جامعة بيروت الإسلامية
كلية الشريعة التابعة لدار الفتوى بلبنان
إدارة الدراسات العليا
شوائب التفسير
في القرن الرابع عشر الهجري
رسالة مقدمة لنيل درجة العالمية (الدكتوراة) في الدراسات الإسلامية
من كلية الشريعة بجامعة بيروت الإسلامية
إعداد الطالب
عبد الرحيم فارس أبو علبة
إشراف الأستاذ الدكتور
أنس جميل طبارة
1426 هجري - 2005 ميلادي
قرار لجنة المناقشة
نوقشت هذه الرسالة بتاريخ / /2005م وأجيزت.
أعضاء لجنة المناقشة التوقيع
الأستاذ الدكتور أنس جميل طبارة مشرفاً ورئيساً. .......................................
الدكتور قارئاً ثانياً ومناقشاً. .................................................
الدكتور مناقشاً. ...........................................(1/1)
الإهداء
إلى الذين ينشدون الحق في ظل الإسلام(/)
مقدمة
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأخرجنا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
الحمد لله الذي جعل القرآن طريقة عيش لنا، ومنهجاً لحياتنا، وسراجاً منيراً لعقولنا، وهادياً لقلوبنا، ومقياساً لما يرد إلينا من أفكار ومفاهيم، الحمد لله الذي تكفل بحفظ هذا الدين من التحريف والتبديل والتزييف، ومنع الباطل من دخول حصنه المنيع ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(( ). والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه بإحسان إلى يوم الدين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أرسل رسوله بالهدى ودين الحق لينسخ الشرائع السابقة كلها، وليظهره على الدين كله واقعاً وتطبيقاً ولو كره الكافرون والمنافقون جميعاً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله جعل الأنظمة الوضعية أنظمة كفر يحاسب الداعي إليها بالخلود في النار. وجعل الولاء للمؤمنين، والبراءة من الكافرين عقيدة تلتزم بها الأمة فتعز وتعلو، وتتركها فتذل وتكبو. أما بعد:
فإن كثيراً من المسلمين ينظرون إلى كتب التفسير نظرة تقديس لأنها تبيان لمعاني كلام رب العالمين. ويغيب عن بالهم أن القائمين عليها بشر غير معصومين. وأن الشوائب قد تدخلها من باب واسع بدافع الجهل، وبدافع الهوى، وربما بدافع الحقد الدفين على الإسلام. وسأحاول في هذا البحث - إن شاء الله تعالى- جمع كثير من الشوائب التي اختلطت بالتفسير في القرن الرابع عشر الهجري، الموافق للقرن العشرين قدر الطاقة، مبيناً إن كان لهذه الشوائب جذور قديمة أو لا، وهذا يقتضي تحديد ضوابط واضحة للتفسير لمزايلة الدخيل عن الأصيل، وتصفية التفسير وتنقيته من الشوائب التي علقت به عبر العصور بعامة، وفي القرن العشرين بخاصة.
وللشوائب بصمات ومعالم واضحة الدلالة لا تخفى على البصير بالإسلام أهمها:
أولاً: إعلاء شأن العقل وتحكيمه في كل شيء، حتى في نصوص الشرع مما يمكّن له السيادة المطلقة. وهو ما عرف بالعقل الحر، ويمكن إدراك هذه البصمة من الدعوة للإيمان بالحسيّات واستبعاد المغيبات. وفي جعل العقل مصدراً من مصادر التشريع على قدم المساواة بنصوص الوحي. بل وبتأويل ما يتعارض معه.
ثانياً: مساواة القرآن بالتوراة والإنجيل وبالعقائد الوضعية. وطمس فكرة هيمنة القرآن على الأديان السماوية ونسخه لها. ويمكن إدراك هذا المَعْلَم من الاستشهاد بنصوص التوراة والإنجيل، واستبعاد السنة النبوية الشريفة، ومن الدعوة للتقريب بين الأديان.(1/2)
…ثالثاً: تغيير مفهوم الدين عند المسلمين ليتساوى مع النصرانية بفصله عن شؤون الحياة واقتصاره على العلاقة بين الخالق والمخلوق فقط. ويمكن إدراك هذا المَعْلَم في الشوائب المتعلقة بالتشريعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقوبات. وسواء زعم أنها حق للبشر في اختيار طريقة عيشهم في الحياة، أو زعم أن الله – تعالى- فوّض الأمر للإنسان في هذه الشؤون.
…ولهذا فقد خلّفت الشوائب في التفسير عقبات في فهم الإسلام، وألقت بظلال مظلمة على مفاهيم الإسلام. ويمكن إجمال هذه العقبات بثلاثة أمور:
…الأول: سيطرة الأفكار والمفاهيم والمقاييس الغربية على أذهان المسلمين حتى غدا الإسلام في قفص الاتهام ويحتاج إلى مَنْ يدافع عنه، ويبطل دعوى عجزه، فينبري العلماء للدفاع عنه فيقعوا في شَرَكٍ نُصِبَ لهم وهو مهادنة أفكار الكفر، ومحاولة التوفيق بينها وبين الإسلام. وهذا يستدعي تحريف الإسلام وتزييفه لنوال رضوان الكافر المستعمر.
…الثاني: تحويل الأذهان المفتونة بالثقافة الغربية إلى عقليات إسلامية، لأن بعض الناشئة تقيس الإسلام بمقاييس غيره. وتقيّمه بقيم غيره. فكأن الأصل هو الإيمان بمذاهب خارج الإسلام، ثم ينظر إلى الإسلام من خلالها، فالإسلام يمدح إذا كان ديمقراطياً، أو إذا كان يدعو للحريات العامة، أو إذا كان يدعو للاشتراكية ونحو ذلك.
…الثالث: صار بعض المسلمين يفهمون المبادئ الوافدة الدخيلة على أنها إسلام، وصاروا بحاجة إلى حجج وبراهين لإثبات عكس ذلك. فالعقبة الكأداء هي إقناع عقول من استسلموا للواقع بأفكار الإسلام الصافية النقيّة من الشوائب.
…وهذا يقتضينا أن نبيّن كيف نزيل العقبات التي خلّفتها الشوائب.(1/3)
…إن نقطة الابتداء في العمل لإزالة هذه الشوائب تتجلى في تبني المسلمين أفراداً وجماعات لهذا الأمر، وأن يجعلوه معركة في الحياة عامة. ويكون القائد لهذه المعركة الفكرية من شرح الله صدورهم من العلماء من أساتذة الجامعات في كافة الدراسات الإسلامية لهذا الأمر. كلٌ ضمن اختصاصه بنشر الوعي على الشوائب. ويكلفون الطلاب عمل أبحاث تعرّي الشوائب وتكشفها على حقيقتها، وتبيّن عظمة أفكار الإسلام. وتبرز تميّزها عن جميع المعالجات البشرية في شؤون العقيدة والأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقوبات، وفي سائر شؤون الحياة. ثم ينتقل الوعي على الشوائب إلى بقية شرائح المجتمع حتى يحدث انقلاب فكري في الأمة فتعود إلى إسلامها صافياً نقياً من أي شائبة. ونكون بذلك قد رددنا الكرَّة على أصحاب الشوائب، وحاربناهم بسلاحهم نفسه. ويكون العلماء قد استردّوا هيبتهم وفضلهم في وراثة الأنبياء، قال عبد الله بن عمرو بن العاص(1): (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه
من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) (2).
__________
(1) أحد الصحابة المكثرين من الرواية، وأحد العبادلة الفقهاء، مات قبل المائة، روى له الستة. (تقريب التهذيب ترجمة 3499).
(2) رواه البخاري في كتاب العلم. باب كيف يقبض العلم، 1/36، طبعة الشعب. ورواه مسلم، العلم، 13، الترمذي 2652، سنن ابن ماجه 9، مسند أحمد 2/162، 190، الدارمي 1/77، فتح الباري، 1/194، 13/284.(1/4)
…وأما حكم الشوائب فيؤخذ من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (1). ولما كانت الشوائب دخيلة على ديننا، وهي إحداث في أمر ديننا، وهي تناقضه وتعارضه فهي مردودة، والحكم الشرعي فيها، فيه تفصيل: فمن يحملها معتقداً بها، وينشرها ابتغاء الفتنة وابتغاء تحريف الإسلام فإن صاحبها يخرج من الملة - والعياذ بالله -، ويزداد عذاباً يوم القيامة بقدر حقده وعداوته لدين الله.
…وأما تعلمها للأخذ بها فهو حرام لأنه أخذ لما هو مردود من الإسلام. وأما تعلمها لردها وبيان خطرها، والتحذير منها فهو مندوب يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. وأما تعليمها فإن كان بقصد بيان زيفها وهدمها فهو من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه ثواب عظيم، يتضاعف ثوابه بقدر ما يهدي من الناس، وبقدر ما ينقذهم من الضلال. وأما تعليمها بقصد الترويج لها وبيان صحتها والدفاع عنها فهو كمن تولى كبره - والعياذ بالله -.
…وأما السكوت عليها فإن كان قادراً على الإنكار والتغيير وصمت فيكون قد شارك الشيطان الأخرس في مهمته. وإن كان سكوته عن ضعف أمام جائر متجبر، وأنكر بقلبه، وأبلغ إنكاره لمن يستطيع، فنسأل الله له القوة والغفران، ولعله يكون قد أصاب أضعف الإيمان، ولا نزكي على الله أحداً. والموعد الله في كل غاية، وفوق كل ذي علم عليم.
__________
(1) رواه البخاري، 3/421، صحيح مسلم، الأقضية 17، سنن ابن ماجه 14، سنن أبي داود، السنة ب5، مسند أحمد، 6/240، 270، فتح الباري، 5/301، 13/53. وفي رواية: (من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد).(1/5)
مسوغات البحث
…تعالت صيحات في نهاية القرن الثالث عشر، وفي مطلع القرن الرابع عشر الهجري تنادي بالتوفيق بين الحضارة الغربية والإسلام، ومنها ما دعا إلى تجديد الفكر الإسلامي، ولاقت هذه الصيحات ترحيباً حاراً من الجهات الرسمية، وآذاناً صاغية من الغافلين والمضبوعين بالثقافة الغربية، فلوى بعض أصحاب هذه الصيحات عنق نصوص القرآن لتوافق ما يصبون إليه. فجاءت آراؤهم وأفكارهم متعارضة متناقضة مع التفكير الإسلامي فدخلت الشوائب إلى التفسير من هذا الباب الواسع.
…وولع عدد لا بأس به ممن انخرطوا في سلك التفسير في القرن العشرين بكل غريب من الأفكار والأحكام والآراء، وتلقفوا جميع الروايات الصحيح منها والسقيم دون أن يعنّوا أنفسهم بالتحقيق. وربما اكتفى بعضهم بإسناد الرأي إلى مؤسسيه لينجو من العهدة، ويتخلص من التبعة، دون أن يصدر حكمه على كثير من نقوله فيقع في روع القارئ أن المفسر استملحها وارتضاها لأنها جاءت في سياق التقرير. فدخلت شوائب جمة في كتب التفسير.
…واعتمد نفر ممن خاض غمار التفسير في القرن العشرين، من ذوي الأهواء، على اقتناص شوارد الآراء الشاذة السابقة، وضمنوها في كتبهم فجمعت الشوائب القديمة وجددتها فكانت ضغثاً على إبّالة.
…ثم إن ضعف الخلافة، وتكالب الاستعمار عليها ساهم في إيجاد حركات وجمعيات وأحزاب هرعت إلى تفسير القرآن لتضفي على وجودها صبغة شرعية لتحقق ما تسعى إليه بإسناد آرائها وأفكارها ومشاريعها إلى الشرع الشريف فلجأت إلى تفسير القرآن كله أو بعضه لإحداث انقلاب فكري. وهذا دعاني لدراسة هذه التفاسير للوقوف على حقيقة هذه الحركات والجمعيات والأحزاب. ولمعرفة مدى تقيّدها بالإسلام بالوقوف على الشوائب التي أدخلوها للتفسير.(1/6)
…وكان اتصال الأمة الإسلامية في شتى أنحاء العالم بدول الغرب المتقدم مادياً أوجد إحساساً بالعجز، وشوقاً إلى نهضة جديدة مما دفع العلماء، وبخاصة المفسرين، إلى تلقف الثقافة الغربية، والطرق الغربية للنهضة فهرعوا إلى تفسير القرآن لعلهم يجدون ضالتهم المنشودة.
…وغالى بعض من انبهر بالتقدم العلمي الذي توصل إليه الغرب فتبنى النظريات العلمية والاختراعات والصناعات. وأخذ يبحث لها عن دليل في القرآن الكريم، فأوّل النصوص حتى أظهر القرآن بأنه كتاب علوم دنيوية لا كتاب تشريع سماوي. وهذا استدعاني للتنقيب في هذه التفاسير للوقوف على الأفكار التي حوتها.
…وقد ساهم انتشار المطابع في إيجاد كمٍّ هائل من التفاسير لتأييد كل فريق رأيه، كما ساهمت في إظهار التراث التفسيري السابق. فكان هذا مدعاة للموازنة بين التفاسير القديمة والمعاصرة، وإظهار وجه الحق فيها. وبيان مدى ارتباط الشوائب الراهنة بالقديمة.
…ولقد نحا المفسرون منذ نهاية القرن الثالث عشر الهجري مناحي جديدة في تفسير القرآن، وسلكوا طرقاً لم تكن مألوفة سابقاً منها: الطريقة العصرية، والطريقة الأدبية، والطريقة العلمية، وطريقة التفسير الموضوعي، وتفسير القرآن حسب نزوله ، فظهرت تفاسير متعددة الاتجاهات والمناهج تطبيقاً لهذه الطرق. وكثر حولها اللغط، ولم تحظ هذه التفاسير بالدراسة الواعية الكافية مما حفزني لإلقاء الضوء فيها، وتحديد ما أدخلته على تراثنا التفسيري مما ليس من جنسه.
…كما لوحظ أن هناك من تربع على أريكة التفسير وهو لا يملك عدته، ونادى بالاجتهاد بلا ضوابط ولا حدود. فتجرأ على تفسير كلام الله – تعالى – بما لا تحتمله نصوص الآيات من لا يرجون لدين الله وقاراً. وحرّفت بذلك المفاهيم الإسلامية، وتشوهت صورة الإسلام مما دعاني للبحث لمزايلة هذه الشوائب الدخيلة عن تفسير كلام رب العالمين.(1/7)
…وفي خريف عام 1986م شرعت في تحصيل ما يعرف بشهادة الماجستير في التفسير وعلوم القرآن، فكان التعليم مثيراً لحفيظة المسلم الواعي وبخاصة في مادة اتجاهات التفسير في العصر الحديث، عندما طالعتنا تعابير حُرِّف الإسلام تحتها منها:
…الاتجاهات المنحرفة في التفسير، التفسيرات المريضة، التفاسير الخاطئة، بدع التفاسير، الاتجاه التغريبي في تفسير كذا، الدخيل في التفسير الفلاني.. الخ، فكانت شوائب لا صلة لها بالإسلام. ومع ذلك عُدَّ أصحابها مؤسسين لنهضة تفسيرية. وقد تهيأ لي أسباب الاطلاع على تفسير المنار لمحمد عبده ومحمد رشيد رضا، وتفسير الجواهر لطنطاوي جوهري، والتفسير الحديث لمحمد عزت دروزة، والتفسير القرآني للقرآن لعبد الكريم محمود الخطيب، وتفسير القرآن الكريم كما أفهمه لعلي نصوح الطاهر، وغيرها فراعني وهالني ما وقفت عليه، ففي العقيدة أظهروا الإيمان بالمحسوس وأوّلوا المغيبات، فقالوا عن الملائكة إنها قوى طبيعية، أو هي نزعات الخير في الإنسان، وقالوا عن الشياطين هي نزعات الشر في الإنسان، وقال بعضهم عن الجنة والنار بأنهما حالتان لا مكانان. وعن البعث بأنه استقلال الأمم والشعوب ونهضتها. وعن شجرة الخلد بأنها شجرة الجنس. وتأولوا معجزات الأنبياء المادية فراراً من الإيمان بالغيب. فقالوا عن عصا سيدنا موسى – عليه السلام – بأنها الحجج والبراهين.. الخ ومدح بعضهم عقيدة المجوس فقال إنها حلّت عقدة إله الخير وإله الشر. وقالوا دون حرج في القرآن أساطير الأولين، وأن القصص قد وردت على زعامات العرب وتخيلات السابقين لا على سبيل الحق والواقع. وجعل بعضهم سبب انحطاط المسلمين هو تمسكهم بالتوحيد والفقه ونصحهم إذا أرادوا الوحدة أن يتخلوا عنهما ويلتفوا حول العلوم التجريبية ليضموا غيرهم إليهم كذلك.(1/8)
…ومنهم من جعل الفطر في رمضان حلالاً مطلقاً مقابل إخراج الفدية. ومنهم من أحل القمار تحت اسم اليانصيب الخيري. ومنهم من أحل الميتة والخنزير إذا بولغ في طهيه وزال ضرره. ومنهم من أباح زواج المسلمة من الكتابي، ومنهم من نفى حكم رجم الزاني المحصن وقال بالجلد على من تعوّد الزنا لا على من زنا مرة أو مرتين. وكذلك عقوبة قطع يد السارق فجعلوها تعزيرية قد تصل إلى القطع في أعلى درجاتها لمن تعود السرقة لا من سرق مرة أو مرتين.. إلى غير ذلك مما تقشعر منه جلود الذين تسري في دمائهم حرارة الإيمان. فكان هذا حافزاً قوياً للدراسة والبحث والاستقصاء.
…وخلاصة القول إن التفسير صار تكئة لبث أفكار التغريب وإدخال الدخيل، فكانت شوائب معتمة تحجب رؤية الإسلام صافياً نقياً. لو جمعناها لشكلت ديناً جديداً لا يمت إلى الإسلام بسبب ولا نسب.
…وكثر اللغط حول أعلام التفسير في هذا القرن وتعارضت فيهم الآراء لحد التناقض فمنهم من عدّهم أئمة للتفسير والإصلاح. ومنهم من عدّهم عكس ذلك. فكان هذا حافزاً لي للوقوف على حقيقة الأمر لعلّي أستطيع أن أساهم في إسداء نصيحة تطبيقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) (1).
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه، عن تميم الداري - رضي الله عنه -، 2/37، صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإيمان باب 23، البخاري 1/22، الترمذي 1926، النسائي 7/157، مسند أحمد، 2/297، الدارمي، 2/311، فتح الباري 1/137، 138 .. وغيرها.(1/9)
…ولما كان التفسير أشرف العلوم على الإطلاق لأن موضوعه نصوص الوحي ومضامينه، ولأن الحاجة إليه متجددة، فهو عماد دنيانا وآخرتنا، لما كان التفسير كذلك، وقد دخله وابل من الشوائب في القرن العشرين لذا فإنني أطمح إلى أن أضم للتفسير دراسة تساهم في تحريره وتنخيله من الدخيل، وتنقيه وتصفيه من الشوائب لعلها تحسب عند الله – تعالى – نصيحة لكتابه العزيز.
…إن هذه الأمور مجتمعة أوجدت في نفسي الرغبة الملحة في إعداد هذا البحث والله المعين على هذه المهمة، وهو بحث شاق وشائك ولكنّه شيّق ورائق لأنه يرمي إلى استئصال ما وقر في بعض القلوب، بل ران عليها، واستقر في الأسماع، واستهوته بعض النفوس، واستعذبته بعض الألسن منذ قرن، وتناقلته الأجيال على أنه من الإسلام، وما هو من الإسلام في شيء.
الكتابات السابقة
…اعتاد الباحثون الجامعيون أن يشيروا لبعض الكتابات السابقة لإظهار الريادة لأبحاثهم، أو لسد ثغرة خلّفها من كتب قبلهم، أو اعترافاً بجميل من حازوا قصب السبق، وها أنا منخرط في سلكهم، فأقول:
…لما كان رب العزّة قد تعهد بحفظ كتابه المبين. وحفظه يعني: حفظ معانيه، وبيانه ولغته إلى جانب حفظ رسمه وترتيبه، فكان حتماً مقضياً أن أكون مسبوقاً بالفكرة على الأقل. فقد مسّ بعضهم الموضوع في ثنايا البحث عن مناهج واتجاهات التفسير، وتناول أحدهم بدع التفاسير عند بعض المفسرين كنماذج، وتطرق البعض إلى التفسيرات المنحرفة، أو المريضة، أو الخاطئة. وجعلها بعضهم اتجاهاً منحرفاً في التفسير، وبعضهم جعلها انحرافاً فحسب يؤجر صاحبه عليه لأنه اجتهاد رغم كثرته عندهم ورغم فظاعته. ومنهم من لامس الفكرة عند بحثه أثر الواقع الثقافي على التفسير أو عند بحث التيارات الفكرية الحديثة وأثرها في التفسير. ولكن بهذا الاسم "شوائب التفسير" لا أعلم أحداً كتب فيه، كما
لا أعلم أحداً خصص بحثه في الموضوع. وإليك أهم الدراسات الوثيقة الصلة السابقة لهذا البحث:(1/10)
1- كتاب بدع التفاسير(1) لأبي الفضل عبد الله محمد الصديق الغماري الحسيني الإدريسي(2).
…يقع الكتاب في مائة وست وثمانين صفحة من القطع المتوسط. أشار فيه المؤلف إلى التفاسير الخاطئة التي يجب تجنبها في فهم كلام الله – تعالى -، والبعد به عن أن يكون من جملة معانيه لنبو لفظه عنها، أو مخالفتها لما تقتضيه القواعد المأخوذة من الكتاب والسنة. وقد حصر المؤلف هذه البدع بنوعين من التفاسير:
__________
(1) نشرته دار الرشاد الحديثة-مطبعة النجاح-الدار البيضاء، ط2، 1406هـ - 1986م.
(2) هو عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد المؤمن. ولد بطنجة بالمغرب نحو 1318هـ، والغماري نسبة إلى قبيلة غمارة، والحسيني يدعي الانتساب إلى الحسين بن علي، نال العالمية من الأزهر عام 1350هـ، وهو من مدرسة محمد عبده.(1/11)
…الأول: تفاسير المعتزلة كتفسير الجبائي(1) والرماني(2) وأبي مسلم محمد بن بحر الأصفهاني(3).
…الثاني: تفاسير بعض المعاصرين وحددهم:
…1- تفسير المصحف المفسر لمحمد فريد وجدي(4).
…2- أوضح التفاسير لمحمد عبد اللطيف الخطيب(5).
__________
(1) هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب، ولد سنة 235هـ وتوفي سنة 303هـ، وتوفي ابنه أبو هاشم 321هـ صاحب مذهب الجبّائية من معتزلة البصرة. دافع عن المعتزلة. وهو مؤلف كتاب الأنصار والرد على ابن الراوندي. وأخذ عنه شيخ الأشعرية أبو الحسن الأشعري. (انظر: ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، دار صادر، دار الثقافة، بيروت، ترجمة 607، 3/267-269.
(2) هو أبو الحسن علي بن عيسى الرماني، أحد الأئمة المشاهير في النحو وعلم الكلام وله تفسير للقرآن، أخذ الأدب عن ابن دريد وابن السراج، ولد ببغداد 296هـ وتوفي 384هـ. أصله من سرّ من رأى. (انظر وفيات الأعيان ترجمة 435، 3/299.
(3) ولد سنة 254هـ وتوفي 322هـ. من مؤلفاته : جامع التأويل لمحكم التفسير، والناسخ والمنسوخ، وكتاب في النحو. (انظر: بغية الوعاء للحافظ السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة البابي الحلبي، 1/59، ط1، 1964، وانظر طبقات المفسرين للداودي، 2/109-110، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403هـ - 1983م.
(4) هو محمد فريد بن مصطفى وجدي، ولد بالإسكندرية عام 1292هـ وتوفي عام 1373هـ (1875-1954م) وأقام بالقاهرة وتوفي فيها، عمل في مجال الصحافة، من تصانيفه: دائرة معارف القرن العشرين، وصفوة العرفان في تفسير القرآن في مجلد واحد كبير. (عمر رضا كحالة، معجم المؤلفين، دار إحياء التراث، 11/126).
(5) عاش في القرن العشرين، لم أعثر له على ترجمة، وتفسيره مطبوع متداول.(1/12)
…3- تفسير أبي زيد الدمنهوري(1).
…4- تفسير القرآن للقراءة والفهم المستقيم لعبد الجليل عيسى(2).
…وألحق بها ما كتبه الشيخ محمود شلتوت(3)، وعبد الوهاب النجار(4) في قصص الأنبياء.
__________
(1) كان معاصراً للشيخ محمد رشيد رضا ومن تلاميذه النجباء وبينهما علاقة مميزة، لم أعثر على ترجمته.
(2) كان معاصراً للشيخ محمد عبده، أزهرياً، على مشربه، لم أعثر له على ترجمة.
(3) كان شيخاً للأزهر، له في التفسير الموضوعي، توفي في أول النصف الثاني من القرن العشرين، لم أعثر له على ترجمة.
(4) هو عبد الوهاب بن أحمد النجار، ولد في القرشية من قرى الغربية بمصر (1278هـ - 1360هـ) (1862م-1941م) وتعلم بها ثم انتقل للقاهرة وتخرج من مدرسة دار العلوم، اشتغل بالمحاماة، وعمل أستاذاً للأدب في مدرسة البوليس بالقاهرة، فأستاذاً للتاريخ في الجامعة المصرية، واشترك في أكثر الجمعيات الإسلامية وفي مقدمتها جمعية الشباب المسلمين، وتوفي بالقاهرة، من مؤلفاته قصص الأنبياء وتاريخ الخلفاء الراشدين، ومنع الأزهر طباعة كتابه قصص الأنبياء لما فيه من أفكار تعارض عقيدة المسلمين، انظر مقدمة كتاب قصص الأنبياء، وانظر 6/220. (عمر رضا كحالة، معجم المؤلفين).(1/13)
…وقد استعرض بعض التفاسير الخاطئة لآيات من ثمان وأربعين سورة من سور القرآن أبرز المواضيع التي حدث فيها بدع وإثم. وقد اختار عنوان الكتاب من تعبير الزمخشري في تفسيره كما قال. والرجل من مدرسة الشيخ محمد عبده، والحق أن عنوان الكتاب معبر عن الشرور الحادثة في بعض التفاسير المعاصرة. ومأخذي على الكتاب أنه تناول الفروع دون الأصول. وكلهم من المدرسة العقلية الحديثة، مدرسة محمد عبده، فلم يتطرق إلى المؤسسين، بل شايعهم، وألقى اللوم على التلاميذ والأتباع مع أن أقوال المؤسسين في تفسير المنار أوضح طلعة في قسمات البدع والشوائب. والمؤلف معاصر لمن كتب عنهم، خبير بحالهم. ويمكن أن نعد الكتاب نموذجاً فتح عيون من جاءوا بعده على البحث ليغطوا المواضيع الرئيسية في الشوائب مما فاته شرف بحثها والتنبيه إليها.
2- اتجاهات التفسير في العصر الحديث في مصر وسوريا:
…رسالة أعدها فضل حسن عباس(1) من الأردن لنيل درجة الدكتوراة من الأزهر، بإشراف د. محمد سيد طنطاوي مفتي مصر حالياً. وقد نوقشت في عام 1392هـ - 1972م، وقاربت على الألف صفحة. ويبدو أن الباحث مقتنع باتجاهات التفسير في العصر الحديث في مصر وسوريا.
__________
(1) ولد في حدود 1933م، نال درجة الدكتوراة من الأزهر عام 1972م، وأستاذه الشيخ محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الحالي، ورسالته غير مطبوعة.(1/14)
…وقد دافع المؤلف عن المؤسسين للتفسير في هذا القرن وهم محمد عبده(1) ومحمد رشيد رضا(2) وعدهم روّاداً للنهضة التفسيرية – حسب تعبيره – لهذه الحقبة مع أنه أبرز انحرافهم بشكل فاضح تحت اسم (مآخذ) قلل من هيبة من عدّهم رموزاً في أعين الناظرين، وأنزلهم عن مرتبتهم عند أهل التقى والحجا. وقد تعقبهم في قضايا العقيدة، والقضايا السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والعلمية، والأدبية، وتطرق إلى الجانب التاريخي لإكمال حلقة الدراسة. فسجل موقف شيخ الإسلام مصطفى صبري(3)
__________
(1) محمد عبده بن حسن خير الله، المصري (1850م-1905م)، تلميذ جمال الدين الأفغاني، عمل في الوظائف الرسمية بمصر تحت الهيئة الفرنسية والإنجليزية،. كانت له علاقات حميمة مع و.س.بلنت ومع كرومر مندوب بريطانيا في مصر الذي قال كلمته المشهورة: إنه ما دام لبريطانيا العظمى نفوذ في مصر فإن الشيخ محمداً عبده يكون هو المفتي حتى يموت. توفي بسرطان الكبد. وكان إماماً للمدرسة العقلية الحديثة في التفسير. انظر تاريخ الأستاذ الإمام، 1/2564، لمحمد رشيد رضا.
(2) محمد رشيد بن علي رضا بن محمد القلموني، البغدادي الأصل (1865م-1935م) ولد بالقلمون بلبنان وتتلمذ في دير البلمند، ثم في طرابلس على يد حسين الجسر. وكان يتردد كثيراً على مكتبة الجامعة الأمريكية وله علاقة حميمة مع الأستاذ جبر ضوابط. وبعد وفاة جمال الدين الأفغاني رحل إلى مصر والتصق بمحمد عبده وأسس كثيراً من الأحزاب والحركات اللادينية منها جمعية الشورى العثمانية (فرع الاتحاد والترقي)،= = حزب الاتحاد السوري، حزب الاستقلال، جمعية الشبان المسلمين والإخوان المسلمين. أهم نتاجه الفكري مجلة المنار (35) مجلداً وتاريخ الأستاذ الإمام. (انظر المنار والأزهر، ومجلة المنار، وتاريخ الأستاذ الإمام للمؤلف نفسه).
(3) مصطفى صبري عابدين، تركي ولد في توقاد (1860م-1954م) تعلم بقيصرية في الأناضول على يد الشيخ محمد أمين الدوربكي الشهير بداماد الحاج طرون أفندي ثم تزوج ابنة أستاذه في الأستانة وحصل على العالمية وصار شيخاً للإسلام زمن السلطان عبد الحميد. قاوم الحركات الكمالية، فاضطر إلى الهجرة للقاهرة بعد الحرب العالمية الأولى وتوفي بالقاهرة. (انظر كلمة المؤلف في مقدمة كتاب موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وسيد المرسلين. وانظر معجم المؤلفين 12/258).(1/15)
من الشيخ محمد عبده وحركته حيث قال: "أما النهضة الإصلاحية المنسوبة إلى الشيخ محمد عبده، فخلاصتها أنه زعزع الأزهر عن جموده على الدين فقرب كثيراً من الأزهريين إلى اللادينيين خطوات، ولم يقرب اللادينيين إلى الدين خطوة وهو الذي أدخل الماسونية في الأزهر بواسطة شيخه جمال الدين الأفغاني(1)، كما أنه شجع قاسم أمين(2) على ترويج السفور في مصر"(3).
__________
(1) جمال الدين بن صفدر بن علي (1839-1895) شيعي إيراني زعم أنه أفغاني، دخل الماسونية وأسس محافل فيها. انظر حقيقة جمال الدين الأفغاني لميرزا لطف الله – ابن أخت جمال الدين-، وانظر تاريخ الأستاذ الإمام لمحمد رشيد رضا. وخاطرات جمال الدين الأفغاني لمحمد باشا المخزومي.
(2) قاسم أمين (1865م-1908م)، هو قاسم بن محمد أمين المصري، أصله كردي، ولد بضواحي القاهرة وأرسل بعثة لدراسة الحقوق في فرنسا ثم عاد لمصر، اشتهر بكتاب تحرير المرأة – وفيه شك بنسبته إليه-، وكتاب المرأة الجديدة، من تلاميذ محمد عبده. انظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر لمحمد محمد حسين، ص 277-293، وانظر معجم المؤلفين، 8/114.
(3) عباس، فضل حسن، اتجاهات التفسير في العصر الحديث في مصر وسوريا، 1/222، رسالة دكتوراة في الأزهر رقم 417. عن التوقادي، مصطفى صبري، شيخ الإسلام، موقف العقل والعلم والدين من رب العالمين وسيد المرسلين، 1/133، المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ (1369هـ-1950م).(1/16)
…كما سجل الشيخ فضل ما أورده د. محمد محمد حسين(1) في كتابه الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر عن الشيخ محمد عبده حيث قال: "فبينما ينزله رشيد رضا ومعه كل أتباع الشيخ محمد عبده الذين ازداد عددهم على الأيام منزلة الاجتهاد في الدين، ويرفعونه إلى أعلى درجات البطولة والإخلاص الذي
لا تشوبه شائبة كان كثير من علماء الشريعة المعاصرين له يتهمونه بالمروق من الدين والانحراف وبتسخيره لخدمة العدو"(2).
…ثم أثبت انتماء الأفغاني ومحمد عبده للإخوان الماسون، وأثبت تعاونهما مع الإنجليز، ورأى أن تأويلاتهما في تفسير المنار كانت أسوأ من الإسرائيليات، وأثبت عملهما في التوفيق بين الحضارة الغربية والإسلام. ومع هذا كله فقد اعترف بإمامتهما لقيادة نهضة تفسيرية إسلامية في العصر الحديث.
…وقد برر الشيخ فضل عمالة الشيخ محمد عبده للإنجليز بقوله: " ولكن الشيخ رأى في هذا التعاون مع الإنجليز الذي كان يظهر أنه سينقلب خيراً على الأمة ، فإن لم تكن النتائج كما ظن فإن ذلك لا يعدو أن يكون خطأ في الاجتهاد"(3).
__________
(1) د. محمد محمد حسين، عاش في القرن العشرين، وتوفي في أوائل الثمانينات في الإسكندرية، واشتهر بكتابه الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ونال درجة الدكتوراة في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين (1954م). لم أعثر على ترجمته.
(2) عباس، فضل حسن، اتجاهات التفسير في العصر الحديث في مصر وسوريا، 1/223، رسالة دكتوراة، مكتبة الأزهر، رقم (497)، عن حسين، محمد محمد، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، 2/307.
(3) اتجاهات التفسير في العصر الحديث في مصر وسوريا، 1/223.(1/17)
…وبرر انتماءه للإخوان الماسون بعد أن أثبت نيله وسام مرتبة البلح والصدف في محفل لبنان من المندوب الأمريكي في بيروت فقال: "أما المحفل الماسوني الذي كان عضواً من أعضائه، فلا ريب أن الشيخ خدع وغرر به ذلك أن الماسونية لم تكن لها صورة واضحة في ذلك الزمن كما هي الآن. ففي وقتنا هذا لا يشك أحد في غايات الماسونية وأهدافها وبأن الانتساب إليها محاربة لله ورسوله"(1).
…كما برر عمله في التوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية بقوله: "أما محاولاته للتوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية فلعل وضع المسلمين في ذلك الوقت الفكري والسياسي .. الخ إذا قورن بأوضاع الأوروبيين، لعل ذلك من جهة، وثقافة الشيخ ورحلاته إلى أوروبا، وحرصه على نهوض أمته من جهة ثانية كان دافعاً لهذه المحاولات ... إن جمود المسلمين في ذلك الوقت، ورفضهم العودة حتى إلى مصادر دينهم جعل الشيخ يجتهد فيما دعا إليه، ولا محذور في تصوره مادامت مصادر هذا الدين ستحتفظ للمسلمين بشخصيتهم، ولن تذوب وتتلاشى هذه الشخصية أمام الحضارة الأخرى، وعلى كل حال، فلقد اجتهد الشيخ وللمجتهد أجر واحد إن أخطأ"(2).
…وقال: "وسيبقى إماماً لمدرسة من مدارس الوعي الإسلامي".
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر السابق، 1/225.(1/18)
…وأما عن الانحراف في التفسير فكتب الشيخ فضل تحت عنوان: "هل لمدرسة الإمام أثر في هذا الانحراف": "هذه أفكار مسمومة خرج أصحابها بهذه المطاعن ولكنها لم تأخذ شكل التفسير(1) إذا استثنينا كتاب أبي زيد الدمنهوري. وهناك كتب أراد أصحابها أن يلبسوها صبغة التفسير. وقبل أن أتعرض لها لا بدّ من الإشارة إلى أثر مدرسة الأستاذ الإمام في هذا النمط من التفسير .. إلى أن يقول: "فلقد كانت لهذه المدرسة هفوات وكبوات، خرجت بالنص القرآني من معناه الظاهر، إلى تأويلات بعيدة، وتفسيرات غريبة وذلك كتأويل الملائكة بالقوى الطبيعية. وحتى مجرد التسمية بهذا الاسم يعد غريباً عن معنى الآية ومضمونها. وكتأويل سجود الملائكة لآدم بتسخير القوى، وكتأويل مولد عيسى عليه السلام بأنه تأثير حصل لمريم نتيجة اعتقاد خاص. ومن هذا القبيل تأويل الرجوم بالحجج عند المراغي الأكبر(2)
__________
(1) هذا الحكم بعيد عن الواقع لأن تفسير المنار، وتفسير الجواهر في تفسير القرآن، والتفسير الحديث لمحمد عزت دروزة، والتفسير القرآني للقرآن، وغيرها، أخذت شكل التفسير. والذي لم يأخذ شكل التفسير هو إنتاج مدرسة الشيخ سعيد النورسي، ولم يكتب عنه الشيخ.
(2) محمد بن مصطفى بن محمد بن عبد المنعم المراغي، ولد بالمراغة بالصعيد (1881م-1945م)، تعلم بالأزهر وتتلمذ على يد الشيخ محمد عبده، وعيّنه الشيخ محمد عبده قاضي قضاة في السودان. وعين شيخاً للأزهر مرتين: الأولى عام 1928م واستمر أربعة أشهر فقط وقامت ثورة في الأزهر ضده فعزل ثم عاد إلى مشيخة الأزهر عام 1935م واستمر حتى وفاته عام 1945م. أهم آثاره رسالة إلى مؤتمر الأديان العالمي المنعقد في لندن 1936م في موضوع الزمالة الإنسانية، ألقاها نيابة عنه محمد عبد الله دراز بالفرنسية حيث كان يدرس في باريس في بعثة الملك فاروق. (انظر معجم المؤلفين، رضا كحالة، 12/34. وانظر مشيخة الأزهر منذ نشأتها حتى الآن، علي عبد العظيم 2/24، طبعة الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية 1979م. وانظر مجلة الأزهر المجلد العاشر 1936م نص الرسالة لمؤتمر الأديان).(1/19)
، وتأويل الخطفة والشهاب الثاقب، والشهاب الرصد عند المراغي الأصغر(1). وتأويل الدابة عند الشيخ عبد الجليل عيسى . ولا تنس تأويل قصة البقرة الذي ذهب إليه الأستاذ الإمام وصاحب المنار. وقد استند صاحب الفن القصصي فيما ذهب إليه إلى بعض عباراتهما. كل هذا يجعلني أخلص إلى النتيجة التالية: وهي أن لهذه المدرسة أثراً فيما حصل من انحراف في التفسير فيما بعد". وقال: والحق إن مدرسة الأستاذ الإمام مع ما لها من فضل إلا أنها شجعت الكثيرين ممن نشك في دوافعهم وأهدافهم على أن يذهبوا هذه المذاهب الشاذة في تفسير القرآن"(2).
…وقد عد الشيخ فضل هذه الانحرافات في التفسير، والمذاهب الشاذة مجرد انحرافات وليست اتجاهاً منحرفاً في التفسير. ومهما يكن من أمر فإنني أعده ممن لهم قصب السبق في بحث شوائب التفسير. وإن لم يكن عنوان رسالته يدل على ذلك، وإن لم تكن وجهته جمع المثالب والشوائب والانحرافات، بل كانت دراسته في اتجاهات التفسير في العصر الحديث. وهنا أسطر اعترافي بالجميل لهذه الرسالة ولصاحبها حيث أضاءت لي طريق البحث والدراسة. وكانت من الحوافز لي على البحث في شوائب التفسير في القرن الرابع عشر الهجري.
__________
(1) أحمد بن مصطفى المراغي شقيق الشيخ محمد (1883م-1952م). درس في الأزهر وتخرج عام 1909م تتلمذ على يد الشيخ محمد عبده. عمل بالتدريس في كلية غوردن بالسودان أربع سنوات (1917م-1921م). من مؤلفاته تفسير للقرآن الكريم، وكتاب علوم البلاغة، وهداية الطالب، انظر رسالة ماجستير ص1-6، الشيخ أحمد مصطفى المراغي ومنهجه في التفسير، أحمد داود الشحروري، ماجستير – الجامعة الأردنية – كلية الدراسات العليا، 1411هـ-1990م.
(2) عباس، فضل حسن، اتجاهات التفسير في العصر الحديث في مصر وسوريا، 1/226، رسالة دكتوراة، مصدر سابق.(1/20)
…ومن المآخذ على الرسالة أنها نافحت عن المؤسسين للانحراف في التفسير في هذا القرن رغم تزييفهم للإسلام، وعدتهم أصحاب نهضة تفسيرية في العصر الحديث عجز الأوائل عن تحصيلها. فكانت الدراسة متناقضة، وأحكامها متعارضة. فقد جمعت المتناقضات في الشيخ الواحد في وقت واحد. لذا فإنني أعدها دراسة سطحية غير موفقة في تبريرات أعمال رموزها. ومن المآخذ عليها أنها لم تتعرض للجانب الأسود من تاريخ الشيخ محمد رشيد رضا لأنه ربما كان لا يراه مما يعاب، أو لحاجة في نفسه كشأن دفاعه عن الأفغاني ومحمد عبده.
3- دراسات د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي لمرحتلي الدراسات العليا: الماجستير والدكتوراة.
…الأولى بعنوان: (منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير) وهي في حدود تسعمائة صفحة.
…والثانية بعنوان: (اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري)، وقد وقعت في ثمان وثلاثين ومائتين وألف صفحة.
…قال في الأولى تحت عنوان: "إلى من أقدم تاريخ وتراجم هؤلاء الرجال: (المدرسة العقلية، الأفغاني، وعبده ورشيد وغيرهم). قال: كل من يقرأ كلامي هذا فلا يعدو أن يكون أحد رجلين: إما رجل جعل الحقيقة نصب عينيه، وتحصيلها مقصوده، وجعلها فوق الرجال بها يوزنون ولا توزن بهم، وحسب هذا الرجل أني بذلت جهدي ما استطعت للوصول إليها وتقديمها له مستنداً إلى الأدلة والبراهين، وموثقاً لها بالرجوع إلى أصولها ومصادرها الأولى. وإما رجل نزع الحقيقة من نصب عينيه، واستبدل بها أصناماً بشرية، وأوثاناً إنسية صار همه كل همه تقديسهم، ومراده كل مراده ذب الشبهات عنهم ونفي الخطأ منهم وجعلهم في منزلة تأبى الشبهات أن تصل إلى أقدامهم"(1).
__________
(1) الرومي، فهد بن عبد الرحمن بن سليمان، منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، 1/73، ط3، ط4.(1/21)
…ثم ترجم لرجال هذه المدرسة وأتى بأدلة وبراهين من اعترافاتهم أنهم من رجال الماسون، وأنهم من عملاء الإنجليز. وتوصل إلى نتيجة مفادها أنه يجب إعادة النظر في عقيدة هؤلاء الرجال، وأنهم دخلوا الإسلام لمهمة غامضة. مستنداً إلى رسالة موجهة من الشيخ محمد عبده إلى أستاذه جمال الدين الأفغاني بخط يده يقول فيها: "نحن الآن على سنتك القويمة لا نقطع رأس الدين إلا بسيف الدين، ولهذا لو رأيتنا لرأيت زهاداً عباداً .. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل". وعقب الدكتور الرومي على ذلك قائلاً: "هل هي دعوة باطنية يخفيها الرجلان ويسعيان تحت ستارة الدين و(بسيف الدين) لقطع (رأس الدين) ؟ وقيامهم بالصلاة أمام الناس هل هو سعي إلى القبض على سيف الدين؟ ثم تركهم للصلاة بعض الأحيان هل هو تنفيس (لضيق العيش) وعودتهم إليها حيناً لأجل (فسحة الأمل) (1). واقتطف نقولاً من رسائله ما تدل على الكفر الصراح. وعليه فالدكتور فهد الرومي لا يَعُدُّ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده من رجال الإصلاح. ويرى وجوب إعادة النظر في عقيدتهم وتقييمهم. وضرورة بيان زيفهم وضلالهم وكشفهم للناس(2).
