباً صغيراً لا يقال : إنه فجر النهر .
وفي قوله ) إلا الفاسقون ( وجهان : أحدهما أن كل كافر فاسق ولا ينعكس ، وكان ذكر الفاسق أولى ليأتي على الكافر وغيره .
الثاني أن المراد وما يكفر بها إلا الكافر المتجاوز عن كل حد في كفره .
وهذه الآيات لما كانت بينة لم يكفر بها إلا الكافر الذي بلغ في الكفر النهاية القصوى ، وهذا نوع آخر من فضائح اليهود .
عن ابن عباس أنهم كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل مبعثه ، فلما بعث ( صلى الله عليه وسلم ) من العرب كفروا به وجحدوا بما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل : يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونحن أهل الشرك ، وتخبروننا أنه مبعوث وتصفون لنا صفته .
فقال بعضهم : ما جاءنا بشيء من البينات وما هو بالذي كنا نذكر لكم فنزلت .
واللام في ) الفاسقون ( للجنس أو إشارة إلى أهل الكتاب .
) أو كلما ( الواو للعطف على محذوف معناه أكفروا بالآيات البينات ؟ وكلما عاهدوا واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا ، وكم عاهدهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يفوا الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة .
وفيه تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس من مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك .
والنبذ الرمي بالذمام ورفضه ، وإنما قيل ) فريق منهم ( لأن منهم من لم ينقض بل أكثرهم لا يؤمنون بالتوراة وليسوا من الدين في شيء ، فلا يعدون نقض المواثيق ذنباً .
) ولما جاءهم رسول ( أي كتاب لتلازمهما بدليل كتاب الله وهو القرآن ، نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله ، يعني أن علمهم بذلك رصين من قبل التوراة ولكن المكابرة هجيراهم ، ونبذه وراء ظهورهم مثل لإعراضهم عنه وتركهم العمل به .
وقيل : كتاب الله التوراة لأنهم لكفرهم برسول الله كافرون بها .
وعن سفيان : أدرجوه في(1/344)
" صفحة رقم 345 "
الديباج والحرير وحلوه بالذهب ولم يحلوا حلاله ولم يحرّموا حرامه .
اللهم ارزقنا العلم بكتابك والعمل به .
( البقرة : ( 102 - 103 ) واتبعوا ما تتلوا . . . .
" واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون "
( القراآت )
ولكن ( خفيفاً ) الشياطين ( بالرفع : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وكذلك قوله ) ولكن الله قتلهم ( ) ولكن الله رمى ( ) الملكين ( بكسر اللام ههنا وفي سورة الأعراف : قتيبة .
على أن المنزل عليهما علم السحر كانا ملكين ببابل .
الوقوف : ( علىملك سليمان ( ( ج ) لأن الواو قد تصلح حالاً لبيان نزاهة سليمان وردّ ما افتروا عليه ) السحر ( ( ط ) قيل : على جعل ( ما ) نافية ولا يتضح لمناقضته ما في سياق الآية من إثبات السحر بل ( ما ) خبرية معطوفة على قوله ) السحر ( على أنها وإن كانت نافية يحتمل كون الواو حالاً على تقدير : يعلمون الناس السحر غير منزل فلا يفصل .
وفي الآية عشر ( ماآت ) إحداها كافة في ) إنما ( والأخيرة نكرة منصوبة في ) لبئسما ( والباقية خبرية ثم نافية ثم خبرية على التعاقب ) وماروت ( ( ط ) ) فلا تكفر ( ( ط ) ) وزوجه ( ( ط ) ) بإذن الله ( ( ط ) ) ولا ينفعهم ( ( ط ) ) من خلاق ( ( ط ) يجوز الوقف لابتداء اللام ) أنفسهم ( ( ط ) ) يعلمون ( ( 5 ) ) خير ( ( ط ) ) يعلمون ( ( 5 ) .
التفسير : من قبائح أفعالهم أنهم نبذوا كتاب الله وأقبلوا على السحر ودعوا الناس إليه ، وهذا شأن اليهود الذين كانوا في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل : إنهم الذين تقدموا من اليهود .
وقيل : إنهم الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام من السحرة لأن أكثر اليهود ينكرون نبوة سليمان ويعدّونه من جملة ملوك الدنيا ، فالذين كانوا منهم في زمانه لا يمتنع أن يعتقدوا فيه أنه إنما وجد ذلك الملك العظيم بسبب السحر .
والأولى أن يقال : اللفظ يتناول الكل .
قال السدي : لما جاءهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت .
ومعنى ( تتلو ) تقرأ ، أو ) على ملك سليمان ( أي على عهده وفي زمانه .
وقيل : تلا عليه أي كذب .
فالقوم لما ادعوا(1/345)
" صفحة رقم 346 "
أن سليمان إنما وجد تلك المملكة بسبب ذلك العلم كان ذلك الادعاء كالافتراء على ملك سليمان .
وأما الشياطين فالأكثرون على أنهم شياطين الجن ، وأنهم كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة ، وقد دوّنوها ويقرأونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في زمان سليمان حتى قالوا : إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون : هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم .
وقيل : إنهم شياطين الإنس لما روي في الخبر أن سليمان كان قد دفن كثيراً من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصاً على أنه إن هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون ، فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ، ثم من بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان وأنه ما وصل إلى ما وصل إلا بهذه الأشياء .
وزيفوا قول الأكثرين بأن شياطين الجن لو قدروا على تغيير كتب الأنبياء وشرائعهم بحيث يبقى ذلك التحريف مخيفاً فيما بين الناس لارتفع الوثوق عن جميع الشرائع ، وهذا بخلاف ما يفعله الإنسان فإنه لا يكاد يخفى على بني نوعه .
واختلف في سبب إضافتهم السحر إلى سليمان فقيل : ليروج ذلك منهم .
وقيل : لأنهم ما كانوا مقرين بنبوته .
وقيل : لأنه لما خالط الجن وأظهر أسراراً عجيبة غلب على ظنونهم أنه استفاد ذلك من الجن .
وقوله ( وما كفر سليمان ( تنزيه له عما نسب القوم إليه من السحر المستلزم للكفر ، فإن كونه نبياً ينافي كونه ساحراً كافراً .
ثم بين أن الذي برأه منه لاصق بغيره فقال ) ولكن الشياطين كفروا ( ثم ذكر ما به كفروا فقد كان من الجائز أن يتوهم أنهم كفروا لا بالسحر فقال ) يعلمون الناس السحر وما أنزل ( أي ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين .
وهاروت وماروت عطف بيان للملكين علمان لهما ممتنعان من الصرف للعلمية والعجمة ، وليسا من الهرت والمرت وهو الكسر كما زعم بعضهم ، لأنهما لو كانا منهما لانصرفا .
وقيل : بدلان منهما .
ولنذكر ههنا حقيقة السحر وقصة هاروت وماروت .
أما السحر ففي اللغة عبارة عن كل ما لطف مأخذه وخفي سببه ومنه الساحر للعالم .
وسحره خدعه ، والسحر الرئة ، وفي الشرع : مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل من غير حقيقة ويجري مجرى التمويه والخداع .
ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله قال تعالى ) سحروا أعين الناس ) [ الأعراف : 116 ] يعني موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى .
وقد يستعمل مقيداً فيما يمدح ويحمد وهو السحر الحلال قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن من البيان لسحراً ) سمى ( صلى الله عليه وسلم ) بعض البيان سحراً لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه ولطف عبارته ، ويقدر على تحسين القبيح وتقبيح الحسن ، يسخط تارة فيقول أسوأ ما يمكن ، ويرضى تارة فيقول أحسن ما يعلم .
ثم(1/346)
" صفحة رقم 347 "
السحر على أقسام : منها سحر الكلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر وهو قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ، ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة ، ويستحدثون الخوارق بواسطة تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية ، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلاً لمقالتهم وراداً عليهم مذاهبهم .
ومنها سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية بدليل أن الجذع الذي يتمكن الإنسان من المشي عليه لو كان موضوعاً على الأرض لا يمكنه المشي عليه لو كان كالجسر ، وما ذاك إلا لأن تخيل السقوط متى قوي أوجبه .
وقد اجتمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر ، والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران ، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام .
وحكي في الشفاء عن أرسطو أن الدجاجة إذا تشبهت كثيراً بالديكة في الصوت وفي الحراب مع الديكة في الصوت تنبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك .
وهذا يدل على أن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية .
واجتمعت الأمم على أن الدعاء مظنة الإجابة ، وأن الدعاء باللسان من غير طلب نفساني قليل الأثر .
ويحكى أن بعض الملوك عرض له فالج ، فدخل عليه بعض الحذاق من الأطباء على حين غفلة منه وشافهه بالشتم والقدح في العرض ، فاشتد غضب الملك وقفز من مرقده قفزة اضطرارية وزالت تلك العلة المزمنة .
والإصابة بالعين مما اتفق عليه العقلاء ، والتحقيق فيه أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السموات ، كانت كأنها روح من الأرواح السماوية ، وكانت قوية التأثير في مواد هذا العالم .
أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف ألبتة إلا في هذا البدن .
فإذا أراد أن يتعدى تأثيرها إلى بدن آخر اتخذ تمثال ذلك الغير ووضعه عند الحس فاشتغل الحس به وتبعه الخيال عليه وأقبلت النفس الناطقة بالكلية على ذلك ، فقويت التأثيرات النفسانية والتصرفات الروحانية ، ويعضده الانقطاع عن المألوف والمشتهيات وتقليل الغذاء والاعتزال عن الناس ، ثم إن كانت النفس مناسبة لهذا الأمر بحسب ماهيتها وخاصيتها عظم التأثير .
وأما الرقى فإن كانت بألفاظ معلومة فالأمر فيها ظاهر لأن الغرض منها أن حسن البصر كما اشتغل بالأمور المناسبة للغرض ، فحس السمع أيضاً يشتغل بها ، فإن الحواس متى تطابقت متوجهة إلى الغرض الواحد كان توجه النفس إليه أقوى وإن كانت بألفاظ غير معلومة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة ، ويحصل لها إذ ذاك انجذاب وانقطاع عن المحسوسات وإقبال على ذلك الفعل ، فيقوى التأثير النفساني فيحصل الغرض .
وهكذا القول في الدخن قالوا : فثبت أن هذا القدر من القوة النفسانية مستقل بالتأثير فإن(1/347)
" صفحة رقم 348 "
انظم إليه الاستعانة بالقسم الأول وهو تأثيرات الكواكب قوي الأثر جداً ، لا سيما إن حصل لهذه النفس مدد من النفوس المفارقة المشابهة لها أو من الأنوار الفائضة من النفوس الفلكية .
ومنها سحر من يستعين بالأرواح الأرضية وهو المسمى بالعزائم ، وتسخير الجن ومنه التخييلات الآخذة بالعيون وتسمى الشعوذة .
وذلك أن أغلاط البصر كثيرة ، فإن راكب السفينة إذا نظر غلى الشط رأى السفينة واقفة والشط متحركاً ، والقطرة النازلة ترى خطاً مستقيماً ، والعنبة ترى في الماء كالزجاجة ، ويرى العظيم من البعيد صغيراً .
وقد لا تقف القوة الباصرة على المحسوس وقوفاً تاماً إذا أدركت المحسوس في زمان صغير جداً فيخلط البعض بالبعض ولا يتميز ، فإن الرحى إذا أخرجت من مركزها إلى محيطها خطوطاً كثيرة بألوان مختلفة ثم أديرت ، فإن البصر يرى لوناً واحداً كأنه مركب من كل تلك الألوان .
وأيضاً النفس إذا كانت مشغولة بشيء فربما حضر عند الحس شيء آخر ، فلا يشعر الحس به ألبتة كما أن الإنسان عند دخوله على السلطان قد يلقاه إنسان ويتكلم معه فلا يعرفه ولا يفهم كلامه لما أن قلبه مشغول بشيء آخر ، وكذا الناظر في المرآة ربما قصد أن يرى سطح المرآة هل هو مستوْ أم لا ، فلا يرى شيئاً مما في المرآة .
فالمشعوذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه ، حتى إذا استقر بهم الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه ، عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة فيبقى ذلك العمل خفياً لتعاون الشيئين اشتغالهم بالأول وسرعة إتيانه بالثاني .
ومنها الأعمال العجيبة التي تظهر من الآلات المركبة على النسب الهندسية ، أو لضروب الخيلاء كفارسين يقتتلان فيقتل احدهما الآخر ، ومنه الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان ، وقد يصورونها ضاحكة أو باكية .
وقد يفرق بين ضحك السرور وضحك الخجل ، ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات وعلم جر الأثقال وهذا لا يعد من السحر عرفاً ، لأن لها أسباباً معلومة يقينية .
ومنها الاستعانة بخواص الأدوية والأحجار ، ومنها تعليق القلب وهو أ ، يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم وأن الجن ينقادون له في أكثر الأمور ، فإذا اتفق أن كان السامع ضعيف القلب قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في قلبه نوع من الرعب ، وحينئذ تضعف القوى الحساسة فيتمكن الساحر من أن يفعل فيه ما شاء .
وإن من جرب الأمور وعرف أحوال الناس علم أن لتعليق القلب أثراً عظيماً في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار .
ومنها السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفية لطيفة وذلك شائع في الناس .
فهذه جملة الكلام في أقسام السحر ، وعند المسلمين كلها مستندة إلى قدرة الله ، فإنه لا يمنتع وقوع هذه الخوارق بإجراء العادة عند سحر السحرة .
واتفقوا على أن العلم به ليس بقبيح ولا محظور ،(1/348)
" صفحة رقم 349 "
لأن العلم لذاته شريف ولعموم قوله تعالى ) قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) [ الزمر : 9 ] ولأن الفرق بينه وبين المعجز يمكن به إلا أن اجتنابه أقرب إلى السلامة كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية .
وأما أن الساحر هل يكفر أم لا فلا نزاع بين الأمة في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبرة لهذا العالم وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات والشرور ، فإنه يكون كافراً على الإطلاق ، وهذا هو القسم الأول من السحر .
وأما النوع الثاني وهو أن يعتقد أنه قد يبلغ روح الإنسان في التصفية والقوة إلى حيث يقدر على إيجاد الأجسام وإعدامها وتغيير البنية والشكل ، فالأظهر إجماع الأمة أيضاً على تفكيره ، وأما أن يعتقد الساحر أنه قد يبلغ في التصفية وقراءة الرقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل ، فالمعتزلة اتفقوا على تكفير من يجوز ذلك قالوا : لأنه مع هذا الإعتقاد لا يمكنه أن يعرف صدق الأنبياء والرسل ، وزيف بأن الإنسان لو ادعى النبوة وكان كاذباً في دعواه فإنه لا يجوز من الله تعالى إظهار الخوارق على يده لئلا يحصل التلبيس ، أما إذا لم يدع النبوة فظهرت الخوارق على يده لم يفض ذلك إلى التلبيس ، فإن المحق يتميز عن المبطل بما أن المحق تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة والمبطل لا تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة ، وإن حصلت لم يتم فصوله الباطل كنار العرفج .
وأما سائر أنواع السحر فلا شك أنها ليست بكفر ، وحكم من كفر بالسحر حكم المرتد .
وإذا سحر إنساناً فمات فإن قال : إني سحرته وسحري يقتل غالباً وجب عليه القود ، وإن قال : سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل ، فهو شبه عمد ، وإن قال : سحرت غيره فوافق اسمه اسمه فخطأ .
وعن أبي حنيفة أنه قال : يقتل الساحر إذا علم أنه ساحر ولا يستتاب ولا يقبل قوله ( إني أترك السحر وأتوب منه ) فإذا أقر أنه ساحر فقد حل دمه .
وإن شهد شاهدان علي أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا يستتاب ، وإن أقر بأني كنت أسحر مرة وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه ولم يقتل .
وأما قصة هاروت وماروت فقد يروى عن ابن عباس أن الملائكة لما قالت ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ( فأجابهم الله بقوله ) إني أعلم ما لا تعلمون ) [ البقرة : 31 ] ثم وكل عليهم جمعاً من الملائكة وهم الكرام الكاتبون وكانوا يعرجون بأعمالهم الخبيثة ، فعجبت الملائكة منهم ومن تبقية الله لهم مع ما ظهر منهم من القبائح .
ثم أضافوا غليهما عمل السحر فازداد تعجب اللائكة ، فأراد الله أن يبتلي الملائكة فقال لهم : اختاروا ملكين من أعظم الملائكة علماً وزهداً وديانة لأنزلهم إلى الأرض فأختبرهم .
فاختاروا هاروت وماروت ، وركب فيهما شهوة الإنس وأنزلهما ونهاهما عن(1/349)
" صفحة رقم 350 "
الشرك والقتل والزنا والشرب .
فنزلا ، فأمر الله تعالى الكوكب المسمى بالزهرة والملك الموكل به فهبطا إلى الأرض ، فجعلت الزهرة في صورة امرأة ، والملك في صورة رجل .
ثم إن الزهرة اتخذت منزلاً وزينت نفسها ودعتهما إليها ، ونصب الملك نفسه في منزلها في مثال صنم فأقبلا عليها وطلبا الفاحشة فأبت عليهما غلا أن يشربا الخمر فقالا : لا نشرب الخمر .
ثم غلبت الشهوة عليهما فشربا ثم دعواها إلى ذلك فقالت : بقيت خصلة لست أمكنكما من نفسي حتى تفعلاها .
قالا : وما هي ؟ قالت : تسجدان لهذا الصنم .
فقالا : لا نشرك بالله شيئاً .
ثم غلبت الشهوة عليهما فقالا : نفعل ثم نستغفر .
فسجدا للصنم .
ثم دخل سائل عليهم فقالت : إن أظهر هذا السائل للناس ما رأى منا فسد أمرنا ، فإن أردتما الوصول إليّ فاقتلا هذا الرجل .
فامتنعا منه ، ثم اشتغلا بقتله .
فلما فرغا من القتل ارتفعت ا لزهرة وملكها إلى موضعهما من السماء فعرفا حينئذ أنه إنما أصابهما بسبب تعيير بني آدم .
وفي رواية أخرى أن الزهرة كانت فاجرة من أهل الأرض ، وأنهما واقعاها بعد أن شربا الخمر وقتلا النفس وسجدا للصنم وعلماها الاسم الأعظم الذي كانا يعرجان به إلى السماء ، فتكلمت المرأة بذلك الاسم فعرجت إلى السماء فمسخها الله تعالى وصيرها هذا الكوكب ثم إن الله تعالى خيرهما بين عذاب الآخرة آجلاً وبين الدنيا عاجلاً ، فاختارا عذاب الدنيا فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة وهما يعلمان الناس السحر ويدعوان إليه ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع ليعلم السحر خاصة .
وهذه القصة عند المحققين غير مقبولة ، فليس في كتاب الله ما يدل عليها ، ولأن الدلائل الدالة على عصمة الملائكة تنافيها ، ولاستبعاد كونهما معلمين للسحر حال العذاب ، ولأن الفاجرة كيف يعقل أنها صعدت غلى السماء وجعلها الله تعالى كوكباً مضيئاً ، ولأنه ذكر في القصة أن الله تعالى قال لهما لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني فقالا : لو فعلت بنا يا رب لما عصيناك وهذا منهم تكذيب الله وتجهيل .
فإذن السبب في إنزالهما أن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبواباً غريبة من السحر وكانوا يدعون النبوة ، فبعث الله هذين الملكين ليعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الكاذبين ، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد .
وأيضاً تعريف حقيقة السحر ليميز بينه وبين المعجزة حسن ، وكذا السحر لإيقاع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أوليائه .
ولعل للجن أنواعاً من السحر لا يقدر البشر على معارضتها إلا بإعانة الملك وإرشاده ، ويجوز أن يكون ذلك تشديداً في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم يمنعه من استعماله ، كان ذلك في نهاية المشقة فيستوجب مزيد الثواب كما ابتلي قوم طالوت بالنهر ) فمن شرب(1/350)
" صفحة رقم 351 "
منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني ) [ البقرة : 249 ] ويقال : هذه الواقعة كانت في زمان إدريس لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذا الغرض ، فلا بد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة له ، ولا يجوز كونهما رسولين لأن رسول الإنس ثبت أنه لا يكون إلا منهم .
قوله تعالى ) وما يعلمان ( أي وما يعلم الملكان أحداً حتى ينهياه وينصحاه ويقولا له ) إنما نحن فتنة ( ابتلاء واختبار من الله ) فلا تكفر ( بأن تتعلمه معتقداً له أنه حق أو متوصلاً به إلى شيء من المعاصي والأعراض العاجلة ) فيتعلمون ( الضمير لما دل عليه العموم في ) من أحد ( أي فيتعلم الناس من الملكين ) ما يفرقون به بين المرء وزوجه ( إما لأنه إذا اعتقد أن السحر حق كفر فبانت منه امرأته ، وإما لأنه يفرّق بينهما بالتمويه والاحتيال كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله عنده الفرك والنشوز ابتلاء منه ، لا أن السحر له أثر في نفسه بدليل قوله ) وما هم بضارّين به من أحد إلا بإذن الله ( بإدارته وقدرته ، لأنه إن شاء أحدث عند ذلك شيئاً من أفعاله وإن شاء لم يحدث ، وكان الذي يتعلمونه منهما لم يكن مقصوراً على هذه الصورة ، ولكن سكون المرء وركونه إلى زوجه لما كان أشد خصت بالذكر ليدل بذلك على أن سائر الصور بتأثير السحر فيها أولى وقرأ الأعمش ) وما هم بضارين به من أحد ( فجعل الجارّ جزءاً من المجرور وهو ( أحد ) وأضاف إلى المجموع وفصل بينهما بالظرف .
ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم لأنهم يستعملونه في وجوه المفاسد ) ولقد علموا ( علم هؤلاء اليهود اللام فيه للابتداء وكذا في ) لمن اشتراه ( استبدل ما تتلو الشياطين واختاره على كتاب الله ) ما له في الآخرة من خلاق ( من نصيب كأنه قدر له هذا المقدار ، وقيل : الخلاق الخلاص .
وقيل معنى الآية أن الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة ، فلما استعمل السحر للدنيا فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا ) ولبئسما شروا به أنفسهم ( أي باعوها والمخصوص محذوف وهو السحر أو منافع الدنيا ، وجواب ( لو ) محذوف يدل على ما قبله أي لو كانوا يعلمون لعلموا قبح ما شروا .
ويجوز أن يكون ( لو ) للتمني مجازاً كما تقدم من الترجي في ) لعلكم تتقون ( وحينئذ لا يحتاج إلى الجواب .
بقي ههنا سؤال وهو أنه كيف أثبت لهم العلم أولاً في قوله ) ولقد علموا ( على سبيل التوكيد بالقسم إجمالاً ثم نفاه عنهم في قوله ) لو كانوا يعلمون ( ؟ فإن ( لو ) لامتناع الثاني لامتناع الأول ، وكذا لو كان للتمني فإن التمني استدعاء أمر هو كالممتنع .
والجواب أن الذين علموا غير الذين لم يعلموا ، فالذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، والذين لا يعلمون هم الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر .
سلمنا أن القوم واحد ، ولكنهم علموا(1/351)
" صفحة رقم 352 "
شيئاً وجهلوا شيئاً آخر ، علموا أنه لا خلاق لهم في الآخرة ، وجهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة وما حصل لهم من مضارّها وعقوباتها ، سلمنا أن القوم واحد والمعلوم واحد ، ولكنهم نسبوا إلى الجهل حيث لم يعملوا بعلمهم ولم ينتفعوا به كما قيل : إنهم صم بكم عمي حيث لم ينتفعوا بالحواس .
ولما أوعدهم بقوله ) ولقد علموا ( أتبع ذلك الوعد جامعاً بين الترهيب والترغيب ليكون أدعى إلى الطاعة وأنهى عن المعصية فقال ) ولو أنهم آمنوا ( بعين ما نبذوه من كتاب الله وهو القرآن أو التوراة التي يصدقها القرآن أو كلاهما ، واتقوا فعل المنهيات وترك المأمورات ، أو اتقوا الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين ) لمثوبة من عند الله ( لشيء من ثوابه ) خير ( ولا بد من تقدير فعل يكون ( أن ) مع ما بعده فاعلاً له ، أي لو ثبت أنهم آمنوا ، وجواب ( لو ) محذوف أيضاً ويدل عليه هذه الجملة الاسمية المصدرة باللام أي لأثيبوا وإنما تركت الفعلية إلى هذه ليدل على ثبات المثوبة واستقرارها .
ويجوز أن يكون القسم مقدراً وقوله ( لمثوبة ( جوابه ساداً مسد جواب الشرط مغنياً عنه ، ودخول اللام الموطئة في الشرط غير واجب في القسم المقدر وإن كان هو الأكثر ، على أن دخول اللام الموطئة في الشرط غير واجب في القسم المقدر وإن كان هو الأكثر ، على أن دخول اللام الموطئة في ( لو ) مستثقل فيشبه أن يكون الأكثر بل الواجب ههنا عدم الدخول .
ويجوز أن يكون ( لو ) للتمني مجازاً عن إرادة الله إيمانهم كأنه قيل : وليتهم آمنوا .
ثم ابتدئ ) لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ( أن ثواب الله خير مما هم فيه لآمنوا واتقوا ، وقد علموا لكنه جهلهم لترك العلم بالعلم .
ويجوز أن يكون ( لو ) بمعنى التمني كما تقرر والله تعالى أعلم .
التأويل : ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين ( النفوس ) على ملك سليمان ( الروح الذي هو خليفة الله في أرضه ) وما كفر سليمان ( الروح ) ولكن الشياطين ( النفس والهوى ) كفروا يعلمون الناس السحر ( من تخييلات الهواجس وتمويهات الوساوس ) وما أنزل على الملكين ( فتنة وخذلاناً من العلوم الضارة غير النافعة كشبهات الفلاسفة والمبتدعة على ملكي الروح والقلب ) ببابل ( الجسد ) هاروت ( الروح ) وماروت ( القلب فإنهما من العالم العلوي الروحاني أهبطا إلى الأرض العالما لجسماني بالخلافة لإقامة الحق وإزهاق الباطل فافتتنا بزهرة الحياة الدنيا واتبعا خداعها فوقعا في شبكة الشهوة التي تركت فيها ابتلاء وامتحاناً ، وشربا خمر الحرص والغفلة التي تخامر العقل ، وزنيا ببغي الدنيا الدنية ، وعبدا صنم الهوى فعذبا منكسين برؤوسهما بالالتفات إلى السفليات وإعراضهما عن العلويات ، فحرما استماع خطاب الحق وكشف حقائق العلوم النافعة الموجبة للجمعية ، ومع هذا من خصوصية الملائكة الروحانية ما يعلمان أحداً من الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية .(1/352)
" صفحة رقم 353 "
والقوى البشرية حتى يلهماها ) إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء ( القلب ) وزوجه ( دينه .
( البقرة : ( 104 - 108 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل "
( القراآت )
ما ننسخ ( بضم النون وكسر السين : ابن ذكوان ) ننساها ( مهموزاً : ابن كثير وأبو عمرو غير أوقية ، وروى أوقية بغير همز ، الباقون : ننسها من الإنساء ) نأت بخير ( بغير همز : أبو عمرو غير إبراهيم بن حماد ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف ، الباقون وإبراهيم بن حماد بالهمزة لأنه جواب الشرط ، ومن شرطه أن يهمز كل ما كان نسقاً أي عطفاً على المجزوم أو جواباً للمجزوم كل القرآن مثل قوله عز وجل ) إن تصبروا وتتقوا وأتوكم ( وقوله ( ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ( وأشباه ذلك ) فقد ضل ( بالإظهار : حجازي غير ورش وعاصم غير الأعشى ، وكذلك يظهرون الدال عند الذال والظاء حيث وقعتا مثل قوله تعالى : ( فقد ظلم ( ) ولقد ذرأنا ( وأشباه ذلك .
الوقوف : ( واسمعوا ( ( ط ) ) أليم ( ( 5 ) ) من ربكم ( ( ط ) ) من يشاء ( ( ط ) ) العظيم ( ( 5 ) ) أو مثلها ( ( ط ) ) قدير ( ( 5 ) ) والأرض ( ( ط ) ) ولا نصير ( ( 5 ) ربع الجزء ) ومن قبل ( ( ط ) ) السبيل ( ( 5 ) .
التفسير : لما شرح الله تعالى قبائح أفعال السلف من اليهود ، شرع في قبائح أخلاق المعاصرين لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجدّهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه ، واعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن .
قال ابن عباس : وكان يخاطب في التوراة ب ( يا أيها المساكين ) فكأنه سبحانه لما خاطبهم أولاً بالمساكين أثبت لهم المسكنة آخراً حيث قال ) وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) [ البقرة : 61 ] وهذا يدل على أنه تعالى لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أوّلاً فإنه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب آخراً ) وبشر(1/353)
" صفحة رقم 354 "
المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً ) [ الأحزاب : 47 ] ، ولا سيما فإن المؤمن اسم من أسمائه العظام ، ففيه دليل على أنه تعالى يقرّبهم منه في دار السلام .
وقيل : آمنوا على الغيبة نظراً إلى المظهر وهو ( الذين ) ولو قيل آمنتم نظراً إلى النداء جاز من حيث العربية ، ثم إنه لا يبعد في الكلمتين المترادفتين أن يمنع الله من إحداهما ويأذن في الأخرى ومن هنا قال الشافعي : لا تصح الصلاة بترجمة الفاتحة عربية كانت أو فارسية .
فلا يبعد أن يمنع الله من قول ) راعنا ( ويأذن في قول ) انظرنا ( وإن كانا مترادفين .
ولكن جمهور المفسرين على أنه تعالى إنما منع من قول ) راعنا ( لاشتماله على مفسدة .
ثم ذكروا وجوهاً منها : أن المسلمين كانوا يقولون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا ألقي عليهم شيئاً من العلم راعنا يا رسول الله ، واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة وهي ( راعينا ) ومعناها ( اسمع لا سمعت ) كما صرح بذلك في سورة النساء ) ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ) [ النساء : 46 ] فإن الجميع كأنها متقاربة فلما سمعوا المسلمين يقولون ( راعنا ) افترصوه وخاطبوا به الرسول وهم يعنون المسبة ، فنهى المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى وهي ) انظرنا ( .
روي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال : يا أعداء الله عليكم لعنة الله ، والذي نفسي بيده إن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأضربن عنقه ، فقالوا : أولستم تقولونها ؟ فنزلت ، ومنها قال قطرب : هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز كانوا يقولونها عند الهزء والسخرية فلا جرم نهى الله عنها ، وقيل : إن اليهود كانوا يقولون ( راعينا ) أي أنت راعي غنمنا فنهاهم عنه .
وقيل : إن هذه اللفظة لكونها من باب المفاعلة ، تدل علىالمساواة بين المتخاطبين كأنهم قالوا : أرعنا سمعك لنرعيك أسماعنا فنهوا عنه ) لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ) [ النور : 63 ] وقيل : ( راعنا ) خطاب مع الاستعلاء أي راع كلامي ولا تغفل عنه ولا تشتغل بغيره ، وليس في ) انظرنا ( إلا سؤال الانتظار .
وقيل : إنها تشبه اسم الفاعل من الرعونة والحمق ، فيحتمل أنهم أرادوا به المصدر كقولهم ( عائذاً بك ) أي أعوذ عياذاً .
فقولهم ) راعنا ( أي فعلت رعونة ، ويحتمل أنهم أرادوا صرت راعنا أي ذا رعونة ، فلمكان هذه الوجوه الفاسدة نهى الله عنها ، وقيل : المراد لا تقولوا قولاً راعناً أي منسوباً إلى الرعن كدارع ولابن ، ومنه قراءة الحسن ) راعناً ( بالتنوين .
وانظرنا من نظره إذا انتظره ) انظرونا نقتبس من نوركم ) [ الحديد : 13 ] أمرهم الله تعالى أن يسألوه ( صلى الله عليه وسلم ) الإمهال لينقلوا عنه فلا يحتاجون إلى الاستعادة كأنهم قالوا له : توقف في كلامك وبيانك مقدار ما يصل إلى أفهامنا .
وهذا القدر غير خارج عن قانون الأدب فقد يلتمسه المتعلم حرصاً منه على أن لا يفوت منه شيء من الفوائد وإن كان المعلم غير مهمل دقائق التفهيم والإرشاد من التثبت(1/354)
" صفحة رقم 355 "
والتأني والإعادة إن احتيج إليها ونحو ذلك .
وقيل : انظرنا معناه انظر إلينا مثل ) واختار موسى قومه ) [ الأعراف : 155 ] أي من قومه .
والغرض أن المعلم إذا نظر إلى المتعلم كانت إفاضته عليه أظهر وأقوى .
وفي قراءة أبيّ ) انظرنا ( من النظرة أي أمهلنا حتى نحفظه .
) واسمعوا ( معناه أحسنوا سماع كلام نبيكم بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة ، أو اسمعوا سماع قبول وطاعة لا كاليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا ، أو اسمعوا ما أمرتم به ولا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه من قول راعنا ، وللكافرين ولليهود الذين تهاونوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسبوه عذاب أليم قوله ) ما يود ( الآية .
( من ) الأولى للبيان ، لأن ) الذين كفروا ( جنس تحته نوعان : أهل الكتاب والمشركون .
كقوله ) لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ) [ البينة : 1 ] ( ولا ) مزيدة لتأكيد النفي وقرئ ) ولا المشركون ( والثانية مزيدة لاستغراق الخير ف ) أن ينزل ( في سياق النفي : فمعنى ما يود أن ينزل يود أن لا ينزل .
والثالثة لابتداء الغاية ، والخير الوحي وكذلك الرحمة ) أهم يقسمون رحمة ربك ) [ الزخرفة : 32 ] والمعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي ، ولا أثر لهذا الحسد فإن الله يختص بالنبوة من يشاء ولا يكون إلا ما يشاء ، وما يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة .
) والله ذو الفضل العظيم ( والفضل والفضيلة خلاف النقص والنقيصة ، والإفضال والإحسان ، وفيه إشعار بأن إيتاء النبوة من غاية الإحسان وأنهار شحة من بحار كماله ) إن فضله كان عليك كبيراً ) [ الإسراء : 87 ] .
قوله عز من قائل ) وما ننسخ من آية ( نوع ثان من تقرير مطاعن اليهود خذلهم الله في الإسلام .
روي أنهم قالوا : ألا ترون إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً فنزلت .
وفي الآية مسائل : الأولى : النسخ لغة هو الإزالة ، يقال : نسخت الشمس الظل أي أزالته .
والنقل أيضاً وهو أ ن يغير الشيء في صفته وحاله مع بقائه في نفسه ، ومنه نسخت الكتاب ، والمناسخات في المواريث لانتقال التركة من قوم إلى قوم .
فقيل مشترك بينهما ، وقيل حقيقة في الأول مجاز في الثاني ، وقيل بالعكس .
وفي الاصطلاح : هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ، فيخرج المباح بحكم الأصل إذا ورد الشرع بضده رافعاً لإباحته فإنه لا يسمى نسخاً إذ ليس رفع حكم شرعي ويخرج أيضاً الرفع بالنور والغفلة لأن ذلك الرفع ليس بمجرد الدليل الشرعي وهو ( رفع عن أمتي المطأ والنسيان ) ونحوه ، بل يقتضيه العقل أيضاً بخلاف الرفع بنحو ( دعي الصلاة أيام أقرائك ) فإنه لا مجال للعقل فيه .
ويخرج الرفع بنحو ( صم إلى(1/355)
" صفحة رقم 356 "
آخر الشهر ) فإن ( إلى ) أوجبت مخالفة حكم ما بعدها لما قبلها إلا أنها لا تسمى نسخاً لأنه ليس متأخراً ، ويمكن أن يقال : إن قيد متأخر إنما ينبغي أن يذكر لأن دليل النسخ لا يكون إلا كذلك .
ونحو ( صم إلى كذا ) وأمثاله من أنواع التخصيص متصلاً كان أو منفصلاً ، إنما خرج بقيد الرفع لأن رفع الحكم إنما يكون بعد إرادة حصوله على المكلف ، والتخصيص ليس كذلك لأن صورة التخصيص غير مرادة من اللفظ بل التخصيص مبين لمراد الشارع من العام .
ونعني بالحكم ههنا ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن ، فإن الوجوب المشروط بالعقل الذي هو مناط التكليف لم يكن حاصلاً عند انتفاء العقل والموقوف على الحادث حادث .
وإذا كان المراد بالحكم هذا فلا يرد قول المعتزلة الحكم عندكم قديم فكيف يرتفع ؟ وذلك أنا عنينا بالحكم تعلق الخطاب بعدما لم يتعلق وهذا محدث يرتفع .
وأيضاً نقطع بأنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه انتفى الوجوب الثابت أولاً وهو المعنى بالرفع ، ويحسن أيضاً أن يقال : النسخ بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخ ، فيخرج بقولنا ( شرعي ) بيان انتهاء حكم عقلي كانتساخ القيام عمن ينكسر رجله .
وقولنا ( متراخ ) ليخرج التخصيص بالغاية .
ومن هذا يعلم تعريف الناسخ والمنسوخ ، ومعنى بيان انتهاء الحكم أن الخطاب السابق له غاية في علم الله تعالى ، فإذا انتهى إلى تلك الغاية زال بذاته ، ثم ورد الخطاب اللاحق بياناً لذلك .
المسألة الثانية : انعقد الإجماع من أكثر أرباب الشرائع ومن المسلمين خاصة على جواز النسخ عقلاً وعلى الوقوع شرعاً ، وخالف اليهود في الجواز ، وأبو مسلم الأصفهاني من المسلمين في الوقوع لا الجواز .
لنا القطع بالجواز ضرورة فإن له تعالى أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير النظر إلى حكمة ومصلحة ، وإن اعتبرت المصالح فالقطع أن المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات فهذا ما يدل على جواز النسخ .
وفي التوراة أنه أمر آدم بتزويج بناته من بنيه وقد حرم ذلك في شريعة من بعده باتفاق ، وهذا ما يدل على وقوعه ، وكيف لا وقد ثبت بالدلائل القاطعة والمعجزات الباهرة نبوته محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبصحة نبوته يلزم نسخ شرع من قبله .
ولم يكن لليهود والنصارى نص صريح يعلم منه أمد شرعهم على التعيين حتى يلزم أن يكون شرع نبينا انتهاء غاية لا نسخاً .
حجة اليهود لو نسخت شريعة موسى لبطل قول موسى المتواتر ( هذه شريعة مؤبدة عليكم بها ما دامت السموات والأرض ) وأيضاً إن كان نسخ الحكم الشرعي لحكمة ظهرت له تعالى لم تكن ظاهرة فهو البداء وإلا فعبث وكلاهما محال على الله تعالى ، إذ البداء عبارة عن الظهور بعد الخفاء والعبث فعل لا(1/356)
" صفحة رقم 357 "
يستتبع غاية .
والجواب عن الأول المنع من أنه قول موسى عليه السلام ، ويؤكده أنه لو كان هذا القول صحيحاً عندهم لقضت العادة بقوله لرسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) ولحاجوه بذلك ، لكن اليهود لم يتمسكوا به في عهده فدل ذلك على أنه إفك افتراه المتأخرون منهم .
وعن الثاني بعد تسليم اعتبار المصالح أنها تختلف باختلاف الأزمان والأحوال كمنفعة شرب دواء في حال وضرره في آخر ، بل الزمان الممتد من الأزل إلى الأبد قد وزع أجزاؤه فيما لم يزل على الجزئيات الواقعة فيها الصادرة شيئاً فشيئاً بحسب وقت وقت لا لمصلحة تعود إليه تعالى بل لما هو أصلح بالنسبة إلى المتزمنات .
فالظهور والخفاء والسابق واللاحق ، والإعدام والإيجاد ، كلها بالنسبة إلينا ، وأما بالنسبة إلى حضرة الواجب جل ذكره فقد جف القلبم بما هو كائن إلى يوم الدين .
والحاصل أن كل حكم فله غاية في علم الله تعالى ، ولكن قد يظن المكلف استمراره في الاستقبال من قرائن الأحوال ، فإذا ورد ما يبين أمده ونص له على زواله فذلك الوارد ناسخ والأول منسوخ والورود نسخ ، وكل هذه التجددات بالنسبة إلى المكلف ، وأما بالإضافة إليه تعالى فكل من الحكمين موجود في وقته الذي قدر له فيه الظهور متقدماً أحدهما ومتأخراً الآخر .
وليس هذا في الأحكام فقط وإنما ذلك في كل حادث ، فمن تأمل نسخة الوجود ونسب الحوادث المتفاوتة بعضها إلى بعض بالتقدم والتأخر والمعية ، وجد وجوداتها المترتبة أشبه شيء بكتاب يقرؤه القارئ سطراً بعد سطر ، وكلمة تلو كلمة ، إذا انقضى مجموع من ذلك تلاه مجموع آخر حسب ما رتبه الحكيم العليم بمبادئه ومقاطعه ، فالمنقضي في حكم المحو ، والتالي في حكم الإثبات ، والهيئة الاجتماعية بدون اعتبار التلاوة المستلزمة لانقضاء شيء وظهور ما يعقبه هي أم الكتاب ، وهذا سر قوله عز من قائل ) يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) [ الرعد : 39 ] ولك أن تعبر عن المجموع الدفعي بالقضاء وعن ظهوره التدريجي بالقدر وفي هذا القدر كفاية للفطن المستبصر .
المسألة الثالثة : اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن بوجوه : أحدها : هذه الآية أعني ما ننسخ من آية .
وأجاب أبو مسلم بأن المراد بالآيات المنسوخة الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله عنا وتعبدنا بغيؤه ، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، فأبطل الله ذلك عليهم بهذه الآية .
وأيضاً لعل المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب .
وأيضاً إن ما ههنا يفيد الشرط والجزاء ، وكما أن قولك ( من جاءك فأكرمه ) لا يدل على حصول المجيء بل على أنه متى جاء وجب الإكرام ، فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه وثانيها : الاعتداد(1/357)
" صفحة رقم 358 "
بالحول في قوله ) والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول ) [ البقرة : 240 ] نسخ بأربعة أشهر وعشر في قوله ) والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ) [ البقرة : 234 ] أجاب أبو مسلم بأن الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملاً ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولاً كاملاً ، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصاً لا نسخاً .