…وقد غض د. الرومي الطرف عن علاقة الشيخ رشيد بمن حمل رايتهم، وكان خليفتهم، وفاته أن شبيه الشكل منجذب إليه، وأن المرء على دين خليله. وهي علاقة بلا شك توجب الريب على الأقل. ولكنه لم يجعل هذه العلاقة من أوزاره، أو محل شك فيه مع أنها من الأمور التي لا تغفل، لا سيما أن هدف د.الرومي في كتابه هو تعرية هذه المدرسة، وبيان الدخيل من الأصيل، ووضع الميزان القسط في أيدي الناس ليزنوا به ما يرد عليهم بغض النظر عن مكانة القائلين من البشر، ويحسن هنا أن نسجل للدكتور الرومي دافعه للإقدام على تأليف كتابه، وتناوله لموضوعه، حيث قال: لكونه أهم وأخطر المناهج المذكورة لكونها:
__________
(1) المصدر السابق، 1/61. وانظر ص 812 المصدر نفسه.
(2) المصدر السابق نفسه.(1/22)
تعطي العقل مرتبة تضاهي مرتبة الوحي إن لم تتجاوزه. وفي هذا خطر عظيم آثرت أن أبدأ بكشفه.
ولكون رجال هذه المدرسة ممن لا تحوم حولهم الشبهات عند بعض الناس، وعند بعض العلماء أيضاً. ولا يقبلون فيهم نقداً أو عتاباً فأحببت أن أكشف حقيقتهم ما استطعت.
أن نهجهم في التفسير جديد لم يشاركهم أحد في جميع قواعده وأسسه(1).
…وأما الدراسة الثانية فهي استكمال وتوسعة لما بدأ به في دراسته الأولى، فكانت متخصصة باتجاهات المدرسة في التفسير. وكان يكشف في كل فصل، وفي كل مبحث الانحرافات في كل اتجاه من اتجاهات التفسير العلمية والفقهية والأدبية والاتجاه المنحرف نفسه، وحمّل المدرسة العقلية مسؤولية الانحراف في التفسير في القرن الرابع عشر الهجري، وكان منسجماً في أبحاثه وأحكامه عميقاً مستنيراً في كتاباته، فجاءت لهجته صادقة. ولهذا فإنني أعدّ د. فهد الرومي ممن لهم قصب السبق في كشف شوائب التفسير في القرن الرابع عشر الهجري. وإن لم تكن عناوين أبحاثه تدل على ذلك. وإن كانت الدراسة جاءت كنتيجة لدراسة مناهج واتجاهات المدرسة العقلية الحديثة، وليس بحثاً في الشوائب نفسها.
__________
(1) مقدمة منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، المصدر السابق، ص 9، 10.(1/23)
منهج الباحث وجهده:
…كان المنهج الاستقرائي والعقلي هو منهجي في الدراسة والبحث. شمل كتباً في التفسير، وعلوم القرآن، والفكر الإسلامي، وكتب مناهج واتجاهات التفسير المؤلفة في القرن، المطبوع منها والمخطوط، وبخاصة الرسائل الجامعية لمرحلتي الماجستير والدكتوراة. كما شمل كتب التفسير القديمة، وجمعت شوائب التفسير في الماضي والحاضر، ووازنت بينها لعلي أستطيع تحديد سمات وقسمات شوائب التفسير سالكاً بذلك مسلك الإمام أحمد(1) - رضي الله عنه - ، الذي علم ابنه أربعة آلاف حديث غير صحيحة ليتجنبها، وحاولت في عملي رسم الخط المستقيم بجانب الخط الأعوج حتى تكون إزالة الشوائب تنقية وتصفية لمعاني كتاب الله العزيز.
__________
(1) الإمام أبو عبد الله، أحمد بن حنبل الشيباني المروزي الأصل (164هـ-241هـ)، سمع من إسماعيل بن علية، ومحمد بن يزيد، ويحيى بن سعيد القطان، وخلق كثير. أخذ عنه الحديث محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج، وأبو حاتم الرازي، وأبو داود السجستاني، وغيرهم. امتحن بمسألة خلق القرآن وعذب زمن المعتصم وصبر، ومنعه الواثق من الخروج من داره لنفس السبب إلى أن أخرجه المتوكل ورفع محنة خلق القرآن. (انظر: وفيات الأعيان، ترجمة 20، 1/63-65، وانظر معجم البلدان لياقوت الحموي، ترجمة 237، 4/412.(1/24)
…وقد استحوذ الموضوع على حياتي العلمية، واستغرق ذلك أكثر من عقد وأنا أجمع مادته العلمية، واستقصي وأتثبت من الأمر مما دفعني لرحلات علمية إلى مصر مهبط التفسير في القرن العشرين، وأقمت فيها حولين كاملين، درست تاريخ الرجال من المنابع، ووقفت على آثارهم الفكرية، وعشت ستة شهور متتابعة بين أوراق الشيخ رشيد رضا الخاصة، حصلت عليها من بيت حفيده "فؤاد سعيد"، وقابلت والده، ابن الشيخ رشيد : "محمد شفيع" وهو يناهز الثمانين في عام 1994م. وصورت ما يربو على ألف وثيقة من بيته، وكذلك من بيت الشيخ محب الدين الخطيب(1) حيث يقيم ورثته. وتنقلت بين مكتبات عشر كان أهمها: مكتبة الهيئة المصرية العامة للكتاب، ومكتبة الأزهر، ومكتبة دار العلوم بجامعة القاهرة، ومكتبة جامعة عين شمس، ومكتبة معهد الدراسات والبحوث التابعة لجامعة الدول العربية، ومكتبة الجامعة الأمريكية في القاهرة.
__________
(1) محب الدين بن أبي الفتح الخطيب، ولد بدمشق (1886م-1969م)، وتوفي بالقاهرة، تعلم بمدرسة الترقي بدمشق، وكان والده يتولى أمانة المكتبة الظاهرية. كان من رجالات الدعوة للقومية العربية من مدرسة جمال الدين الأفغاني، درس الحقوق في استانبول واكتشف أمره ففر إلى سوريا ثم مصر، وعمل مترجماً في القنصلية البريطانية في الحديدة. أنشأ الفرع الرابع عشر لجمعية الإتحاد والترقي في اليمن، وشارك في تكوين عدة أحزاب منها الشبان المسلمون والإخوان المسلمون، أهم زملائه: محمد رشيد رضا، ورفيق العظم، وسليم الجزائري، وفي القاهرة أسس مجلتي الزهراء والفتح. أوراق محب الدين الخطيب للسيدة سهيلة الريماوي، اسم الكتاب: بحوث في التاريخ مهداة إلى الأستاذ الدكتور أحمد عزت عبد الكريم، مطبعة جامعة عين شمس، 1976م، 104-127.(1/25)
…كما رحلت إلى جامعة أم القرى مرتين لأنقب في مكتبتها فعثرت على رسالتين في تفسير أبي الأعلى المودودي(1)، وفي فكر الشاعر محمد إقبال(2) كتبهما طالبان من شرق آسيا وقدّمتا لجامعة أم القرى.
…ونظراً لاتساع الموضوع فقد ضربت عن الجانب التاريخي صفحاً على غير معهود الباحثين لحصر البحث في الشوائب. وإن مدّ الله في العمر فسيكون له مؤلف خاص – إن شاء الله – مشفوع بالوثائق المصورة، لا سيما أن مادة البحث جاهزة عندي.
__________
(1) أبو الأعلى المودودي، ولد عام 1321هـ (1903م) وتوفي عام 1979م بدأ حياته في الصحافة مع أخيه الأكبر عام 1918م، وصار رئيساً لتحرير جريدة (المسلم) ثم تعلم العربية والشريعة حتى نهاية 1928م أثناء عمله في الصحافة ثم تركها عام 1929م ومكث ثلاث سنوات يعد نفسه لتفسير القرآن وتأسيس جماعة تحمل الدعوة. فأسس الحركة الإسلامية في أغسطس (آب) 1949م. (انظر: رسالة أليف الدين ترابي، رسالة ماجستير في جامعة أم القرى. ص 3، رقم 554.
(2) محمد إقبال، والده نور محمد (1877م-1938م) لم يحج مع أنه طاف أوروبا وبلاد الشام ومصر وغيرها، ينحدر من براهمة كشمير وقد اعتنق أحد أجداده الإسلام. وكان يفتخر أحياناً أنه من سلالة البراهمة عارفاً بأسرار الروح والتبريز. منحته حكومة الهند الإنجليزية لقب سير 1923م، تتلمذ على يد المستشرق توماس أرنولد الإنجليزي في الكلية الحكومية بلاهور. حاز على منحة دراسة لأوروبا في جامعة كمبردج، أهم انتاجه الفكري: تجديد الفكر الديني في الإسلام 1930م. مختصر من رسالة ماجستير محمد إقبال وموثقة من الحضارة الغربية للطالب البنجابي خليل الرحمن عبد الرحمن، جامعة أم القرى، مكتبة دار إحياء التراث في جامعة أم القرى رقم 703 ستانسل 1405هـ.(1/26)
…كما أعرضت عن إضافة فصل لتقسيم كتب التفسير في القرن من حيث الإيغال في الشوائب والخلو منها وما بينهما. فاتساع الموضوع اقتضى أن أرجئه لما بعد المناقشة وأفرده في بحث مستقل. وأسأل الله أن يرزقني الهمة العالية لإنجازه في أقرب فرصة.
…وللسبب نفسه أغفلت بحث طرق التفسير المستحدثة في هذا القرن والتي دخلت منها الشوائب.
…كل ذلك بتوجيه الأستاذ الدكتور المشرف أنس جميل طبارة حتى يبقى البحث متخصصاً في الشوائب نفسها، أي في سلبيات التفاسير فقط، فجمعتها في سلة واحدة ليتخلص التفسير منها الذي عانقته ردحاً من الزمن لينظر إليه المسلمون بلونه الأسود الحقيقي، ولينبذوه وراء ظهورهم. فالبحث مختص بالتحريف والتزييف المتعمد والعفوي وهو ما يعد بحق دخيلاً على الإسلام وعلى معاني القرآن الكريم فهي شوائب محققة. وهذا يذكرنا بحذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - ذلك الصحابي الجليل الذي كان يتعمد في أسئلته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشر الذي سيقع لعله يدركه فلا يقع فيه(1).
…وما اخترع العلماءُ المسلمون علم الجرح والتعديل إلا للحرص على سلامة الإسلام فيميزونه عن غيره، ويحفظون بذلك مصادر تشريعهم نقية صافية من أي شائبة. فيبقى الإسلام كالذهب الخالص الخالي من الزغل.
__________
(1) كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني) صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن الجماعة، 9/65. طبعة دار الشعب، القاهرة، وحذيفة من الصحابة الكرام وأبوه كذلك، حليف الأنصار، استشهد والده بأحد، ومات حذيفة في أول خلافة علي سنة ست وثلاثين للهجرة، روى له الستة، انظر تقريب التهذيب لابن حجر، ترجمة 1156، ص 154، دراسة محمد عوّامة، دار الرشيد، سوريا – حلب.(1/27)
…وقد وضعت نصب عيني تحري الحقيقة، رافعاً شأنها، معزاً لها فوق كل مخلوق. مبتغياً رضوان الله – تعالى – وخدمة كتابه الكريم، معرضاً عمن لا يتحملون أي شيء فيه مساس برموز العصر، فضلاً عن تشويه سمعتهم، غير آبه بمن يعكفون على الواقع المرير، ولا استعداد عندهم لسماع ما يحط من قدر زعماء التفسير في هذا القرن، أو من لا استعداد عندهم لاستعمال عقولهم للوقوف على الحقيقة، أو من ليس عندهم النزاهة التي تدفعهم إلى الاعتراف بحقائق الأمور، وهو يعادي الحق بالتهم والأباطيل، شأن العاجزين عن إقامة الدليل فيكتفي بالقول: مُغْرِض، وأرجو لهم الهداية، وأن يكون كتاب الله –تعالى– أعز عليه من أي مخلوق، والموعد الله في كل غاية.
خطة البحث
…اشتمل البحث على مقدمة وتمهيد تبعهما خمسة فصول وخاتمة.
…تناولت في المقدمة أهمية البحث ببيان معالم الشوائب والعقبات التي خلفتها، وكيفية إزالتها، والحكم الشرعي فيها. كما تناولت المسوغات لاختيار الموضوع، وهي كثيرة، كما تعرضت لأهم الكتابات السابقة، ومنهج الباحث وجهوده.
…والتمهيد ألقيت فيه الضوء في التفسير لغة واصطلاحاً، ومصادره وضوابطه، وكذلك الشوائب لغة واصطلاحاً. والتعرف على الشوائب في القرون الثلاثة الأولى، وعلى الشوائب في الفكر الفلسفي والصوفي والشيعي وفي فكر المعتزلة.
…وأما الفصل الأول فتعرضت فيه لأبرز الشوائب في تفاسير القرن الرابع عشر الهجري. وجعلته في ثلاثة مباحث: تناولت في المبحث الأول شائبتي الدعوة للعقل الحر والتفسير بالنظريات العلمية. وتناولت في المبحث الثاني شوائب الإكثار من الإسرائيليات، والاستشهاد بالتوراة والإنجيل، والتقريب بين الأديان. وفي المبحث الثالث تناولت شائبة رد الأحاديث الصحيحة والاستشهاد بالضعيف وما لا أصل له.(1/28)
…وأما الفصل الثاني فقد تعرضت فيه للأساليب القديمة الحديثة في إدخال الشوائب في التفسير. وجعلته في أربعة مباحث: تناولت في المبحث الأول أسلوبين اثنين وهما الاستطراد الواسع، وسوق الكلام بصيغة الاستحسان. وفي المبحث الثاني تناولت أسلوب رفع شعار محاربة الإسرائيليات وبيّنت واقعه ونتائجه وفي المبحث الثالث تعرضت لأسلوبين:
…الأول: أسلوب التذرع بالتخييل والتمثيل. والثاني: أسلوب الرمز والإشارة. وضمنت الفصل الثاني مبحثاً رابعاً تناولت فيه أسلوب تحريف المصطلحات.
…وأما الفصل الثالث فقد خصصته لبحث شوائب التفسير في شؤون العقيدة. وجعلته في ثلاثة مباحث: الأول في شوائب التفسير في المغيبات ومعجزات الأنبياء، والثاني في شوائب التفسير في خلق الإنسان ونظرية دارون. والثالث: في شوائب التفسير في القصص القرآني.
…وفي الفصل الرابع تناولت أبرز الشوائب في القضايا الاقتصادية والاجتماعية. وجعلته في أربعة مباحث. خصصت المبحثين الأوليين في شوائب التفسير في أهم القضايا الاقتصادية وهما الفوائد المصرفية والميسر الذي اشتهر في هذا القرن باليانصيب الخيري. كما خصصت المبحثين الثالث والرابع في شوائب التفسير في أهم القضايا الاجتماعية وهما تعدد الزوجات، وزواج المسلمة من الكتابي، وفي الطلاق.
…وجعلت الفصل الخامس للبحث في قضايا مختلفة وجعلته في أربعة مباحث: تناولت في المبحث الأول أهم الشوائب في علوم القرآن، وفي المبحث الثاني تناولت أهم شوائب التفسير في قضايا العقوبات. كما تناولت في المبحث الثالث أهم شوائب التفسير في الفنون، وفي المبحث الرابع تناولت قضية سياسية وهي وحدة المسلمين ونظام الحكم في الإسلام.
…ثم ختمت البحث بالخاتمة التي اشتملت على نتائج البحث وتوصيات الدراسة.(1/29)
…وفي نهاية المطاف لا يفوتني أن أعترف بالجميل، وأسند الفضل إلى ذويه، وأقدم جزيل شكري وعظيم امتناني للأستاذ الدكتور أنس جميل طبارة، الذي تجشم مشاق الإشراف على هذا البحث رغم ظروفه الخاصة المليئة بالأشغال والمسؤوليات. والذي حرص على أن يقف على كل مفردات الأطروحة بنفسه. وأصر على المحافظة على المنهجية في البحث كله، والتركيز على الشوائب. وقد منحني شحنة قوية في تحري الحق وإقامة الدليل غير مبال بمن يعترض على الحقائق. وقد بدا أثر توجيهاته الراقية في الرسالة كلها من وضع الخطة حتى الفراغ من خاتمتها. وأثمن له ملاحظاته القيمة في اللقاءات الكثيرة عند عرض مسودات البحث والتي كانت تزيد عن ساعة ونصف في كل مرة قراءة جدية، وأجرى تعديلات في الخطة وفي الأسلوب لتجنيب الأطروحة من الشوائب سواء أكانت في بحث التاريخ أو الكتب أو الأشخاص حتى لا أقع فيما أعيبه على الآخرين. فجزى الله أستاذي الكريم الدكتور أنس جميل طبارة خيراً على ما بذله من جهد حتى ظهرت الدراسة بهذا الشكل. ولست مبالغاً إذا قلت إنه كان له الفضل الأكبر في توصيل هذا البحث إلى هذه المؤسسة العلمية الكبيرة. فأدعو الله أن يحفظه ذخراً وسنداً للمسلمين وينفع به، وأن يجعل البحث في ميزان حسناتي وحسنات أستاذي الفاضل الدكتور أنس طبارة.
…كما وأسجل تقديري وشكري لجامعة بيروت الإسلامية المتمثلة بكلية الشريعة التابعة لدار الفتوى بلبنان، الموقرة التي احتضنت الموضوع ومكنته ليرى النور في أعلى مرحلة من مراحل الدراسات العليا، راجياً لها تأدية رسالتها على أتمّ وجه في خدمة القرآن الكريم وعلومه، كما وأشكر القائمين على كلية الشريعة لما وجدته منهم من الترحيب وحسن الضيافة.
…ولا يفوتني تقديم جزيل شكري، وإكباري لفضيلة الدكتور القارئ الثاني للأطروحة مقدراً جهوده وتوجيهاته القيمة وأسأل الله أن يجعل عمله في ميزان حسناته.(1/30)
…كما لا يفوتني الاعتذار عما قد يرد في البحث من أخطاء -وإن كنت أظنها قليلة - لا تخفى على بصيرة القارئ. فإن الكمال لله وحده. وإني لشاكر لمن يرشدني ويهديني إلى عيوبي، ويبيّن لي مواطن الزلل والخطأ مشفوعة بالدليل حتى أتلافاها. وأرجو من القارئ الكريم أن لا يكون ممن قال فيهم الشاعر:
إذا رأوا زلة طاروا بها فرحاً……عنّي وما وجدوا من صالح دفنوا.
…والحمد لله الذي هداني لهذا وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله، و- صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
……………………الباحث(1/31)
التمهيد
…وفيه نلقي الضوء على معنى التفسير والشوائب.
أ- معنى التفسير:
…إن معاني العبارات التي يعبّر بها عن الأشياء تتوقف على معرفة ثلاثة ألفاظ: التفسير والتأويل والمعنى.
…قال ابن فارس(1): "معاني العبارات التي يعبر بها عن الأشياء ترجع إلى ثلاثة: المعنى والتفسير والتأويل. وهي وإن اختلفت فالمقاصد بها متقاربة"(2). وروى الأزهري(3) عن أحمد بن يحيى(4)، قال: المعنى والتفسير والتأويل
__________
(1) هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا بن حبيب الرازي. كان إماماً في علوم شتى وخصوصاً اللغة. توفي سنة 395هـ (1004م) ، أخذ الرواية عن ثعلب وعن أبي عبيد وغيرهما، تتلمذ عليه الصاحب بن عباد. من مؤلفاته: المجمل، ومعجم مقاييس اللغة، وأصول الفقه، وجامع التأويل في تفسير القرآن. (انظر: وفيات الأعيان، ترجمة 49، 1/118-120، وانظر معجم الأدباء لياقوت الحموي، ترجمة 13،3/50-98.
(2) الزركشي، الإمام بدر الدين، محمد بن عبد الله بن بهادر، البرهان في علوم القرآن، 2/146، النوع الحادي والأربعون، ط2، عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
(3) هو أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر بن طلحة بن نوح بن أزهر، الأزهري، الهروي، اللغوي الإمام المشهور في اللغة (282هـ-370هـ) (895م-980م) عني بالفقه أولاً ثم غلب عليه العربية، متفق على فضله وثقته ودرايته وورعه، روى عن محمد بن أبي جعفر المنذري عن أبي العباس ثعلب وغيره، وأخذ عن نفطويه وابن السراج، من تصانيفه: تهذيب اللغة، التقريب في التفسير، علل القراءات. امتحن بأسر القرامطة للحجاج 311هـ بوقعة الهبير. انظر وفيات الأعيان ترجمة 639، 4/334-336.
(4) هو أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد سيّار النحوي الشيباني بالولاء المعروف بثعلب سمع من ابن الأعرابي والزبير بن بكار، وروى عنه الأخفش الأصغر، وأبو بكر ابن الأنباري وأبو عمر الزاهد وغيرهم. وكان ثقة حجة صالحاً مشهوراً بالحفظ وصدق اللهجة. ولد (200هـ-291هـ) وتوفي ببغداد. من تصانيفه: كتاب المصون، واختلاف النحويين، ومعاني القرآن، وإعراب القرآن. (انظر وفيات الأعيان 1/102-104، ترجمة 43. وانظر تاريخ بغداد، ترجمة 2681، 5/204.(1/32)
واحد(1). وقال ابن الأعرابي(2) في مادة فَسَرَ في لسان العرب لابن منظور(3) القول نفسه(4).
__________
(1) الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد، تهذيب اللغة، 3/213، تحقيق عبد الحليم النجار، الدار المصرية، 1964م. وانظر ابن منظور أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، 4/3147، مادة عنا، طبعة المعارف بمصر.
(2) ابن الأعرابي هو أبو عبد الله، محمد بن زياد، كوفي، من موالي بني هاشم. ولد سنة 150هـ، من تصانيفه كتاب الأنواء، وصفة النخل، والخيل، وتاريخ القبائل، وتفسير الأمثال، والألفاظ وغيرها. توفي سنة 231هـ. (انظر: وفيات الأعيان ترجمة 633، 4/306-309، وتاريخ بغداد، ترجمة 2781، 5/282).
والأعرابي: من كان بدوياً وإن كان لم يكن من العرب، والعربي من كان من العرب وإن لم يكن بدوياً.
(3) ابن منظور، هو محمد بن جلال الدين مكرم، بن نجيب الدين أبو الحسن علي بن أحمد الأنصاري الرويفعي الإفريقي، جمال الدين أبو الفضل، المعروف بابن منظور، الأديب اللغوي، نزيل مصر ولد سنة 630هـ وتوفي فيها سنة 711هـ. من مصنفاته: الجمع بين صحاح الجوهري، والمحكم لابن سيده، ولسان العرب، ومختصر تاريخ دمشق لابن عساكر. (انظر: هدية العارفين، 6/142).
(4) تهذيب اللغة للأزهري، 5/3412.(1/33)
…وقال أبو عبيد(1) وطائفة: التفسير والتأويل هما بمعنى(2). وعليه فتحديد المراد من التفسير يقتضي أن نقف على هذه الألفاظ الثلاثة من حيث اللغة، فنقول وبالله التوفيق:
…المعنى لغة:
…هو القصد والمراد. ومنه قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة. وفي الحديث عن عائشة –رضي الله عنها-: (كان إذا اشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل فقال:
باسم الله أرقيك من كل داء يعنيك، من شر حاسد إذا حسد، ومن شر كل ذي عين)(3).
…قال أبو سعيد(4): يعنيك في الحديث يعني يقصدك. وقيل يشغلك. ويقال: عَنَيْتُ فلاناً أي قصدته، وعنيت بالقول كذا، أردت. وعنا الماء إذا سال. وعنت القربة إذا لم تحفظ الماء بل أظهرته.
__________
(1) أبو عبيد هو: القاسم بن سلام (157هـ-224هـ)، أقام ببغداد ثم ولي القضاء بطرسوس، وخرج إلى مكة وبقي حتى مات فيها. من تصانيفه: كتاب الأموال، والمقصور والممدود، والقراءات، وغريب الحديث والأمثال، ومعاني السفر. (تاريخ بغداد، ترجمة 6868، 12/403-416، وانظر: وفيات الأعيان ترجمة 534، 4/60-63).
(2) السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الإتقان في علوم القرآن، النوع 77، 2/221، طبعة دار المعرفة، بيروت.
(3) الحديث في صحيح مسلم ب16 رقم 39، ومسند أحمد 6/160، ومجمع الزوائد 5/110 وغيرها.
(4) هو أحمد بن خالد، أبو سعيد البغدادي الضرير. ردّ على أبي عبيد حروفاً كثيرة من غريب الحديث. وقد لقي ابن الأعرابي وأبا عمرو الشيباني، وحفظ عن الأعراب نكتاً كثيرة. وأخذ عنه القتيبي، وكان شمر وأبو الهيثم يوثقانه ويثنيان عليه. (انظر معجم الأدباء 3/15).(1/34)
…وعنوان الكتاب مشتق من المعنى، وفيه لغات: عنونت، وعنّيت، وعنّنت، وعنت الأرض بالنبات وأعنَتْه: أظهرته. وعنّيته: حبسته حبساً طويلاً. والعاني: الأسير، والخاضع، والعبد، والسائل من ماء أو أدم. ومنه قوله تعالى { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا } (1) أي نصبت له وعملت له(2).
…وقال ابن فارس: العين والنون أصلان، أحدهما يدل على ظهور الشيء وإعراضه، والآخر يدل على الحَبْس، فالأول قول العرب عنَّ لنا كذا يَعِنُّ عُنُوناً، إذا ظهر أمامك. وقال ابن الأعرابي: العنان : ما عَنَّ لك من شيء. وقال الخليل(3): عنان السماء، ما عنّ لك فيها إذا نظرت إليها. وقال العَنُون من الدوابّ وغيرها: المتقدم في السير. وقال الفراء(4): العِنّان: المعانّهّ وهي المعارضة والمعاندة. وقال ابن الأعرابي: شارك فلان فلاناً شركة عِنان، وهو أن يعن لبعض ما في يده فيشاركه فيه، أي يعرض. ومن الباب: عُنوان الكتاب لأنه أبرز ما فيه وأظهره.
__________
(1) سورة طه، الآية: 111.
(2) 4/3145-3147 تهذيب اللغة للأزهري، مادة عنا (عنو)، 3/210-214. وانظر لسان العرب لابن منظور، طبعة دار المعارف.
(3) هو أبو عبد الرحمن، الخليل بن أحمد بن عمرو بن تيم الفراهيدي (100-170هـ)، ويقال الفرهودي الأزدي. كان إماماً في علم النحو. وهو الذي أنشأ علم العروض. من مصنفاته : التنبيه على حدوث التصحيف، والعين، وكتاب العروض، وغيرها. (وفيات الأعيان، ترجمة 220، 2/244-248).
(4) هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عباد الله بن منظور الديلمي الكوفي الفرّاء (ت 207هـ). من الطبقة الثانية الذين أخذ عنهم الأزهري. من مؤلفاته: معاني القرآن وإعرابه، وكتاب النوادر، ومصادر القرآن، وغيرها. (وفيات الأعيان، ترجمة 798، ص 176-182).(1/35)
…وأما الأصل الآخر، وهو الحبس فالعُنَّة، وهي الحظيرة. والجمع عُنَن. يقال: عَنَّنْتَ البعير: حبسته في العنّة(1).
…وقال الزركشي(2): وحيث قال المفسرون قال أصحاب المعاني فمرادهم مصنفو الكتب في معاني القرآن كالزجاج(3) ومن قبله وغيرهم. وفي بعض كلام الواحدي(4): أكبر أهل المعاني "الفراء والزجاج وابن الأنباري(5)" وعليه فإن كلمة معنى يظهر منها المراد والقصد، والسياق هو الذي يحدد المعنى بشكل عام.
__________
(1) ابن فارس، أحمد أبو زكريا، معجم مقاييس اللغة، 4/19-22، دار الكتب العلمية، إيران، قم، وانظر: باب العين والنون وما يثلثهما، مجمل اللغة، للمؤلف نفسه، 3/630-361، مؤسسة الرسالة، ط1، 1414هـ- 1984م.
(2) هو محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي بدر الدين (ت794هـ)، تركي الأصل مصري المولد والوفاة، من مؤلفاته: البحر المحيط في الأصول، والبرهان في علوم القرآن، وتخريج أحاديث الرافعي، تفسير القرآن إلى سورة مريم. ( هدية العارفين " أسماء المؤلفين وآثار المصنفين من كشف الظنون " إسماعيل باشا البغدادي، دار الفكر، 1402هـ-1982م).
(3) هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن السري بن سهل الزجاج النحوي (ت311هـ)، من مصنفاته كتاب معاني القرآن والأمالي، والاشتقاق والعروض، أخذ الأدب عن المبرد وثعلب. وكان يخرط الزجاج فلقب بصنعته. (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لأحمد بن محمد بن خلكان، تحقيق الدكتور إحسان عباس،دار الثقافة، بيروت، 1/49-50).
(4) هو أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، صاحب التفاسير المشهورة، من مصنفاته: البسيط والوسيط، والوجيز في التفسير، وغيرها. (وفيات الأعيان، 3/303-304).
(5) هو أبو بكر محمد بن أبي محمد القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن الأنباري (ت 327هـ)، صاحب التصانيف في النحو والأدب وغريب الحديث وعلوم القرآن. وكان يملي في المسجد وأبوه في ناحية أخرى. (وفيات الأعيان، ترجمة 642، 4/341-342).(1/36)
…التفسير لغة:
…الفاء والسين والراء كلمة واحدة تدل على بيان شيء وإيضاحه. من ذلك الفَسْرُ، يقال فَسَرْتُ الشَّيء، وفَسَّرْتُه، والفَسْر والتَّفْسِرَةُ، نظر الطبيب إلى الماء وحُكمهُ فيه(1).
…ونقل الأزهري عن ثعلب عن ابن الأعرابي أنّ الفَسْرَ: كشف ما غُطِّيْ. وقال الليث(2): الفَسْر: التفسير وهو بيان وتفصيل للكتاب. ونقل عن أبي العباس عن ابن الأعرابي قال: التفسير والتأويل بمعنى واحد. وقال الليث: التَّفْسِرةُ: اسم للبول الذي ينظر فيه الأطباء يستدلون بلونه على عِلَّة العليل. وكلُّ شيء يعرف به تفسير الشيء ومعناه فهو تَفْسِرته. وقوله عز وجل: { وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } (3). الفَسْرُ: كشف المغطى، وقال بعضهم: التفسير: كشف المراد عن اللفظ المشكل. والتأويل: رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر(4). واستفسرته كذا: أي سألته أن يُفَسِّرَه لي. وقال آخرون: هو مقلوب من سفر. ومعناه أيضاً: الكشف، يقال سَفَرت المرأة سُفوراً؛ إذا ألقت خمارها عن وجهها، وهي سافرة. وأسفر الصبح: أضاء. وقال ابن عباس في قوله تعالى: { وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ((5) أي: تفصيلاً. وقال الزركشي: فالتفسير كشف المغلق من المراد بلفظه، وإطلاق للمحتبس عن الفهم به(6).
__________
(1) ابن فارس أحمد، معجم مقاييس اللغة، 4/504، وانظر ص 721، الفاء والسين وما يثلثهما في مجمل اللغة للمؤلف نفسه.
(2) هو ابن المظفر بن نصر بن سيّار، صاحب الخليل. وكان رجلاً صالحاً. (معجم الأدباء، لياقوت الحموي، ص 43، 52.
(3) سورة الفرقان، من الآية: 33.
(4) تهذيب اللغة للأزهري، 12/406، 407، طبعة الدار المصرية، 1964م.
(5) سورة الفرقان، من الآية 33.
(6) ابن منظور، لسان العرب، ص 3412، مادة فسر، وانظر البرهان للزركشي، 2/147، وانظر الإتقان للسيوطي، النوع 77، 2/221.(1/37)
…وقال الراغب(1): الفَسْر والسَفر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما ولكن جُعل الفَسْر لإظهار المعنى المعقول، وجعل السّفر لإبراز الأعيان للأبصار. فقيل سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصبح(2)، أي أن مادتي فسر وسفر تلتقيان في معنى الكشف ويغلب على السفر الكشف المادي والظاهر. والفسر الكشف المعنوي والباطن. والتفسير كشف المعنى وإبانته.
…التأويل لغة:
…أول: الهمزة والواو واللام أصلان: ابتداء الأمر وانتهاؤه. أما الأول: فالأوْل وهو مبتدأ الشيء، والمؤنّثة الأولى: مثل أفعل وفُعلى. وجمع الأُولى: أوليات مثل الأخرى.
…والأصل الثاني: قال الخليل: الأيِّل: الذكر من الوعول. والجمع أيائل. وقولهم آل اللّبنُ: أي خَثر من هذا الباب. وذلك لأنه لا يخثر إلى آخر أمره. وآل يؤول: أي رجع. قال يعقوب(3): يقال: "أوَّلَ الحُكمَ إلى أهله" أي: أرجعه وردّه إليهم. والإيالة: السياسة من هذا الباب. لأن مرجع الرعية إلى راعيها.
__________
(1) هو أبو القاسم، الحسين بن محمد بن الفضل المعروف بالراغب الأصفهاني (ت502هـ)، من آثاره: كتاب المفردات في غريب القرآن، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، وكتاب في التفسير لم يكمله. (هدية العارفين لإسماعيل باشا البغدادي، دار الفكر، بيروت، 1402هـ - 1982م، 5/311).
(2) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، 2/148.
(3) هو يعقوب بن إسحاق، أبو يوسف (ت246هـ)، والده إسحاق معروف بابن السكيت، حكى عن أبي عمر وإسحاق بن قرار الشيباني وغيرهم. حدث عنه أبو عكرمة الضبي، وأبو سعيد السكري وغيرهم. (وفيات الأعيان لابن خلكان، ترجمة 827، 6/395).(1/38)
…قال الأصمعي(1): آل الرجلُ رعيته يؤولها إذا أحسن سياستها. وتقول العرب في أمثالها: " أَلْنا وإيلَ علينا " أي : سُسْنا وساسنا غيرنُا. قال الأصمعي: يقال رددته إلى آيلته أي: طبعه وسُوسه. وآلُ الرَّجُلِ: أهل بيته من هذا أيضاً، لأنه إليه مآلهم وإليه مآلُه. ومن هذا الباب تأويلُ الكلام، وهو عاقبته وما يؤول إليه وذلك قوله تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } (2). ما يؤول إليه وقت بعثهم ونشورهم(3). وسئل أحمد بن يحيى عن التأويل فقال: التأويل والتفسير واحد(4). وقال الأزهري: أَلْتُ الشيء: جمعته وأصلحته، فكأن التأويل جمع معاني مشكلة بلفظ واضح لا إشكال فيه. وقال بعض العرب: أوّل الله عليك أمرك: أي جمعه. وإذا دعوا عليه قالوا: لا أوَّل الله عليك شََمْلك. وقال الليث: التأوّل والتأويل: تفسير الكلام الذي تختلف معانيه ولا يصح إلا ببيان غير لفظه، وأنشد:
…نحن ضَرَبْناكم على تنزيله……فاليوم نَضْرِبْكمُ على تأويله(5)
__________
(1) هو أبو سعيد عبد الملك بن قُرَيْب بن عبد الملك بن علي بن أصمع (122-216هـ). المعروف بالأصمعي الباهلي كان صاحب لغة ونحو ، إخباري سمع شعبة بن الحجاج، والحمّاديْن وغيرهم، من مصنفاته: كتاب الأضداد، وأصول الكلام، وغريب الحديث. ( انظر وفيات الأعيان لابن خلكان، ترجمة 379، 6/170-176).
(2) سورة الأعراف، من الآية 53.
(3) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، 1/158-162. وانظر مجمل اللغة للمؤلف نفسه 1/107، وتهذيب اللغة للأزهري، 12/459.
(4) الأزهري، تهذيب اللغة، 12/458.
(5) المصدر السابق.(1/39)
…وقال ابن منظور: الأوْل: الرجوع. آل الشيء يؤول أوْلا ومآلا: رجع. وأوّل الكلام وتأوّله: دَبَّرَهُ وقدَّره. وأوْله وتأوّله: فَسَّرَه. وقوله عز وجل: { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } (1)، أي لم يكن معهم علم تأويله. وهذا دليل على أن علم التأويل ينبغي أن ينظر فيه . وقيل لم يأتهم ما يؤول إليه أمرهم في التكذيب به من العقوبة. وفي حديث ابن عباس: ( اللهم فقهه في الدين وعلِّمْه التأويل ) (2). قال ابن الأثير(3): والمراد بالتأويل : نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إليه دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ. ومنه حديث عائشة –رضي الله عنها-: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك، يتأول القرآن. تعني أنه مأخوذ من قوله تعالى: { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ } (4).
…وسئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن التأويل فقال: التأويل والمعنى والتفسير واحد(5).
__________
(1) سورة يونس، من الآية 39.
(2) صحيح البخاري، 1/48، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، 138، مسند الإمام أحمد بن حنبل، 1/266، 314، 328، 335، فتح الباري، 1/170، 224.
(3) هو إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن محمد بن الأثير الحلبي، القاضي عماد الدين (652-699هـ)، فقيه مؤرخ، من مصنفاته: عبرة أولي الأخبار في ملوك الأمصار، وإحكام الأحكام في شرح أحاديث سيد الأنام. (هدية العارفين لإسماعيل البغدادي، 5/213، وانظر: معجم المؤلفين لرضا كحالة، 2/259).
(4) سورة النصر، من الآية 3.
(5) ابن منظور، لسان العرب، 1/171-175، طبعة دار المعارف، مصر.(1/40)
…وخلاصة القول: إن كلمة التأويل لفظ مشترك، يعني الابتداء والعاقبة والجزاء كما يعني التفسير والإصلاح والسياسة، كما يعني التحريف وهو الذي يتبعه الذين في قلوبهم زيغ ابتغاء الفتنة. وهو الذي روته عائشة – رضي الله عنها- فقالت: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) (1).
…ومما تقدم من معاني الألفاظ اللغوية الثلاثة، ومن إجابة أبي العباس أحمد ابن يحيى نقول إنها ألفاظ ثلاثة لمعنى واحد في أصل اللغة.
المعنى الاصطلاحي
…التفسير اصطلاحاً:
…كلمة تفسير في الإسلام تدل على بيان معاني ألفاظ القرآن الكريم خاصة. وعلى علم التفسير نفسه. أما الشروح التي تكتب على المؤلفات العلمية والفلسفية وعلى القوانين والدساتير فلا بد فيها من إضافة. لكن إذا أطلقت الكلمة فلا تفيد إلا تفسير القرآن الكريم. وقد عرّف التفسير بتعريفات منها:
…قال الراغب الأصفهاني: هو كشف معاني القرآن وبيان المراد(2).
…وقال الزركشي: علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه. واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان، وأصول الفقه، والقراءات. ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ(3).
…وقال بعضهم: علم نزول الآيات وشؤونها وأقاصيصها والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيّها ومدنيّها ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها(4).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التفسير، تفسير سورة آل عمران، طبعة الشعب، 6/42.
(2) السيوطي، الإتقان، النوع 77، 2/222.
(3) الزركشي، البرهان، فصل في علم التفسير، 1/13.
(4) السيوطي، الإتقان، النوع 77، 2/222.(1/41)
…وقال أبو حيان (1) : علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك(2).
…وقال الماتريدي(3): القطع على أن المراد من اللفظ هذا. والشهادة على الله أنه عنى باللفظ هذا، فإن قام دليل مقطوع به فصحيح، وإلا فتفسير بالرأي وهو المنهي عنه(4). والذي يرجحه الباحث هو الأول بإضافة لفظ علم في أوله. فيكون المعنى الاصطلاحي للتفسير هو علم يكشف معاني القرآن وبيان المراد. ففي هذا التعريف جوامع الكلم من التعريفات التي تلته، فهو عام شامل مختصر مفيد.
…التأويل اصطلاحاً:
__________
(1) هو محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الغرناطي، الجياني الأندلسي، أثير الدين أبو حيان (654-745هـ)، نحوي لغوي مفسر محدث مقرئ، من تصانيفه: البحر المحيط في تفسير القرآن، وعقد اللآلي في القراءات السبع العوالي. (معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة، 12/130).
(2) السيوطي، الإتقان، النوع 77، 2/222.
(3) هو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي (ت333هـ)، أبو منصور، متكلم أصولي، من مصنفاته: بيان وهم المعتزلة، تأويلات أهل السنة ، والدر في أصول الدين، ومأخذ الشرائع في أصول الفقه. ( انظر: البغدادي، هدية العارفين، 2/36-37. وانظر: عمر رضا كحالة، معجم المؤلفين، 11/300.
(4) السيوطي، الإتقان، النوع 77، 2/221.(1/42)
…هو الإخبار عن حقيقة المراد من معاني القرآن، وترجيح أحد المحتملات بدون القطع(1)، والشهادة على الله(2)، أي أنه المعنى الذي ذهب إليه أبو عبيد وطائفة وهو أن التفسير والتأويل كمصطلح بمعنى واحد. وهو الذي أرجحه، ويدل عليه دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) (3). وهذا المعنى سار عليه إمام المفسرين ابن جرير الطبري(4) فسمى تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن. وكان يقول: القول في تأويل قوله جل ثناؤه. ثم يذكر الآية ويقول: والصواب من القول عندي في تأويل فواتح السور (مثلاً)، ويقول: وأولى التأويلات بقول الرجل ثناؤه... .
__________
(1) قاله أبو طالب الثعلبي، نقله السيوطي في إتقانه، النوع 77، 2/222.
(2) قاله الماتريدي، المصدر السابق نفسه، وانظر الألوسي، روح المعاني، المطبعة المنيرية ، القاهرة، 1/5.
(3) سبق تخريجه.
(4) هو أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد بن خالد، الطبري (224-310هـ)، صاحب التفسير الكبير، والتاريخ الشهير، كان إماماً في التفسير والحديث والفقه والتاريخ وغير ذلك. كان من الأئمة المجتهدين، لم يقلد أحداً.(1/43)
…وأما ما جرى استعماله في القرن الرابع عشر الهجري أن التأويل بمعنى التحريف فلا يعوّل عليه ولا يلتفت إليه، وهو من الشوائب التي شابت التفسير. وهو مأخوذ من أباطيل ابن عربي(1). حيث قال: من فسر برأيه فقد كفر، وأما التأويل فلا يُبقي ولا يذر فإنه يختلف بحسب أحوال المستمع وأوقاته في مراتب سلوكه، وتفاوت درجاته، وكلما ترقى من مقامه انفتح له باب فهم جديد، واطلع به على لطيف معنى عتيد(2).
…وقيل: التأويل كمصطلح عن المتأخرين من الفقهاء والكلاميين والمحدثين والمتصوفة ونحوهم أصبح يعني: "صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح"(3). وقد يكون التحريف يحمل اللفظ على غير ما وضع له، أو في نسبة الأفكار والأحكام للإسلام مع أنها ليست منه.
__________
(1) هو محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن عربي الطائي الحاتمي، محيي الدين، أبو عبد الله الأندلسي، المعروف بابن عربي (560-638هـ)، الشهير بالشيخ الأكبر، له مصنفات كثيرة جداً منها اصطلاحات الصوفية، واتحاد الكوني في حضرة الأشهاد العيني. (انظر: هدية العارفين، 2/114-121).
(2) ابن عربي، تفسير القرآن الكريم، دار اليقظة العربية، بيروت، ط1، 1387هـ-1968م، 1/5.
(3) مطر، علي رمضان، الطباطبائي ومنهجه في التفسير، رسالة ماجستير، ص236، قدمت عام 1980م في كلية أصول الدين، دار العلوم، القاهرة، رقم 328.(1/44)
مصادر التفسير:
أولاً : القرآن: فقد وردت آيات كثيرة تسند البيان لله تعالى منها: { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } (1)، ومنها : { وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } (2). وقد تكون آية مجملة وتفصل في آية أو آيات في سورة أخرى. وقد تكون آية محكمة ثم تنسخ في آية أخرى. وفي القصص قد يكون موجزاً، أو يشار إليه إشارة في سورة ثم تفصل في سورة أخرى. وهكذا. فمن القرآن ما يفسر بعضه بعضاً. قال تعالى:
{ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (3).
ثانياً: السنة النبوية: فقد وردت آيات كثيرة توضح أن الله – تعالى – أرسل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليبيّن للناس منها : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (4). ومنها: { وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (5). ومنها: { قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } (6).
__________
(1) سورة القيامة، الآية: 19.
(2) سورة البقرة، من الآية 221.
(3) سورة الحديد، من الآية 17.
(4) سورة النحل، من الآية 44.
(5) سورة النحل، الآية: 64.
(6) سورة المائدة، من الآية 15.(1/45)
…وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) (1)، وفي رواية: (أوتيت الكتاب ومثله معه) (2)، وتعد السنة كلها بياناً للقرآن كما قال الشافعي - رضي الله عنه -(3).
__________
(1) رواه أحمد في مسنده، 4/131.
(2) رواه أبو داود في سننه، كتاب السنة، الباب السادس، ورواه أحمد في مسنده، 4/131.
(3) هو الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس (150-204هـ) ينتهي نسبه إلى هاشم بن المطلب بن عبد مناف. وجده اسمه شافع، وهو أول من أسس علم الأصول. ولد بغزة، ونشأ بمكة، وكتب العلم بها وبالمدينة، قدم بغداد مرتين وحدّث بها، وخرج إلى مصر وبقي فيها حتى وفاته، سمع من مالك بن أنس وابراهيم بن سعد وسفيان بن عيينة، وخلق كثير، حدث عنه سليمان بن داود، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، حفظ القرآن ابن سبع والموطا ابن عشر. (انظر تاريخ بغداد، ترجمة 454، 2/56، وانظر وفيات الأعيان، لابن خلكان، ترجمة 558، 4/163-169.(1/46)
…قال الحافظ ابن كثير(1): فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب: "أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسّر في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنّة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي – رحمه الله -: كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو ما فهمه من القرآن" (2). وعليه فإذا ورد بيان من السنة فلا يجوز العدول عنه بحال من الأحوال. لأن السنة تنزلت بالوحي أيضاً كما نزل القرآن.
…ويدخل في السنة ما ورد عن الصحابة الكرام مما يأخذ حكم المرفوع وهو الذي يتعلق بأسباب النزول، ولأنهم نقلوا إلينا الشريعة، ولطول الصحبة، ولشهود التنزيل، ولترضي الله ورسوله عنهم يجعل لهم تميّزاً في النقل والفهم.
…وأما أقوال التابعين وعلماء التفسير المشهود لهم، فيطلع عليها للاستئناس بها وللترجيح.
ثالثاً : اللغة العربية: وهي لغة القرآن ، وهي الآلة التي لا يفهم القرآن إلا بها:
__________
(1) هو إسماعيل بن عمر القرشي ابن كثير البصري ثم الدمشقي، عماد الدين أبو الفداء (705-774هـ)، الحافظ المحدث، من تصانيفه: البداية والنهاية في التاريخ، تفسير القرآن، شرح الجامع الصحيح للبخاري. (هدية العارفين، البغدادي، 5/215).
(2) ابن كثير، إسماعيل، تفسير القرآن العظيم، 1/12-13، طبعة الشعب، تحقيق: عبد العزيز غنيم، ومحمد عاشور، ومحمد البنا، 139هـ-1971م، وانظر السيوطي، الاتقان، 2/255، والزركشي، البرهان، 2/175.(1/47)
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } (1). وقال تعالى: { وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } (2). وقال: { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } (3). واللغة التي يحتج بها ما كانت زمن الاحتجاج. وتشمل اللغة: علوم النحو والصرف والبيان والبديع والمعاني وفقه اللغة.
رابعاً: العلوم الشرعية: التي تعد آلة في فهم الكتاب، منها: القراءات، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، وأصول الفقه. وهذه العلوم تدخل من باب قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
…تلكم هي مصادر التفسير، فعلى من يتصدر للتفسير أن يحيط بها حتى لا يقع في المحظور ويقوّل القرآن ما لم يقله، أما التاريخ وكتب أهل الكتاب فهي ليست مصادر للتفسير، ولا ينبغي لها أن تكون، وكذلك العلوم التجريبية، والعلوم الدنيوية فهي ليست مصادر لعدم ورود دليل عليها.
ضوابط التفسير
الضابط في اللغة:
…الضاد والباء أصل واحد يدل عُظمْه على الاجتماع(4). والضاد والباء والطاء أصل صحيح. ضَبَطَ الشيء ضبطاً. والأضبط: الذي يعمل بيديه جميعاً(5). وقال الليث: الضبط: لزوم شيء لا يفارقه في كل شيء. ورجل ضابط: شديد البطش. ويقال فلان لا يضبط عمله إذا عجز عن ولاية ما وليه. ورجل ضابط: قوي على عمله(6).
…والضَّبْطُ: لزوم الشيء وحَبْسُه. ضبط عليه وضَبَطَهُ يضبط ضَبْطاً، وضباطة، وضبط الشيء: حفظه بالحزم. والرجل ضابطُ أي حازم(7).
ضوابط التفسير اصطلاحاً:
__________
(1) سورة ابراهيم، من الآية 4.
(2) سورة النحل، من الآية 103.
(3) سورة الشعراء، الآية 195.
(4) ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة، 3/357، مادة ضب.
(5) ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة، 3/386، مادة ضبط.
(6) الأزهري، تهذيب اللغة، 11/493.
(7) ابن منظور، لسان العرب، 7/340.(1/48)
…عُرِّف الضابط بأنه: ما اختص بباب وقصد به نظم صور متشابهة(1). فضبط تلك الصور بنوع من أنواع الضبط من غير نظر في مآخذها(2). فإن علم الأصول بالنسبة للفقه ميزان وضابط للاستنتاج الصحيح، شأنه في ذلك شأن علم النحو لضبط النطق والكتابة(3).
…ولما كان لا يوجد تعريف سابق لضوابط التفسير في المصطلح فإنني أعنى بها القواعد والأسس التي يلتزم المفسر بها ولا تفارقه في شيء، ويحبس تفسيره عليها حتى يبقى كلامه في حدود دائرة التفسير. فإذا خرج المفسر عن هذه الضوابط فإن كلامه يخرج عن التفسير. أي أن التفسير مرهون بهذه القواعد. فالتلازم بين التفسير وبين هذه القواعد أمر حتمي حتى يعتمد القول أو الكلام من التفسير. هذا ما أعنيه من ضوابط التفسير وأهم هذه الضوابط:
أولاً: أن يكون فهم القرآن من جهة اللسان العربي(4).
__________
(1) السبكي، عبد الوهاب بن علي، الأشباه والنظائر، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، والشيخ علي محمد عوض، دار الكتب العلمية، بيروت، 1/11.
(2) المصدر السابق.
(3) السيوطي، الأشباه والنظائر، قواعد وفروع الشافعية، 1/20، "موازنة بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية" تحقيق وتعليق: محمد محمد نافر وحافظ عاشور حافظ، دار السلام للطباعة، القاهرة، ط1، 1418هـ-1998م.
(4) الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 1/33، مقدمة التفسير، ط3، مصطفى الحلبي، 1388هـ-1968م، وانظر الشاطبي، أبا إسحاق إبراهيم بن موسى، الموافقات في أصول الأحكام، 2/56، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة علي صبيح وأولاده، القاهرة.(1/49)
…أي أن يكون المعنى قد استعملته العرب، وروعي في التركيب، وانسجم مع السياق، وأدرك واقع تصريف المفردات في تراكيبها، فمن جاء بتفسير للفظ لم يأت به العرب، ولم يجر على عادة العرب يرد ولا يقبل ولا يسمى تفسيراً. وأهمية هذا الضابط تكمن في وجوب تعلم اللغة العربية شرعاً لمن يدين بدين الإسلام، ليس على اعتبار أنها لغة قومية، بل لأنها آلة فهم الإسلام "للقرآن والسنة" لا يتم بدونها. ولا تتم بعض العبادات إلا بها، ومنها تلاوة القرآن والصلاة والاجتهاد. ويتوقف العمل بأحكام الإسلام على مدى فقهها. ولهذا حرص عليها المسلمون الأعاجم والعرب على حد سواء. فمزج الطاقة العربية (اللغة) بالطاقة الإسلامية (الكتاب والسنة عقيدة وشريعة) ضرورة شرعية. وهما بمثابة الروح والجسد، أو الرأس والبدن، فعلى من ينخرط في سلك المفسرين أن يدرك أهمية لغة القرآن. وأي محاولة للفصل بينهما، أو الاعتداء على أحدهما يكون اعتداء على الآخر.(1/50)
…قال الشاطبي(1): "إن هذه الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسن العجمة "(2) . وقال : " وإنما البحث المقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة فطلب فهمه إنما يكون من هذه الطريقة خاصة"(3) . ولهذا دعا عمر ابن الخطاب وابن عباس - رضي الله عنه - للوقوف والإحاطة بديوان العرب "الشعر". ثم صار للقرآن فضل عظيم في حفظ هذه اللغة من الاندثار. فحفظها والمحافظة عليها عبادة لحفظ معنى القرآن الكريم. ثم جاء علماء المسلمين فوضعوا قواعد وضوابط لحفظ هذه اللغة ومنها قواعد النحو والصرف وعلوم البلاغة والاشتقاق والتعريب لحفظها ونموها. وأدخلوا علوم العربية في علوم القرآن أصالة لا تبعاً كما فعل صاحب البرهان وصاحب الإتقان، وكما فعل علماء أصول الفقه، ولهذا فمن الخطأ الفاحش – وهو دارج مع الأسف – أن يقال عن العربية إنها تراث عربي. نعم لقد كانت تراثاً زمن المعلقات وداحس والغبراء والطواف بإساف ونائلة ولكن منذ نزول القرآن بها لم تعد ملكاً للعرب وحدهم بل صارت ملكاً للمسلمين كافة.
الضابط الثاني: أن يراعي المفسر نظم القرآن، أي السابق واللاحق وسبب النزول في فهم المعنى.
…وهذا يقتضي فهم عادات العرب في التعبير وقت نزول القرآن، وتمييز الحقائق اللغوية عن الحقائق الشرعية. قال الزركشي: "ليكن محط نظر المفسِّر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز"(4).
__________
(1) هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي الشهير بالشاطبي أبو إسحاق (ت 790هـ)، محدث فقيه أصولي، لغوي، مفسر، من مؤلفاته: الموافقات في أصول الأحكام الشرعية، وشرح على الخلاصة في النحو، والاعتصام. (معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، 1/118).
(2) الزركشي، البرهان، 1/888، 889، وانظر: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، 1/48.
(3) الشاطبي، الموافقات، 2/45.
(4) السيوطي، الإتقان، 2/238.(1/51)
الضابط الثالث: القصص يقبل منه في التفسير ما ثبت بالقرآن والسنة الصحيحة.
…القصص القرآني آي من القرآن، لا يختلف شأنه عن آي العقيدة، أو آي الأحكام، فكلها كلام رب العالمين يتعبد بتلاوتها، وجاءت للهداية، ولها قدسيتها في القراءة والفهم والتفسير والحفظ، واحترام الصحائف التي يسجل عليها، فكلها نصوص من الإله. وسبيل فهمهما واحد وهو اللغة التي حملته إلينا، والوحي الذي جاء به { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } (1)، والتاريخ وأسفار أهل الأديان لا تصلح أن تكون قاضية على كتاب الله – تعالى – لأنها غير موثوقة الأسانيد، وغير صحيحة المتون، واعتراها التناقض والتعارض البشري، ولأن موضوع البحث في التفسير هو نصوص شرعية يراد فهمها وبيان معانيها لا مجرد نصوص سيقت للتسلية. أو يراد بحث عن مصادر أوسع لبيان ما أبهمته هذه القصص، ولم يأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرجوع إلى التوراة والإنجيل، بل غضب عندما رأى نسخة منها في يد عمر ابن الخطاب.
…والقرآن الكريم جاء ليفصل بين أهل الكتاب أنفسهم فيما هم فيه يختلفون من الأخبار، فكيف نثق بمصادرهم لتبيّن آيات القرآن؟ وفاقد الشيء لا يعطيه بداهة. قال تبارك وتعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } (2).
…وإذا شهد القرآن بأنهم حرفوا أسفارهم بعدما عقلوها، وامتدت إليها أيديهم بالإضافة إلى نسيان بعضها، وهم الموكول إليهم حفظها وصونها، فهل من المقبول أن نجعل من هذا شأنه شاهداً على ما تكفل الله بحفظه وصونه لفظاً ومعنى إلى يوم القيامة؟!
…هذا ولقد جاءت شريعة القرآن ناسخة لأديان أهل الكتاب فلا يكون الملغى والمنسوخ شارحاً للناسخ والمهيمن.
__________
(1) سورة يوسف، الآية: 3.
(2) سورة النمل، الآية: 76.(1/52)
…وأما ما أبهمه القرآن الكريم في مواضع القصص فإنه يعد كمالاً وتماماً بمقياس الشرع، فهو علم لا ينفع وجهل لا يضر. فقد تحسّر عليه اليهود أن يكون لهم حظ منه { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (1). حيث قالت اليهود لعمر إنكم تقرؤون آية لو أنزلت فينا لاتخذناها عيداً(2). فاللهث وراء ما أبهم القرآن في موضوع القصص قد يفضي إلى فساد في العقيدة والاتباع وبخاصة عند من يبحثون عليه في قراطيس مترجمة وصفها القرآن بالتحريف والتبديل والنسيان. وعليه فإن تفسير القصص القرآني يؤخذ من القرآن نفسه أو من حديث صحيح السند والمتن. ولا يصح أن نتعدى هذين المصدرين حتى نتقي غوائل كتب التاريخ وأسفار التوارة والإنجيل.
الضابط الرابع: أن يكون التفسير مطابقاً للمفسَّر(3).
…قال الزركشي: "ويجب أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسَّر، وأن يتحرز في ذلك من نقص المفسِّر عما يحتاج إليه من إيضاح المعنى المفسَّر. أو أن يكون في ذلك المعنى زيادة لا تليق بالغرض، أو أن يكون في المفسِّر زيغ عن المعنى المفسَّر، وعدول عن طريقه، حتى يكون غير مناسب له ولو من بعض أنحائه. بل يجتهد في أن يكون وفقه من جميع الأنحاء. وعليه بمراعاة الوضع الحقيقي والمجازي، ومراعاة التأليف، وأن يوافي بين المفردات وتلميح الوقائع. فعند ذلك تتفجر له ينابيع الفوائد"(4).
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 3.
(2) انظر الطبري، التفسير، 2/82.
(3) انظر: الزركشي، البرهان، 2/176، وانظر: السيوطي، الإتقان، 4/198، فصل فيما يجب على المفسر، طبعة المكتبة العصرية.
(4) الزركشي، البرهان، 2/176.(1/53)
…وقال الشاطبي: "فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصلح أن ينكر منه ما يقتضيه. ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة فيه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية. فمن طلبه بغير ما هو أدلة له ضل عن فهمه، وتقول على الله ورسوله فيه"(1).
…وقال أبو حيان: "كثيراً ما يشحن المفسرون تفاسيرهم عند ذكر الإعراب بعلل النحو ودلائل مسائل أصول الفقه، ودلائل مسائل الفقه، ودلائل أصول الدين، وكل ذلك مقرر في تأليف هذه العلوم. وإنما يؤخذ ذلك مسلماً في التفسير دون استدلال عليه. وكذلك أيضاً ذكروا ما لا يصح من أسباب النزول، وأحاديث في الفضائل، وحكايات لا تتناسب وتواريخ إسرائيلية ولا ينبغي ذكر هذا في علم التفسير"(2). أي أن أبا حيان يدعو لتحرير التفسير من كل ما ليس منه ولو كان حقاً وعلوماً شرعية لأن محلها في الكتب والأسفار المتخصصة بها. كما يدعو لتحريره مما لم يصح من أسباب النزول والأحاديث الموضوعة في فضائل القرآن والقصص الخرافية القديمة ونحوها، فهي دعوة حق لتنخيل التفسير مما علق به من شوائب، وعليه فإنه يجب أن يكون التفسير للمفسَّر بلا نقص مخل وبلا زيادة لا تتسع لها النصوص تحاشياً للفتنة والزيغ والضلال.
الضابط الخامس: الأفكار والأحكام والمعاني الشرعية لا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة.
…الألفاظ التي لها معان في الشرع ولا تقع تحت حس البشر واقتضى الإيمان بها لأنها وردت بطريق قطعي مثل الملائكة، والشياطين، والجنّة، والنار، ويوم البعث والنشور، وعذاب النار، ونعيم الجنّة، والوحي، وبدء الخلق، وآدم، والأنبياء ومعجزاتهم كل ذلك ونحوها مما يتوقف فيها عند المعاني التي حددها الشارع تحصر هذه المعاني على المعاني الشرعية وليس على اللغة العربية.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/56.
(2) السيوطي، الإتقان، 2/238، ط4، دار المعرفة، بيروت، 1978م.(1/54)
…وكذلك يكون معنى هذا الضابط أن نحصر أخذ المعاني الشرعية كالصلاة والصيام والجهاد والزكاة والحج، والأحكام الشرعية كتحريم الربا، وحل البيع، وإباحة الزواج وتحريم الزنا، وتحريم الخمر والميسر، وإباحة الماء والتجارة يحصر كل ذلك بالكتاب والسنة ليس غير. ذلك أن في القرآن الكريم آيات كثيرة لا يكفي لفهمها معرفة اللغة العربية، وإنما تحتاج إلى معلومات عن بعض ألفاظ من واضعها لأنها تشير إلى مدلولات معينة، وجهة الوضع هي المخولة ببيان دلالتها. كما أن معاني الألفاظ اللغوية محصور فهم دلالتها بالمعنى الذي حدده واضعو اللغة من العرب الأقحاح على معهودهم. فالصلاة عند إطلاقها تدل على المعنى الشرعي لهذا اللفظ وينسى المعنى اللغوي تماماً. والحقائق الشرعية غير الحقائق اللغوية، وهي ليست من قبيل المجاز ولا بوجه من الوجوه لأن الشارع لم ينقله للمعنى الثاني لعلاقة كما هو شرط المجاز. بل هو من قبيل الحقيقة الشرعية. وعليه فهذا الضابط مستنبط من واقع القرآن الكريم من حيث المعاني والأفكار والأحكام الشرعية وليس من اللغة، وليس من الرأي والعقل، ولا من مصطلحات علماء الإسلام، بل من واقع نصوص الشرع نفسها.
محترزات الضوابط:
…إن ضوابط التفسير الآنفة الذكر تضرب على التفسير سياجاً يقيه عادية الشوائب، وبها نستطيع أن نخرج كل الشوائب التي تسللت أو يمكن أن تتسلل إلى التفسير سواء أكان في العصر الراهن أم في العصور السالفة، ويمكن إجمال محترزات الضوابط بالآتي:
ما جاء به العقل الحر.
ما ورد في التفسير من كتب التوراة والإنجيل والقصص والحكايات التاريخية.
التفسير بالرأي المجرد، أو بالاجتهاد بلا أساس، أو بالتخييل.
التفسير من خلال التعصب المذهبي أو الهوى.
التفسير المعتمد على الفلسفة اليونانية والحديثة.
التفسير الأدبي والبياني الذي يجعل القرآن كتاب العربية الأكبر منسلخاً عن المعاني الشرعية.(1/55)
التفسير المزعوم بملائمته لسنن الكون وروح الإسلام، أو للحكمة التي لم يرد عليها دليل. والذي لا يسعفه المنطوق ولا المفهوم.
التفسير الذي يعتمد على تحميل النصوص ما لا تحتمل من العلوم التجريبية والنظريات العلمية والعلوم الدنيوية ومنها الصناعات والزراعة والمهن.
التفسير المعتمد على اللغة المعاصرة وما بعد عصر الاحتجاج.
ما أطلق عليه التفسير الإشاري والرمزي أو الفيضي الصوفي أو الباطني وكل ما تسرب من هذه الجهة وما لا تحتمله نصوص الوحي.
…هذه أهم محترزات ضوابط التفسير التي تخرج من التفسير. فضلاً عن أن الضوابط تذيب الفوارق، وتضيّق الهوّة بين التفاسير رغم اختلاف ثقافة المفسرين، وتباين ظروف حياتهم، وتفاوت عقلياتهم، وتأثرهم ببيئاتهم، وتباعد أزمانهم.
معنى الشوائب لغة واصطلاحاً
أ- الشوائب لغة:
…ورد في تهذيب اللغة للأزهري عن ثعلب عن ابن الأعرابي: شابَ يَشُوبُ شَوْباً، إذا غشّ، ومنه الخبر "لا شَوْبَ ولا رَوْب": أي لا غِشَّ ولا تخليط في شراء أو بيع. ويقال في فلان شَوْبة: أي خديعة. وفي فلان ذوبة: أي حمقة ظاهرة. سلمة عن الفراء: شاب إذا خان.
…وقال أبو عبيد عن الأصمعي في باب إصابة الرجل في منطقه مرة وإخطائه أخرى: هو يَشُوبُ وَيَروب. وقال غيره: يشوب من شّوْب اللبن وهو خَلطُه بالماء ومَذقُهُ(1).
…وقال أحمد بن فارس في معجم مقاييس اللغة: شوب: الشين والواو والباء: أصل واحد وهو الخلط. يقال شُبْتُ الشيء أَشُوبُهُ شَوْباً. قال أهل اللغة: وسمي العسل شَوْباً لأنه كان عندهم مزجاً لغيره من الأشربة.
…ويقولون ما عنده شَوب ولا روْب. فالشوْب: العسل، والروْب: اللبن الرائب، وهو مثل لمن لا خير عنده(2).
__________
(1) الأزهري، محمد بن أحمد، تهذيب اللغة، 11/431، مادة شاب. مصدر سابق.
(2) ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة، 3/325، مادة شوب. مصدر سابق، وانظر مجمل اللغة للمؤلف نفسه، 2/515.(1/56)
…وقال ابن منظور في لسان العرب: الشوائب جمع مفردها شائبة. وهي الأقذار والأدناس . والشَوْب: الخلط. قال تعالى : { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ } (1). أي لخلطاً ومزاجاً.
…يقال للمخلِّط في القول أو العمل: هو يَشُوب ويروب. وقال ابن الأعرابي: شاب إذا كذب. وشاب إذا غشّ. وفي الحديث يشهد بيعكم الحَلفُ واللغو، فشوبوه بالصدقة. أمرهم بالصدقة لما يجري بينهم من الكذب والربا، والزيادة والنقصان في القول لتكون كفارة لذلك.
…واستعمل بعض النحويين الشَوْبَ في الحركات فقال: أما الفتحةُ المشوبة بالكسرة، فالفتحة التي قبل الإمالة نحو فتحة عابِدٍ وعارف. وذلك أن الإمالة إنما هي أن تنحو بالفتحة نحو الكسرة فتميل الألف نحو الياء(2).
…مما سبق في معاجم اللغة العربية الرئيسية نجد أن معنى الشوائب الخلط بين جنسين متباينين، والشوائب: الأقذار والأدناس، والغش، والكذب، والخديعة، والخيانة. فهي كلمة جامعة للسوء والرذيلة.
ب- الشوائب اصطلاحاً:
…أقصد بالشوائب في هذا المبحث: المعاني والآراء والأحكام والأفكار والمفاهيم التي اختلطت بالتفسير وليست من جنسه. وللمعنى اللغوي نصيب كبير، فلابد من دراستها دراسة موضوعية ليرى ما فيها، ومالها وما عليها حسب ضوابط التفسير السابقة ليصل الدارس إلى الحق فيها بدليله.
__________
(1) سورة الصافات، الآية: 67.
(2) ابن منظور، لسان العرب، 1/510، مادة شوب.(1/57)
…وتجدر الإشارة إلى أن اختلاف المفسرين لا يعدّ من الشوائب ولو خطّأ بعضهم بعضاً ما دام التفسير يحتمله منطوق الآية أو مفهومها، أو اتسعت له المعاني الشرعية. فالشوائب غير التفسير الخاطئ الذي يحتمله النص، وله وجه من المنطوق أو المفهوم. وإن كانت كل الشوائب في التفسير خاطئة، ولكن ليس كل تفسير خاطئ من الشوائب. ويعد الاختلاف في التفسير إذا لم يتعارض مع النصوص ولا يتناقض معها ويحتمله وجه من المنطوق أو المفهوم يعد اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد.(1/58)
شوائب التفسير في القرون الثلاثة الأولى
…إن المعارف الإسلامية كانت مختلطة بُعيد تمام نزول القرآن، ولا يوجد تمييز بينها، وكانت كلها أجزاء من علم الحديث، وكانت محفوظة في الصدور دون السطور، ثم صارت العلوم تنمو وتنضج، وتتضح صورتها، وتظهر سماتها وقسماتها، فأخذت تستقر تدريجياً بعيد التدوين، وتستقل عن بعضها. فاستقل التفسير عن الحديث وصار علماً قائماً بذاته في الصدور والسطور. روى ابن النديم في كتابه الفهرست قال: "إن عمر بن بكير كتب إلى الفراء أن الأمير الحسن ابن سهل(1) ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولاً أو تجعل في ذلك كتاباً أرجع إليه يوماً، فلما حضروا خرج إليهم وكان في المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس في الصلاة، فالتفت إليه الفراء فقال له: اقرأ بفاتحة الكتاب ففسرها، ثم قرأ في الكتاب كله يقرأ الرجل ويفسر الفراء، فقال أبو العباس: لم يعمل أحد قبله مثله ولا أحسب أن أحداً يزيد عليه"(2). ولا نستطيع الجزم بأن الفراء لم يكن مسبوقاً في تحرير تفسير كامل، فهناك روايات عن ابن عباس تدل على أنه قد كتب تفسيراً بإملائه عن مجاهد(3). وتفسير الطبري يعد موسوعة ضمت ما اندرس من تفاسير الصحابة والتابعين منهم: ابن عباس وسعيد بن جبير، وقتادة،
__________
(1) الحسن بن سهل (ت235هـ)، أسلم سنة 190 هـ، زمن الرشيد، ولي ديوان الخراج زمن المأمون. (الكامل في التاريخ لابن الأثير، 6/197).
(2) ابن النديم، الفهرست، ص73، تحقيق رضا تجدد المازدراني، طبعة طهران 1391هـ-1971م، أورد هذه الفقرة تحت عنوان أخبار الفراء أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، وذكر المحقق أن في طبعة فلوجل: "ففسرها ثم نوفي الكتاب كله فيقرأه الرجل ويفسر الفراء".
(3) انظر مقدمة تفسير الطبري، ذكر الأخبار عن بعض السلف فيمن كان من قدماء المفسرين محموداً علمه بالتفسير، ومن كان منهم مذموماً علمه بذلك، 1/40، ط3، 1388هـ-1968م. طبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر.(1/59)
والسدي، ومقاتل بن سليمان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والحسن البصري، وعكرمة، وغيرهم. ومهما يكن من أمر فشوائب التفسير في هذه الحقبة هي الشوائب التي تسللت إلى علم الحديث حيث كان التفسير جزءاً منه ويتمثل في أمرين اثنين:
…الأول: دس القصص والروايات التي تفتقر إلى سند صحيح عن أهل الكتاب وترويجها شغفاً في استقصاء كل ما يتعلق بالقصص القرآني كاسم الكلب، وصفاته، وغير ذلك مما يتعلق بقصة أصحاب الكهف. وكذلك صفات السفينة التي خرقها العبد الصالح، واسم الغلام، ومواصفات سفينة نوح عليه السلام. ومن أي الشجر كانت عصا سيدنا موسى، وغير ذلك مما أبهم القرآن الكريم، ولا داعي له. وهذا ما اشتهر بالإسرائيليات(1).
__________
(1) الذهبي، محمد حسين، الإسرائيليات في التفسير والحديث، ص 8-9، سلسلة البحوث الإسلامية، مجمع البحوث الإسلامية، مصر، الكتاب 37 سنة 1391هـ-1971م.(1/60)
…الثاني: دس أحاديث موضوعة وترويجها كجزء من الحديث لتفسير القرآن، وفي فضائل القرآن وسوره. وممن برع في هذه المفتريات عبد الله بن سبأ اليهودي، وقد تظاهر بالإسلام وتشيع لآل البيت خداعاً ونفاقاً. وشاركه نفر من المسلمين بدوافع مختلفة منهم أبو عصمة "نوح بن أبي مريم"(1). حيث وضع أحاديث لا أصل لها في فضائل السور، قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في مقدمة علوم الحديث(2) ما نصُّه: "روينا عن أبي عصمة، وهو نوح بن أبي مريم أنه قيل له من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟ فقال: رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة(3)، ومغازي ابن إسحاق(4)
__________
(1) نوح بن درّاج، نوح بن أبي مريم، أبو عصمة المروزي، كوفي، مولاهم، مشهور بالكنية، كذبوه في الحديث. وقال ابن المبارك كان يضع، من السابعة مات سنة 173هـ، انظر الضعفاء والمتروكين، للدارقطني، ترجمة 540، ص 376. وانظر الضعفاء الكبير للعقيلي، ترجمة 1906، 4/305.
(2) قاله الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في مقدمة علوم الحديث، ص 47-48، طبعة يحيى، المصدر السابق نفسه للذهبي.
(3) هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت (ت150 هـ)، مولى تيم الله بن ثعلبة، كان خزازاً يبيع الخز. أدرك أربعة من الصحابة وهم أنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة. ولم يلق أحداً منهم ولا أخذ عنه. أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان، وسمع عطاء بن أبي رباح، ونافع مولى عبد الله بن عمر، وروى عنه عبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، والقاضي أبو يوسف، ومحمد الشيباني، وغيرهم، رفض القضاء زمن المنصور فسجنه، انظر ترجمة 765، وفيات الأعيان، 5/405-415، وانظر تاريخ بغداد، 13/323، ترجمة 7297.
(4) هو محمد بن إسحاق بن يسار، وكنيته أبو بكر وقيل أبو عبد الله المطلبي بالولاء المديني صاحب المغازي والسير (ت151هـ)، شهد له ابن شهاب الزهري والشافعي وسفيان بن عيينة وشعبة بن الحجاج في المغازي والحديث. من تصانيفه السيرة النبوية، انظر ترجمة 612، وفيات الأعيان، 4/276-277.(1/61)
، فوضعت هذه الأحاديث حسبة"(1). وقد رخص بعض الكرامية وضع الحديث في الترغيب بفذلكة كلامية مفادها بأن الكذب الحرام هو الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أما الكذب له بأن روّج لدينه وتعاليمه فلا يدخل تحت الوعيد.
…ثم انتشرت هذه القصص والأحاديث الموضوعة في ثنايا كتب التفسير، وبخاصة بعد فترة حذف الأسانيد مما يدخل في الحقبة الثانية.
…والذي يجدر التنبيه إليه هو أن القصة إذا أسندت لصحابي أو تابعي، أو تابع تابعي فلا يعني أنه قطعاً نقلها هو إلينا. فالدس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم جرماً وقد وقع. فالدس على من دونه يهون على أعداء الإسلام والمغفلين. وقد حذق اليهود الدس، وأتقنوا الفرية. فلا بد من التأكد من اتصال السند أولاً للحكم عليه، ثم يبحث في رجال السند. هذا ولم تتسع دائرة شوائب التفسير أكثر من ذلك في هذه الحقبة. ثم اتسعت دائرة شوائب التفسير بعد القرون الثلاثة الأولى وهو ما سنلقي عليه الضوء في هذا التمهيد لندرك مدى خطورة شوائب التفسير.
__________
(1) الذهبي، محمد حسين، الإسرائيليات في التفسير والحديث، ص 9.(1/62)
شوائب التفسير في الفكر الفلسفي
…تتمثل شوائب التفسير في الفكر الفلسفي في أن الفلاسفة صرفوا النصوص عن معناها الثابت بالقرآن والسنة. وحرّفوا بعضها بما يتفق مع أهوائهم. وحاولوا تقوية مذهبهم بوضع أحاديث على النبي- صلى الله عليه وسلم -(1)، وتأولوا بعض الأمور على غير ظاهرها دون دليل واضح. وأهم الشوائب في الفكر الفلسفي(2) هي:
القول بوحدة الوجود(3).
__________
(1) منها ما وضعه ابن سينا قول الرسول صلعم: (يا رب لقد وجدت لذة غريبة في ليلتي فأعطنيها. ويسِّر عليّ طريقاً يوصلني كل وقت إلى لذة). وقوله صلعم: (فلا ولادة الطاهرين والحكماء للحقيقيين من هذا حظ وافر ونصيب كامل. ومن حظه أكمل فثوابه أجزل) . (من صلى صلاة واحدة في عمره فقد نجا من النار) . وهي أحاديث لم أعثر عليها. ذكر هذه الأحاديث الموضوعة أبو علي الحسين بن عبد الله المشهور بالشيخ الرئيس ابن سينا (ت370هـ). في مخطوط "ماهية الصلاة وأسرارها" القسم الأول. والمخطوط موجود في الهيئة المصرية العامة للكتاب. تحت رمز حكمة وفلسفة رقم 389 عن نسخة المتحف البريطاني بلندن، ويلاحظ أن اختصار الصلاة على النبي كان بدايتها من الفلاسفة كما رأيناه عند ابن سينا.
(2) أهم الفلاسفة الذين خاضوا غمار التفسير لإثبات مفاهيمهم – وإن لم يردنا تفسير كامل عنهم-: الكندي (ت256هـ)، والفارابي (ت339هـ)، وابن سينا (ت370هـ)، وابن طفيل (ت581هـ)، وابن النفيس (ت687هـ)، وهو علاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي. انظر الرسالة الكاملية في السيرة النبوية، تعليق وتحقيق عبد المنعم محمد عمر، ومراجعة د. أحمد عبد المجيد هريدي، ط2، 1408هـ-1987م، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. ط2.
(3) قال ابن سينا: "بل وجوده عين ذاته". وقال: "الوجود الذي هو عينه فينا وخارجاً هو الوجود المطلق". انظر مخطوط تفسير سورة الإخلاص، ص 103. موجود في مكتبة الجامعة الأردنية بعمان تحت اسم مجموعة فواتح الجمال. ولديَّ نسخة من المخطوط.(1/63)
القول بالحلول(1).
ماهية الصلاة(2).
البعث(3).
العبادة(4).
الثواب والعقاب(5).
المعراج(6).
الإخلاص لله(7).
__________
(1) يرى ابن سينا "أن للنفس الإنسانية نواباً يبقى بعد فساد البدن ولا يبلى بطول الزمن له بعث بعد الموت".
(2) الصلاة لها قسم ظاهر رياضي وهي مرحلة تدريبية، وتدرج قاصر العقل لبلوغ المعنى الحقيقي للصلاة هو المعنى الباطن. ولها قسم باطن وهو الحقيقي وهو مشاهدة الحق بالقلب الصافي والنفس المجردة. انظر ص3، مخطوط ماهية الصلاة وأسرارها للشيخ الرئيس ابن سينا، مصدر سابق.
(3) البعث هو سعادة الإنسان وثوابه ويكون بحسب فعله فإن كان كامل العقل نال جزيل الثواب، وإن قصر عقله انتقص ثوابه ويبقى حزيناً مغموماً لا بل يبقى مخذولاً مذموماً. فالبعث هو التحول من الجهل إلى العقل، ومن قصر العقل إلى كماله، انظر مخطوط ماهية الصلاة، ص 3، مصدر سابق.
(4) العبادة هي عرفان واجب الوجود، والعبادة المحضة في القلب والعقل، وهي محبة الله – تعالى – دون نصب الأعضاء في الإنسان. وفسر الآية { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات: 56) بقوله: إلا ليعرفون. انظر مخطوط ماهية الصلاة، ص 3، مصدر سابق.
(5) العقاب: نقصان العقل. والثواب: كمال العقل، ص 3، المصدر السابق نفسه.
(6) كان المعراج بالروح دون الجسد، فتجرد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج عن بدنه وتنزه عن أهله ولم يبق معه من آثار الحيوانية شهوة ولا من الطبيعية قوة تناجي ربه بنفسه وعقله. (انظر ص4 من مخطوط "ماهية الصلاة وأسرارها").
(7) الإخلاص لله هو أن تعلم صفات الإله. قاله ابن سينا مستدلاً بقوله تعالى: { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } (الحجر: 40) وقد كتبت الآية بدون لفظ (منهم). ولا أدري هل هو خطأ مطبعي أو أنه يجيز رواية القرآن بالمعنى. (انظر المخطوط "ماهية الصلاة وأسرارها"، ص4).(1/64)
الدين(1).
الجنة والنار(2).
العرش(3).
تقسيم الإسلام إلى ظاهر وباطن، وهو رمز وإشارة(4).
…والخطأ في الأبحاث الفلسفية نجم عن أمرين اثنين – على فرض سلامة الاعتقاد-:
…الأول: بحث ما لا يقع تحت الحس.
…الثاني: قياس الغائب على الشاهد أو الخالق على المخلوق.
نظرة ابن سينا لتفسير القرآن والحديث:
__________
(1) الدين هو تصفية النفس الإنسانية عن الدورات الشيطانية والهواجس البشرية. والإعراض عن الأغراض الدنية. قاله ابن سينا في مخطوط "ماهية الصلاة وأسرارها"، ص 24.
(2) الجنّة والنار هي كمال العقل ونقصانه. وقال إلى هذا أشارت الآية { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } (العنكبوت: من الآية 45).
(3) العرش هو الفلك التاسع، فقال والحكماء المتشرعون أجمعوا على أن المعنى بالعرش هو هذا الجرم. انظر ص 54 "رسالة في إثبات النبوات" تفسير الآية 17 من سورة الحاقة. مصدر سابق.
(4) انظر ص 48، رسالة في إثبات النبوات، لابن سينا، مصدر سابق، وسيأتي تفصيله في الصفحة القادمة.(1/65)
…يرى ابن سينا أن كلام الشرع باطن لا يباح تأويله إلا لأهل النظر مبرراً هذه النظرية بسرد أقاويل في هذا المعنى ينسبها إلى قدماء اليونان (1). ويعزو سبب ذلك إلى أن رموز حقائق كلام الشرع يدق على فهم العامة، ولا تستطيع إدراك معانيه. واشترط أن يكون كلام الأنبياء ومنهم محمد - صلى الله عليه وسلم - رمزاً يفهم بعضه العامة، والباقي تفك لغزها الخاصة. واستشهد بكلام أفلاطون(2) ليدل على صحة ما ذهب إليه من الاشتراط على النبي أن يكون كلامه رمزاً. وجعل من الضروري الإحاطة برموز الأنبياء حتى يبلغ المرء الملكوت الأعلى. وذكر موقف أجلة فلاسفة اليونان: "فيثاغورس (3) ، وسقراط (4)
__________
(1) قرمورة، ميشال، رسالة في إثبات النبوات لابن سينا، "جامعة تورنتو"، ص 34، دار النهار للنشر، بيروت، 1968م. الدراسات والنصوص الأدبية (2) والقسم التفسيري في الرسالة وهو القسم الأكبر فقرة 15-44، يختص بحل رموز الأنبياء وتأويل كلامهم يعرض فيها نظريته.
(2) ابن ارسطن بن أرسطوقليس من أثينية، وهو آخر المتقدمين الأوائل الأساطين، معروف بالتوحيد والحكمة. ولد في زمان اردشير بن دارا في 16 من ملكه. تتلمذ على يد سقراط ولما قتل سقراط قام مقامه وجلس على كرسيه. (انظر موسوعة الملل والنحل في الأديان والمذاهب في القرون الوسطى، أبي الفتح الشهرستاني (ت548هـ)، مؤسسة ناصر الثقافية، ط1، بيروت 1981م.
(3) فيثاغورس من الحكماء السبعة وهو ابن منسا رفش من أهل ساميا وكان في زمان سليمان النبي بن داود – عليهما السلام0 أخذ الحكمة من معدن النبوة. ويدعي أنه شاهد العوالم العلوية بحسه وحدسه. وبلغ في الرياضة إلى أن سمع حفيف الفلك، ووصل إلى مقام الملك، وقال ما سمعت شيئاً قط ألذ من حركاتها، ولا رأيت أبهى من صورها وهيئاتها. (الملل والنحل، للشهرستاني، ص 158).
(4) سقراط: من الحكماء السبعة، ابن مفرنيسقوس من أهل أثينة. وقد اقتبس الحكمة من فيثاغورس واقتصر على الإلهيات والأخلاقيات، واشتغل بالزهد ورياضة النفس وتهذيب الأخلاق وأعرض عن ملاذ الدنيا واعتزل إلى جبل، نهى الرؤساء الذين كانوا في زمانه عن الشرك وعبادة الأوثان مما أدى إلى قتله بالسم بعد حبسه. (الملل والنحل، ص 163).(1/66)
، وأفلاطون" وأنبيائهم كانوا يستعملون الرموز في كتبهم. وإشادة ابن سينا بحكماء وفلاسفة اليونان منبعثة من نظرته للفلاسفة وهي أن الفيلسوف أعلى مرتبة من النبي لأن النبوة تحصل بالوحي والإلهام. وأما الحكمة أو الفلسفة فتحصل بالكد الفكري، والاجتهاد العقلي. وإليك بعض أقواله لتقف على حقيقة نظرته لتفسير القرآن:
…"وقيل إن المشترَط على النبي أن يكون كلامه رمزاً، وألفاظه إيماءً، وكما يذكر أفلاطون في كتب النواميس : أن من لم يقف على معاني رموز الرسل لم ينل الملكوت الإلهي . وكذلك أجلة فلاسفة يونان وأنبياؤهم كانوا يستعملون في كتبهم المراميز والإشارات التي حشوا فيها أسرارهم كفيثاغورس وسقراط وأفلاطون. وأما أفلاطون فقد عذل أرسطاطاليس(1) في إذاعته الحكمة وإظهاره العلم حتى قال أرسطاطاليس: "إني عملت كذا، فقد تركت في كتبي مهادي كثيرة لا يقف عليها إلا الشريد(2) من العلماء والعقلاء". ومتى كان يمكن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يوقف على العلم أعرابياً جلفاً ولا سيما البشر كلهم إذا كان مبعوثاً إليهم كلهم"(3).
__________
(1) أرسطاطاليس بن نيقوماخوس من أهل أسطاخرا، وهو المعلم الأول والحكيم المطلق عندهم. لأنه واضع التعاليم المنطقية ومخرجها من القوة إلى العقل، وقد جرد علم المنطق من كلام القدماء، وسماه تعليمات. وكان مولده في أول سنة من ملك أردشير بن دارا، فلما صار عمره سبعة عشر سنة أسلمه أبوه لأفلاطون فمكث عنده نيفاً وعشرين سنة. (الملل والنحل، ص 180).
(2) وقع في مخطوط كوبرولي (القليل)، وفي مخطوط رامبور (الشرذمة) وفي رأيي أنها جميعاً تدل على المعنى نفسه. المصدر السابق نفسه.
(3) ص 48 المصدر السابق "رسالة في إثبات النبوات". وانظر 2/426، التفسير والمفسرون للذهبي، عن رسائل ابن سينا، ص 124-125، مطبعة هندية، 1908م.(1/67)
…وهكذا استند ابن سينا إلى فلاسفة اليونان في قضية إسلامية محضة وهي النظرة للقرآن والحديث من لغة الخطاب. وما دام ابن سينا يرى أن كلام الشرع رموز، وهو محظور التفسير على العامة، وحصره بالخاصة، فليس غريباً والحالة هذه أن يفرغ أفكاره ومفاهيمه وآراءه ونظرياته الفلسفية فيما يزعمه تفسيراً لنصوص القرآن الكريم متجاهلاً أن القرآن جاء بلسان عربي مبين.
…ومن الجدير بالذكر أن ابن سينا قد صرح بأن جميع الأوامر الشرعية جارية مجرى ما شرحه في رسالة ماهية الصلاة وقال إن الحر تكفيه الإشارة(1). وهناك إشارة تدل على أن للرجل مذهباً باطنياً خاصاً هي قوله في خاتمة الرسالة: "وأحرم عرض هذه الرسالة على من أغوى هواه، وطبع قلبه طبعه فإن لذة الجماع لا تتصور للعينين، ولذة النظر لا يصدقه الأكمه. تمت الرسالة"(2).
…هذه خلاصة شوائب التفسير في الفكر الفلسفي. ومنها نخلص إلى نتيجة أنه لا يوجد لهم في التفسير غير الشوائب. لأنهم اعتمدوا مصادر غير مصادر التفسير المتبعة في الإسلام، فجعلوا العقل، والفلسفة القديمة، مصادر تشريعهم. وأعرضوا عن السنة الصحيحة، وعن اللسان العربي المبين الذي نزل به القرآن الكريم.
__________
(1) مخطوط ماهية الصلاة وأسرارها، لابن سينا، ص 5. مصدر سابق.
(2) المصدر السابق نفسه.(1/68)
شوائب التفسير في الفكر الصوفي
…تفسير الصوفية والتفسير الفلسفي بينهما وشائج تكاد توصلهما لحد الاتحاد. وإن كان لكل أسلوبه في صوغ العبارة. والشوائب في التفسيرين تكاد تكون متماثلة لأنها تفتقر إلى لغة التفاهم مع نصوص القرآن الكريم(1). وإذا أضفنا إلى ذلك ما ورد في الفتوحات المكية المنسوب لابن عربي في باب الإشارة من أنها تفسير حقيقي للقرآن، وأنها شرع ووحي كالأصل الذي نزل على الأنبياء تماماً. واستعمالهم التقية ضد المسلمين، وعداء مستحكم لهم كما ورد في المقالة نفسها(2). إذا أضفنا هذا فإننا نتوصل إلى أن شوائب التفسير في الفكر الصوفي لها جذور عميقة في أفكار الفلاسفة وفي شوائبهم
__________
(1) استعمال الرمز والإشارة في التفسير سمة مشتركة كأساس في التفسير الفلسفي والصوفي.