ورد بأن عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر ، فجعل السنة مدة للعدة يكون زائلاً بالكلية .
وثالثها : ( إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) [ المجادلة : 12 ] منسوخة بالاتفاق ، أجاب بأنه زال لزوال سببه ، لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون عن المؤمنين .
ورد بأنه يلزم منه أن من لم يتصدق كان منافقاً وهو باطل ، لما روي أنه لم يتصدق غير علي عليه السلام ، وبدليل ) فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم ) [ المجادلة : 13 ] ورابعها : الأمر بثبات الواحد للعشرة في قوله ) فإن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) [ الأنفال : 65 ] ثم نسخ ذلك بقوله ) الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ) [ الأنفال : 66 ] وخامسها : تحويل القبلة .
قال أبو مسلم : حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليه عند الإشكال ، أو مع العلم إذا كان هناك عذر .
ورد بأن بيت المقدس وسائر الجهات في ذلك سواء .
وسادسها : ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) [ النحل : 101 ] والتبديل يشتمل على رفع وإثبات ، والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم .
وكيفما كان فهو رفع ونسخ ، فهذه الدلائل وأمثالها تدل على وقوع النسخ في الجملة .
حجة أبي مسلم ) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) [ فصلت : 42 ] والجواب أن الضمير للمجموع ، وأيضاً نسخة بالنسبة إلى المكلف لا ينافي حقيته في نفسه وكونه قرآناً عربياً .
المسألة الرابعة : المنسوخ إما أن يكون هو الحكم فقط كالآيات المعدودة ، أو التلاوة فقط كما يروى عن عمر أنه قال : كنا نقرأ آية الرجم ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ( وروي ) لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ( ، أو الحكم والتلاوة معاً كما روي عن عائشة ) كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات ثم نسخن بخمس ( فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعاً ، والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم .
ويروى أن سورة الأحزاب كانت بمنزلة السبع الطوال أو أزيد ثم وقع النقصان .
ولنرجع إلى تفسير الآية ) ما ننسخ ( محمول على نسخ الحكم وإزالته دون التلاوة ،(1/358)
" صفحة رقم 359 "
أو ننسها على نسخ الحكم والتلاوة جميعاً .
وإنساؤها أن يذهب بحفظها عن القلوب وذلك بأن تخرج من جملة ما يتلى ويقرأ في الصلاة ، أو يحتج به ، فإذا زال حكم التعبد به وطال العهد نسي ، وإن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد ، فتصير بهذا الوجه منسية من الصدور أو يكون ذلك معجزة له ( صلى الله عليه وسلم ) كما يروى أنهم كانوا يقرأون السورة فيصبحون وقد نسوها .
قال عز من قائل ) سنقرئك فلا تنسى .
غلا ما شاء الله ) [ الأعلى : 6 ، 7 ] وإنساخ الآية الأمر بنسخها وهو أن يأمر جبريل بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها ، ونسؤها تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل .
وقيل : ما ننسخ من آية أي نبدلها إما بأن نبدل حكمها فقط ، أو تلاوتها فقط ، أو نبدلهما ، أو ننسها نتركها كما كانت ولا نبدلها ، لأن النسيان قد يجيء بمعنى الترك .
وقيل : ما ننسخ من آية ما نرفعها بعد إنزالها أو ننسأها بالهمزة نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ ، أو نؤخر نسخها فلا ننسخها في الحال فإنا ننزل بدلها ما يقوم مقامها في المصلحة .
ولا يخفى أن قوله ) نأت بخير منها أو مثلها ( لا ينطبق على هذين القولين كما ينبغي .
ومعنى الآية عند جمهور المفسرين آية القرآن ، وعند أبي مسلم التوراة والإنجيل كما مر .
وقد عرفت أنه يمكن حملها على معنى أعم ، فكل مجموع من الوجود في كل زمان من الأزمنة آية من صحيفة المخلوقات ، وكل فرد من ذلك المجموع كلمة من كلمة الله ) قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي ) [ الكهف : 109 ] ومعنى ) نأت بخير منها أو مثلها ( إن حملنا الآية على ما يتضمن حكماً على المكلف أن الثاني أخف أو أصلح بالنسبة غلى وقته كما أن الأول كان أصلح بالإضافة إلى وقته .
فالثاني خير بالنسبة إلى وقته ، ومثل الأول بالنسبة غلى وقته ، أو يراد أن العمل بالثاني أكثر ثواباً من العمل بالأول أو مساوٍ له ، فكل منهما قد تقتضيه الحكمة دون ما هو أقل ثواباً ، وإن حملنا الآية على غير ذلك فيتعين الأصلح .
قال أهل الإشارة أراد بالنسخ نقل السالك وترقيه من حال إلى حال أعلى منه ، وإن غصن استكمالهم أبداً ناضر ، ونجم وصالهم دائماً زاهر ، فلا ينسخ من آثار عباداتهم شيء إلا أبدل منها أشياء من أنوار العبودية ، ولا ينسخ شيء من أنوار العبودية إلا أقيم مكانها أشياء من أقمار الربوبية .
وأيضاً إنهم يشاهدون بعض الوقائع الشريفة في الصور اللطيفة كسبتها المتخيلة بحسب صفاء الوقت وعلو المقام ، فلما ارتقوا إلى مقام آخر لا يشاهدون ذلك بتلك المشاهدة ، فيظن السالك الغر أنه حجب عن ذلك المقام أو الحال ، فقيل : ما ننسخ من آية من آيات المقامات ، أو ننسها بأن نمحوها من إدراك الخيال ، نأت بخير من تلك المشاهدة أو مثلها .
ثم الأئمة استنبطوا من الآية مسائل : الأولى : زعم قوم أنه لا يجوز نسخ الحكم لا إلى بدل لقوله ) نأت بخير منها أو مثلها ( والجمهور على خلافه لأن الآية لا تدل إلا على وجوب الإتيان بآية أخرى ، أما على وجوب الإتيان بحكم آخر فلا .
سلمنا لكنه مخصوص بنسخ تقديم(1/359)
" صفحة رقم 360 "
الصدقة بين يدي النجوى ، وبنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر من غير بدل .
سلمنا عدم تخصيصه لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك البدل عدم الحكم الذي رفع بالنسخ ويكون نسخه بغير بدل وجودي خيراً للمكلف لمصلحة علمت .
الثانية : زعم قوم أن النسخ لا يجوز بأثقل ، لأن الأثقل لا يكون خيراً منه ولا مثله .
وردّ الجمهور عليهم بأن المراد كثرة الثواب وذلك لا ينافي كونه أثقل ( أجرك على قدر نصبك ) وأيضاً قد وقع كنسخ التخيير بين الصوم والفدية بالصوم حتماً ، وصوم عاشوراء برمضان ، والحبس في البيوت للزاني بالحد .
وأما النسخ إلى الأخف فكنسخ العدة من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها .
وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة .
الثالثة : عن الشافعي أن الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة لقوله ) نأت بخير منها ( وذلك يدل على أن المأتي به من جنسه كما إذا قال الإنسان ( ما آخذ منك من ثوب آتك بخير منه ) يفيد أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه ، وجنس القرآن قرآن .
وأيضاً ) نأت ( يدل على أن الآتي هو الله لا الرسول .
وأيضاً المأتي به خير والسنة لا تكون خيراً من القرآن .
وأيضاً قوله ) ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ( دل على أن الآتي بذلك الخير هو القادر على جميع الخيرات وعلى تصريف المكلف تحت مشيئته وإرادته ، لا دافع لما أراد ولا مانع لما شاء وذلك هو الله تعالى .
وأجيب بأن قوله ) نأت بخير منها ( ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخاً ، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئاً مغايراً للناسخ يحصل بعد حصول النسخ وذلك أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى ، فلو كان نسخ تلك الآية مرتباً على الإتيان بذلك الخير لزم الدور .
قلت : ويمكن دفع الدور بأن يقال : المراد ما أردنا نسخها من آية نأت بخير منها حتى ننسخها .
ثم احتج الجمهور على وقوع نسخ الكتاب بالسنة بأن آية الوصية للأقربين منسوخة بقوله ألا لا وصية لوارث وبأن آية الجلد صارت منسوخة بخبر الرجم .
أجاب الشافعي : بأن كون الميراث حقاً للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية ، فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية ، ولعل الرجم إنما ثبت بقوله تعالى ( الشيخ والشيخة ) الخ .
) له ملك السموات والأرض ( فهو يدبر الأمور ويجريها على حسب المصالح ، وهو أعلم بما يتعبد المكلفين به من ناسخ ومنسوخ .
والخطاب في ) ألم تعلم ( إما للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فتدخل الأمة تبعاً ، أو لكل من له أهلية الخطاب .
ومعنى الاستفهام فيه التقرير والإثبات لظهور آثار قدرته ووضوح آيات ملكه وسلطانه .
وقيل : إشارة غلى ما شاهد ليلة المعجزات بعين اليقين ثم علمها حق اليقين ، فترقى من رؤية الآيات إلى كشف الصفات ، ومن كشف(1/360)
" صفحة رقم 361 "
الصفات إلى عيان الذات ، ثم نسخت عن الخيال وأثبتت في العيان .
والولي ضد العدو ، وكل من ولي أمر واحد فهو وليه ، فعيل بمعنى فاعل وكذا النصير .
والواو في ) وما لكم ( يحتمل أن تكون للاعتراض فلا محل للجملة ، ويحتمل أن تكون للعطف على ) له ملك السموات ( فيدخل تحت الاستفهام ، ويكون قوله ) من دون الله ( من وضع الظاهر موضع الضمير ولا يوقف على ) والأرض ( .
) أم تريدون ( قيل : الخطاب للمسلمين لقوله ) ومن يتبدل الكفر بالإيمان ( وهذا لا يصح إلا في حق المؤمنين ، ولأن ( أم ) للعطف ولا معطوف ظاهراً .
فالتقدير : وقولوا انظرنا واسمعوا ، فهل تفعلون هذا كما أمرتم ) أم تريدون أن تسألوا رسولكم ( ولأنه سأل قوم من المسلمين أن يجعل ( صلى الله عليه وسلم ) لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها المأكول والمشروب كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة وهذا قول الأصم والجبائي وأبي مسلم .
وقيل : إنه خطاب لأهل مكة وهو قول ابن عباس ومجاهد إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في رهط من قريش فقال : يا محمد ، ما أؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ، أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك بعد ذلك حتى تنزل عليناكتاباً من الله إلى عبد الله بن أمية أن محمداً رسول الله فاتبعوه .
فقال له بقية الرهط : فإن لم تستطع ذلك فأتنا بكتاب من عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله كما سأله السبعون ، وعن مجاهد : أن قريشاً سألت محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجعل الله لهم الصفا ذهباً .
فقال : نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا .
وقيل : المراد اليهود لأن هذه السورة من أول قوله ) يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي ( حكاية عنهم ومحاجة معهم ، ولأن الآية مدنية ، ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم ، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يتبدل كفراً بإيمان ، وليس في ظاهر الآية أنهم أتوا بالسؤال فضلاً عن كيفية السؤال ، بل المرجع فيه إلى الروايات المذكورة .
وههنا بحث وهو أن السؤال الذي ذكروه إن كان طلباً للمعجزات فمن أين أنه كفر ؟ ومعلوم أن طلب الدليل علىالشيء لا يكون كفراً وإن كان ذلك طلباً لوجه الحكمة التفصيلية في نسخ الأحكام ، فهذا أيضاً لا يكون كفراً فإن الملائكة طلبوا الحكمة التفصيلية في خلق البشر ولم يكن ذلك كفراً .
فالتفكير إما لأنهم طلبوا منه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة ، وإما لأنهم طلبوا المعجزات على وجه التعنت واللجاج .
قلت : والأصوب في الآية أن يكون ) أم تريدون ( معطوفاً على ) ألم تعلم ( على أنه خطاب لكل مكلف ، فيكون(1/361)
" صفحة رقم 362 "
في معنى الجمع .
ثم ( أم ) إما أن تكون متصلة على معنى أي الأمرين كائن فإن العلم واقع بكون أحدهما لأنه إما أن لا يعلم نفوذ علمه وقدرته وأن الكل تحت قدرته وقهره وتسخيره ، وإما أن يعلم فيسأل وجه الحكمة في النسخ وغيره على سبيل العناد وكلا الأمرين يوجب التكفير .
أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأن المعترف بحكمته البالغة وعنايته الشاملة ورأفته الكاملة وقدرته الظاهرة من حقه أن يقتصر على علمه الإجمالي ولا يتخطى مقام الأدب في البحث والتفتيش عن تفاصيل حكمته التي لا تكاد تنحصر .
ويوهم أن السائل في شك مما أمر به أو نهي عنه ، وعلى هذا لا يوقف على نصير .
وإما منقطعة على أنه أضرب عن الاستفهام الأول واستأنف استفهاماً ثانياً ، ويحتمل أن لا يكون قوله ) ومن يتبدل الكفر بالإيمان ( حكماً بتكفيرهم بسبب السؤال بل يكون تنبيهاً للمكلفين ، على أن السؤال عما لا يهم لهم مما قد ينجر إلى الغواية لكثرة عروض الشكوك والشبهات حتى يقفوا على الإعتقاد الحق والتقليد الصرف فيما لا سبيل غلى درك تفاصيله أو لا يهم معرفتها .
وسواء السبيل وسطه وهو الصراط المستقيم الذي مر تفسيره .
( البقرة : ( 109 - 113 ) ود كثير من . . . .
" ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " ( القراآت : قد سلفت الوقوف : ( كفاراً ( ( ج ) لأن ) حسداً ( مصدر محذوف أي يحسدون حسداً ، أو حال أو مفعول له وهو أوجه والوصل أجوز ) الحق ( ( ج ) لعطف الجملتين المختلفتين ) بأمره ( ( ط ) ) قدير ( ( 5 ) ) الزكاة ( ( ط ) لأن ما للشرط والشرط مصدر ) عند الله ( ( ط ) ) بصير ( ( 5 ) ) أو نصارى ( ( ط ) ) أمانيهم ( ( ط ) ) صادقين ( ( 5 ) ) عند ربه ( ( ص ) لعطف الجملتين(1/362)
" صفحة رقم 363 "
المتفقتين ) يحزنون ( ( 5 ) ) النصارى على شيء ( ( ص ) لا لعطف الجملتين المتفقتين ) على شيء ( ( ص ) لأن الواو للحال ) الكتاب ( ( ط ) ) مثل قولهم ( ( ج ) لأن ) فالله ( مبتدأ مع فاء التعقيب ) يختلفون ( ( 5 ) .
التفسير : هذا نوع آخر من مكايد اليهود .
روي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : ألم تروا ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلاً .
فقال عمار : كيف نقض العهد فيكم ؟ قالوا شديد .
قال : فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما عشت .
فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ .
وقال حذيفة : وأما أنا فقد رضيت بالله رباً وبمحمد نبياً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً .
ثم أتيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبراه فقال : أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت .
و ) كفاراً ( نصب على الحال ، أو مفعول ثانٍ ل ( يردون ) على أنه بمعنى ( صير ) والحسد من أقبح الخصال الذميمة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) وقال : ( إن لنعم الله أعداء قيل : وما أولئك ؟ قال : الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) وقال ( ستة يدخلون النار قبل الحساب : الأمراء بالجور ، والعرب بالعصبية ، والدهاقين بالتكبر ، والتجار بالخيانة ، وأهل الرستاق بالجهالة ، والعلماء بالحسد ) وروي أن موسى لما ذهب إلى ربه رأى في ظل العرش رجلاً يغتبط بمكانه فقال : إن هذا لكريم على ربه ، فسأل ربه أن يخبره باسمه فلم يخبره باسمه وقال : أحدثك من عمله ثلاثاً : كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله ، وكان لا يعق والديه ، ولا يمشي بالنميمة ، ويحكى أن عبد الله بن عون دخل على الفضل بن المهلب ، وكان يومئذ على واسط فقال : إني أريد أن أعظك بشيء : إياك والكبر فإنه أول ذنب عصى الله به إبليس ثم قرأ ) فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر ) [ البقرة : 34 ] وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة ، أمكنه الله من جنة عرضها السموات والأرض فأكل منها فأخرجه الله ثم تلا ) اهبطا منها ) [ طه : 123 ] وإياك والحسد فإنه قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ ) واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق ) [ المائدة : 27 ] وقال ابن الزبير : ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا ، لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة ، وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار ؟ واعلم أنه إذا أنعم الله على أخيك بنعمة فإن أردت زوالها فهذا هو الحسد المحرم الذي ذم الله تعالى صاحبه في هذه الآية وغيرها ) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) [ النساء : 54 ] ( إن تمسسكم حسنة تسؤهم ) [ آل عمران : 120 ] ( ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ) [ يوسف : 8 ] وإن اشتهيت لنفسك مثلها فهذا هو الغبطة والمنافسة المشتقة من(1/363)
" صفحة رقم 364 "
النفاسة وليست بحرام لقوله تعالى ) وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) [ المطففين : 26 ] ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم ) [ الحديد : 21 ] وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالاً وأنفقه في سبيل الله ، ورجل آتاه الله علماً فهو يعمل به ويعلم الناس ) وهذا يدل على أن الحسد قد يطلق على المنافسة ، وقد تكون واجبة إذا كانت النعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة ، وقد تكون مندوبة في نحو الإنفاق في سبيل الله وتشهي العلم والتعليم ، وقد تكون مباحة .
وللحسد مراتب أربع : الأولى ، أن يحب زوال النعمة عنه وإن لم تحصل له وهذه أخبث .
الثانية : أن يحب زوالها عنه إليه كرغبته في داره الحسنة أو امرأته أو ولايته فالمطلوب بالذات حصولها له ، فأما زوالها عن غيره فمطلوب بالعرض .
الثالثة : أن لا يشتهي زوالها بل يشتهي لنفسه مثلها ، فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلا يظهر التفاوت بينهما .
الرابعة : ن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم يحصل فلا يحب زوالها عنه .
وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا ، والمندوب إليه إن كان في الدين ، والثالثة منها مذموم وغير مذموم ، والثانية أخف والأولى أخبث قال تعالى : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) [ النساء : 32 ] تمنيه لمثل ذلك غير مذموم وتمنيه لعين ذلك مذموم .
وأسباب الحسد سبعة : أولها العداوة والبغضاء ، فإن من آذاه إنسان أبغضه قلبه وغضب عليه وتولد منه الحقد المنشئ للتشفي والانتقام ، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى منه بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان كما قال عز من قائل ) إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ) [ آل عمران : 120 ] .
وربما أفضى هذا الحسد إلى التنازع والتقاتل ، وثانيها التعزز فإن واحداً من أمثاله إذا نال منصباً عالياً فترفع عليه وهو لا يمكنه تحمل ذلك ، أراد زوال ذلك المنصب عنه .
وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره فإنه قد رضي بمساواته .
وثالثها : أن يكون في طبعه أن يستخدم غ يره فيريد زوال النعمة من ذلك الغير ليقدر على ذلك الغرض ) وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) [ الزخرف : 31 ] ( أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا ) [ الأنعام : 53 ] كالاستحقار لهم والأنفة منهم .
ورابعها : التعجب ) أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم ) [ الأعراف : 63 ] وخامسها : الخوف من فوت المقاصد وذلك يتحقق من المتزاحمين على مقصود واحد ، كتحاسد الضرائر في التزاحم على مقاصد الزوجية ، وتحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة عند الأبوين ، وتحاسد الوعاظ المتزاحمين على أهل بلدة .
وسادسها : حب الرياسة كمن يريد أن يكون(1/364)
" صفحة رقم 365 "
عديم النظير في فن من الفنون ، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك وأحب موته ، فإن الكمال محبوب لذاته وضد المحبوب مكروه .
ومن جملة أنواع الكمال التفرد بالكمال لكن هذا يمتنع حصوله إلا لله تعالى ، ومن طمع في المحال خاب وخسر .
وسابعها : شح النفس بالخير على عباد الله ، فإنك تجد من لا يشتغل برياسة ولا تكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك ، وإذا وصف اضطراب أمور الناس وإدبارهم فرح به ، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزائنه ، وهذا ليس له سبب ظاهر سوى خبث النفس كما قيل : البخيل من بخل بمال غيره .
وقد يجتمع بعض هذه الأسباب فيعظم الحسد ويتقوى بحسبه ، وقلما يقع التحاسد إلا في الأمور الدنيوية ، لأن الدنيا لا تفي بالمتزاحمين .
وأما الآخرة فلا ضيق فيها فلهذا لا يكون تحاسد بين أرباب الدين وأصحاب اليقين ، وإنما يكونون بلقاء إخوانهم مستأنسين وببقاء أقرانهم فرحين ) ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين ) [ الحجر : 47 ] وأما علاج الحسد فأمران : العلم والعمل .
أما العلم ففيه مقامان : إجمالي وهو أن يعلم أن الكل بقضاء الله وقدره ، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، لا يرده كراهية كاره ولا يجره إرادة مريد .
وتفصيلي وهو العلم بأن الحسد قذى في عين الإيمان حيث كره حكم الله وقسمته في عباده وغش للإخوان ، وعذاب أليم ، وحزن مقيم ، ومورث للوسواس ، ومكدر للحواس .
ولا ضرر على المحسود في دنياه لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك ، ولا في دينه بل ينتفع به لأنه مظلوم من جهتك فيثيبه الله على ذلك .
وقد ينتفع في دنياه أيضاً من جهة أنك عدوه ، ولا يزال يزيد غمومك وأحزانك إلى أن يقضي بك إلى الدنف والتلف .
اصبر على مضض الحسو
د فإن صبرك قائله
النار تأكل نفسها
إن لم تجد ما تأكله
وقد يستدل بحسد الحاسد على كونه مخصوصاً من الله تعالى بمزيد الفضائل .
لا مات أعداؤك بل خلدوا
حتى يروا منك الذي يكمد
لا زلت محسوداً على نعمة
فإنما الكامل من يحسد
والحاسد مذموم بين الخلق ، ملعون عند الخالق ، مشكور عند إبليس وأصدقائه ، مدحور عند الخالق وأوليائه ، فهل هو إلا كمن رمى حجراً إلى عدو ليصيب به مقتله فلا يصيبه بل يرجع على حدقته اليمنى فيقلعها ، فيزداد غضبه فيعود ثانياً فيرميه أشد من الأول(1/365)
" صفحة رقم 366 "
فيرجع على عينه الأخرى فيعميه فيزداد غيظه ، فيعود ثالثاً فيرجع على رأسه فيشدخه ، وعدوه سالم في كل الأحوال وقد عاد عليه الوبال وأعداؤه حواليه يفرحون ويضحكون ؟ هذا له في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .
وأما العمل فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد ، فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف لسانه المدح له ، وإن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له ، وإن حمله على قطع أسباب الخير سعى في إيصال الخير إليه حتى يصير المحسود محبوباً محباً له ، ) فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) [ فصلت : 34 ] ، وذلك التكلف يصير بالآخرة طبعاً والله الموفق .
واعلم أن النفرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه ، فكيف يعاقب عليه ؟ وإنما الاخل تحت التكليف رضاه بتلك النفرة ثم إظهار آثارها من القدح فيه والقصد إلى إزالة النعمة عنه وجر أسباب المحنة إليه ، ثم إن اليهود كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعدما تبين لهم أن الإيمان صواب وحق ، فألقوا إليهم ضربين من الشبهة لعلمهم أن المحق لا يعدل عن الحق إلا بالشبهة أحدهما ما يتصل بالدنيا وهو قولهم لهم قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم وذهباب أموالكم واستمرار الخوف عليكم ، فاتركوا إيمانكم الذي ساقكم إلى هذه .
الثاني في باب الدين بالقدح في المعجزات وتحريف التوراة .
قوله ) من عند أنفسهم ( إما أن يتعلق ب ) ود ( أي تمنوا ذلك من قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق ، لأنهم ودوا ذلك من بعدما تبين لهم أنكم على الحق ، وإما أن يتعلق ب ) حسداً ( أي منبعثاً من أصل نفوسهم ) فاعفوا واصفحوا ( فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح بترك المقابلة والإعراض عن الجواب ، لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة لا دائماً بل ) حتى يأتي الله بأمره ( عن الحسن أنه المجازاة يوم القيامة ، وقيل قوة الإسلام وكثرة المسلمين ، والأكثرون على أنه الأمر بالقتال فعنده يتعين إما الإسلام وإما قبول الجزية ، وتحمل الذل والصغار .
والآية منسوخة لأن الآية التي علق بها غير معلومة شرعاً فليس كقوله ) ثم أتموا الصيام إلى الليل ) [ البقرة : 187 ] بل يحل محل قوله ) فاعفوا واصفحوا ( إلى أن أنسخه عنكم .
عن الباقر عليه السلام : إنه لم يؤمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقتال حتى نزل جبريل بقوله ) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا ) [ الحج : 39 ] وقلده سيفاً فكان أول قتال قتال أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر .
فإن قيل : كيف يعفون ويصفحون والكفار حينئذ أصحاب قوة وشوكة ، والصفح لا يكون إلا عن قدرة ؟ قلنا : إن الرجل من المسلمين كان ينال الأذى فيقدر على بعض التشفي والإستعانة بسائر أصحابه ، فأمروا أن لا(1/366)
" صفحة رقم 367 "
يهيجوا قتالاً وفتنة .
وأيضاً القليل منهم كان يقاوم الكثير من المشركين ) إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) [ الأنفال : 65 ] وأيضاً جعل الصابر إلى القوة قوياً ليظهره على الدين كله .
وقيل : المراد بالعفو والصفح حسن الاستدعاء واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشفاق وترك التشدد ، وعلى هذا لا تكون الآية منسوخة .
وكذا لو قيل : المراد بأمر الله قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم ) إن الله على كل شيء قدير ( فهو يقدر على الانتقام منهم ) وأقيموا الصلاة ( تنبيه على أنه كما يلزمهم لحظ حال غيرهم بالعفو والصفح ، كذلك يلزمهم لحظ أنفسهم بأداء الواجبات من خير من حسنة صلوات أو صدقة فريضة أو تطوع ، فعمم بعدما خص تنبيهاً على أن الثواب لا يختص بالواجبات بل بها وبغيرها من الطاعات ، ولا بد من إضمار أي تحدوا ثوابه ، لأن وجدان عين تلك الأشياء غير مطلوب ) إن الله بما تعملون بصير ( لا يخفى عليه شيء من الأعمال وفيه ترغيب للمحسن وترهيب للمسيء ) وقالوا لن يدخل الجنة ( نوع آخر من تخليط أهل الكتاب اليهود والنصارى والضمير في ) وقالوا ( لهم والمعنى وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً وقالت النصارى لن يدخلها إلا من كان نصارى ، فضم بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق ما قاله لما علم من تكفير كل واحد منهما صاحبه ومثله ) وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ) [ البقرة : 135 ] والهود جمعم هائد كبازل وبزل وعائذ وعوذ ، والعائذ الحديثة النتاج من النوق ، والبازل الذي خرج نابه ، ووحد اسم ( كان ) حملاً على لفظ ( من ) وجمع خبره حملاً على المعنى ومثله ) فلا أجره عند ربه ولا خوف عليهم ) [ البقرة : 112 ] ( تلك أمانيهم ( على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، يريد أن أمانيهم جميعاً في البطلان مثل هذه وهي قولهم ) لن يدخل الجنة ( أو أشير بتلك إلى أن ودادتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم أمنية ، وودادتهم أن يردوهم كفاراً أمنية ، وقولهم ) لن يدخل الجنة ( أمنية أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم ، وقوله ( قل هاتوا برهانكم ( متصل بقوله ) لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ( و ) تلك أمانيهم ( اعتراض على هذا .
وهات الشيء اسم فعل معناه أعط ، ويتصرف فيه بحسب المأمور هات ، هاتيا ، هاتوا ، هاتي ، هاتين ، وقيل : الصحيح أنه ليس باسم فعل وإنما الهاء فيه مبدلة من الهمزة ، وأصله آت من الإيتاء .
برهانكم حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة ) إن كنتم صادقين ( في دعواكم ، وفيه دليل واضح على أن المدعي نفياً أو إثباتاً لا بدل له من برهان وإلا فدعواه باطلة .
من ادعى شيئاً بلا شاهد
لا بد أن تبطل دعواه(1/367)
" صفحة رقم 368 "
) بلى ( إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ، وقوله ( من أسلم ( إلى آخره جملة شرطية مستأنفة ، ويجوز أن يكون ) من أسلم ( فاعلاً لفعل محذوف أي بلى يدخلها من أسلم ويكون قوله ) فله أجره ( كلاماً معطوفاً على يدخلها ) من أسلم ( وفيه إشارة غلى أن لهؤلاء الداخلين برهاناً وهو استسلام النفس وانقيادها لطاعة الله مع الإحسان وفيه ترغيب لهم في الإسلام وبيان لمفارقة حالهم حال من يدخل الجنة كأنه قيل لهم : أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة ، بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء من حيث إنه معدن الحواس وينبوع الفكر والتخييل ، فغذا تواضع الأشرف كان غيره أولى ، ولأن الوجه قد يكنى به عن النفس والذات ) كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) [ الليل : 20 ] ولأن أعظم العبادات السجدة وهي إنما تحصل بالوجه .
وهذا الإسلام أخص من الإسلام الذي ورد في الحديث ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ) لأن هذا عبارة عن الإذعان الكلي بجميع القوى والجوارح في كل الأحوال والأوقات ، وهو الإسلام الذي أمر به إبراهيم عليه السلام ) إذ قال له ربه اسلم قال أسلمت لرب العالمين ) [ البقرة : 131 ] ويؤكد ذلك قوله ) لله ( أي خالصاً له لا يشوبه شرك فلا يكون عابداً مع الله غيره ولا معلقاً رجاءه بغيره ، وزاد التأكيد بقوله ) وهو محسن ( أي حال كونه محسناً في عمله ، ومعنى الإحسان هو الذي في الحديث ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ولا ريب أن العبادة على هذا الوجه لا تصدر إلا عن صدق النية وصفاء الطوية ، فإن مثول العبد بين يدي مولاه يشغله عن الالتفات إلى ما سواه ، فلا يقع قصده فيما هو فيه إلا لوجه الله فلا يصدر عنه شيء من السيئات ، وأما الطاعات والمباحات فتكون مقتضية لتزايد الحسنات ورفع الدرجات في الخبر من تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك ، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة ( وذلك أن المتطيب إن كان قصده التنعم واستيفاء اللذات أو التودد إلى النسوان كان التطيب معصية ، وإن كان قصده إقامة السنة ودفع الروائح المؤذية عن عباد الله وتعظيم المسجد فهو عين الطاعة ، وكذا الكلام في المناكح والمطاعم والمشارب .
والضابط أن كل ما فعلته لداعي الحق فهو العمل الحق ، وكل ما عملته لغير الله فحلالها حساب وحرامها عذاب ، روي أن رجلاً في بني إسرائيل مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه : لو كان هذا الرمل طعاماً لقسمته بين الناس .
فأوحى الله تعالى إلى نبيه قل له : إن الله قد صدقك وشكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاماً فتصدقت(1/368)
" صفحة رقم 369 "
به .
وليس النية أن يقول في نفسه أو بلسانه عند تدريسه أو تجارته ) نويت أن أدرس لله أو أتجر لله ( هيهات أنها لحديث نفس أو لسان وما ذاك إلا كقول الفارغ ) نويت أن أعشق ( وأما النية فهي انبعاث النفس وميلها غلى سلوك طريق الحق في كل فعل ، فاجتهد في تصيير ذلك ملكة لنفسك .
) وللناس فميا يعشقون مذاهب (
فمنهم من يعمل لباعث الخوف من النار فله ذلك ، ومنهم من يعمل لباعث الطمع في الجنة وهم أكثر أهل الجنة لقصور هممهم عن طموح ما فوقها من الكمالات واللذات الحقيقيات أكثر أهل الجنة البله ) ومنهم من يعمل لله فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ولما جمع الله تعالى أهل الكتابين في الآية المتقدمة ، فصل بينهما وبين قول كل فريق في حق الآخر ، والظاهر حمل لفظي اليهود والنصارى على العموم وإن كان السبب خاصاً لأن هذا اعتقاد كل واحد من كل من الطائفتين في حق الأخرى .
روي أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى والإنجيل .
وقالت النصارى لهم نحوه ، وكفروا بموسى والتوراة .
ومعنى ) على شيء ( أي شيء يصح ويعتد به ، وفيه مبالغة عظيمة كقول العرب ( أقل من لا شيء ) عن ابن عباس : والله صدقوا .
قلت : وذلك أن الإيمان بالله إنما يعتد به إذا كان مؤمناً برسوله وبكل ما أنزله ) وهم يتلون الكتاب ( الواو للحال والكتاب للجنس أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب ، وحق من حمل التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله أن يؤمن بالباقي ولا يكفر به ، لأن جميع الكتب السماوية متواردة في تصديق بعضها بعضاً ) كذلك ( الكاف للتشبيه و ) ذلك ( إشارة إلى المذكور أي قولاً مثل الذي سمعت به ) قال الذين لا يعلمون ( و ) مثل قولهم ( مكرر للتأكيد ولطول الكلام بالموصول والصلة .
والمراد بالذين لا يعلمون الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام القائلين إن المسلمين ليسوا على شيء وفيه توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم فقالوا قولاً عن التشهي والعصبية مثلهم ) فالله يحكم بينهم ( أي بين اليهود والنصارى يومالقيامة .
عن الحسن : يكذبهم جميعاً ويدخلهم النار ويجوز أن يرجع الضمير إلى الكافرين الذين يعلمون والذين لا يعلمون وإلى المسلمين ، ويحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه ، فينتصر من الظالم المكذب للمظلوم المكذب ، أو يريهم من يدخل الجنة عياناً ويدخل النار عياناً أعاذنا الله تعالى منها .(1/369)
" صفحة رقم 370 "
( البقرة : ( 114 - 118 ) ومن أظلم ممن . . . .
" ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون "
( القراآت )
قالوا اتخذ الله ( بلا واو العطف : ابن عامر اتباعاً لمصاحف أهل الشام ) كن فيكون ( بالنصب كل القرآن : ابن عامر إلا قوله ) كن فيكون الحق ( في آل عمران ، و ) كن فيكون قوله الحق ( في الأنعام .
وافقه الكسائي في النحل ويس .
الوقوف : ( خرابها ( ( ط ) للفصل بين الاستفهام والخبر ) خائفين ( ط لأن ما بعده إخبار وعيد مبتدأ منتظر ) عظيم ( ( 5 ) ) وجه الله ( ( ط ) ) عليم ( ( 5 ) ) وإذا ( ( لا ) تعجيلاً للتنزيه ) سبحانه ( ( ط ) ) والأرض ( ( ط ) لأن ما بعده مبتدأ ) قانتون ( ( 5 ) ) والأرض ( ( ط ) لأن إذا أجيبت بالفاء وكانت للشرط ) فيكون ( ( 5 ) ) آية ( ( ط ) ) قلوبهم ( ( ط ) لأن قد لتوكيد الاستئناف ) يوقنون ( ( 5 ) .
التفسير : عن ابن عباس أن ملك النصارى غزا بيت المقدس فخربه وألقى فيه الجيف وحاصر أهله وقتلهم وسبى الذرية وأحرق التوراة ، ولم يزل خراباً حتى بناه أهل الإسلام في زمان عمر فنزلت الآية فيهم .
وعن الحسن وقتادة والسدي نزلت في بختنصر حيث خرب بيت المقدس وأعانه على ذلك بعض النصارى .
ورد بأن بختنصر كان قبل مولد المسيح بزمان .
وقيل : نزلت في مشركي العرب الذين منعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الدعاء إلى الله بمكة ألجأوه إلى الهجرة ، فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام .
وقيل : المراد منع المشركين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية .
ووجه اتصال الآية بما قبلها على القولين الأولين .
هو أن النصارى ادعوا أنهم من أهل الجنة فقط ، فبين أنهم أظلم منهم فكيف يدخلون الجنة ؟ وعلى الآخرين هو أنه جرى ذكر مشركي العرب في قوله ) كذلك قال الذين لا يعلمون ( فعقب ذلك بسائر قبائحهم و ( من ) استفهامية لتقرير النفي أي ليس أحد أظلم ممن منع و ) أن يذكر ( ثاني مفعوليه لأنك تقول : منعته كذا أو بدل من ) مساجد ( أو حذف حرف الجر مع أن والتقدير كراهة أن يذكر فيكون مفعولاً له .(1/370)
" صفحة رقم 371 "
وهذا حكم عام لجنس مساجد الله ، وأن مانعها من ذكر الله تعالى مفرط في الظلم ، ولا بأس أن يجيء الحكم عاماً وإن كان السبب خاصاً كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً من أظلم ممن آذى الصالحين ؟ ومثله ) ويل لكل همزة لمزة ) [ الهمزة : 1 ] والمنزول فيه الأخنس بن شريق .
وينبغي أن يراد بمن منع العموم أيضاً لا الذين منعوا من أولئك النصارى أو المشركين بأعيانهم والسعي في خراب المساجد بانقطاع الذكر أو تخريب البنيان قيل : إن قوله ) ومن أظلم ( الذي هو في قوة ليس أحد أظلم ليس على عمومه لأن الشرك أعظم من هذا الفعل ) إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13 ] وكذا الزنا وقتل النفس قلت : أما استعمال لفظ الظلم في هذا المعنى في غاية الحسن ، لأن المسجد موضوع لذكر الله تعالى فيه ، فالمانع من ذلك واضع للشيء في غير موضعه .
وأما أنه لا أظلم منه فلأنه إن كان مشركاً فقد جمع مع شركه هذه الخصلة الشنعاء فلا أظلم منه ، وإن كان يدعي الإسلام ففعله مناقض لقوله ، لأن من اعتقد أن لو معبوداً عرف وجوب عبادته له عقلاً أو شرعاً ، والعبادةتستدعي متعبداً لا محالة فتخريب المتعبد ينبئ عن إنكار العبادة وإنكار العبادة يستلزم إنكار المعبود ، فهذا الشخص لا يكون في الحقيقة مسلماً وإنما هو منخرط في سلك أهل النفاق ، والمنافق كافر أسوأ حالاً من الكافر الأصلي بالاتفاق ) أولئك ( المانعون ) ما كان لهم ( أي ما ينبغي لهم ) أن يدخلوها ( في حال من الأحوال ) إلا خائفين ( على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها .
والمعنى : ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم .
وقيل : هذه بشارة للمؤمنين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد ، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخلوا المسجد الحرام إلا خائفين من أن يعاقبوا أو يقتلوا إن لم يسلموا .
وقد أنجز الله هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام ونادى فيهم عام حج أبو بكر : ألا لا يحجن بعد العام مشرك .
وأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بإخراج اليهود من جزيرة العرب ، وصار بيت المقدس في أيدي المسلمين .
وقيل : يحرم عليهم دخول المسجد إلا في أمر يتضمن الخوف نحو أن يدخلوا للمحاكمة أو المخاصمة أو المحاجة .
وقيل : اللفظ خبر ولكن معناه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه كقوله ) وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ) [ الأحزاب : 53 ] فمن هنا قال مالك : لا يجوز للكافر دخول المساجد .
وخصص الشافعي المنع بالمسجد الحرام لجلالة قدره ومزيد شرفه ، للتصريح بذلك في قوله ) إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ التوبة : 28 ] .
وجوز أبو حنيفة دخول المساجد كلها لما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قدم عليه وفد ثقيف فأنزلهم المسجد .
وأجيب بأنه في أول الإسلام ثم نسخ بالآية ) خزي ( ذل يمنعهم من المساجد أو بالجزية في حق اهل الذمة(1/371)
" صفحة رقم 372 "
وبالسبي والقتل في حق أهل الحرب ، وفيه ردع لهم عن ثباتهم على الكفر .
وقيل : الخزي فتح مدائنهم قسطنطينية وعمورية ورومية ، والعذاب العظيم يناسب الظلم العظيم ولنذكر هنا فوائد : ( الأولى ) في بيان فضل المساجد ومن ذاك إضافتها إلى الله في الآية وذلك دليل على شرفها وكذا في قوله ) وأن المساجد لله ) [ الجن : 18 ] بلام الاختصاص ) إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) [ التوبة : 18 ] ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ) [ النور : 39 ] وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ) وليس ذلك إلا لأن المسجد يذكر الحبيب ، والسوق يشغل عنه ، وفي الآية نكتة وهي أن مخرب المساجد لما كان في نهاية الظلم والكفر يلزم أن يكون عامر المساجد في غاية العدل والإيمان .
( الثانية ) في فضل المشي إلى المساجد عن أبي هريرة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فيه فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) لبني سلمة حين أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ( دياركم تكتب آثاركم ) ( الثالثة ) في تزيين المساجد .
عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما أمرت بتشييد المساجد ) قال ابن عباس : بزخرفتها كما زخرفت اليهود والنصارى .
التشييد رفع البناء وتطويله ، والزخرفة التزيين والتمويه .
وأمر عمر ببناء مسجد فقال : أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس .
( الرابعة ) في تحية المسجد .
عن أبي قتادة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس ) وتؤدى التحية بالفرض أو النفل نواها أولا وهذا مذهب(1/372)
" صفحة رقم 373 "
الحسن البصري ومكحول والشافعي وأحمد وإسحق .
وقيل : يجلس ولا يصلي وإليه ذهب ابن سيرين وعطاء بن أبي رباح والنخعي وقتادة ومالك والثوري وأصحاب الرأي .
( الخامسة ) في الدعاء عند الدخول في المسجد والخروج منه .
روت فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أبيها قالت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دخل المسجد صلى على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي ابواب رحمتك وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال : رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك. ) ( السادسة ) في فضيلة القعود فيه لانتظار الصلاة عن أبي هريرة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه فتقول : اللهم اغفر له وارحمه ما لم يحدث ) ( السابعة ) في كراهية البيع والشراء فيه ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن تناشد الأشعار في المساجد وعن البيع والشراء فيها ، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة يعني لمذاكرة العلم ونحوه ، بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة ثم لا بأس بالاجتماع والتحلق بعد الصلاة ، وأما طلب الضالة في المسجد ورفع الصوت بغير الذكر فمكروه أيضاً .