(2) قال ابن عربي في الفتوحات المكية: "وما خلق الله أشق ولا أشد من علماء الرسوم على أهل الله المختصين بخدمته العارفين به من طريق الوهب الإلهي الذي منحهم أسراره في خلقه وفهمهم معاني كتابه وإشارات خطا به فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل. ولما كان الأمر في الوجود الواقع على ما سبق به العلم القديم كما ذكرناه عدل أصحابنا إلى الإشارات كما عدلت مريم عليها السلام من أجل أهل الإفك والإلحاد إلى الإشارة، فكلامهم–رضي الله عنهم– في شرح كتابه العزيز إشارات وإن كان ذلك حقيقة. وتفسير العامة منافقة ورد ذلك كله إلى نفوسهم"، 1/364، الباب الرابع والخمسون في معرفة الإشارات. وقال: "وكما كان أصل تنزيل الكتاب من الله على قلوب أنبيائه كان تنزيل الفهم من الله على قلوب المؤمنين به"، 1/365، المصدر السابق. وقال: "وإذا كان الأصل المتكلم فيه إنما هو من عند الله لا من فكر الإنسان ورويته، وعلماء الرسوم يعلمون ذلك فينبغي أن يكون أهل الله العاملون به أحق بشرحه وبيان ما أنزل الله فيه من علماء الرسوم فيكون شرحه أيضاً تنزيلاً من عند الله على قلوب أهل الله كما كان الأصل"، 1/365، المصدر نفسه.(1/69)
التفسيرية.
…ذلكم أن الأبحاث الصوفية نمت وترعرعت بعد ترجمة الأفكار والآراء الفلسفية عن اليونان، وتزامنت مع دخول علم الكلام والمنطق إلى المسلمين. وصار للصوفية فلسفة خاصة ومفاهيم معينة تناقضت مع الإسلام في بعض صورها مما حدا بالمسلمين إلى محاربة التصوف الفلسفي والحكم عليه بالردة. وقد نفذ الحكم ببعض رموزهم ممن أصر على مفاهيمه ومنهم: الحلاج(1)، والسهروردي(2)(3).
__________
(1) أبو مغيث، الحسين بن منصور الحلاج، الصوفي، المشهور من أهل البيضاء بلدة بفارس، ونشأ بواسط والعراق، صحب أبا القاسم الجُنيد، والناس مختلفون في أمره فمنهم من يبالغ في تعظيمه ومنهم من يكفره. وكان جده مجوسياً، وقد ادّعى الألوهية، وأفتى أكثر علماء عصره بإباحة دمه، أمر المعتضد بإعدامه 309هـ. (وفيات الأعيان، ترجمة 189، 2/140-157).
(2) السهروردي المقتول، أبو الفتوح، يحيى بن حبيش بن أتيرك، الملقب بشهاب الدين الحكيم المقتول بحلب، قرأ الحكمة وأصول الفقه على الشيخ مجد الدين الجبلي في أذربيجان، وهو شيخ فخر الدين الرازي، وعليه تخرج، جمع الفنون الفلسفية، قتل في 857هـ، وعمره 38 سنة. من مصنفاته: التنقيحات في أصول الفقه، وكتاب حكمة الإشراق، وكان يتهم بانحلال العقيدة والتعطيل، ويعتقد مذهب الحكماء المتقدمين، واشتهر ذلك عنه فلما بلغ حلب أفتى العلماء بإباحة قتله بسبب اعتقاده وما ظهر لهم من سوء مذهبه. وكان قتله في عهد الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين فحبسه ثم خنقه بإشارة والده السلطان صلاح الدين. (وفيات الأعيان، ترجمة 813، 6/268-274).
(3) الشيبي، د. كامل مصطفى، الصلة بين التصوف والتشيع، 1/398، وانظر ص 399-400، ط3، دار الأندلس، بيروت، 1982م.(1/70)
…ومن الجدير بالذكر أن علوم التصوف في جوهرها تبحث في ما رواء الطبيعة. ومنه علم الفلك القديم والكيمياء وهي عند القدماء علوم روحية تبحث فيما وراء الطبيعية(1).
…وينظر إلى التصوف على أنه محاولة من محاولات التوفيق بين الإسلام وبين الفلسفات اليونانية والهندية(2).
أهم الشوائب في الفكر الصوفي:
وحدة الوجود والحلول(3)
__________
(1) محمود، د. عبد الحليم، المنقذ من الضلال للغزالي، مع أبحاث في التصوف، 5/258، دار الكتب الحديثة، مصر، بدون تاريخ.
(2) الزين سميح عاطف، الصوفية في نظر الإسلام، 2/965، ط2، دار الكتاب اللبناني، بيروت، بدون تاريخ.
(3) ورد في الفتوحات المكية العبارة التالية: "وقد ثبت عند المحققين أنه ما في الوجود إلا الله، ونحن وإن كنا موجودين فإنما كان وجودنا به، ومن كان وجوده بغيره فهو في حكم العدم". 1/363، الباب الرابع والخمسون في معرفة الإشارات. ابن عربي.
وقال ابن عربي في تفسير سورة الفجر عند الآيتين: 29، 30 { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي } : "وادخلي جنتي التي هي ستري، وليست جنتي سواك، فأنت تسترني بذاتك الإنسانية فلا أعرف إلا بك، كما أنك لا تكون إلا بي فمن عرفك عرفني، وأنا لا أَعْرَف فأنت لا تعرف، فإذا دخلت جنته، دخلت نفسك، فتعرف نفسك= =معرفة أخرى، غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها، فتكون صاحب معرفتين معرفة به من حيث أنت، ومعرفة به بك من حيث هو لا من حيث أنت، فأنت عبد رأيت رباً، وأنت رب لمن له في أنت عبد، وأنت رب وأنت عبد لمن له في الخطاب عهد"، 2/342، التفسير والمفسرون للذهبي، عن الفصوص، 1/191-193، وانظر الفصوص، 1/50، الآية الأولى من سورة النساء. وانظر تفسير ابن عربي، 1/141 ، آية 191، آل عمران. وانظر الفتوحات المكية، 4/119. ونقول إن ناقل الكفر ليس بكافر إذا كان في معرض النقد والنقض. فعقيدة وحدة الوجود واضحة جلية في هذه الفقرات. وهي تناقض الإسلام مناقضة صريحة وفيها رائحة عقيدة الحلول. فهي شوائب لا تمت للتفسير بسبب ولا بنسب.(1/71)
.
النظريات الفلسفية(1).
الحج(2)
__________
(1) قال ابن عربي في تفسير آية 87، من سورة البقرة { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } : "والظاهر أن جبرائيل هو العقل الفعال، وميكائيل هو روح الفلك السادس وعقله المفيض للنفس النباتية الكلية الموكلة بأرزاق العباد، وإسرافيل هو روح الفلك الرابع، وعقله المفيض للنفس الحيوانية الكلية الموكلة بالحيوانات. وعزرائيل هو روح الفلك السابع الموكل بالأرواح الإنسانية كلها يقبضها بنفسه أو بالوسائط التي هي أعوانه ويسلمها إلى الله تعالى"، 2/342. التفسير والمفسرون للذهبي عن الفصوص، 1/191، 193.
والملاحظ أنه لا توجد أي علاقة بين نص الآية وهذه الفقرة. فالرجل في رأسه أفكار يريد أن يضفي عليها صبغة شرعية فصبها في الفقرة التي قرأناها. وإذا أرجعنا البصر إلى المصطلحات الواردة في الفقرة، العقل الفعال، والعقل الفياض.. الخ نجدها مصطلحات الفلاسفة بعينها مما يدل على تشابك شوائب التفسير عند الفلاسفة بشوائب التفسير عند الصوفية.
(2) قال أحمد سعد عثمان علي العقاد في تفسيره "ضياء الأكوان في تفسير القرآن" عند تفسيره لقوله تعالى
{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } (البقرة: من الآية 196): "ولكن للعارفين حج آخر يحجونه متى اشتاقوا لحبيبهم وهو حج الروح. لا يتكلفون سفراً ولا انتقالاً لأن مطلوبهم في أنفسهم وهو القلب الذي هو بيت الله العامر بأسرار الله وأنواره.. وقال بعض العارفين.. فكعبة الأشباح بمكة المكرمة وكعبة الأرواح معك وهو قلبك. فاحرص على الطواف حول المعاني التي فيك يتجلى لك خالقك وباريك". انظر 1/397، 398. اتجاهات التفسير في القرن 14هـ، د. فهد الرومي عن تفسير أضواء الأكوان، 2/84، أحمد العقاد. وهو مصري من مواليد مدينة الفيوم بالصعيد سنة 1307هـ، انظر ترجمته في آخر الجزء الثاني من تفسيره، وانظر مناهج المفسرين لمنيع عبد الحليم محمود، ص 361، 362.(1/72)
.
جنة الشهود(1).
النعيم والجحيم والنار(2)
__________
(1) قال أحمد العقاد في تفسير قوله تعالى: { وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (البقرة: من الآية 245): "وقد ذاق العارفون حلاوة هذا السر فرجعوا من الأكوان إلى المكون، ورجعوا من أنفسهم إلى بارئها، ومن رجع إلى الله بالتوبة فقد وصل إلى الله وقامت قيامته ونصب له الميزان ودخل جنّة الشهود وسيدخل جنّة النعيم إن شاء الله بغير حساب". انظر 1/400، اتجاهات التفسير في ق14هـ، د. فهد الرومي، عن ضياء الأكوان، 2/153.
(2) قال أبو عبيد الرحمن السلمي في تفسير سورة الانفطار عند قوله تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } (الانفطار: 13، 14): قال جعفر: النعيم: المعرفة والمشاهدة. والجحيم: النفوس فإن لها ناراً تتقد. انظر 2/389، التفسير والمفسرون للذهبي، عن حقائق التفسير للسلمي ص 385. قال ابن تيمية: "وما ينقل في حقائق السلمي عن جعفر الصادق عامته كذب على جعفر كما قد كذب عليه في غير ذلك". انظر 4/155، منهاج السنة لابن تيمية. وفي تعقيب ابن تيمية غنية عن الرد فهي شوائب دخلت في تفسير الصوفية لا شائبة للإسلام فيها.
وقال ابن عربي عن الآية 25 من سورة نوح: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا } : "قال: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا } فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهو الحيرة.= = { فَأُدْخِلُوا نَارًا } في عين الماء { فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا } فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد". انظر 2/412، التفسير والمفسرون للذهبي عن فصوص الحكم، 1/219.
فالنار عند ابن عربي تعني الماء، والغَرَق في النار يعني الحيرة. ونفي النصير يعني الحلول في الذات الإلهية والاتحاد معه. وهذا كله يتعارض ويتناقض مع اللسان العربي المبين. وهذه الآراء تنم على عدم الإيمان بالغيب الوارد في القرآن ففسروها بما يتخيلون من خواطر. فهي شوائب محضة لا شائبة للإسلام فيها.(1/73)
.
الجار ذي القربى، والجار الجنب والصاحب بالجنب(1).
الشهيد(2).
ابن السبيل(3).
معجزة سيدنا سليمان(4).
معجزة طالوت(5)
__________
(1) قال سهل التستري: "وأما باطنها فالجار ذي القربى: هو القلب، والجار الجنب هو الطبيعة، والصاحب بالجنب: هو العقل المقتدي بالشريعة" 2/364، التفسير والمفسرون للذهبي، عن تفسير التستري ص 41-45.
(2) قال أحمد العقاد في قوله تعالى: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } (البقرة: 154): "والأولياء لهم قدم صدق في هذه الحياة فإن منهم من قتل بسيف المحبة، ومنهم من قتل بسهام مخالفة النفس، ومنهم من قتل بسيف طلب العلم والسهر في تحصيله والتلذذ به، ونسيان البشرية فيحييهم الله في برازخهم ويكتبهم عنده شهداء" 1/405، اتجاهات التفسير في ق14هـ عن ضياء الأكوان 2/21. ومعلوم أن الشهيد في الإسلام هو من يقتل في ساحة الوغى على يد الكفار مقبلاً غير مدبر إذا كان هدفه إعلاء كلمة الله.
(3) "هو المسافر الذي يطلب العلم، أو يزور الأولياء، أو ينظر في آيات الله، أو يتعرف بإخوانه المؤمنين"، ضياء الأكوان لأحمد العقاد، 2/49. والنص منقول من ص405، اتجاهات التفسير في القرن 14هـ، فهد الرومي. قاله عند تفسير سورة البقرة، آية 177.
(4) "إن طير الحقيقة لسليمان طير قلبه فتفقده ساعة" انظر 2/99، التفسير والمفسرون للذهبي عن عرائس البيان، 2/813، عرائس البيان في حقائق الرحمن لمحمد الشيرازي". قاله عند تفسير سورة النمل الآيتين 20-21.
(5) قال نجم الدين داية في تفسيره التأويلات النجمية في تفسير سورة البقرة، آية 249 { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً
بِيَدِهِ } . فاللسان العربي المبين أن الله ابتلى الخلق بنهر في الدنيا ثم امتحنهم. ولكن عند نجم الدين آية فإنه "يعني من أوليائي، ومحبي طلابي، وله اختصاص بقربي وقبولي، والتخلق بأخلاقي، ونيل الكرامة مني كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أنا من الله، والمؤمن مني) قال ابن حجر لا أعرفه، كشف الخفاء، رقم 619. { إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } يعني من قنع من متاع الدنيا على ما لا بد منه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن وصحبة الخلق على حد الاضطرار بمقدار القوم". انظر 2/396، التفسير والمفسرون للذهبي عن التأويلات النجمية، ج1، "نجم الدين داية وعلاء الدولة السمناني".(1/74)
.
…هذه أهم شوائب التفسير في كتب التفسير الصوفية. دخل أكثرها تحت عباءة القول بالرمز والإشارة لأنه لا حدود له، ولا ضابط له، فيمكن للمرء أن يدخل ما يشاء وكيف يشاء حتى لو سميت البقرة دجاجة، والنار ماء فلا حرج في ذلك وهذا كله يتناقض مع اللسان العربي المبين. ومن يرغب في لمس الفرق الكبير، والبون الشاسع في المعنى بين التفسير التحليلي الذي يحتمله المنطوق والمفهوم للآيات وبين التفسير الإشاري فلينظر في تفسير روح المعاني
للألوسي(1) حيث داوم على وضع تفسير إشاري بعد كل مجموعة من الآيات
أو في خاتمة السورة. وفي الختام لا يسعني إلا أن أقول إن شوائب التفسير الصوفي تتعانق مع شوائب التفسير الفلسفي. والحقيقة أنه لا يجوز أن تسمى تفسيراً. وما ذكرناها إلا لأن أصحابها يصرون على أنها تفسير فكان لزاماً أن نعدها من الشوائب في التفسير.
شوائب التفسير في فكر الشيعة
…تتمثل الشوائب في كتب التفسير عند الشيعة في أنهم أضافوا مصدراً للتشريع هو العقل وقول الأئمة المعصومين عندهم، وجعلوهما قسيمين للكتاب والسنة، بل جعلوهما يرجحان بقية المصادر، ويرون أن كل تفسير لم يخرج منهم فلا تعويل عليه(2).
__________
(1) هو محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي، شهاب الدين أبو الثناء، مفسر، محدث، فقيه، لغوي، ولد ببغداد (1217هـ)، وتقلد الإفتاء فيها، وتوفي فيها عام (1270 هـ). من تصانيفه روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني، والأجوبة العراقية، والأجوبة الإيرانية. معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة، 12/175.
(2) يرى المولى محمد محسن الملقب بالفيض الكاشاني أن تفسيره وصل من الأئمة المعصومين. وكل ما لا يخرج من بينهم فلا تعويل عليه. ص 10 ديباجة كتابه "تفسير الصافي"، ط1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، 1399هـ - 1979م.(1/75)
…ثم إنهم لم يعتدوا بقاعدة أن الصحابة كلهم عدول بل طعنوا بالكثير منهم(1) لا سيما من جاء في الحكم قبل علي بن أبي طالب – كرّم الله وجهه-، لذلك جاءت تفاسيرهم مغايرة من حيث السند ومن حيث البيان لما هو معهود في كتب التفسير من الطبري حتى يومنا هذا.
__________
(1) قال الفيض الكاشاني في لمز الصحابة: "فكانوا يفسرونه لهم بالآراء ويرون تفسيره عمن يحسبونه من كبرائهم مثل أبي هريرة وأنس وابن عمر ونظرائهم". ص11، ديباجة الكتاب، وقال: "وكانوا يعدون أمير المؤمنين عليه السلام من جملتهم ويجعلونه كواحد من الناس. وكان خير من يستندون إليه بعده ابن مسعود وابن عباس، فمن ليس على قوله كثير تعويل ولا له إلى الباب الحق سبيل وكان هؤلاء الكبراء ربما يتقولونه من تلقاء أنفسهم غير خائفين من مآله. وربما يسندونه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن الآخذين عنهم من لم يكن له معرفة بحقيقة أحوالهم لما تقرر عندهم أن الصحابة كلهم عدول ولم يكن لأحد منهم عن الحق عدول. ولم يعلموا أن أكثرهم كانوا يبطنون النفاق ويجترئون على الله ويفترون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عزة وشقاق. فكان لهم في كل قرن رؤساء ضلالة .. فتباً لهم ولأدب الرواية". ص11، الديباجة. وقال: "والتفاسير التي صنفها علماء العامة من هذا القبيل فكيف يصح عليها التعويل". ص12، ديباجة كتاب تفسير الصافي.
وانظر طعنه بعثمان وأبي ذر وتشبيهه بقتلة الحسن والحسين باليهود في رواية سبب نزول الآية 86 من سورة البقرة عن القمي. وقد كذب الصحابة بعضهم بعضاً، وقول أبي ذر لكعب الأحبار يا ابن اليهودية إلى غير ذلك من المزاعم التي لا تثبت أمام النقد والتمحيص.(1/76)
…وقالوا بالرمز والإشارة فساهم عند بعضهم الإيغال في الباطنية(1) ومنهم
__________
(1) ومنهم الإسماعيلية وهم الاسم الحقيقي للفاطميين العبيديين وقد لقبوا بسبعة ألقاب هي: الباطنية، والقرامطة، والحرمية، والسبعية، والبابكية أو الخرمية، والحمّرة، بالإضافة إلى الإسماعيلية. وإليك مقتطفاً من رسالة بعث بها أحد المسؤولين منهم وهو عبيد الله بن الحسن القيرواني إلى سليمان بن الحسن بن سعيد الجناني، لنقف على حقيقة القوم: ".. وإنني أوصيك بتشكيك الناس في القرآن والتوراة والزبور والإنجيل وبدعوتهم إلى إبطال الشرائع، وعلى إبطال المعاد والنشور من القبور، وإبطال الملائكة فإن ذلك عون لك على القول بقدم العالم". وقال: "وينبغي أن تحيط علماً بمخاريق الأنبياء ومناقضاتهم في أقوالهم كعيسى ابن مريم قال لليهود: لا أرفع شريعة موسى ثم رفعها بتحريم الأحد بدلاً من السبت، وأباح العمل في السبت، وأبدل قبلة موسى بخلاف جهتها. ولهذا قتلته اليهود لما اختلفت كلمته، ثم قال له: ولا تكن كصاحب الأمة المنكوسة حيث سألوه عن الروح فقال: الروح من أمر ربي. لما لم يحضره جواب المسألة. ولا تكن كموسى في دعواه التي لم يكن له عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعبذة. ولما لم يجد المحقَّ في زمانه = = عنده برهاناً قال له { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } (الشعراء: 29)، وقال لقومه: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } (النازعات: من الآية 24) لأنه كان صاحب الزمان في وقته". انظر ص 280-281، الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط3، 1978م. وفي بقية الرسالة يتعجب ممن يدعي العقل ولا يتزوج من أخته أو ابنته الحسناء ويحرمها على نفسه. مخوفاً بغائب لا يعقل وهو الإله الذي يزعمونه، ورأى أن النار والجحيم وعذابها ما هو إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والجهاد والحج.(1/77)
الإسماعيلية حيث جاءت الشوائب عندهم مزيجاً من الفكر الفلسفي والصوفي النظري والباطني. وكثير من فرق الشيعة يعدون الإسماعيلية مارقة من الدين. وإليك أهم الشوائب في تفسير الشيعة الإثني عشرية:
القول بتحريف القرآن(1)
__________
(1) اختلف علماء الشيعة على القول بتحريف القرآن فمن قال بالتحريف منهم: 1- ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ورد ذلك في كتاب الكافي. 2- استأذه علي بن إبراهيم القمي. فإن تفسيره مملوء منه وله غلوّ فيه. 3- الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي. فنسج على منوالهما في كتاب الاحتجاج. 4- المولى محسن الملقب بالفيض الكاشاني. وقد رجح التحريف بعد أن ساق جميع الآراء في التحريف وعدمه في المقدمة السادسة "جمع القرآن" في كتابه تفسير الصافي. انظر ص 44، 47، 49.
وممن قال بعدم التحريف: 1- أبو علي الطبرسي في مجمع البيان. 2- المرتضى واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات. 3- رئيس المحدثين محمد بن علي بن بابويه القمي، قال: "اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو ما بين الدفتين. وما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك". قال: "ومن نسب إلينا إنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كذب". 4- شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي حيث قال: "وأما الكلام في زيادته ونقصانه فيما لا يليق به لأن الزيادة منه مجمع على بطلانه، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره المرتضى - رضي الله عنه -، وهو الظاهر في الروايات.
من ادّعى التحريف يزعم أنه حذف منه أشياء منها اسم علي – عليه السلام – في كثير من المواضع، ومنها لفظة آل محمد، ومنها أسماء المنافقين، وإنه ليس على الترتيب المرضي عند الله وعند رسوله.
كما يزعمون تبديل بعض الأمور منها: خير أمّة أخرجت للناس كانت خير أئمة. ومنها واجعلنا للمتقين إماماً كانت واجعل لنا من المتقين إماماً. ومنها له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله فكانت له معقبات من خلف ورقيب من بين يديه.
وزعموا الحذف في قوله تعالى: لكن الله يشهد بما أنزل إليك في علي ومنه: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي فإن لم تفعل فما بلغت رسالتك. ومنه إن الذين كفروا وظلموا آل محمد حقهم لم يكن الله ليغفر لهم. ومنه: وسيعلم الذين ظلموا آل محمد حقهم أي منقلب ينقلبون.
وزعموا التقديم والتأخير فقدمت آية عدة النساء الناسخة { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } (البقرة: من الآية 234). والآيتان متقاربتان في سورة البقرة. وزعموا أنه كان يجب أن تقرأ المنسوخة التي نزلت قبل الناسخة. ومن التقديم والتأخير الذي زعموه: وما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وإنما هو نحيا ونموت.
وزعموا أن بعض الآيات في السورة وتمامها في سورة أخرى نصف الآية في سورة البقرة والنصف الآخر في سورة المائدة: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكن ما سألتم. فقالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون. وأما الذين يقولون بعدم النقيصة فيقولون إن هذه تفسيرات وليست حذفاً. الفيض الكاشاني، المولى محسن، تفسير الصافي، المقدمة السادسة، 1/36-49. منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات 1399هـ-1979م. وانظر ص 26-33 قول الإمامية بعدم النقيصة في القرآن، مقدمة الحجة محمد جواد البلاني في بداية تفسير مجمع البيان للطبرسي، دار الباز، مكة.(1/78)
. (النقيصة في القرآن).
2- القول بأن للقرآن ظاهراً وباطناً(1).
__________
(1) من أقوالهم ما روى العياشي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر: "يا جابر إن للقرآن بطنا وللبطن بطناً وظهراً، وللظهر ظهراً ص 27، المقدمة الرابعة من تفسير الصافي. وروى العياشي بإسناده عن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نزل القرآن بإياك نعني واسمعي يا جارة. وعن العياشي عليه السلام أن للقرآن ظهراً وبطناً، وللبطن بطن إلى سبعة أبطن.
ورووا عن الصادق عليه السلام أنه قال: كتاب الله على أربعة أشياء العبادة والإشارة واللطائف والحقائق. فالعبادة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء. انظر المقدمة الرابعة من تفسير الصافي، 1/27-29.
وقال عبد اللطيف الكازاراني: "إن من أبين الأشياء وأظهرها، وأوضح الأمور وأشهرها، أن لكل آية من كلام الله المجيد، وكل فقرة من كتاب الله المجيد، ظاهراً وباطناً، وتفسيراً وتأويلاً، بل لكل واحد منها – كما يظهر من الأخبار المستفيضة– سبعة بطون وسبعون بطناً وقد دلت أحاديث متكاثرة كادت أن تكون متواترة على أن بطونها تأويلها.. إلى أن قال: وأن الله عز وجل جعل حملة بطن القرآن في دعوة الإمامية والولاية، كما جعل ظهره في دعوة التوحيد والنبوة والرسالة". انظر 2/47، التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي، عن مقدمة تفسير الكازاراني، مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار. ولا يخفى أن جميع هذه الأقوال تناقض اللسان العربي المبين.(1/79)
3- القول بالرمز والإشارة(1).
__________
(1) من تفاسيرهم بالرمز والإشارة ما قاله الطبرسي في مجمع البيان في تفسير سورة النور، آية 35: { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (النور: من الآية35). روي عن الرضا أنه قال: نحن مشكاة فيها المصباح محمد - صلى الله عليه وسلم - يهدي لولايتنا من أحب. ونقل من كتاب التوحيد لأبي جعفر بن بابويه – رحمه الله- بالإسناد عيسى بن راشد عن أبي جعفر الباقر في قوله { كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } قال: نور العلم في صدر النبي. { الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } الزجاجة: صدر علي صار علم النبي إلى علم علي { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } نور العلم. { لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) لا يهودية ولا نصرانية { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } قال: يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يُسأل".(1/80)
4- القول بوحدة الوجود والحلول(1)
__________
(1) روى المولى محسن الملقب بالفيض الكاشاني في تفسير الصافي عند الآية 34 من سورة البقرة: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ } (البقرة: من الآية 3) قال: قال علي بن الحسين، حدثني أبي عن أبيه عليه السلام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا عباد الله إن آدم لما رأى النور ساطعاً من صلبه إذ كان الله قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره رأى النور ولم يتبين الأشباح فقال: يا رب ما هذه الأنوار! فقال عز وجل: "أنوار وأشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت وعائلتك الأشباح، فقال آدم: يا رب لو بينتها لي. فقال الله – عز وجل-: انظر يا آدم إلى ذروة العرش فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا التي في ظهره كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية فرأى أشباحنا. فقال: ما هذه الأشباح يا رب. قال الله: يا آدم هذه أشباح أفضل خلائقي وبريّاتي هذا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنا الحميد المحمود في فعالي شققت له اسماً من اسمي. وهذا عليّ وأنا العلي العظيم شققت له اسماً من اسمي. وهذه فاطمة وأنا فاطر السموات والأرض فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي وفاطم أوليائي عمّا يعيّرهم ويشينهم فشققت لها اسماً من اسمي. وهذا الحسن وهذا الحسين وأنا الحسن المجمل شققت اسميهما من اسمي . هؤلاء خيار خليقتي وكرام بريّتي بهم آخذ وبهم أعطي وبهم أعاتب وبهم أثيب فتوسل بهم إليّ يا آدم إذا دهتك داهية فاجعلهم إليّ شفعاءك فإني آليت على نفسي قسماً حقاً أن لا أخيب بهم أملاً ولا أرد بهم سائلاً. فلذلك حين زلت منه الخطيئة دعا الله عز وجل بهم فتيب عليه وغفرت له". 1/101، تفسير الصافي، مولى محسن الملقب بالفيض الكاشاني، مصدر سابق.
فهذه الرواية يظهر الوضع فيها جلياً وقد وضعت لأمور تناقض الإسلام أهمها:
القول بالحلول ووحدة الوجود حيث يقول إن الأشباح أو ذرية آدم من ذروة العرش. والقرآن الصريح أن الله خلق آدم من طين لازب. وتقول الرواية: فانطبع في صور أشباحنا التي ظهر فيه كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية. وهي فكرة الحلول بأوضح صورها.
جعل ذرية علي هي الموصلة لله –تعالى– قبل أن يخلقهم وليس طاعة الله ورسوله، بل أكثر من ذلك جعل الأنبياء والمرسلين وفي مقدمتهم آدم –عليه السلام- تبعاً لغير المرسلين من آل علي، فمقامهم أعلى من مقام الأنبياء والمرسلين، وفي الرواية أن الله –تعالى- لم يتب على آدم من خطيئته إلا بعدما توسل إلى الله عز وجل بهم.(1/81)
.
5- التقية من المسلمين ممن هم ليسوا على مذهبهم(1).
__________
(1) ورد في تفسير الصافي عند الآية 28 من سورة آل عمران: العياشي عن الصادق (ع) قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا إيمان لمن لا تقية له.
وفي الكافي عنه (ع) قال التقية ترس الله بينه وبين خلقه.
وعن الباقر (ع) قال التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم. وقد أحلها الله له والأخبار في ذلك مما لا يحصى. والملاحظ أن التقية في الآية تكون من الكافرين عند التعرض للهلاك. ولكن النصوص التي ذكرها الصافي تجعلها عامة في كل شيء وهي بحاجة إلى إثبات من جهة السند. 1/302، تفسير الصافي، مصدر سابق.
وورد في التفسير المنسوب لحسن العسكري في تفسير الآية 173 من سورة البقرة { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ } (البقرة: من الآية 173) نظر الباقر عليه السلام إلى بعض شيعته وقد دخل خلف بعض المخالفين إلى الصلاة وأحس الشيعي بأن الباقر عليه السلام قد عرف ذلك منه فقصده وقال: أعتذر إليك يا ابن رسول الله من صلاتي خلف فلان، فإنني أتقيه، ولو لا ذلك لصليت وحدي، قال له الباقر عليه السلام: يا أخي إنما كنت تحتاج أن تعتذر لو تركت، يا عبد الله المؤمن ما زالت ملائكة السموات السبع والأرضين السبع تصلي عليك، وتلعن إمامك ذاك، وإن الله –تعالى- أمر أن تحسب لك صلاتك خلفه للتقيّه بسبعمائة صلاة لو صليتها وحدك فعليك بالتقية، واعلم أن الله –تعالى- يمقت تاركها كما يمقت المتقي منه، فلا ترض لنفسك أن تكون منزلتك عند الله كمنزلة أعدائه". العسكري، الإمام أبو محمد الحسن بن علي، التفسير المنسوب للعسكري، ص 585، تحقيق ونشر مدرسة الإمام المهدي، قم، ط1، 1409هـ. والشوائب تكون في المغالاة في استعمال التقيّة إذا خرجت عن معنى النص في الأعداء من الكفار وفي وضع أحاديث في التقية لتكون سمة عامة.(1/82)
الجنّة وأهوال القيامة(1)
__________
(1) قال المولى عبد اللطيف الكازاراني في تفسير مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار عند قوله تعالى: { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاء مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ } (الواقعة: 30-32)، "قال شيخنا العلامة –رحمه الله- لعل المعنى ليس حيث يذهب الناس في انحصار جنّة المؤمنين في الجنة الصورية الآخروية، بل لهم في الدنيا أيضاً ببركة أئمتهم عليهم السلام جنات روحانية من ظل حمايتهم، ولظلِّهم الممدود في الدنيا والآخرة، وماء مسكوب من علومهم الممتعة التي تحيي النفوس والأرواح، وفواكه كثيرة من أنواع معارفهم التي لا تنقطع عن شيعتهم ولا يمنعون منها.."، انظر 2/53، التفسير والمفسرون للذهبي وهو في الفصل الثالث من المقالة الأولى. ولا يخفى أن هذا أقرب إلى الرمز والإشارة يلفظه اللسان العربي المبين لأن الآيات صريحة في وصف مغيب وهو متاع الجنة من ظل وماء وفاكهة. وهي مادية قطعاً وليست صورية.
وقال في تفسير سورة النازعات: { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } (النازعات: 6-8): "إن الراجفة الحسين عليه السلام، والرادفة أبوه علي عليه السلام، وإن أول من ينفض التراب عن رأسه في الرجفة الحسين عليه السلام، وقد فسرها المفسرون بالنفخ الأول، والرادفة بالنفخ الثاني، وهو أيضاً مناسب للتأويل المذكور كما سيأتي في الصور. وربما أمكن إجراء ما ذكرناه من التأويل في بعض موارد الرجفة على حساب التناسب، بل يمكن التأويل أيضاً بقيام القائم ورجعة الناس فلا تغفل". ص109 التفسير المنسوب لحسن العسكري. وهذا التفسير يتناسب مع عقيدة أن أهوال يوم القيامة صورية كذلك ولكنها تكون حسيّة دنيوية في مخالفة أئمتهم وعدم السير على منوالهم. وفي ذلك من فساد المعتقد مالا يخفى على مسلم.
وأما تفسير الإسماعيلية فهو نسخة مصورة ملونة عن مثل هذه النماذج. فالوضوء: هو موالاة الإمام. والتيمم: هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة. والصلاة: الناطق الذي هو الرسول، والغسل: تجديد العهد ممن أفشى سراً من أسرارهم من غير قصد. والكعبة: النبي، والباب علي، والصفا: النبي، والمروة: علي". 1/222، الصلة بين التصوف والتشيع، 2/241، التفسير والمفسرون للذهبي.(1/83)
.
…هذه أهم الشوائب في كتب تفسير الشيعة، وهي واضحة جلية لأنها تتناقض مع اللسان العربي المبين.
…ويبدو أن الطعن في الصحابة عقيدة يستدعيها التشيع لعلي لدرء التعارض والتناقض الذي يقعون فيه في حالة تزويرهم على آل البيت، وفي حال وضعهم الشوائب للانتصار لمذهبهم. وهذا الطعن مشهور عند الشيعة والآثار مستفيضة في التفاسير حسب كثرة الشوائب. فالطعن في الصحابة وفي المفسرين ممن ليس على مذهبهم يعد غطاء لما اتسمت به تفاسيرهم من شوائب وضع الحديث الشريف ورد الأحاديث الصحيحة التي تتعارض مع عقائدهم(1).
__________
(1) انظر على سبيل المثال في تفسير الصافي عند تفسير الآية 86 من سورة البقرة مما رواه عن القمي في سبب النزول، وقد طعن في عثمان، وقوّل أبا ذر ما لم يقله من سب عثمان، وتكذيب الصحابة لبعضهم بعضاً، وقول أبي ذر لكعب الأحبار: يا ابن اليهودية المشركة. إلى غير ذلك من المزاعم التي لا تثبت أمام النقد والتمحيص. انظر 1/42-43. تفسير الصافي، محسن الكاشاني، طبعة فارس 1244هـ، وهو من تفسير الإمامية الإثني عشرية، وانظر 1/257، طعنه في أبي بكر وعائشة –رضي الله عنهما-، وانظر 2/320، المصدر نفسه. وانظر 1/138، 139، طبعة مؤسسة الأعلى، بيروت، ط1، 1399هـ-1979م. وانظر: 3/324-326، مجمع البيان للطبرسي، الحديث الموضوع في سبب نزول آية المائدة 55: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } ، ومنها أحاديث التقية التي أوردها العيّاشي وذكرناها في هامش رقم (1)، في الشائبة رقم (5) من شوائب تفسير الشيعة.(1/84)
…ومن الملاحظ في الفكر الشيعي أن العبادات ومنها الصوم والصلاة والزكاة والحج والجهاد قد ربطت بالأئمة بياناً وتشريعاً وإلغاء وثواباً وعقاباً، ومن يجل النظر في شوائب الفكر الشيعي من خلال التفسير، ويوازن بينها وبين الفكر الصوفي والفكر الفلسفي يجد بينهما نسباً وصهراً.
شوائب التفسير عند المعتزلة
…تتمثل شوائب التفسير عند المعتزلة في تأويل النصوص التي تعارض رأيهم حتى صار التأويل تقليداً عند عامة فرق المعتزلة. ونكتفي بدراسة الشوائب في تفسير الكشاف لأنه أهم تفاسير المعتزلة، وأكثرها انتشاراً وجاء شاملاً للقرآن كله.
…وأهم هذه الشوائب:
1- تذرعه بالمعاني اللغوية والتمثيل والتخييل.
…فمثلاً معنى الكرسي في قوله تعالى : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } (1) فذكر أربعة معان للكرسي:
تصوير لعظمته وتخييل، ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسّي.
علمه، وسمي العلم كرسياً تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم.
ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك.
ما روي أنه خلق كرسياً هو بين يدي العرش دونه السموات والأرض. وعن الحسن الكرسي هو العرش(2).
__________
(1) سورة البقرة، من الآية 255.
(2) الزمخشري، أبو القاسم جار الله، محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، 1/385-386، طبعة دار المعرفة (قديمة) بيروت، بدون تاريخ، وطبعة الحلبي، 1385هـ- 1966م. 1/153-154، المعرفة (جديدة).(1/85)
…ورجح المعنى الأول وهو يرمي إلى تنزيه الله –تعالى- مع أنه وصل بذلك إلى نتائج متناقضة تماماً مع الإسلام. كل ذلك مما سمّاه تخييلاً كباب من أبواب المجاز. ولما كان التخييل من الخيال، أي مالا واقع له في نفس الأمر، ولا حقيقة له. فتناقضت النتيجة مع مقصده لأنه يطعن في صدق القائل وهو الله –تعالى-، فالتأويل بذريعة المعاني اللغوية وقوله بالتمثيل والتخييل قد جرّ شوائب إلى التفسير(1). مع أن الكرسي معناه قد وصلنا بالتواتر وهو معروف. فلا داعي لصرفه عن معناه الحقيقي.
…وقال في تفسير آية الربا { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (2): "وتخبط الشيطان من زعمات العرب يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، والخبط الضرب على غير استواء كخبط عشواء. فورد على ما كانوا يعتقدون، والمس الجنون، ورجل ممسوس. وهذا أيضاً من زعاماتهم وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات"(3).
…وهذه شائبة جديدة وهي ورود القرآن على ما كان يعتقد العرب من زعمات لا حقيقة لها. وهذا شر مستطير دخلت منه المدرسة العقلية الحديثة ومنها المدرسة الأدبية وقالوا إن في القرآن أساطير الأولين.
2- رد الأحاديث الصحيحة واستشهاده بالأحاديث الموضوعة والضعيفة.
__________
(1) وانظر تفسير الآية، الحجرات، آية 1، 3/552، 553، تفسير الكشاف، طبعة دار المعرفة، بيروت ، 4/2، تفسير الكشاف في طبعة جديدة، دار المعرفة.
(2) سورة البقرة، من الآية: 275.
(3) انظر 1/398، 399، تفسير الكشاف، طبعة دار المعرفة، بيروت، 1/164-165.(1/86)
…فقد رد حديث: (ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخاً) (1) وقال الله أعلم بصحته فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين واستهلاله صارخاً من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه. وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلونه من نخسه(2).
…ورغم أن الحديث متفق عليه إلا أن الزمخشري يتشكك في صحته ليس من باب السند، بل لأنه يعارض عقله الحر الذي يجعله صاحب السيادة له الحكم على الشرع(3). ومثل ذلك رد أحاديث رؤية الله –تعالى- في الآخرة، وأحاديث انشقاق القمر وغيرها متذرعاً بحجة بلاغية لتقرير عقيدته الاعتزالية.
__________
(1) متفق عليه حديث 4268، باب بدء الخلق، صحيح البخاري، وانظر صحيح مسلم حديث 2366 الفضائل.
(2) 1/426، تفسير الكشاف، عمر محمود، الزمخشري، طبعة مصطفى البابي الحلبي، 1385هـ-1966م، 1/186-187، طبعة دار المعرفة الجديدة، بيروت.
(3) قال الزمخشري: "إمش في دينك تحت راية السلطان (الحجة)، ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان، فما الأسد المحتجب في عرينه أعز من الرجل المحتج على قرينه، وما العنز الجرباء تحت الشَّمْألِ البليل أذل من المقلّد عند صاحب الدليل، ومن تبع في أصول الدين تقليده فقد ضيّع وراء الباب المرتْج إقليده". المرتج: المغلق، إقليده: مفتاحه. المقالة 37، ص 42، 44، أطواق الذهب في المواعظ والخطب، أبو القاسم، محمود ابن عمر الزمخشري (ت538هـ)، بشرح يوسف أفندي الأسير: قلائد الأدب في شرح أطواق الذهب. مطبعة عبد الحميد أحمد حنفي، القاهرة، من المشهد الحسيني رقم 18.(1/87)
…ومن الجدير بالذكر أن الزمخشري(1) أكثر من استعمال الأحاديث الموضوعة والضعيفة ولا سيما الأحاديث الموضوعة المشهورة في فضائل القرآن سورة سورة التي وضعها عصمة بن نوح. وقد قام ابن حجر(2) – جزاه الله خيراً- فخرّج أحاديث الكشاف وأتبعها تفسيره فطبعت في نهاية الجزء الرابع من التفسير.
3- رد القراءات القرآنية المتواترة المنافية لمذهبه، واستشهد بالقراءات الشاذة.
… { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } (3) قال الزمخشري: "وقيل غُلْف: تخفيف غُلف، جمع غلاف أي قلوبنا أوعية للعلم فنحن مستغنون بما عندنا من غيره، وروي عن أبي عمرو: قلوبنا غلُفُ بضمتين(4)، وهي قراءة شاذة. والمعنى على القراءة المتواترة بتسكين اللام: إن بعض قلوب الناس على حالة لا تقبل معها الإسلام فيكون الله –تعالى- هو الذي منعهم من الهدى وألجأهم إلى الضلال. والقراءة الشاذة يكون عملهم إرادياً بكون قلوبهم أوعية للعلم واستغنائهم بما عندهم من علم في قلوبهم.
4- التأويل:
__________
(1) أبو القاسم، محمود بن عمر الخوارزمي، إمام المعتزلة، له تفسير كبير، وكان إماماً في علم البيان، من تصانيفه: الكشاف، وأساس البلاغة، والمفصل في النحو، ولد بقرية زمخشر (467هـ) وتوفي (538هـ). وكانت رجله مقطوعة قيل بسبب الثلج وقال هو من دعاء أمه عليه لأنه قطع رجل عصفور وهو صغير. وفيات الأعيان، ترجمة 711، 5/168-174.
(2) هو أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني المصري المولد والنشأة والدار والوفاة ، ويعرف بابن حجر محدث مؤرخ (754هـ-852هـ) أشهر مصنفاته فتح الباري شرح صحيح البخاري، الإصابة في تمييز الصحابة. (معجم المؤلفين، رضا كحالة، 2/20).
(3) سورة البقرة، من الآية: 88.
(4) 1/81، تفسير الكشاف، طبعة دار المعرفة، بيروت.(1/88)
… { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } (1). فرأى صاحب الكشاف أن سيدنا يوسف همّ بمخالطتها وقال: فإن قلت كيف جاز على نبي الله أن يكون من هم بالعصية وقصد إليها؟ قلت: المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها شهوة الشباب وقرمه ميلا (أي شدة الشهوة) يشبه الهم به والقصد إليه، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول العزائم. وقال: ويجوز أن يريد بقوله ( وَهَمَّ بهَا } وشارف أن يهم بها فكأنه شرع فيه. وفيه إشعار بالفرق بين الهمين(2).
__________
(1) سورة يوسف، من الآية 24.
(2) انظر 2/249، تفسير الكشاف، محمود عمر الزمخشري، طبعة دار المعرفة الجديدة، بيروت.(1/89)
…والصواب الوقوف عند قوله { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } . والابتداء بـ { وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أي أنه لم يهم لأنه رأى برهان ربه. فجواب لولا محذوف دلّ عليه ما تقدمه. ويؤكد ذلك قوله تعالى في الآية نفسها { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء } (1)، ولم يقل لنصرفه عن السوء والفحشاء. ومن يجل النظر في السياق كله السابق واللاحق يجد أن الهم بالفاحشة كان من جانب واحد وهو جانبها هي. وأخيراً شهادتها بعد أن حصحص الحق وطلب الله –تعالى- من يوسف –عليه السلام- أن يعرض عن هذا الذي كان من امرأة العزيز إليه. وطلب منها أن تستغفر لذنبها لأنها كانت خاطئة. وبعد أن أقامت الدليل لنسوة المدينة في إعذارها لمحبته اعترفت اعترافاً صريحاً لا لبس فيه { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ } (2). فأثبتت أنها هي قد همت فعلاً ولكنه أبي واستعصم المقرونة بحرف الفاء الذي يفيد التعقيب مباشرة في رفضه وعدم همّه. حيث إنه لم يتلكأ، ولم يتردد في الإباء، وعدم الاستجابة كل ذلك بعد أن رأى برهان ربه عياناً أو كالعيان. فتأويل الزمخشري أوقعه في مس سمعة نبي من أنبياء الله –تعالى-.
5- حملته على أهل السنة ووصفهم بصفات وصلت إلى حد تكفيرهم.
__________
(1) سورة يوسف من الآية 24.
(2) سورة يوسف من الآية 32.(1/90)
…اتهم الزمخشري من يقول برؤية الله في الآخرة بأنه لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام(1). وقال عن أهل السنة: "مبتدعو هذه الأمة وهم المشبهة والمجبرة وأشباههم"(2). وقال عنهم "إنهم مجوس هذه الأمة"(3).
6- الإسرائيليات.
__________
(1) انظر تفسير الكشاف، سورة آل عمران، آية 18، 19، 1/418، طبعة الحلبي، 1385هـ-1966م.
(2) انظر 1/453، تفسير الكشاف، طبعة الحلبي، 1385هـ-1966م.
(3) انظر تفسير الزمخشري، في تفسير سورة فصلت، آية 17، 4/194، تفسير الكشاف، دار الكتاب العربي، بيروت، رتبه وضبطه وصححه، مصطفى حسين أحمد، ط3، 1407هـ-1987م.(1/91)
…أكثر الزمخشري من ذكر القصص الإسرائيلية فقال عند تفسير قوله تعالى: { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } (1): "روى أن عيسى – عليه السلام – لما أراد الدعاء لبس صوفاً ثم قال: اللهم أنزل علينا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين فوقه، وأخرى تحتها. وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى –عليه السلام-، وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة. وقال لهم: ليقم أحسنكم عملاً يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها. فقال شمعون رأس الحواريين: أنت أولى بذلك. فقام عيسى فتوضأ وصلى وبكى، ثم كشف المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسماً وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد، فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ فقال ليس منهما، ولكن شيء اخترعه الله بالقدرة العالية، كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله، فقال الحواريون: يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية أية أخرى؟ فقال يا سمكة أحيي بإذن الله. فاضطربت، ثم قال لها: عودي كما كنت، فعادت مشوية ثم طارت المائدة. ثم عصوا بعدها فمسخوا قردة وخنازير"(2).
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 114.
(2) انظر 1/655، تفسير الكشاف، طبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 1385هـ-1966م. وانظر على سبيل المثال 1/389، 390، 391.(1/92)
…وهذه الرواية لا تثبت في الكتاب ولا في السنة جاء بها الزمخشري ليبين ما أبهم القرآن مما لا فائدة فيه من عظة أو حكم شرعي. وإن نتائج الأخذ بأمثال هذه الروايات يدفع المسلمين لأن يتعودوا في دينهم على الخرافات وأن نصبح كاليهود والنصارى. وهذه شوائب لا يجوز أن تكون من مصادر التفسير.
7- إساءته للنبوة والحط من قدرها في آيات العتاب.
…قال الزمخشري في تفسيره فاتحة سورة عبس: ".. وفي الأخبار عما فرط منه ثم الإقبال عليه بالخطاب دليل على زيادة الإنكار كمن يشكو إلى الناس جاثياً عليه ثم يقبل على الجاني إذا حمى في الشكاية مواجها له بالتوبيخ وإلزام الحجة"(1).
…وقال عند تفسير قوله –تعالى- { عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } (2): "كناية عن الجناية لأن العفو رادف لها. ومعناه أخطأت وبئس ما
فعلت"(3).
…وقال عند تفسير قوله –تعالى-: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } (4): "وكان هذا زلة منه لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله لأن الله –عز وجل- إنما أحل ما أحل لحكمة أو مصلحة عرفها في إحلاله. فإذا حرّم كان ذلك قلب المصلحة مفسدة"(5).
__________
(1) انظر 4/218، تفسير الكشاف، طبعة دار المعرفة.
(2) سورة التوبة، الآية: 43.
(3) انظر 2/274، تفسير الكشاف، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1407هـ-1987م.
(4) سورة التحريم، من الآية 1.
(5) انظر 4/563-564، تفسير الكشاف، طبعة الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1407هـ-1987م.(1/93)
…والأولى بالزمخشري أن يقول في شأن آيات العتاب أنها وردت لمخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأولى. فلم يرد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل مكروهاً فضلاً عن أنه لم يترك فرضاً ولم يعمل حراماً. والخطاب في العتاب من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ليس غير، وخطاب الله للنبي خطاب الخالق لمخلوق أي لعبد من عباده فلا محظور أن يرد بأية صيغة يشاء رب العالمين. ولكن المحظور كل الحظر أن يرد من الزمخشري، أمير البلاغة والبيان، وملك علوم المعاني والبديع أن يقول في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - "جناية، بئس ما فعلت، زلة، قلب مصلحة مفسدة، ما فرط منه، توبيخ" فمقام النبوة يقتضي معه الأدب الجم.
…هذه مثالب سبعة رئيسية شابت تفسير الكشاف ومثلت فكر المعتزلة كان منشؤها جعل السيادة للعقل، أو إن شئت فقل جعل العقل مصدراً من مصادر التفسير. قال صاحب الكشاف عند قوله تعالى: { وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ } (1): "يحتاج إليه في الدين لأنه القانون الذي تستند إليه السنة والإجماع والقياس بعد أدلة العقل"(2). أي أن الزمخشري يقدم العقل(3) على بقية مصادر التشريع، وهذا هو موطن الزلل، ومكمن الخطر في إعلاء شأن العقل على الشرع.
…هذه هي أهم شوائب التفسير في فكر المعتزلة من أقوالهم لا مما قيل عنهم، وبذلك نكون قد وصلنا إلى نهاية المطاف في بيان شوائب التفسير قبل القرن الرابع عشر الهجري (العشرين للميلاد). وأسأل الله أن أكون قد وفقت في إلقاء الضوء على هذه الشوائب عند أصحابها دون تجن أو تزوير عليهم.
__________
(1) سورة يوسف، من الآية 111.
(2) 4/125، تفسير الكشاف، طبعة دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ.
(3) نذكر بمقولة الزمخشري في هامش الأحاديث الصحيحة: المقالة 37 ، في كتاب أطواق الذهب في المواعظ والخطب.(1/94)
الفصل الأول :الشوائب في تفاسيرالقرن الرابع عشر الهجري
المبحث الأول: الدعوة للعقل الحر، والتفسير بالنظريات العلمية.
المبحث الثاني: الإكثار من الإسرائيليات، والاستشهاد بالتوراة والإنجيل، والتقريب بين الأديان.
المبحث الثالث: رد الأحاديث الصحيحة، والاستشهاد بالضعيف وما لا أصل له
المبحث الأول
الدعوة للعقل الحر والتفسير بالنظريات العلمية
أ- الدعوة للعقل الحر:
…بادئ ذي بدء لا بد من استعراض موقف وأقوال بعض المفسرين في القرن الرابع عشر الهجري في هذه القضية ثم الحكم عليها.
1- موقف الشيخ محمد عبده من العقل:
…قال الشيخ محمد عبده: "الأصل الثاني للإسلام: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض. وقال تحت هذا الأصل: "اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل"(1).
…وقال في السنة النبوية: "وعلى أي حال فلنا بل علينا أن نفوض الأمر في الحديث ولا نحكمه في عقيدتنا ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل"(2).
__________
(1) عبده، محمد، الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية، تقديم وتعليق الشيخ محمد رشيد رضا، ص 45، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1988م.
(2) عبده، محمد، تفسير جزء عمّ، ص181، وانظر الطير، الشيخ مصطفى محمد الحديدي، اتجاهات التفسير في العصر الحديث منذ الإمام محمد عبده إلى مشروع التفسير الوسيط، سلسلة البحوث الإسلامية، السنة السابعة، العدد 80، 1395هـ - 1975م.(1/95)
…يذهب الشيخ محمد عبده أبعد من هذا فيرى أن النبوات انتهت بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث بلغت البشرية سن الرشد ثم يتولى العقل شؤون نفسه ولا وصاية من الدين عليه. وقد انتهت مهمة الدين بكمال الرسالات، فقال: "بهذا وما سبق تمّ للإنسان بمقتضى دينه أمران عظيمان طالما حرم منهما وهما: استقلال الإرادة، واستقلال الرأي والفكر، وبهما كملت له إنسانيته واستعدّ لأن يبلغ من السعادة ما هيأه الله له بحكم الفطرة التي فطر عليها"(1).
…وقال مؤكداً على هذا المفهوم: "لم يدع الإسلام، بعدما قررنا، أصلاً من أصول الفضائل إلا أتى عليه، ولا أمّاً من أمهات الصالحات إلا أحياها، ولا قاعدة من قواعد النظام إلا قررها، فاستجمع للإنسان عند بلوغ رشده –كما ذكرنا- حرية الفكر واستقلال العقل في النظر، وما به صلاح السجايا وما فيه إنهاض العزائم إلى العمل وسوقها في سبيل السعي". ثم قال: "هل بعد الرشد وصاية؟ وبعد اكتمال العقل ولاية؟ .. كلا .. قد تبين الرشد من الغي، ولم يبق إلا اتباع الهدى والانتفاع بما ساقته أيدي الرحمة لبلوغ الغاية من السعادتين، لهذا اختتمت النبوات بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وانتهت الرسالات برسالته"(2).
2- موقف الشيخ محمد رشيد رضا القلموني من العقل:
__________
(1) عبده، محمد، رسالة التوحيد، جمع وتعليق محمد عمارة، ص 152، المركز الحضاري المصري الإعلامي، القاهرة، 1989م. قال الشيخ محمد عبده هذه الفقرة تحت عنوان: حرية الفكر والتجديد.
(2) ص 171، المصدر السابق نفسه.(1/96)
…قال: ".. والثانية طريقة الخلف وهي التأويل: يقولون: إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها من المعقول. فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره، ولا بد له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل"(1).
…فيكون القرينان الشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا متوافقين كل الموافقة في موقفيهما من العقل.
3- موقف طنطاوي جوهري من العقل:
…قال عند تفسير قوله تعالى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } (2): وأنا أرجو أن يكون خلفنا خيراً من سلفنا الأقربين فيقرؤون حكم الأمم وعلومها وسياساتها وصناعتها وهم يعتقدون أن ذلك من الدين".
…ثم قال: "إذن لا حاجة إلى أنبياء بعد نبيّنا، ولماذا؟ لأن الأنبياء يأتون لتذكير الناس بما نسوا. والله سبحانه أخبر أنه اختص أناساً بالحكمة يخلقهم حيث يشاء. والحكمة الملقاة على الناس في الأزمان المختلفة قد أصبحت جزءاً من علوم الإسلام. إذن كل حكمة صدرت من حكيم أياً كان هي إسلامية. إذن إرسال الرسول بعد هذه الآية عبث. ولا جرم أن هذا هو كمال الإنسانية لأنها إذا كان تعليمها بواسطة حكمائها المتبعين لوصية نبي كان ذلك أرقى وأشرف من إرسال الرسول. لأن الرسول إنما يرسل لقوم ناقصين جهلوا الحكمة، أما هذه الأمم فإنها تعترف بالحكمة وتعمل بها وتقول هي من وصايا كتابنا وديننا"(3).
__________
(1) رضا، محمد رشيد، تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار، 1/252، مطبعة محمد علي صبيح، القاهرة، ط3، 1367هـ - 1948م.
(2) سورة مريم، الآية: 59.
(3) جوهري، طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن، م8، 15/153.(1/97)
…وقال: "فهكذا هنا في الحكمة فإنها قد أصبحت جزءاً من ديننا وليس ينقصنا إلا المجالس العامة"(1). وهذا القول يفضي إلى القول بإلغاء القرآن الكريم ونسيانه وتركه. وأجاب الشيخ عن هذا التساؤل؟ فقال: "ولعلك تقول إذا كل مسلم له الحق أن يتبع أي حكمة وينسى القرآن؟ أقول لك: أنسيت قوله تعالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } (2). ليكن هناك مجلس عام في مكة وغيرها. وهذا المجلس لا يصح التئامه إلا بعد شيوع العلوم العامة في بلاد الإسلام. وهذا المجلس ينظر في الأمور العامّة لأمم الإسلام، ولا يصلح لهذا المجلس إلا من قرأ فوق علوم الإسلام علوم الأمم والرياضيات والطبيعيات لا غير، لأن الذين لا يقرؤون تلك العلوم يجهلون نظام الله ونظام الأمم. والجاهلون بذلك لا يصلحون للقيادة في هذه الشعوب. وهؤلاء الأعضاء ينتخبون من المجالس العلمية الخاصة في كل إقليم من أقاليم الإسلام، فهؤلاء هم الذين لهم الرأي الحق: وهم هم الحكماء الذين قال الله فيهم: { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } (3). وهذا الخير الكثير يفيض منهم على الناس"(4)
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) سورة الشورى، من الآية 38.
(3) سورة البقرة، من الآية 269.
(4) جوهري، طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن الكريم، 8/15، 153، وقال تحت عنوان "مجلس عام في الإسلام: على المسلمين جميعاً في أقطار المسكونة أن يكون لهم مجلس عام يجمع أكابر القوم من سائر المذاهب والشيع والطوائف. ويعرض عليه كل ما فيه خلاف من معاملات أو عبادات. ويكون هذا المجلس له القول الفصل. وهذا المجلس دائماً تعرض عليه المسائل كل حين، ويبقى مع الدهر ما دامت السموات والأرض ودين الإسلام. وهناك نكون حقاً قد عملنا بقوله تعالى: { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ } (آل عمران: من الآية 64)، انظر م1، 2/136، المصدر السابق نفسه.(1/98)
.
4- موقف الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير من العقل:
…استعرض الشيخ مصطفى رد عمر بن الخطاب لقول فاطمة بنت قيس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفى أن تكون للمطلقة ثلاثاً نفقة وسكنى. فقال: "لا ندع قول ربنا وسنة نبيّنا بقول امرأة. لعلها نسيت أو شبِّه لها. سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لها السكنى والنفقة). ومراده من قول ربنا: قوله تعالى: { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ } (1). فإن ضمير { أَسْكِنُوهُنَّ } راجع إلى النساء في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (2). والنص شامل لكل المطلقات، رجعيات أو مبتوتات" ا.هـ. ورتب الشيخ مصطفى على هذا النتيجة الآتية: "فإذا كان عمر - رضي الله عنه - على جلالة قدره، وحفاظه على مرويات السنة الشريفة، ردّ قولها لمخالفته للكتاب والسنة، فما بالنا لا نصنع مثله فيما يخالف النص القرآني والدليل العقلي فنقول: لعل الراوي قد نسي أو شبّه له"(3).
5- موقف الشيخ أحمد مصطفى المراغي من العقل:
__________
(1) سورة الطلاق، من الآية 6.
(2) سورة الطلاق، من الآية 1.
(3) الطير، محمد مصطفى الحديدي، اتجاهات التفسير في العصر الحديث، ص 45.(1/99)
…قال عند تفسير قوله تعالى: { وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } (1). أي وأنزل العقل الذي يفرق بين الحق والباطل. وجاء في آية أخرى: { اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } (2). والميزان هو العدل، فالله سبحانه قرن بالكتاب أمرين: الفرقان الذي نفرق به الحق في العقائد ونميزه عن الباطل، والميزان، وهو ما نعرف به الحقوق في الأحكام ونعدل بين الناس. قصارى ذلك – إن ما يقوم عليه البرهان العقلي من عقائد وغيرها فهو حق منزل من عند الله. وما قام به العدل فهو حكم منزل من عند الله وإن لم ينص عليه في الكتاب، فالله هو المنزل والمعطي للعقل والعدل – الفرقان والميزان – كما أنه سبحانه هو المنزل للكتاب ولا غنى لأحدهما عن الآخر"(3).
…فيرى المراغي أن حكم العقل والقرآن من الله – تعالى- سواء بسواء تماماً كمواجيد وخواطر الصوفية.
6- موقف أبي الأعلى المودودي من العقل:
__________
(1) سورة آل عمران، من الآية 4.
(2) سورة الشورى، الآية 17.
(3) المراغي، أحمد مصطفى، تفسير المراغي، 3/97، دار إحياء التراث العربي، بيروت.(1/100)
…قال في تفسيره "تفهيم القرآن": "والشرط الأساسي لفهم القرآن الكريم أن يتناوله الدارس بعقل متفتح غير متحيّز إليه أو عليه، وسواء كان المرء يؤمن به كتاباً منزلاً من الله أم لا فعليه أن يحرر ذهنه بأقصى ما يمكنه، ويبعد عن التحيّز ويتخلص من كافة الآراء التي كونها واكتسبها مسبقاً، ثم يقرؤه بالرغبة المجردة في فهمه. أما الذين يدرسونه في ضوء المفاهيم المسبقة فلن يجدوا فيه غير أفكارهم فحسب. ولهذا لا يستطيعون الوصول إلى ما ينبغي فهمه وتبليغه من القرآن الكريم، وإذا كانت طريقتهم هذه لا تنفعهم دراسة أي كتاب فكيف تنفعهم دراسة القرآن الكريم، وهو الكتاب الفريد"(1).
7- موقف د. عبد الكريم محمود الخطيب من العقل:
…قال: "فإننا إذ نقرأ قوله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } (2) . نلمح في وجه الآية الكريمة دعوة إلى البحث والنظر، وتقليب حقائق الأمور، وعرضها على العقل، ووزنها بميزانه، قبل الأخذ بها، وألا يقبلها قبول استسلام وإذعان من غير اقتناع قائم على الدراسة والتأمل، ومهما كانت ثقة الإنسان في مصدرها، فإن هذا لا يحرم العقل حقه من النظر فيه، نظر بحث وتفحص. إن الشك كما يقولون هو أول مراتب اليقين"(3).
__________
(1) القريشي، أليف الدين ترابي بن عالم الدين، الأستاذ أبو الأعلى المودودي ومنهجه في التفسير، رسالة ماجستير في الكتاب والسنة، جامعة أم القرى، ستانسل رقم 554، 1402هـ، مكتبة دار إحياء التراث بالجامعة.
(2) سورة يونس، من الآية 94.
(3) الخطيب، د. عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م4، 11/1081، دار الفكر، بيروت.(1/101)
…وقال د. الخطيب عند تفسيره لقوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } (1): "هذا هو عنوان الرسالة الإسلامية وهذا هو ملاك أمرها استخدام العقل، واحترام معطياته، وذلك بالتفكير الفردي والجماعي معاً، تفكيراً حراً مطلقاً من كل قيد، محرراً من تلقيات سابقة. فالعقل في مواجهة الرسالة الإسلامية محمول على أن يفكر، وأن يتحرك في جميع المجالات غير مقيد بشيء أو مشدود إلى شيء"(2).
…وقال د. الخطيب عند تفسيره لقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } (3). تحت عنوان: أسباب الخلاف بين أصحاب الأديان وبما يتذرع الإسلام لحسم مادة هذا الخلاف فتوجه إلى العقل العصري، العقل الحديث، فالذي يريده الإسلام، ونريده نحن هو أن يضع العلماء والفلاسفة والمفكرون هذه العقيدة موضع الشك والإنكار إن شاءوا ثم ليعاملوها معاملة القضايا التي ينكرونها، أو يتشككون فيها، وليمتحنوها بكل ما فتح به عليهم من العلم من أساليب الامتحان ثم ليحكموا بعد هذا على الإسلام بما ظهر لهم على محك الفحص والاختبار –ويقول– إن الإسلام ليتقبل هذا الحكم في غبطة ورضى"(4).
__________
(1) سورة سبأ، الآية: 46.
(2) الخطيب، د. عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م5، 10/754، دار الفكر، بيروت.
(3) سورة التوبة، الآية: 33.
(4) الخطيب، د. عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م5، 10/754.(1/102)
…وقال: "إن الأيام ستثبت صدق هذه الدعوة التي ندعيها لعالمية الإسلام لأننا لا نقيم هذه الدعوة على عاطفة دينية نحو الدين الذي ندين به، وإنما نقيمها على ما نستشفه من كلمات الله"(1).
…وقال في استغناء الإنسان عن الدين: "والإنسانية زمن البعثة المحمدية كانت –كما قلنا- في آخر مرحلة من مراحل سيرها نحو النضج العقلي، والكمال الإنساني.. كانت بمثابة طفل درج في مدارج الحياة، حتى بلغ مبلغ الرجال، وكان عليه بعد هذا أن يستوفي حظه من الحياة، وأن يأخذ مكانه فيها غير مستند إلى شيء غير ذاته"(2).
…فالخطيب جعل الإنسان لا يستند إلى الأديان بل يستند إلى ذاته فحسب، وبهذا يصبح الناس متقاربين.
مناقشة الأقوال السبعة:
من يجل النظر في كتب أصول الفقه –وهي تبحث في تحديد الأدلة الشرعية، وتبين أسس فهم القرآن– لا يجد من يزعم أن العقل من مصادر التشريع. ولا يوجد دليل قطعي ولا ظني يخوّل العقل مشاركة الوحي في التشريع. وقصارى ما أسند إليه الشرع هو: تحديد مناط الحكم، والقياس، والاستدلال بالنصوص. وهو مقيّد بالنص واللغة ولم يجعله مستقلاً. قال الشاطبي: "إن الأدلة الشرعية في أصلها محصورة في الضرب الأول –النقل المحض أي الكتاب والسنة– لأننا لم نثبت الضرب الثاني –الرأي المحض– بالعقل. وإنما أثبتناه بالأول. وفسر ذلك كدلالته على أن الإجماع حجة. وعلى أن القياس حجة. وما كان نحو ذلك"(3). ومن الدارج المتواتر بين المسلمين القول بالحكم الشرعي والحكم العقلي، والدليل الشرعي والدليل العقلي، مما يدل على مغايرتهما. فالقول بأن العقل من مصادر التشريع يعد من الشوائب. فضلاً عن أنَّ إعطاء العقل دور القوامة على الشرع يعارض أصول العقيدة وأصول الفقه في الإسلام.
__________
(1) المصدر السابق نفسه، وانظر مثل هذه الأفكار، م11، 22/816، وانظر م5، 10/752-755.
(2) المصدر السابق نفسه، م11، 22/827-828.
(3) الشاطبي، الموافقات في أصول الأحكام، 1/25.(1/103)
من يقبل العقل دليلاً لإثبات أحكام الشرع فإنه يجوّز إبطال الشريعة بالعقل. وهذا محال باطل كما قال الشاطبي(1). وأصل المسألة إذا تعارض النص مع الواقع المحسوس. ومنه قوله تعالى: { وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } (2). فيقتضي فهم النص على أنه من باب الأمر بلفظ الخبر –وهو أسلوب جرى على معهود العرب- ولأن المخبر مقطوع بصدقه فيصبح المعنى: يحرم على المؤمنين أن يجعلوا للكافرين عليهم سبيلاً. وقد بحث الأصوليون مسألة تعارض الأدلة وقالوا لا يقع تعارض بين قطعيين من النصوص الشرعية. وكذلك لا تعارض بين ظنيين إلا في حالة النسخ. والمسألة مبسوطة في كتبهم، لكننا لم نجد منهم من يقول بتعارض العقل والتشريع من نصوص الوحي. وقصارى ما يقوله علماء المسلمين إن الأدلة الشرعية لا تتنافى مع قضايا العقول. وهذا لا يعني أن تكون العقول بها القوامة على الأدلة الشرعية. وقد وضّح الشاطبي معنى هذه المقولة: "إنها –الأدلة الشرعية- تصدقها العقول الراحجة، وتنقاد لها طائعة أو كارهة لا أن العقول حاكمة عليها ولا محسنة فيها ولا مقيّمة"(3).
…وقال في المقدمة العاشرة: "إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعاً، ويتأخر العقل فيكون تابعاً. فلا يسرح العقل في محل النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل"(4). وبذلك تكون مقولة تعارض العقل والنقل شائبة وصبغة للدخيل لا صلة للإسلام بها.
تهميش دور السنة النبوية في التشريع وإعلاء دور العقل عليها من الأمور المخالفة للقطعي ثبوتاً ودلالة. وللمعلوم من الدين بالضرورة. فهي شائبة محضة.
__________
(1) المصدر السابق، 1/49.
(2) سورة النساء، من الآية 141.
(3) الشاطبي، الموافقات في أصول الأحكام، 3/16.
(4) المصدر السابق، 1/49.(1/104)
ذكر الشيخ محمد عبده إجماعاً ولم يذكر دليلاً عليه فلا يعتد به. بل لم يرد ممن يعتد بإمامتهم وصلاحهم من يقول إن العقل من مصادر التشريع. وهي شائبة دخلت إلى التفسير من الفكر الفلسفي اليوناني وأخذت بها بعض فرق المسلمين منهم الشيعة والمعتزلة، وأخيراً تبنتها المدرسة العقلية الحديثة، أو المعتزلة الجدد بإمامة الشيخ محمد عبده، وسواء أكان تأثر الشيخ محمد عبده بهذه الأفكار من سياحته في الدول الأوروبية المهيمنة على بلاد المسلمين، أم تأثر بالمعتزلة، أم بالفلاسفة أم بالجميع فلا مبرر يقبل شرعاً. وهي تعني في أبسط معانيها أن يكون العقل نداً للشرع بل حكماً عليه وهذا يتناقض مع عقيدة الإسلام.
القول بانتهاء مهمة الدين بكمال الرسالات وحصول الإنسان على استقلال الإرادة واستقلال الرأي والفكر وبهما كملت له إنسانيته قول يناقض الأدلة القطعية الثبوت والدلالة منها: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة من أمرهم } (1). ومنها: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } (2).
ما قاله الشيخ طنطاوي جوهري لا يمت للآية بصلة لا من قريب ولا من بعيد، ولكنه أفرغ ما في قلبه متبعاً شيخه بالقول باستغناء البشرية عن الرسل. ورأى أن الحكماء أشرف وأرقى من الرسل، ورأى أن الخلف الحاضر الذي يتبع الحكمة خير من السلف الصالح الأقربين. وهو أقرب للفلاسفة منه للمسلمين، ثم توصل إلى إلغاء العمل بالقرآن ونسيانه بتشكيل مجلس عام من الحكماء الذين تعلموا العلوم التجريبية لينظروا في شؤون المسلمين في أنحاء المعمورة، وهذه كلها شوائب لا تستند إلى دليل ولا تستحق المناقشة.
__________
(1) سورة الأحزاب، من الآية 36.
(2) سورة القصص، الآية: 68.(1/105)
القاعدة التي أصّلها الشيخ مصطفى الطير بنيت على مغالطة، فعمر - رضي الله عنه - ردّ قول فاطمة بنت قيس لأنه يعارض القطعي من الكتاب والسنة. وهو حكم شرعي واضح. وأما هو فيزعم أن ما عارض العقل من النصوص يرد. وهو قياس غير مبني على أصول القياس فضلاً عن أنه يعارض القطعي ثبوتاً ودلالة كما مرّ في الرد الخامس.
مقولة الشيخ المراغي الأصغر مبنية على تفسير خاطئ، فالفرقان هو القرآن وليس العقل. وقد قلّد أصحاب المنار في هذه المسألة، كما هي مقولة مبنية على المغالطة في أحد المقدمتين لأن ليس كل ما خلقه الله يكون نتاجه من الله. فالله تعالى خلق العقل وهداه النجدين فإما شاكراً وإما كفوراً. فالشكر والكفر من العقل من حيث الممارسة وليس من الله –تعالى-.
يلتقي أبو الأعلى المودودي في قيله ذاك مع مدرسة أمين الخولي حيث ينزع صفة القداسة عن كتاب الله ويجعله خاوياً من التشريع، ويسمح لكل أحد أن يعتلي أسوار التفسير حتى الكافر والجاهل الذي لا يملك عدة التفسير. وهو يلتقي كذلك مع عبد الكريم الخطيب في جانب آخر وكل ذلك من الشوائب لأنها لا تنضبط بقواعد التفسير.
ما لمحه د. عبد الكريم الخطيب من الآية الكريمة في سورة يونس لا تسعفه اللغة على الإطلاق وفيه قطع الآية عن سابقها ولاحقها. والمقرر في أصول الفقه أن خطاب الرسول خطاب لأمته وكيف يشك الرسول وهو الذي ينزل عليه الوحي، فيكون الخطاب لكل فرد من أفراد الأمة إن كان يشك بالوحي الذي ينزل على محمد فليسأل الذين أوتوا الكتاب من قبل، فمحمد ليس بدعاً من الرسل. ومفهوم الآية يفيد أن من لا يشك لا يسأل. فيكون الدكتور الخطيب قد عكس مفهوم الآية للشك في القرآن كدعوة تأثر بها من الفيلسوف الأوروبي ديكارت. فهذه شوائب محضة لا تمت للتفسير بصلة.(1/106)
…وما فعله الدكتور الخطيب في سورة يونس كرره في سورة سبأ { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ } (1). فقطع صدر الآية عن آخرها، وقطعها عن سابقها وعن لاحقها. ويبدو أن في ذهنه أفكاراً يريد أن يكسبها ثوب الشرعية فسخر تفسير القرآن لخدمة أفكاره وإن كانت النصوص لا تحتملها. فالآية تدعو القوم الظالمين لدراسة ما جاء نبيهم به، ويزعمون أن به جنّة، ونفى عنه ذلك حصر مهمته بالنذارة لهم من العذاب الشديد الذي ينتظرهم لتكذيبهم دعوة الرسل.
…وأما ما قاله الدكتور الخطيب في تفسير آية التوبة { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } (2) فلا علاقة له بالتفسير لا من قريب ولا من بعيد، ولا علاقة لنظرية ديكارت بالشك في منطوق الآية ولا في مفهومها ، فهي إخبار من الله - تعالى - لتيئيس المشركين في جهودهم لإطفاء نور الله بأقوالهم . فالآية أحرى أن تعد رداً على الشوائب التي أتى بها للتفسير من أن تدعو للشك في العقيدة الإسلامية وما انبثق عنها من أحكام . ثم إنه جاء بحكم "الإسلام يقبل نظرية ديكارت في غبطة ورضا" ولم يأت عليه بدليل فلا يعتد به. وأخيراً جعل الإنسان لا يستند إلى الأديان بل يستند إلى ذاته. وفي هذا إضلال نسأل الله أن يعفينا منه.
…وفي نهاية المطاف لا يسعني إلا أن أقول إن الدعوة للعقل الحر فكرة مستوردة من أعدائنا، ولها جذور عند الفلاسفة اليونان وتسربت إلى المعتزلة والشيعة والمدرسة العقلية فهي من الشوائب في التفسير في القرن الرابع عشر الهجري.
__________
(1) سورة سبأ، من الآية 46.
(2) سورة التوبة، من الآية 33.(1/107)
ب- التفسير بالنظريات العلمية
…ظاهرة التفسير العلمي بدت في القرنين السادس والسابع الهجري كانحرافات في التفسير، فوجدت عند الغزالي(1) (ت 505هـ)، وله كتاب الإحياء وجواهر القرآن. وقد عمد الحافظ العراقي(2) إلى تخريج أحاديث الإحياء وطبعت معه لبيان الحق من الباطل. كما وجد هذا اللون من التفسير عند الفخر الرازي(3) (ت606هـ)، صاحب التفسير الكبير. كما وجد عند أبي الفضل المرسي(4) (ت655هـ). وقد قال في تفسيره: "إن القرآن جمع علوم الأولين والآخرين" حتى قال: "لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله –تعالى-"(5). ومنهم ابن عربي (ت638هـ) ولقب
__________
(1) أبو حامد، محمد بن محمد الغزالي (450هـ-505هـ)، الملقب بحجة الإسلام، اتصل بالوزير نظام الملك فأنعم عليه وأوكل إليه التدريس في المدرسة النظامية ببغداد، أشهر مصنفاته: المستصفى في الأصول، وإحياء علوم الدين، وتهافت الفلاسفة. (وفيات الأعيان، ترجمة 588، 4/216-219).
(2) عبد الرحيم بن الحسين الكردي ثم المغربي، الحافظ زين الدين العراقي (725هـ-806هـ) من مؤلفاته ألفية في أصول الحديث، المغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار. (هدية العارفين، للبغدادي، 5/562).
(3) أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن البكري الطبرستاني الأصل (544هـ-606هـ)، الرازي المولد، لقب بالفخر الرازي، اشتهر بعلم الكلام والمعقولات. من تصانيفه: التفسير الكبير، جمع فيه كل غريب ولم يكمله، المحصول في أصول الفقه، وشرح الإشارات لابن سينا. (وفيات الأعيان، ترجمة 600، 4/248-252).
(4) محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل المرسي، السلمي، نحوي، محدث، فقيه (570هـ-655هـ)، رحل كثيراً، من تصانيفه: تفسير القرآن الكبير والأوسط والصغير، مختصر صحيح مسلم، الضوابط الكلية فيما تمس إليه الحاجة من العربية. (معجم المؤلفين، رضا كحالة، 10/244-245).
(5) السيوطي، الإتقان، 2/161، النوع الخامس والستون في العلوم المستنبطة من القرآن.(1/108)
بمحيي الدين وهو صاحب التفسير والفصوص، والمنسوب إليه الفتوحات المكية، وكان يقول بفكرة الرمز والإشارة في التفسير.
…ولهذا نستطيع القول ونحن مطمئنون أن هذه الشائبة في التفسير قديمة وليست من مؤثرات التيارات الفكرية الجارفة، وليست من الواقع الثقافي الذي كان سائداً في ذلك العهد البائد. ولم تكن هذه الشوائب عامة في تفاسير المسلمين في تلك الحقبة بل كانت عند من رموا بالانحراف والتحريف والزيغ والضلال وهم يومئذ قلة.
…أما التفسير العلمي في القرن الرابع عشر الهجري فكان من تأثير الحياة المادية، وانبهار أهله بما توصل إليه المستعمرون الأوروبيون، فشكل تياراً فكرياً جارفاً مال إلى التفسير بالنظريات العلمية. وكان لهم سلف في هذا الشأن ساعدهم على السير في هذا الاتجاه. وإليك نماذج من التفسير بالنظريات العلمية في هذا القرن:
1- تفسير المنار للشيخين محمد عبده ومحمد رشيد رضا:
…ورد عند تفسير قوله تعالى: { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } (1):
…"فتكوير الليل على النهار نص صريح في كروية الأرض"(2). وفسر اليوم الوارد في القرآن في خلق السموات والأرض بأنه كاليوم من أيام الله في الآخرة. وكذلك اليوم الذي يحتاجه العروج إلى عرش الرحمن، وذلك لتوافق نظريات وتخمينات علماء التطور ومنهم دارون الإنجليزي في نشأة الحياة على الأرض(3). وادعى أن آدم –عليه السلام- سبقه آلاف مثله، ولم يكن هو أول البشر على هذه الأرض، وإنما كان أول طائفة جديدة من الحيوان الناطق تماثل الطائفة أو الطوائف البائدة منه في الذات والمادة، وتخالفها في بعض الأخلاق والسجايا. هذا أحسن ما يجلى فيه هذا المذهب"(4). وهذا يذكرنا بمذهب الإسماعيلية.
2- تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور:
__________
(1) سورة الزمر، من الآية 5.
(2) تفسير المنار، 1/211.
(3) تفسير المنار، 8/499.
(4) تفسير المنار، 1/258.(1/109)
…قال عن السموات السبع في سورة البقرة بأنها الكواكب السيارة(1) التي عرفها العرب. وقال عن العرش بأنه المشتري، والكرسي بأنه زحل(2). وتحدث عن صناعة الحديد وعرّفه وبيّن أنواعه، وكيفية صناعته، وماذا يصنع منه، وسمى العصر الذي اهتدى فيه الناس لصناعة الحديد بالعصر الحديدي(3). وتحدث عن صناعة الزجاج(4).
3- الجواهر في تفسير القرآن لطنطاوي جوهري:
…يعد كتاب طنطاوي جوهري أول كتاب تفسير كامل بل والوحيد بما يسمى بالتفسير العلمي في هذا القرن. ويعد رائد المدرسة العلمية في التفسير. وإليك نماذج من تفسيره للتعرف عليه، قال: "إن سبب تفرق المسلمين هو علم التوحيد والفقه، فإذا أرادوا أن يتحدوا ويضموا غيرهم إليهم فعليهم أن يتركوا علم التوحيد والفقه، ويلتفوا حول العلوم التجريبية"(5).
…جاء بخرافات وإشاعات عن العلم وتعامل معها كأنها حقائق علمية ثابتة منها ما أسماه "بمصل الصدق" يحقن به المرء فيعترف بكل مخزون أسراره، واستعمل على المساجين ونجحت التجربة –على حد قوله-(6). كما قال إن كل ما يخطر بباله في المنام أو في اليقظة يعد إلهاماً(7).
__________
(1) ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير، تفسير سورة البقرة، آية 29 { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } ، 1/385-386، مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1384هـ-1964م. وطبعة أخرى للدار التونسية للنشر 1984م.
(2) تفسير التحرير والتنوير، 3/23، 24.
(3) تفسير التحرير والتنوير، 16/36، 37.
(4) تفسير التحرير والتنوير، 18/237.
(5) الجواهر في تفسير القرآن، 3/19-20، وانظر 25/56-57.
(6) الجواهر في تفسير القرآن، طنطاوي جوهري، 3/97-99.
(7) المصدر السابق، 2/235-237، وانظر 19/107-108.(1/110)
…وكان طنطاوي جوهري يهدف من وراء تأليف تفسير علمي ما قاله: "إن ظني بالله جميل أن يجعل هذا التفسير نافعاً للأمة الإسلامية، وأن يكون مساعداً على الانقلاب الفكري في العالم الإسلامي حتى يصبح المسلمون أمة حكمة وعلم"(1). وهذا يدل على مدى خطورة وجهة التفسير العلمي، فهي ليست لتعميق الإيمان عند الناشئة. وكان يعرض تفسيره قبل نشره على شخص يدارسه حسبما صرح في أكثر من موقع، ويغلب على ظني أنه الشيخ محمد رشيد رضا حسبما قرأت في أوراقه الخاصة. هذا وقد منع الأزهر طباعته في مصر لفرط ما فيه من منكرات ودعوات هدّامة يظهر بعضها في التقريب بين الأديان.
4- تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي:
…قال عند تفسير قوله تعالى: { وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } (2).
__________
(1) المصدر السابق، م12، 23/9.
(2) سورة يس، الآيات: 37-40.(1/111)
…"الآية الثانية: وزيادة على دوران الشمس الظاهري وسط النجوم الناشئ عن دوران الأرض حول الشمس مرة في السنة، ثبت لدى العلماء أخيراً أن للشمس حركتين أخريين حقيقيتين: إحداهما: حول محورها مرة في كل ست وعشرين يوماً تقريباً وتدل عليها أرصاد كلف الشمس، وهي نقط سوداء تظهر على سطحها بين حين وآخر، وتتغير مواقعها بالنسبة إلى السطح، وتقطع المسافة بين حافتي القرص في زمن قدره 13 يوماً. ثانيتهما: دوران الشمس (ومن حولها توابعها الكواكب السيارة وأقمارها) حول مركز النظام النجومي بسرعة تقدر بنحو مائتي ميل في الثانية، فالشمس واحدة من ملايين النجوم التي تكوّن النظام النجومي والذي ثبت أنه يدور حول مركزه، ونظراً لأن الشمس لا تقع عند مركزه فإن لها حركة دورانية والذي يفهمه الفلكي أو الرياضي من المستقر بجسم متحرك حركة دورانية، أنه المحور الثابت الذي تكون الحركة حوله، أو مركز المدار الدائري لهذه الحركة، ففي الحالة الأولى يكون المستقر هو الخط بين قطبي الشمس. وفي الحالة الثانية: يكون هو مركز النظام النجومي بأسره الذي تدور حوله الشمس وكافة النجوم الأخرى. وإذا علمنا أن هاتين الحركتين الحقيقيتين للشمس لم تثبتا بالبرهان العلمي والأرصاد الفلكية إلا حديثاً أدركنا ما في هذه الآية الكريمة من إعجاز عظيم"(1).
…ويلاحظ أن ما سقناه بطوله لا علاقة له بنظم الآيات المشار إليها. بل هو شرح للنظريات الفلكية، ثم استشهد بأقوال د. عبد العزيز باشا إسماعيل(2)، واستشار عبد الحميد سماحة وكيل المرصد الفلكي بحلوان (3)، والدكتور عبد الحميد عرابي في نظرية الحمل، أستاذ الرياضيات في جامعة بنسلفانيا(4).
__________
(1) تفسير المراغي، 23/11، 12، وانظر ص 10-14، من المصدر نفسه.
(2) صاحب كتاب الإسلام والطب الحديث، تفسير المراغي، 7/197.
(3) تفسير المراغي، 30/112-115.
(4) تفسير المراغي، 3/22-23، وانظر تفسيره للآية 260 من سورة البقرة 3/27.(1/112)
…وقال عند تفسير قوله تعالى: { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } (1): "إن العلم الحديث كشف عن بقاء بعض الناس زمناً طويلاً أحياء وهم فاقدو الحس والشعور، وذكر عن شاب نام نحو شهر في الهند(2).
…وفي هذا تهوين لمعجزة البعث. فما يعرف في أيامنا هذه بالموت الدماغي ويفقد الإنسان الحس والشعور ليس شبيهاً بالقرية المشار إليها في سورة البقرة. ونوم الشاب الهندي شهراً – على فرض صحة الحكاية – ليس معجزة.
…وفي تفسير سورة الرعد عند الآية 11، عدّ نظريات الدين – على حد تعبيره – تصادق عليها النظريات العلمية.
…وفي تفسير سورة الفيل تحدث عن مرض الجدري والحصبة وجعل الطير من جنس البعوض أو الذباب(3)، مقتفياً بذلك آثار إمامه الشيخ محمد عبده في تفسير السورة في جزء عمّ(4). وتحدث عن طفل الأنابيب في تفسيره سورة الأنعام عند الآية { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } (5).
…فالشيخ أحمد يحاول أن ينصب من النظريات العلمية برهاناً على الإيمان بالمعجزة الغيبية الواقعة في الماضي مع أنه لا سبيل إليها غير الدليل السمعي القطعي. وجاء بشائبة أن عدّ أحكام الإسلام نظريات أي أنها تحتمل الخطا والصواب. وخطورة المسألة تكمن في أن من قبل النظرية العلمية في الإثبات عليه أن يقبلها دليلاً في نفي الغيبيات كذلك. وإذا وازنا بين تفسير المراغي وتفسير المنار نجده نسخة مكررة من حيث الأفكار.
__________
(1) سورة البقرة، من الآية 259.
(2) { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ } (الرعد: من الآية 11)، انظر تفسير المراغي، 13/77.
(3) تفسير المراغي، 30/243.
(4) تفسير جزء عمّ، محمد عبده، ص 161، 162.
(5) سورة الأنعام، الآية: 134. وانظر تفسير المراغي، 8/39، عن تفسير المنار، 8/102.(1/113)
5- تفسير القرآن من القرآن لأحمد فائق رشد:
…قال في تفسير سورة الزلزلة: "ليس المقصود هنا زلزلة الأرض الطبيعية ولاشيء كهذا لأن الزلازل الأرضية لا تخرج لنا الأثقال الموجودة في باطن الأرض بل بالعكس إذا كانت الرجة شديدة، والهزة قوية مديدة فتبتلع القرى والمباني"(1). ثم قال: "فالمقصود من كلام الله هو غير ذلك بل هو الزلزال الوضعي الصناعي الذي يحدث بواسطة الأيدي البشرية يعني الحفريات العديدة العظيمة التي تقوم بها جماعات وشركات لأغراض مختلفة، منها البحث عن الآثار القديمة، والمدن المطمورة. ومنها –وهو المقصود المطلوب هنا- البحث عن المعادن، الكنوز الثمينة كالذهب والفضة والحديد والنحاس والفحم وسائر المعادن الثقيلة"(2). ثم قال: "من يزور (3) منجماً واحداً من مناجم التعدين للحديد مثلاً أو للفحم.. يرى(4) ما يدهش من جبال الأتربة والصخور المستخرجة من باطن الأرض".
…ولم يكتف مفسر القرآن من القرآن في القرن العشرين بهذا التفسير بل قال: "والمعنى الباطني: الزلزلة: الشك في الإيمان والاضطراب في الاعتقاد وضعف الثقة بصاحب الأمر(5) . والأرض رمز الأمة"(6).
__________
(1) رشد، أحمد فايق، تفسير القرآن من القرآن في دائرة العلم والعقل والواقع المحسوس، ص42، مطبعة النصر بالفجالة، 1954، والكتاب بالهيئة المصرية العامة للكتاب، تحت رمز تفسير 25905.
(2) المصدر السابق، ص 43.
(3) هكذا وجت في الأصل. وكأن المفسر لا يعرف فعل الشرط وجوابه بأنه يجزم.
(4) هكذا وجت في الأصل. وكأن المفسر لا يعرف فعل الشرط وجوابه بأنه يجزم.
(5) تفسير القرآن من القرآن، ص 48.