عن أبي هريرة أنه قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل : لا أداها الله إليك فإن المساجد لم تبن لهذا ) وقد كره بعض السلف المسالة في المسجد ، وكان بعضهم لا يرى أن يتصدق على السائل المتعرض في المسجد ، وقال معاذ بن جبل : إن المساجد طهرت من خمس : من أن تقام فيها الحدود ، أو يقبض فيها الخراج ، أو ينطق فيها بالأشعار ، أو ينشد فيها الضالة ، أو تتخذ سوقاً .
ولم ير بعضهم بالقضاء في المسجد بأساً لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا عن بين العجلاني وامرأته في المسجد ، ولاعن عمر عند منبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد ، وكان الحسن وزرارة بن أبي أوفى يقضيان في الرحبة خارجاً من المسجد .
( الثامنة ) النوم في المسجد .
عن عبادة بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى .
وفيه دليل على جواز الاتكاء والاضطجاع(1/373)
" صفحة رقم 374 "
وأنواع الاستراحة في المسجد وجوازها في البيت إلا الانبطاح ، فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عنه وقال : ( إنها ضجعة يبغضها الله ) ( التاسعة ) في كراهة البزاق في المسجد .
عن أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنه يناجي الله ما دام في مصلاه ، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً ولكن ليبصق عن شماله أو تحت رجله فيدفنه ) ( العاشرة ) عن جابر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا ) ( من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس ) ( الحادية عشرة ) في بناء المساجد في الدور عن عائشة قالت : أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب .
وفيه دليل أن مجرد تسمية الموضع بالمسجد لا يخرجه عن ملكه ما لم يسبله .
قوله عز من قائل ) ولله المشرق والمغرب ( الآية ، الأكثرون على أنها نزلت في أمر يختص بالصلاة ، ومنهم من زعم أنها نزلت في أمر لا يختص بالصلاة أما الفرقة الأولى فاختلفوا على وجوه : أحدها : أراد به تحويل المسلمين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة فقال : إن المشرق والمغرب وجميع الأطراف مملوكة له سبحانه ومخلوقة له ، فأينما أمركم باستقباله فهو القبلة لأن القبلة ليست قبلة لذاتها بل بجعل الله تعالى ، فكانت الآية(1/374)
" صفحة رقم 375 "
مقدمة لما اراد من نسخ القبلة ، وثانيها عن ابن عباس : لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك فنزلت رداً عليهم .
وثالثها قول أبي مسلم : إن كلاً من اليهود والنصارى زعمت أن الجنة لهم وحدهم فرد الله عليهم ، وذلك أن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لاعتقادهم أنه تعالى صعد السماء من الصخرة ، والنصارى استقبلوا المشرق لأن عيسى ولد هناك ) إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً ) [ مريم : 16 ] فكل منهما وصف معبوده بالحلول في الأماكن ، ومن كان هكذا فهو مخلوق لا خالق فكيف تخلص لهم الجنة وهم لا يفرقون بين المخلوق والخالق ؟ ورابعها : قول قتادة وابن زيد : إن الله تعالى نسخ بيت المقدس بالتخيير غلى أي جهة شاءوا بهذه الآية ، وكان للمسلمين ذلك إلا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يختار التوجه إلى بيت المقدس ، ثم إنه تعالى نسخ ذلك التخيير بتعيين الكعبة .
وخامسها أن الآية في حق من يشاهد الكعبة فله الاستقبال من أي جهة شاء .
وسادسها : روى عبد الله بن عامر بن ربيعة : كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزاة في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة ، فجعل كل رجل منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه ثم صلينا ، فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله هذه الآية عذراً لنا في خطئنا .
وهذا الحديث يدل على أنهم حينئذ قد نقلوا إلى الكعبة ، لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ القبلة .
وسابعها : عن ابن عمر نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث توجهت به راحلته ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعاً يومئ برأسه نحو المدينة .
فمعنى الآية أينما تولوا وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم فثم وجه الله ، أي فقد صادفتم رضاه إن الله واسع الفضل عليم بمصالحكم فمن ثم رخص لكم كيلا يلزم ترك النوافل والتخلف عن الرفقة ، فإن النوافل غير محصورة بخلاف الفرائض فإنها محصورة .
فتكليف النزول عن الراحلة لاستقبال القبلة لا يفضي فيها إلى الحرج ، ولا يخفى أن الآية على الوجه الأول ناسخة ، وعلى الوجه الرابع منسوخة ، وعلى سائر الوجوه لا ناسخة ولا منسوخة .
وأما الفرقة الثانية فاختلفوا أيضاً فقيل : الخطاب في ) تولوا ( للمانعين والساعين يريد أنهم أين هربوا فإن سلطاني يلحقهم وتدبيري يسبقهم وعلمي محيط بمكانهم .
عن قتادة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه فقالوا نصلي على رجل ليس بمسلم ) فنزلت ) وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ) [ آل عمران : 199 ] الآية .
فقالوا : إنه كان لا يصلي إلى القبلة فنزلت هذه الآية أي الجهات التي يصلي إليها أهل كل ملة لي .
فمن وجه وجهه نحو شيء منها يريد طاعتي وجد ثوابي ، فكان في هذا عذر للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبال المشرق كقوله ) وما كان الله ليضيع إيمانكم ) [ البقرة : 143 ] وعن الحسن ومجاهد(1/375)
" صفحة رقم 376 "
والضحاك : لما نزلت ) ادعوني أستجب لكم ) [ غافر : 60 ] قالوا : أين ندعوه ؟ فنزلت ، وعن علي بن عيسى أنه خطاب للمسلمين أي لا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله عن ذكره حيث كنتم من أرضه فللَّه بلاد المشرق والمغرب والجهات كلها ، ففي اي مكان فعلتم التولية التي أمرتم بها بدليل ) فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام ) [ البقرة : 144 ] ( فولوا وجوهكم شطره ) [ البقرة : 144 ] فثم الجهة المأمورة المرضية وهذا كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( جعلت لي الأرض مسجداً ) وقيل : نزلت في المجتهدين في الصلاة أو في غ يرها ، وفيه أن المجتهد إذا رأى بشرائط الاجتهاد رأياً فهو مصيب .
ومعنى تولوا في جميع الوجوه تقبلوا بوجوهكم إليها .
ويقال : ولى هارباً أي أدبر ، فالتولية من الأضداد ، ومن جعل الخطاب للمانعين احتمل أن يريد بالتولية الإدبار و ) ثم ( إشارة إلى المكان خاصة .
وقد زعمت المجسمة من الآية أن لله تعالى وجهاً وأيضاً سماه واسعاً ، والسعة من نعوت الأجسام .
والجواب أن الآية عليه لا له ، فإن الوجه لو حمل علىمفهومه اللغوي لزم خلاف المعقول فإنه إن كان محاذياً للشرقي استحال أن يكون حينئذ محاذياً للغربي ، فلا بد من تأويل هو : أن الإضافة للتشريف مثل ( بيت الله ) ( وناقة الله ) لأنه خلقهما وأوجدهما فأي وجه من وجوه العالم وجهاته المضافة إليه بالخلق والتكوين نصبه وعينه فهو قبلة والمراد بالوجه القصد والنية مثل ) وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ) [ الأنعام : 79 ] أو المراد فثم مرضاة الله مثل ) إنما نطعمكم لوجه الله ) [ الدهر : 9 ] فإن المتقرب إلى رضا أحد شيئاً فشيئاً كالمتوجه إلى شخص ذاهباً إليه شيئاً فشيئاً .
و كيف يكون له وجه أو وجهة ، أم كيف يكون جسماً أو جسمانياً وأنه خالق الأمكنة والأحياز والجواهر والأعراض والخالق مقدم على المخلوق تقدماً بالذات والعلية والشرف ؟ فالمراد بالسعة كمال الاستيلاء والقدرة والملك وكثرة العطاء والرحمة والإنعام ، وأنه تعالى قادر على الإطلاق وفي توفية ثواب من يقوم بالمأمورات على شرطها ، وتوفية عقاب من يتكاسل فيها ، عليم بمواقع نياتهم فيجازيهم على حسب أعمالهم .
قوله ) وقالوا اتخذ الله ولداً ( نوع آخر من قبائح أفعال اليهود والنصارى والمشركين جميعاً فقد مر ذكرهم في قوله ) كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ( وفي قوله ) ومن(1/376)
" صفحة رقم 377 "
أظلم ( كما مر .
والضمير يصلح للعود إليهم ، فاليهود قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله ، والمشركون من العرب قالوا الملائكة بنات الله ) سبحانه ( تنزيه له عن ذلك وتبعيد ) بل له ما في السموات والأرض ( ملكاً وخلقاً وإبداعاً وصنعاً ، ومن جملتهم الملائكة وعزير والمسيح .
والولد لا بد أن يكون من جنس الوالد ، ومن أين المناسبة بين واجب الوجود لذاته وممكن الوجود لذاته ؟ اللهم إلا في مطلق الوجود ، وذلك لا يقتضي شركة في الحقيقة الخاصة بكل منهما .
وقد يتخذ الولد للحاجة غليه في الكبر ورجاء الانتفاع بمعونته وذلك على الغني المطلق والقيوم الحق محال ) كل له قانتون ( التنوين عوض عن محذوف أي كل ما في السموات والأرض والقنوت في الأصل الدوام ثم الطاعة ، أو طول القيام أو السكوت فالمعنى أن دوام الممكنات واستمرارها جميعاً به ولأجله وقيل : عن مجاهد وابن عباس مطيعون فسئل ما للكفار ، فأجاب : أنهم يطيعون يوم القيامة فسئل هذا للمكلفين .
وقوله ( بل له ما في السموات ( يعم المكلف وغيره ، فعدل إلى تفسير آخر قائلاً المراد كونها شاهدة على وجود الخالق بما فيها من آثار القدرة وأمارات الحدوث ، أو كون جميعها في ملكه وتحت قهره لا يمتنع عن تصرفه فيها كيف يشاء .
وعلى هذه الوجوه جمع السلامة في ) قانتون ( للتغليب ، أو يراد كل من الملائكة وعزير والمسيح عابدون له مقرون بربوبيته منكرون لما أضافوا إليهم من الولدية ، وعلى هذا الوجه يجمع على الأصل .
يحكى أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال لبعض النصارى : لولا تمرد عيسى عن عبادة الله تعالى لصرت على دينه .
فقال النصراني : كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى مع جده في طاعة الله ؟ فقال علي : إن كان عيسى إلهاً فالإله كيف يعبد غيره ؟ وإنما العبد هو الذي يليق به العبادة فانقطع النصراني وبهت ) بديع ( خبر مبتدأ محذوف أي هو بديع ) السموات والأرض ( عم أولاً لأن الملكية والاختصاص لا يستلزم كون المالك موجداً للمملوك ، ثم خص ثانياً فقال بديع : بدع الشيء بالضم فهو بديع ، وأبدعته اخترعته لأعلى مثال ، وهذا من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي بديع سمواته وأرضه .
وقيل : بمعنى المبدع كأليم بمعنى مؤلم وضعف ، ثم إنه تعالى بين كيفية إبداعه فقال : ( وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ( أصل التركيب من ( ق ض ى ) يدل على القطع .
قضى القاضي بهذا إذا فصل الدعوى ، وانقضى الشيء انقطع ، وقضى حاجته قطعها عن المحتاج ، وقضى الأمر إذا أتمه وأحكمه ، لأن إتمام العمل قطع له ، وقضى دينه أداه لأنه انقطع كل منهما عن صاحبه وضاق الشيء لأنه كأنه مقطوع الأطراف ، والأمر الشأن ، والفعل ههنا ، ومعنى قضى أمراً أتمه أو حكم بأنه يفعله أو أحكمه قال :(1/377)
" صفحة رقم 378 "
وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع
ثم من قرأ ) فيكون ( بالرفع على تقدير فهو يكون فلا إشكال ، وأما من قرأ بالنصب على أنه جواب الأمر فأورد عليه أن جواب الأمر لا بد أن يخالف الأمر في الفعل أو في الفاعل أو فيهما نحو : اذهب تنتفع ، أو اذهب يذهب زيد ، أو اذهب ينفعك زيد ، فإما أن يتفق الفعلان والفاعلان نحو : اذهب تذهب غفير جائز لأن الشيء لا يكون شرطاً لنفسه .
قلت : لا استبعاد في هذا ، لأن الغرض الذي رتب على الأمر قد يكون شيئاً مغايراً لفعل الأمر وذلك أكثري ، وقد لا يكون الغرض إلا مجرد ذلك الفعل فيوقع في جواب نفسه ليعلم أن الغرض منه ليس شيئاً آخر مغايراً له .
فقول القائل ( اذهب تذهب أو فتذهب ) معناه إعلام أن الغرض من الأمر هو نفس صدور الذهاب عنه لا شيء آخر ، كما أن المقصود في الآية من الأمر بالوجود هو نفس الوجود ، فأوقع ( كان ) التامة جواباً لمثلها لهذا الغرض ، على أنه يمكن أن يشبه الواقع بعد الأمر بجواب الأمر وإن لم يكن جواباً له من حيث المعنى .
فإن قلت : إن قوله ) فيكون ( لما كان من تتمة المقول .
فالصواب أن يكون بتاء الخطاب نحو ( اذهب فتذهب ) قلت : هذا الحادث قد ذكر مرتين بلفظ الغيبة في قوله ) أمراً ( وفي قوله ) له ( ومرة على سبيل الخطاب فغلب جانب الغيبة ، ويحتمل أن يكون من باب الالتفات تحقيراً لشأنه في سهولة تكونه ، ولأن أول الكلام مع المكلفين فروعي ذلك .
وههنا بحث آخر وهو أنه لا يجوز أن يتوقف إيجاد الله تعالى لشيء على صدور لفظة ( كن ) منه لوجوه : الأول أن قوله ) كن ( إما أن يكون قديماً أو محدثاً لا جائز أن يكون قديماً ، لأن النون لكونه مسبوقاً بالكاف يكون محدثاً لا محالة ، والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان مقدر يكون محدثاً أيضاً ، ولأن ( إذا ) للاستقبال فالقضاء محدث ، وقوله ( كن ) مرتب عليه بفاء التعقيب ، والمتأخر عن المحدث محدث ، ولأن تكون المخلوق مرتب على قوله ( كن ) بالفاء والمتقدم على المحدث بزمان محصور محدث أيضاً ، ولا جائز أن يكون ( كن ) محدثاً وإلا احتاج إلى مثله ويلزم إما الدور وإما التسلسل وإذا بطل القسمان بطل توقف الأشياء على ( كن ) ( الثاني ) إما أن يخاطب المخلوق ب ( كن ) قبل دخوله في الوجود وخطاب المعدوم سفه ، وإما بعد دخوله في الوجود لا فائدة فيه .
( الثالث ) المخلوق قد يكون جماداً وتكليف الجماد لا يليق بالحكمة .
( الرابع ) إذا فرضنا القادر المريد منفكاً عن قوله ) كن ( فإن تمكن من الإيجاد فلا حاجة إلى ) كن ( ، وإن لم يتمكن فلا يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه ب ) كن ( فيلزم عجز القادر بالنظر إلى ذاته ، أو يرجع الحاصل إلى تسمية القدرة ب ) كن ( ولا نزاع في اللفظ .
( الخامس ) أنا نعلم بالضرورة أنه لا تأثير لهذه(1/378)
" صفحة رقم 379 "
الكلمة إذا تكلمنا بها وكذا إذا تكلم بها غيرنا .
( السادس ) المؤثر إما مجموع الكاف والنون ولا وجود لهما مجموعين ، فعند مجيء الثاني ينقضي الأول ، وإما أحدهما وهذا خلاف المفروض فثبت بهذه الوجوه أن حمل الآية على الظاهر غير جائز فلا بد من تأويل ، وأصحه أن يقال : المراد أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف ، فشبه حال هذا المتكون بحال المأمور المطيع الذي يؤمر فيتمثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يأبى ، وفيه تأكيد لاستبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها وقيل : إنه علامة وضعها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً ، عن أبي الهزيل .
وقيل إنه خاص بالموجودين الذين قال لهم كونوا قردة ومن يجري مجراهم من الأمم .
وقيل : أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة ) وقال الذين لا يعلمون ( يعني الجهلة من المشركين .
وقيل : من أهل الكتاب أيضاً .
ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به .
فالآية الأولى فيها بيان قدحهم في التوحيد ، وهذه الآية فيها بيان قدحهم في النبوة .
ولولا حرف تحضيض أي هلا يكلمنا وتقرير الشبهة أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء اختار أقرب الطربق المؤدية إلى المطلوب ، ثم إنه تعالى كلم الملائكة وكلم موسى وأنت تقول يا محمد إنه كلمك ) فأوحى غلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 10 ] فلم لا يكلمنا مشافهة ولا ينص على نبوتك حتى يتأكد الإعتقاد وتزول الشبهة ؟ فإن لم يفعل ذلك فلم لا تأتي بآية ومعجزة ؟ وهذا طعن منهم في كون القرآن آية ومعجزة فأجابهم الله تعالى بقوله ) كذلك قال الذين من قبلهم ( من مكذبي الرسل ) تشابهت قلوبهم ( أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى كقوله ) أتواصوا به ) [ الذاريات : 53 ] فكما أن قوم موسى كانوا أبداً في التعنت واقتراح الأباطيل ) لن نصبر على طعام واحد ) [ البقرة : 61 ] ( أرنا الله جهرة ) [ النساء : 153 ] ( اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) [ الأعراف : 138 ] فكذلك هؤلاء المشركون ) قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ) [ الإسراء : 90 ] ( لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ) [ الفرقان : 21 ] وكذلك المعاصرون من اليهود والنصارى ) يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء ) [ النساء : 153 ] ( قد بينا الآيات لقوم ( يفقهون ف ) يوقنون ( أنها آيات .
فلو كان غرضهم طلب الحق لوقع الاكتفاء بها لكونها آيات ظاهرة هي القرآن العظيم الذي أخرس شقائق الفصحاء عن آخرهم ، ومعجزات باهرة كمجيء الشجرة وحنين الجذع وتسبيح الحصى وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، وأيضاً لو كان في معلوم الله تعالى أنهم يؤمنون عند إنزال ما اقترحوه لفعلها ، لكنه علم لجاجهم وعنادهم فلا جرم لم يفعل ذلك وأيضاً ، لعل في تلك الآيات مفاسد لا يعلمها إلا علام الغيوب كإفضائها إلى حد الإلجاء المخل بالتكليف ، وكإيجابها استئصاهم بالكلية إذا(1/379)
" صفحة رقم 380 "
استمروا على التكذيب ، وكخروجها عن القدر الصالح لإلزام الحجة ، وأيضاً كثرة الآيات وتعاقبها ينافي كونها خوارق لعادة فلا تبقى آيات ، وكل ما أدى وجوده إلى عدمه ففرض وجوده محال ، فثبت بهذه البيانات أن عدم إسعافهم بما اقترحوه لا يقدح في صحة النبوة والله أعلم .
التأويل : مساجد الله التي يذكر فيها أساميها عند أهل النظر ، النفس والقلب والروح ، والسر والخفي - وهو سر السر - وذكر كل مسجد منها مناسب لذلك المسجد .
فذكر مسجد النفس الطاعات والعبادات ومنع الذكر فيه بترك الحسنات وملازمة السيئات ، وذكر مسجد القلب التوحيد والمعرفة ومنع الذكر فيه بالتمسك بالشبهات والتعلق بالشهوات ، كما أوحى الله إلى داود عليه السلام : يا داود حذر وأنذر أصحابك كل الشهوات فإن القلوب المعلقة بالشهوات عقولها عني محجوبة .
وذكر مسجد الروح الشوق والمحبة ومنع الذكر فيه بالحظوظ والمسكنات ، وذكر مسجد السر المراقبة والشهود ومنع الذكر فيه بالركون إلى الكرامات والقربات ، وذكر مسجد الخفي بذل الوجود ومنع الذكر فيه بالالتفات إلى المشاهدات والمكاشفات ) أولئك ما كان لهم ( أن يدخلوا هذه المشاهد بقدم السلوك إلا بخطوات الخوف من سوء الحساب وألم العقاب ) لهم في الدنيا خزي ( من ذل الحجاب ) ولهم في الآخرة عذاب ( الحرمان من جوار الله .
) ولله المشرق والمغرب ( القلوب مشارق شموس المعارف ومغاربها ، والله في مشرق كل قلب ومغربه شارق وطارق ، فطارق القلب من هواجس النفس يطرق بظلمات المنى عند غلبات الهوى وغروب نجم الهدى ، وشارق القلب من واردات الروح يشرق بأنوار الفتوح عند غلبات الشوق وطلوع قمر الشهود ، فتكون القبلة واضحة والدلالات لائحة ، فإذا تحلت شمس صفات الجلال خفيت نجوم صفات الجمال ، وإذا استولى سلطان الحقيقة على ممالك الخليقة طويت بأيدي سطوات الجود سرادقات الوجود ، فما بقيت الأرض ولا السماء ولا الظلمة ولا الضياء ، إذ ليس عند الله صباح ولا مساء .
وتلاشي العبدية في كعبة العندية ، وتودوا بفناء الفناء من عالم البقاء ، رفعت القبلة وما بقي إلا الله ) فأينما تولوا فثم وجه الله ( ) إن الله واسع ( يوسع قلب أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن والله أعلم .
( البقرة : ( 119 - 123 ) إنا أرسلناك بالحق . . . .
" إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ولن ترضى عنك اليهود ولا(1/380)
" صفحة رقم 381 "
النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون "
( القراآت )
ولا تسئل ( على النهي : نافع ويعقوب .
الباقون بضم التاء ورفع اللام على الخبر .
الوقوف : ( ونذيراً ( ( لا ) للعطف أي نذيراً وغير مسؤول إلا لمن قرأ ) ولا تسئل ( على النهي لاختلاف الجملتين ) الجحيم ( ( 5 ) ) ملتهم ( ( ط ) ) الهدى ( ( ط ) ) من العلم ( ( لا ) لأن نفي الولاية والنصرة يتعلق بشرط اتباع أهوائهم فكان في الإطلاق حظر ) نصير ( ( 5 ) ) تلاوته ( ( ط ) لأن ما بعدها مبتدأ آخر مع خبره .
وعندي أن الأصوب عدم الوقف لتكون الجملة أعني يتلونه حالاً من مفعول آتينا أو من فاعله مقدرة وقوله ( أولئك يؤمنون به ( الجملة خبر ( الذين ) لأن الإخبار عن أهل الكتاب مطلقاً بأنهم يتلونه حق تلاوته لا يصح ، اللهم إلا أن يحمل الكتاب على القرآن كما يجيء ) يؤمنون به ( ( ط ) للابتداء بالشرط ) الخاسرون ( ( 5 ) ) العالمين ( ( 5 ) ) ينصرون ( ( 5 ) .
التفسير : لما بين غاية إصرارهم على العناد وتصميمهم على الكفر بعد نزول ما يكفي في باب الاقتداء والاهتداء من الآيات البينات ، أراد أن يسلي ويسري عن رسوله لئلا يضيق صدره فقال إنا أرسلناك يا محمد بالحق .
والصواب حسب ما تقتضيه الحكمة وهو أ ن لا يكون لك أن تجبرهم على الإيمان بل لا يتجاوز حالك عن أن تكون بشيراً لمن اتبعك بكل خبر ونذيراً لمن خالفك بكل سوء ) فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) [ فاطر : 8 ] فإنك غير مسؤول عن أصحاب الجحيم وهو من أسماء النار ، وكل نار عظيمة في مهواة فهي جحيم من قوله تعالى ) قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم ) [ الصافات : 97 ] والجاحم المكان الشديد الحر ، وهذا كقوله ) فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) [ الرعد : 40 ] وأما قراءة النهي فيروى أنه قال : ليت شعري ما فعل أبواي فنهي عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله .
وفي هذه الرواية بُعْدٌ ، لأن سياق الكلام ينبو عن ذلك ، ولأنه ( صلى الله عليه وسلم ) مع(1/381)
" صفحة رقم 382 "
علمه الإجمالي بحال الكفار ، كيف يتمنى ذلك ؟ والأقرب أن معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من المحن كما إذا سألت عمن وقع في بلية فيقال لك لا تسأل عنه ، فكان المسؤول يحرج أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته ، أو يرى أنك لا تقدر على استماع خبره لأنه يورث الوحشة والضجر .
وقوله ( ولن ترضى ( فيه إقناط لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن إسلامهم وأن القوم قد بلغوا من التصميم على ما هم فيه إلى حد لا يقنعون بالكفاف ولا يرضون رأساً برأس ، بل يريدون منك عكس ما تطمع منهم زاعمين أن ملتهم التي حان نسخها هي الهدى ) قل إن هدى الله ( الذي هو الإسلام ) هو الهدى ( الحق ليس وراءه هدى لأنه ناسخ للأديان كلها ) ولو اتبعت أهواءهم ( مشتهياتهم وآراءهم الباطلة المنسوخة ) بعد الذي جاءك من العلم ( بأمر الديانة لوضوح البراهين وسطوع الدلائل ) ما لك من الله ( من عقابه وسخطه ) من ولي ( معين يعصمك ) ولا نصير ( يذب عنك .
قال أهل البرهان إنما لم يقل في هذه الآية ) بعدما جاءك من العلم ( كما قال في آية القبلة على ما يجيء ، لأن العلم في الآية الأولى علم كامل ليس وراءه علم وهو العلم بالله وبصفاته وأن الهدى هدى الله ، فكأن لفظ ( الذي ) أليق لأنه في التعريف أبلغ ، فإن ( الذي ) يعرفه صلته ولا يتنكر قط ، ويلزمه الألف واللام .
بخلاف ما فإنه نكرة ولا يدخله الألف واللام وخصت آية القبلة ( بما ) و ( من ) التي لابتداء الغاية ، لأن المراد هناك قليل من كثير العلم وهو العلم بالقبلة وليس الأول موقتاً بوقت أعني العلم بالله وبصفاته - فلم يحتج إلى زيادة من التوقيتية ، وقريب من معنى القبلة ما في آل عمران ) من بعدما جاءك من العلم ) [ آل عمران : 61 ] فلهذا جاء بلفظ ( ما ) وزاد لفظة ( من ) وأما في سورة الرعد فإنه ) ولو اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ) [ الرعد : 37 ] لأن العلم فيها هو الحكم العربي أي القرآن ، فكأن بعضاً من الأول وهو العلم بالله وبصفاته فجاء لفظ ( ما ) ولم يزد لفظ ( من ) التوقيتية لأنه غير موقت والله أعلم بأسرار كلامه .
وفي الآية دليل على بطلان التقليد فيما إلى تحقيقه سبيل حتى لا يكون اتباع الهوى ، وفيها أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلة على العلم بالمأمور به لقوله ) بعدما جاءك من العلم ( فلأن لا يجوز التوعد إلا بعد القدرة على المأمور به كان أولى ، فبطل القول بتكليف ما لا يطاق .
وفيها أن الذي علم الله منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله ونظيره وقوله ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) [ الزمر : 65 ] وإنما يحسن هذا الوعيد لاحتمال أن الصارف له عن ذلك الفعل هو هذا الوعيد أو هو أحد صوارفه ، ولأن فيه زجراً شديداً لأمته لأنهم إذا علموا مآل حال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لو فرض منه اتباع أهوائهم مع ما ورد في حقه ) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) [ الفتح : 2 ] ولم يبق لهم طمع في الخلاص لو وجد منهم(1/382)
" صفحة رقم 383 "
ذلك ) الذين آتيناهم الكتاب ( قيل : إنهم المؤمنون الذين آتاهم القرآن ، لأن الكتاب الذي يمدح على تلاوته هو القرآن .
والأصح أنه لما قدم ذكر المعاندين من أهل الكتاب أراد أن يذكر مؤمنيهم .
ومعنى يتلونه حق تلاوته لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو يتبعون مقتضاه من غير تكاسل ومنع متمسكين بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما ، أو يخضعون عند تلاوته ويخشعون ، أو يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ، أولئك يؤمنون بكتابهم دون من ليس على حالهم ممن لا يتلو الكتاب حق تلاوته كما يستحق أن يتلى ) ومن يكفر به ( من المحرفين أو من الواضعين من حقه ) فأولئك هم الخاسرون ( حيث لم ينتفعوا بما يحق أن ينتفع به ويغتنم وروده فرجعوا منه بخفي حنين وفازوا بكل حين .
) يا بني إسرائيل ( الآيتان رجوع إلى أول القصة تذكيراً للنعم بعد تعداد مواجب النقم ليتنبه منهم من وفق للتنبه والله المستعان .
( البقرة : ( 124 - 126 ) وإذ ابتلى إبراهيم . . . .
" وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير "
( القراآت )
إبراهام ( بالألف في البقرة والنساء إلا ) فقد آتينا آل إبراهيم ( وفي الأنعام ) ملة إبراهام ( وفي جميع براءة إلا ) وقوم إبراهيم ( وفي إبراهيم ) وإذ قال إبراهام ( وفي النحل ومريم والعنكبوت ) ولما جاءت رسلنا إبراهام ( خاصة وفي ( حم عَسَقَ ) وجميع المفصل وإلا قوله في المودة ) إلا قول إبراهيم ( وفي الأعلى ) صحف إبراهيم ( هشام وابن ذكوان وروى ابن مجاهد في هذه السورة فقط .
( واعلم ) أن ذكر إبراهيم في القرآن تسعة وستون موضعاً منها ثلاثة وثلاثون ( إبراهام ) بالألف في قراءة ابن عامر عن ابن ذكوان ، وستة وثلاثون ( إبراهيم ) بالياء ، والعلة في ذلك اتباع مصحفهم .
فما كتب بالألف قرئ بالألف ، وما كتب بالياء قرئ بالياء ، والاختيار عند الأئمة أن يقرأ ههنا بالألف لبيان المذهب والبواقي بالياء ، لأنه أحسن في اللفظ وأشهر ، ويوافقه سائر الأسماء الأعجمية كإسرائيل وإسرافيل وإسماعيل ) عهدي ( مرسلة الياء : حمزة وحفص ) وإذ جعلنا ( وبابه مدغمة الذال في الجيم : أبو عمرو وهشام ) بيتي ( بالفتح : أبو جعفر ونافع .
وحفص وهشام ) واتخذوا ( بفتح الخاء : نافع وابن عامر الباقون بالكسر ) فأمتعه ( خفيفاً ابن عامر .
الباقون بالتشديد .(1/383)
" صفحة رقم 384 "
الوقوف : ( فأتمهن ( ( ط ) ) إماماً ( ( ط ) ) ذريتي ( ( ط ) ) الظالمين ( ( 5 ) ) وأمنا ( ( ط ) لمن قرأ ) واتخذوا ( بالكسر لاعتراض الأمر بين ماضيين ) مصلى ( ( ط ) كذلك ومن فتح الخاء نسق الأفعال الثلاثة فلا وقف ) السجود ( ( 5 ) ) واليوم الآخر ( ( ط ) ) عذاب النار ( ( ط ) لأن ( نعم ) و ( بئس ) للمبالغة في المدح والذم فيبتدئ بهما تنبيهاً على المدح والذم ) المصير ( ( 5 ) .
التفسير : إنه تعالى لما استقصى في شرح نعمه على بني إسرائيل والمشركين ومقابلتهم النعمة بالكفران والعناد ، شرع في نوع آخر من البيان وهو ذكر قصة إبراهيم عليه السلام لأن كلهم معترفون بفضله وأنهم من أولاده ومن ساكني حرمه وخدام بيته ، وفي قصته أمور توجب الاعتراف بدين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والانقياد لشرعه منها : أنه أمر ببعض التكاليف ثم وفى بها فنال منصب الاقتداء به ، فيعلم أن الخيرات كلها لا تحصل إلا بترك التمرد والانقياد لحكم الله والتزام تكاليفه ، ومنها أنه طلب الإمامة لذريته فقيل له ) لا ينال عهدي الظالمين ( فيعرف أن طالب الحق يجب أن يترك التعصب والمراء ووضع ما رفعه الله لينال رياسة الدارين ، ومنها أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فأريد إزالة غيظهم بأن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي اعترفوا بتعظيمه والاقتداء به ، ومنها أنه دعا بإرسال نبي من ذريته وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كما يجيء فيجب على من يعترف بإبراهيم أن يعترف بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
أما قوله ) وإذ ابتلى ( العامل في ( إذ ) إما مضمر نحو ( واذكر ) وتكون بمعنى الوقت فقط ، أو وإذ ابتلى كان كيت وكيت ، وإما ) قال إني جاعلك للناس إماماً ( وعلى هذين التقديرين تكون ظرفاً لكان أو قال .
وموقع ( قال ) على الأولين استئناف كأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات ؟ فأجيب ) قال إني جاعلك ( وعلى الثاني جملة معطوفة على ما قبلها من الآيات ولا يخفى أن الاستئناف أصوب ليناسب سياق الجملتين الآتيتين لورودهما أيضاً على طريقة السؤال المقدر والجواب ، وليكون على منهاج ) وإذا جعلنا ( ) وإذا قال إبراهيم ( ) وإذ يرفع ) [ البقرة : 127 ] والابتلاء الاختبار والامتحان ، عبر تكليفه إياه بالبلوى تشبيهاً لأمره بأمر المخلوقين وبناء على العرف بيننا ، فإن كثيراً منا قد يأمر ليعرف ما يكون من المأمور حينئذ وإلا فكيف يجوز حقيقة الابتلاء عليه تعالى مع أنه عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد وقيل : مجاز عن تمكينه العبد من اختيار أحد الأمرين ما يريد الله وما يشتهيه هو كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك .
واعلم أن هشام بن الحكم ومن تابعه زعم أنه تعالى كان في الأزل عالماً بحقائق الأشياء وماهياتها فقط ، وأما حدوث تلك الماهيات ودخولها في الوجود فهو تعالى لا يعلمها إلا(1/384)
" صفحة رقم 385 "
عند وقوعها بدليل هذه الآية وأمثالها المذكور فيها الابتلاء .
وكلمة ( لعل ) والجواب عنها ما مر ، وقد يستدل أيضاً على مذهبه بوجوه معقولة منها أنه تعالى لو كان عالماً بالأشياء قبل وقوعها لزم نفي القدرة عن الخالق ، لأن ما علم الله وقوعه استحال أن لا يقع ، وما علم أنه لا يقع استحال أن يقع ولا قدرة على الواجب وعلى الممتنع بالاتفاق ، والجواب أن الوجوب بالغير وكذا الامتناع بالغير لا ينافيان قدرة القادر عليه ، وإنما المنافي للقدرة عليه كونه واجباً لذاته أو ممتنعاً لذاته ، ومنها أنه لو كان عالماً بجميع الجزئيات لكان له علوم غير متناهية أو كان لعلمه تعلقات غير متناهية ، فيلزم حصول موجودات غير متناهية دفعة واحدة وذلك محال ، لأن مجموع تلك الأشياء أزيد من ذلك المجموع بعينه عند نقصان عشرة منها ، فالناقص متناه وكذا الزائد .
ونوقض بمراتب الأعداد التي لا نهاية لها ، وأيضاً المجموعية والزيادة والنقصان كلها من خواص المتناهي ، فأما الذي لا نهاية له ففرض هذه الأعراض فيه محال .
ومنها أن هذه المعلومات التي لا نهاية لها هل يعلم الله عددها مفضلة أو لا يعلم ؟ فإن علم عددها فهي متناهية ، وإن لم يعلم فهو المطلوب .
والجواب الاختيار أنه لا يعلم عددها ، ولا يلزم الجهل لأن الجهل هو أن يكون لها عدد معين ثم إن الله لا يعلم عددها ، فأما إذا لم يكن لها عدد في نفسها فلا جهل ومنها أن كل معلوم فهو متميز في الذهن عما عداه ، وكل متميز عما عداه خارج عنه ، وكل ما خرج عنه غيره فهو متناه ، وكل معلوم متناه فما هو غير متناه استحال أن يكون معلوماً .
والجواب أنه ليس من شرط المعلوم تميزه من غيره عند العالم ، لأن العلم بتميزه عن غيره موقوف على العلم بذلك الغير ، ويلزم منه أن لا يعلم الإنسان شيئاً إلا إذا علم أموراً لا نهاية لها .
والحق أن نونر الأنوار لا يتناهى ووراء لا يتناهى ما لا يتناهى ، وإحاطة غير المتناهي بغير المتناهي غير بعيد وقد يتعلق علمنا بكثير من الأشياء قبل حصولها ، فإذا كان علمنا مع تناهي قوتنا ونوريتنا .
هكذا فما ظنك بالعليم الخبير الذي هو نور النور ومدبر الأمور وكل عسير عليه يسير ؟ ) إبراهيم ( بالنصب ) ربه ( بالرفع هو المشهور وهذه الصورة مما يجب فيه تأخير الفاعل وإزالته عن مركزه الأصلي ، فإنه لو قدم الفاعل وقد اتصل به ضمير المفعول لزم الإضمار قبل الذكر لفظاً ، وعن ابن عباس وأبي حنيفة رفع ) إبراهيم ( ونصب ) ربه ( فالمعنى أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيب الله تعالى إليهن أم لا ؟ واختلف المفسرون في أن ظاهر لفظ التنزيل هل يدل على تلك الكلمات أم لا ؟ فقال بعضهم : اللفظ يدل عليها وهي الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والدعاء بابتعاث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكل هذه تكاليف شاقة ، أما الإمامة فلأن المراد بها النبوة ، وأعباؤها أكثر من أن تحصى ، ولهذا فإن ثواب(1/385)
" صفحة رقم 386 "
النبي أعظم من ثواب غيره ، وأما بناء البيت وتطهيره ورفع قواعده ، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدة البلوى فيه .
ثم إنه يتضمن إقامة المناسك ، وقد امتحن ا لله الخليل بالشيطان في الموقف كرمي الجمار وغيره .
وأما الاشتغال بالدعاء ببعث نبي آخر الزمان فيحتاج فيه إلى الإخلاص وإزالة الحسد عن القلب وذلك في غاية الصعوبة .
واعترض على هذا القول بأن المراد من الكلمات لو كانت هذه لناسب أن يذكر قوله ) فأتمهن ( بعد تعداد الجميع .
وأجيب بأنه أخبر أنه ابتلاه بكلمات على الإجمال ثم أخبر أنه أتمها ثم فصل تلك الأمور ، وهذا ترتيب في غاية الحسن ، إذ لو ذكر ) فأتمهن ( بعد هذا التفصيل لوقع ضائعاً ولانقطع النظم .
والقائلون بأن ظاهر الآية لا دلالة فيه على الكلمات زعم بعضهم أنها الكلمات التي تكلم بها إبراهيم مع قومه وقت تبليغ الرسالة ، وزعم بعضهم أنها أوامر ونواهْ .
فعن ابن عباس هي عشر خصال كانت فريضة في شرعه وهي عندنا سنة : خمس في الرأس : المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك ، وخمس في الجسد : الختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء .
وقيل : ابتلاه الله تعالى من شرائع الإسلام بثلاثين سهماً ، عشرة في براءة ) التائبون العابدون ) [ التوبة : 112 ] الآية وعشرة في الأحزاب ) إن المسلمين والمسلمات ) [ الأحزاب : 35 ] وعشرة في ( المؤمنين ) ( وسأل سائل ) إلى قوله ) والذين هم على صلاتهم يحافظون ) [ المعارج : 34 ] وقيل : هن مناسك الحج كالطواف والسعي والرمي والإحرام والوقوف بعرفة .
وقيل : ابتلاه بسبعة أشياء : بالكواكب والقمر والشمس والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة ، فوفى بالكل ) وإبراهيم الذي وفى ) [ النجم : 34 ] وقيل : ما ذكره في قوله ) إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) [ البقرة : 131 ] وقيل : المناظرات التي جرت بينه وبين أبيه ونمروذ وقومه ، والصلاة والزكاة والصوم ، وقسم الغنائم والضيافة والصبر عليها .
وجملة القول أن الابتلاء بتناول إلزام كل ما في فعله كلفة ، واللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء وكلاً منها إلا أن الكلام في الرواية ، ثم قيل : إن هذا الابتلاء كان قبل النبوة لأنه تعالى نبه على أن قيامه بهن كالسبب لأن جعله إماماً .
وقيل : إنه بعد النبوة لأنه لم يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي .
والحق أن هذا يختلف باختلاف تفسير التكاليف ، فمنها ما يعلم بالضرورة كونها قبل النبوة كحديث الكوكب والشمس والقمر ، ومنها ما ثبت أنه كان بعد النبوة كذبح الولد والهجرة والنار ، وكذا الختان فإنه يروى أنه ختن نفسه وكان سنه مائة وعشرين ، ومنها ما هو بصدد الاحتمال فقد يمكن أن يكون إلى معرفته سبيل سوى الوحي كمنام أو إلهام .
والضمير في ( أتمهن ) على القراءة المشهورة لإبراهيم عليه السلام بمعنى(1/386)
" صفحة رقم 387 "
فقام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوانٍ وفي الأخرى لله تعالى أي فأعطاه ما طلبه ولم ينقص منه شيئاً ، ويعضده ما روي عن مقاتل أنه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه في قوله ) رب اجعل هذا بلداً آمناً ( ) واجعلنا مسلمين لك ) [ البقرة : 128 ] ( وابعث فيهم رسولاً ) [ البقرة : 129 ] ( ربنا تقبل منا ) [ البقرة : 127 ] والإمام اسم لمن يؤتم به ( فعال ) بمعنى ( مفعول ) كالإزار لما يؤتزر به أي يأتمون بك في دينهم .
والأكثرون على أن الإمام ههنا النبي لأنه جعله إماماً لكل الناس ، فلو لم يكن مستقلاً بشرع كان تابعاً لرسول اويبطل العموم ولأن إطلاق الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء ، والذي يكون كذلك لا بد أن يكون نبياً ، ولأن الله تعالى سماه بهذا الاسم في معرض الامتنان فينبغي أن يحمل على أجلّ مراتب الإمامة كقوله ) وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ) [ السجدة : 24 ] لا على من هو دونه ممن يستحق الاقتداء به في الدين كالخليفة والقاضي والفقيه وإمام الصلاة ، ولقد أنجز الله تعالى هذا الوعد فعظمه في عيون أهل الأديان كلها ، وقد اقتدى به من بعده من الأنبياء في أصول مللهم ) ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً ) [ النحل : 123 ] وكفى به فضلاً أن جميع أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يقولون في صلاتهم ( اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ) ثم القائلون بأن الإمام لا يصير إماماً إلا بالنص تمسكوا بهذه الآية وأمثالها من نحو ) إني جاعل في الأرض خليفة ) [ البقرة : 30 ] ( يا داود إنا جعلناك خليفة ) [ ص : 26 ] ومنع بأن الإمام يراد به ههنا النبي سلمنا أن المراد به مطلق الإمام لكن الآية تدل على أن النص طريق الإمامة وذلك لا نزاع فيه ، إنما النزاع في أنه لا طريق للإمامة سوى النص ، ولا دلالة في الآية على ذلك وفي الآية دليل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان معصوماً عن جميع الذنوب ، لأنه لو صدرت عنه معصية لوجب علينا الاقتداء به وذلك يؤدي إلى كون الفعل الواحد ممنوعاً منه مندوباً إليه وذلك محال .
والذرية نسل الثقلين من ذرأ الله الخلق ذرأ خلقهم إلا أن العرب تركت همزها كما في البرية ، ويحتمل أن يكون منسوباً إلى الذر صغار النمل ، والضم من تغيير النسب كالدهري في النسبة إلى دهر ) ومن ذريتي ( عطف على الكاف كأنه قال : وجاعل بعض ذريتي كما يقال ( سأكرمك فتقول وزيداً ) ولا يخفى أن ( من ) التبعيضية تدل على أنه طلب الإمامة لبعض ذريته لعلمه بأن كلهم قد لا يليق بذلك لأن ناساً غير محصورين لا يخلو من ظالم فيهم غالباً ، ولعلمه بأن بعضهم يليق بها كإسماعيل وإسحق .
وقد حقق الله تعالى أمله فجعل في أولاده وأحفاده كإسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان وأيوب ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس ثم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضلهم وأشرفهم ، ولأنه لم يطلب الإمامة إلا للبعض فكان يكفي في(1/387)
" صفحة رقم 388 "
الجواب نعم إلا أنه لم يكن حينئذ نصاً في أن ذلك البعض من المؤمنين أم من الظالمين .
ولو قال ( ينال عهدي المؤمنين ) كان غاية ذلك خروج الظالمين بالمفهوم لا بالنص ، فلمكان التنصيص على إخراج الظالم قال ) لا ينال عهدي الظالمين ( والمراد بالعهد هو الإمامة المطلوبة ، سميت عهداً لاشتمالها على كل عهد عهد به الله تعالى إلى بنى آدم إذ لا رياسة أعظم من ذلك كقوله ) ولقد عهدنا إلى آدم من قبل ) [ طه : 115 ] ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ) [ الأحزاب : 7 ] وإذا خرج الظالم تعين الصالح للإمامة بطريق برهاني .
وذلك أن دعاءه مستجاب ألبتة فكل نبي مجاب ، ولأنه لو لم يكن الصالح إماماً لم يكن لإخراج الظالم وتخصيصه بالذكر معنى .
ويحتمل أن يقال : إنه أراد الإمامة لأولاده المؤمنين لا محالة لعلمه بأن الكفرة والظلمة لا تصلح لذلك ، فأجيب بما أجيب إسعافاً لطلبته بأبلغ معنى وأتمه كما إذا قيل لمن أشرف ( أوص لابنك بشيء ) فيقول : لا يرث مني أجنبي أي كل ما يبقى مني فهو لابني ، فكيف أوصي له بشيء ؟ ولا يرد أن يونس نال عهده مع أنه ظالم ) سبحانك إني كنت من الظالمين ) [ الأنبياء : 87 ] لأن الظلم فيه محمول على ترك الأولى كما في حق آدم ) ربنا ظلمنا أنفسنا ) [ الأعراف : 23 ] لا على الكفر والفسق .
وقد يستدل الإمامية على إبطال غير إمامة علي كرم الله وجهه قالوا : إنهم كانوا مشركين قبل الإسلام بالاتفاق ، وكل مشرك ظالم ) إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13 ] وكل ظالم فإنه لا ينال عهد الإمامة قالوا : لا يقال إنهم كانوا ظالمين حال كفرهم ، فبعد زوال الكفر لا يبقى هذا الاسم لأنا نقول : الظالم من ثبت له الظلم ، وهذا المعنى صادق عليه دائماً ولهذا يسمى النائم مؤمناً لأنه ثبت له الإيمان وإن لم يكن التصديق حاصلاً حال النوم ، وأيضاً المتكلم والماشي حقيقة في مفهومهما مع أن أجزاء التكلم والمشي لا توجد دفعة ، فدل هذا على أن حصول المشتق منه ليس شرطاً لكون الاسم المشتق حقيقة .
وعورض بأنه لو حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافراً قبل بسنين متطاولة فإنه لا يحنث ، وبأن التائب عن المعصية لا يسمى عاصياً فكذا التائب عن الكفر ، وإن قيل : لعل هذا المانع شرعي هو تعظيم الصحابة أو لمانع عرفي فهذا القدر يكفينا على أنا بينا أن المراد من الإمامة في الآية النبوة ، فمن كفر بالله طرفة عين فإنه لا يصلح للنبوة وكذا الفاسق حال الفسق لا يجوز عقد الإمامة له باتفاق الجمهور من الفقهاء والمتكلمين ، فإن كل عاصٍ ظالم .
والعبرة بالعدالة الظاهرة فنحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر خلافاً للشيعة فإنهم يقولون بوجوب العصمة ظاهراً وباطناً ، ومما يدل على بطلان إمامة الفاسق أن العهد في كتاب الله تعالى قد يستعمل بمعنى الأمر ) ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ) [ يس : 60 ] أي ألم آمركم ؟ لكن المراد في الآية لا يمكن أن يكون ذلك فإن أوامره تعالى لازمة للظالمين كما(1/388)
" صفحة رقم 389 "
للمطيعين ، فثبت أن المراد كونهم غير مؤتمنين على أوامر الله وغير مقتدى بهم فيها قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) فالفاسق لا ينبغي أن يكون حاكماً ولا تنفذ أحكامه إذا ولي الحكم ، ولا تقبل شهادته ولا خبره إذا أخبر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولا فتياه إذا أفتى ، ولا يقدم للصلاة وإن كان بحيث لو اقتدى به لم تفسد صلاته .
قال أبو بكر الرازي : ومن الناس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أنه يجوز كون الفاسق إماماً وخليفة ولا يجوز كون الفاسق قاضياً ، وهذا خطأ عظيم .
نعم أنه قال : القاضي إذا كان عدلاً في نفسه وتولى القضاء من إمام جائر فإن أحكامه نافذة والصلاة خلفه جائزة ، لأن الذي ولاه بمنزلة سائر أعوانه .
وليس من شرط أعوان القاضي أن يكون عدولاً ، ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعواناً له على من امتنع من قبول أحكامه كان قضاؤه نافذاً وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان ؟ قال : وكيف يجوز أن يدعي ذلك على أبي حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بني أمية على قضائه وضربه فامتنع من ذلك فحبس فلج ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطاً ، فلما خيف عليه قال له الفقهاء : اقبل له شيئاً من عمله أي شيء كان حتى يزول عنك الضرب ، فتولى له عد أحمال التبن التي تدخل عليه فخلاه ثم دعاه المنصور إلى مثل ذلك حتى عد له اللبن الذي كان يضرب لسور المدينة ، وذلك أنه كان يقول في المنصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عد آجره لما فعلت ، وقصته في أمر زيد بن علي مشهورة ، وحمله المال إليه وفتياه الناس سراً في وجوب نصرته والقتال معه ، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن .
وفي الآية إنذار بليغ وتخويف شديد عن وخامة عاقبة الظلم وقبح موقعه فإنه يحط أولاً عن رتبة النبوة ) لا ينال عهدي الظالمين ( وثانياً عن درجة الولاية ( ألا لعنة الله على الظالمين ) [ هود : 18 ] وثالثاً عن مرتبة السلطنة ( بيت الظالم خراب ولو بعد حين ) ، ورابعاً عن نظر الخلائق ( جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها ) وخامساً عن حظ نفسه ) وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) [ البقرة : 57 ] ولله در القائل :
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً
فالظلم آخره يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبه
يدعو عليك وعين الله لم تنم(1/389)
" صفحة رقم 390 "
ولآخر :
مرتع ظلم الورى وخيم
يا صاحب اللب والحجاره
لا تظلم الناس واخش ناراً
وقودها الناس والحجاره
غيره :
أيحسب الظالم في ظلمه
أهمله القادر أم أمهلا
ما أهملوا بل لهم موعد
لن يجدوا من دونه موئلا
غيره :
أتلعب بالدعاء وتزدريه
وما يدريك ما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن
لها أمد وللأمد انقضاء
واعلم أن عهد الله الذي أخذ على عباده هو بالحقيقة عهد العبودية ) وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] والعهد الذي التزمه لعباده هو عهد الربوبية ) ربكم ورب آبائكم الأولين ) [ الشعراء : 26 ] ثم إنه تعالى لا يزال يلاحظك بنظر الربوبية فيربيك ويربيك وبعد نعمة الوجود يعطيك نعم الصحة المكنة والعافية والسلامة والإيمان والأمان والإخوان والأخدان ) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ إبراهيم : 34 ] وأنك لا تنفك عن تقصير ونسيان وجهل وعدوان وإيذاء لملائكة الله وعبيده وإرضاء لحزب الشيطان وجنوده .
فيا أيها المغرور ما هذا التقصير فإن لله المصير وما للظالمين من نصير .
قوله ) وإذ جعلنا البيت ( تقرير تكليف آخر .
والبيت اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا وهذا من الأسماء التي كانت في الأصل للجنس ، ثم كثر استعماله في واحد من ذلك الجنس لخصلة مختصة به من بين سائر الأفراد حتى صار علماً له .
ولا بد أن يكون وقت استعماله لذلك الواحد قبل العلمية مع لام العهد ليفيد الاختصاص به ويسمى بالعلم الاتفاقى ، وإنما لزمت اللام في مثله لأنه لم يصر علماً إلا مع اللام فصارت كبعض حروفه ، إلا أنه تعالى لم يرد بالبيت نفس الكعبة فقط بل جميع الحرم لأن حكم الأمن يشمل الكل .
وصح هذا الإطلاق لأن الحرمة نشأت بسبب الكعبة نفسها ومثله قوله تعالى ) هدياً بالغ الكعبة ) [ المائدة : 95 ] والمراد الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام .
وقوله(1/390)
" صفحة رقم 391 "
) فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ التوبة : 28 ] والمراد - والله أعلم - منعهم من الحج وحضور مواضع النسك ، ويحتمل أن يكون المراد جعلنا البيت سبب الأمن ، وعلى هذا يكون البيت نفس الكعبة ، وعلى الأول يكون معنى ) أمناً ( موضع أمن كقوله ) حرماً آمناً ) [ القصص : 57 ] والمثابة المباءة والمرجع قيل : إن مثاباً ومثابة لغتان مثل مقام ومقامة .
وقيل : التاء للمبالغة كعلامة .
عن الحسن : أي يثوبون إليه في كل عام .
وعن ابن عباس ومجاهد : لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه وذلك لدعاء إبراهيم عليه السلام ) فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ) [ إبراهيم : 37 ] وقيل : مثابة أي يحجون فيثابون عليه .
وكون البيت مثابة إنما يكون بجعل الله تعالى بناء على أن فعل العبد مخلوق لله ، أو بأن الله تعالى ألقى تعظيمه في القلوب ليصير ذلك داعياً لهم إلى العود إليه مرة بعد أخرى وذلك لمنافع دينية ودنيوية ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) وقال : ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) ثم إن قطان الخافقين يجتمعون هناك للتجارات وضروب المكاسب فيعظم فيه النفع لمن أراد ولا شك أن قوله ) وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ) [ البقرة : 125 ] خبر فتارة تتركه على ظاهره وتقول إنه خبر بأن يكون ) حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء ) [ القصص : 57 ] لا أن يكون إخباراً عن عدم وقوع القتل فيه أصلاً ، فإن الموجود بخلافه فقد يقع القتل الحرام وكذا المباح قال تعالى ) ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ) [ البقرة : 191 ] وتارة تصرفه عن ظاهره وتقول .
إنه أمر بأن يجعلوا ذلك الموضع أمناً من الغارة والقتل قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله حرم مكة وإنها لم تحل لأحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ) وقد عادت حرمتها كما كانت ، فذهب الشافعي إلى أن المعنى أنها لم تحل لأحد أن ينصب الحرب عليها وأن ذلك أحل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأما من دخل البيت من الذين وجبت عليهم الحدود فقال الشافعي : إن الإمام يأمر بالضيق عليه(1/391)
" صفحة رقم 392 "
بما يؤدي إلى خروجه ، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل ، فإن لم يخرج جاز قتله فيه ، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتاله فيه .
وعند أبي حنيفة لا يستوفى قصاص النفس في الحرم إلا أن ينشئ القتل فيه ، ولكن يضيق الأمر عليه ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل وسلم أن يستوفى منه قصاص الطرف .
وعند أحمد : لا يستوفى من الملتجئ واحد من القصاصين ، ولو التجأ إلى المسجد الحرام قال الإمام : أو مسجد آخر يخرج منه ويقتل لأنه تأخير يسير ، وفيه صيانة المسجد وحفظ حرمته .
وقيل : تبسط الأنطاع ويقتل في المسجد تعجيلاً لتوفية الحق ) واتخذوا ( بفتح الخاء معطوف على ) جعلنا ( أي اتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها ، وعلى هذا المراد بالمصلى القبلة .
وأما من قرأ بالكسر على الأمر فعلى إرادة القول أي وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه استحباباً لا وجوباً .
وفي مقام إبراهيم أقوال .
فعن الحسن وقتادة والربيع بن أنس : أنه لما جاء إبراهيم من الشام إلى مكة قالت له امرأة إسماعيل : انزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل ، لأن سارة شرطت عليه أن لا ينزل غيرة على هاجر فجاءته بحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه .
وعن ابن عباس : أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ، فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على حجر فغاصت فيه قدماه .
وقيل : إنه الحجر الذي قام عليه إبراهيم عند الأذان بالحج .
قال القفال : ويحتمل أن يكون إبراهيم عليه السلام قام على هذا الحجر في هذه الأمور كلها .
وعن مجاهد : مقام إبراهيم الحرم كله ، فعلى هذا يراد بالمصلى المدعى من الصلاة بمعنى الدعاء .
وعن عطاء : مقام إبراهيم عرفة ومزدلفة والجمار لأنه قام في هذه المواضع ودعا بها ، والقول بأن مقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه أولى ، لأن هذا الاسم في العرب مختص بذلك الموضع يعرفه المكي وغيره ، ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حتى غاصت فيه رجله وذلك من أظهر الدلائل على صنع الله تعالى وإعجاز إبراهيم ، وكان أشد اختصاصاً به ، فإطلاق مقام إبراهيم عليه أولى ، ولما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أخذ بيد عمر فقال ( هذا مقام إبراهيم ) فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى ؟ فقال ( لم أؤمر بذلك ) فلم تغب الشمس حتى نزلت .
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) استلم الحجر ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ ) واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ( ( ومن ) هذه تجريدية على نحو ( رأيت منك أسداً ) و ( وهب الله لي منك ولياً مشفقاً ) ففيه بيان المتخذ والمرئي والموهوب وتمييزه في ذلك(1/392)
" صفحة رقم 393 "
المعنى عن غيره .
ولا ريب أن للسلاة به فضلاً علىغيره من حيث التيمن والتبرك بموطئ قدم إبراهيم عليه السلام ، وركعتا الطواف خلف المقام ثم في الحجر ثم في المسجد أي مسجد كان حيث شاء متى شاء ليلاً أو نهاراً سنة عند الشافعي في أصح قوليه بعد الفراغ من الطواف لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) للأعرابي حين قال هل علي غيرها ؟ قال : لا إلا أن تطوع ، وفي قوله الآخر فرض لظاهر قوله ) واتخذوا ( والأمر للوجوب ، والرواية عن أبي حنيفة أيضاً مختلفة ، ) وعهدنا ( المراد بالعهد هنا الأمر أي ألزمناهما ذلك وأمرناهما أمراً ووثقنا عليهما فيه أن طهرا إن كانت ( أن ) مخففة فالتقدير بأن طهرا وإن كانت مفسرة فمعناه أي طهراً والمراد التطهير من كل أمر لا يليق بالبيت ، أما من الأنجاس والأقذار فلأن موضع البيت وحواليه مصلى ، وأما من الشرك ومظانه فلأنه مقام العبادة والإخلاص وكل هذه إما أن لا تكون موجودة هناك أصلاً والمراد أقراه على طهارته مثل ) ولهم فيها أزواج مطهرة ) [ البقرة : 25 ] فمعلوم أنهن لم يطهرن بل خلقن طاهرات ، وإما أن تكون موجودة فأمر بإزالتها .
وقيل : عرّفا الناس أن بيتي طهر لهم متى حجوه للطائفين إلى آخره .
العطف يقتضي مغايرة ، فالطائف من يقصد البيت حاجاً ومعتمراً فيطوف به ، والعاكف من يقيم هناك .
ويجاور أو يعتكف ، والركع السجود جمعاً راكع وساجد أي من يصلي هناك ، وعن عطاء ، إذا كان طائفاً فهو من الطائفين ، وإذ كان جالساً فهو من العاكفين ، وإذا كان مصلياً فهو من الركع السجود .
ويجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين يعني القائمين كما قال ) للطائفين والقائمين والركع السجود ) [ الحج : 26 ] والمعنى للطائفين والمصلين لأن القيام والركوع والسجود هيئات للمصلي ، ولعل الوجه الأول أولى ليكون الركع والسجود كلاهما فقط بمعنى المصلين ولهذا لم يفصل بينهما بالواو .
ثم إذا فسرنا الطائعين بالغرباء دلت الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة ، لأنه تعالى مدحهم بذلك .
وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن الطواف لأهل الأمصار أفضل ، والصلاة لأهل مكة أفضل .
وفي غطلاق الآية دليل على جواز الصلاة في البيت فرضاً كانت أو نفلاً خلافاً لأحمد ومالك في الفريضة قالا ) فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام ) [ البقرة : 144 ] ومن كان داخل المسجد لم يكن متوجهاً إلى المسجد بل إلى جزء من أجزائه ، وأجيب بأن التوجه إلى جزئه كافٍ لأن المتوجه الواحد لا يكون إلا كذلك وإن كان خارج المسجد ، وبأن الفرق بين الفرض والنفل لاغٍ .
قوله تعالى ) وإذ قال إبراهيم ( قيل : في الآية تقديم وتأخير لأن قوله ) رب اجعل هذا بلداً آمناً ( لا يمكن لا بعد دخول البلد في الوجود .
فقوله ) وإذ يرفع ) [ البقرة : 127 ] وإن كان متأخراً(1/393)
" صفحة رقم 394 "
في التلاوة فهو متقدم من حيث المعنى قلت : في ترتيب القصة فوائد منها : أنه أجمل القصة في قوله ) وإذ ابتلى ( إلى ) فأتمهن ( ثم فسر ، وفي التفسير قدم الأهم فالأهم ، ولا ريب أن ذكر جعل إبراهيم إماماً أولى بالتقديم لعموم نفعه للخلائق ولتقدمه في الوجود أيضاً ، ثم ذكر جعل البيت مثابة للناس وأمناً لأنه المقصود من عمارة البيت ثم حكاية عمارة البيت .
وقد حصل في ضمن رعاية الأهم فوائد أخر منها : أنه كما كان مبنى القصة على الإجمال والتفسير وقع كل من أجزائها أيضاً كذلك فقوله ) وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ( مجمل ، ثم فسر ذلك بأن جعله ذا أمن كان بسبب دعاء إبراهيم .
وذكر البيت أولاً وقع مجملاً ثم فسر بأنه كيف بني ومنها أنه وقع ختم الكلام بأدعية إبراهيم عليه السلام ووقع ختم الأدعية بذكر خاتم النبيين ، وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه ولعل ما فاتنا من أسرار هذا الترتيب أكثر مما أحصينا .
) هذا بلداً آمناً ( ذا أمن مثل عيشة راضية أو آمناً من فيه كقولك ( ليل نائم ) وإنما قيل ههنا بلداً آمناً على التنكير وفي سورة إبراهيم ) هذا البلد آمناً ( إما لأن هذا الدعاء صدر منه قبل جعل المكان بلداً فكأنه قال : واجعل هذا الوادي بلداً آمناً ، وذاك الدعاء صدر وقد جعل بلداً فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً بلداً ذا أمن ، وإما لأن الدعوتين واحدة والمراد اجعل هذا البلد بلداً آمناً فيفيد مبالغة زائدة كقولك ( هذا اليوم يوم جار ) معناه اجعله من البلدان الكاملة من الأمن بخلاف قوله ) اجعل هذا البلد آمناً ) [ إبراهيم : 35 ] ففيه طلب الأمن نفسه قيل : سأل الأمن من القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي ضرع ولا زرع وقيل : من الخسف والمسخ ، وقيل : من القتل كيلا يكون سؤال الرزق بعده تكراراً ، وأجيب بأن التوسعة في الرزق مغايرة لطلب إزالة القحط .
ثم إنه تعالى استجاب دعاءه فجعله آمناً من الآفات فلم يصل غليه جبار إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل .
قيل : أليس أن الحجاج حارب ابن الزبير وخرب الكعبة وقصد أهلها بكل سوء ؟ وأجيب بأن مقصوده لم يكن تخريب الكعبة نفسها وإنما كان غرضه شيئاً آخر .
) من الثمرات ( ( من ) للابتداء لا للتبعيض بدليل قوله ) يجبى إليه ثمرات كل شيء ) [ القصص : 57 ] وإنما سأل إبراهيم عليه السلام الأمن وأن يجبى إليه الثمرات وإن كان يتعلق بالدنيا لأن البلد إذا كان آمناً ذا خصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى ويكون سبباً لاجتماع الناس وإتيانهم إليه من كل أوب زائرين وعاكفين ، وطلب الدنيا لأجل الدين من سنن الصالحين ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) واختلف في ان مكة هل كانت آمنة محرمة قبل دعوة(1/394)
" صفحة رقم 395 "
إبراهيم وصار ذلك مؤكداً بدعائه فقيل : نعم لما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ) ولقوله ) عند بيتك المحرم ) [ إبراهيم : 37 ] وقيل : إنما صارت حرماً آمناً بدعوته ، وقبلها كانت كسائر البلاد بدليل قوله : ( إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ) وقيل بالجمع بينهما ، وذلك أنه كان ممنوعاً قبله بمنع الله تعالى من الاصطلام وبما أوقع في النفوس من التعظيم ثم صار آمناً على ألسنة الرسل .
و ) من آمن منهم ( بدل من ) أهله ( يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة كأنه قاس الرزق على الإمامة حيث ميز هناك بين المؤمن والكافر فقيل : ( لا ينال عهدي الظالمين ( فعرف الفرق بينهما فقيل ) ومن كفر ( عطفاً على ) من آمن ( كما مر في ) ومن ذريتي ( أو هو مبتدأ مضمن معنى الشرط جوابه ) فأمتعه ( وذلك أن الاستخلاف استرعاء يختص بمن ينصح للمرعي فيؤدي عن الله أمره ونهيه ولا يأخذه في الدين لومة لائم ولا سطوة جبار وظالم وأبعد الناس عن النصيحة الظالم ولهذا قيل : من استسرعى الذئب فقد ظلم .
وأما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المؤمن والكافر والصالح والفاجر لعموم الرحمة ، ولأنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة على أنه متاع قليل وأمد يسير فيما بين الأزل والأبد و ) قليلاً ( أي إمتاعاً أو تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً فنعمة المؤمنين في العاجل موصولة بنعيمهم في الآجل ، ونعمة الكافرين مقطوعة عنهم بعد الموت ، والزائل لا يجدي بطائل ) أفرأيت إن متعناهم سنين .
ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ) [ الشعراء : 205 - 207 ] ومعنى الاضطرار أن يفعل به ما يلجئه إلى النار كقوله ) يوم يدعُّون إلى نار جهنم دعا ) [ الطور : 13 ] ( وسيق الذين كفروا إلى جهنم ) [ الزمر : 71 ] أو أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك الفعل اختياراً كالاضطرار إلى أكل الميتة مثلاً ) وبئس المصير ( ذلك الذي اضطر غليه أو ذلك الاضطرار ، فحذف المخصوص للعلم به .
والمصير إما مصدر بمعنى الصيرورة يقال : صرت إلى فلان مصيراً وإما موضع وكلاهما شاذ والقياس مصار مثل ( معاش ) وكلاهما مستعمل والله أعلم .(1/395)
" صفحة رقم 396 "
( البقرة : ( 127 - 134 ) وإذ يرفع إبراهيم . . . .
" وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون "
( القراآت )
أرنا ( وبابه ساكنة الراء : ابن كثير ورويس قياساً على كسرة فخذ إذ تسكن فيقال ( فخذ ) .
وقرأ أبو عمرو بالاختلاس طلباً للخفة وحذراً من الإجحاف ) ويعلمهم ( بالاختلاس : ابن عباس ، وكذلك كل فعل مستقبل مجموع حيث وقع .
وروى ابن رومي عن ابن عباس ) يكلمنا ( و ) تعدنا ( وكل كلمة تضمنت جمعين من الأسماء باختلاس مثل ) في أعينكم ( ) وأسلحتكم ( ) وأمتعتكم ( و ) أوصى ( من الإيصاء : أبو جعفر ونافع وابن عامر .
الباقون ) وصى ( بالتشديد .
) شهداء إذ ( عاصم وحمزة وعلي وخلف وابنع امر .
والباقون ) شهداء يذ ( وكذلك ما أشبهه في كل القرآن .
الوقوف : ( وإسماعيل ( ( ط ) لإضمار القول أي يقولان ومحله نصب على الحال ) منا ( ( ط ) للابتداء بأن ولجواز الوصل وجه لطيف على تقدير فإنك أو لأنك ) العليم ( ( 5 ) ) مسلمة لك ( ( ص ) لعطف المتفقين ) علينا ( ( ط ) وقد ذكر ) الرحيم ( ( 5 ) ) ويزكيهم ( ( ط ) ) الحكيم ( ( 5 ) ) نفسه ( ( ط ) للفصل بين الاستفهام والإخبار ) في الدنيا ( ( ج ) لعطف الجملتين ) الصالحين ( ( 5 ) ) أسلم ( ( ط ) لأن قوله ( قال ) عامل ( إذ ) وإلا وجب أن يقال ( فقال ) وإلا انقطع النظم ) العالمين ( ( 5 ) ) ويعقوب ( ( ط ) لإرادة القول على الأصح ، ومن وصل جعل الوصية في معنى القول ) مسلمون ( ( ط ) لأن ( أم ) بمعنى همزة الاستفهام للإنكار ) الموت ( ( لا ) لأن ( إذ ) بدل من ( إذ ) الأولى و ( إذ ) الأولى ظرف ) شهدا ( و ( اذ ) الثانية ظرف ) حضر ( ومن قطعها عن الأول فوقف على الموت وجعل ) قالوا ( عاملاً ولم يقف على ) بعدي ( فله وجه لا يتضح لأن الإنكار متوجه على قولهم : إن يعقوب أوصى بنيه باليهودية لا على أن يعقوب قد مات ) من بعدي ( ( ط ) ) واحداً ( ( ج ) لعطف الجملتين(1/396)
" صفحة رقم 397 "
المختلفتين والوصل أجوز على جعل الواو حالاً ) مسلمون ( ( 5 ) ) قد خلت ( ( ج ) لأن ما بعدها تصلح صفة للأمة وتصلح استئنافاً وهوواضح لعطف ) ولكم ما كسبتم ( عليها ) ولكم ما كسبتم ( ( ج ) لعطف الجملتين المختلفتين ) يعلمون ( ( 5 ) .
التفسير : عن وهب بن منبه قال : إن آدم ( صلى الله عليه وسلم ) لما أهبط إلى الأرض استوحش منها لما رأى من سعتها ، ولأنه لم ير فيها أحداً غيره فقال : يا رب أما لأرضك عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيري ؟ فقال الله : إني سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي ، وسأجعل فيها بيوتاً ترفع لذكري وسأبوئك منها بيتاً أختاره لنفسي وأخصه بكرامتي وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمي وأسميه بيتي ، أعظمه بعظمتي وأحوطه بحرمتي ، وأضعه في البقعة التي اخترت لنفسي ، فإني اخترت مكانه يوم خلقت السموات والأرض ، أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرماً وأمناً أحرم بحرمته ما فوقه وما تحته وما حوله ، فمن حرمه بحرمتي فقد عظم حرمتي ، ومن أحله فقد أباح حرمتي ، ومن أمن أهله استوجب بذلك أماني ، ومن أخافهم فقد جفاني ، ومن عظم شأنه فقد عظم في عيني ، ومن تهاون به فقد صغر في عيني ، سكانها جيراني ، وعمارها وفدي ، وزوارها أضيافي ، أجعله أوّل بيت وضع للناس ، وأعمره بأهل السماء والأرض ، يأتونه أفواجاً شعثاً غبراً على كل ضامر يأتين من كل فج عميق ، يعجون بالتكبير عجيجاً ويضجون بالتلبية ضجيجاً ، فمن اعتمره لا يريد غيري فقد زارني وضافني ووفد عليّ ونزل بي فحق علي أن ألحقه بكرامتي وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وزواره وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته ، تعمره يا آدم ما كنت حياً ثم يعمره من بعدك الأمم في القرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة وقرناً بعد قرن ونبياً بعد نبي حتى ينتهي بعد ذلك غلى نبي من ولدك يقال له ( محمد ) وهو خاتم النبيين فأجعله من عماره ، وسكانه وحماته وولاته ، يكون أميني عليه ما دام حياً ، فإذا انقلب إلي وجدني وقد ذخرت له من أجره ما يتمكن به من القربة إلي والوسيلة عندي وأجعل اسم ذلك البيت وشرفه وذكره ومجده وسناه ومكرمته لنبي من ولدك يكون قبل هذا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو أبوه يقال له ( إبراهيم ) ، أرفع به قواعده وأقضي على يديه عمارته ، وأعلمه مشاعره ومناسكه ، وأجعله أمة واحدة قانتاً قائماً بأمري داعياً إلى سبيلي ، أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم ، أبتليه فيصبر وأعافيه فيشكر وآمره فيفعل وينذر لي فيفي ، أستجيب دعاءه في ولده وذريته من بعده ، وأشفعه فيهم وأجعلهم أهل ذلك البيت وحماته وسقاته وخدمه وخزانه وحجابه حتى يبدلوا ويغيروا وأجعل إبراهيم إمام ذلك البيت وأهل تلك الشريعة ، يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الخلق الجن والإنس .
وروي أن الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت(1/397)
" صفحة رقم 398 "
الجنة له بابان من زمرد شرقي وغربي .
وقال لآدم : أهبطت لك بيتاً يطاف به كما يطاف حول عرشي ، فتوجه إليه آدم من أرض الهند ماشياً وتلقته الملائكة فقالوا : برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام .
وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه ، فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة ، فهو البيت المعمور .
ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه وعرفه جبرائيل مكانه .
وعن علي عليه السلام : البيت المعمور بيت في السماء يقال له ( الضراح ) وهو بحيال الكعبة من فوقها ، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون فيه أبداً .
وعن عبد الله بن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب وما مسهما ذو عاهة ولا سقيم إلا شفي ) وعن ابن عباس أنه كان أشد بياضاً من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك .
وأما قصة إسماعيل عليه السلام وأمه ، فعن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله ) إني سقيم ) [ الصافات : 89 ] وقوله ( بل فعله كبيرهم هذا ) [ الأنبياء : 63 ] وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها : إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك .
فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال : لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك ، فأرسل إليها فأتى بها وقام إبراهيم إلى الصلاة ، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها : ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت ، فعاد فقبضت يده أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك ، فعاد فقبضت يده أشد من القبضتين الأولتين فقال : ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت فأطلقت يده ودعا الذي جاء بها فقال له : إنك إنما جئتني بشيطان ولم تأتني بإنسان ، فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر .
قال : فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم انصرف فقال : مهيم .
فقالت : خيراً كفى الله يد الفاجر وأخدم خادماً ) قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء .
قلت : وذلك أنها ملكتها سارة إبراهيم فولدت له إسماعيل أبا العرب .
وأما تتمة القصة ، بعد أن غارت سارة على هاجر حيث لم يكن لسارة من إبراهيم ولد فإنها ولدت إسحق بعد ولادة هاجر إسماعيل بأربع عشرة سنة .
فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أول ما اتخذت النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحو فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة(1/398)
" صفحة رقم 399 "
يومئذ أحد وليس بها ماء ، فوضعهما هناك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفى إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء ؟ فقالت له ولك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت له : الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا .
ثم رجعت فانطلق إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه فقال ) ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ( حتى بلغ ) يشكرون ) [ إبراهيم : 37 ] وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فلذلك سعى الناس بينهما ) .
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صه تريد نفسها ، ثم تسمعت فسمعت صوتاً أيضاً فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوّض وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد أن تغرف .
قال ابن عباس : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يرحم الله أم إسماعيل لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً ) .
قال : فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن ههنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله .
وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء .
فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا وأخبروهم ، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم ولكن لا حق لكم في الماء .
قالوا : نعم .
قال ابن عباس : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس ) .
فنزلوا وأرسلوا إلى أهاليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب الغلام ، فلما أدرك الغلام زوجوه امرأة منهم .
وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألها عن عيهم وهيئتهم فقالت : نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة وشكت .
قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام(1/399)
" صفحة رقم 400 "
وقولي له يغير عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً فقال : هل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة قال : أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول : غير عتبة بابك .
قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك فطلقها .
وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ، ثم أتاهم بعد ذلك فلم يجده فدخل على امرأته فسأل عنه قالت : خرج يبتغي لنا قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بخير وسعة وأثنت على الله عز وجل .
قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يثبت عتبة بابه .
فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد ؟ قالت : نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير .
قال : فأوصاك بشيء ؟ قالت : نعم ، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك .
قال : ذاك أبي ، انت العتبة أمرني أن أمسكك .
ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم ، فلما رآه قام إليه وصنعا ما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال : فاصنع ما أمرك ربك .
قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك .
قال : فإن الله أمرني أن أبني بيتاً ههنا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها ، فعند ذلك رفع القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء إبراهيم بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان ) ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ( وعن علي كرم الله وجهه أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم فانهدم فبنته العمالقة ، ومر عليه الدهر فانهدم فبناه قريش ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يومئذ شاب ، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا : يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أول من خرج عليهم فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مرط ثم يرفعه جميع القبائل فرفعوه فأخذه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوضعه .
واعلم أن للبيت أربعة أركان : ركنان يمانيان وركنان شاميان ، وكان لاصقاً بالأرض ، وله بابان شرقي وغربي فذكر أن السيل هدمه قبل مبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعشر سنين فأعادت قريش عمارته على الهيئة التي هي عليها اليوم ، ولم يجدوا من النذور والهدايا والأموال الطيبة ما يفي بالنفقة فتركوا من جانب الحجر بعض البيت وخلفوا الركنين الشاميين عن قواعد إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) ، وضيقوا عرض الجدار من الأسود إلى الشامي الذي يليه فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعاً وهو الذي يسمى الشاذروان ، وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعائشة ( ) لولا حدثان قومك بالشرك لهدمت البيت ولبنيته على قواعد إبراهيم فألصقته بالأرض(1/400)
" صفحة رقم 401 "
وجعلت لها بابين شرقياً وغربياً ( ثم إن ابن الزبير هدمه أيام ولايته وبناه على قواعد إبراهيم ، ثم لما استولى عليه الحجاج هدمه وأعاده على الصورة التي هو عليها اليوم وهي بناء قريش .
ولنعد إلى المقصود فنقول ) يرفع ( حكاية حال ماضية ، والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه وهي صفة غالبة معناها الثابتة ، ورفع الأساس البناء عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ، ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه فيرتفع كل منها بسبب وضع الآخر عليه ، ورفع القواعد صريح فيما ذهب إليه الأكثرون من أن القواعد كانت موجودة وأن إبراهيم عمّرها ورفعها كما مر في الأحاديث .
وإنما لم يقل ) قواعد البيت ( ليكون الكلام مبنياً على تبيين بعد إبهام ففيه تفخيم لشأن المبين ، ثم إن الله تعالى حكى عنهما ثلاثة أنواع من الدعاء في تلك الحالة ؛ الأول : قولهما ) تقبل منا ( وقبول الله عمل العبد عبارة عن كون العمل بحيث يرضاه الله تعالى أو يثبت عليه ، والأول ألذ عند العارفين من الثاني ، شبه الفعل من العبد بالهدية ، وإثابة الله تعالى عليه ورضاه به بالقبول .
وقيل : إن بين القبول والتقبل فرقاً ، فالتقبل عبارة عن تكلف القبول وذلك حيث يكون العمل ناقصاً لا يستحق أن يقبل ، فاختير تقبل هضماً وتواضعاً واستقصاراً .
وقد يستدل بهذا على أن الفعل المقرون بالإخلاص لا يجب ترتب الثواب عليه وغلا لم يكن في طلبه فائدة ، ويحتمل أن يقال : الطلب متوجه إلى جعله من جملة الأفعال المقرونة بالإخلاص ، فكنى بطلب القبول عن ذلك ويؤكده قولهما ) إنك أنت السميع ( يعني سماع إجابة العليم بنياتنا .
النوع الثاني ) ربنا واجعلنا مسلمين لك ( فإن أريد بالإسلام الدين والاعتقاد توجه الطلب إلى الثبات والدوام أي ثبتنا على ذلك وإلا كان تحصيلاً للحاصل بالنسبة إليهما وقتئذ ، وإن أريد الاستسلام والخضوع والإذعان الكلي والرضا بكل ما قدر وأمر فتوجه الطلب إلى هذه الأمور أنفسها غير مفيد لأنها أمور خارجة عن الضبط لا تتيسر إلا بمجرد تيسير الله وتوفيقه بخلاف أصل الإسلام الذي وقع به التكليف فإنه مضبوط .
وقد يظن أن للعبد اختياراً فيه وإن كان اختياره على تقدير ثبوته ينتهي إلى مسبب الأسباب .
وقوله ( واجعلنا ( إما معطوف على ) تقبل ( وقوله ( إنك أنت السميع العليم ( ) ربنا ( اعتراض للتأكيد وإما معطوف على محذوف أي ربنا افعل هذا واجعلنا .
) ومن ذريتنا ( من للتبعيض كما في قوله ) ومن ذريتي ) [ البقرة : 124 ] .(1/401)
" صفحة رقم 402 "
والأمة الجماعة من الناس ، وقيل أراد أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) مسلمة ( يحتمل ههنا أصل الإسلام والزيادة عليه أيضاً .
وقيل : أسلم مطلقاً يفيد الإيمان والاعتقاد ومعدى باللام معناه الاستسلام والانقياد الكلي .
طلب الإسلام لهم بعد ما طلب لهم الإمامة إظهاراً للشفقة .
فالشفيق بسوء الظن مولع ، ويحتمل أن يكون هذا الدعاء بياناً لما أجمل هناك فيكونان واحداً .
وتخصيص الذرية بالدعاء من بين الخلائق لأنهم أحق بالنصيحة وأقوم ) قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ) [ التحريم : 6 ] ولأنهم أئمة بصلاحهم يصلح غيرهم وفي سدادهم يكون سداد من وراءهم .
ولقد استجاب الله دعاءه فلم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً ، ولم يزل الرسل من ذرية إبراهيم ، وقد كان في الجاهلية زيد بن عمرو ابن نفيل وقس بن ساعدة .
ويقال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على دين الحق قائلين بالإبداء والإعادة والثواب والعقاب يوحدون الله ولا يأكلون الميتة ولا يعبدون الأوثان ) وأرنا ( إن كان منقولاً عن رؤية العلم فمعناه علمنا أن شرائع حجنا كيف هي إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعو الناس إلى حجه ، وإن كان منقولاً عن رؤية البصر - وهو الأظهر - ولذلك لم يتجاوز مفعولين ظاهراً .
فالمعنى بصرنا متعبداتنا في الحج .
قال الحسن : إن جبريل أرى إبراهيم المناسك كلها حتى بلغ عرفات فقال : يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك ؟ قال : نعم ، فسميت عرفات .
فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق ، فأمر جبريل أن يرميه بسبع حصيات ففعل فذهب ا لشيطان ، ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع وكل ذلك يأمره جبريل برمي الحصيات .
وقيل : المراد العلم والرؤية معاً لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى ، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية ، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً وليس ببعيد ، فإن اللفظ المشترك يصح إطلاقه على معنييه معاً وكذلك مدلولا الحقيقة والمجاز يصح إرادتهما معاً من لفظ واحد كالعقد والوطء من النكاح .
غاية ما في الباب أن يكون هذا الإطلاق مجازاً ، ومن الناس من يحمل المناسك على المذابح إنما يسمى نسكاً لدخوله تحت أصل معنى النسك وهو التعبد ، فحمل المناسك على جميع أعمال الحج أولى قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) بل لا يبعد أن يحمل على جميع ما شرعه الله لإبراهيم أي علمنا كيف نعبدك ومتى وأين نعبدك ، وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك بذلك خدمة العبد لمولاه ؟ ) وتب علينا ( التوبة منهما محمولة على ما عسى أن يكون فرط منهما من الصغائر عند من يجوّزها على(1/402)
" صفحة رقم 403 "
الأنبياء ، وعلى ترك الأولى ونحو ذلك عند غيرهم ، ويمكن أن تكون التوبة منهما تصويراً لأنفسهما بصورة النادم العازم على التحرز تشدداً في الانصراف عما لا يليق بهما .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة ) وأيضاً لعلهما استتابا لذريتهما لعلمهما بأن فيهم ظالمين لقوله تعالى ) لا ينال عهدي الظالمين ( وذلك لغاية شفقتهما عليهم .