(6) المصدر السابق نفسه، ص 49، وانظر قوله بالرمز في تفسير سورة تبّت، ص 6.(1/114)
…ولا يخفى أنه كلام هراء لا يستحق الرد عليه، إضافة إلى أنه يجعل فاصلاً بين سابق الآية في السورة ولاحقها فيعطي لآخرها معنى مخالفاً لما يفهم من أولها. وقد ثبت بالاستقراء أن الآيات في السورة متصلة اتصالاً وثيقاً يأخذ بعضها بحجز بعض فثبت بطلان قوله. وزاد الطين بلّة عندما قال بالمعنى الباطني وربطه بالتفسير العلمي لأنه المخرج الوحيد له لتفريغ ما في ذهنه من خواطر وأفكار فالقول بالباطن وبالرمز والإشارة دليل لمن لا دليل له. وهو يرى أن الاعتقاد بوجود باطنية معنوية للقرآن لا يخرج عن تعاليم القرآن نفسه(1).
…ويجدر بنا أن نشير إلى أن التفسير العلمي قد يكون عند البعض مجرد شعار للتستر به للدعوة العلمانية. والدعوة للعقل تعني التحرر من الدين. وهذا المفسر مثال واضح. فقد قال عن تفسيره: "وأما تفسيري هذا كتفسيري للكثير من سور وآيات القرآن الكريم وبعض آيات الإنجيل والتوراة، فإنه يختلف اختلافاً كلياً أساسياً مع سائر التفاسير ويعارض ما هو متمكن في أذهان الخواص والعوام، ولكنه في الحقيقة يوافق هذا العصر ويجاري تفكير هذا العصر. وينشطه ويتمشى مع علوم هذا العصر. وينطبق على الحقائق المكتشفة في هذا العصر. ولا يخرج عن دائرة القرآن والعلم"(2).
6- تفسير جزء تبارك لأحمد مظهر العظمة(3):
__________
(1) المصدر السابق، ص 6.
(2) تفسير القرآن من القرآن، ص 14، المصدر السابق.
(3) صحفي سوري، كان رئيس تحرير مجلة التمدن الإسلامي بدمشق، على مشرب العروة الوثقى والمنار، فسّر جزء تبارك وقال عنه "تفسير لغوي وديني وعلمي مع لفتات إلى أدب السور الرائع المعجز" ولم يستغرق تفسيره تسعين صفحة، طبع في مطبعة الترقي، بدمشق، 1374هـ-1954م./ من تفسيره.(1/115)
…قال عند تفسير قوله تعالى: { فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } (1): "فقطرة الماء تحوي مئتي مليون مليون مليون جزيء من الماء، ولم يستطع أحد إحصاء ذلك، وإنما عرف بقسمة وزن القطرة على وزن الجزيء، مع العلم أن قطرة الماء تزن 26 وحدة ذرية، ووضع بعدها واحداً وعشرين صفراً، وجزيء الماء يزن 18 وحدة ذرية، والجزيء لا يرى بأقوى المجاهر، ولكنه لعزله وقياسه أساليب طبيعية وقياسية، فتأمل مثل هذا حتى في قطرة الماء التي نراها، لا في الفضاء المديد الذي ينتهي علمنا إليه، ولا فيما وراء الطبيعة وغيبها. أو ندري بعد هذا قوة الذرة المستصغرة؟ لقد شقت ذرات الأورانيوم فانطلقت منها قوى عجيبة بدرجة مائة مليون فولط ويرجى بعد إتقان حملات الشق أن تزيد تلك القوة الهائلة"(2).
…وإذا أجلنا النظر فيما سمّاه تفسيراً فإننا لا نستطيع أن نجد أدنى علاقة بين التفسير والمفَسَّر. فهو إقحام متكلف، والآية قسم عظيم بجميع المخلوقات المحسوسة وغير المحسوسة أن ما يتلوه محمد هو قول رسول كريم تنزيل من رب العالمين، ولهذا فإن ما سمّاه تفسيراً لا علاقة للتفسير به.
…وقد حاول الصحفي أحمد مظهر العظمة في موطن آخر أن يثبت وجود الملائكة بالعقل والعلم فقال: "والملائكة مخلوقات تتفق الأديان على وجودها ولا ينكرها عقل ولا علم، كما لا ينكر الكهرباء وهو يرى آثارها ويجهل ماهيتها، ولا ينكر الأشعة الكونية كالأشعة فوق البنفسجية دون معرفة كنهها"(3).
…ومن يدقق فيما زعمه أدلة لا يجد فيها دلالة حيث إن الملائكة لا يرى أثرها. ومن المستحيل أن يثبتها بشر لأنها مما لا تقع تحت الحس، وطريقة إثباتها الوحيدة هي النقل السمعي القطعي، أي الوحي ليس غير.
__________
(1) سورة الحاقة، الآيات: 38-40.
(2) العظمة، أحمد مظهر، تفسير جزء تبارك، ص27.
(3) المصدر السابق، ص 85.(1/116)
…وقد حاول العظمة أن يثبت الإيمان بالجن عن طريق تحضير الأرواح وضرب المندل فقال: "إن وجود الجن حقيقة، وإن الحوادث الكثيرة التي تروى عنهم فيها الوهم لبعض العوارض والوساوس، ومنها الثابت بالمعاينة تكراراً واختباراً، وقد يستحضر الجن بطريقة "المندل" أو غيره. ويكون المستحضر الصادق وطريقته الواضحة بعيدين عن الإغراء الذي يسلب الوسيط إرادته، أو الرائي الواعي تدبره وامتحانه"(1).
…وقال: "وسبب إنكار المنكرين للجن، ظنهم بأنه ليس في الطبيعة قوة عاقلة مجردة عن المادة، وهذا خطأ يثبته العلماء الروحيون الصادقون في العصر الحديث نفسه، ولعلم استحضار الأرواح تجارب صادقة لا يكاد ينتهي العجب بها، وليس مكانها هنا"(2). وقال: "ومن الأساطين القائلين بهذا الرأي هلمهولتر (ت1894م)، وماك (ت1916م)، وبيرسون (ت1936م)، وبراتراندرسل"(3).
…فالعظمة يحاول أن يقيم دليلاً محسوساً على إثبات الجن، وهم مخلوق غيبي ليس له إلا طريق الغيب القطعي، وليس المندل، ولا من ذكرهم أساطين العلماء الروحانيين، ونقول له: أي روح تحضر؟ فإذا كانت روح ميّت فبأي سلطان أحضرتها؟ وإذا كانت روح حي، فما حال الجسد بعد الروح التي فصلتها عنه واستحضرتها؟!
…مما سبق ندرك آثار شائبة التفسير بالنظريات العلمية ونجملها في الآتي:
التقليل من شأن المعجزات التي تخرق سنن الكون، والإيحاء بأن العلم جاء بشبيه لها مما كان مجهولاً للإنسان، وترتّب على هذا تهوين أمر الأنبياء وعدّهم عباقرة، أو أناساً ممتازين أتوا بما أتوا به من عند أنفسهم. بل جاءوا بأسوأ من هذا كله حيث عدّوا الفلاسفة والحكماء أرقى وأشرف من الأنبياء وهذا بهتان عظيم.
__________
(1) المصدر السابق، ص 46.
(2) المصدر السابق، ص 46.
(3) المصدر السابق، ص 46.(1/117)
النيل من عالم الغيب بالإنكار أو بالتحريف. فأفرطوا بالمحسوس المادي وتنكروا لعالم الغيب بشكل أو بآخر فأوّلوا معنى آدم، والملائكة، واليوم، والجن، وعذاب الآخرة، والسماء، والعرش، والكرسي .. الخ.
جعل العقل والعلم أدلة تنتصب للتحسين والتقبيح، ولتحديد الخير والشر، وللإيمان بالمغيبات وادّعوا أن هذا هو الدين، وأنه دين المستقبل.
الإندغام في الأمم التي جاءت بمعجزات العصر العلمية – على حد تعبيرهم – دون التمييز بين ما يؤخذ وما يحظر أخذه. أي أنه كان دافعاً للتحرر من الدين. قال الشيخ محمد عبده: "إنني أنصح المسلمين أن يطرحوا دينهم جانباً وينجوا بأنفسهم ويسيروا مع الغرب، فلا يسمعوا إلا بآذان الغرب بل لا يسمعوا إلا مقالته، ولا يبصروا إلا بأعين الغرب، ولا يذوقوا إلا بذائقة الغرب، هم الأرواح ونحن الأشباح"(1).
أفرط بعضهم ومنهم طنطاوي جوهري ومحمد فريد وجدي بالتصريح بأن العلوم التجريبية هي الدين نفسه وأعلنوا الجهاد ضد التوحيد والفقه والتفسير والعلوم العربية والشرعية. قال محمد فريد وجدي: "الأصل السادس: الاتجاه إلى نصب العلم فاروقاً بين الحق والباطل. بغير اعتداد برأي طائفة من الطوائف، أو فرد من الأفراد". ويرى أن الأصول الستة التي لا محيص عن تولدها كثمرة طبيعية للثقافة العصرية(2).
__________
(1) رضا، محمد رشيد، تاريخ الأستاذ الإمام، 1/64، مطبعة المنار، مصر 1350هـ-1931م.
(2) وجدي، محمد فريد، المستقبل للإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 108، وانظر الجواهر في التفسير لطنطاوي جوهري كيف يحارب التوحيد، م1، 1/266.(1/118)
قرّبوا اللادينيين (الملحدين) إلى الدينيين خطوة بأن نقلوهم من الإلحاد إلى عقيدة فصل الدين عن الحياة. وقرّبوا الدينيين من اللادينيين خطوات بأن جعلوهم يعتقدون عقيدة فصل الدين عن الحياة. فالتقى الفريقان المتضادان في عقيدة الكافر المستعمر، عقيدة فصل الدين عن الحياة. وهذا تلمسه في جل كتب التفسير من المدرسة العقلية الحديثة في القرن الرابع عشر الهجري.
المبحث الثاني :المبالغة في نقل الإسرائيليات، والاستشهاد بالتوراة والإنجيل، والتقريب بين الأديان
أ- نقل الإسرائيليات والاستشهاد بالتوراة والإنجيل:
…الإسرائيليات: جمع ومفرده إسرائيلية: وهي قصة أو حادثة أو رواية أو نص عن مصدر إسرائيلي؛ أي يهودي حيث ينتسب اليهود إلى إسرائيل فنقول بنو إسرائيل، وقد توسع المفسرون في هذا الاصطلاح فأطلقوه على كل ما تطرق إلى التفسير أو الحديث من أساطير وأخبار قديمة منسوبة في أصل روايتها إلى مصدر يهودي أو نصراني أو غيرهما. فيكون المقصود من هذا المصطلح (الإسرائيليات): الروايات التي مصدرها غير الإسلام من يهود ونصارى وغيرهم وقد تسللت إلى التفسير والحديث(1).
…محترزات التعريف:
تخرج القصص الوارد في القرآن الكريم لأن مصدرها الإسلام.
تخرج القصص الواردة في الأحاديث النبوية التي تتحدث عن بني إسرائيل وغيرهم.
__________
(1) هذا التعريف ومستخرجاته هو خلاصة فهمي لما درسته عن الموضوع، وبخاصة من كتب محمد محمد أبو شهبة، و د. محمد حسين الذهبي عن الإسرائيليات، ومقدمة ابن خلدون، ومخطوط الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة لبرهان الدين البقاعي. وفتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني.(1/119)
…لقد حشيت كتب التفسير القديمة والمعاصرة بالإسرائيليات حتى عدّها بعضهم مصدراً من مصادر التفسير. وقليل من المفسرين القدامى من أضاف نصوص التوراة والإنجيل إلى تفسيره ومنهم ابن عربي في كتابه الرد الجميل فقد أطلق الرب، والابن، وظاهرة الاتحاد. وقد نقل عن إنجيل يوحنا ومرقص ولوقا(1). ومنهم الرازي حيث استشهد بما جاء في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس "إذ الرب إلهكم يقيم لكم نبياً من بينكم ومن إخوتكم"، وفي هذا الفصل أن الرب قال لموسى: "وأي رجل لم يسمع كلامي الذي بودئه أنا أنتقم منه"(2).
…ومن يتصفح كتب التفسير في القرن العشرين يجد كثيراً ما يستشهد المفسر بنصوص التوراة والإنجيل. والسؤال الذي نطرحه: هل يجوز إدخال أقوال أهل الكتاب في تفسير القرآن الكريم، وأعني بها نصوص التوراة والإنجيل ؟؟ الجواب يتوقف على معرفة الأدلة الشرعية، حيث لا مجال للأدلة العقلية في هذا الموضوع الشرعي الخطير.
أولاً: قال تعالى: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } (3).
…هذه الآية الكريمة تدل على أن القرآن ناسخ للكتب السماوية السابقة، أي مبطل للتوراة والإنجيل. ولا يجوز أن يفسر المنسوخ ناسخه. قال الزركشي: "إن القرآن ناسخ مهيمن على كل الكتب وليس بعده ناسخ له"(4). ويرجع إلى القرآن في فهم التوراة والإنجيل ولا يرجع إليهما في فهمه.
__________
(1) البقاعي، أبو الحسن، ابراهيم بن عمر بن حسن الرباطي، الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة، مخطوط، بالهيئة المصرية العامة للكتاب، رقم 29، تفسير ميكروفيلم، 22303، ورقة 29 من المخطوط.
(2) ورقة 26 من المخطوط للبقاعي، المصدر السابق، عند تفسير سورة البقرة، آية 39 { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
(3) سورة المائدة، من الآية 48.
(4) 2/34، البرهان للزركشي.(1/120)
ثانياً: إن الصحابة والسلف أجمعوا على أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لجميع الشرائع السالفة(1).
…قال ابن خلدون عن الشريعة الإسلامية: "وأما على الخصوص فمباينة لجميع الملل لأنها ناسخة لها وكل ما قبلها من علوم الملل فمهجورة والنظر فيها محظور، فقد نهى الشرع عن النظر في الكتب المنزلة غير القرآن، قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد). ورأى - صلى الله عليه وسلم - في يد عمر - رضي الله عنه - ورقة من التوراة فغضب حتى تبين الغضب في وجهه، ثم قال: (ألم آتكم بها بيضاء نقية. والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) (2).
ثالثاً: الأدلة من السنة النبوية:
روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: (يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذي أنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أحدث الأخبار بالله تقرؤونه لم يشب. وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب، فقالوا: هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسائلتهم؟ ولا والله ما رأينا رجلاً منهم قط يسألهم عن الذي أنزل عليكم) (3).
__________
(1) الآمدي، سيف الدين، أبي الحسن، علي بن أبي علي بن محمد، الإحكام في أصول الأحكام، مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة، 1387هـ-1967م، وطبعة محمد علي صبيح 1387هـ-1968م، 2/246، نقل الإجماع.
(2) ص 436، مقدمة ابن خلدون، ط4.
(3) 3/237، صحيح البخاري، طبعة الشعب، وانظر 3/181، طبعة الخيرية. رواه في كتاب الشهادات، باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها. ورواه في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء. انظر 7/102، فتح الباري، طبعة الحلبي، 1387هـ-1959م، وانظر 9/136، صحيح البخاري، طبعة الشعب.(1/121)
روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم) (1).
……قال الشافعي: "ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه"(2).
……وقال ابن حجر : "ويؤخذ من هذا الحديث التوقف عن الخوض في المشكلات والجزم فيها بما يقع في الظن. وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف من ذلك قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون"(3). وقال ابن حجر: "يحمل الحديث في عدم التصديق والتكذيب على ما إذا بدأ أهل الكتاب بالخبر"(4).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، 17/101، فتح الباري، وانظر 9/237، كتاب التفسير، سورة البقرة، باب قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا. وانظر 3/237، كتاب الشهادات، صحيح البخاري، باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها، طبعة الشعب، 9/136، والحديث بمعنى الآية { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (العنكبوت: 46)
(2) 9/237، فتح الباري، طبعة الحلبي، 1959م.
(3) 9/237، فتح الباري، طبعة الحلبي، 1959م.
(4) 17/102، فتح الباري، المصدر نفسه.(1/122)
أورد ابن حجر أحاديث في الباب في بعض أسانيدها رجل ضعيف ولكن هذا الضعف جبره ابن حجر بالمرفوع الصحيح، وإليكها كما رواها ابن حجر في الفتح : "قوله باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء". هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أحمد وابن أبي شيبة، والبزار من حديث جابر: (أن عمر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه فغضب وقال: جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني). ورجاله موثوقون. إلا أن في مجالد ضعفاً.
"وهذا النص يفسر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم". وأخرج البزار أيضاً من طريق عبد الله بن ثابت الأنصاري: "أن عمر نسخ صحيفة من التوراة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء. وفي سنده جابر الجعفي وهو ضعيف. واستعمله في الترجمة لورود ما يشهد بصحته من الحديث الصحيح.
وأخرج عبد الرزاق من طريق حريث بن ظهير قال: قال عبد الله لا تسألوا أهل الكتاب فإنهم لن يهدوكم وقد أضلوا أنفسهم، فتكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل".
وأخرجه سفيان الثوري من هذا الوجه بلفظ: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل" وسنده حسن.
قال ابن بطال عن الملهب: "هذا النهي إنما هو في سؤالهم عما لا نص فيه لأن شرعنا مكتف بنفسه، فإذا لم يوجد فيه نص ففي النظر والاستدلال غنى عن سؤالهم"(1) ا.هـ. بحروفه.
__________
(1) 17/100، فتح الباري لابن حجر، ط، 1387هـ - 1959م.(1/123)
وكلام المهلب الذي نقله ابن بطال في النهي الصريح في هذه الأحاديث المعتبرة في الصحة لما ذكره منصب على مالا نصّ فيه من التشريع والأحكام، وعلل ذلك بأن الإسلام تام وكامل وغني بنفسه عن غيره. ولأن مالا نص فيه يتوصل إليه بالنظر في الأدلة العامة والاستدلال. أي بالاجتهاد. والمغني عن سؤال أهل الكتاب. أما ما فيه نص فطبيعي أن تكون العبرة بالنصوص لا في غيرها.
رابعاً: شبه أدلة المجيزين لرواية الإسرائيليات من الكتاب لا تدل على دعواهم:
قوله تعالى: { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } (1).
قوله تعالى: { قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } (2).
قوله تعالى: { فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } (3).
ذِكْرُ القرآن الكريم لأخبار بني إسرائيل سواء أكان في بيان موقفهم مع أنبيائهم أم في تحريفهم للتوراة والإنجيل، أم في إخفاء صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أم في غيرها.
خامساً: شبه أدلة المجيزين لرواية الإسرائيليات من السنة النبوية لا تدل على دعواهم:
قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).
قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم).
ذكر كتب السنة الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها لأخبار بني إسرائيل.
الجواب عن هذه الشبه:
__________
(1) سورة النحل، من الآية 43.
(2) سورة آل عمران، من الآية 93.
(3) سورة يونس، من الآية 94.(1/124)
أما آية النحل فالخطاب موجه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } (1). وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلى أمة من الأمم للدعاء إلى توحيدنا والانتهاء إلى أمرنا ونهينا إلا رجالاً من بني آدم نوحي إليهم وحينا لا ملائكة. ثم يتوجه الخطاب لمشركي قريش فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. أي وإن كنتم لا تعلمون أن الذين كنا نرسل إلى من قبلكم من الأمم رجال من بني آدم مثل محمد وقلتم: هم ملائكة(2). فأهل الكتاب قرأوا الكتب التي من قبلكم. وفيه لفت نظر أهل الكتاب لإقامة الحجة عليهم فكانوا يحرضون كفار قريش على محمد. فهل كان أنبياؤكم بشراً أم ملائكة؟ ولا يرد أن يكون معنى الآية: فاسألوا أهل الكتاب عن أمور ما ينقصكم من أحكام، أو ما يغمض عليكم من بيان للقرآن. والذي أوقع الإشكال هو فصل صدر الآية عن عجزها، وفصل الآية عن لاحقها وهو { بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (3).
__________
(1) سورة النحل، الآية 43.
(2) انظر تفسير الطبري، 14/108.
(3) سورة النحل، الآية: 44.(1/125)
آية سورة يونس يجاب عنها بما أجيب عن آية النحل. أي لا بد من ربط الآية ببعضها وبسابقها ولاحقها حتى يفهم المعنى من الآية، وقال ابن حجر: "فالمراد به من آمن منهم، والنهي إنما هو عن سؤال من لم يؤمن منهم. ويحتمل أن يكون الأمر يختص بما يتعلق بالتوحيد والرسالة المحمدية وما أشبه ذلك"(1). وقال الطبري: "يقول الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: فإن كنت يا محمد في شك من حقيقة ما أخبرناك وأنزل إليك من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوتك قبل أن تبعث رسولاً إلى خلقه. لأنهم يجدونك عندهم مكتوباً ويعرفونك بالصفة التي أنت موصوف في كتابهم في التوراة والإنجيل فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك من أهل التوراة والإنجيل كعبد الله بن سلام ونحوه من أهل الصدق والإيمان بك منهم دون أهل الكذب والكفر بك منهم"(2). والمراد الأمة وليس الرسول لأن الشك ليس من الرسول لأن الوحي ينزل عليه. بل الشك المحتمل من الناس. وخطاب الرسول خطاب لأمته. وعلى هذا النحو يتم فهم الآيات التي فيها شبه سؤال أهل الكتاب. أي ينظر إلى سياق الآية، ولا يجتزأ بعض الآية ويفهم على إطلاقه أو عمومه. ويُنْفى كلُّ النفي أن يكون المقصود سؤالهم عما يعجزنا، أو نتهوك فيه من أمور شريعتنا.
__________
(1) 17/100، فتح الباري، مصطفى الحلبي، 1387هـ - 1959م.
(2) تفسير الطبري، 11/167.(1/126)
وعلى هذا النحو من الفهم يؤخذ قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه عبد الله بن عمرو ابن العاص صاحب الصحيفة الصادقة (بلغوا عنّي ولو آية وحّدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) (1) . فالحديث يشير إلى جواز الرواية عن بني إسرائيل هذا النوع من الإسرائيليات المسكوت عنه، أو الذي جاءت مصادرنا به مع مراعاة الالتزام بعدم تصديقهم وعدم تكذيبهم. ولكن هذا شيء والاستشهاد بالإسرائيليات أثناء التفسير للقرآن شيء آخر لأنه يدل على حمل الآية القرآنية على الروايات الإسرائيلية. وفيه دلالة على التصديق بها. قال الشافعي - رضي الله عنه - في الحديث: من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجيز التحديث بالكذب فالمعنى حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه. وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحديث به عنهم وهو نظير قوله (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) ولا يريد الإذن ولا المنع بما يقطع بصدقه"(2).
…فهذا هو الحس الإسلامي في فهم النصوص في هذا الموضوع. ولنا في الشافعي، والطبري، والمهلب، وابن بطال، وابن حجر وغيرهم نبراسٌ في فهم نصوص الوحي. وفهم ما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم -. هذا ولم ينقل إلينا قط من طريق موثوق عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الكتب "التوراة والإنجيل" كانت مصدراً للتفسير. بل على العكس هو الذي ورد عنهم - رضي الله عنهم - بسند متصل صحيح.
حديث ابن عباس في صحيح البخاري – السابق ذكره -: (يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب ...).
__________
(1) صحيح البخاري، 4/207، كتاب بدء الخلق. ورواه الدارمي والترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه أبو داود عن أبي هريرة، ورواه أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري، ورواه آخرون.
(2) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 7/309.(1/127)
إنكار الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عمر بن الخطاب عندما رأى معه ورقة أصابها من بعض أهل الكتاب.
إنكار علي - رضي الله عنه - لأخبار القصاص.
إنكار ابن مسعود وفزعه من أحد القصاص وهو يفسر الدخان(1).
ما أنكره ابن عباس على أحد القصاص يقال له نوفاً البكالي الذي ينكر أن الخضر ليس صاحب سيدنا موسى، وقال كذب عدوُّ الله. وروى الحديث بطوله(2).
إنكار عائشة –رضي الله عنها- ما قاله كعب من أن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد –عليهما السلام- وقولها (قُفَّ شعري) (3).
…ومن يتتبع هذا في السنن النبوية الشريفة يجده كثيراً. وما كان اتصال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيهود في المدينة إلا لدعوتهم، لا لإقرارهم على عقائدهم، والتقارب معهم، ولا لسؤالهم عن تشريع غمض عليه وبعض آي القرآن يشهد بذلك منه قوله تعالى : { قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } (4). فالآية تصرح بطلب تلاوة التوراة من باب التحدي، وكشف كذب يهود في إخفائهم حكم رجم الزاني المحصن في دينهم وأنه يتوافق مع حكم الإسلام في هذه المسألة.
…والرسول - صلى الله عليه وسلم - يحكم بين أهل الكتاب بما أراه الله، وبما أوحى إليه لا بما هم عليه. وذهابه - صلى الله عليه وسلم - لمدراسهم لهذه الغاية لا ليتعلم منهم أو ليشرع في جواز الأخذ عنهم، بل ليقيم عليهم الحجة.
__________
(1) سورة الدخان، آية 10: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } (الدخان: 10). انظر 25/111، 112، وانظر صحيح البخاري، 6/142، 143، كتاب التفسير، وانظر ص 156 تفسير سورة ص، المصدر نفسه، وتفسير ابن مسعود في صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة الدخان، 6/163-166، طبعة الشعب وهو مروي عن مسلم كذلك.
(2) رواه البخاري، 6/110-112، صحيح البخاري، طبعة الشعب، كتاب التفسير، سورة الكهف.
(3) رواه البخاري في كتاب التفسير.
(4) سورة آل عمران، من الآية: 93.(1/128)
…هذه أدلة المنع من قبول الإسرائيليات، وفي روايتها خارج التفسير على حد سواء. وهي أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة.
…خامساً: أشهر من ورد عنهم روايات الإسرائيليات في كتب الحديث.
…مسلمو أهل الكتاب، عبد الله بن سلام –وكان يهودياً- ، وتميم الداري
–وكان نصرانياً-، وهما من الصحابة الكرام. وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وأخوه همام، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. وممن طالهم الاتهام من الصحابة من مسلمي العرب: أبو هريرة، وأبو ذر الغفاري، وعبد الله بن عباس.
…هؤلاء كلهم ثقات بالرجوع إلى كتب الجرح والتعديل، وكفى توثيقهم رواية الستة لهم. وهم ثقات لا يجوز أن يتطرق إليهم أي ريب أو شك، ونرى أن بعضهم من خيرة الصحابة، والبعض الآخر من خيرة التابعين شهد لهم الجميع بالعدالة والضبط، وروى لهم الستة، ووثقهم رجال الجرح والتعديل. ولا قيمة للمزاعم التي تخلو من شهادة علماء الحديث والجرح والتعديل، ولا قيمة للشكوك التي يثيرها أعداء الإسلام ومن غرّد في سربهم من أن ديننا متأثر بالثقافة النصرانية واليهودية، ومن أن ديننا يحمل خرافات وأوهاماً، وأما ما ورد في قصص القرآن وفي السنة النبوية الشريفة التي روتها كتب الحديث وصححتها فهي من الوحي وإن كان موضوعها بني إسرائيل، وهي ليست من الإسرائيليات ذلك المفهوم الذي يحمل الاشمئزاز والتقزز في خلط ديننا منه.(1/129)
…وزيادة في البيان نقول إن أشهر من عرف برواية الإسرائيليات من أتباع التابعين هم: محمد بن السائب الكلبي، ومقاتل بن سليمان، ومحمد بن مروان السّدي (السّدي الصغير)، وأبو صالح. وهؤلاء متروكون. وفي عقائدهم مقال. فالكلبي من السبئية(1)، ومقاتل من المجسمة(2). والسدي الصغير شيعي متروك الحديث(3). وقد سميت سلسلة السدي عن الكلبي عن أبي صالح سلسلة الكذب.
…فما دخل إلى التفسير من هذه السلسلة وأضرابهم فهو يعد شوائب يجب أن تخرج من التفسير ليبقى التفسير نقياً صافياً خالياً من الشوائب. ولا نبقي فيه إلا ما كان متكئاً على مصادر التفسير نقياً صافياً خالياً من الشوائب. وهي: القرآن، والسنة وأقوال الصحابة الموثقة وما دلت عليه اللغة في عصر الاحتجاج حسب القواعد والضوابط في التفسير. والعلم بعادات العرب وقت نزول القرآن.
الإسرائيليات في تفسير المنار:
…لقد كان للشيخ رشيد القدح المعلى في الاستشهاد بالتوراة والانجيل بل بالأناجيل الأربعة، وهي ما تسمى بالعهد الجديد. وبكتاب أعمال الرسل، ورسائل بولص وبطرس ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا. حتى أنه نقل فصولاً طويلة من إنجيل برنابا لغير غرض الاستشهاد في التفسير. وإذا شرع في تفسير آية، وخطر بباله سفر أو إصحاح، أو فصل من كتب يهود، أو طرأ على ذهنه فكرة لديهم فإنه يسرح فيها ويستطرد وينسى أنه مقام تفسير كلام رب العالمين. رغم أنه يصفها بالنقص والتعارض والتناقض، وجهالة الأصل والتاريخ. فضلاً عن التحريف والتضييع والنسيان.
__________
(1) انظر، 3/558 ميزان الاعتدال للذهبي، طبعة الحلبي.
(2) انظر، 4/343، وفيات الأعيان، طبعة السعادة، وانظر ميزان الاعتدال وتهذيب التهذيب.
(3) انظر، ج2/206 تقريب التهذيب لابن حجر، ترجمة 689. وانظر 3/40 ترجمة 4941 الكاشف للذهبي و4/136، ترجمة 1696 الضعفاء الكبير للعقيلي.(1/130)
…قال الشيخ رشيد: "وهذه الأناجيل عبارة عن تاريخ ناقص للمسيح، وهي متعارضة متناقضة مجهولة الأصل والتاريخ بل وقع الخلاف بينهم في مؤلفيها واللغات التي ألفوها بها"(1). ومن يمعن النظر فيما ضمنه تفسيره يدرك أن الرجل يشرح دين يهود والنصارى ليبصر الناس فيهما، وليقربهما إلى نفوس المسلمين، ولو جمعنا نقوله عن التوراة والإنجيل لزادت عن المجلدين في تفسيره. والجدير بالذكر أن تفسير المنار لا يفرق بين هذه الكتب وبين السنة بل أعلى شأنها على السنة النبوية في كثير من المواطن ورد الأحاديث الصحيحة الواردة في صحيحي البخاري ومسلم. لتعارضها مع رواية في كتب التوراة أو الإنجيل(2). بل ذهب أكثر من هذا فجاء بقصص من واقع الحياة ليهون فضيلة لنبي(3). وإليك نماذج من هذا اللون في تفسيره:
__________
(1) تفسير المنار، 6/288، تفسير سورة المائدة، آية 15.
(2) المبحث الثالث من هذا الفصل خصص لدراسة رد الأحاديث الصحيحة.
(3) انظر تفسير المنار، 12/282، تفسير سورة يوسف آية 24 { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } حيث أورد قصة عن الإباحيين والإباحيات في أمريكا من ملك إربه مثل في خلوة امرأة العزيز بسيدنا يوسف وفاء لعشيق عاهر لا خوفاً من الله ولا حياء من الناس. وذكر قصة المصور السوري –زير النساء- في أمريكا. انظر تفسير المنار، 9/545.(1/131)
ورد في تفسير المنار عند قوله تعالى: { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } (1): "وفي سفر الخروج من تاريخ التوراة أن الله تعالى قد أنبأ موسى بأنه يقسّي قلب فرعون فلا يخفف العذاب عن بني إسرائيل ولا يرسلهم مع موسى حتى يريه آياته". وقال: "وفي سفر الخروج أنهم في شهر أبيب وكانت إقامتهم في مصر 430 سنة"(2).
ورد في تفسير المنار عند قوله تعالى: { كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } (3): "وفي سفر الخروج أن بني إسرائيل أكلوا المن أربعين سنة وأن طعمه كالرقاق بالعسل، وكان لهم بدلاً من الخبز. وليس المراد أنه لم يكن لهم سواه إلا السلوى فقد كان معهم المواشي ولكنهم كانوا محرومين من النبات والبقول(4).
فزج الشيخان مع الرواية الإسرائيلية ما يناقض قول الله –تعالى-: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ } (5). فجعلا سفر الخروج مبيناً للآية. وزادا عليه بما يناقض القرآن الكريم ولفظ واحد له مفهوم قطعي في الآية. وهذه شوائب لا ينبغي أن تكون في التفسير.
__________
(1) سورة البقرة، آية 50 وانظر تفسير الآية 49 من السورة نفسها وكيف رد ما ذكره تفسير الجلالين مع أن القرآن يؤيده في سورة طه 3/37. أن بعض الكهنة أخبروا فرعون أنه سيولد من بني إسرائيل غلام سينزع منه ملكه.
(2) تفسير المنار، 1/314.
(3) سورة البقرة، من الآية 57.
(4) 1/323، تفسير المنار.
(5) سورة البقرة، من الآية 61.(1/132)
وورد عند تفسير قوله تعالى: { وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ } (1). أن الحجر الصخرة كما عبر عنه سفر الخروج (2). "هذا إذا سلمنا أن الاستسقاء كان قبل التيه لا فيه، ولنا أن نقول إن أرض التيه هي الأرض الممتدة على ساحل البحر الأحمر من بيداء فلسطين مما يلي حدود مصر وفيها كان الاستسقاء بلا خوف. وفي سفر الخروج أنه كان في رفيديم التي انتقل إليها بنو إسرائيل من (سين) التي بين إيليم وسيناء"(3). وورد: "وكان موسى أرسل كالباً ويوشع بن نون رائدين لينظرا حال البلاد في القوة والضعف. وأرسل غيرهما عشرة من بقية أسباط بني إسرائيل فأخبر هؤلاء بأن في تلك الأرض قوماً جبارين. فقال بنو إسرائيل: إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فأخبر يوشع وكالب بأن الأرض كما وعد الله (4) . وتفسير سفر الخروج لما ورد في القرآن يهوّن أمر المعجزة لسيدنا موسى فالحجر يتفجر منه اثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط، لكل سبط شرب أبلغ في المعجزة من ضرب الصخرة الكبيرة، ثم أدخلنا في متاهة زمن الاستسقاء للتشكيك فيه. ثم ما هي الفائدة من هذا التفصيل من إرسال كالب ويوشع بن نون؟
__________
(1) سورة البقرة، من الآية 60.
(2) انظر 1/236، تفسير المنار.
(3) 1/328، تفسير المنار.
(4) 1/238، تفسير المنار.(1/133)
وورد عند تفسير قوله تعالى : { يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } (1). "وهي كثيرة في كتبهم لا سيما الزبور (مزامير) داود – عليه السلام -، كقوله في المزمور السادس والثلاثين (5- يا رب في السموات رحمتك، أمانتك إلى الغمام. 7- ما أكرم رحمتك يا الله، فبنو البشر في ظل جناحك يحتمون. 8- يروون من دسم بيتك ومن نهر نعمتك تسقيهم.9- لأن عندك ينبوع الحياة، بنورك ترى نوراً. 10- أدم رحمتك للذين لا يعرفونك، وعدلك للمستقيمي القلب. 11- لا يأتي رجل الكبرياء، ويد الشر لا تزحزحني. 12- هناك سقط فاعلو الإثم دحروا فلم يستطيعوا القيام"(2).
هل هذه النقول تصلح لبيان معاني الآية الكريمة؟ ولماذا يشاع عن أصحاب المنار أنهم يحاربون الإسرائيليات؟!
__________
(1) سورة آل عمران، آية 133، وانظر تفسير المنار، 3/156-159 عند تفسير الآيتين الثالثة والرابعة من السورة نفسها فاستمر صفحتين كاملتين من نقول الإسرائيليات.
(2) 4/72، تفسير المنار. وانظر ص 73، ما نقله من المزمور الخامس والعشرين.(1/134)
وورد عند تفسير قوله تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا } (1). "وأما الأسباط فجمع سبط وهو يطلق على ولد الولد. وأسباط بني إسرائيل اثنا عشر سبطاً ولذلك قيل إن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في ولد إسماعيل، وأما أبناء يعقوب العشرة الأسباط الأخرى منهم: 1- رؤبين (بالهمزة ويخفف فيقال روبين وتصرف فيه بعض العرب فقالوا روبيل). 2- شمعون. 3- يهوذا. 4- يسّاكر. 5-زبولون. 6-بنامين. 7-دان. 8-نفتالي. 9-جاد. 10- أشير. فسلالة هؤلاء مع سلالة ابني يوسف هم اثنا عشر سبطاً. وأما سلالة (لأوي) الابن الثالث ليعقوب ...) (2).
ونقول إن ما أبهم القرآن هنا علم لا ينفع وجهل لا يضر. بل في هذه النقول إلقاء ظلال وغمام على معنى كتاب الله –تعالى-، فتغيض العبرة والمقصود من كلام رب العالمين في الآية الكريمة. فتكون هذه الإسرائيليات ضغثاً على إبّالة في التفسير. وفيها رد التهمة الشائعة أن المنار يحارب الإسرائيليات وقد أتاها من أوسع الأبواب.
__________
(1) سورة النساء، الآية 163.
(2) تفسير المنار، 6/69.(1/135)
وورد عند تفسير قوله تعالى: { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } (1). "فسواء صح خبر قتل دعوى عيسى وصلبه أم لم يصح، فلا صحته تفيدنا عبرة بحال أولئك القوم لم تكن معروفة، ولا عدمها ينقص من معرفتنا بأخلاقهم وتاريخ زمانهم"(2). وقال: "ولم يكن المسيح قبل تألب اليهود عليه والسعي لقتله وصلبه في مخافة يحتاج فيها إلى الإيواء في مأمن منه. ففراره إلى الهند وموته في ذلك البلد ليس ببعيد عقلاً ولا نقلاً"(3). ومن يدقق في تفسيره يجده يدافع عن القاديانية التي تقول بأن قبر المسيح في الهند، ويرى أن من يقل بصلب المسيح فهو متأول معذور، وفي هذا كله يناقض نص الآية الصريح. وإذا كان أصحاب المنار نقلوا ستاً وثلاثين صفحة من الإسرائيليات في تفسير آية النساء وحدها وما أثبتناه في الهامش فإننا ندرك مدى تعمق تفسير المنار في نقل الإسرائيليات. فضلاً عن تأييده للأقوال التي تناقض القرآن في قضية قتل المسيح عليه السلام. وهذه كلها شوائب تسترعي الانتباه والوقوف عندها.
__________
(1) سورة النساء، الآية: 157.
(2) 6/23، تفسير المنار. وانظر الصفحات من23-59 وكلها إسرائيليات. فنقل من التوراة والإنجيل وأقوال داون، ومسترمور، وهوك، ومونيو رلميس، والقس جورج كوكي، وهيجن، وسلسوس، وخريستوفر جبارة (كان برتبة الأرشمند رث). وعن القول بهجرة المسيح إلى الهند، وما قالته مجلة المقتطف عن البهائية والقاديانية.
(3) 6/43، تفسير المنار. وانظر ص286-303، وانظر ص322 عن الأنبياء، وانظر ص323 عن الملوك، ثم إلى ص328 أربع صفحات كاملة، ثم من ص 329-333 عن الجبارين. كل ذلك في ج6 من المصدر نفسه.(1/136)
الإسرائيليات في تفسير أبي الأعلى المودودي (تفهيم القرآن).
…أقدم الشيخ أبو الأعلى المودودي على التوارة والإنجيل يفسر بها القرآن الكريم على أنها مبينة ومفصلة لما جاء مجملاً فيه(1). فقال عند تفسير الآية الكريمة: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ } (2).
…"1- انقسمت دولة إسرائيل بعد وفاة سليمان – عليه السلام- إلى مملكتين الأولى: مملكة يهوذا وعاصمتها أورشليم، والثانية: مملكة إسرائيل وحاضرتها السامرة، ولما كانتا في حروب وتطاحن فيما بينهما في أغلب الأحيان طلب ملك يهوذا (الملك آسا) من ملك آرام (بهندر) ليقف معه في وجه الملك لإسرائيل (الملك بعشا) فقام النبي ضاني ليحذر ملك يهوذا (الملك آسا) عن ذلك ولكنه بدلاً من أن يقبل ذلك التحذير قبض عليه وزج به في السجن، انظر الكتاب المقدس سفر أخبار الأيام الثاني، الفصل 16، الفقرات 1-10).
…وذكر ثانياً بتفاصيل غيرها وقال: انظر الكتاب المقدس سفر الملوك الثالث الفصل التاسع عشر الفقرات 1-10.
…وذكر ثالثاً وفصّل وقال: "انظر الكتاب المقدس سفر الملوك الثالث الفصل الثاني والعشرين فقرات 16-17". واستمر حتى بلغ الرقم الثامن من التفصيل والإحاطة على الكتب المقدسة ثلاث صفحات من تفسيره(3).
…وقال المودودي عند الآية الكريمة: { الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ } (4).
__________
(1) حسبما صرّح في مقدمة تفسيره تفهيم القرآن ، 1/80، وهذا منقول عن ص 508 رسالة ماجستير أليف الدين القرشي.
(2) سورة البقرة، الآية: 61.
(3) 1/80-82، تفهيم القرآن، أخذته عن ص 508-509، رسالة أليف الدين القرشي.
(4) سورة آل عمران، من الآية 183.(1/137)
…"ذكر في عدة مواضع من التوراة أن علامة قبول قربان المرء أن تظهر من الغيث نازلتهم فتحكي التوراة عن أحد تلك القرابين فتقول: فأخذ منوخ جدي المعز والتقدمة وأصعدهما للرب على الصخرة فعمل الملك عملاً عجيباً ومنوخ وزوجته ينظران فكان عند ارتفاع اللهيب عن المذبح نحو السماء أن ملاك الرب صعد في لهيب المذبح ومنوخ وزوجته ينظران فخرّا على أوجههما إلى الأرض. الكتاب المقدس. سفر القضاء. الفصل الثالث عشر، الفقرات 19-20". وواصل الحديث ثلاث صفحات على هذا المنوال(1).
…فهذا الاستشهاد إثمه أكبر من نفعه، فهو يضعف أثر الهداية في نفس قارئ التفسير، ويزيد تبصرة في الأديان الأخرى مما نهينا عنه. ويضيف بدعة شائبة أن الكتب المحرفة مبينة للقرآن. ويوجه الأنظار للتاريخ القديم –غير الموثوق- بما فيه من عقائد وتشاريع فاسدة تشغل المسلمين في دراستها عن هداية القرآن. إلى غير ذلك من الآثام. فضلاً عن أن هذا الاستشهاد لا ينسجم مع ديباجة التفسير حيث قال المودودي "وإنني حاولت خلال تفسيري للقرآن الكريم بأن لا أعتني بالمباحث التي لا علاقة مباشرة لها بالتفسير، أو التي تلفت نظر القارئ إلى الأمور التي ليست لها علاقة بالقرآن الكريم"(2). ومن هذا المدخل دخل لنقد المفسرين السابقين وهذا يمكن أن نعدّه أنه وقع فيما عاب به غيره. وربما كان هو لا يراه عيباً لأنه ينظر إلى القرآن من منظار أمين الخولي بأنه كتاب العربية الأكبر. ويعدّ الكتب السماوية الحالية على قدم المساواة من حيث التشريع مع القرآن.
الإسرائيليات في تفسير ابن عاشور.
__________
(1) ص 511-514، رسالة ماجستير أليف الدين القرشي، عن 1/307-309، تفهيم القرآن للمودودي.
(2) ص 525، المصدر السابق، عن 1/11، تفهيم القرآن للمودودي.(1/138)
…أكثر ابن عاشور من الإسرائيليات في تفسيره ومن الاستشهاد بالتوراة والإنجيل حتى يمكن أن يقال عنه إنه لم يوف بما عاهد نفسه والقراء عليه من تحرير تفسيره مما علق بالتفسير من شوائب ونوّر القراء بما ينبغي أن يهجروه. ففي الجزء الأول من القرآن حيث تكثر أنباء فتحدث عن ولادة سيدنا موسى بمصر (1500 ق.م)، وتوفي قرب أريحا على جبل نيبو (1380 ق.م) (1). وتحدث عن وفاة سيدنا إبراهيم (1733 ق.م) وكانت ولادته (1966 ق.م) (2). وتحدث عن ملك سليمنا وعن السحر وعن الملكين ببابل هاروت وماروت(3). وتحدث عن ولادة سيدنا إسماعيل (1910 ق.م). وكانت وفاته في نفس السنة التي توفي فيها والده(4). وتحدث عن تأنيب الكتب السماوية لهم وإنذارهم بالمصائب التي ستحل عليهم كما في كتاب أرميا ومراثي أرميا وغيرها(5).
__________
(1) 1/498-499، التحرير والتنوير لابن عاشور.
(2) 1/702، التحرير والتنوير لابن عاشور.
(3) 1/630-639، التحرير والتنوير لابن عاشور عند تفسيره سورة البقرة آية 112.
(4) 1/719، المصدر نفسه.
(5) 1/370، التحرير والتنوير لابن عاشور.(1/139)
…وفي الجزء الثاني فصل عن التابوت(1). وفي الجزء الثالث فصل عن المحبة(2). وفي الجزء السادس أسهب عن الأنبياء نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب –عليهم السلام- جميعاً(3). وفي الجزء السابع(4) والثامن(5)، والتاسع حيث فصل عن الألواح(6). وهذا يتكرر في الأجزاء كلها. وما ذكرته غيض من فيض أشرت إليه لبيان مدى صحة من يزعم أن تفسير ابن عاشور حرره من الإسرائيليات وأنه يحاربها، فالقضية ليست شوارد شاذة عنده بل هي نهج سلكه هو ومن انخرط في سلك المدرسة العقلية الحديثة وبذلك تفند الإشاعة الكاذبة الخاطئة التي ذاع صيتها في أوساط المتعلمين في كليات الشريعة في هذا الجيل أنهم يحاربون الإسرائيليات. وهذه شوائب علينا أن ندرك خطرها ونجنب التفسير منها.
ب- التقريب بين الأديان.
…ملئت التفاسير في القرن الرابع عشرالهجري بفكرة التقريب بين الأديان والعقائد على اختلافها، وأهم مظاهر هذه الدعوة:
الدعوة إلى وحدة الأديان وزمالتها.
الدعوة إلى وحدة الوجود.
الدعوة إلى الإخاء الإنساني.
تشكيل الجمعيات وعقد المؤتمرات وإلقاء المحاضرات لهذه الغاية.
دين الحق ليس مختصاً بالإسلام.
الدعوة إلى الرابطة الشرقية والمسألة الشرقية.
الدعوة إلى فصل الدين عن الحياة.
إنكار فكرة نسخ الأديان.
القول بتناسخ الأرواح.
القول بتحضير الأرواح.
الدعوة إلى الوطنية والقومية.
الدعوة إلى وحدة الأديان وزمالتها.
__________
(1) 2/493، عند تفسير سورة البقرة آية 248، التحرير والتنوير، وانظر 2/80-82، المصدر نفسه.
(2) 2/225-227، التحرير والتنوير لابن عاشور.
(3) 6/32-34، التحرير والتنوير.
(4) 7/34، المصدر نفسه.
(5) 8/37، المصدر نفسه.
(6) 9/96-98، المصدر نفسه.(1/140)
1- كان عراب هذه الدعوة ومنشؤها جمال الدين الأفغاني وهو الذي أدخلها إلى مصر حيث قال: "ثم رجعت لأهل جرم الأرض وبحثت في أهم ما فيه يختلفون فوجدته (الدين)، فأخذت الأديان الثلاثة وبحثت فيها بحثاً دقيقاً مجرداً عن كل تقليد، منصرفاً عن كل تقيد، مطلقاً للعقل سراحه. فوجدت بعد كل بحث وتنقيب وإمعان، أن الأديان الثلاثة، الموسوية، والعيسوية، والمحمدية، على تمام الاتفاق في المبدأ والغاية. وإذا نقص في الواحدة شيء من أوامر الخير المطلق، استكملته الثانية.. وعلى هذا لاح لي بارق أمل كبير أن تتحد أهل الأديان الثلاثة مثلما اتحدت الأديان في جوهرها وأصلها وغايتها. وأن بهذا الاتحاد يكون البشر قد خطى نحو السلام خطوة كبيرة في هذه الحياة القصيرة"(1).
…وقال: "وأخذت أضع لنظريتي هذه خططاً وأخط أسطراً وأحبر رسائل للدعوة، كل ذلك وأنا لم أخالط أهل الأديان كلهم عن قرب وكثب ولا تعمقت في أسباب اختلاف حتى أهل الدين الواحد وتفرقهم فرقاً وشيعاً وطوائف"(2).
…وقال: "الناس تجاه الأديان الثلاثة –الموسوية والعيسوية والمحمدية – وكتبها لابد أن يكون إحدى رجلين(3): رجل يعتقد بالوحي، ويؤمن بالأنبياء، ورجل يجحد الوحي ولا يؤمن بالأنبياء ولا بإرسالهم من عند الله"(4). وقد صور أن الأول توصل إلى أن تكون الأديان متفقة في المقصد والغاية، ولا يصح التباين في جوهرها ولا أن تخالف بعضها بعضاً(5).
__________
(1) المخزومي، محمد باشا، خاطرات جمال الدين الأفغاني، المطبعة العلمية، يوسف صادر، بيروت، 1349هـ - 1931م، ص 82. ومن الجدير بالعلم أن جمال الدين الأفغاني قرأ الكتاب وأقره قبل طباعته.
(2) ص 83، خاطرات جمال الدين الأفغاني.
(3) انظر ص 213، المصدر السابق.
(4) انظر ص215، المصدر السابق.
(5) انظر ص214، المصدر السابق.(1/141)
…وقال عن الثاني: "الرجل الكافر ومنكر الوحي إنه يرى توحيد الله وتقديسه معروفاً من عند قدماء المصريين قبل موسى بأجيال، والتثليث من تعاليم الوثنيين وقد قال به فيثاغورس الفيلسوف اليوناني قبل المسيح بخمسمائة عام. وأن موسى وعيسى ومحمداً هم رجال عقلاء حكماء امتازوا عن وسطهم وجمعوا من معتقدات الأقدمين قواعد وأقوالاً –وضعوها في كتب- لا يعقل أن تكون من إله السماء. ويقول ذلك المنكر: إنه لو سلمنا أن في كتب الأديان شيئاً من النفع فهو لا يوازي ما نراه بين أهل الدين نفسه والأديان من الاختلاف والتنافر والمشاحنة، والبغضاء، ولو كانت من الإله حقيقة لجعلهم أن يتفقوا عليها ولا يختلفوا ثم يستحيل أن يكون فيها ما يرى من الخرافات إلخ"(1).
…وقال: "وأما ما يراه المنكر ونراه نحن أيضاً من اختلاف أهل الأديان فليس هو من تعاليمها ولا أثر له في كتبها. وإنما هو صنع بعض رؤساء أولئك الأديان الذين يتجرون بالدين"(2). ثم تعرض إلى جواب سؤال من أحد النواب في الهند عن دين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون(3)، فأجابه: اعلم أن كل دين يجب أن يكون حقاً(4). فالإسلام اسم ومسماه الحق فلو أتاك رجل اسمه عالم وهو في الحقيقة جاهل، هل تنكر لمجرد الاسم وعدم انطباقه فضل المسمى، ثم قال: فالظهور للحق وللحقيقة وليس للإسلام اسماً مجرداً. ثم قال: وفي هذه الآية
__________
(1) انظر ص216، المصدر السابق.
(2) انظر ص217، المصدر السابق.
(3) كأنه يشير إلى سورة التوبة، آية 33 { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } .
(4) ص 217، خاطرات جمال الدين الأفغاني.(1/142)
{ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } (1) ما يفهمنا أن هناك كل من بعض فالأديان في مجموعها هي الكل وأجزاؤها الموسوية، والعيسوية، والإسلام، فما كان من هذه الأديان كلها على الحق فهو الذي يتم له الظهور والغلبة. لأن الظهور الموعود به الدين إنما هو دين الحق –كما قلنا- وليس دين اليهود، ولا النصارى، ولا الإسلام، إذا بقوا أسماء مجردة ولكن من عمل من هؤلاء بالحق فهناك الدين الخالص"(2).
مناقشة أقوال جمال الدين الأفغاني:
إن الاتفاق في المبدأ والغاية لا يشكل سبباً شرعياً للاتحاد لأن الأديان الثلاثة من عند خالق البشر، ولم يوحدها، ولم يدع لاتحادها. وهو وحده له الحق في الإدماج والفصل. ولا يحق لمخلوق أن يخوض في شأن نزّله الخالق للبشر. ألم تر أن في الإسلام أنظمة متكاملة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعقوبات ما لا يوجد فيمن سبقه من الأديان؟ ثم قد توجد مصلحة مشتركة بين المسلمين ويهود للوقوف في وجه الدول الكبرى – وعقائدها سماوية – فهل يجوز الاتحاد بينهما مع احتلال اليهود لأرض المسلمين؟
قوله إن الأديان تكمل نقص بعضها بعضاً يوحي أن الإسلام فيه نقص وهذا يخالف القطعي ثبوتاً ودلالة { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (3).
الإسلام ناسخ لما قبله واليهود والنصارى مطالبون بترك عقائدهم واعتناق عقيدة الإسلام أصولها وفروعها. ومن لم ينصع للأمر الإلهي يعرض نفسه لعذاب الله في الآخرة. كما وردت بذلك آيات كثيرة منها: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (4).
__________
(1) سورة التوبة، من الآية 33.
(2) ص 218-219 ص 217، خاطرات جمال الدين الأفغاني.
(3) سورة المائدة، من الآية 3.
(4) سورة آل عمران، الآية 85.(1/143)
دعوته قائمة على التنظير والخيال(1) لا على الأدلة والواقع المحسوس. والدعوة إلى السلام العالمي فكرة خيالية كاذبة خاطئة هدفها هيمنة الفكر الغربي على الإسلام والمسلمين، مع أن الواجب الشرعي هو العكس.
إن لفظ (الإنسانية) دخل إلى المسلمين بدخول الاستشراق فقط. ومن ينظر في أمهات المعاجم العربية لا تجده فيها. ففي لسان العرب "الإنسان معروف. ثم ذكر آدم وأن بني الإنسان هم أبناؤه وأن الإنسان مشتق من النسيان". وفي القاموس المحيط: "البشر والإنسان الواحد إنس جمع أناس. والمرأة إنسان وبالهاء عامية". وعليه فلا وجود لهذا اللفظ في اللغة التي تعدّ حجة. وربما كان المعلم بطرس البستاني (1819م-1883م) (2) من السباقين في الحركة الأدبية اللبنانية الحديثة النابعة من الاستشراق ممن خصص لهذا اللفظ معنى فعرفها: "ما اختص به الإنسان من المحامد كالحنو وكرم الأخلاق". وقال نظير زيتون في كتاب (الإنطلاقات الإنسانية): "إن لفظ (إنسانية) انتقلت إلينا من الغرب في مطلع القرن المنصرم على إثر انتشار الثقافة الغربية في الشرق العربي".
…واقتفى أثر بطرس البستاني، محمد فريد وجدي في دائرة معارف القرن العشرين فخصص ستاً وثلاثين صفحة ليبحث في كلمة إنسان(3). وهو لا يعتد بكلامه لأنه خارج زمن الاحتجاج. ولذلك يعدّ لفظ الإنسانية دخيلاً على لغتنا.
__________
(1) ص 81-82، خاطرات جمال الدين الأفغاني.
(2) بطرس بن بولس بن عبد الله البستاني (ت 1300هـ)، له دائرة المعارف العربية، طبع في حياته (6) مجلدات، ثم أكمله أبناؤه إلى (11) مجلداً ولم يتم. (هدية العارفين، للبغدادي، 5/233، والإعلام، للزركلي، 2/58.
(3) هذا ملخص من مجلة العربي الصادرة في الكويت، ص 165، عدد إبريل (نيسان) 1402هـ-1982م.(1/144)
2- قال الشيخ محمد عبده في رسالة للقس تيلر: "ونستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل فتنهزم له ظلمات الغفلة فيصبح الملتان العظيمتان المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى وتصافحتا مصافحة الوداد وتعانقتا معانقة الألفة فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين"(1).
…وقال: "وإنا نرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتباً متوافقة وصحفاً متصادقة يدرسها أبناء الملتين ويوقرها أرباب الدينين فيتم نور الله في أرضه ويظهر دينه الحق على الدين كله"(2).
…وقال في رسالة ثانية: "ولا أظن يوماً مرّ أو يمر على الإنجليز يكون أسعد من ذلك اليوم الذي يؤمنون فيه بدين محمد إذ يصبح العالم خادماً لهم وجند الله الأعظم ناصراً لأهله منهم ويتم لهم ما أرادوا من إقرار عين العبيد وإرضاء قلوب النساء وهما مما يدعو إليهما الدين الإسلامي على أتم الوجوه وأكملها. فهلمّ يا عزيزي إلى الاتفاق على الأصول ليتيسر لنا الوفاق على الفروع والاتحاد في الأب ليتسنى لنا الاتحاد في الابن"(3).
…فدعوة الشيخ محمد عبده مكررة من دعوة أستاذه جمال الدين الأفغاني في اتحاد الأديان. وأمله أن يصبح العبيد (المسلمون) قريري العين بسيادة الإنجليز عليهم لم يتحقق بعد أكثر من قرن بعد وفاته.
__________
(1) 2/514، تاريخ الأستاذ الإمام محمد رشيد رضا، الرسالة رقم 22.
(2) 2/514، تاريخ الأستاذ الإمام، الرسالة رقم 22.
(3) 2/515، المصدر السابق، الرسالة 23.(1/145)
3- وقال الشيخ محمد رشيد رضا: "قال الأستاذ: إن التقريب بين الأديان مما جاء به الدين الإسلامي"(1) وتلا قوله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } (2). وقال: "سواء بين الفريقين أي عدل ووسط لا يرجح فيه طرف على طرف"(3).
يرى الشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا أن البابية والبهائية والقاديانية والماسونية والنصرانية واليهودية والإسلام أديان يدعو الإسلام للتقريب بينها. فأطلق على العقائد البشرية أدياناً مع أن مصطلح دين يتبادر الذهن إليه إذا كان من الله –تعالى-.
قلب الشيخان مفهوم الآية فهي في معرض التحدّي والمفاصلة. ونسيا سبب نزول الآيات، وفصلا الآيات السابقة واللاحقة عن بعضها، كما فصلا صدر الآية عن آخرها. ابتدأت الآيات بمثل عيسى عند الله، ثم جاءت آية المباهلة، وهي بحق النصارى. ثم توجهت الآيات بمخاطبة يهود ومجادلتها في إبراهيم وردت عليهم(4).
…وقد قعّد الشيخ رشيد قاعدة في الاتفاق بين الملل وصفها بالذهبية. وهي "ننفذ ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا عليه". وقال: "ومن رأينا في هذا التأليف أن يتفق المتعاونون عليه والساعون إليه على أن ينتقد كل منهم أهل الدين أو المذهب الذي ينتسب إليه فيما ينافي هذا التأليف دون المخالفين له إلا أن يضطر إلى انتقاد المخالفين اضطراراً فحينئذ ينتقد مع التلطف"(5).
__________
(1) 1/936، تاريخ الأستاذ الإمام محمد رشيد رضا، وقد عرض هذا القول عند الحديث عن البابية والبهائية والقاديانية ومقارنتها بالماسونية، أي أن الإسلام يقرب بينه وبين هذه العقائد ظاهرة الكفر والبطلان، تعالى الإسلام عن ذلك علواً كبيراً.
(2) تفسير آل عمران، من الآية 64.
(3) تفسير المنار، 3/325.
(4) سورة آل عمران، الآيات 59-70.
(5) م1، 1/12، فاتحة السنة الأولى، مجلة المنار، وانظر م13، 4/312، وانظر م16، ص285.(1/146)
…وقال الشيخ رشيد في هدفه من إنشاء مجلة المنار "يعلم القراء أن من مقاصدنا التأليف بين المسلمين المتفرقين في المذاهب والآراء بعضهم مع بعض، وكذا بينهم وبين غيرهم من أهل الملل الذين يعيشون معهم. وقد بيّنا هذا في فاتحة العدد الأول من السنة الأولى. واستقمنا على ذلك إلى هذا اليوم وسنستقيم عليه فيما بقى من عمرنا"(1).
…فالشيخ رشيد يدعو صراحة للتقريب بين العقائد والملل بدون مسوغ شرعي. وهو هدف رئيس يعمل لتحقيقه في إنشائه مجلة المنار. وقد قعّد قاعدة عمل على أساسها للتقريب بين الملل والعقائد المختلفة، استمر عليها حتى إنتهاء أجله. وهذا يناقض ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة وفي المدينة، ومناقض لآيات كثيرة.
__________
(1) م13، 4/312، مجلة المنار، محمد رشيد رضا.(1/147)
4- طنطاوي جوهري: قال: "المسلمون يقبلون كل حكمة من أي أمة من أمم الأرض، وتكون تلك الحكمة علماً من علوم الدين. وهذا أصل بديع أورده الله في هذه السورة حتى إذا قرأنا حكم قدماء المصريين وآدابهم ورأيناها معقولة قلنا هذه الآراء ترديد لصدى صوت الإسلام وهي من ديننا. لأن ديننا جاء لتعليم العالم كله، ورسولنا خاتم النبيين، والله يقول: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ } (1)، فالديانات والمعقولات كلها قد اتحدت في هذا الإسلام، فالإسلام كما جمع الديانات جمع العلوم"(2). وقال: "وإياك أن يصدك عن هذا المعنى أن الأديان ضالة أو خاطئة، أو منسوخة كلا ثم كلا"(3). وقال عن دين قدماء المصريين: إذن هؤلاء أصل دينهم كديننا فإننا نقول إن الله مقدس عن كل الحوادث ولكن هم جعلوا الشمس ضرب مثل له، وأتون اسم من أسماء الله عندهم"(4). وقال: "إن قدماء المصريين وإن عددوا الآلهة قد وحدوا فعلاً أيام الملك مينا وفي مدينة طيبة (أمون). وفي الأقصر (حورس). وفي جزيرة أسوان (ختوم). وهذا كان سبب تعدد المعبودات عندهم وإلا فالأصل هو التوحيد"(5).
…ثم خلص إلى النتيجة التالية: "من هذا يتضح أن معبود الجميع في الحقيقة إله واحد، وما هذه الأسماء إلا رموز ومظاهر للإله الحقيقي الجامع في ذاته كل الصفات الإلهية"(6).
__________
(1) سورة النساء، من الآية 131.
(2) الجواهر في تفسير القرآن الكريم، م8، 15/153.
(3) م6، 11/51، المصدر السابق.
(4) م6، 11/52، المصدر السابق.
(5) المصدر السابق نفسه.
(6) م6، 11/53، الجواهر في تفسير القرآن.(1/148)
…وقال: "إذن أكابر الصوفية (ابن عربي والغزالي) من المسلمين تستروا بالتصوف وأدخلوا الحكمة وجعلوها ضمن الكشف وذلك سبب المرض العقلي الذي حل بأمم الإسلام فاختلت حياتهم وضاعت دولتهم ولله عاقبة الأمور. وسيرجع لهذه الأمم مجدها ورفعتها وعزها بعد ظهور هذا التفسير وأمثاله"(1).
…ونختم أقواله بمناشدته لأمة الإسلام: "أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها: إن ربكم واحد، ودينكم النظر في صنعه وعجائبه وجماله. جاء لكم حكماء وعلماء كابن سينا والفارابي والغزالي والرازي وأسمعوكم ما أقول لكم اليوم، فأبيتم وقلتكم إنكم كافرون. أيها المسلمون هذا هو علم التوحيد في الحقل والجبل والزرع لا في الكتب المصنفة المشهورة هي والله مبعدة عن حكمة الله ومعرفة آياته، هي مجلبة للشك"(2).
…مما تقدم(3) نرى أن تقريب الأديان الذي يدعو إليه الشيخ طنطاوي جوهري هو اندغام الإسلام والوثنية، والديانات القديمة في عقيدة واحدة. وهذا في واقعه محو للإسلام وإحلال ما يطرأ على العقل محله. وهذه شوائب لا تمت للإسلام بصلة.
__________
(1) م1، 1/266، الجواهر في تفسير القرآن.
(2) م1، 1/266 الجواهر في تفسير القرآن.
(3) وهذا غيض من فيض. انظر على سبيل المثال مدحه لإخوان الصفاء وأخذ من عقائدهم الفاسدة وعدّها سلفاً له: م1، 1/36، م1، 2/8، م12، 23/8، م8، 15/192، م12، 23/154، 160، وقد جعل الأخلاق الفاسدة وإغواء الشياطين رحمة. انظر م9، 18/185، وقد أصل عقيدة التثليث للوثنيين ومنهم البراهمة وأصلها للنصارى. انظر م1، 2/118، وغيرها كثير. الجواهر في تفسير القرآن، طنطاوي جوهري.(1/149)
5- محمد فريد وجدي(1) والأديان:
…يرى أن أسباب الخلاف بين أصحاب الأديان هو تعصبها لأنبيائها وتقديسهم بما لا يتفق مع العقل ولا يستقيم على دليل(2). ويرى أن نظريات الغرب في التدين عند المجتمعات عبر التاريخ كانت خيالية لأنها لا تخضع للعقل والعلم. وجاء الإسلام يقول بالعقل والعلم كضوابط للدين لذلك سيكون المستقبل للإسلام (بالمفهوم الذي يداعب خيال المؤلف).
…وقد استشهد بأقوال فيكتور هوجو "إن الشعور الفطري المودع في صميم الإنسان بوجود الله –تعالى- أتى إليه من تلك الشمس مباشرة (يعني بالشمس الله عز وجل). أما الديانة اليهودية والصابئية والبوذية والمانوية والمحمدية والمسيحية فهي من نور القمر، لأن موسى وبوذا وزرادشت وأورفيه وكنفوشيوس وماني ومحمد وعيسى هم أنواع من الكواكب دائرة حول تلك الشمس يستشرفون نورها ويعكسونه على من دونهم من العالمين، فالديانات التي هي أقمار الشمس الإلهية مهمتها إفاضة النور على الإنسان في غياهب حياته وظلمات بقائه"(3), وهكذا جمعت الديانات السماوية والوثنية، وجعلت على سواء عند محمد فريد وجدي تحت عنوان (العلم والفلسفة يهيئان العقول والقلوب لقبول الإسلام ديناً عالمياً) (4). خلص إلى القول:
__________
(1) صاحب موسوعة دائرة المعارف في القرن العشرين، وصاحب تفسير للقرآن، وصاحب كتاب المستقبل للإسلام، وكان من الإخوان الماسون، انظر ص294، مجلة الميثاق الماسونية، الأستاذ العالم الكبير محمد فريد بك وجدي، العدد 2، السنة الأولى، مصر، السبت أول اكتوبر 1921م، 12 محرم 1340هـ. محررها سيد علي الحريري، والمجلة لسان حال المحفل الأكبر الوطني المصري، كما روست بها المجلة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، دوريات 666.
(2) وجدي، محمد فريد، المستقبل للإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 11.
(3) ص 16، المصدر السابق.
(4) ص 107، المصدر السابق.(1/150)
إن العالم بفضل تحرره من الوراثات والتقاليد، وإمعانه في النقد والتمحيص، يتمشى على غير قصد منه نحو الإسلام بخطوات متزنة ثابتة(1).
أن الإنسان فوق كل ما يحصله من علم وما يكتشفه من مستور يزداد معرفة بما يجب أن يكون عليه الحق، وما يلزم أن تأخذ به النفس من الآداب القويمة، وما ينبغي أن يقيمه لتوثباته من المثل الأعلى للإنسانية الصحيحة في أثناء تمشي الإنسان في هذا السبيل الأدبي تحت ضوء العلم والفلسفة تسقط في نظرة الواحدة بعد الأخرى جميع الأوهام الموروثة والتعصبات التقليدية فيرى الخضوع لها عاراً عليه وسقوطاً لكرامته ويعمل على تطهير قلبه منها، واجتثاث جذورها المنبثة في أقصى ثناياه عادّاً ذلك من متممات وجوده الأدبي فتكون النتيجة الحتمية من وراء هذه المحاولات الثقافية تأسيس الأصول الآتية.
أولاً…: زوال آثار الوراثات الدينية.
ثانياً…: انمحاء التعصب المذموم.
ثالثاً…: قيام النظر العقلي مقام التقليد الأعمى.
رابعاً…: قبول كل عقيدة تسلم من النقد وتنهض بها حجة.
خامساً…: الميل إلى إيجاد زمالة عامة بين الناس كافة، ومحاربة كل العقائد المفرقة للأمم والجاعلة إياها شيعاً.
سادساً…: الاتجاه إلى نصب العلم فاروقاً بين الحق والباطل، بغير اعتداد برأي أي طائفة من الطوائف، أو فرد من الأفراد(2).
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) انظر ص 107، 108، المستقبل للإسلام، محمد فريد وجدي.(1/151)
…هذه الأصول الستة لا محيص عنها من تولدها كثمرة طبيعية للثقافة العصرية. وقد تولدت فعلاً وصارت جزءاً من الدستور العلمي لدى ألوف من المشتغلين بجميع الفروع العلمية، وليس بينها وبين أن تصبح عنصراً رئيسياً من عناصر العقلية الأوروبية إلا أن تنتشر فيها المبادئ الفلسفية، وهي لا تزال بعيدة عن الدهماء لأسباب اقتصادية ولكن لا بدّ من بلوغها هذه المنزلة بعد قرنين أو أكثر. فإذا بلغ العالم هذه المرتبة من التعقل، والخلاص من آثار الوراثة، ثم لاح له أن ينظر في الأديان التي يعتبرها إذ ذاك بقايا أثرية للعقلية البشرية، تبين له أنه في صميم الإسلام. وأنه في جهاده العلمي الطويل كان يعمل لإقامة دولته، وإعلاء كلمته، وهو يتوهم أنه يهدمه فيما يهدم من العقائد الباطلة والوساوس المعطلة"(1).
…ثم قال: "أليست الأصول الستة التي أثبتناها هنا، وهي أخص أصول الدستور العلمي، هي نفسها أخص أصول الإسلام، بل هي معناه وروحه، والموجب لجعله ديناً للعالمين كافة في كل زمان ومكان؟"(2). وقال: "ويجد أن كل ما تستدعيه تلك العاطفة الدينية من معتقدات وعبادات ومعاملات مشروط فيه الرجوع به إلى حكم العقل والعلم لا إلى تحكم الهوى والجهل"(3).
…ثم قال: "هذا هو الدين الذي جاء به محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ديناً عاماً للبشر كافة فهل تجد محيصاً للبشر عنه؟"(4).
…ثم خلص إلى أن كل خطوة يخطوها البشر في سبيل الرقي هي تقرب إلى ديننا الفطري حيث ينتهي الأمر إلى الإقرار الجماعي بأنه الدين الحق(5).
…وهذا قدر كاف في محو جميع الأديان عند الرجل ليبقى العقل والعلم والفلسفة وإليك مناقشة آرائه السابقة الذكر.
__________
(1) ص109، المصدر السابق نفسه.
(2) ص110، المصدر نفسه.
(3) ص117، المصدر السابق.
(4) ص117، المصدر السابق.
(5) ص119، المصدر السابق.(1/152)
…أما الأصل الأول فجوابه أن الدين الحق ليس وراثة محضة، ولكنه منقول خلفاً عن سلف إلى أن بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يكون هذا موروثاً بالياً كما يزعم. وكله حق ثابت بالأدلة النقلية القطعية. وأما الأصل الثاني فإنه محق فيه لو أراد حقيقة التعصب. أما أنه يريد به التمسك بالدين، والاستقامة عليه، فهذا ليس تعصباً في نظر العقلاء. بل هو منهج قائم على النظر العقلي في الأدلة المستندة إلى الحس والواقع على ضوء الوحي الإلهي.
…وأما الأصل الثالث فالإسلام جاء لمحاربة التقليد، والدعوى إلى إعمال العقل لكن على أساس الوحي الإلهي.
…وأما الأصل الرابع فمن فمك أدينك فإن ما تعتقده لا يسلم من النقد، ولا تقوم به حجة لأنه يجمع بين المتفرق المختلف الذي لا يقبل الاجتماع لأنه متناقض. إذ كيف نجمع بين عقائد بشرية ودين سماوي؟! أو أفكار منحرفة بعيدة عن المنطق ودين يوافق العقل السليم ويتفق مع الفطرة النقية.
…وأما أصله الخامس فجوابه إن الحق لا يختلف فيه اثنان، وليس له إلا نقيض واحد هو الباطل. والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. فكيف يريد أن يجمع بينهما؟! إنه لعمر الله هو المستحيل بعينه.
…وأما أصله السادس فأوافقه على شرط أن يكون هذا العلم علماً حقيقة مبنياً على الأدلة القطعية الثابتة، والمقدمات الصحيحة لا ما يتخيله علماً وهو أبعد ما يكون عنه.
…ومهما يكن من أمر فقد وضع أصولاً إن تحاكمنا إليها حكمنا عليه بأن رأيه فاسد، ومنهجه خاطئ، وطريقته تخالف الحق وقد ابتعد عنه. فهي شوائب لا تمت للإسلام بصلة.
6- التقريب بين الأديان في التفسير القرآني للقرآن:(1/153)
…فسّر قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } (1): "وليس هذا شأن الأنبياء وحدهم في إيمان بعضهم ببعض، وتصديق بعضهم بعضاً، ونصرة بعضهم بعضاً.. بل هو شأن أتباع الأنبياء جميعاً إذ هم المؤمنون بالله وكتبه ورسله. فكل دعوة نبي هي دعوة جميع الأنبياء، وأتباع الأنبياء، ومعاداة أي نبي وأتباع أي نبي هي محاربة لله ولرسوله { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } (2). وأتباع الأنبياء المؤمنين برسالات الأنبياء هم جميعاً إخوة يجمعهم التوحيد بالله والعبودية لله(3).
…وهكذا آخى د. الخطيب بين الأديان الثلاثة، وصيّر آية الحجرات التي تتحدث عن طائفتين من المسلمين لتكون لليهود والنصارى والمسلمين، وجعل الصراع الفكري والجدال بين الإسلام وغيره وما قد ينجم عنه محاربة لله ولرسوله، وهذا قلب لمفاهيم الإسلام.
…وقد أكد د. الخطيب مفهومه هذا عند تفسير قوله تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (4). فقال: "فليس المراد بالإسلام هو الشريعة الإسلامية التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة. إذ ليست هذه الشريعة بدعاً من الشرائع السماوية التي سبقتها. بل هي وما قبلها من الشرائع من يهودية ونصرانية وغيرها على سواء فجميعها شريعة الله، وكلها الإسلام الذي هو الدين عند الله ولا دين غيره"(5).
__________
(1) سورة آل عمران، من الآية 81.
(2) سورة الحجرات، من الآية 10.
(3) التفسير القرآني للقرآن، د. عبد الكريم الخطيب، م1، 3/510.
(4) سورة آل عمران، من الآية 85.
(5) التفسير القرآني للقرآن، د. عبد الكريم الخطيب، م2، 3/515.(1/154)
…وقال في موضع آخر: "إن هذا العصر، عصر العلم والشك، عصر الامتحان لكل شيء.. عصر الإلحاد وغربلة الأديان، هو عصر الإسلام وهو اللسان المجدد لدعوته حيث يجلي حقائق هذا الدين ويكشف عن الخير الكثير المخبأ للناس فيه"(1).
…فالدعوة للإسلام عند د. الخطيب تعني الإلحاد وغربلة الأديان بما فيها الإسلام. وكلمة الإسلام في الآية محلى بأل العهد فلا تفيد غير الدين الذي نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك أشرك معه اليهودية والنصرانية السابقات له، وهيمنة الإسلام ونسخه للأديان السابقة ليست من قاموس د. الخطيب فكلامه صريح واضح لا يحتاج إلى تعقيب فهو شوائب محضة.
المبحث الثالث :رد الأحاديث الصحيحة والاستشهاد بالضعيف وما لا أصل له
نظرة مؤسسي التفسير في القرن الرابع عشر الهجري للسنة النبوية:
قال الشيخ محمد عبده: "وعلى أي حال فلنا بل علينا أن نفوض الأمر في الحديث ولا نحكمه في عقيدتنا ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل"(2).
قال الأستاذ: "وأحاديث الآحاد ظنية يحتمل أن تكون مكذوبة من بعض رجال السند المتظاهرين بالصلاح لخداع الناس"(3).
قال الشيخ رشيد: "إنه (محمد عبده) لا يثق إلا بأقل القليل مما روي في الصحاح من أحاديث الفتن"(4).
وقال الشيخ رشيد: "وأكثر التفسير بالمأثور قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب"(5).
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن، د. عبد الكريم الخطيب، م5، 10/752.
(2) ص 181، تفسير جزء عمّ للشيخ محمد عبده.
(3) 2/140، تفسير المنار. قال الشيخ رشيد وقال الأستاذ يعني عن محمد عبده.
(4) 9/506، تفسير المنار.
(5) 1/8، تفسير المنار.(1/155)
وقال الشيخ رشيد: "وغرضنا من هذا كله أن أكثر ما روي في التفسير المأثور أو كثيره حجاب على القرآن، وشاغل لتاليه عن مقاصده العليا المزكية للأنفس المنورة للعقول. فالمفضلون للتفسير المأثور لهم شاغل عن مقاصد القرآن بكثرة الروايات التي لا قيمة لها سنداً ولا موضوعاً"(1).
وقال الشيخ رشيد: "وأما الأحاديث فإن فيها ما هو من اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو دون الوحي. وإن كان قد تقرر أن النبي إذا أخطأ في اجتهاده لا يقر على الخطأ بل يبين له"(2).
وقال الشيخ رشيد: "ونحن نجزم بأنا نسينا وضيعنا من حديث نبينا - صلى الله عليه وسلم - حظاً عظيماً لعدم كتابة علماء الصحابة كل ما سمعوه، ولكن ليس منه ما هو بيان للقرآن أو من أمور الدين. فإن أمور الدين معروفة في القرآن، ومبيّنة بالسنة العملية، وما دُوِّن من الأحاديث فهو مزيد هداية وبيان"(3).
وقال الشيخ رشيد: "وإنما بيّن الشارع الأحكام العملية بالعمل وما بيّنه بالقول وَكَله إلى أفهام المخاطبين"(4).
وقال: "وكذلك يعمل كل أحد بما صح عنده من الأحاديث القولية ولا يجعل ذلك مثاراً للخلاف في الدين لأنه من قسم المخيّر فيه. ولو كان محتماً لما ترك العمل به الصحابة والتابعون، ولو عملوا به لكان ثابتاً بالعمل"(5).
التعقيب على نظرة محمد عبده ومحمد رشيد رضا للحديث:
__________
(1) 1/10، تفسير المنار.
(2) 2/140، تفسير المنار. كان كلام الشيخ رشيد في معرض التفريق بين الكتاب والسنة في رده حديث (لا وصية لوارث).
(3) ص 306، الأنوار الكاشفة لما في كتاب "أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة" عبد الرحمن ابن يحيى المعلمي اليماني.
(4) ص 56، رضا، محمد رشيد، محاورات المصلح والمقلد والوحدة الإسلامية، ط1، مطبعة مجلة المنار، القاهرة، 1324هـ.
(5) ص 65، 66، محاورات المصلح والمقلد، محمد رشيد رضا.(1/156)
…أما القول الأول فظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب. فقد يتبادر للذهن أنه لا يأخذ العقيدة إلا عن دليل قطعي كما ذهب علماء الأصول ولكن طبق هذا على الأحكام الشرعية فألغى بذلك جل الحديث النبوي الشريف.
…وأما القول الثاني فأوله صحيح وحق أريد به باطل. فخبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجب العلم والعمل جميعاً(1). وأوسطه قائم على نظرية الاحتمال والشك مبعثها نظرية النقد في الأدب العربي، المستوردة من المستشرقين، وآخره زعم بلا دليل.
…وأما القول الثالث فيوحي بأن قول الشيخ محمد عبده شرع وهو معصوم كأئمة بعض الشيعة. وهو زعم مردود لأن الشرع والعصمة للأنبياء فقط لأنه يوحى إليهم. وما دونهم يؤخذ منهم ويرد عليهم، والواقع أنه ردّ أحاديث الفتن وغيرها مما ورد في الصحاح، ورد السنة القولية بجملتها كما سيأتي بعد قليل.
…وأما القول الرابع فهو تطبيق لنظرية جواسيس الغرب (المستشرقين) خلاصتها أن الإسلام تأثر باليهودية والنصرانية، وأن الحديث مشكوك فيه لأنه وضع حسب الأغراض السياسية التي وضعته الفرق الإسلامية. وفيه طعن بمسلمي أهل الكتاب وتشكيك في إخلاصهم وصدقهم مع أن بعضهم بشرهم الرسول بالجنة حسبما ورد في الصحيحين. والمأثور يعني الحديث وأقوال الصحابة والتابعين، وهذه السلسلة التي ثبت بها شرعنا الحنيف فإذا تطرق إليها الشك فإنه يتطرق إلى الشريعة نفسها. وهذا بهتان عظيم.
…وأما القول الخامس فهو من السخف والسخرية أن يجمع الشيخ رشيد التباكي والحرص على القرآن والتحسر على ما لم يحفظ من السنة النبوية وبين التجني على ما حفظ منها والعمل لهدمها.
…وأما القول السادس فهو طعن بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ومناقض للقرآن الكريم
__________
(1) انظر رأي ابن حزم ص 50، الباعث الحثيث للحافظ ابن كثير، طبعة 1994م، توزيع مكتبة السنة، القاهرة.(1/157)
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (النجم: 4).
…وأما القول السابع فأوله جزم بدون دليل وهو النسيان والتضييع. وأوسطه معارض لقوله تعالى: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (النحل: من الآية 44). وآخره تحريف لمعنى الدين حيث يعتقده بالمعنى النصراني وهو العبادات فقط. وجريمة إلغاء للسنة القولية لأنها مزيد هداية وبيان، فالقرآن والسنة العملية يسدان مسدّها حسب زعمه.
…وأما القول الثامن فهو جريمة فصلت السنة القولية عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وألحقتها بأفهام المخاطبين وفيه هدم للسنة القولية كلها.
…وأما القول التاسع والأخير فهو خليط. فنوافقه إذا كان المقصود بما صحّ من الحديث (قولاً أو فعلاً) حسب قواعد الحديث المعتبرة، وأما أن لا يجعل مثار خلاف ففيه المتواتر وخبر الآحاد. ولا يجوز أن يكون المتواتر من المخير فيه لا في العقائد ولا في الأحكام. وخبر الواحد لا يجوز أن يخيّر فيه في الأحكام لأنه يوجب العمل. وأما ترك الصحابة والتابعين له فهي دعوى بدون دليل فترد. وزعمه لو عملوا به لكان ثابتاً بالعمل، فالشيخ رشيد ردّ أحاديث قالها الصحابة وطبقوها عملياً ووردت في الصحاح كما سيأتي بعد قليل.
…مما سبق نرى أن محمد عبده ومحمد رشيد رضا ينظران للسنة النبوية بأنها فضل زائد. وبالتالي سيؤدي ذلك إلى هدم الإسلام بالكامل لأن فصل الحديث عن القرآن هذا مآله.
نماذج من الأحاديث التي ردها أصحاب تفسير المنار:
- أولاً: حديث روته عائشة – رضي الله عنها-: (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحرّمن، ثم نسخن بخمس معلومات يُحرّمن. فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي مما يقرأ من القرآن) رواه مسلم(1).
…طريقتهم في رد رواية الحديث:
__________
(1) 4/271، تفسير المنار. وقال: "والحديث رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة".(1/158)
أ- إنها مضطربة.
ب- جعل الحديث رأياً محضاً لعائشة وليس قولاً للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ج- ردّ رواية ابن مسعود القائلة بخمس رضعات بقوله: "فلا يبعد أن يكون أخذ ذلك عنها"(1).
د- ردّ رواية عبد الله بن الزبير بخمس رضعات بقوله: "وأما عبد الله بن الزبير فلا شك أن قوله بذلك اتباع لها لأنها خالته ومعلمته، واتباعه لها لا يزيد قولها قوة ولا يجعله حجة"(2).
هـ- رد الرواية لأن العدد لم يذكر في القرآن فقال: "فالأقرب في تصوير ذلك إذاً أن يكون أصل الآية: وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم عشر رضعات معلومات، ثم نزل بعد طائفة من الزمن عمل فيها الناس بقصر التحريم على عشر استبدل لفظ (خمس) بلفظ (عشر) وبقي الناس يقرؤونها هكذا إلى ما بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -(3).
و- رد الحديث من زاوية ما الحكمة من نسخ العشر بخمس(4). ورأى أنه لا حكمة من هذا النسخ أي رده بالعقل.
ز- رد الحديث لأنه من رواية عمرة عن عائشة فقال: "هي عند مسلم من رواية عمرة عن عائشة، أوليس رد رواية عمرة وعدم الثقة بها أولى من القول بنزول شيء من القرآن لا تظهر له حكمة، أو فائدة، ثم نسخه أو سقوطه أو ضياعه. فإن عمرة زعمت أن عائشة كانت ترى أن الخمس لم تنسخ"(5). نسخ تلاوة ولم ينسخ حكماً.
…مما سبق ندرك أسلوب الشيخ رشيد في رد هذا الحديث الصحيح، ونجيب عليه بالآتي:
__________
(1) 4/472، تفسير المنار.
(2) 4/472، تفسير المنار.
(3) 4/473، تفسير المنار.
(4) 4/473، تفسير المنار. وقال في ص 471، ورواية الخمس هي المعتمدة عن عائشة وعليها العمل عندها وبها يقول أكثر علماء الحديث، ويرون أن العمل بها يجمع بين الأحاديث ولا يحتاج فيه إلى القول بنسخ شيء منها.
(5) ص 474 المصدر السابق نفسه.(1/159)
أما زعمه أن الحديث مضطرب فقد عمد إلى اختلاف النص في كتب أئمة الحديث مسلم وأبي داود والنسائي والترمذي، وابن ماجه، والحديث وصف واقع لتشريع، وليس ألفاظاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - فالأمر الطبيعي، والمتفق عليه في علم الحديث أن تختلف الألفاظ وتتفق المعاني باختلاف عدد الصحابة الراوين لوصف هذا الواقع. ولا يسمى هذا في عرف علم الحديث اضطراباً. وعلى هذا نبه النووي في شرح الحديث في صحيح مسلم بقوله: "إن بعضهم زعم أنه مضطرب وهذا غلط ظاهر وجسارة على رد السنن بمجرد الهوى وتوهين صحيحها لنصرة المذاهب"(1).
رد الحديث الثابت في صحيح مسلم وغيره بنظرية الاحتمال، احتمال رواية عائشة بالرأي المحض، واحتمال رواية عبد الله بن مسعود عن عائشة. ولكنه لم يتطرق لذكر أو نفي رواية علي بن أبي طالب التي تقول بخمس رضعات(2). فهو رد بالهوى. قال النووي: "إن بعضهم زعم أنه موقوف على عائشة. وهذا خطأ فاحش بل قد ذكره مسلم وغيره من طرق صحاح مرفوعاً من رواية عائشة ومن رواية أم الفضل"(3).
__________
(1) 10/30، صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الرضاع.
(2) انظر 6/312، الشوكاني، محمد علي نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، المكتبة التوفيقية، القاهرة.
(3) 10/30، صحيح مسلم، كتاب الرضاع، شرح النووي، قال الشوكاني: والحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي، ورواه ابن ماجه في رواية أخرى، ص 310، 311، نيل الأوطار، المصدر السابق.(1/160)
رد رواية عبد الله بن الزبير بزعم خطير بأن جعل مدار البحث الرأي وليس نص الحديث. وفيه طعن بالصحابي الجليل بأنه يتعصب لقول خالته ومعلمته على حد تعبيره ويقدمه على نص الوحي، وهذا إفك مبين. وكذلك ردّ رواية تابعية من الثالثة(1) عمرة التي روى لها الستة بدون دليل. وهو يعمد على إبطال قاعدة الصحابة كلهم عدول.
رد الحديث بالعقل وهو لعدم ذكره في القرآن أو لأنه لم يتوصل إلى الحكمة من النسخ؟ وهذا مخالف لطريقة رد الحديث رواية ودراية كما هو ثابت في أصول علم الحديث.
إن الحكم نسخ تلاوة ولم ينسخ حكماً.
- ثانياً: حديث (لا وصية لوارث).
…قال الشيخ رشيد: فيه نظر، وقال: "والحديث من الآحاد. وتلقي الأمة له بالقبول لا يلحق بالمتواتر"(2). وقال: "وأما الحديث فقد أرادوا أن يجعلوا له حكم المتواتر، أو يلصقوه بتلقي الأمة له بالقبول ليصلح ناسخاً على أنه لم يصل إلى درجة ثقة الشيخين به فلم يروه أحد منهما مسنداً"(3).
…وقال: "ورواية أصحاب السنن محصورة في عمرو بن خارجة وأبي أمامة وابن عباس، وفي إسناد الثاني إسماعيل بن عياش تكلموا فيه، وإنما حسنه الترمذي لأن إسماعيل يرويه عن الشاميين، وقد قوى بعض الأئمة روايته عنهم خاصة. وحديث ابن عباس معلول إذ هو من رواية عطاء بن أبي رباح موقوف على ابن عباس، وما روي غير ذلك فلا نزاع في ضعفه، فعلم أنه ليس لنا رواية للحديث صحت إلا رواية عمرو بن خارجة، والذي صححها هو الترمذي وهو من المتساهلين في التصحيح، وقد علمت أن البخاري ومسلم لم يرضياها فهل يقال إن حديثاً كهذا تلقته الأمة بالقبول"(4).