وباقي مباحث التوبة ، قد مر في قصة آدم فليتذكر النوع الثالث ) ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم ( وفيه أمران : الأول : أن يبعث في تلك الأمة رسولاً ليبين لهم الشرع القويم وينهج الصراط المستقيم ، والثاني : أن يكون ذلك الرسول منهم لا من غيرهم لأن الرسول والمرسل إليهم إذا كانوا جميعاً من ذريته كان رتبته أجل ، ولأنه إذا كان منهم عرفوا مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته ، ولأنه إذا كان منهم كان أحرص عليهم وأشفق من أجنبي لو أرسل إليهم .
وأما الرسول فهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بإجماع المفسرين وهو حجة ولقوله تعالى في موضع آخر ) لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) [ آل عمران : 164 ] ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي ) أما الدعوة فهذه ، وأما البشارة فقوله تعالى في سورة الصف ) ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) [ الصف : 6 ] وأما الرؤيا فما رأت آمنة وهي حامل أنه خرج منها نور أضاء ما بين الخافقين .
وههنا نكتة وهي أن الخليل لما دعا للحبيب بقوله ) ربنا وابعث فيهم رسولاً ( فلا جرم قضى الله تعالى حق الحبيب للخليل بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة يقولون في صلاتهم : اللهم صل علىمحمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم .
ولهذا الذكر مناسبات أخر منها : أن الخليل دعا لنفسه بقوله ) واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) [ الشعراء : 84 ] أي أبق لي ثناءً حسناً في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأجابه الله تعالى وقرن ذكره بذكر حبيبه .
ومنها أن إبراهيم أبو الملة ) ملة أبيكم إبراهيم ) [ الحج : 78 ] ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أبو الرحمة ) بالمؤمنين رءوف رحيم ) [ التوبة : 128 ] ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) [ الأحزاب : 6 ] ( إنما أنا لكم مثل الوالد لولده ) يعني في الرأفة والرحمة ،(1/403)
" صفحة رقم 404 "
فلما ثبت لكل منهما الأبوة قرن بين ذكرهما في التحية .
ومنها أن إبراهيم منادي الشريعة ) وأذن في الناس بالحج ) [ الحج : 27 ] ومحمد منادي الدين ) سمعنا منادياً ينادي للإيمان ) [ آل عمران : 193 ] ومنها أنه كان أول الأنبياء بعد الطوفان ، ومحمد خاتم النبيين ورسول آخر الزمان .
ومنها إن الخليل تبرأ عن سائر الأديان ) إني بريء مما تشركون ) [ هود : 54 ] والحبيب تنزه عن جميع الأكوان ) ما زاغ البصر وما طغى ) [ النجم : 17 ] ثم إن إبراهيم عليه السلام ذكر لذلك الرسول صفات أولاها ) يتلو عليهم آياتك ( فهو الفرقان المتلو عليهم ، أو جميع ما بلغه من دلائل التوحيد وغيره ( أوتيت القرآن ومثله معه ) وثانيتها ( ويعلمهم الكتاب ) أي معانيه وحقائقه ، وذلك أن التلاوة وإن كانت مطلوبة لبقاء لفظها على ألينة أهل التواتر فيبقى مصوناً من التحريف ، ولأن لفظه ونظمه معجز وفي تلاوته نوع عبادة ولا سيما في الصلوات إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأسنى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام .
وثالثتها قوله ) والحكمة ( أي ويعلمهم الحكمة .
وقيل : هي الإصابة في القول والعمل جميعاً ، فلا يسمى حكيماً إلا وقد اجتمع فيه الأمران فيضع كل شيء موضعه ولهذا عبر عنها بعض الحكماء بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية ، ويناسبه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تخلقوا بأخلاق الله ) وعن ابن وهب قلت لمالك : ما الحكمة ؟ قال : معرفة الدين والفقه فيه والاتباع له .
وعن قتادة وإليه ذهب الشافعي : هي سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه ذكر تلاوة الكتاب ثم تعليمه ثم عطف عليه الحكمة فيكون شيئاً خارجاً عنهما وليس ذلك إلا سنة الرسول ، فإن الدلائل العقلية الدالة على التوحيد والنبوة وما يتلوهما مستقلة بالفهم فحمل اللفظ على ما لا يستفاد إلا من الشرع أولى .
وقيل : هي الفصل بين الحق والباطل من الحكم .
وقيل : المراد بالكتاب الآيات المحكمات ، وبالحكمة المتشابهات .
وقيل : هي ما في أحكام الكتاب من الحكم والمصالح .
ورابعتها ) ويزكيهم ( لأن الإرشاد يتم بأمرين : التحلية والتخلية .
فكما يجب علىا لمعلم التنبيه على نعوت الكمال ليحظى المتعلم بها ، يجب عليه التحذير عن النقصان ليتحرز عنها وذلك بنحو ما يفعله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة من الوعد والإيعاد والوعظ والتذكير والتشبث بأمور الدنيا لتتقوى بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح ، ولذلك مدح بأنه على خلق عظيم وأنه أوتي مكارم الأخلاق .
وقيل : يزكيهم يطهرهم عن الشرك وسائر الأرجاس كقوله ) ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) [ الأعراف : 157 ] وقيل : يشهد لهم بأنهم عدول يوم القيامة ) ويكون الرسول عليكم شهيداً ) [ البقرة : 143 ] وعن ابن عباس : التزكية هي الطاعة لله والإخلاص ) إنك أنت العزيز ( القادر الذي لا يغلب ) الحكيم ( العالم الذي لا يفعل إلا على وفق المصالح ، وإذا كان كذلك صح منه(1/404)
" صفحة رقم 405 "
إجابة الدعاء وبعثة الرسل وإنزال الكتب ) ومن يرغب ( الاستفهام فيه لتقرير النفي أي لا يرغب أحد .
يقال : رغب عن الأمر إذا كرهه ورغب فيه إذا أراده .
ومحل ) من سفه ( الرفع على البدل من الضمير في ) يرغب ( وذلك أنه غير موجب مثل ( هل جاءك أحد إلا زيد ) وسفه الإما متعد : ومعنى سفه نفسه امتهنها واستخفها فأصل السفه الخفة وفي الحديث ( الكبر أن نسفه الحق وتغمص الناس ) لأنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إذالة نفسه وتعجيزها حيث خالف بها كل نفس عاقلة .
وعن الحسن : إلا من جهل نفسه فلم يفكر فيها ، فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنع على وحدانية الله تعالى وحكمته ويرتقي إلى صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وعن أبي عبيدة : أهلك نفسه وأوبقها .
وقيل : أضل نفسه وإما لازم فمعناه سفه في نفسه فحذف الجار نحو زيد ظني مقيم ( أي في ظني وقيل : نصب على التمييز نحو ) غبن رأيه وألم رأسه ( وهذا عند الكوفيين .
فإن التمييز عندهم يجوز أن يكون معرفة .
وفيه توبيخ لليهود والنصارى ومشركي العرب وتعجيب من حالهم ، فإن أعظم مفاخرهم وفضائلهم الانتماء إلى إبراهيم ، ثم إنهم لا يؤمنون بالرسول الذي هو دعوته ومطلوبه بالتضرع والإخلاص .
فإن قيل : ملة إبراهيم عين ملة محمد في الأصول والفروع ، أو هما متحدتان في الأصول كالتوحيد والنبوة ، وأصول مكارم الأخلاق ولكنهما مختلفتان في فروع الأعمال ولا سبيل إلى الأول وإلا لم يكن شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ناسخاً لسائر الشرائع ولا إلى الثاني لأنه يلزم أن يكون محمد أيضاً راغباً عن ملة إبراهيم ، ولأن الاعتراف بالأصول لا يقتضي الاعتراف بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ قلنا : المختار اتحاد الملتين في الأصول فقط ، لكن نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من جملة الأصول التي مهدها إبراهيم عليه السلام .
والمراد بملة إبراهيم في الآية أصولها التي لا تختلف بمر الأعصار وكر الدهور ، فلا يلزم أن يكون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) راغباً عنها لأنه أمر باتباعها ) ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً ) [ النحل : 123 ] روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما : قد علمنا أن الله قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد ، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون .
فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فنزلت .
ثم إنه تعالى لما سفه من يرغب عن ملة إبراهيم بين السبب في ذلك فقال ) ولقد اصطفيناه في الدنيا ( أي أخترناه للرسالة من دون الخليقة وعرفناه الملة الجامعة للتوحيد والعدل والإمامة الباقية إلى قيام الساعة حتى نال منزلة الخلة ) وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( فيلزمه ما يلزمهم من الكرامة وحسن الثواب فليتحقق كل ذي لب أن الراغب عن سيرة من هو فائز بسعادة الدارين لا رأي له والله الموفق .
ثم بين سبب الاصطفاء فأعمل ) اصطفينا ( في ) إذ قال ( أي(1/405)
" صفحة رقم 406 "
اخترناه في ذلك الوقت ، ويجوز أن ينتصب بإضمار ( اذكر ) استشهاداً على ما ذكر من حاله كأنه قيل له : اذكر الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله ) إذ قال له ربه ( من باب الالتفات ، ولولا ذلك لكان حقه أن يقال : إذ قلنا له ، والأكثرون على أنه تعالى قال له ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس واطلاعه على أمارة الحدوث فيها ، فلما عرف ربه قال له أسلم ، فإنه لا يجوز أن يقول له قبل أن عرف ربه .
ويحتمل أن يكون ذلك قبل الاستدلال ، ولا يكون المراد منه نفس القول بل دلالة الدليل عليه كقولهم ( نطق الحال ) قال تعالى ) أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ) [ الروم : 35 ] فجعل دلالة البرهان كلاماً ، ويحتمل أن يكون هذا بعد النبوة والمراد استقامته على الإسلام وثباته عليه كقوله ) فاستقم كما أمرت ) [ هود : 112 ] أو المقصود الانقياد لأوامر الله تعالى والمسارعة إلى تلقيها بالقبول وترك الاعتراض بالقلب واللسان .
وقيل : الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح وإن إبراهيم عليه السلام كان عارفاً بالله تعالى بقلبه فكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح .
وفي تخصيص لفظ الرب بهذا الموضع بل بأكثر قصص إبراهيم إشارة إلى أن طريق عرفانه النظر في المربوبات فلا جرم وصل إلى الرب ، وطريق عرفان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عكس ذلك الترتيب فلا جرم بدأ من الله ) فاعلم أنه لا إله إلا الله ) [ محمد : 19 ] والأول طريق حسن ) سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) [ فصلت : 53 ] لكن الطريق الثاني أحسن ) أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) [ فصلت : 53 ] ومن هنا يعرف أكملية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم يستطعه الأوائل
فألف إبراهيم دلالة على استقامة سيرته ، وميم محمد دليل على أنه مكمل الأوضاع وبه ابتدأ الأمر من حيث انتهى فتمت دائرة النبوة وحصلت الخاتمة .
وكما أن ألف إبراهيم دليل على وجود الاستقامة ) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) [ فصلت : 31 ] فألف إبليس دليل عدم الاستقامة ) إلا إبليس أبى واستكبر ) [ البقرة : 34 ] والوجود خير والعدم شر فحصل من خاء الخير مع لام الابتلاء ) وإذ ابتلى إبراهيم ربه ) [ البقرة : 124 ] تركيب الخلة ) واتخذ الله إبراهيم خليلاً ) [ النساء : 125 ] ومن شين الشر مع دال الدوام على الكفر ) وكان من الكافرين ) [ البقرة : 34 ] اسم الشدة ) والكافرون لهم عذاب شديد ) [ الشورى : 26 ] ثم إن الخلة مأخوذة من التخلل بين الشيئين ومنه الخلال فلا جرم كان إبراهيم عليه السلام واسطة في الطريقة ) أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً ) [ النحل : 123 ] والمحبة مأخوذة من الحبة وهو خالص كل شيء وداخله ، ومنه حبة القلب فلا جرم كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم النبيين(1/406)
" صفحة رقم 407 "
وحبيب رب العالمين وزبدة الكائنات وغاية الحركات ، لولاك لما خلقت الأفلاك ، أول الفكر آخر العمل ( أول ما خلق الله تعالى نوري ، أنا أول من ينشق عنه قبر ، آدم ومن دونه تحت لوائي ، أنا سيد المرسلين ولا فخر ) محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أبو الحقيقة وإن كان إبراهيم عليه السلام أبا الطريقة ، والحقيقة لكونها مقصودة بالذات أقوى من الطريقة ، لا جرم وقع الصلاة على إبراهيم في الصلاة تبعاً للصلاة على محمد ( اللهم صلَّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ) وأن الصلاة لا تصح بدون الصلاة على محمد بخلاف الصلاة على غيره .
ولنعد إلى ما كنا فيه ) ووصى ( التوصية من جملة الأمور المستحسنة التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم .
أوصيته بكذا ووصيته بمعنى ، وأصله من وصيت الشيء بكذا بالتخفيف إذا وصلته إليه .
وأرض واصية متصلة النبات ، فالموصي يصل القربة الحاصلة له بعد الموت إلى القربات الحاصلة له في الحياة ويحمد الموصي على هذا الوصل بسبب الوصية .
والضمير في ( بها ) قيل : يعود إلى الكلمة أو الجملة وهي أسلمت لرب العالمين ، ونحوه رجوع الضمير في قوله ) وجعلها كلمة باقية ) [ الزخرف : 28 ] إلى قوله ) إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني ) [ الزخرف : 26 ] وقيل : الأولى أن يرجع إلى الملة لأنها مذكورة صريحاً في قوله ) ومن يرغب عن ملة إبراهيم ( ولأن الوصية بالملة جامعة لجميع أسباب الفلاح بخلاف الوصية بالشهادة وحدها اللهم إلا أن يحمل الإسلام على الانقياد الكلي .
وفي الآية دقائق مرعية في قبول الدين منها : أنه لم يقل وأمر بها لأن الوصية عند أمارات الموت وعند ذلك يكون الاهتمام بالأمور أشد .
ومنها أنه خص نبيه بذلك في آخر عمره مع أنه كان يدعو كل الناس إلى الدين ، فدل على أنه لا شيء عنده أهم من ذلك .
ومنها التعميم لجميع الأبناء وأنه لم يقيد الوصية بزمان أو مكان ولم يخلطها بشيء آخر ، ثم نهاهم أن يموتوا غير مسلمين وكل هذه دلائل شدة الاهتمام بالأمور وهو المشهود له بالفضل وحسن السيرة ، فيجب قبول قوله لكل عاقل وكذلك وصى بها يعقوب بنيه .
وقرئ يعقوب بالنصب فمعناه وصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب قائلاً لكل منهما ) يا بني ( أصله يا بنون فأضيف إلى ياء المتكلم فسقطت النون وصار الواو ياء لأجل النصب فأدغم الياء في الياء ) إن الله اصطفى لكم الدين ( استخلصه واختاره لكم بأن أقام عليه الدلائل الواضحة ودعاكم إليه ومنعكم من غيره ووفقكم للأخذ به ) فلا تموتن ( فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام نحو ( لا تصل إلا وأنت خاشع ) لا ينهاه عن نفس الصلاة ولكن عن ترك الخشوع في صلاته .
والنكتة فيه إظهار أن الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة ومثله قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) فإنه في قوة قوله لجار المسجد : لا تصل(1/407)
" صفحة رقم 408 "
إلا في المسجد .
فكان موتهم لا على حال الإسلام موتاً لا خير فيه لأنه ليس بموت السعداء ومن حق هذا الموت أن لا يحل فيهم .
) أم كنتم شهداء ( يحتمل أن تكون ( أم ) منقطعة ، ومعنى الهمزة فيها الإنكار لمجرد الحضور عند وفاته والخطاب للمؤمنين أي ما كنتم حاضرين حين احتضر يعقوب ، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي ، أو لأهل الكتاب المعاصرين كأنه قيل لهم : كيف تزعمون أن ما أنتم عليه دين الرسل ولم تشهدوا وصايا الأنبياء ولو شهدتم ذلك وسمعتم قولهم لنبيهم لظهر لكم حرصهم على ملة الإسلام والدين الحنيفي فرغبتم في دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ ويحتمل كون ( أم ) متصلة على أن يقدر قبلها محذوف معناه ، أتدعون على الأنبياء اليهودية ) أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ( قيل : أي إن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد ودين الإسلام ، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه براء وفيه نظر ، لأن ( أم ) المعادلة أحد الأمرين كائن فيها فقط ، فإن كان الحضور ثابتاً لم تكن الدعوى ثابتة لكنها ثابتة ولهذا توجه الإنكار عليها ، فالوجه أن يقال : المراد أن الحضور غير ثابت لتطاول الزمان ، فإذن دعواهم يهودية الأنبياء دعوى بلا دليل فلا تسمع منهم على أنه تعالى نص على بطلانها بقوله ) إذ قال لبنيه ( إلى آخره ، ويتجه على هذا التقدير أن تكون ( أم ) منقطعة كأنه استفهم أولاً على سبيل الإنكار أي لم تدعون ، ثم استأنف استفهاماً ثانياً لتقرير النفي أي ما كنتم شهداء أو لتقرير الإثبات على أن أوائلهم قد شهدوا فيكون مؤكداً لذلك الإنكار ) ما تعبدون ( أي شيء تعبدون .
و ( ما ) عام لأولي العلم وغيرهم ، ( ومن ) مختص بأولي العلم ولهذا قال العلماء ( من ) لما يعقل .
و ( من ) خصص ( ما ) بغير أولي العقل قال : المراد السؤال عن صفة المعبود كما تقول ( ما زيد ) تريد أفقيه أم طبيب روي أن يعقوب عليه السلام لما دخل مصر رأى أهلها يعبدون الأوثان والنيران فخاف على بنيه بعد وفاته فقال لهم هذا القول تحريضاً على التمسك بعبادة الله لا أنهم كانوا يعبدون غير الله ، لأن مبادرتهم إلى الاعتراف بالتوحيد تنافي ذلك ، ولأن المشهور من أمر الأسباط أنهم كانوا قوماً صالحين ، و ) إبراهيم وإسماعيل وإسحق ( عطف بيان لآبائك ، وقدم إسماعيل لأنه أسن ، وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه لأن العمل أب والخالة أم لانخراطهما في سلك واحد هو الأخوة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( عم الرجل صنو أبيه ) أي لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة .
وأيضاً أطلق اسم الأب على إبراهيم وهو جده فعن الشافعي أنه مجاز ولهذا قال : الإخوة والأخوات للأب والأم لا يسقطون بالجد ، وإليه ذهب مالك وأبو يوسف ومحمد وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد ، وقال(1/408)
" صفحة رقم 409 "
أبو حنيفة : إنه حقيقة وإنهم يسقطون بالجد وهو قول أبي بكر وابن عباس وعائشة والحسن وطاوس وعطاء .
ثم التعليمية قالوا : لا طريق لنا إلى معرفة الله تعالى إلا بتعليم الرسول والإمام لأنهم لم يقولوا نعبد الإله الذي دل العقل عليه بل قالوا : نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباؤك يعبدونه ، فدل على أن طريق المعرفة هو التعليم .
وأجيب بمنع دلالة الآية على ذلك بل لعل المعرفة حلت لهم بالاستدلال إلا أنهم اختصروا الكلام فتركوا شرح صفات الله وبيان ذلك ، وأيضاً إنه أقرب إلى سكون نفس يعقوب فكأنهم قالوا : لسنا نجري إلا على مثل طريقتك من اليقين بالله والإخلاص له في عبادته .
وأيضاً لعل مرادهم نعبد الإله الذي دل عليه وجودك ووجود آبائك كقوله ) اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) [ البقرة : 21 ] ( إلهاً واحداً ( بدل من ) إله آبائك ( مثل ) بالناصية كاذبة ) [ العلق : 15 ، 16 ] أو نصب على الاختصاص والمدح ) ونحن له مسلمون ( مذعنون أو مخلصون التوحيد ومحله النصب حالاً من فاعل ) نعبد ( أو من مفعوله لرجوع الضمير في ) له ( إليه ، ويجوز أن يكون جملة معطوفة على ) نعبد ( أو جملة معترضة مؤكدة ) تلك ( إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون ، ) خلت ( مضت وانقرضت والغرض أنه لم يبق منهم أثر سوى ما عملوا ، ولهذا قيل ) لها ما كسبت ( أي ثوابه يريد أني اقتصصت عليكم أخبارهم وما كانوا عليه من الدعوة إلى الإسلام فليس لكم نفع في سيرتهم دون أن تفعلوا ما فعلوه ، فإن أنتم فعلتم ذلك فزتم كما فازوا ، وإن أبيتم خسرتم أنتم دونهم ) ولا تسئلون عما كانوا يعملون ( لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا ينفعكم حسناتهم ، وفيه تكذيب لليهود حيث قالوا إنهم يعذبون أياماً معدودة لكفر آبائهم باتخاذ العجل .
وفي الآية وعيد شديد للأبناء إذا لم يعملوا بعمل الآباء قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا صفية عمة محمد يا فاطمة بنت محمد ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً ) ( من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) ثم الآية تدل على أن للعبد كسباً ولكن الأئمة اختلفوا في تفسيره ، فالأشعري على أنه لا تأثير لقدرة العبد في مقدور أصلاً ، لأنه لو كان موحداً لأفعاله لكان عالماً بتفاصيل فعله وليس كذلك ، ولما وقع إلا ما أراده العبد وليس كذلك ، بل المقدور والقدرة كلاهما واقع بقدرة الله تعالى ، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله وهو متعلق القدرة الحادثة هو الكسب ، واعترض عليه بأن مقدور العبد إذا كان واقعاً بخلق الله(1/409)
" صفحة رقم 410 "
تعالى ، فإذا خلقه فيه استحال من العبد أن لا يتصف حينئذ به ، وإذا لم يخلقه فيه استحال أن يتصف به ، فأي معنى لكون العبد قادراً عليه ؟ وأيضاً الذي هو مكتسب العبد إما أن يكون واقعاً بقدرة الله فلا أثر للعبد فلا يكون مكتسباً له وإن وقع بالقدرتين معاً فلا تكون قدرة الله تعالى مستقلة ، والمفروض بالخلاف ، فبقي أن يكون بقدرة العبد ، وعن القاضي : أن ذات الفعل واقعة بقدرة الله تعالى ثم يحصل لذلك الفعل صفة طاعة أو صفة معصية ، فهذه الصفة تقع بقدرة العبد .
وضعف بأن المحرم من الجلوس في الدار المغصوبة ليس إلا شغل تلك الأحياز ، فهذا الشغل إن حصل بفعل الله تعالى فعين المنهي عنه قد خلقه الله فيه وهذا تكليف ما لا يطاق ، وإن حصل بقدرة العبد فهو المطلوب .
وزعم الأستاذ أبو إسحق الإسفرايني أن ذات الفعل تقع بالقدرتين ، وزيف بأن قدرة الله مستقلة بالتأثير .
ومنهم من زعم أن القدرة الحادثة مع الداعي توجب الفعل ، فالله تعالى هو الخالق للكل بمعنى أنه سبحانه هو الذي وضع الأسباب المؤدية إلى دخول هذه الأفعال في الوجود ، والعبد هو المكتسب بمعنى أن المؤثر في وقوع فعله هو القدرة والداعية القائمتان به ، وإلى هذا ذهب إمام الحرمين وهو مناسب لقول الفلاسفة .
وزعم جمهور المعتزلة أن القدرة مع الداعي لا توجب الفعل بل العبد قادر على الفعل والترك متمكن منهما إن شاء فعل وإن شاء ترك وهذا هو الفعل والكسب .
فهذا تقرير المذاهب ، وقول الأشعري أقرب غلى الأدب ، وقول إمام الحرمين أقرب إلى التحقيق لأن نسبة الأثر إلى المؤثر القريب لا تنافي كون ذلك المؤثر منسوباً إلى أثر آخر بعيد ، ثم إلى أبعد إلى أن ينتهي إلى مسبب الأسباب وفاعل الكل ومبدأ المبادئ وإليك الاختيار بعقلك دون هواك .
التأويل : من قوله ) وإذ ابتلى ( البلاء للولاء كاللهب للذهب فأصدقهم ولاء أشدهم بلاء ) وإذ ابتلى ( الخليل بكلمات هي أحكام النبوة الخصال العشر في جسده ولوازم الرسالة الصبر عند صدمات المكروهات وفقدان المألوفات .
وموجبات الخلة التبري عما سوى الخليل ) إني بريء مما تشركون ) [ الأنعام : 78 ] وعداوة غير الخليل ) فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) [ الشعراء : 77 ] ورفع الوسائط حيث قال له جبريل في الهواء هل لك من حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا والتسليم أسلمت لرب العالمين ، والرضا بما أمر به عند ذبح الولد ) فلما أسلما وتله للجبين ) [ الصافات : 103 ] بخلاف ما قال نوح ) إن ابني من أهلي ) [ هود : 45 ] فلا جرم زيد له في الاصطفاء وشرف بكرامة الإمامة والاقتداء به ) وإذ جعلنا البيت ) [ البقرة : 125 ] بيت القلب كما جاء أن الله تعالى أوحى إلى داود فرغ لي بيتاً أسكن فيه فقال : وكيف يا رب ؟ فقال : فرغ لي قلبك ( أي جعلنا القلب الإنساني مثابة للناس ترجعون إليه(1/410)
" صفحة رقم 411 "
يا طلابي وزواري كما ترجعون إلى الكعبة في الصورة ، ومأمناً للسالك من تصرفات الشيطان ومكايده حين بلغ منزل القلب ، لأن القلب خزانة الحق محروسة من دخول الشيطان .
وإنما جولان لص الشيطان في ميادين الصدور كقوله ) يوسوس في صدور الناس ) [ الناس : 5 ] ( واتخذوا ) [ البقرة : 125 ] عند الوصول إلى كعبة القلب ) من مقام إبراهيم ) [ البقرة : 125 ] وهو الخلة قبلة توجهكم ليكون قصدكم إلي لا إلى غيري كما قال إبراهيم ) إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) [ الصافات : 99 ] ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل ) [ البقرة : 125 ] في الميثاق ) أن طهرا ( القلب من أدناس تعلقات الكونين وأوضار ملاحظة الأغيار ) للطائفين ) [ البقرة : 125 ] وهي واردات الأحوال ) والعاكفين ) [ البقرة : 125 ] وهي الملكات والمقامات ) والركع السجود ) [ البقرة : 125 ] وهي صفات القلب المطهرة من الإرادة والصدق والإخلاص والتواضع والخوف والرجاء والتسليم والرضا والتوكل .
وجملة هذه الصفات العبودية ) وإذ قال إبراهيم ) [ البقرة : 126 ] الآية لما أهبط آدم الروح إلى الأرض الجسد وفقد ما كان يجد من روائح ألطاف الحق في جنة حظيرة القدس استوحش ، فأنزل الله تعالى ياقوتة القلب من جنة حظيرة القدس له بابان شرقي إلى حظيرة رب العالمين تطلع منها شوارق الألطاف ، وباب غربي إلى عالم الجسد وفيه قناديل العقل ، وأنزل حجر الذرة المخاطبة بخطاب ) ألست بربكم ) [ الأعراف : 172 ] منوراً بنور جواب ) بلى ( قد ألقم كتاب العهد يوم الميثاق وهو يمين الله في أرضه ، فلما كان طوفان آفات الصفات البشرية من الطفولية إلى البلوغ ، وفار تنور الشهوات رفع بيت معمور القلب إلى السماء الرابعة يعني حجب أستار خواص العناصر الأربع ، وخبئ حجر الذرة في أبي قبيس صفات النفس ، فلما أمر غبراهيم الروح بعد البلوغ ببناء بيت القلب وعمارته من خمس أجبل أركان الإسلام وقد اهتدى إلى موضع بيت القلب بدلالة بيت السكينة ) هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ) [ الفتح : 4 ] فجعل إسماعيل النفس المطمئنة يجيء بأحجار أعمال الشريعة من جبال أركان الإسلام ويناولها إبراهيم الروح وهو يبني إلى أن بلغ موضع الحجر فنودي من أبي قبيس الهوى إن لك عندي وديعة فخذها .
فخلص حجر الذرة من أستار صفات النفس والهوى فوضعه مكانه ، وكان أبيض فلما لمسته حيض اللذات الدنيوية ومشركو الشهوات النفسانية في جاهلية الطفولية اسودَّ ، فلما فرغا من رفع قواعد بيت القلب سألا ربهما الاستسلام لأحكامه الظاهرة الشرعية والباطنة التي جف القلم بها في الأزل ، وكذا لذريتهما المتولدات من الصفات الروحانية والنفسانية وأن يبعث فيهم رسولاً منهم لا من الخارج ، فمن لم يكن له في القلب رسول وارد من الحق وهو السر لم يسمع كلام الرسول لخارجي .
ثم إن إبراهيم الروح يوصي لمتولداته من القلب وصفاته والسر وصفاته(1/411)
" صفحة رقم 412 "
والنفس وصفاتها والقوى البشرية والحواس الخمس والأعضاء والجوارح كله ملته .
وفي الآيات إشارة إلى أنه تعالى إذا تجلى لروح عبد مخلص متضرع إليه محب له ، ظهرت آثار أنوار تجليه على قلبه وسره ونفسه وقواه وحواسه وجميع أعضائه ويخضعونله بكليتهم فيعبدون إلهاً أحداً لا متفرقاً من الهوى والدنيا والآخرة والله ولي التوفيق .
( البقرة : ( 135 - 141 ) وقالوا كونوا هودا . . . .
" وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون "
( القراآت )
أم تقولون ( بتاء الخطاب : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر والحماد والمفضل ، الباقون : بياء الغيبة .
الوقوف : ( تهتدوا ( ( ط ) ) المشركين ( ( 5 ) ) ومن ربهم ( ( ج ) لطول الكلام والاستئناف والأصح أنه حال أي آمنا غير مفرقين ) منهم ( ( ج ) لاحتمال الابتداء والحال أوجه ) مسلمون ( ( 5 ) ) اهتدوا ( ( ج ) لابتداء شرط آخر مع العطف ) شقاق ( ج للابتداء بسين الوعيد مع دخول الفاء ) فسيكفيكهم الله ( ( ج ) لاحتمال الواو الابتداء والحال ) العليم ( ( ط ) لأن الجملة الناصبة لقوله ) صبغة الله ( محذوفة يدل عليها قوله ) آمنا بالله ( وقوله ( فإن آمنوا ( شرط معترض ) صبغة الله ( ( ج ) لابتداء الاستفهام مع أن الواو للحال ) صبغة ( ( ج ) على جعل الواو للابتداء أو للحال أو للعطف على آمنا ) عابدون ( ( 5 ) ) وربكم ( ( ج ) لأن الواو يصلح أن يكون عطفاً على الحال الأولى ويصلح أن يكون مستأنفاً ) أعمالكم ( ( ج ) ) مخلصون ( ( ط ) لمن قرأ ) أم يقولون ( بياء الغيبة ، ومن قرأ بالتاء لم يقف لكون ( أم ) معادلة للهمزة في ) أتحاجوننا ( ) أو نصارى ( ( ط ) ) أم الله ( ( ط ) ) من الله ( ( ط ) ) تعملون ( ( 5 ) ) فدخلت ( ( ج ) ) ما كسبتم ( ( ج ) ) يعملون ( .(1/412)
" صفحة رقم 413 "
التفسير : إنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة صحة دين الإسلام ، ذكر أنواعاً من شبه الطاعنين منها : أن اليهود قالوا ) كونوا هوداً ( تهتدوا ، والنصارى قالوا كذلك ، لما علم من التعادي بين الفريقين كما بين كل منهما وبين المسلمين وقد مر مثل هذا في قوله تعالى ) وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ) [ البقرة : 111 ] فأجابهم الله بقوله ) قل بل ملة إبراهيم ( أي نكون أهل ملته مثل ) واسئل القرية ) [ يوسف : 82 ] أي أهلها ، أو بل نتبع ملة إبراهيم وقرئ بالرفع أي ملتنا أو أمرنا ملته أو نحن أهل ملته ، وحنيفاً حال من المضاف إليه كقولك ( رأيت وجه هند قائمة ) وذلك أن المضاف إليه متضمن للحرف فيقتضي متعلقاً هو الفعل أو شبهه ، وحينئذ يشتمل على فاعل ومفعول .
فالحال عن المضاف إليه ترجع في التحقيق إلى الحال عن أحدهما وعند الكوفيين نصب على القطع أراد ملة إبراهيم الحنيف ، فلما سقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منها فانتصب ، والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق ، وتحنف إذا مال وحاصل الجواب أن المعّول في الدين إن كان النظر والاستدلال فقد قدمنا الدلائل ، وإن كان التقليد فالمتفق أولى من المختلف .
وقد اتفق الكل على صحة دين إبراهيم فاتباعه أولى وهذا جواب إلزامي ، ثم لما كان من المحتمل أن يزعم اليهود والنصارى أنهم على دين إبراهيم أزيحت علتهم بقوله ) وما كان من المشركين ( لكون النصارى قائلين بالتثليث واليهود بالتشبيه ، وأيضاً قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله ، فليسوا من ملة إبراهيم التي هي محض التوحيد وخالص الإسلام في شيء ) قولوا ( خطاب للمؤمنين ، ويجوز أن يكون للكافرين أي قولوا لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل ، وكذلك قوله ) بل ملة إبراهيم ( يجوز أن يكون أمراً لهم أي اتبعوا ملة إبراهيم أو كونوا أهل ملته ، وهذا جواب آخر برهاني ، وذلك أن طريق معرفة نبوة الأنبياء ظهور المعجز على أيديهم ، ولما ظهر المعجز على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجب الاعتراف بنبوته والإيمان به وبما أنزل عليه كما اعترفوا بنبوة إبراهيم وموسى وعيسى ، فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وعن الحسن أن قوله ) قل بل ملة إبراهيم ( خطاب للنبي وقوله ( قل بل ملة إبراهيم ( خطاب للنبي وقوله ( قولوا ( خطاب لأمته والظاهر العموم وإنما قدم الإيمان بالله لأن معرفة النبي والكتاب متوقفة على معرفته وفيه إبطال ما ذهب إليه التعليمية والمقلدة من أن طريق معرفة الله الكتاب والسنة ، قال الخليل : الأسباط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب .
وقيل : السبط الحافد ، وكان الحسن والحسين سبطي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهم حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر ، عدّد بعض الأنبياء لتقدمهم وشرفهم ثم عمم لتعذر التفصيل .
) لا نفرق بين أحد منهم ( لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض(1/413)
" صفحة رقم 414 "
كأهل الكتاب .
ومعنى الإيمان بجميعهم أن كلا منهم حق في زمانه أولا نقول إنهم متفرقون في أصول الديانة ) شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ) [ الشورى : 13 ] وأحد في معنى الجماعة ولذلك صح دخول بين عليه ) ونحن له مسلمون ( إذعاناً وإخلاصاً فلا جرم لا نخص بالقبول بعض عبيده المؤيدين بالمعجزات خلاف من كان إسلامه تقليداً أو هوى .
ولما بين الطريق ا لواضح في الدين وهو أن يعترف الإنسان بنبوة كل من قامت الدلالة على نبوته من غير مناقضة ، رغبهم في مثل هذا الإيمان ، وههنا سؤال وهو أن دين الإسلام وهو الحق واحد فما معنى المثل في قوله ) بمثل ما آمنتم به ( ؟ والجواب أن قوله ) فإن آمنوا ( بكلمة الشك دليل على أن الأمر مبني على الفرض ، والتقدير أي فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم ومساوياً له في الصحة والسداد ) فقد اهتدوا ( لكن لا دين صحيحاً سوى هذا لسلامته عن التناقض بخلاف غيره فلا اهتداء إلا بهذا ، ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه ( هذا هو الرأي الصواب فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به ) وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ، ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه وقيل : الباء للاستعانة لا للإلصاق والتمثيل بين التصديقين أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم .
وقيل : المثل صلة ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مسعود ) فإن آمنوا بما آمنتم به ( وقيل : معناه إنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف ، فإن آمنوا هم بمثل ذلك في التوراة فقد اهتدوا لأنهم يتوسلون به إلى معرفة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وفي الآية دليل على أن الهداية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء وهي الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عن وجوهها ، والاهتداء قبولها والعمل بها ليفوزوا بالسعادة العظمى .
وإن تولوا عما قيل لهم ولم ينصفوا فما هم إلا في شقاق خلاف وعداوة وهو مأخوذ من الشق كأنه صار في شق غير شق صاحبه ، أو من الشق لأنه فارق الجماعة وشق عصاهم ، أو من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه ، وفي وصف القوم بذلك دليل على معاداتهم الرسول وإضمارهم له كل سوء وتربصهم به الإيقاع في المحن ، فلا جرم آمنه الله تعالى والمؤمنين من كيدهم وقال ) فسيكفيكهم الله ( وناهيك به من كاف كافل .
ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين وذلك أن فيها معنى التوكيد لوقوعها في مقابلة ( لن ) قال سيبويه : لن أفعل نفى سأفعل ، ولقد أنجز وعده عما قريب بقتل قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير وضرب الجزية عليهم ، وهذا إخبار بالغيب وكم من مثله في القرآن وكل ذلك مما يتأكد به إعجاز التنزيل العزيز وحصوله بطريق الوحي الصراح ) وهو السميع العليم ( وعد لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي يسمع دعاءك ويعلم نيتك في أعلاء كلمة الحق وإعلانها فهو(1/414)
" صفحة رقم 415 "
يستجيب لك لا محالة ، ووعيد لأعدائه أي هو منهم بمرأى ومسمع يعلم ما يسرون من الحسد والحقد والغل فيكافئهم على ذلك ) صبغة الله ( مصدر مؤكد منتصب عن قوله ) آمنا بالله ( مثل وعد الله قاله سيبويه وقيل : بدل من ) ملة إبراهيم ( أو نصب على الإغراء أي عليكم صبغة الله ، وفيما فك لنظم الكلام وإخراج له عن الالتئام .
والصبغة فعلة من صبغ للحالة التي يقع عليها الصبغ كالجلسة .
والمعنى تطهير الله لأن الإيمان يطهر النفس .
وأصله أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه بالمعمودية ويقولون هو تطهير لهم وبه يصير الواحد منهم نصرانياً حقاً ، فأمر المسلمون أن يقولوا لهم آمنا وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم ، وذلك على طريق المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار اغرس كما يغرس فلان تريد رجلاً يصطنع الكرام ، ونظيره قوله ) إنما نحن مستهزءون الله يستهزئ بهم ) [ البقرة : 15 ] وقيل : اللفظة من قولهم ( فلان يصبغ فلاناً في الشر ) أي يدخله فيه ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازماً للثوب .
وقيل : سمي الدين صبغة لظهور هيئته عند صاحبه .
) سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) [ الفتح : 29 ] من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ( وقيل : وصف هذا افيمان منهم بأنه صبغة الله ليبين أن المباينة بينه وبين غيره ظاهرة جلية يدركها كل ذي حس سليم كما يدرك الألوان .
وقيل : صبغة الله فطرته .
أقول : وذلك أن آثار النقص الإمكاني لازمة للإنسان لزوم الصبغ للثوب ، فيمكنه أن يتدرج منها إلى وجود الصانع والإيمان به .
وقيل : صبغة الله الختان .
وقيل : حجة الله .
وقيل : سنة الله .
) ومن أحسن من الله صبغة ( معنى الاستفهام الإنكار وصبغة تمييز أي لا صبغة أحسن من الإيمان بالله والدين الذي شرع لكم ليطهركم به من أوضار الكفر وأوزار الشرك .
) ونحن له عابدون ( عبارة عن كمال الإيمان كما تقدم مراراً .
) قل أتحاجوننا ( أما المحاجة فهي إما قولهم نحن أحق بأن تكون النبوة فينا لأنا أهل الكتاب والعرب عبدة أوثان ، وإما قولهم ) نحن أبناء الله وأحباؤه ) [ المائدة : 18 ] وقولهم ) كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ( وأما الخطاب فإما لأهل الكتاب وإما لمشركي العرب حيث قالوا ) لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) [ الزخرف : 31 ] وإما للكل والمعنى ، أتجادلون في شأن الله أو في دينه وهو ربنا وربكم وللرب أن يفعل بمربوبه ما يعلم فيه مصلحته ويعرفه أهلاً له ، عبيده كلهم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي ) ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ( فكما أن لكم أعمالاً ترجون نيل الكرامة بها فنحن كذلك ، فالعمل هو الأساس وبه الاعتبار ولكن ) نحن له مخلصون ( موحدون لا نقصد بالعبادة أحداً سواء ، فلا يبعد أن يؤهل أهل إخلاصه بمزيد(1/415)
" صفحة رقم 416 "
الكرامة من عنده .
) أم تقولون ( من قرأ بتاء الخطاب احتمل أن تكون ( أم ) منقطعة بمعنى استئناف استفهام آخر أي بل أتقولون والهمزة للإنكار كما في ) أتحاجوننا ( واحتمل أن تكون متصلة بمعنى أي الأمرين تأتون المحاجة في حكمة الله أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء إنكاراً عليهم واستجهالاً لهم بما كان منهم .
وعن الزجاج : بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا ، أبالتوحيد فنحن موحدون ، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متبعون ؟ ومن قرأ بياء الغيبة فلا تكون إلا منقطعة لانقطاع الاستفهام الأول بسبب الالتفات .
) قل أأنتم أعلم أم الله ( بل الله أعلم وخبره أصدق ، وقد أخبر في التوراة والإنجيل والقرآن بأن إبراهيم ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً ، وكيف لا وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ؟ ولأنهم مقرون بأن الله أعلم ، وقد أخبر بنقيض ما ادعوه فإن قالوا ذلك عن ظن فقد بان لهم هطؤه ، وإن قالوا ذلك عن جحود وعناد فما أجهلهم وأشقاهم ، فإذن فائدة الكلام إما التنبيه وإما التجهيل .
) ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ( قوله ) من الله ( إما أن يتعلق بأظلم والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه هوداً أو نصارى ، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم شهادة أظلم منه لأن الظلم من الأعدل أشنع ، وإما أن يتعلق بكتم أي لا أحد أظلم ممن عنده شهادة ، ثم إنه لم يقمها عند الله وكتمها وأخفاها منه وأما أن يتعلق بشهادة كقولك ( عندي شهادة من فلان ) ومثله ) براءة من الله ورسوله ( والمعنى ليس أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده جاءته من الله ، وفيه إشارة إلى أن المؤمنين لم يكتموا ما عندهم من الحق وشهدوا لإبراهيم بالحنيفية ، وتعريض بأن أهل الكتاب قد كتموا شهادات الله فأنكروا نبوة محمد وحنيفية إبراهيم وغير ذلك من تحريفاتهم .
) وما الله بغافل عما تعملون ( كلام جامع لكل وعيد لهم ولأضرابهم ، ولو أن أحداً كان عليه رقيب من قبل ملك مجازي لكان دائم الحذر والوجل ، فكيف بالرقيب القريب الذي يعلم أسراره ويعد عليه أنفاسه وأفكاره ثم هو يقدر على أن يدخله جنته أو ناره ؟ ) تلك أمة ( إشارة إلى إبراهيم وبنيه .
كما مر ، وإنما أعيدت الآية ههنا لغرض آخر وهو زجرهم عن الاشتغال بوصف ما عليه الأمم السالفة من الدين فإن أديانهم لا تنفع إلا إياهم لاندراس آثارها وانطماس أنوارها ، وأما الآن فالدين هو الإسلام الثابت بالدليل القاطع والبرهان البين فيجب اتباع المعلوم واقتفاؤه وإلقاء المظنون وإلغاؤه ، ولا يسأل المتأخر عن المتقدم ولا المحسن عن المسيء وكل لعمله مجزي .
تم الجزء الأول ، ويليه الجزء الثاني أوله : ( سيقول السفهاء من الناس. .. . ((1/416)
" صفحة رقم 417 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثاني من أجزاء القرآن الكريم
( البقرة : ( 142 - 148 ) سيقول السفهاء من . . . .
" سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ومن جيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم ءايتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون "
( القراآت )
من يشاء إلى ( بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر .
الباقون ) يشاء ولى ( بقلب الثانية واواً .
وروى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة ) يشاو إلى ( بقلب الأولى واواً ) لرؤف ( مهموزاً مشبعاً : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص والمفضل والبرجمي .
وقرأ يزيد بتليين الهمزة والإشباع .
الباقون : ( لرؤف ( على وزن ( الرعف ) ). .
يعملون ولئن ( بياء الغيبة : ابن كثير ونافع وخلف وعاصم وأبو(1/417)
" صفحة رقم 418 "
عمرو ويعقوب ، الباقون : بالتاء ) مولاها ( بالألف : ابن عامر والباقون : بالباء وكسر اللام ) يعملون ومن حيث ( بياء المغايبة : أبو عمرو .
الباقون : بالتاء ) ليلاً ( مدغمة غير مهموزة عن ورش ، وعن ابن كثير وحمزة وعلي وخلفٍ ويعقوب مدغماً مهموزاً .
الباقون : مظهراً مهموزاً ، والاختيار عن يعقوب وهشام الإظهار .
) فاذكروني ( بفتح الياء : ابن كثير .
الوقوف : ( عليها ( ط ) المغرب ( ط ) مستقيم ( 5 ) شهيداً ( ط ) عقبيه ( ط ) هدى الله ( ط ) ايمانكم ( ط ) رحيم ( 5 ) في السماء ( ط لأن الجملتين وإن اتفقتا فقد دخل الثانية حرفا توكيد يختصان بالقسم والقسم مصدّر ) ترضيها ( ص لأن فاء التعقيب لتعجيل الموعود ) الحرام ( ط ) شطره ( ط ) من ربهم ( ط ) تعملون ( 5 ) قبلتك ( ج ) قبلتهم ( ج وكلاهما لتفصيل الأحوال مع اتحاد المقصود ) قبلة بعض ( ط ) من العلم ( لا لأن ( ان ) جواب معنى القسم في ( لئن ) ، فلو فصل كان ) من الظالمين ( مطلقاً وفي الاطلاق حظر ) الظالمين ( 5 لأنه لو وصل صار ( الذين ) صفة وهو مبتدأ في مدح عبد الله ابن سلام وأضرابه ) أبناءهم ( ط ) يعملون ( 5 ) الممترين ( 5 ) الخيرات ( ط ) جميعاً ( ط ) قدير ( 5 ) الحرام ( ( ط ) ) من ربك ( ط ) تعملون ( 5 ) الحرام ( ط لأن ( حيث ) متضمن الشرط ) شطره ( لا لتعلق لام في ) حجة ( ط قبل تحرزاً عن إثبات الحجة بعد النفي والوصل 5 في العربية أوضح ، ولا منافاة لأن المراد من الحجة الخصومة وبيان الحق لا ينافي الخصومة ) تهتدون ( إذا علق ) كما أرسلنا ( بما قبله ووقف على ) تعلمون ( وإن علق بما بعده وقف على ) تهتدون ( دون ) تعلمون ( ) تعلمون ( 5 ) ولا تكفرون ( 5 .
التفسير : هذه شبهة ثانية من أهل الكتاب طعناً في الإسلام .
قالوا : النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل لأن الأمر إن كان خالياً عن القيد كفى فعله مرة واحدة ، فلا يكون ورود الأمر بعده على خلاله ناسخاً مقيداً .
وإن كان مقيداً بالدوام فكذلك ، وإن كان مقيداً بالدوام فإن كان الآمر يعتقد دوامه ثم رفعه كان جهلاً وبداء ، وإن كان عالماً بلا دوامه كان تجهيلاً ، وكل هذه من الحكيم قبيح .
ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة ، وهو أنّا إذا جوزنا النسخ عند اختلاف المصالح فههنا لا مصلحة فإن الجهات متساوية وهذا دليل على أن هذا التغيير ليس من عند الله .
قال القفال : لفظ ) سيقول ( وإن كان للاستقبال لكنه قد يستعمل في الماضي كالرجل يعمل عملاً فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول : أنا أعلم أنهم سيطعنون فيّ .
كأنه يريد أنه إذا ذكر مرة فسيذكرونه مرات أخرى ، ويؤيد ذلك ما ورد من الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية .
والمشهور أن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا(1/418)
" صفحة رقم 419 "
الكلام أنهم سيذكرونه ، وفيه فوائد منها : أنه إخبار بالغيب فيكون معجزاً .
ومنها أن مفاجأة المكروه أشد مما إذا وطن النفس له .
ومنها أن الجواب العتيد أقطع للخصم وقبل الرمي يراش السهم ، والسفهاء الخفاف الأحلام وإذا كان من لا يميز بين ما له وعليه في أمر دنياه يعدّ سفيهاً شرعاً ، فالذي يضيع أمر آخرته أولى بهذا الاسم .
عن ابن عباس ومجاهد : هم اليهود ، ذلك أنهم كانوا يأنسون بموافقة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إياهم في القبلة ، فلمّا تحول استوحشوا لا سيما وأنهم لا يرون النسخ .
وعن البراء بن عازب والحسن الأصم : أنهم مشركو العرب قالوا : أبى إلاّ الرجوع إلى موافقتنا ولو ثبت عليه أولاً كان أولى به .
وقيل : هم المنافقون ذكروا ذلك استهزاء من حيث إن تميز بعض الجهات عن بعض ليس له دليل معقول فحملوا الأمر على العبث والعمل بالرأي والتشهي والأقرب أن يكون الكل داخلاً فيه ، لأن الأعداء جبلت على الغيظ وطلب التشفي ، فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً ) ما ولاهم ( ما صرفهم استفهموا على جهة التعجب والاستهزاء ) عن قبلتهم التي كانوا عليها ( القبلة بيت المقدس ، وضمير الجمع للرسول والمؤمنين هذا هو المجمع عليه عند المفسرين ، ولولا الإجماع لاحتمل أن يعود الضمير في ( كانوا ) إلى ( السفهاء ) أي ما الذي صرف الرسول والمؤمنين عن القبلة التي كان السفهاء عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلاّ قبلة اليهود وهي إلى المغرب وقبلة النصارى وهي إلى المشرق ؟ فكأنهم قالوا : كيف يتوجه أحد إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين ؟ فاجابهم الله عن شبهتهم بقوله ) قل لله المشرق والمغرب ( أي بلادهما ، والأرض كلها والجهات بأسرها ملكاً وملكاً ، ثم أكد ذلك بقوله ) يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ ( وهو القبلة التي اقتضت الحكمة في هذا الزمان توجيه الناس إليها ويحتمل أن يراد به الطريقة المؤدية إلى سعادة الدارين فيشتمل القبلة وغيرها .
وحاصل الجواب بعد ما مر في آية النسخ أنه تعالى فاعل لما يشاء كما يشاء ، لا اعتراض لأحد عليه كما لا اعتراض على من يتصرف في ملكه كما يريد ، وأفعاله تعالى لا تعلل بغرض وإن كانت لا تخلو عن فائدة وحكمة كما سبق ، وكثير منها مما لا يهتدي عقول البشر إلى تفاصيل حكمها لكنهم قد يستنبطون بحسب أفهامهم لبعضها وجوهاً مناسبة ، أما تعيين القبلة في الصلاة فالحكمة فيه أن للإنسان قوة عقلية يدرك المجردات والمعقولات بها وقوة خيالية يتصرف بها في عالم الأجسام ، وقلما تنفك العقلية عن الخيالية وإعانتها كالمهندس يضع في إدراك أحكام المقادير صورة معيّنة وشكلاً معيناً ليصير الحس والخيال معينين له على إدراك تلك الأحكام الكلية ، وكالذي يريد أن يثني على ملك مجازي فإنه يستقبله بوجهه ثم يشتغل بالثناء والخدمة .
فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلاً للملك ، والقراءة تجري مجرى الثناء عليه ، والركوع والسجود جاريان مجرى(1/419)
" صفحة رقم 420 "
الخدمة .
وأيضاً الخشوع في الصلاة لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات ، ولا يتأتى ذلك إلاّ إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين .
وإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف في الأوهام فاستقباله أولى .
وأيضاً إنه تعالى يحب الموافقة والألفة بين المؤمنين وقد من عليهم بذلك ) واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم ينعمته إخواناً ) [ آل عمران : 103 ] .
وتوجه كل مصلٍ إلى أي جهة تتفق مظنة الاختلاف فلم يكن بد من تعيين جهة ليحصل الاتفاق .
وأيضاً كأنه تعالى يقول : يا مؤمن أنت عبد ، والكعبة بيتي ، والصلاة خدمتي ، وقلبك عرشي ، والجنة دار كرامتي ، فاستقبل بوجهك إلى بيتي وبقلبك إليّ ، أبوئك دار كرامتي .
وأيضاً اليهود استقبلوا مغرب الأنوار ) وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ) [ القصص : 44 ] .
والنصارى استقبلوا مطلع الأنوار ) إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً ) [ مريم : 16 ] فالمؤمنون استقبلوا مظهر الأنوار وهو مكة ، فمنها محمد ومنه خلق الأنوار ولأجله دال الفلك الدوّار .
وأيضاً المغرب قبلة موسى ، والمشرق قبلة عيسى ، وبينهما قبلة إبراهيم ومحمد ، وخير الأمور أوسطها ؛ وأيضاً الكعبة سرة الأرض ووسطها ، وأمة محمد وسط ) وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ( .
والوسط بالوسط أولى ) الطيبات للطيبين ) [ النور : 26 ] .
وأيضاً العرش قبلة الحملة ، والكرسي قبلة البررة ، والبيت المعمور قبلة السفرة ، والكعبة قبلة المؤمنين ، والحق قبلة المتحيرين ) فأينما تولوا فثم وجه الله ( والعرش مخلوق من النور ، والكرسي من الدر ، والبيت المعمور من الياقوت ، والكعبة من جبال خمسة : سينا وزيتا وجوديّ ولبنان وحراء .
كأنه قال : إن كان عليك مثل هذه الجبال ذنوباً فأتيت الكعبة حاجاً أو معتمراً أو توجهت مصلياً الصلوات الخمس غفرتها لك .
وأيضاً لما كان بناء هذا البيت سبباً لظهور دولة العرب كانت رغبتهم في توجهها أشد وأيضاً اليهود كانوا يعيرون المسلمين بأنا قد أرشدناكم إلى القبلة وينكسر بذلك قلوب المسلمين .
فأزيل تشويشهم ، وأيضاً الكعبة منشأ محمد ، فتعظيمها يقتضي تعظيمه ، وتعظيمه مما يعين على قبول أوامره ونواهيه ، فبمقدار حشمة المرء يكون قبول قوله .
فهذه هي الوجوه المناسبة ، والوجه الأقوى هو الذي ذكره الله تعالى في قوله ) وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ( وقوله ( وكذلك جعلناكم ( الكاف للتشبيه ، وفي اسم الإشارة وجوه .
فقيل : راجع إلى معنى يهدي أي كما أنعمنا عليكم بالهداية كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم ، أو كما هديناكم إلى أوسط البقلة جعلناكم أمة وسطاً .
وقيل : عائد إلى قوله ) ولقد اصطفينا ) [ البقرة : 130 ] .
أي كما اصطفينا إبراهيم في الدنيا جعلناكم .
وقيل :(1/420)
" صفحة رقم 421 "
ينصرف إلى قوله ) ولله المشرق والمغرب ( أي كما خصصنا بعض الجهات المتساوية بمزيد التشريف والتكريم حتى صارت قبلةً فضلاً منا وإحساناً ، جعلناكم مختصين بالعدالة براً منا وامتناناً مع تساوي الخلق في العبودية .
وقيل : قد يذكر ضمير الشيء وإن لم يكن المضمر مذكوراً إذا كان المضمر مشهوراً معروفاً مثل ) إنا أنزلناه في ليلة القدر ( ثم من المشهور المعروف عند كل أحد أنه سبحانه هو القادر على إعزاز من يشاء وإذلال من يشاء ، فالمعنى ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد غيري جعلناكم أمةً وسطاً .
الجوهري : يقال جلست وسط القوم بالتسكين لأنه ظرف ، وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم ، وكل موضع صلح فيه بين فهو وسط ، وإن لم يصلح فيه بين فهو وسط بالتحريك .
قال : والوسط من كل شيء أعدله ، وشيء وسط أي بين الجيد والرديء ، وأمةً وسطاً أي عدولاً قال زهير :
همو وسط يرضى الأنام بحكمهم
إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وذلك أن العدل متوسط في الأخلاق بين طرفي الإفراط والتفريط ، ولهذا ذكره الله تعالى في معرض المدح والامتنان .
وقيل : الوسط الخيار لأنه يستعمل في الجمادات .
قال في الكشاف : اكتريت بمكة جمل أعرابي فقال : أعطني من سطاتهن - أراد من خيار الدنانير - ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر ) كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس ) [ آل عمران : 110 ] وإنما أطلق الوسط على الخيار لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والعيب ، والأوساط محمية محوطة .
وقيل : المراد بالوسط ههنا أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرّط والغالي والمقصر في شأن الأنبياء لا كالنصارى حيث جعلوا النبي صلّى الله عليه وسلم ابناً وإلهاً ، ولا كاليهود حيث قتلوا الأنبياء وبدلوا الكتب ، ولأن الوسط في الأصل اسم وصف به استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ) لتكونوا شهداء على الناس ( الأكثرون على أن هذه الشهادة في الآخرة إما بأن يكونوا شهداء للأنبياء على أممهم الذين يكذبونهم .
روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء يوم القيامة فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا - وهو أعلم - فيؤتى بأمة محمد فيشهدون فيقول الأمم : من أين عرفتم ؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق .
فيؤتى بمحمد فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله تعالى ) فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) [ النساء : 41 ] قلت : والحكمة في ذلك تمييز أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الفضل عن سائر الأمم حيث يبادرون إلى تصديق الله تعالى وتصديق جميع الأنبياء والإيمان بهم جميعاً ، فهم بالنسبة إلى غيرهم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق ، ولذلك(1/421)
" صفحة رقم 422 "
تقبل شهادتهم على الأمم ، ولا تقبل شهادة الأمم عليهم .
وإنما سمي هذا الإخبار شهادة لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا علمت مثل الشمس فاشهد ) .
والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه معلوم مثل الشمس فتصح الشهادة عليه ، وإما بأنْ يشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها .
قال ابن زيد : الأشهاد أربعة : الملائكة الحفظة ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ) [ ق : 21 ] والنبيون ) ويكون الرسول عليكم شهيد ( وأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة ) لتكونوا شهداء على الناس ( ) ويوم يقوم الأشهاد ) [ غافر : 51 ] والجوارح ) يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ) [ النور : 24 ] .
وقيل : إن هذه الشهادة في الدنيا ، وذلك أن الشاهد في عرف الشرع من يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة ، فكل من عرف حال شخص فله أن يشهد عليه فإن الشهادة خبر قاطع ، وشهادة الأمة لا يجوز أن تكون موقوفة على الآخرة لأن عدالتهم في الدنيا ثابتة بدليل ) جعلناكم ( بلفظ الماضي ، فلا أقل من حصولها في الحال .
ثم رتب كونهم شهداء على عدالتهم ، فيجب أن يكونوا شهداء في الدنيا .
وإن قيل : لعل التحمل في الدنيا ولكن الأداء في الآخرة .
قلنا : المراد في الآية الأداء لأن العدالة إنما تعتبر في الأداء لا في التحمل ، ومن هنا يعلم أن إجماعهم حجة لا بمعنى أن كل واحدٍ منهم محق في نفسه ، بل بمعنى أن هيئتهم الاجتماعية تقتضي كونهم محقين ، وهذا من خواص هذه الأمة ، ثم لا يبعد أن يحصل مع ذلك لهم الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمل لأنهم إذا بينوا الحق عرفوا عنده من القابل ومن الراد ، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة كما أن الشاهد علىالعقود يعرف ما الذي تم وما الذي لم يتم ثم يشهد بذلك عند الحاكم ، أو يكون المعنى لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلاّ بشهادة العدول الأخيار ، ويكون الرسول عليكم شهيداً يزكيكم ويعلم بعدالتكم .
وإنما قدمت صلة الشهادة في الثاني لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم فقط ، فبقيت صلة الشهادة في مركزها .
والغرض في الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم فأزيلت عن مركزها ليفيد الاختصاص .
وإنما لم يقل لكم شهيداً مع أن شهادته لهم لا عليهم ، لأنه ضمن معنى الرقيب مثل ) والله على كل شيءٍ شهيد ) [ المجادلة : 6 ] مع رعاية الطباق للأول .
وإنما قيل ( شهداء على الناس في الدنيا ) لأن قولهم يقتضي التكليف إما بفعل أو بقول وذلك عليهم لا لهم في الحال .
قيل : الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحدٍ منهم بها وليس كذلك ، فلا بد من حملها على البعض .
فنحن نحملها على الأئمة المعصومين سلمناه لكن الخطاب في ) جعلناكم ( للموجودين عند نزول الآية(1/422)
" صفحة رقم 423 "
لأن خطاب من لم يوجد محال .
فالآية تدل على أن إجماع أولئك حق لكنا لا نعلم بقاء جميعهم بأعيانهم إلى ما بعد وفاة الرسول فلا تثبت صحة الإجماع وقتئذ .
سلمنا ذلك لكن المراد بالعدالة اجتناب الكبائر فقط ، فيحتمل أن الذي أجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقْدح ذلك في خيريتهم وعدالتهم .
وأجيب بأن حال الشخص في نفسه غير حاله بالقياس إلى غيره ، فلم يجوز أن يكون الشخص غير مقبول القول عند الانفراد ويكون مقبولاً عند الاجتماع ؟ والخطاب لجميع الأمة من حين نزول الآية إلى قيام الساعة كما في سائر التكاليف مثل ) كتب عليكم الصيام كما ) [ البقرة : 183 ] ( كتب عليكم القصاص ) [ البقرة : 178 ] فللموجودين بالذات وللباقين بالتبعية ، لكنا لو اعتبرنا أوّل الأمة وآخرها بأسرها لزالت فائدة الآية إذا لم يبق بعد انقضائها من تكون الآية حجة عليه ، فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر .
ثم إن الله تعالى منّ على هذه الأمة بأن جعلهم خياراً أو عدولاً عند الاجتماع ، فلو أمكن اجتماعهم على الخطأ لم يبق بينهم وبين سائر الأمم فرق في ذلك فلا منة .
) وما جعلنا ( يريد الجعل بمعنى الشرع والحكم .
) التي ( صفة موصوف محذوف هو ثاني مفعولي ( جعل ) أي وما جعلنا القبلة أي الجهة التي كنت عليها أي كنت معتقداً لاستقبالها كقولك ( الشافعي على كذا ) ثم ههنا وجهان : أحدهما أن هذا الكلام بيان للحكمة في جعل الكعبة قبلة وذلك أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تألفاً لليهود وامتحاناً للذلن اتّبعوه بمكة ، ثم حول إلى الكعبة اختباراً ثانياً أي ما رددناك إلى الجهة التي كنت عليها أولاً إلا امتحاناً للناس وابتلاء وثانيهما أنه بيان للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة ، يعني أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وأن استقبالك بيت المقدس كان أمراً عارضاً لفائدة هي أن نمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول ومن لا يتبعه .
واللام في ) لنعلم ( ليست لأجل الغرض وإنما هي لتقرير الحكمة والفائدة التي يستتبعها الجعل .
فإن قيل : كيف ؟ قال ) لنعلم ( ولم يزل عالماً بذلك ؟ فالجواب أن معناه ليعلم حزبنا من النبي والمؤمنين كما يقول الملك : فتحنا البلد .
وإنما فتحه جنده أو لنعلمه موجوداً حاصلاً وهو العلم الذي يتعلق به الجزاء .
ولا يلزم منه أن يحدث لله علم فإن العلم الأزلي بالحادث الفلاني في الوقت الفلاني غير متغير ، وإنما هو قبل حدوث الحادث كهو حال حدوهثه .
وإنما جاء المضي والاستقبال من ضرورة كون الحادث زمانياً وكون كل زمان مكنوفاً بزمانين : سابق ولاحق .
فإذا نسبت العلم الأزلي إلى الزمان السابق قلت ( سيعلم الله ) وإذا نسبت إلى زمانه قلت ( يعلم ) وإذا نسبت إلى الزمان اللاحق قلت ( قد علم ) فجميع هذه التغيرات انبعثت من اعتباراتك ، وعلم الله واحد فافهم .
أو لنميز(1/423)
" صفحة رقم 424 "
التابع من الناكص كقوله ) ليميز الله الخبيث من الطيب ) [ الأنفال : 37 ] فسمي التمييز علماً لأنه أحد فوائد العلم وثمراته ، أو لنرى كما تستعمل الرؤية مكان العلم .
وعن الفراء : أن حدوث العلم في الآية راجع إلى المخاطبين ومثاله : أن جاهلاً وعاقلاً اجتمعا فيقول الجاهل : الحطب يحرق النار .
ويقول العاقل : بل النار تحرق الحطب ، وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه ، معناه لنعلم أينا الجاهل .
وهذا من كلام المصنف مثل ) وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) [ سبأ : 24 ] وقوله ( ممن ينقلب على عقبيه ( استعارة للكفر والارتداد كأنه يرجع إلى حيث أتى ثم إن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة .
أو بسبب تحويلها من الناس ، من قال بالأول لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي إلى الكعبة ، فلما جاء إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ، ثم لما تحول إلى الكعبة شق ذلك على اليهود .
والأكثرون على الثاني لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم منها في تعيين القبلة ، عن ابن جريج أنه قال : بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا مرة ههنا ومرة ههنا ، ولو كان على يقين من أمر تغير رأيه .
وعن السدي : لما توجه إلى الكعبة اختلفوا ، قال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة رأيه .
وعن السدي : لما توجه إلى الكعبة اختلفوا ، قال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها ؟ وقال المسلمون : ليتنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وقد صلوا نحو البيت المقدس .
وقال آخرون : اشتاق إلى بلد أبيه ومولده .
وقال المشركون : تحير في دينه .
) وإن كانت لكبيرة ( هي ( إن ) المخففة التي يلزمها اللام الفارقة بينها وبين ( إن ) النافية ، وتتهيأ بالتخفيف للدخول على الأفعال .
لكن البصريين أوجبوا كون الفعل الذي دخلت هي عليه من باب ( كان ) أو ( علم ) ويبطل عمل ( إن ) في الظاهر ، وكذا في التقدير ، فلا يقدر ضمير الشأنّ كما يقدر في ( أن ) المفتوحة إذا خففت ، فقوله ) لكبيرة ( خبر ( كانت ) واسمها الضمير العائد إلى القبلة لأنها هي المذكورة ، أو إلى ما دل عليه الكلام السابق من التولية في ) ما ولاهم ( أو الجعلة ، أو الردة ، أو التحويلة في ) وما جعلنا ( ومعنى لكبيرة لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله ) كبرت كلمة تخرج من أفواههم ( وذلك أن الامتحان إن وقع بنفس القبلة فالفطام عن المألوف شديد والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف عسير ، وإن وقع بالتحويل فهو مبني على جواز النسخ وفيه ما فيه من الشبه والإشكال فيصعب اعتقاد حقيقته إلا على الذين هدى الله .
الراجع محذوف أي هداهم الله إلى الثبات على دين الإسلام بأن نصب لهم الدلائل أولاً ، ثم جعلهم منتفعين بها ثانياً ، وإلا فالدلالة عامة للكل ) وما كان الله ليضيع إيمانكم ( الخطاب للمؤمنين المعاصرين ، واللام لتأكيد النفي الداخل في ( كان ) ينتصب المضارع بعدها بتقدير ( أن ) أي لن يضيع الله ثواب ثباتكم على الإيمان ، وأنكم لم تزلوا ولم(1/424)
" صفحة رقم 425 "
ترتابوا ، بل شكر صنيعكم وأعدّ لكم الثواب الجزيل عن الحسن .
وقال ابن زيد : ما كان الله ليترك تحويلكم من بيت المقدس إلى الكعبة لعلمه بأن تقريركم على ذلك مفسدة لكم وإضاعة لصلواتكم ، أي لثوابها .
أطلق الإيمان على الصلاة لأنها أعظم آثار الإيمان وأشرف نتائجه ، أو لأن المراد لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة .
وعن ابن عباس : لما وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الكعبة قالوا : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فنزلت .
وإنما خوطبوا تغليباً للأحياء مثل ) وإذ قتلتم نفساً ) [ البقرة : 72 ] ( وإذ فرقنا بكم البحر ) [ البقرة : 50 ] والمراد أهل ملتهم .
وليس هذا السؤال من الشك في حقية النسخ في شيء وإنما هو لأجل الاطمئنان وازدياد اليقين ولعلهم إنما خصوا السؤال بالأموات لأنهم ظنوا أنفسهم مستغنين عن ذلك حيث تقع صلاتهم إلى الكعبة بقية عمرهم مكفرة لما سلف منهم ، فأجيبوا بما يخرج عنه جواب الأموات والأحياء جميعاً ، فإن المنسوخ حق في وقته كما أن الناسخ حق في وقته ، سواء عمل المكلف بهما في وقتيهما أو لم يعمل إلا بالمنسوخ لانقضاء أجله قبل الناسخ .
وجوز بعضهم أن يكون السؤال صادراً عن منافق فنبه الله المسلمين على الجواب .
وقيل : بل المعنى وفقتكم لقبول هذا التكليف لئلا يضيع إيمانكم ، فإنهم لو ردوا هذا التكليف لكفروا .
يحكى عن الحجاج أنه قال للحسن : ما رأيك في أبي تراب ؟ فقرأ قوله ) إلا على الذين هدى الله ( ثم قال : وعلي منهم وهو ابن عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وختنه على ابنته وأقرب الناس إليه وأحبهم ) إن الله بالناس لرؤف رحيم ( الجوهري : الرأفة أشد الرحمة .
رؤفت به أرؤف بالضم فيهما رأفة ورآفة ورأفت به أرأف بالفتح فيهما .
ورئفت به بالكسر رأفاً والصفة رؤوف ورؤف على ( فعول ) و ( فعل ) وقيل : الرحمة تقع في الكراهة للمصلحة ، والرأفة لا تكاد تكون في الكراهة ، وقيل : الرأفة مبالغة في رحمة خاصة هي دفع المكروه وإزالة الضرر قال ) ولا تأخذكم بهما رأفةٌ ) [ النور : 2 ] .
والرحمة اسم جامع خصص أولاً ثم عمم .
والمراد أن الرؤف الرحيم كيف يتصور منه الإضاعة ، أو كيف لا ينقلكم من شرع إلى شرع هو أصلح لكم وإنما هَدى مَنْ هَدَى لأنه بالناس رؤف رحيم ، فمن كان أقبل للفيض كان الأثر عليه أظهر .
قوله عز من قائل ) قد نرى ( معناه كثرة الرؤية ههنا وإن كان في الأصل للتقليل قال :
قد أترك القرن مصفراً أنامله
كأن أثوابه مجت بفرصاد
كما أن ( رب ) في الأصل للتقليل ، ثم قد تستعمل في معنى التكثير كقوله ( فإن تمس مهجور الفناء فربما ) .
أقام به بعد الوفود وفود .
ووجه ذلك أن المادح يستقل الشيء(1/425)
" صفحة رقم 426 "
الكثير من المدائح لأن الكثير منها كأنه قليل بالنسبة إلى الممدوح ومثله ) قد يعلم الله ( فإن المتمدح بكثرة العلم يقول لا تنكر أن أعرف شيئاً من العلم .
) تقلب وجهك ( تردد نظرك في جهة السماء وذلك لانتظار تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة .
عن ابن عباس أنه قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا جبريل وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقد كرهتها ) .
فقال له جبريل عليه السلام : أنا عبد مثلك فسل ربك ذلك .
فجعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يديم النظر إلى السماء رجاء مجيء جبريل بما سأل فنزلت .
وإنما أحب ذلك لأن اليهود كانوا يقولون : إنه يخالفنا ثم إنه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل أو لأن الكعبة كانت قبلة أبيه إبراهيم ولأن ذلك أدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم ، ولأنه أحب أن يحصل هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه ، ولا يبعد أن يميل طبعه إلى شيء ثم يتمنى في قلبه إذذن الله فيه .
وقيل : إنه استأذن جبريل في أن يدعو الله تعالى فأخبره بأن الله قد أذن له في الدعاء ، فكان يقلب وجهه في السماء ينتظر مجيء جبريل للإجابة .
وعن الحسن : أن جبريل أخبره بأن الله تعالى سيحوّل القبلة عن بيت المقدس من غير تعيين للمحول إليها - ولم تكن قبلة أحب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الكعبة - فكان ينتظر الوحي بذلك وعلى هذا فقيل : منع من استقبال بيت المقدس ولم يعين له القبلة وكان يخاف أن يدخل وقت الصلاة ولا قبلة ، فلذلك كان يقلب وجهه عن الأصم .
وقيل : بل وعد بذلك .
وقبلة بيت المقدس باقية بحيث تجوز الصلاة إليها لكن لأجل الوعد كان يقلب طرفه وهذا وإلا لم تكن القبلة ناسخة للأولى بل كانت مبتدأة ، لكن المفسرين أجمعوا على أنها ناسخة للأولى ، لأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلا مع بيان موضع التوجه .
واختلف في صلاته بمكة فقيل : كان يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر أو ثلاثة عشر أو ستة عشر أو سبعة عشر - وهو الأكثر - أو ثمانية عشر أو سنتين أقوال .
وقيل : بل كان بمكة يصلي إلى بيت المقدس إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس .
واختلفوا أيضاً في أن توجه بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره أو كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مخيراً في توجهه إليه وإلى غيره .
فعن الربيع بن أنس أنه كان مخيراً لقوله ) ولله المشرق والمغرب ) [ البقرة : 115 ] الآية .
ولما روي أن قوماً قصدوا الرسول من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة فتوجه بعضهم في الطريق لصلاته إلى الكعبة وبعضهم إلى بيت المقدس ، فلما قدموا سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فلم ينكر عليهم .
وعن ابن عباس أن ذلك كان فرضاً لقوله ) فلنولينك قبلة ترضاها ( فدل على أنه ما كان مخيراً بينها وبين الكعبة .
ومعنى ( فلنولينك ) فلنعطينك(1/426)
" صفحة رقم 427 "
ولنمكننك من استقبالها من قولهم ( وليته كذا ) جعلته والياً له ، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس .
ترضاها تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته .
وعن الأصم : كل جهة وجهك الله إلهيا يجب أن تكون رضاً لا تسخطها كما فعل من انقلب على عقبيه .
وقيل : ترضى عاقبتها لأنك تميز بها الموافق عن المنافق .
) فول وجهك ( أي كل بدنك لأن الواجب على الشخص أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط .
وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء وبه تتميز الأشخاص .
وشطر المسجد الحرام أي نحوه وجهته قاله جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
وعن بعضهم أن الشطر نصف الشيء والكعبة واقعة من المسجد في النصف من جميع الجوانب ، فاختبر هذه العبارة ليعرف أن الواجب هو التوجه إلى بقعة الكعبة ، وزيف بالفرق بين النصف وبين المنتصف والمكلف مأمور بالثاني دون الأول .
عن ابن عباس : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال : إن النبي قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشأم فاستداروا إلى الكعبة .
وفي الموطأ : صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن قدم المدينة ستة عشر شهراً نحو بيت المقدس ثم حوّلت القبلة قبل بدر بشهرين .
واختلفوا في المراد بالمسجد الحرام .
ففي شرح السنة عن ابن عباس أنه قال : البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وهذا قول مالك .
وقال آخرون : القبلة هي الكعبة لما أخرج في الصحيحين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : أخبرني أسامة بن زيد قال : لما دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه ، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال : هذه القبلة .
وقد وردت أخبار كثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة كما قلنا في حديث ابن عمر ، فاستدالوا إلى الكعبة .
وقال آخرون : القبلة هي المسجد الحرام كله .
واعلم أن الواجب عند الشافعي في أظهر قوليه أن يستقبل المصلي عين الكعبة قريباً كان أو بعيداً لظاهر قوله تعالى ) وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ( ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( هذه القبلة ) مشيراً به إلى العين ، ولأن تعظيم الكعبة من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بلغ مبلغ التواتر .
وتوقيف صحة الصلاة وهي من أعظم شعائر الدين على استقبال عين الكعبة مما يوجب مزيد شرف الكعبة ، فوجب أن يكون مشروعاً .
ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم وغيره مشكوك فيه والأخذ بالمعلوم أحوط .
وأما عند أبي حنيفة ويوافقه القول الآخر للشافعي ، فمحاذاة جهة الكعبة كافية لأن في استقبال عين الكعبة حرجاً عظيماً للبعيد ، ولأن في ذكر المسجد(1/427)
" صفحة رقم 428 "
الحرام دون الكعبة دلالة على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين ، ولأن الشطر الجانب واكتفى به في الآية ، ولأن أهل قباء استداروا إلى الكعبة في اثناء الصلاة وفي ظلمة الليل ومن المعلوم أن مقابلة العين من المدينة إلى مكة حيث إنها تحتاج إلى النظر الدقيق لم يتأت لهم حينئذ ، ثم لم ينكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عليهم وسمى مسجدهم بذي القبلتين ، ولأن استقبال عين الكعبة لو كان واجباً ولا سبيل إليه إلا بالدلائل الهندسية فإنها هي المفيدة لليقين وغيرها من الأمارات لا يفيد إلا الظن ، والقادر على اليقين لا يجوز له الاكتفاء بالظن وما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب ، لزم أن يكون تعلم تلك الدلائل واجباً ، ولم يذهب إليه أحد والإنصاف أن القول الأول أقرب غلى التعبد ، وإصابة العين للبعيد غير بعيد ، فما من نقطتين في الأرض ولا في السماء إلا ويمكن أن يوصل بينهما بخط ، والغرض أن يكون المصلي ساجداً على قوس عظيمة أرضية مارّة بقدميه وموضع سجوده ووسط البيت بشرط أن يكون القوس أقل من نصف الدور .
وغير عسير معرفة هذا القدر بالدائرة الهندسية وغيرها من الطرق المشهورة فيما بين أهل الهيئة وقد برهنا على كثير منها في كتبنا النجومية ، وذكرها ههنا خروج عن الصناعة مع أن المتعلم لا ينتفع بها دون مقدماتها .
ولمعرفة القبلة أمارات أخر قد يستعين بها المتحير وهي : إما أرضية وهي الجبال والقرى والأنهار ، أو هوائية وهي الرياح ، أو سماوية وهي النجوم .
أما الأرضية والهوائية فغير مضبوطة لكن ربما يكون في الطريق جبل مرتفع يعلم أنه على يمين المستقبل أو شماله أو قدامه أو خلفه ، وكذلك الرياح قد تهب في بعض النواحي من صوب معين ، وأما السماوية ففي النهار لا بد أن يراعي قبل الخروج عن البلد ، الشمس عند الزوال هي بين الحاجبين أم على العين اليمنى أم على اليسرى أم تميل ميلاً أكثر من ذلك ، فإن الشمس في البلاد الشمالية قلما تعد وهذه المواقع .
وكذلك يراعى وقت العصر ويعرف وقت الغروب أنها تغرب عن يمين المستقبل أو هي مائلة إلى وجهه أو قفاه .
وكذلك يعرف وقت العشاء الاخرة موضع الشفق ، ووقت الصبح مشرق الشمس ، ويحتاط في مشرق الصيف والشتاء ومغربها .
وبالليل يستدل بالكوكب الذي يقال له ( الجدي ) فيعرف أنه على قفا المستقبل أو على منكبه الأيمن أو الأيسر في البلاد الشمالية من مكة وفي البلاد الجنوبية منها بخلاف ذلك .
فإذا عرف هذه الدلائل في بلده فليعول عليها في الطريق كله إلا إذا طال السفر ، فحينئذ إذا انتهى إلى بلد سأل أهل البصيرة أو يراقب هذه الكواكب وهو يستقبل محراب جامع البلد ثم يستدل بها في سائر طريقه .
ومعرفة دلائل القبلة(1/428)
" صفحة رقم 429 "
فرض على العين أم فرض على الكفاية ؟ أصح الوجهين في مذهب الشافعي الأول كأركان الصلاة وشرائطها .
قوله تعالى ) وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ( ليس بتكرار لأن الأول الخطاب للرسول وهذا خطاب للأمة ، أو لأن الأمة قد دخلت في الأول تبعاً .
واحتمل أيضاً أن يكون الخطاب مختصاً بأهل المدينة وفي الثاني عم المكلفين جميعاً في جميع بقاع الأرض .
واعلم أن الاستقبال يتوقف على مستقبل ومستقبل نحوه هو القبلة ، ولا بد من حالة يقع فيها الاستقبال ، فلنتكلم في هذه الأركان الثلاثة على الإجمال وتفصيل ذلك في كتبنا الفقهية .
الركن الأول الحالة : وهي الصلاة للإجماع على أن الاستقبال خارج الصلاة غير واجب وإن كان طاعة لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خير المجالس ما استقبل به القبلة ) والصلاة إما فريضة ويتعين الاستقبال فيها إلا في حالة الخوف ، وإما نافلة ويجب فيها الاستقبال إلا في حالة الخوف ، وفي السفر راكباً أو ماشياً متوجهاً إلى طريقه لما روي عن ابن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي في السفر في راحلته حيث توجهت به .
ويحكى عن أحمد خلاف في الماشي وكذا من أبي حنيفة .
وهل يجب على المتنقل أن يستقبل القبلة عند التحرم ؟ الأصح نعم إن سهل بأن لم تكن مقطرة أو لا حران بها وإلا فلا ، لما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا سافر وأراد أن يتطوع استقبل القبلة بناقته وكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه .
وأم عدم الاشتراط عند الصعوبة فلدفع المشقة واختلال أمر السير عليه ، وأما الاستقبال عند السلام فالأصح أنه لا يشترط كما في سائر الأركان إلا الماشي فعليه الاستقبال في كل ركوع وسجود كما عليه الإتمام بخلاف الراكب فإنه لا يكلف الاستقبال فيهما ولا وضع الجبهة في السجود على السرج أو الإكاف ، بل يقتصر فيهما على الإيماء ويجعل السجود أخفض .
وليس لراكب التعاسيف الذي لا مقصد له رخصة ترك الاستقبال في التنقل .
الركن الثاني القبلة : للمصلي إن وقف في جوف الكعبة وهي على هيئتها مبنية تصح صلاته فريضة كانت أو نافلة خلافاً لأحمد ومالك في الفريضة .
قيل لنا إنه صلى متوجهاً إلى بعض أجزاء الكعبة فتصح صلاته كالنافلة كما يتوجه إليها من خارج ، ثم يتخير في استقبال أي جدار شاء .
ويجوز أن يستقبل الباب أيضاً إن كان مردوداً ، وإن كان مفتوحاً فإن كانت العتبة قدر مؤخرة الرحل صحت صلاته وإلا فلا .
ومؤخرة الرحل ثلثا ذراع(1/429)
" صفحة رقم 430 "
إلى ذراع تقريباً كأنهم راعوا أن يكون في سجوده يسامت بمعظم بدنه الشاخص .
وإن انهدمت الكعبة - حاشاها - وبقي موضعها عرصة فإن وقف خارجها وصلى إليها جاز لأن المتوجه إلى هواء البيت والحالة هذه متوجه نحو المسجد الحرام كمن صلى على أبي قبيس والكعبة تحته يجوز لتوجهه إلى هواء البيت .
ولو صلى في العرصة فالحكم كما لو وقف الآن على سطح الكعبة ، فإن لم يكن بين يديه شاخص من نفس الكعبة قدر مؤخرة الرحل فالأصح أنه لا يجزيه خلافاً لأبي حنيفة .
وإن كان المصلي خارج الكعبة فإن كان حاضر المسجد الحرام وجب عليه لا محالة استقبال عين الكعبة بكل بدنه لأنه قادر عليه ، والإمام يقف خلف المقام استحباباً ، والقوم يقفون مستديرين بالبيت وإلا فصلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة باطلة إلا عند من يرى الجهة كافية .
ولو تراخى الصف الطويل ووقفوا في آخر باب المسجد صحت صلاتهم لأن البعيد تزداد محاذاته .
يتبين ذلك إذا جعلت البيت رأس مثلث متساوي الساقين والصفوف خطوطاً موازية لقاعدته .
وإن كان خارج المسجد فإن كان يعاين القبلة سوّى محرابه بناء على العيان وصلى إليه أبداً .
ومحراب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة نازل منزلة الكعبة لأنه لا يقر على الخطأ فهو صواب قطعاً فيسوّي سائر المحاريب عليه .
وفي معنى المدينة سائر البقاع التي صلى فيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا ضبط المحراب ، وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين .
وفي الطرق التب هي جادتهم يتعين التوجه إليها وكذلك في القرية الصغيرة التي نشأ فيها قرن من المسلمين ، ولا بد من الاجتهاد في التيامن والتياسر ، وأما في محراب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فلا .
ولا يجوز الاجتهاد في الجهة في شيء من محاريب المسلمين لأن الخطأ منهم في الجهة بعيد بخلاف التيامن والتياسر .
ويقال : إن عبد الله بن المبارك كان يقول بعد رجوعه من الحج : تياسروا يا أهل مرو .
الركن الثالث المستقبل : إذا قدر على اليقين بالمعاينة أو بأمارات أخر فلا يجتهد ولا يقلد وإن لم يقدر ، فإن وجد من يخبره عن علم وكان المخبر ممن يعتد بقوله رجع إلى قوله ولم يجتهد أيضاً كما في الوقت إذا أخبره عدل عن طلوع الفجر يأخذ بقوله ولا يجتهد وكذلك في الحوادث إذا روى العدل خبراً يؤخذ به ، وكل ذلك قبول الخبر من أهل الرواية وليس من التقليد في شيء ويشترط في المخبر أن يكون عدلاً يستوي فيه الرجل والمرأة والحر والعبد ، ولا يقبل خبر الكافر بحال وكذا خبر الصبي غير المميز عند الأكثرين .
ثم الإخبار عن القبلة قد يكون صريحاً وذلك ظاهر ، وقد يكون دلالة كما في نصب المحاريب في المواضع التي يعتمد عليها .
ولا فرق في لزوم الرجوع إلى الخبر بين أن يكون الشخص من أهل الاجتهاد وبين أن لا يكون .
فإن لم يجد من يخبره عن علم فإن(1/430)
" صفحة رقم 431 "
قدر على الاجتهاد ولا يتيسر إلا بمعرفة أدلة القبلة كما عددنا اجتهد ولم يقلد كما في الأحكام الشرعية ، ولو فعل يلزمه القضاء ولا فرق في وجوب الاجتهاد ههنا بين الغائب عن مكة والحاضر بها إذا حال بينه وبين الكعبة حائل أصليّ كالجبال أو حادث كالأبنية ، ولو خفيت الدلائل على المجتهد بغيم أو حبس أو تعارضت ، صلّى كيف اتفق لحق الوقت ويقضي .
وإن عجز عن الاجتهاد فإن لم يمكنه التعلم لعدم البصر أو لعدم البصيرة فالواجب عليه التقليد كالعامي في الأحكام ، وتقليد الغير هو قبول قول المستند إلى الاجتهاد بعد أ ، كان المجتهد مسلماً عدلاً عارفاً بأدلة القبلة يستوي فيه الرجل والمرأة والحر والعبد .
فإن وجد مجتهدين مختلفين قلد من شاء منهما ، والأحب أن يقلد الأوثق الأعلم عنده ، وإن أمكنه التعلم فليس له التقليد بناء على ما مر من أن تعلم الأدلة فرض العين .
فإن قلد قضى ، وإن ضاق الوقت عن التعلم صلى لحق الوقت وقضى .
ثم المجتهد إن بان له الخطأ يقيناً أو كان دليل الاجتهاد الثاني أرجح ولم يشرع بعد في الصلاة ، عمل بمقتضى الثاني .
وإن بان بعد الفراغ من الصلاة فإن تيقن الخطأ قضى على الأصح ، وإن ظن لم يقض .
وإن تغير الاجتهاد في أثناء الصلاة انحرف ويبني .
فهذه هي المسائل المستنبطة من الآية التي ذكرناها لأنها من أهم مهمات الدين ) وإن الذين أوتوا الكتاب ( يعني أحبار اليهود وعلماء النصارى لعموم اللفظ ولشمول الكتاب التوراة والإنجيل ، ولكن يجب أن يكونوا أقل من عدد أهل التواتر ليصح عنهم الكتمان .
وعن السدي : أنهم اليهود خاصة ، والكتاب التوراة ، والضمير في أنه الحق إما للرسول أي أنه مع شرعه ونبوته حق يشمل أمر القبلة وغيرها ، وإما لهذا التكليف الخاص وهو أنسب بالمقام ، وذلك أن علماءهم عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول وأنه يصلي إلى القبلتين وأن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام .
وأيضاً أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالمعجزات والبشارات وكل ما أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهو حق ، فهذا التحويل حق .
) وما الله بغافلٍ عما يعملون ( وعد للمتقين ووعيد للناكصين والمعاندين ، ثم بين استمرار أهل الكتاب على عنادهم فقال ) ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب ( قيل : هم جميع اليهود والنصارى لعموم اللفظ ، وقيل : هم علماؤهم المذكورون في الآية المتقدمة لأنهم وصفوا باتباع الهوى في قوله ) ولئن اتبعت أهواءهم ( ومجرد اعتقاد الباطل لا يكفي فيه ، بل الذين بقلوبهم ثم يقولون غير الحق في الظاهر فهم المتبعون للهوى .
ونوقش فيه بأن صاحب كل شبهة صاحب هوى .
قالوا : الآيتان المكتنفتان بهذه الآية مخصوصتان بالعلماء منهم لأن الجمع العظيم لا يجوز منهم الكتمان فكذا هذه الآية .
وأجيب بأنه لا(1/431)
" صفحة رقم 432 "
يلزم من تخصيصهما تخصيصها .
قالوا : أخبر عنهم بالإصرار والاستمرار وهذا شأن المعاند اللجوج لا دأب العامي المتحير .
وردّ بأن المقلد أيضاً قد يصر .
قالوا : الحمل على العموم يكذبه الوجود فإن كثيراً من أهل الكتاب آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) واتبع قبلته .
ووجه بأن المراد من قوله ) ما تبعوا قبلتك ( أنهم لا يجتمعون على الاتباع كقوله ) ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) [ الأنعام : 35 ] وسلب الاجتماع لا ينافي اتباع البعض ) بكل آية ( بكل برهان قاطع على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق ) ما تبعوا قبلتك ( جواب للقسم المحذوف ساد مسد جواب الشرط واللام في ) ولئن ( لتوطئه القسم أي والله لئن أتيتهم بكل برهان ما اجتمعوا على قبلتك لأن فيهم من قد ترك اتباعك لا لشبهة تزيلها بإيراد الحجة بل عناداً ومكابرة مع علمهم بما في كتبهم من نعتك .
ومن خص اللفظ بالعلماء بأن صح عنده أنه لم يتبع منهم أحد قبلتنا لم يحتج إلى هذا التأويل بل يكون ما تبعوا في قوة ما تبع أحد منهم ) وما أنت بتابعٍ قبلتهم ( رفع لتجويز النسخ وبيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة بالتوجه إلى بيت المقدس حسماً لأطماع أهل الكتاب فإنهم طمعوا في رجوعه إلى قبلتهم وقالوا : لو ثبت على قبلتنا كلنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره .
وفيه أنه لا يجب عليه استصلاحهم باتباع قبلتهم لأن ذلك معصية .
وإنما وحد القبلة للعلم بأن لليهود قبلة وللنصارى قبلة أخرى أو لأنهما بحكم الاتحاد في البطلان واحد ) وما بعضهم بتابعٍ قبلة بعض ( إن حمل على الحال فالمعنى أنهم ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن رضاهم باتباعها أو أنهم مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة فكيف يدعونك إلى شيئين مختلفين ؟ أو أنه إذا جاز أن يختلف قبلتاهما للمصلحة فلم لا يجوز أن تكون المصلحة في ثالث ؟ وإن حمل على الاستقبال فالمعنى أن اليهود لا تترك قبلتهم إلى المشرق ، ولا النصارى إلى المغرب ، بحيث تتعطل إحدى القبلتين ، لا أن اليهودي لا يصير نصرانياً أو بالعكس فإن ذلك قد وقع .
أخبر الله تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه محقاً أو مبطلاً ) ولئن اتبعت أهواءهم ( كلام على سبيل الفرض والتقدير لقرينة وما أنت بتابع قبلتهم المعنى لئن اتبعت مثلاً بعد وضوح الدلائل وانكشاف جلية الأمر في باب الديانة ) إنك إذاً ( أي إذا اتبعت لمن المرتكبين الظلم الفاحش لأن صغائر الرجل الكبير كبائر فكيف بكبائره ؟ وفيه أن ترك العمل من العلماء أقبح ، وفيه لطف للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإن مزيد المحبة تقتضي التخصيص بمزيد التحذير ، ولعله كان في بعض الأمور يتبع أغراضهم كترك المخاشنة في القول واستمالة قلوبهم طمعاً منه في إسلامهم ومعاضدتهم ، فنهى عن ذلك القدر أيضاً وآيسه منهم بالكلية .
كقوله ) ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ((1/432)
" صفحة رقم 433 "
[ الإسراء : 74 ] ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) [ التوبة : 73 ] وفيه إشارة للأمة كالرجل الحازم يقبل على أبرّ أولاده وأصلحهم فيزجره عن شيء بحضرة سائر الأولاد والغرض زجرهم وإصلاحهم وأنه لا محالة يؤاخذون بالطريق الأولى لو خالفوه ) الذين آتيناهم الكتاب ( هم علماؤهم بدليل ) يعرفونه ( أي الرسول معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالمشخصات من النعت والنسب والقبلة حسب ما وجدوه في كتبهم ) كما يعرفون أبناءهم ( لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم .
( وما ) مصدرية أو كافة ، والغرض تشبيه عرفان شخصه بعرفان أشخاص الأبناء لا تشبيه العلم بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالعلم ببنوة الأبناء وإلا كان تشبيه المعلوم بالمظنون .
عن عمر أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : أنا أعلم به مني يا بني .
قال : لم ؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي ، فأما ولدي فلعل والدته قد خانت ، فقبل عمر رأسه .
وجاز إضمار الرسول وإن لم يجز له ذكر لدلالة الكلام عليه ، وفيه تفخيم لشأنه وأنه معلوم بغير إعلام ، ولا يصح أن يقال : المراد بالمعرفة معرفتهم الحاصلة من قبل ظهور المعجزات على يده لأنه لا يفيد إلا كونه نبياً وهم لا ينكرون ذلك ، وإنما ينكرون كونه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المنعوت في كتبهم فرد الله عليه ذلك فافهم .
وإنما خص الأبناء بالذكر لأنهم أعرف وأشهر وبصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق ولو تساويا فالذكور أولى بالذكر .
وقيل : الضمير للعلم أو القرآن أو تحويل القبلة وفي الكل تكلف ينبو عنه قوله ) أبناءهم ( ويباينه الحديث عن عبد الله بن سلام ولما كان من علمائهم العارفين بأحوال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من آمن به وأظهر الحق وهو ما يجب القول به ويجب العمل بمقتضاه كعبد الله بن سلام وأتباعه .
قال تعالى ) وإن فريقاً منهم ( يريد من سوى المسلمين المؤمنين منهم ) ليكتمون الحق ( الذي هو أمر محمد أو أمر القبلة ثم أكد ذلك بقوله ) وهم يعلمون ( فإنه لا يوصف بالكتمان إلا من علم المكتوم ) الحق من ربك ( يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق ، ( ومن ربك ) خبر بعد خبر أو حال .
وأن يكون مبتدأ خبره ( من ربك ) .
ثم في اللام يكون وجهان : العهد والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو إلى الحق الذي في قوله ) ليكتمون الحق ( أو الجنس على معنى الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه وما سواه كما يدعيه أهل الكتاب باطل ) فلا تكونن من الممترين ( الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم أو في كون الحق من ربك .
وقد يجوز أ ، ينهى الشخص عما يعلم أنه منته عنه لمثل ما تقرر في قوله ) ولئن اتبعت ( .
) ولكل ( التنوين فيه عوض عن المضاف إليه ، والوجهة اسم الجهة ولذلك ثبتت الواو كما قالوا ( ولدة ) في جمع الوليد الصبي ، وإنما لا تجمع مع الهاء في(1/433)
" صفحة رقم 434 "
المصادر ، وقوله ( هو ( إما أن يعود إلى الكل وإما أن يعود إلى الله .
وثاني مفعولي ) موليها ( محذوف أي هو موليها وجهه ، أو الله موليها إياه .
ثم اختلف في التفسير فقيل : المعنى ولكل أهل دين من الأديان المختلفة قبلة وجهة إما بشريعة وإما بهوى هو مستقبلها ومتوجه إليها لصلاته التي يتقرب بها إلى ربه ، وكل يفرح بما هو عليه ولا يفارقه فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة ، ولستم تؤاخذون بفعل غيركم فإنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم ) فاستبقوا ( أنتم ) الخيرات ( الدنيوية وهي الشرف والفخر بقبلة إبراهيم ، والأخروية وهي الثواب الجزيل المعد للمطيعين .
) وأينما تكونوا ( من جهات الأرض ) يأت بكم الله جميعاً ( في صعيد القيامة فيفصل بين المحق منكم والمبطل والمصيب والمخطئ إنه قادر على ذلك .
وقيل : إن الله تعالى عرفنا أن كل واحدة من بيت المقدس والكعبة قبلة .
فالجهتان من الله تعالى وهو الذي ولى وجوه عباده إليهما فاستبقوا الخيرات بالانقياد لأمره في الحالين ولا تلتفتوا إلى مطاعن السفهاء فإن الله يجمعكم وإياهم يوم القيامة فيحكم بينكم .
وقيل : ولكل قوم منكم يا أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) جهة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية ، فاستبقوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت ) أينما تكونوا ( من الجهات المختلفة ) يأت بكم الله جميعا ( يجمعكم للجزاء ويجعل صلواتكم واحدة كأنها إلى جهة واحدة لمحاذاة الجميع الكعبة .
ولقراءة ابن عامر ) مولاها ( معنيان : أحدهما أن ما وليته فقد ولاك والآخر زينت له تلك الجهة وحببت إليه .
وقيل : ولكل مخلوق قبلة فقبلة المقربين العرش ، وقبلة الروحانيين الكرسي ، وقبلة الكروبيين البيت المعمور ، وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس ، وقبلتك أنت الكعبة ، بل قبلة جسدك هي ، وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس ، وقبلتك أنت الكعبة ، بل قبلة جسدك هي ، وقبلة روحك أنا ، وقبلتي أنت ( أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي ) .
ثم إن الشافعي استدل بقوله ) فاستبقوا الخيرات ( على أن الصلاة في أول الوقت أفضل .
وعند أبي حنيفة : التأخير أفضل إحرازاً لفضيلة الانتظار ولتكثر الجماعة ، ولما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ) وقال ابن مسعود : ما رأيت أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حافظوا على شيء ما حافظوا على التنوير بالفجر .
وأجيب بأن الانتظار قبل مجيء الوقت لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا علي ثلاث لا تؤخرها : الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت ، والأيم إذا وجدت لها كفؤاً ) وأن المراد بالإسفار(1/434)
" صفحة رقم 435 "
والتنوير هو طلوع الفجر الصادق بحيث لا يشك فيه وذلك مما لا نزاع فيه ، وإنما النزاع فيما إذا تحقق دخول الوقت ثم تكاسل المكلف وتثاقل أو بغير أسباب الصلاة تشاغل .
) ومن حيث خرجت ( ومن أي بلد خرجت يا محمد ) فولّ وجهك شطر المسجد الحرام ( إذا صليت ) وإنه ( وإن هذا المأمور به ) للحق ( الذي يجب أن يقبل ويعمل به حال كونه ) من ربك وما الله بغافلٍ عما يعملون ( وعد للمتشاغلين ووعيد للمتغافلين .
واعلم أن أمر التولية ذكره الله تعالى ثلاث مرات ، وللعلماء في سبب التكرير أقوال : أولها : أن الآية الأولى محمولة على أن يكون المكلف حاضر المسجد الحرام ، والثانية على أن يكون غائباً عنه ولكن يكون في البلد ، والثالثة على أن يكون خارج البلد في أقطار الأرض ، فقد يمكن أن يتوهم للقريب من التكليف ما ليس للبعيد فأزيل ذلك الوهم .
وثانيها : أنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر ، وذلك أنه أكد الأول بأن أهل الكتاب يعلمون حقيته بشهادة التوراة والإنجيل ، وأكد الثاني بإخبار الله تعالى عن حقيته وكفى به شهيداً ، وأتبع الثالث غرض التحويل وهو قوله ) لئلا يكون للناس عليكم حجة ( كما أن قوله ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( وأمثال ذلك تكرر حيث نيط بكل منها فائدة .
وثالثها : أن الآية الأولى توهم أن التحويل إنما فعل رضا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وطلباً لهواه حيث قال ) فلنولينك قبلةً ترضاها ( فأزيل الوهم بتكرار الأمر وتعقيبه بقوله ) وإنه للحق من ربك ( أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك وهواك كقبلة اليهود والمنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والتشهي ، ولكنها حق من ربك بعد أنها وافقت رضاك ، وفي الثالثة بيان الغرض .
ورابعها : أن الأولى لتعميم الأحوال والثانية لتعميم الأمكنة ، والثالثة لتعميم الأزمنة إشعاراً بأنها لا تصير منسوخة ألبتة .
وخامسها : الزم هذه القبلة فإنها التي كنت تهواها ، الزم هذه القبلة فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى .
الزم هذه القبلة فبها ينقطع عنك حجج العدا وهذا قريب من الثالث .
وسادسها : هذه الواقعة أولى الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرير لمزيد التأكيد والتقرير .
وسابعها : قلت : الآية الأولى مشتملة على تكليف خاص بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فلنولينك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام ( ثم على تكليف عام له ولأمته ) وحيث ما كنتم(1/435)
" صفحة رقم 436 "
فولوا وجوهكم شطره ( والآية الثانية ) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ( لأجل تكليف أخص وهو تكليف الالتفات عما سوى الله إلى الله وهو تكليف الصدّيقين وهو سنة خليل الرحمن ( صلى الله عليه وسلم ) ) وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ) [ الأنعام : 49 ] ومما يؤيد هذا التأويل تعقيبه بقوله ) وإنه للحق من ربك ( لم يستظهر على هذا إلا بشهادة نفسه حيث لم يبق إلا هو وهو مقام الفناء في الله بخلاف الآية الأولى فإنها أكدت بشهادة الغير .
وأيضاً اقتصر ههنا على أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دون الأمة لأن هذه المرتبة وهي المسجد الحرام - حرام لا يليق بكل أحد جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد .
وأيضاً قدم على الآية قوله ) ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ( فدل على أن المذكور بعدها مرتبة السابقين ) ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) [ فاطر : 32 ] لما كان من المحتمل أن يظن أن التكليف الأخص ناسخ للتكليف الخاص منه والعام له ولأمته ، كرر الآية الأولى بعينها ليعلم أن حكمها باقٍ بالنسبة إلى عموم المكلفين والله تعالى أعلم بحقائق الأمور .
قوله ) لئلا يكون ( أي ولوا لأجل هذا الغرض .
وقال الزجاج : يتعلق بمحذوف أي عرفتكم لئلا يكون الناس عليكم حجة .
و الناس قيل للعموم ، وقيل هم اليهود كانوا يطعنون بأنه يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا ويقولون ما درى محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه .
وقيل : هم العرب قالوا : إنه يقول أنا على دين إبراهيم ، ولما ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم .
وإنما أطلق الحجة على قول المعاندين لأن المراد بها المحاجة ، أو سماها حجة تهكماً أو طباقاً أو بناءً على معتقدهم لأنهم يسوقونها سياق الحجة .
وقد تكون الحجة باطلة قال تعالى ) حجتهم داحضة عند ربهم ) [ الشورى : 16 ] وكل كلام يقصد به غلبة الغير حجة ، وعلى هذا فالاستثناء متصل .
والمراد بالذين ظلموا المعاندون من اليهود القائلون بأنه ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء ، أو بعض العرب القائلون بأن محمداً عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية .
وقيل : الاستثناء منقطع .
وقيل : ( إلا ) بمعنى الواو وأنشد شعر :
وكل أخٍ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان
يعني والفرقدان .
وإذا طعنوا في دينكم من غير ما سببٍ ) فلا تخشوهم ( فإنهم لا يضرونكم ) واخشون ( واحذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم على وفق مصلحتكم ، فعلى المرء أن ينصب بين عينيه في كل أفعاله وتروكه خشية الله ويقطع(1/436)
" صفحة رقم 437 "
الرجاء والخوف عمن سواه .
قوله ) ولأتم ( قيل : معطوف على ) لئلا ( أي حوّلتكم إلى هذه القبلة لحكمتين : إحداهما انقطاع حجتهم ، والثانية إتمام النعمة بحصول شرف قبلة إبراهيم .
وقيل : متعلقة محذوف معناه ولإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك .
وقيل : معطوف على علة مقدرة كأنه قال : واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم وهذا الإتمام لا ينافي ما أنزل في آخر عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) [ المائدة : 3 ] فإن لله تعالى في كل وقت نعمة على المكلفين ولها تمام بحسبها ، فهذا إتمام النعمة في أمر القبلة ، وذاك تمام النعمة في أمر الدين على الإطلاق وعن علي عليه السلام : تمام النعمة الموت على الإسلام .
وفي الحديث ( تمام النعمة دخول الجنة ) ) كما أرسلنا ( ( ما ) مصدرية أو كافة .
ثم إن الجار والمجرور يتعلق بما قبله أو بما بعده .
وعلى الأول قيل : معناه ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف وفي الآخرة بالفوز بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول ، أو لأتم نعمتي ببيان الشرائع ، أو أهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم حيث قال ) ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا ) [ البقرة : 128 ] كما أرسلنا فيكم رسولاً إجابةً لدعوته حيث قال ) ربنا وابعث فيهم رسولاً ) [ البقرة : 129 ] وقيل : معناه كذلك جعلناكم أمة وسطاً كما أرسلنا فيكم رسولاً ، وعلى الثاني معناه كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني أذكركم تارةً أخرى .
وفيه أن نعمه على العبد لا تنقطع ، فكل نعمة سابقة فسيضم إليها أخرى لاحقة حتى يكون له الفضل أولاً وأخيراً وبدايةً ونهايةً .
وفي إرساله فيهم ومنهم أي من العرب نعمة عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف ، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب .
وكون القرآن متلواً من أعظم النعم لأنه معجزة باقية ولأنه يتلى فتتأدى به العبادات ، ولأنه يتلى فتستفاد منه جميع العلوم ، ولأنه يتلى فيوقف على مجامع الأخلاق الحميدة ففي تلاوته خير الدنيا والآخرة .
ومعنى التزكية وتعليم الكتاب والحكمة قد مر في دعاء إبراهيم .
وفي قوله ) يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ( تنبيه على أنه تعالى أرسله على فترة من الرسل وجهالة من الأمر وتحير الناس في أمر الديانة ، فعلمهم ما احتاجوا إليه في صلاح معاشهم ومعادهم وذلك من أعظم أنواع النعم ) فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ( تكليف بأمرين : الذكر والشكر .
وقد مر ذكر الشكر في تفسير الحمد وقوله ( ولا تكفرون ( عطف بالواو ليعلم أن جحود النعمة منهيّ عنه كما أن الشكر مأمور به .
ولو قطع على طريقة قوله :(1/437)
" صفحة رقم 438 "
( أقول له ارحل لا تقيمن عندنا ) لأوهم أن المقصود بالذات هو الثاني والأول في حكم المنحى .
ويحتمل من حيث العربية أن تكون ( لا ) نافية والنون ليست للوقاية ، ومحل الجملة النصب على الحال أي اشكروا لي غير جاحدين لنعمتي .
وأما الذكر فباللسان وهو أن يحمده ويسبحه ويمجده ويقرأ كتابه ، أو بالقلب وهو أن يتفكر في الدلائل على ذاته وصفاته ، وفي الأجوبة عن شبه الطاعنين فيها وفي الدلائل على كيفية تكاليفه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ليعمل بمقتضاها ، ثم يتفكر في أسرار المخلوقات متوصلاً من كل ذرة إلى موجدها ، أو بالجوارح وهو أ ، تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها فارغة عن الأشغال المنهي عنها .
وبهذا الوجه سمى الصلاة ذكراً ) فاسعوا إلى ذكر الله ) [ الجمعة : 9 ] وأما ذكر الله تعالى فلا بد أن يحمل على ما له تعلق بالثواب وإظهار الرضا واستحقاق المنزلة والإكرام فالحاصل اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي ، اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة ، اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة ، اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات ، اذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء ، اذكروني بالمجاهدة أذكركم بالهداية ، اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص ، اذكروني بالعبودية أذكركم بالربوبية ، اذكروني بالفناء أذكركم بالبقاء .
.. .. .. .. .. .. .
.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ( البقرة : ( 153 - 157 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون "
( القراآت )
إنا لله ( بالإمالة فيهما : قتيبة ونصير .
وإنما جازت مع امتناعها في الحروف لكثرة استعمال كلمة الاسترجاع .
الوقوف : ( والصلاة ( ط ) الصابرين ( لا ) أموات ( ط ) لا تشعرون ( 5 ) والثمرات ( ط ) الصابرين ( لا لأن صفتهم ) مصيبة ( لا لأن ( قالوا ) جواب ( إذا ) ) راجعون ( ط لأن ( أولئك ) مبتدأ على الأصح ومن ابتداء بالذين فخبره ( أولئك ) مع ما يتلوه ووقف على الصابرين ولم يقف على ) راجعون ( ) المهتدون ( 5 .
التفسير : أنه تعالى لما أوجب بقوله ) فاذكروني أذكركم واشكروا لي ( جميع الطاعات ورغب بقوله ) ولا تكفرون ( عن جميع المنهيات فإن الشكر بالحقيقة صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه إلى ما أعطاه لأجله ، ندب إلى الاستعانة على تلك(1/438)
" صفحة رقم 439 "
الوظائف بالصبر والصلاة .
فالصبر قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى ، والصلاة إذا اشتملت على مواجب الخشوع والتذلل للمعبود والتدبر لآيات الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، انجر ذلك إلى أداء حقوق سائر الطاعات والاجتناب عن جميع الفواحش والمنكرات ) إن الله مع الصابرين ( بالنصر والتأييد ومزيد التوفيق والتسديد ) ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ) [ مريم : 76 ] وقيل : الصبر الصوم .
وقيل : الجهاد بدليل قوله ) ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ( أي هم أموات بل هم أحياء .
وعلى الوجه الأول كأنه قيل : استعينوا بالصبر والصلاة في إقامة ديني وسلوك سبيلي ، فإن احتجتم في ذلك إلى مجاهدة عدوّي بأموالكم وأنفسكم فتلفت فإن قتلاكم أحياء عندي ، من قتله محبته فديته رؤيته .
ثم إن أكثر المفسرين على أنهم أحياء في الحال ، فمن الجائز أن يجمع الله تعالى من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم وإن كانت في حجم الذرة فيرى معظم جسد الشهيد ميتاً فلا يحس بحياته وإليه الإشارة بقوله ) ولكن لا تشعرون ( ومما يؤيد هذا القول الآيات الدالة على إثبات عذاب القبر ) النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ) [ غافر : 46 ] ( أغرقوا فأدخلوا ناراً ) [ نوح : 25 ] والفاء للتعقيب وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفرة النيران ) .
ولم يزل أرباب القلوب يزورون قبور الشهداء ويعظمونها .
وقيل : المعنى لا تسموهم بالأموات وقولوا لهم الشهداء الأحياء .
أو المراد : قولوا لهم أحياء في الدين وإنهم على هدى ونور من ربهم لا كما يزعم المشركون أنهم ليسوا من الدين في شيء أو لا تقولوا مثل ما يقول منكرو البعث إنهم لا ينشرون وقد ضيعوا أعمارهم ، ولكنهم سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة .
وعلى هذه الوجوه لا يبقى لتخصيص الشهداء بكونهم أحياء فائدة وكذا لقوله مع المؤمنين ولكن لا تشعرون .
وقيل : إن الثواب وكذا العقاب للروح لا للقالب ، لأنه مدرك للجزئيات أيضاً فلا يمتنع أن يتألم ويلتذ .
ثم إنه سبحانه يرد الروح إلى البدن في القيامة الكبرى حتى يضم الأحوال الجسمانية إلى الإدراكات الروحانية .
عن ابن عباس أن الآية نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار .
وعن كعب بن مالك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة ) أي تأكل ) ولنبوكم ( ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم هل تصبرون(1/439)
" صفحة رقم 440 "
وتثبتون على ما أنتم عليه من أداء حقوق الطاعة وتسلمون لأمر الله وحكمه ، أم تنقلبون على أعقابكم وتظهرون الجزع على استرداد ما يدكم فيه يد المستعير ؟ أمر أولاً بالشكر على إكمال الشرائع ، ثم بالصبر على التكاليف الدينية ، ثم حض على التثبت عند طروق النوائب وبروق المصائب ، ومعنى ) بشيء ( بيان من هذه الأشياء وأيضاً لو قال ( بأشياء ) لأوهم أن من كل واحد من الخوف وغيره ضروباً وليس بمراد .
وفيه أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل هو بالنسبة إليه ، وفيه أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم .
واعلم أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب فإذا خطر ببالك وهو قد مضى سمي ذكراً وتذكراً ، وإن كان في الحال سمي ذوقاً ووجداً لأنها حالة تجدها من نفسك ، وإن تعلق بالاستقبال وغلب خطوره على قلبك سمي انتظاراً وتوقعاً ، فإن كان المنتظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقاً ، وإن كان محبوباً سمي ذلك ارتياحاً والارتياح رجاء .
وأما الجوع فالمراد منه القحط وتعذر تحصيل القوت .
عن عطاء والربيع بن أنس : أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الهجرة وقد حصل لهم عند مكاشفة العرب خوف شديد بسبب الدين ، فكانوا لا يأمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم وقد كان من الخوف في وقعة الأحزاب ما كان ) هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً ) [ الأحزاب : 11 ] وأما الجوع فقج أصابهم في أول مهاجرة النبي إلى المدينة لقلة أموالهم حتى إنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يشد الحجر على بطنه .
وقد روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) خرج ذات يوم فالتقى مع أبي بكر فقال : ما أخرجك ؟ قال : الجوع .
قال : أخرجني ما أخرجك وكانوا ينفقون أموالهم في الاستعداد للجهاد ثم يقتلون .
فهناك يحصل النقص في المال والنفس ، وقد يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزاد ) ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ( إلى قوله ) إلا كتب لهم به عملٌ صالح ) [ التوبة : 120 ] وقد يكون النقص في النفس بموت الإخوان والأخدان .
وإما نقص الثمرات فقد يكون بالجدوب وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد .
وعن الشافعي : الخوف خوف الله ، والجوع صيام شهر رمضان ، والنقص من الأموال الزكوات والصدقات ، ومن الأنفس الأمراض ، ومن الثمرات موت الأولاد .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة أقبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم .
فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه ؟ فيقولون : نعم .
فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع فيقول الله : ( ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد ((1/440)
" صفحة رقم 441 "
) ونقص ( عطف على ) شيء ( ويحتمل أن يعطف على الخوف بمعنى وشيء من نقص الأموال .
و الخطاب في ) وبشر ( لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو لكل من يتأتى منه البشارة .
قال الإمام الغزالي رحمه الله : الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم لنقصانها ، فليس لشهواتها عقل يعارضها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبراً ، ولا في الملائكة فليس لعقلهم شهوة تصرفهم عن الاشتغال بخدمة الكبير المتعال وتمنعهم عن الاستغراق في مطالعة حضرة ذي الجلال .
وأما الإنسان فإنه في الصبا بمنزلة البهيمة ليس له إلا شهوة الغذاء ، ثم شهوة اللعب بعد حين ، ثم شهوة النكاح لكنه إذا بلغ انضم له مع الشهوة الباعثة على اللذات العاجلة عقل يدعوه إلى الإعراض عنها والإقبال على تحصيل السعادات الباقية ، فيقع بين داعيتي العقل والشهوة تضاد قصد العقل إياها هو المعنى بالصبر .
وإنه ضربان : بدني فعلاً كتعاطي الأعمال الشاقة ، أو انفعالاً كالثبات على الآلام ، ونفساني وهو منع النفس عن مقتضيات الطبع ، فإن كان حبساً عن شهوة البطن والفرج سمي عفة ، وإن كان احتمال مكروه ، فإن كان من مصيبة خص باسم الصبر ويضاده حالة هي الجزع وهي إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت وضرب الخد وشق الجيب ونحوها ، وإن كان في حال الغنى سمي ضبط النفس ، ويضاده حالة البطر .
وإن كان في حال مبارزة الأقران سمي شجاعة ويضاده الجبن ، وإن كان في كظم الغيظ والغضب يسمى حلماً ويضاده النزق ، وإن كان في نائبة من النوائب سمي سعة الصدر ويضاده الضجر وضيق الصدر ، وإن كان في إخفاء كلام يسمى كتمان النفس ، وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً وضده الحرص ، وإن كان على قدر يسير من المال سمي قناعه ويضاده الشره .
وليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ولا أن لا يكره ذلك فإنه غير ممكن ، وإنما الصبر على المصيبة هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع .
ولا بأس بظهور الدمع وتغير اللون فإن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكى على إبراهيم ابنه فقيل له في ذلك فقال ( إنها رحمة ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ) .
ثم قال ( العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ) .
ثم الصبر عند الصدمة الأولى وإلا سمي سلواً وهو مما لا بد منه ولهذا قيل : لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه .
وقد وصف الله تعالى الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً وأضاف أكثر الخيرات إليه فقال ) وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا ) [ السجدة : 27 ] ( وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ) [ الأعراف : 137 ] ( ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) [ النحل : 96 ] ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) [ الزمر : 10 ] فما من طاعةٍ إلا وأجرها مقدر إلا الصبر ،(1/441)
" صفحة رقم 442 "
ولأن الصوم من الصبر قال تعالى في الحديث القدسي ( الصوم لي ) فأضافه إلى نفسه ووعد الصابرين بأنه معهم فقال ) واصبروا إن الله مع الصابرين ) [ الأنفال : 46 ] وعلق النصرة بالصبر فقال ) إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة ) [ آل عمران : 125 ] وجمع للصابرين أموراً لم يجمعها لغيرهم ) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ( وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الصبر نصف الإيمان ) أن الإيمان لا يتم إلا بترك ما لا ينبغي ، والإتيان بما ينبغي والاستمرار على كل منهما إنما يتأتى بالصبر .
فكل الإيمان صبر إلا أن كل واحدٍ منهما قد يكون مطابقاً لمقتضى الشهوة فلا يحتاج فيه إلى الصبر ، فلهذا عاد إلى النصف .
وقد جاء ( الإيمان هو الصبر ) وذلك كقوله ( الحج عرفة ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ) وقال : ( يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر فيقول نعم يا رب فيقول تعالى لقد أنعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت لأضعفنّ لك الأجر فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين ) ومن فضيلة الصبر أن قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ) فإن المشبه به يجب أن يكون أقوى كما قال ( شارب الخمر كعابد الوثن ) وروي أن سليمان يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفاً لمكان ملكه ، وآخر أصحابي دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه .
وفي الخبر : أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد .
وأول من يدخله أهل البلاء إمامهم أيوب .
ثم إن الله تعالى بيّن أن الإنسان كيف يكون صابراً وأنه متى يستحق البشارة فقال ) الذين إذا أصابتهم مصيبة ( هي من الصفات الغالية التي لا تكاد تستعمل موصوفاتها وتختص من بين ما يصيب الإنسان بحالة مكروهة كالنازلة والواقعة والملمة ، وإنما نكرت لتشمل كل مضرة تناله من قبل الأسباب السماوية والأرضية المنتهية إلى مسبب الأسباب بواسطة ظاهرة أو خفية ) قالوا : إنا لله ( إقرار بالعبودية ) وإنا إليه راجعون ( تفويض للأمر إليه كما يقال : إن الملك والدولة رجع إلى فلان لا يراد الانتقال بل القدرة وترك المنازعة ) إنا لله ( اعتراف منا له بالملك ) وإنا إليه راجعون ( إقرار على(1/442)
" صفحة رقم 443 "
أنفسنا بالهلك ) إنا لله ( إشارة إلى المبدأ ) وإنا إليه راجعون ( تصريح بالمعاد .
) إنا لله ( إعلام بالفناء فيه ( وإنا إليه راجعون ( إشعار بالبقاء به .
) إنا لله ( إيمان بقضائه ) وإنا إليه راجعون ( إيمان بقدره .
واعلم أن الرضا بالقضاء إنما يحصل للعبد من الله تعالى بطريقين : الصرف أو الجذب أما الصرف فمتى مال قلبه إلى شيء والتفت خاطره إليه جعله تعالى منشأ للآفات لينصرف وجه قلبه من عالم الحدوث إلى جانب القدس ، كما أن آدم لما تعلق قلبه بالجنة جعلها محنة عليه حتى زالت الجنة فبقي آدم مع ذكر الله .
ولما استأنس يعقوب بيوسف أوقع الفراق بينهما فبقي يعقوب مع ذكر الحق .
ولما طمع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل مكة في النصرة والإعانة صاروا من أشد الناس بغضاً له فأخرجوه .
وقد لا يجعل ذلك الشيء بلاء ولكن يرفعه من البين حتى لا يبقى لا البلاء ولا الرحمة ، فحينئذ يرجع العبد إلى الله .
وقد يتوقع العبد من جانب خيراً فيعطيه الله تعالى ذلك بلا واسطة فيستحي العبد فيرجع إلى الله .
وأما الجذب فجذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين .
ومن جذبه الحق إلى نفسه صار مغلوباً لأن الحق غالب فتصير الربوبية غالبة على العبودية ، والحقيقة مستعلية على المجاز ، كالعبد الداخل على السلطان المهيب ينصرف فكره إليه ويشتغل بالكلية عمن سواه ويصير فانياً عن نفسه وعن حظوظها فيحصل له مرتبة الرضا بأقضية الحق سبحانه من غير أن يبقى في طاعته شبهة المنازعة .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه ( وروي أنه طفئ سراج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ) إنا لله وإنا إليه راجعون ( فقيل : أمصيبة هي ؟ قال : نعم .
كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة .
وعن أم سلمة أن أبا سلمة حدثها أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به ) من قوله ( ) إنا لله وإنا إليه راجعون ( اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني منها وعوّضني خيراً منها ألا أجره الله عليها وعوضه خيراً منها ) .
قالت : فلما توفي أبو سلمة ذكرت هذا الحديث وقلت : هذا القول فعوّضني الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) .
وعن ابن عباس : أخبر الله تعالى أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع عند مصيبته كتب الله تعالى له ثلاث خصال : الصلاة من الله والرحمة وتحقيق سبيل الهدى .
وعن عمر قال : نعم العدلان ) إنا لله وإنا إليه راجعون ( ) أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمة ( ونعم العلاوة ) وأولئك هم المهتدون ( .
قيل : الصلوات من الله الثناء والمدح والتعظيم ،(1/443)
" صفحة رقم 444 "
والرحمة النعم العاجلة والآجلة .
وقيل : الصلاة الحنو والتعطف وضعت موضع الرأفة كقوله ) رأفة ورحمة ( ) رؤف رحيم ( والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة ايّ رحمة ) وأولئك هم المهتدون ( لطريق الصواب والفائزون بالكرامة والثواب ، أو هم المستمسكون بآدابه المستنون بما ألزم وأمر وفي الآية حكمان : فرض ونفل .
فالفرض هو التسليم لأمر الله تعالى والرضا بقضائه والصبر على أداء فرائضه لا يصرفه عنها مصائب الدنيا ، والنفل قوله ) إنا لله وإنا إليه راجعون ( فإن في إظهاره فوائد منها : أن غيره يقتدي به إذا سمعه ، ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله تعالى والثبات على طاعته .
وأما الحكمة في تقديم تعريف الابتلاء فهي أن يوطنوا نفوسهم لهذه المصائب إذا وردت فتكون أبعد من الجزع .
وأيضاً إذا علموا أنه سيصل إليهم تلك المحن اشتد حزنهم فيكون ذلك الحزن تعجيلاً للابتلاء فيستحقون بذلك مزيد الثواب .
وأيضاً إذا أخبروا بوقوع هذا الابتلاء ثم وقع كان ذلك إخباراً بالغيب فيكون معجزةً .
وأيضاً فيه تنفير وتمييز له عن الموافق .
كما أن الحكمة في نفس الابتلاء أيضاً ذلك .
دعوى الإخاء على الإخاء كثيرة
بل في الشدائد تعرف الإخوان
إذا قلت أهدى الهجر إن خلل البلى
يقولون لولا الهجر لم يطب الحب
وإن قلت كربي دائمُ قالت إنما
يعدّ محباً من يدوم له الكرب
وإن قلت ما أذنبت قالت مجيبةً
حياتك ذنب لا يقاس به ذنب
( البقرة : ( 158 - 162 ) إن الصفا والمروة . . . .
" إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون "
( القراآت )
من يطوع ( بتشديد الطاء والجزم : حمزة وعلي وخلف وزيد ورويس الباقون : بالتاء والتخفيف وفتح الآخر على المضي .
الوقوف : ( شعائر الله ( ج للشرط مع فاء التعقيب ) بهما ( ط لأن التطوع خارج عن موجب كونهما من شعائر الله فكان استئناف حكم ) عليم ( ، ) في الكتاب ( لا لأن ( أولئك ) خبر ( إن ) ) اللاعنون ( لا للاستثناء ) أتوب عليهم ( ج لاحتمال الواو للاستئناف والحال ) الرحيم ( 5 ) أجمعين ( لا لأن ( خالدين ) حال عامله معنى الفعل في اللعنة أي(1/444)
" صفحة رقم 445 "
لعنهم الله حتى قرأ الحسن ) والملائكة ( وما بعده بالرفع ) فيها ( ج لأن ما بعده حال بعد حال واستئناف إخبار ) ينظرون ( 5 .
التفسير : إن في تعليق الآية بما قبلها وجوهاً منها : أن السعي بين الصفا والمروة من شرائع إبراهيم عليه السلام كما مر في قصة هاجر ، فذكر عقيب تحويل القبلة الذي فيه إحياء شرع إبراهيم .
ومنها أنه من آثار هاجر وإسماعيل ، وفيه تذكير لما جرى عليهما من البلوى وحسن عاقبتهما ، فناسب أن يردف آية الابتلاء ليعلم أن من صبر على البلوى نال الدرجة العليا في الدنيا والعقبى .
ومنها أن أقسام التكاليف ثلاثة : أولها ما يهتدي العقل إلى حسنه كشكر المنعم وذكره وأشير إلى ذلك بقوله ) فاذكروني أذكركم واشكروا لي ) [ البقرة : 152 ] وثانيها ما ركز في العقول قبحه والنفور عنه كالآلام والفقر والمحن فإنه تعالى يتألم منه إلا أن الشرع لما ورد به وبين الحكمة فيه وهي الابتلاء والامتحان فحينئذ يعتقد المسلم حسنه وكونه حكمة وصواباً وذلك قوله ) ولنبلونكم ) [ البقرة : 155 ] الآية ، وثالثها ما ليس يهتدي العقل غلى حسنه ولا إلى قبحه بل يراه كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرة فيأتي به تعبداً محضاً وهو أكثر أفعال الحج من السعي ورمي الجمار ونحوهما ، فذكرت طرق من هذا القسم عقيب القسمين الأولين تتميماً للأحكام واستيفاءً لجميع الأقسام .
والصفا والمروة هكذا باللام علمان للجبلين المعروفين بمكة - زادها الله شرفاً .
والصفاة في اللغة صخرة ملساء وفي المثل ( ما تندى صفاته ) والجمع صفا مقصور وأصفاء وصفي على ( فعول ) وإذا نعتوا الصخرة قالوا ( صفاة صفواء ) وإذا ذكروا قالوا ( صفا صفوان ) قال تعالى ) كمثل صفوان عليه تراب ) [ البقرة : 264 ] وعن الأصمعي : المرو حجارة بيض براقة يقدح منها النار ، الواحدة مروة .
والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة .
وذلك أن السعي بين الجبلين من أعلام دين الله ، أوهما من متعبداته .
وقد شرعه الله تعالى لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولإبراهيم عليه السلام قبل ذلك كما مر قوله ) وأرنا مناسكنا ) [ البقرة : 138 ] وليس السعي عبادة تامة في نفسه وإنما يصير عبادة إذا كان بعضاً من أبعاض الحج فلهذا قربن بقوله ) فمن حج البيت أو اعتمر ( والحج لغة القصد .
رجل محجوج أي مقصود وهو أيضاً كثرة الاختلاف والتردد ، وحج فلان فلاناً إذا أطال الاختلاف إليه .
ثم غلب استعماله في القصد إلى مكة للنسك .
والحاح يأتي البيت أولاً ليعرفه ثم يعود إليه للطواف ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم يعود إليه لطواف الصدر .
ومنه محجة الطريق لكثرة تردد الناس فيها .
والاعتمار لغة الزيارة .
فالمعتمر يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ثم ينصرف كالزائر يزور ثم ينصرف .(1/445)
" صفحة رقم 446 "
والعمرة اسم من الاعتمار غلبت على النسك المعروف .
والجناح الحرج والإثم من قولهم ( جنح لكذا ) أي مال إليه ، كأن صاحبه مال إلى الباطل .
أو لأن الناس يميلون إلى صاحبه بالمطالبة ثم قوله ) لا جناح عليه ( يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح .
وظاهر الآية لا يدل على أحد الثلاثة بالتعيين فلهذا اختلف العلماء في أن السعي واجب أم لا ، متمسكين بدلائل أخر .
فعن الشافعي أنه ركن ولا يقوم الدم مقامه لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا ) وليس المراد منه العدو بل الجد والاجتهاد في ذلك المشي بحيث لا يفوت لقوله تعالى ) فاسعوا إلى ذكر الله ) [ الجمعة : 9 ] ولما ثبت أنه ( صلى الله عليه وسلم ) سعى فيجب علينا اتباعه لقوله تعالى ) واتبعوه ( ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خذوا عني مناسككم ) والأمر للوجوب .
وعن أبي حنيفة أنه ليس بركن ولكنه واجب وعلى تاركه دم .
وعن ابن الزبير وابن عباس وأنس : أنه تطوع وليس علىتاركه شيء لأن رفع الحرج دليل الإباحة لقوله بعد ذلك ) ومن تطوع خيراً ( أجاب الشافعي بما يروى أنه كان على الصفا أساف وعلى المروة نائلةٍ وهما صنمان .
كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما ، فلما طالت المدة عبدا من دون الله فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما ، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية وأن يكون عليهم جناح في ذلك فرفع عنهم الجناح .
فالإباحة تنصرف إلى وجود الصنمين حال السعي لا إلى نفس السعي كما لو كان على الثوب نجاسة يسيرة عند أبي حنيفة ، أو دم البراغيث عندنا ، فيقال : لا جناح عليك أن تصلي فيه .
فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة لا غلى نفس الصلاة ، ولهذا قال عروة لعائشة : أرى أنه ما على أحد من جناح أن يطوف بالصفا والمروة ، قالت : بئسما قلت يا ابن أختي ، إن هذه لو كانت على ما أولتها كانت ( لا جناح عليه أن يطوّف بهما ) وأصل ( يطوف ) ( يتطوف ) فأدغم كمن قرأ ( يطوع ) بالتشديد وأصله ( يتطوع ) والتطوع ما ترغب من ذات نفسك من غير إيجاب عليك .
ومن قال : إن السعي واجب فسر هذا التطوع بالسعي الزائد على قدر الواجب .
وعن الحسن : المراد منه جميع الطاعات .
وهذا أولى لعموم اللفظ ) فإن الله شاكر ( ، أي مجازيهم على الطاعة سمي جزاء الطاعة شكراً تشبيهاً بجزاء النعمة ، وفيه تلطف العباد مثل ) من ذا الذي يقرض الله ) [ البقرة : 245 ] كأنه يقول : إني وإن كنت غنياً عن طاعتك إلا أني أجعل لها من الموقع ما لو صح عليّ أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل .
) عليم ( بالسرائر(1/446)
" صفحة رقم 447 "
فيوفي كل ذي حق حقه .
وهو وعد ليناسب قرنية الشكر وإن كان أيضاً يحتمل التحذير من الإخلال بوظائف الإخلاص في العبادة ) إن الذين يكتمون ( كلام مستأنف يتناول كل من كتم شيئاً من الدين .
وقيل : هم أهل الكتاب .
وقيل : اليهود خاصة لما روي عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار سألوا نفراً من اليهود عما في التوراة من صفته ( صلى الله عليه وسلم ) ومن الأحكام فكتموا فنزلت ، والأول أولى لعموم اللفظ ، ولأن خصوص السبب لا يوجب خصوص الحكم ، ولأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فلا ريب أن كتمان الدين يناسب استحقاق اللعن من الله تعالى فيعم الحكم حسب عموم الوصف .
ولا يخفى أنَّ القرآن قبل صيرورته متواتراً يمكن كتمانه ، والمجمل من القرآن إذا كان بيانه بخبر الواحد يجري فيه الكتمان .
وكذا القول فيما يحتاج إليه المكلف من الدلائل العقلية ، ولأن جماعة من الصحابة حملوه على العموم .
عن عائشة أنها قالت : من زعم أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله والله تعالى يقول ) إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات ( فحملت الآية على العموم .
وعن أبي هريرة قال : لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثاً بعد أن قال الناس : أكثر أبو هريرة وتلا ) إن الذين يكتمون ( قال بعض المحققين : الكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره لأنه متى لم يكن كذلك لا يعد كتماناً .
فلما كان ما أنزل الله من البينات والهدى من أشد ما يحتاج إليه في الدين ، وصف من علمه ولم يظهره بالكتمان كما يوصف أحدنا في أمور الدنيا بالكتمان إذا كانت مما تقوى الدواعي على إظهارها .
وعلى هذا الوجه يمدح من يقدر على كتمان السر لأن الكتمان مما يشق على النفس .
وفي الآية دليل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم ، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته ، والمراد بالبينات كل ما أنزله على الأنبياء كتاباً ووحياً دون أدلة العقل .
والهدى يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية ، لأن الهدى الدلالة فيعم الكل .
وبعبارة أخرى الأول هو التنزيل ، والثاني ما يقتضيه التنزيل من الفوائد .
ولقوله ) من بعد ما بيناه للناس في الكتاب ( فيشمل كون خبر الواحد والإجماع والقياس حجة لأن الكتاب دل على هذه الأمور .
وهذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين ، لأنه إذا أظهره البعض صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصوف إليه ولم يبق مكتوماً ، وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقين إظهاره مرة أخرى .
وقيل : لم لا يجوز أن يكون كل واحد منهياً عن الكتمان مأمور بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر الخبر ؟ وأجيب بأن هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان إلا وهم فمن يجوز عليهم الكتمان ومن جاز منهم التواطؤ على الوضع والافتراء ، فلا يكون خبرهم موجباً للعلم .
ومن الناس من يحتج بالآية على وجوب قبول خبر الواحد(1/447)
" صفحة رقم 448 "
لأن وجوب الإظهار دل على وجوب العمل بالذي أظهر لا سيما وقد قال ) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا ( فحكم بوقوع البيان بخبرهم .
واستدل بالآية أيضاً على عدم جواز أخذ الأجرة على التعليم لأنها دلت على وجوب التعليم ولا أجرة على أداء الواجب .
وقيل في الكتاب أي في التوراة والإنجيل من نعت الرسول ومن الأحكام .
والمعنى أنا لخصناه بحيث لم ندع فيه موضع إشكال فعمدوا إلى ذلك المبين الملخص فكتموه ولبسوا على الناس .
وقيل : أراد بالمنزل الأول كتب الأولين وبالهدى القرآن ) أولئك ( تبعيد لهم عن درجة الاعتبار ) يلعنهم الله ( يبعدهم عن كل خير ) ويلعنهم ( يدعو عليهم باللعن ) اللاعنون ( الذين يتأتى منهم اللعن ويعتدّ بلعنهم من الملائكة وصالحي الثقلين .
وقيل : يدخل فيهم دواب الأرض وهوامها فإنها تقول : منعنا القطر بشؤم معاصي بني آدم .
واللاعنون دون اللاعنات تغليب للعقلاء : وإذا قيل : هم الهوام فقط فالتذكير لأنه تعالى وصفهم بصفات العقلاء مثل ) والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) [ يوسف : 4 ] ( يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ) [ النمل : 18 ] ( وقالوا لجلودهم لم شهدتم ) [ فصلت : 21 ] وقيل : كل شيء سوى الثقلين بتقدير أنها لو كانت عاقلة كانت تلعنهم ، أو لأنها في الآخرة إذا أعيدت وجعلت من العقلاء فإنها تلعن من فعل ذلك في الدنيا ومات عليه .
وقيل : إن أهل النار يلعنونهم أيضاً لأنهم كتموهم الدين ) كلما دخلت أمة لعنت أختها ) [ الأعراف : 38 ] وعن ابن مسعود : إذا تلاعن المتلاعنان وقعت اللعنة على المستحق ، فإن لم يكن مستحق رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله سبحانه .
وعن ابن عباس : أن لهم لعنتين : لعنة الله ولعنة الخلائق .
قال : وذلك إذا وضع الرجل في قبره فيسأل ما دينك ومن نبيك ومن ربك ؟ فيقول : لا أدري .
فيضرب ضربة يسمعها كل شيء إلا الثقلين فلا يسمع شيء صوته إلا لعنه ويقول له الملك : لا دريت ولا تليت ) إلا الذين ( استثناء منهم ، وفيه من الرحمة ما فيه .
وقد مر أن التوبة عبارة عن الندم على فعل القبيح لقبحه لا لغرض سواه ، فإن من ترك رد الوديعة ثم ندم لأن الناس لاموه أو لأن الحاكم رد شهادته لم يكن تائباً ) وأصلحوا ( ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم ) وبينوا ( ما كتموه أو بينوا للناس ما أحدثوه من توبتهم ليعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به ويقتدى بهم غيرهم من المفسدين ) فأولئك أتوب عليهم ( أقبل توبتهم بأن أسقط عنهم تجملاً وأضع مكانه الثواب تفضلاً بدلالة قوله ) وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا ( عام في كل من كان كذلك .
وقيل : مخصوص بهؤلاء الكاتمين .
ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً إذا لم يتوبوا على هذا القول يكون إطلاق الكفر عليهم - وهم من أصحاب الكبائر - مجازاً(1/448)
" صفحة رقم 449 "
تغليظاً ، أو يراد بالكفر جحود الحق وستره .
والمراد بالناس اللاعنين من يعتد بلعنه وهم المؤمنون أجمعون ، وقيل : يوم القيامة يلعن بعض الكفار بعضاً فيعم المؤمن والكافر .
وقيل : لعن الجاهل والظالم مقرر في العقول حتى إن الظالم قد يلعن نفسه إذا تأمل في حاله .
وقيل : وقوع اللعن محمول على استحقاق اللعن ، على من مات كافراً وإن زال التكليف عنه بالموت على أن الكافر إذا جن لم يكن زوال التكليف عنه بالجنون مسقطاً للعنه والبراءة منه ، وكذلك سبيل ما يوجب المدح والموالاة من الإيمان والصلاح إذا مات صاحبه أو جن لا يغير حكمه عما كان عليه قبل حدوث الحال .
وفي الآية دليل على أن الأمور بخواتيمها ، وأنه إذا كفر ومات لا على الكفر لم يكن ملعوناً ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط ) خالدين فيها ( في اللعنة .
وقيل : في النار .
وأضمرت وإن لم يجر لها ذكر تفخيماً لشأنها وتهويلاً لمكانها .
والأول أولى لتقدم ذكره لفظاً ، ولأن اللعنة تشمل النار وزيادة ، ولأنها تصح في الحال والمآل جميعاً بخلاف النار فإنها في الاستقبال .
فمن فسر ( الذين كفروا ) بالكاتمين وجوّز الخلاص على صاحب الكبيرة فسر الخلود بالمكث الطويل وقد سلف مثل ذلك ) لا يخفف عنهم العذاب ( بل يتشابه في الأوقات باقياً على المبلغ الذي أتيح له حسب ما استحقه ) ولا هم ينظرون ( إذا استنظروا من الإنظار الإمهال ، أو لا ينظرون ليعتذروا ، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة أعاذنا الله تعالى من تلك الحالة بعميم فضله وجسيم طوله .
التأويل : الصفا للسر ، والمروة للروح ، والسالك بينهما يسعى .
ففي صفا السر يقطع التعلقات عن الكونين وهو التعظيم لأمر الله ، وفي مروة الروح يوصل الخير إلى أهله وعياله ونفسه لمراقبة أحوال الباطن ومزاولة أعمال الظاهر وهو الشفقة على خلق الله ، ومعنى سبع مرات أن تصل بركات سعيه إلى سبعة آرابه في الظاهر وإلى سبعة أطواره في الباطن وإلى سبعة أقاليم العالم لقوله تعالى ) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ) [ النجم : 39 ، 40 ] .
ومن كمال رأفته بأهل محبته أن جعل آثار أقدامهم أشرف الأمكنة ، وساعات أيامهم أعز الأزمنة .
فإلى تلك المعاهد والأطلال تشد الرحال ، وتلك المشاهد والآثار تعظم وتزار .
أهوى هواها لمنقد كان ساكنها
وليس في الدار لي هم ولا وطر
حسبي الله ونعم الوكيل .
( البقرة : ( 163 - 164 ) وإلهكم إله واحد . . . .
" وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث(1/449)
" صفحة رقم 450 "
فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون " (
القراآت : ( لا إله إلا هو ( بالمد وكذلك جميع التهليل .
روى الهاشمي عن ابن كثير لورود الأثر في هذه الكلمة وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قال لا إله إلا الله ومدها غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) وروى أبو الفرج عن قتيبة ( إلا ) هو بالإمالة حيث كان .
) الريح ( مفرداً : حمزة وعلي وخلفٍ .
الباقون : الرياح مجموعاً .
الوقوف : ( واحد ( ج نظراً إلى أن ما بعده وصف آخر .
وإلى الاختلاف بالنفي والإثبات ) الرحيم ( 5 ) من كل دابة ( ص ضرورة طول الآية وإلا فاسم ( إن ) ) لآيات ( والجار وما يتصل به معترض ، والأولى الوصل والرجوع .
) يعقلون ( 5 .
التفسير : الواحد قد يكون اسماً وذلك في العدد واحد ، اثنان ، ثلاثة .
وقد يكون صفة كقولك ( شخص واحد ) ومعناه أنه لا ينقسم من جهة ما قيل : له إنه واحد .
فالإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم من حيث هو إنسان ، لأن الإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم غلى إنسانين ، بل قد ينقسم إلى الأبعاض والأجزاء وذلك من جهة أخرى .
ثم زعم قوم أن الواحدية صفة زائدة على الذات لأن الجوهر قد يشارك العرض في كونه واحداً لا يشاركه في كونه جوهراً فقط ، ولأنه يصح تعقل الجوهر مع الذهول عن كونه واحداً ، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، ولأن قولنا ( الجوهر واحد ) ليس يجري مجرى قولنا ( الجوهر جوهر ) ولأن مقابل الجوهر العرض ، ومقابل الواحد هو الكثير .
ثم المفهوم من كونه واحداً أمر ثبوتي لأنه لو كان سلبياً لكان سلباً للكثرة .
فإن كانت الكثرة سلبية وسلب السلب ثبوت فالوحدة ثبوتية وهو المطلوب ، وإن كانت الكثرة ثبوتية ولا معنى للكثرة إلا مجموع الوحدات فإن كانت الوحدة سلبية حصل من الأمور المعدومة أمر موجود وهو محال ، فثبت أن الوحدة صفة زائدة ثبوتية .
ثم إنه لا يمكن أن يقال : إنه لا تحقق لها إلا في الذهن لأنا نعلم بالضرورة أن الشيء المحكوم عليه بأنه واحد قد كان واحداً في نفسه قبل أن يوجد في ذهننا واعتبارنا فثبت أن كون الشيء واحداً صفة ثبوتية زائدة على ذاته قائمة بتلك الذات .
والجواب أن كون الشيء واحداً في ذاته معناه كونه بحيث يصح أن يدرك الذهن منه معنى الوحدة ، وهذه الحيثية لا تتوقف على حصول الذهن في الخارج .
ثم إن الوحدة لو كانت صفة زائدة على الذات كانت الوحدات متساوية في ماهية الوحدة ومتباينة بتعيناتها ، فيكون للوحدة وحدة أخرى وهلم جرا وذلك محال ، ثم إن شيئاً من الموجودات لا ينفك عن الوحدة حتى العدد ، فإن العشرة الواحدة يعرض لها الوحدة من حيث هي عشرة واحدة .
فإن قلت : عشر ثانٍ فالعشرتان مرة واحدة قد عرضت لها الوحدة من هذه(1/450)
" صفحة رقم 451 "
الجهة ، فلا شيء من الموجودات ينفك عن الوحدة .
ولكن الوحدة تغاير الوجود لأن الموجود ينقسم إلى الواحد ، والكثير والمنقسم إلى شيئين : مغاير لما به الانقسام .
والواحد الحق سبحانه وتعالى واحد باعتبارين : أحدهما أن ذاته ليست مركبة من أمور كثيرة بل ولا من أمرين أيضاً وإليه الإشارة بقوله ) إلهكم إله واحد ( والخطاب للممكنات بأسرهم .
والتذكير لتغليب ذوي العقول الذكور ، وثانيهما أنه ليس في الوجود ما يشاركه في كونه واجب وفي كونه مبدأ لجميع الممكنات وهو المراد بقوله ) لا إله إلا هو ( ويمكن أن يقال : القرينتان تدلان على نفي الشريك إلا أن الأولى منهما تدل على إثبات وحدته في الإلهية بالمطابقة .
ويلزم منه نفي الشريك كقولك ( هو سيد واحد ) تريد الوحدة في السيادة ، فيلزم نفي أن يكون غيره سيداً .
والقرينة الثانية تدل على نفي الشريك بالمطابقة .
ثم على إثبات المعبودية بالحق فمعناه لا إله في الوجود إلا هو .
وفيه نكتة شريفة وهي أن إثبات الحق وقع في كلتا القرينتين بالمطابقة ليعلم أنه المقصد الأسنى والغاية القصوى .
وتحقيقه أن العارف له رجوع وعروج ، وذلك أنه قد يفنى في عالم اللاهوت ويبقى ببقاء الحي الذي لا يموت ، ويطالع عالم الشهود فيلزمه حينئذ نفي ما سوى الحق .
وإذا رجع إلى عالم الناسوت ضرورة وجب عليه نفي كل من سواه حتى يعرج إلى المقصود .
فهذا سر عكس الترتيب في القرينتين ، ولأن الأولى مرتبة الصديقين السابقين فلا جرم وقع التكليف بالترتيب الأخير ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) .
ثم البرهان العقلي على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه لا يجمعه أجزاء مقدارية كما للأجسام ، ولا يحصره أجزاء معنوية كما في البسائط النوعية ، ولا أجزاء اعتبارية كما في البسائط الجنسية ، هو أن كل مركب فإنه يفتقر في تحققه أجزائه ، والمفتقر غلى غيره لا يكون واجب الوجود لذاته .
وأيضاً فكل ممكن فإن وجوده زائد على ماهيته في العقل والاعتبار فإنه يمكن تصور الممكن من حيث إنه ممكن مع الشك في وجوده الخارجي .
ولكن لا يمكن تعقل الواجب من حيث إنه واجب مع الشك في وجوده ، ولا نعني بكون الوجود زائداً على الماهية وغير زائد إلا هذا .
وأما أنه تعالى وحده لا شريك له فلأن وجوب الوجود يقتضي أن لا يكون الواجب لذاته مفتقراً في شيء إلى شيء أصلاً ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان في غاية الكمال ونهاية الجلال والجمال ، ولا ريب أن من كمالات الجميل كونه عديم النظير .
ومن تحقق معنى وجوب الوجود بنور الباطن وصفاء الضمير لم يشك في وجوده تعالى ولا في أن واجب الوجود من جميع جهاته ، وواجب الوجود في جميع صفاته ، وواحد بجميع اعتباراته حتى عن حمل الوحدة عليه وعن تصور ذاته .
وههنا(1/451)
" صفحة رقم 452 "
حالة عجيبة ، فإن العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة ، فإذا ترك الوحدة فقد وصل غلى الوحدة .
فاعرف هذه الأسرار لتتخلص عن ظلمات شبهات الأشرار وتفوز بمقامات الأبرار وتستغرق في بحار عالم الأنوار بعون الملك الجبار وشروق أنوار الواحد القهار .
ولك أن تقول : إنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له ، وواحد في صفاته لا شبيه له ، وواحد في أفعاله لا شريك له .
أما أنه واحد في ذاته فلأنه لو شاركه غيره في حقيقته لزم تركبه مما به الاشتراك وما به الامتياز ، وكل مركب مفتقر ، وكل مفتقر ممكن .
وأما أنه واحد في صفاته فلأن صفات غيره من غيره وصفاته من نفسه ، ولأن صفات غيره زمانية دون صفاته ولأن صفات غيره متناهية وصفاته غير متناهية كعلمه مثلاً ، فإن له معلومات غير متناهية بل له في كل معلوم علوم غير متناهية بحسب أحياز ذلك المعلوم وأوقاته وسائر أحواله ، ولأن موصوفية ذاته بالصفات ليست بمعنى كونها حالة في ذاته وكون ذات محلاً لها ، ولا بمعنى أن ذاته تستكمل بها لأن ذاته كالمبدأ لتلك الصفات ولن يستكمل المبدأ بما عن المبدأ بل ذاته مستكملة بذاته .
ومن لوازم ذلك الاستكمال الذاتي تحقق صفات الكمال ، وق يفضي التقرير ههنا إلى حيث تقصر العبارة عن الوفاء به ، وتلك أنه لا خبر عند العقول من صفاته كما أنه لا خبر عندها من ذاته ، فإنا لا نعرف من علمه إلا أنه الآمر الذي لأجله ظهر الأحكام والإتقان في المخلوقات ، كما أنا لا نعلم من ذاته إلا أنه مبدأ جميع الممكنات .
من طبع على قلبه مني بالخذلان ، ومن كشف له الغطاء صار حيران فلا إحاطة للقطرة بكرة الماء ، ولا ظهور لضوء السهى عند حلول الشمس .
كبد السماء أشتاقه فإذا بدا
أطرقت من إجلاله
لا خيفة بل هيبة
وصيانة لجماله
فالموت في إدباره
والعيش في إقباله
وأصدّ عنه إذا بدا
وأروم طيف خياله
وأما أنه واحد في أفعاله فلأن ما سواه ممكن الوجود لذاته ، وبقدر البون بين الواجب للذات والممكن للذات يوجد التفاوت بين فعليهما إن فرض للمكن فعل من نفسه ) الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون ) [ الروم : 40 ] ثم إنه تعالى خص الموضع بذكر الرحمن الرحيم ، لأن الإلهية والفردانية يفيد القهر والعلو ، فقعبهما بذكر الصفتين ترويحاً للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية وإشعاراً بأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان ) إن في خلق السموات والأرض ( الآية .
ذكر علماء المعاني في إيجاز هذه الآية أن في(1/452)
" صفحة رقم 453 "
ترجيح وقوع أيّ ممكن كان على ( لا وقوعه ) لآيات للعقلاء .
إلا أن الكلام لما كان مع الإنس أو الجن فحسب بل مع الثقلين ، ولا مع قرن دون قرن بل مع القرون كلهم إلى انقراض الدنيا وفيهم من مرتكبي التقصير في باب النظر والعلم بالصانع من لا يحصي من طوائف الغواة ، لم يكن مقام أدعى لترك الإيجاز إلى الإطناب من هذا .
عن عطاء قال : نزل بالمدينة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وإلهكم إله واحد ( فقالت كفار قريش بمكة - ولهم حينئذ حول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً - : كيف يسع الناس غله واحد ؟ فنزلت ) إن في خلق السموات والأرض ( إلى آخرها وعن سعيد بن مسروق : لما نزلت ) وإلهكم إله واحد ( تعجب المشركون وقالوا : إله واحد ؟ إن كان صادقاً فليأتنا بآية فنزلت .
وزعم بعض الناس أن الخلق هو المخلوق وهو الذي يدل على الصانع .
والتحقيق أنه غيره لأن الخلق التقدير ، وتقدير المخلوقات غير نفس المخلوقات ، ولو كان عينها والخالقية صفة لله تعالى لزم اتصافه تعالى بالقاذورات ، والشياطين .
ولأنه يصح تعليل حدوث الحادث بخلق الله تعالى فلا يصح تعليل حدوثه بنفس ذلك الحادث ، ولأنه يصح أن يقال : خلق السواد وخلق البياض ومفهوم الخلق فيهما واحد ، ومفهوم السواد غير مفهوم البياض ، ولاتفاق المعتبرين من النحاة على أن العالم في قول ( خلق الله العالم ) مفعول به لا مفعول مطلق .
ثم لا نزاع في الاستدلال على الخالق بالمخلوق ، لكن لا من جهة عينه بل من جهة خلق الله إياه ، وهذه الجهة التي صيرته آية .
وقد عدد الله تعالى في هذه الآية ثماني آيات : الأولى : خلق السموات وقد تكلمنا في عددها وترتيبها في تفسير قوله تعالى ) فسوّاهن سبع سموات ) [ البقرة : 29 ] وقد زعم أهل الهيئة لما شاهدوا من كل واحد من السيارات السبع حركات مختلفة كالبطء والسرعة بعد التوسط في الحركة والوقوف والرجوع بعد الاستقامة وهي الحركة على توالي البروج وعندهم مقدمتان كليتان إحداهما أن السمويات لا يتطرق إليها إلا الاختلاف الوضعي .
الثانية : أن حركة الكوكب في الفلك ليست كحركة السمك في الماء ولكه يدور بإدارة الفلك إياه ، أن كل واحد من أفلاك السيارات ينقسم إلى أفلاك أخر يتضمنها فلكه الكلي الذي مركزه مركز العالم ، ومراكزها تخالف مركزه في الأغلب .
ثم إن كان مع المخالفة في المركز محيطاً بالأرض يخص باسم الخارج المركز ويبقى بعد توهم انفصاله من الفلك الكلي جسمان تعليميان متبادلاً وضع الغلظ والرقة يسميان المتممين ، وإن لم(1/453)
" صفحة رقم 454 "
يكن محيطاً بالأرض سمي بالتدوير ، ويكون الكوكب مركوزاً فيه كالفص في الخاتم .
ويلزم له من مجموع الحركات المركبة من تلك الأفلاك حركة مختلفة في النظر ، وإن كان كل منهما متشابهاً في نفس الأمر ، ويعني بالتشابه ههنا أن يقطع المتحرك من المحيط في أزمنة متساوية قسياً متساوية ، أو يحدث عند المركز زوايا متساوية وبالاختلاف نقيض ذلك .
فللقمر من تلك الأفلاك أربعة : اثنان متوافقان في المركز وخارج وتدوير .
وللعطارد أربعة : أحدها يوافق مركزه مركز العالم وخارجان وتدوير .
وللزهرة ثلاثة : وللشمس اثنان : موافق وخارج .
ولكل من الثلاثة العلوية كما للزهرة .
ومقادير حركات هذه الأفلاك بسيطة موضوعة في الزيجات ، وأما المختلفة فالشمس تقطع جميع الفلك في سنة شمسية وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم إلا كسراً ، والقمر في ثمانية وعشرين يوماً ، وكل من عطارد والزهرة كالشمس وزحل في ثلاثين سنة ، والمريخ في سنتين ، والمشتري في اثنتي عشرة سنة جميع ذلك بالتقريب .
وإذا تقرر ذلك على الإجمال فنقول في كيفية الاستدلال بهذه الأحوال : إن اختصاص مقادير كل واحد من الأفلاك بمقدار معين مع اشتراكها في الطبيعة الفلكية ، تدل على مخصص مدبر مختار خبير قهار .
وكذا تخصص كل منها بحيز معين ، وكذا تعيين نقطتين من سطح الفلك للقطبية مع تساوي جميع النقط المفروضة عليه في صلوح ذلك ، وكذا حصول الكواكب أو التدوير في جانب معين من الفلك ، وكذا تفصيل الأفلاك الكلية إلى الخوارج المراكز وإبقاء المتممات على أقدار معينة في الرقة والغلظ ، وكذا تعيين كل من الأجرام بحركة معينة .
السيارات كما قلنا آنفاً والثوابت بحيث تتم دوراً في ستة وثلاثين ألف سنة على ما في المجسطي ، أو في خمسة وعشرين ألف سنة ومائتي سنة عند المتأخرين ، والفلك الأعظم في يوم بليلة .
وكذا تعيين جهات الحركات شرقاً أو غرباً أو شمالاً أو جنوباً ، وكذا تعيين مبادئ الحركات وتخصيصها بزمان دون زمان ، فإن الأفلاك سواء قلنا أن ذواتها حادثة أو يقال إنها أزلية ، لا بد أن يكون لحركاتها أول فإن الحركة انتقال من حالة إلى حالة ، وكون الحركة أزلية ينافي المسبوقية بالغير .
فالابتداء بالحركة بعد أن لم تكن يقتضي الافتقار إلى فاعل مختار يكون الكل تحت قهره وتسخيره ، وكذا تخصيص كل من الكواكب بعظم آخر وبلون آخر وبلون آخر كصفرة عطارد وبياض الزهرة كمودة زحل ودريّة المشتري وحمرة المريخ وظلمة القمر في ذاته بحيث إذا حال حائل بين الناظر وبين الشمس - وذلك في الاجتماع المرئي - كسفه .
وكذا اختلاف تأثيراتها في هذا العالم بإذن خالقها .
وبالجملة فإن هذا الترتيب العجيب والنسق الأنيق في تركيب هذه الأفلاك وائتلاف حركتها وارتباط أجرامها واختلاف أوضاعها المستتبعة لاتصالاتها وانصرافاتها ، أترى أنها مبنية على حكمة وبقدرة قدير خبير أم هي(1/454)
" صفحة رقم 455 "
واقعة عبثاً وجزافاً ؟ هيهات فإن من جوّز في بناء رفيع وقصر مشيد أن التراب والماء انضم أحدهما إلى الآخر ثم تولد منهما اللبنات ثم تركبت تلك اللبنات وتولدت من تركيبها القصر ثم تزين بنفسه بالنقوش الغريبة والرسوم اللطيفة ، قضى العقل له بالجنون وسجل عليه بسخافة الرأي بل يعد من زمرة الأنعام من جملة الأنام .
الآية الثانية خلق الأرض : ومن تأمل في شكلها من الاستدارة وفي حيزها من كونها واقعة في مركز العالم حتى انبعث منها بوقوع الشمس عليها مخروط ظلي في مقابلة الشمس متى وقع القمر فيه انخسف ، ومن انكشاف بعضها عن كرة الماء لمكان الاستقرار عليها ، وفي اختلاف أوضاع بقاعها بالنسبة إلى السماء حتى اختلف مرور الشمس وسائر الكواكب بسمت رؤوس قطان البلدان وتباينت الفصول والأمزجة والأخلاق وتغايرت الطوالع والمطالع بحسب تغاير الآفاق ، ومن سائر أعراضها ومنافعها التي تقرر طرف منها في تفسير قوله ) الذي جعل لكم الأرض فراشاً ) [ البقرة : 22 ] علم افتقارها إلى مدبر قدير وعليم خبير واحد في ملكه يفعل ما يشاء كما يشاء من غير منازع ومعاند .
الثالثة : اختلاف الليل والنهار : أما النهار فإنه عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأفق .
وفي عرف الشرع : زيادة ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع جرم الشمس .
وأما الليل ، فعبارة عن مدة خفاء الشمس تحت الأفق ، أو بنقصان الزيادة المذكورة ، وذلك لأن الشمس إذا غابت ارتفع رأس مخروط ظل الأرض إلى فوق فوقع الإبصار داخله إلى أن يظهر الضلع المستنير منه من جانب الأفق الشرقي فيكون أول الفجر الكاذب إن كان الضوء مرتفعاً عن الأفق بعد ، وأول الفجر الصادق إذا قرب من الأفق جداً وانبسط النور حتى إذا غاب رأس المخروط تحت الأفق طلع مركز جرم الشمس في مقابله فظهر أن الليل والنهار كيف يختلفان أي يتعاقبان مجيئاً وذهاباً كقوله ) وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة ) [ الفرقان : 62 ] أو يختلفان ظلاماً وضياءً أو طولاً وقصراً لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر ضرورة كون مجموعهما أربعاً وعشرين ساعة .
أو كيف يختلفان باختلاف البلدان فإن البلد كلما ازداد عرضاً عن خط الاستواء - وهو الموضع المحاذي لمنطقة الفلك الأعظم المسماة معدل النهار - ازداد نهاره في الصيف طولاً وفي الشتاء قصراً وبالعكس في الليل وقد يرتقي طول النهار بحسب تزايد ارتفاع القطب إلى حيث يصير اليوم بليلته نهاراً كله وبإزائه الليل ، ثم غلى أكثر من ذلك إلى حيث يكون نصف السنة نهاراً ونصفها الآخر ليلاً وذلك إذا صار قطب الفلك الأعظم محاذياً لسمت الرأس ولا عمارة هناك ، ولا حيث يزيد النهار الأطول على يوم بليلته لشدة البرد اللازم من قبل انخفاض الشمس .
وكون الليل والنهار(1/455)
" صفحة رقم 456 "
في أنفسهما آيتين على وجود الصانع ووحدانيته ظاهر ، وكذا من جهة ارتباطهما بحركة النير الأعظم ، وكذا من جهة انتظام أحوال العباد بهما بسبب طلب المعاش في الأيام والنوم والراحة في الليالي .
ومن الغرائب تعاون المتنافيين على أمر واحد هو إصلاح معاش الحيوان ، وأن إقبال الخلق في أول الليل على النوم يشبه موت الخلائق أولاً عند النفخة الأولى ، ويقظتهم عند طلوع الفجر تضاهي عود الحياة إليهم في النفخة الثانية ، وانشقاق ظلمة الليل بظهور الفجر المستطيل فيه من أعجب الأشياء كأنه جدول ماء صاف يسيل فيما بين بحر كدر بحيث لا يمتزجان .
وكل هذه الأمور دلائل على وجود مبدع عظيم الشأن غني عن الزمان والمكان مبرأ عن سمات الحدوث والإمكان .
الرابعة : الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس أي متلبسة بالذي ينفعهم مما يحمل فيها ، أو بنفع الناس .
والفلك بالضم والسكون السفينة ، واحد وجمع .
فضمة الواحد ضمة برد وضمة الجمع ضمة أسد ، وتأنيث صفته ههنا أن يكون لتضمين معنى السفينة ، ويحتمل أن يكون لمعنى الجمعية أي المراكب التي تجري ، والتركيب يدل على الاستدارة والدوران ومنه ( الفلك جسم كروي يحيط به سطحان متوازيان مركزهما واحد ) ( وفلكة المغزل ) ( وفلك ثدي الجارية استدار ) .
والبحر خلاف البر .
قيل : سمي بذلك لاتساعه وتعمقه ومنه ( تبحر في العلم والمال ) ويسمى الفرس الواسع الجري بحراً .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) في فرس أبي طلحة ( إن وجدناه لبحراً ) وقيل : من الشق بحرت أذن الناقة شققتها .
ومنه البحيرة .
هذا وقد سلف في تفسير قوله عز من قائل ) الذي جعل لكم الأرض فراشاً ) [ البقرة : 22 ] .
أن الماء محيط بأكثر جوانب القدر المعمور من الأرض فذلك هو البحر المحيط .
وقد دخل من ذلك الماء من جانب الجنوب متصلاً بالمحيط الشرقي ومنقطعاً عن الغربي إلى وسط العمارة أربعة خلجان : أولها إذا ابتدئ من الغرب الخليج البربري لكونه حدود بربر من أرض الحبشة طوله من الجنوب إلى الشمال مائة وستون فرسخاً ، وعرضه خمسة وثلاثون فرسخاً .
وعلى ضلعه الغربي بلاد كفار الحبشة وبعض الزنج ، وعلى الشرقي بلاد مسلمي الحبشة .
وثانيها الخليج الأحمر ، طوله من الجنوب إلى الشمال أربعمائة وستون فرسخاً ، وعرضه بقرب منتهاه ستون فرسخاً ، وبين طرفه وفسطاط مصر الذي على شرقي النيل مسيرة ثلاثة أيام على البر ، وعلى ضلعه الغربي بلاد الزنج من البربر وبعض بلاد الحبشة ، وعلى ضلعه الشرقي سواحل عليها فرضة مدينة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لقوافل مصر والحبشة إلى الحجاز ، ثم سواحل اليمن ، ثم عدن على الزاوية الشرقية منه .
وثالثها خليج فارس ، طوله من الجنوب إلى الشمال أربعمائة وستون فرسخاً ، وعرضه(1/456)
" صفحة رقم 457 "
قريب مائة وثمانين ، وعلى سواحل ضلعه الغربي اليمن وبلاد عمان ولهذا ينسب البحر هناك إليها .
وجملة ولاية العرب وأحيائهم من الحجاز واليمن والطائف وغيرها وبواديهم بين الضلع الغربي من هذا البحر والشرقي من الخليج الأحمر ، فلهذا تسمى العمارة الواقعة بينهما جزيرة العرب وفيها مكة زاد الله شرفها .
وعلى سواحد ضلعه الشرقي بلاد فارس ثم هرموز ثم مكران ثم سواحل السند .
ورابعها الخليج الأخضر مثلث الشكل آخذ من الجنوب إلى الشمال .
ضلعه الشرقي من بلاد فارس ثم هرموز ثم مكران يتصل بالمحيط الشرقي .
وضلعه الغربي خمسمائة فرسخ تقريباً .
وعلى سواحل هذا الضلع ولايات القتا والصين ولهذا يسمى بحر الصين ، ومن زاويته الشرقية من بحر فارس يسمى بحر الهند لكون بعض ولاياتهم على سواحله ، وأيضاً قد دخل إلى العمارة من جانب الغرب خليج عظيم يمر من جانب الجنوب على كثير من بلاد المغرب ويحاذي أرض السودان وينتهي إلى بلا مصر والشام ، ومن جانب الشمال على بلاد أندلس والجلانقة والصقالبة إلى بلاد الروم والشام ، ويتشعب منه شعبة من شمال أرض الصقالبة إلى أرض مسلمي بلغار يسمى بحر ورتك .
طوله المعلوم مائة فرسخ ، وعرضه ثلاثة وثلاثون .
وإذا جاوز تلك النواحي امتدّ نحو المشرق عما وراء جبال غير مسلوكة وأراض غير مسكونة ، ويتشعب منه أيضاً شعبة تسمى بحر طرابزون .
فهذه هي البحار المتصلة بالمحيط .
أما غير المتصلة فأعظمها بحر طبرستان وجيلان وباب الأبواب والخرز والبكون ، لكون هذه الولايات على سواحله مستطيل الشكل آخذ من المشرق إلى المغرب بأكثر من مائتين وخمسين فرسخاً ، ومن الجنوب إلى الشمال تقريب من مائتين .
ومن عجائب البحار الحيوانات المختلفة الأعظام والأنواع والأصناف ، ومنها الجزائر الواقعة فيها .
فقد يقال في بحر الهند من الجزائر العامرة وغير العامرة ألف وثلثمائة وسبعون ، منها جزيرة عظيمة في أقصى البحر تقابل أرض الهند في ناحية المشرق .
وعند بلاد الصين تسمى جزيرة سرنديب دورها ثلاثة آلاف ميل ، فيها جبال عظيمة وأنهار كثيرة ومنها يخرج الياقوت الأحمر .
وحول هذه الجزيرة تسع عشرة جزيرة عامرة فيها مدائن وقرى كثيرة ، ومن جزائر هذا البحر جزيرة ( كلة ) التي يجلب منها الرصاص القلعي ، وجزيرة ( سريرة ) التي يجلب منها الكافور .
وغرائب البحر كثيرة ولهذا قيل : حدث عن البحر ولا حرج وسئل بعض العقلاء ما رأيت من عجائب البحر ؟ قال : سلامتي منه .
والسفينة مما ألهم الله تعالى تركيبها ثم أجراها بقدرته على وجه الماء ، فلولا رقة الماء وخفة مادة السفينة ثم عجيب صنعتها لما تم جريها ، ولولا الرياح المعينة على تحركها لما تكامل النفع بها ، ولولا اعتدال الريح لما سلمت من تلاطم الأمواج ، ولولا تقوية قلوب راكبيها لما صبروا على شدائد ركوبها ، ولولا أنه تعالى خص(1/457)