__________
(1) هي عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة الأنصارية، أكثرت عن عائشة وروى لها الستة وهي ثقة بلا ريب. انظر تقريب التهذيب لابن حجر، ص 750، ترجمة 8643، دراسة محمد عوامة، دار الرشيد، سوريا، ط4، 1412هـ، 1992م.
(2) 2/136، تفسير المنار.
(3) 2/136، تفسير المنار.
(4) 2/138، تفسير المنار.(1/161)
مناقشة أصحاب المنار في رد هذا الحديث:
النظر الذي زعمه الشيخ رشيد فصّله بعد صفحتين، ومن فمه ندينه، فقد روى الحديث على حد قوله ثلاثة من الصحابة وهذا من دواعي البحث في التواتر وليس من دواعي رد الحديث.
وأما ما قاله عن سند الثاني (أبي أمامة) فقد ردّ على نفسه فإسماعيل بن عياش حمصي من بلاد الشام وقد رواه عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة(1). وقد اعترف أصحاب المنار بأن سبب تحسين الترمذي له أنَّ هذا الحديث مروي عن الشاميين.
وحديث ابن عباس كذلك، فقد روي عن عطاء بن أبي رباح وليس عن الخراساني فيعتد به، وقد أخرج نحوه البخاري من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفاً. قال الحافظ: "إلا أنه في تفسير وأخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن فيكون في حكم المرفوع"(2).
وأما رواية عمرو بن خارجة فقد اعترف بصحتها ولكنه ردّها لأن الترمذي من المتساهلين في التصحيح وهذا قول من لا محصّل عنده. فالحديث رواه الخمسة إلا أبا داود. وقال الشوكاني: "أخرجه الدارقطني والبيهقي". وقد روى الحديث صحابي آخر هو أبو أمامة بالسماع أيضاً. وقد رواه الخمسة إلا النسائي. وقد حسنه الترمذي والحافظ. والحديث روي في حجة الوداع كما صرح بعض رواة الحديث.
__________
(1) انظر 6/40، نيل الأوطار للشوكاني، المكتبة التوفيقية، القاهرة، وانظر تاريخ بغداد، 13/394.
(2) 6/40، نيل الأوطار للشوكاني.(1/162)
وعليه فالحديث صحيح ولا علّة فيه ولا شذوذ. كون الترمذي والحافظ من المتساهلين في تصحيح الأحاديث لا يعني أن الحديث معلول. ولا يقبل الجرح والقدح إلا بدليل كما قال الحافظ ابن كثير(1).
قوله: "إنه خبر آحاد لا يلحق بالمتواتر فهو قول حق". وخبر الآحاد في الأحكام الشرعية انعقد عليه إجماع الصحابة، ونقل عنهم - رضي الله عنه - من الوقائع المختلفة ما يفوق العد والحصر. وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسل آحاد الصحابة إلى البلدان يدعون إلى الإسلام، ويعلِّمون الأحكام، ويروون الأحاديث، وأرسل معاذاً إلى اليمن فلو لم يكن العمل بخبر الواحد واجباً على المسلمين لما اكتفى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالآحاد من الصحابة يرسلهم ولكان أرسل جماعات. وبذلك يرد قول أصحاب المنار بأن غير المتواتر لا يؤخذ به في الأحكام.
__________
(1) قال ابن كثير: "بخلاف الجرح فإنه لا يقبل إلا مفسراً لاختلاف الناس في الأسباب المفسقة فقد يعتقد الجارح شيئاً مفسقاً، فيضعفه، ولا يكون كذلك في نفس الأمر أو عند غيره فلهذا اشترط بيان السبب في الجرح" ص 133، الباعث الحثيث، تحقيق أحمد محمد شاكر، الناشر دار الكتب، بيروت، توزيع مكتبة السنة، القاهرة، 1415هـ - 1994م.(1/163)
أما ردّه للحديث لأن البخاري ومسلماً لم يروياه فهذه بدعة ومع ذلك فلم يلتزم أصحاب المنار بها حيث ردّوا أحاديث اتفق عليها الشيخان وشاطرهم في صحتها أصحاب السنن وأحمد كما سيأتي بعد قليل، ومن البديهي عند علماء الحديث كافة أن البخاري ومسلماً لم يدّعيا أنهما جمعا الأحاديث الصحيحة كلها(1). فكيف نجرؤ على نفي حديث صحيح لأنه لم يرد في الصحيحين؟
- ثالثاً: رد أصحاب تفسير المنار أحاديث الشيخين التي تحرم الحمر الأهلية والسباع وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير عند تفسير قوله تعالى: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( (الأنعام: 145).
…ساق أصحاب المنار سبعة أحاديث من كتاب الدر المنثور للسيوطي مع بيان مخرّجيها وهم: ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والنسائي ومالك وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن خمسة من الصحابة وهم عبد الله بن عمر، وأبو ثعلبة الخشني، وأنس، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، ثم عقَّبوا على ذلك:
"هذه جملة الأحاديث والآثار التي أوردها السيوطي في تفسير هذه الآية مما يؤيد الحصر في الآية ويخالفه"(2).
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير: "إن البخاري ومسلماً لم يلتزما بإخراج جميع ما يُحكم بصحته من الأحاديث، فإنهما قد صححا أحاديث ليست في كتابيهما، كما ينقل الترمذي وغيره عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده بل في السنن وغيرها". انظر ص 34، الباعث الحثيث، لابن كثير، تحقيق أحمد شاكر، توزيع مكتبة السنة، القاهرة.
(2) 8/153، تفسير المنار.(1/164)
"وتركت اضعف المقرر منها وإن كان فيه زيادة كحديث خالد بن الوليد فيما حرّم يوم خيبر وفيه الخيل والبغال وهو ضعيف وإنما أسلم خالد بعد خيبر. وفي أصحها أن ابن عباس كان يحتج بالآية على حصر محرمات الطعام فيما حرمته بالنص وإباحة ما عداه ولا يرى ما روي عن النبي ( من النهي عن الحمر الأهلية، وغيرها ناسخاً لها ولا مخصصاً لعمومها"(1).
"والأرجح المختار عندنا أن كل ما صح من الأحاديث في النهي عن طعام غير الأنواع الأربعة التي حصرت الآيات محرمات الطعام فيها هو إما للكراهة، وإما مؤقت لعلة عارضة كما تقدم في الحمير، وما وردت منه بلفظ التحريم فهو مروي بالمعنى لا بلفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم -"(2).
__________
(1) 8/153، تفسير المنار.
(2) 8/163، تفسير المنار، وانظر ص 153، المصدر نفسه، حيث قال: "أما الحمر الأهلية أو الإنسية فما ورد في حظرها بلفظ النهي يحتمل كونه للكراهة. كما قال من لم يحرمها وأقواها ما ورد بلفظ التحريم مع التعليل بأنها رجس إذا صرح بعضهم بأنه يدل على أنها محرمة لنجاستها وهي صفة لازمة لها كالخنزير وستعلم ما فيه، وقد يكون رواية بالمعنى من فهم أن النهي للتحريم".
وقال: "وأما ما ورد في أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير بلفظ النهي فليس نصاً في التحريم لاحتمال الكراهة" انظر 8/157، تفسير المنار، وانظر ص 161 من المصدر نفسه.
وقال: وأما حديث أبي هريرة الذي انفرد به مسلم بلفظ (فأكله حرام) فيحتمل أنه من الرواية بالمعنى أي أنه فهم من النهي التحريم وعبّر به وهذا كثير في أحاديثه ككثرة مراسيله" 8/157، تفسير المنار، وانظر ص 161 المصدر نفسه.(1/165)
وقالوا: "وقد زاد المفسرون على هذه المحرمات تبعاً لفقهائهم محرمات أخرى استدلوا عليها بأحاديث آحادية في دلالتها نظر، وبعموم تحريم الخبائث. وهي معارضة بما في هذه الآية وغيرها من الحصر(1).
استشهد أصحاب المنار بردّ الأحاديث الصحيحة التي أثبتها السيوطي بأحاديث ضعيفة اعترفوا هم بضعفها صراحة كما نقلوا عن الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وهي:
أ- ما أخرجه أبو داود عن غالب بن أبجر قال: (أصابتنا سنة فلم يكن في مالي ما يطعم أهلي إلا سمان حمر فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية وقد أصابتنا سنة. قال: أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جوال القرية). يعني الجلالة. وإسناده ضعيف. والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة فلا اعتماد عليه.
ب- ما أخرجه الطبراني عن أم نصر المحاربية أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحمر الأهلية فقال: (أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر. قال: نعم. قال: فأصب من لحومها). وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرة قال: سألت فذكر نحوه. ففي السند مقال ولو ثبت احتمل أن يكون قبل التحريم(2).
__________
(1) 2/100، تفسير المنار، قاله عند تفسير سورة البقرة، آية 173 { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } (البقرة: من الآية 173*.
(2) 8/155، تفسير المنار، نقلاً عن الحافظ ابن حجر في الفتح.(1/166)
اعتمد أصحاب المنار في رد الأحاديث الصحيحة الواردة في تحريم الحمر الأهلية على قول للطحاوي نقله ابن حجر ورد عليه وهو: "قال الطحاوي: لو تواتر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحريم الحمر الأهلية لكان النظر يقتضي حلها لأن كل ما حرم من الأهلي أجمع على تحريمه إذا كان وحشياً. وقد أجمع العلماء على حل حمار الوحشي فكان النظر يقتضي حل الحمار الأهلي والوحشي منه. ورده الحافظ بمنع دعوى الإجماع وسنده أن بعض الأهلي مختلف في وحشيه كالهر" ا.هـ(1).
__________
(1) المصدر السابق نفسه.(1/167)
"لو كانت الحمير نجسة العين شرعاً لورد ذلك صريحاً من أول الإسلام وتوفرت دواعي نقله وتواتر العمل بمقتضاه وإكفاء القدور وغسلها لو لم يكن للرجس العارض من أكلها العذرة لتعين أن يكون لمحض النظافة كما يفعل جميع الناس في جميع القدور التي يطبخون فيها لحوم الأنعام وغيرها من الطيبات فإنهم يغسلونها بعد فراغها"(1). والذي يركز عليه الشيخ رشيد هو جعل تحريم الحمر الأهلية كالجلالة من الأنعام والدواجن(2). وهو ما فعله في مسألة تحريم الخنزير(3).
__________
(1) 8/156، تفسير المنار.
(2) 8/155، تفسير المنار.
(3) علل الشيخ رشيد تحريم الميتة ولحم الخنزير بأنها ضارة وهذا يقتضي إذا زالت العلة يزول الحكم وهو التحريم، انظر 6/136، تفسير المنار. وقال: "ولحم الخنزير من أجمل اللحوم منظراً فلا يعافه إلا من يعتقد حرمته وذلك استقذار معنوي لا حسّي وإنما يستقذر الخنزير حياً بملازمته للأقذار وأكله منها. والأرجح أن سبب تحريم لحمه ما فيه من الضرر لا كونه من القذر وتقدم تفسير ذلك في تفسير آية المائدة" 8/148، تفسير المنار. وانظر تعليله لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير 6/134-135، تفسير المنار. وشبه لحم= =الخنزير من جهة أخرى بالجلالة من الأنعام والدواجن وحكمها الكراهة فإذا علفت ثلاثة أيام تصبح حلالاً طيباً لا كراهة فيها. المصدر السابق. كما أشار على القارئ أن لحم الخنزير مما يعالج به الإنسان من السموم التي يأكلها أو يشربها. وهذا يقتضي حله للتداوي.(1/168)
وقال أصحاب المنار في أقوال العلماء ومنهم ابن حجر: "أقول هذا أقوى وأوسع ما أجابوا به عن الآية قد لخصه أحفظ الحفاظ وأوسعهم اطلاعاً ولكنه ساقط على جلالة قائليه وفي سقوطه أكبر حجة على المقلدين الذين يتركون العلم بكتاب الله وسنة رسوله بالاستقلال والإنصاف بزعم أن مشايخهم وأئمتهم أحاطوا بكل شيء علماً حتى فيما خالفهم فيه أمثالهم من المجتهدين ومن فوقهم من الصحابة والتابعين. ولسنا نسقط بنظريات اجتهادية من عند أنفسنا وإنما نسقطه بما غفلوا عنه من كتاب الله تعالى عند البحث في تأييد مذهبهم والاحتاج له(1). وقال: "يجب أن يكون الحصر في الآية من الأصول الثابتة العامة التي لا تقبل النسخ ولا التخصيص"(2).
جعلوا قوله تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } (3). خاصة باليهود وليس للمسلمين، وخلص إلى القول: "إنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا } فائدة. فثبت أن تحريم السباع وذي المخلب من الطير مختص باليهود فوجب ألا تكون محرمة على المسلمين. وعند هذا نقول ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله –تعالى- فوجب أن لا يكون مقبولاً(4).
وقالوا: "وأقول إن تضعيفه الحديث مع صحة روايته في الصحيحين وغيرهما إنما هو من جهة المتن وقد قالوا إن من علامة وضع الحديث مخالفته للقرآن وكل ما هو قطعي، وهذا إنما يصار إليه إذا تعذر الجمع بين الحديث الظني والقرآن القطعي. وقد جمعنا بينهما بحمل النهي على الكراهة في حال الاختيار"(5).
__________
(1) 8/158، تفسير المنار.
(2) 8/161، تفسير المنار. وانظر ص 162.
(3) سورة الأنعام، من الآية 146.
(4) 8/171، تفسير المنار.
(5) 8/171، تفسير المنار.(1/169)
…وعلى هذا تكون ذوات الأنياب من السباع والمخالب من الطير طيبات بالنص(1).
…مناقشة أصحاب المنار:
الحصر في الآية موجه لما كان عليه النقاش من أمر الجاهلية. والآية مكية في سورة الأنعام. وتفصيل المحرمات نزل بعدها في الكتاب والسنة. أما الكتاب فقد نزل في سورة المائدة في حجة الوداع وهي مدنية { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } (2)
__________
(1) 8/171، تفسير المنار.
(2) سورة المائدة، الآيات 3-5.(1/170)
فقد فصلت الآيات تحريم عشرة أصناف من الأنعام مفصول بينها بحرف النسق الذي يفيد المغايرة. أي المغايرة في النوع والاشتراك في حكم التحريم. ولما كانت الآية نزلت في حجة الوداع فإنه يؤكد أن الحصر في آية الأنعام كان للرد على ما كان من أمر الجاهلية. وتكراره في هذه الآية المدنية دلالة على عدم نسخه أي لتثبيته وأضافت الآية عليه ستة أصناف أخرى من المحرمات من الأنعام. ويكون ما ورد في السنة بياناً لعموم آيات تحريم الخبائث، وبياناً لحل الطيبات(1) أشكل بعضها على الناس ومنها الضب والقنفذ والأرنب مما لم يأكله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأما قولنا في غير ما ورد به نص فقد قال الشوكاني: "الاستدلال إنما يتم في الأشياء التي لم يرد النص بتحريمها وأما الحمر الإنسية فقد تواترت النصوص على ذلك. والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل وعلى القياس"(2).
وأما قوله إن آية الأنعام { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا } (3)، خاصة باليهود. وردّ الأحاديث الصحيحة بناءً على ذلك فلا وجود له في الاستدلال. لأنه لا تعارض بأن يكون بعض شرع من قبلنا مماثلاً لما شرع إلينا. والأحاديث صريحة بتحريم هذه الأمور على المسلمين وليس على اليهود بدليل إكفاء القدور يوم خيبر.
__________
(1) ما ورد في سورة الأعراف { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } (الأعراف: من الآية 157) وهي مكية.
(2) 8/114، نيل الأوطار للشوكاني، طبعة المكتبة التوفيقية، القاهرة.
(3) سورة الأنعام، من الآية 146.(1/171)
الأحاديث التي ساقها أصحاب المنار في تحريم الحمير والبغال وكل ذي ناب من السباع كالأسود والكلاب، وكل ذي مخلب من الطيور كالصقور والمجثمة(1). والهرة. هذه الأحاديث كلها صحيحة رواها البخاري ومسلم وأصحاب السنن وابن أبي شيبة وأحمد بن حنبل وغيرهم. ومن الإفك المبين، والحوب الكبير ردّها بالسهولة التي سلكها أصحاب المنار.
إن رواة الأحاديث من الصحابة هم: أبو ثعلبة الخشني، والبراء بن عازب، وابن أبي أوفى، وزاهر الأسلمي، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو طلحة، وبلال، والأخير –عند مسلم- من الذين نادوا يوم خيبر بكفء القدور. وعند النسائي المنادي هو عبد الرحمن بن عوف. وغيرهم كثير مما يدل على تواتر التحريم زمن الصحابة - رضي الله عنه - على عكس ما أورده أصحاب المنار.
إن تردد ابن عباس في إحدى الروايات في النهي يعني عدم بلوغه التحريم حيث كان عمره في غزوة خيبر التي جرى فيها التحريم سبع سنوات. ولا دلالة في تردده على نفي قول جمهرة الصحابة الراوين للأحاديث الثابتة الصحيحة. قال الشوكاني: "قال ابن عبد البر اختلف فيه عن ابن عباس وعائشة وجاء عن ابن عمر من وجه ضعيف، وهو قول الشعبي، وسعيد بن جبير يعني عدم التحريم واحتجوا بالآية. وأجيب بأنها مكية، وحديث التحريم بعد الهجرة، وأيضاً هي عامة والأحاديث خاصة"(2).
__________
(1) بوزن المعظمة وهي ما ينصب من الحيوان أو الطير فيرمى ويقتل. ونهى عنه لأنه تعذيب. هامش 8/152، تفسير المنار، وانظر 8/115، نيل الأوطار للشوكاني.
(2) 8/117، نيل الأوطار للشوكاني.(1/172)
إن من زعم تعليل التحريم –كأصحاب المنار- من أحاديث ضعيفة فالعلل كلها مردودة لما ثبت في حديث أنس الصحيح (فإنها رجس). فالتعليل لأنها تأكل القاذورات، أو العذرة، أو لأنها كانت سنة قحط، أو لأنها لم تخمس، كل ذلك يسقط لورود النص الصحيح الصريح. قال الحافظ ابن حجر: "وقد أزال هذه الاحتمالات من كونها لم تخمس أو كانت جلالة أو غيرهما حديث أنس حيث جاء فيه فإنها رجس. وكذلك الأمر بغسل الإناء في حديث مسلم" ا.هـ(1). والحديثان متفق عليهما. قال القرطبي: ظاهره أن الضمير في أنها رجس عائد على الحمر لأنها المتحدث عنها المأمور بإكفائها من القدور وغسلها. وهذا حكم النجس فيستفاد منه تحريم أكلها لعينها لا لمعنى خارج"(2).
وهذا هو الذي ترتاح إليه النفس في بحث العلّة في هذه النصوص الضعيفة. فالمطعومات لم تعلل في الشرع بل حرّمت لعينها. فلا يزول التحريم بزوال علّة عقلية تخيلها بعض الناس.
وقال ابن دقيق العيد: "الأمر بإكفاء القدور ظاهر أنه بسبب تحريم لحم الحمر"(3). وليس كما زعم أصحاب المنار بأنها للنظافة المعهودة.
وأما التعليل بخشية قلة الظهر فقد أجاب عنها الطحاوي بالمعارضة بالخيل. فإن في حديث جابر النهي عن الحمر، والإذن في الخيل مقرونات. فلو كانت العلّة لأجل الحمولة لكانت الخيل أولى بالمنع لقلتها عندهم وعزّتها وشدّة حاجتهم إليها"(4).
__________
(1) 8/114، نيل الأوطار للشوكاني.
(2) 8/115، نيل الأوطار للشوكاني.
(3) 8/115، نيل الأوطار للشوكاني.
(4) 8/115، نيل الأوطار للشوكاني.(1/173)
إن تحريم ما نصت عليه الأحاديث من المطعومات لا مجال للاجتهاد فيه. قال الشوكاني: "وحديث أبي ثعلبة(1) صريح في التحريم فلا معدل عنه. قال النووي: قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافاً إلا عند ابن عباس وعند مالك ثلاث روايات ثالثها الكراهة"(2).
وحديث غالب بن أبجر الذي رواه أبو داود(3) لا تقوم به حجة. قال الحافظ: إسناده ضعيف، والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة فلا اعتماد عليه"(4). وقال المنذري عن حديث غالب: اختلف في إسناده كثيراً. وقال البيهقي: إسناده مضطرب. وقال ابن عبد البر روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريم الحمر الأهلية علي –عليه السلام-، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وجابر، والبراء، وعبد الله بن أبي أوفى، وأنس، وزاهر الأسلمي بأسانيد صحاح وحسان، وحديث غالب بن أبجر لا يُعَرَّجُ على مثله مع ما يعارضه"(5).
__________
(1) أخرجه ابن شيبة والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي ثعلبة قال: (حرّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الحمر الأهلية)، 8/152. تفسير المنار عن الدر المنثور للسيوطي، وانظر 8/115، نيل الأوطار للشوكاني.
(2) 8/115، نيل الأوطار للشوكاني.
(3) اعترف أصحاب المنار بضعفه، وقد نقلوه عن الفتح لابن حجر "أصابتنا سنة فلم يكن في مالي ما يطعم أهلي إلا سمان حمر فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية وقد أصابتنا سنة. قال: (أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرّمتها من أجل جوال القرية)"، 8/155، تفسير المنار.
(4) 8/155، تفسير المنار، وانظر 8/115، نيل الأوطار للشوكاني.
(5) 8/115، نيل الأوطار للشوكاني.(1/174)
وقال الشوكاني: "وأما الحديث الذي أخرجه الطبراني عن أم نصر المحاربية أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحمر الأهلية فقال أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر قال نعم، قال فأصب من لحومها. وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرة قال سألت فذكر نحوه فقال الحافظ: "في السندين مقال، ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التحريم، قال الطحاوي: لولا تواتر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحريم الحمر الأهلية لكان النظر يقتضي حلها"(1)، أي أن تحريمه بالتواتر الذي لا محيص من العدول عنه، ومخالفته زيغ وضلال.
وما نقله الشوكاني من قول الطحاوي يظهر تحريف أصحاب المنار لقوله من (لولا) إلى (لو تواتر الحديث) فانقلب المعنى من التواتر إلى التشكيك في التواتر.
__________
(1) 8/115، نيل الأوطار للشوكاني.(1/175)
إن المدقق في أقوال أصحاب المنار يجد أنهم يحللون كل شيء على الإطلاق، حتى الأشياء الأربعة الواردة في سورة الأنعام(1)، وكذلك ما ورد في سورة البقرة(2) والمائدة(3) والنحل(4). لأنه أوقف التحريم على العلّة. وجعل العلّة هي الضرر(5).وهي وصف غير منضبط. وإذا زالت العلّة وهي الضرر –حسب زعمه- بإنضاج الطبخ أو الشوي فيزول التحريم. فكان تحريم ما ورد في الأربعة عارضاً. حتى تحريمه لما أُهِلَّ لغير الله به فقال: إنه حرم دينياً. أي أنه لا ضرر فيه. وقال عن لحم الخنزير: "من أجمل اللحوم منظراً فلا يعافه إلا من يعتقد حرمته وذلك استقذار معنوي لا حسّي"(6).
__________
(1) الآية التي نحن بصدد تفسيرها { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } (الأنعام: من الآية 145).
(2) { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } (البقرة: من الآية 173).
(3) { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } (النحل: 115).
(4) 6/134، 135، تفسير المنار.
(5) 8/148، تفسير المنار.
(6) منها (حرّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الحمر الأهلية)، أخرجه ابن شيبة والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي ثعلبة. ومنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير) أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي ثعلبة الخشني. ومنها عن جابر (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل الهرّة وأكل ثمنها). أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه.(1/176)
فهذا الحكم الفضفاض الذي ابتدعه أصحاب المنار يخالف النص القطعي في الآية { فَإِنَّهُ رِجْسٌ } (1) ويجمع بين المسلمين والوثنيين وأهل الكتاب وهو من الشوائب التي يحرم على المسلمين تقليدهم بها.
إن ما ورد في أحاديث صحيحة من تحريم الحمير والكلاب والقطط والسباع(2) وغيرها جعلها بعض العلماء من باب استقلال السنة بالتشريع ومنهم د. محمد أبو شهبة.
ومن العلماء من جعل أحاديث تحريم ما نحن بصدده بياناً وتفصيلاً لقوله تعالى: { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } (3). أي أنها تشريع جديد ألحق بالأصل. فالسنة ألحقتها بالخبائث المحرمة. كما ألحقت الضب والأرنب والقنفذ والدجاج بالطيبات(4).
__________
(1) الأنعام، من الآية 145.
(2) 4/23، الموافقات للشاطبي.
(3) سورة الأعراف، من الآية 157.
(4) 4/12، الموافقات للشاطبي.(1/177)
وَكِلا الفريقين من العلماء يعلمون بهذه الأحاديث. وأما الاقتصار على الكتاب وطرح السنة، والاعتماد على الرأي في فهم القرآن هو رأي قوم لا خلاق لهم خارجين عن السنة فعوّلوا على أن الكتاب فيه بيان كل شيء فاطرحوا أحكام السنة فأداهم ذلك الانخلاع عن الجماعة وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله(1). والطريق المثلى هي اتباع قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما حرّم الله) (2). روى أبو داود في سننه عن المقداد بن معد يكرب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألا إنني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فعليه أن يعقبهم بمثل قراه) (3).
إن ما شن أصحاب المنار حرباً شعواء عليه بأن أحاديث تحريم الحمر الأهلية ناسخة أو مخصصة للآية لم نسمع به منقولاً عمن يعتد برأيهم في الفقه أو التفسير أو الأصول. ولم ينسب لأحد من الصحابة أو التابعين فلعلها ذريعة استخدمها ليبطل العمل بالأحاديث الصحيحة. والمعتمد عند جمهور العلماء أن السنة لا تنسخ القرآن.
__________
(1) 4/12، الموافقات للشاطبي.
(2) 4/35، الموافقات للشاطبي.
(3) 4/35، الموافقات للشاطبي.(1/178)
يلاحظ أن أصحاب المنار ردّوا الأحاديث انطلاقاً من مقولة الشيخ محمد عبده أن أحاديث الآحاد ظنية ويحتمل أن تكون مكذوبة من بعض رجال السند. وهي نظرية مستوردة من أعداء الإسلام. وهي تقضي في النهاية على الإسلام كله، لأن جل السنة النبوية من خبر الآحاد، كما يلاحظ أن أصحاب المنار يلجأون إلى العقل وإلى اقتناص شوارد شاذة ردّ عليها العلماء في الماضي وأحيوها، وأقوالهم لا حجة فيها بل لا شبهة دليل عليها، فهي شوائب محضة لا شأن للإسلام بها.
…في هذا القدر كفاية لمن يريد أن يتعرف على طريقة أصحابة المنار، وعلى الأسس التي يعتمدون عليها في رد الحديث الصحيح. فيتوصل إلى نتيجة أنهم يعملون على هدم السنة النبوية الشريفة.
- رابعاً: رد الحديث القدسي (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) بحجة تفرد البخاري بروايته(1). وبحجة أنه لم يروه أحمد بن حنبل في مسنده، وطعن في سند الحديث من رواية خالد بن مخلد(2) شيخ البخاري. وهذه الأمور من الغرائب العجائب التي يرد بها الحديث فليس له سلف إلا المستشرقين.
موقف التفسير الحديث لمحمد عزت دروزة من السنة النبوية.
__________
(1) انظر 10/239، تفسير المنار، وانظر 11/419، تفسير المنار، تفسير سورة يونس آية 62.
(2) خالد بن مخلد القطوني (موضع بالكوفة) روى له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه ت213هـ وهو شيخ البخاري. (الكشاف للذهبي ترجمة 1363، 1/208، وانظر: تهذيب التهذيب، ترجمة 221، 3/101.(1/179)
رد أحاديث البخاري في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن أبي. وقال: "نحن في حيرة من هذه الرواية وبخاصة من هذا الحديث"(1).
رد حديث القدر(2). وجاء مشركو قريش يخاصمون النبي - صلى الله عليه وسلم - في القدر(3). فنزلت { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ } (4).
رد أحاديث الحجاب الواردة في صحيح البخاري بعد أن ذكرها قال: "فهذه أربعة أحاديث بخارية حول الحجاب، وثلاثة منها في مناسبة نزول آية الحجاب في سورة الأحزاب وفيها ما فيها من التغاير في هذه المناسبة. وكل هذا في حين أن الحجاب المذكور في الآية يعني الستر على باب البيت كما رواه أنس في أحد أحاديثه السابقة". وقال: "كما أن الآية لم تنزل خاصة في الحجاب حتى تسمى آية الحجاب كما يظهر ذلك لمن ينعم النظر فيها"(5). ومن يدقق في كلام الشيخ محمد عزت دروزه يجده يرد الحديث من زاوية عقلية ليس له سلف إلا رفيق دربه السياسي الشيخ محمد رشيد رضا.
__________
(1) انظر 2/198، 199، دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1383هـ-1963م. والحديث انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، وباب ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره، تفسير سورة الأنفال، 9/403-409، طبعة مصطفى الحلبي، 1378هـ-1959م.
(2) 2/68، التفسير الحديث لمحمد عزت دروزة.
(3) الحديث رواه البخاري في خلق أفعال العباد، ورواه الترمذي، 3/204، 4/191، وقال: حسن صحيح. ورواه ابن ماجه رقم 83، ورواه أحمد بن حنبل في مسنده، 2/444، وابن جرير الطبري، 7/110، والبيهقي في شعب الإيمان، 1/136، انظر ص 90، محمد عزت ومنهجه في التفسير، فريد مصطفى سلمان، رسالة دكتوراة 1982م-1402هـ، مكتبة الأزهر، القاهرة.
(4) سورة القمر، من الآية 48.
(5) ص 221-222، القرآن المجيد، محمد عزت دروزة، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، بدون تاريخ.(1/180)
رد أحاديث الحرابة التي تبين سبب نزول الآية الكريمة { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ } (1) التي رواها البخاري وأنها نزلت في عكل وعرينة(2).
رد أحاديث رجم الزاني المحصن(3) وقد رواها البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، ومن الصحابة عبادة بن الصامت، وعبد الله ابن عمر، وزيد بن خالد، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس وغيرهم.
__________
(1) سورة المائدة، من الآية 33.
(2) ص 223، القرآن المجيد، وانظر 11/85-89، التفسير الحديث للمؤلف نفسه.
(3) منها حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خذوا عنّي، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم). صحيح مسلم كتاب الحدود باب حد الزنا 5/115، وحديث رواه البخاري والنسائي عن زيد بن خالد قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر في من زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام. وحديث رواه الخمسة عن ماعز الأسلمي.. الخ، انظر التفسير الحديث 10/7، والأحاديث نقلها عن كتاب التاج.(1/181)
…وقد توصل الشيخ دروزة إلى نتيجة مذهلة خلاصتها: "إن الجلد حكم قرآني، والرجم سنة نبوية، ولا تناقض بين الحكم القرآني والرجم النبوي من حيث المبدأ لأنه كما قلنا من قبل من باب التشريع النبوي في ما سكت عنه القرآن أو تركه مطلقاً(1). فجعل حكم الرجم سنة نبوية. ورأى أن من يقول به يكون قد جمع بين الحكم القرآني والسنة النبوية. والجمع مختلف فيه على ذمته حيث قال: "وفي نهاية هذا البحث يحسن أن ننبه على أمر، وهو أن الرجم للمتزوج هو ما عليه معظم المذاهب، وأن هناك من لا يأخذ به ويتمسك بالنص القرآني فقط. وهو الجلد مائة للزناة عامة لا فرق بين محصن وأعزب، وقد ذكر السيوطي هذا عن الخوارج(2). وقال: يصح القول أن آية النور عللت حكم الزناة في آيتي النساء (15، 16) مع بقاء عدد الشهود"(3).
…وأس البلاء في المسألة ما أحدثه من قاعدة حكم قرآني وحكم نبوي، وهي دعوى لا تستند إلى دليل منبعها العقل الحر الذي يعد السبيل القوي لقبول الروايات أو رفضها.
موقف جمال الدين القاسمي من أحاديث رجم الزاني المحصن.
…لقد كانت طريقته في رد الأحاديث الصحيحة السلب أي إهمالها إهمالاً تاماً، وتجاهلها كلية وكأنها غير موجودة فمثلاً في حكم حد الزاني المحصن لم يتطرق البتة إلى الأحاديث وقال في تفسير آية الجلد في سورة النور: "أي كل من زنى من الرجال والنساء فأقيموا عليه هذا الحد وهو أن يجلد أي يضرب على جلده مائة جلدة عقوبة لما صنع"(4).
__________
(1) 10/11، التفسير الحديث، محمد عزت دروزة.
(2) 10/13، التفسير الحديث، محمد عزت دروزة.
(3) 10/13، التفسير الحديث، محمد عزت دروزة.
(4) القاسمي، محمد جمال الدين، محاسن التأويل، طبعة دار الفكر، بيروت، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، 12/110.(1/182)
…ومن الجدير بالذكر أن القاسمي حين أعرض عن الأحاديث الصحيحة أقبل على أحاديث لا تجدها في كتب الحديث الصحيحة في مواضيع فرعية في تفسير الآية نفسها ومنها قوله كما في الحديث: "إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها فإذا أعلنت ولم تنكر ضرت العامة"(1). ومنها الحديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"(2). ومنها: "وفي الحديث المرفوع القلب أشد تفلتاً من القدر إذا استجمعت غليانه"(3).
موقف القاسمي من أحاديث تعدد الزوجات
…لقد سلك القاسمي السبيل نفسه في موضوع تعدد الزوجات، فأعرض عما هو من بدهيات الإسلام في هذه المسألة مما نقل إلينا متواتراً. وأقبل على أقوال متموجة مخالفة للقطعي وهي الزواج بأكثر من أربعة، أو الزواج بتسع زاعماً أنه استدلال بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولعدم دلالة الآية على تحديد الأربعة، وختمها بقصة عن مجهولين من علماء الاجتماع في الوقت الحاضر وخلاصتها أن تعدد الزوجات مباح للنوابغ من النابغات، ومحظور على غيرهم من أجل تحسين نسل البشرية اقتداء بمن يهتمون بتحسين نسل الحيوانات. وهذا المسعى أولى في الحيوان المفكر وهو الإنسان. وهو مسعى أفراد من فلاسفة الغرب في الوقت الحاضر وختمها بقوله وهو استنباط بديع(4).
موقف القاسمي من أحاديث المحرمات من النساء
__________
(1) 12/111، محاسن التأويل لجمال الدين القاسمي.
(2) 12/117، المصدر.
(3) 12/135، المصدر السابق، قال محمد فؤاد عبد الباقي مخرِّج أحاديث الكتاب: لم أعثر على هذه الأحاديث.
(4) 1/10-34، محاسن التأويل، جمال الدين القاسمي.(1/183)
…جعل الأحاديث الواردة في تحريم النساء المستثناة من قوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } (1) أنها من باب القياس، فقال: "وسواء علينا أقلنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بالقياس أو بالوحي إلا أنه جار في أفهامنا مجرى المقيس، والأصل الكتاب شامل له وله أمثلة"(2).
…ثم قال: "فجاء نهيه عليه السلام عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس لأن المعنى الذي لأجله ذم الجمع بين أولئك موجود هنا"(3).
…ولا يخفى خطورة هذا القول فإن القياس يحتمل الصواب والخطأ، وأما الوحي فلا يرد فيه الخطأ. وبقيله هذا يلتقي مع أصحاب المنار بأن من الأحاديث ما هو اجتهاد من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا يناقض القطعي ثبوتاً ودلالة { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (4).
…مما سبق نرى أن المدرسة العقلية الحديثة حملت لنا شوائب جمة في الحديث ومصطلحه تعصف بالسنة النبوية كلها وأهم هذه الشوائب عدم العمل بخبر الآحاد في الأحكام، وأن الصحابة ليسوا كلهم عدولاً، ورد الحديث لتفرد البخاري أو تفرد مسلم به، وتطبيق قواعد النقد الأدبي في رد الحديث، وفرية التفريق بين السنة العملية والسنة القولية، والأخذ بالأولى وترك الثانية. وأن من السنة ما هو اجتهاد من الرسول وهو دون الوحي، وأن ألفاظ الحديث موكولة إلى أفهام المخاطبين وليس للرسول - صلى الله عليه وسلم -. والزعم باحتمال رواية عائشة وعبد الله بن مسعود بالرأي المحض وليس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أو الزعم بتعصب عبد الله بن الزبير لخالته عائشة في رواية الحديث إلى غير ذلك من الاتهامات الخطيرة لمن نقلوا إلينا التشريع بأمانة وقد رضي الله عنهم بنص القرآن الكريم.
__________
(1) سورة النساء، من الآية 24.
(2) 1/202، محاسن التأويل، جمال الدين القاسمي.
(3) 1/203، محاسن التأويل، جمال الدين القاسمي.
(4) سورة النجم، الآيات 3-4.(1/184)
…ولا بأس أن نقرأ في نهاية المطاف رأي أحد المتشيعين للشيخ رشيد في هذه المسألة: قال الشيخ فضل حسن عباس من الأردن: "ليس هواية الشيخ رشيد وحرصه على توهين من خالفه وقسوته عليه بأقل من هوايته وحرصه على رد روايات الأحاديث الصحيحة". وقال: "والحق أن من أخطر الأمور رد الأحاديث فإنها مسألة لها ما وراءها من مضاعفات فتاكة ونتائج هدامة لهذا الدين"(1). وأكتفي بهذا القدر في بيان أسلوب رد الأحاديث الصحيحة لإدخال الشوائب في التفسير وتزييف الإسلام، وتحريف أحكامه في القرن الرابع عشر الهجري.
__________
(1) 1/298، اتجاهات التفسير في العصر الحديث، فضل حسن عباس.(1/185)
الفصل الثاني :الأساليب القديمة الحديثة في إدخال الشوائب للتفسير
المبحث الأول: الاستطراد الواسع وسوق الكلام بصيغة الاستحسان.
المبحث الثاني: رفع شعار محاربة الإسرائيليات.
المبحث الثالث: التذرع بالتخييل والتمثيل وبالرمز والإشارة.
المبحث الرابع: تحريف المصطلحات.
المبحث الأول
الاستطراد الواسع وسوق الكلام بصيغة الاستحسان
أ- الاستطراد الواسع:
…الإطناب والإسهاب من أساليب اللغة العربية، وهما بمعنى واحد تقريباً،وقد يكون لفائدة أو لغير فائدة، ويمكن تعريف الإطناب بأنه: التعبير عن المراد بلفظ زائد بعيداً عن الحشو والتطويل. ويعد الإطناب بلاغة إذا كان المقام خليقاً بالبسط. وعدّوا من أنواعه التكرير وقالوا: إذا تكرر تقرر. وقيل مع الإعادة إفادة. كما عدوا من أنواعه التفسير والتذييل والاستقصاء. وقد أوصلها السيوطي إلى واحد وعشرين نوعاً(1). وضرب لها أمثلة من القرآن الكريم. ولكن من يجل النظر في الاستطراد الذي وقع في كتب التفسير في القرن الرابع عشر الهجري (القرن العشرين للميلاد) لا يجد أي وجه للشبه مع هذا الأسلوب العربي البلاغي. لأنه يخرج عن الموضوع ويوغل في البعد حتى يكون موضوعاً مستقلاً لا رابط له بالموضوع الأصلي. وقد استعمل من يزعمون الإصلاح في التفسير هذا الأسلوب الفضفاض، وأدخلوا منه شوائب جمة مما لا يخطر على قلب بشر أن النص يحتمله. وإليك النماذج.
الاستطراد في تفسير المنار:
…لقد فسر صاحب المنار آية(2) بثمان صفحات واستطرد بثمان وثلاثين صفحة(3).
…إن تفسير المنار جاء في ثلاثة عشر مجلداً تقريباً، زادت صفحاته عن ستة آلاف صفحة. فسّرت اثني عشر جزءاً من القرآن، ولو جردناه من الاستطراد فإنه لا يزيد عن أربع مجلدات.
__________
(1) السيوطي، الإتقان، النوع السادس والخمسون، الجزء الثاني.
(2) { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } (الأعراف: 187).
(3) انظر، تفسير المنار، 9/461-508.(1/186)
…ومن هذا الاستطراد، أنه فسر الآية الثانية من سورة يونس (1) في صفحتين، واستطرد بمائة وسبع وأربعين صفحة(2). ذكر فيها آراء المستشرقين، ومنهم إدوار مونتيه، وإميل دريمنغام الذي كان صديقاً(3) للشيخ رشيد. وجورج يوسف وبحث فيه صد الكنيسة عن الإسلام، وبحث عجائب عيسى وتأثير العجائب في الأفراد والأمم، مع ملاحظة عدم تسميتها معجزات.
…وخلاصة القول إنه ألف كتابه الوحي المحمدي فيما بعد من هذا الاستطراد مع إضافات وإعادة ترتيب.
…وانظر تفسير قوله تعالى: { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ } (4) فقد فسرها بسطر واحد ونيف. واستطرد بسبع وثلاثين صفحة(5)، نقلها من كتاب جواهر المعاني لشيخ الطريقة التيجانية أبي العباس أحمد التيجاني.
__________
(1) { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } (يونس: 2).
(2) انظر تفسير المنار، 11/143-293.
(3) كان بينهما مراسلات وتبادل وجهات نظر ثقافية كما ورد في أوراق رشيد الخاصة.
(4) يونس: من الآية 64.
(5) انظر، تفسير المنار، 11/418-455.(1/187)
…ومن استطراده في تفسير قوله تعالى: { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } (1). فقد فسرها في صفحة واحدة، واستطرد سبعاً وثلاثين صفحة(2). وهكذا دواليك. وللعلم فإن الشيخ رشيد يدرك هذا الاستطراد الواسع فقد اقترح على القارئ أن يقرأ الاستطراد في غير وقت قراءة التفسير. فقال: "وأستحسن للقارئ أن يقرأ الفصول الاستطرادية الطويلة وحدها في غير الوقت الذي يقرأ فيه التفسير، لتدبر القرآن والاهتداء به في نفسه، وفي النهوض بإصلاح أمته، وتجديد شباب ملته: الذي هو المقصود بالذات منه"(3). وهذا اعتراف صريح بأن القصد من التفسير هو تجديد شباب الملة حسب تصوره. كما يعد اعترافاً بأن الاستطرادات في تفسيره تشكل غيوماً على تدبر القرآن، فيكون قد وقع فيما عاب على غيره من المفسرين. وفي هذا القدر كفاية لإعطاء صورة عن استطرادات تفسير المنار.
الاستطراد في تفسير الجواهر لطنطاوي جوهري:
__________
(1) سورة النساء، آية 159.
(2) انظر تفسير المنار، 6/21-59.
(3) تفسير المنار، 1/16.(1/188)
…الاستطراد في هذا الكتاب حدث ولا حرج. بل لا أعدو الحقيقة إن قلت عبارة القدماء فيه كل شيء إلا التفسير. فقد ملأه بصور الحيوانات والطيور والآدميين وصور بيوت النمل والحشرات والديدان وأنواع الخطوط، وأنواع الرقص وما لا يخطر على بال مسلم أن يكون في كتاب تفسير. وقع تفسيره في ست وعشرين جزءاً في ثلاثة عشر مجلداً من القطع الكبير، حوى مئات بل ألوفاً من الصور والرسوم، وجعل ذلك تفسيراً لكلام رب العالمين. وملأه كذلك بالحديث عن تحضير الأرواح، ونسخ كتب الغربيين وأفرغها في تفسيره، وعدّه مما يدعو إليه القرآن. كما ملأه بأقوال الفلاسفة القدامى والمحدثين. ولو جردّت منه غير التفسير لما زاد عن مجلد واحد. وقد عدّه بعض المدرسين إماماً للمدرسة العلمية في التفسير في القرن العشرين. وأما أمثلة الاستطراد فأي جزء، بل أي صفحة تثبت ذلك ولا داعي للإطناب(1).
__________
(1) انظر تفسير سورة الفاتحة، الجواهر في تفسير القرآن، 1/3-25، مما لا علاقة له بالتفسير.(1/189)
الاستطراد في تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور(1):
__________
(1) هو الشيخ محمد الطاهر بن محمد الطاهر بن عاشور. ولد بتونس 1879م-1296هـ، وتوفي 1973م-1393هـ. اشتهر بالإصلاح على مشرب الشيخ محمد عبده. فقد غيّر المناهج في تونس بما يتلاءم مع الاستعمار الفرنسي الذي كان ينادي بفرنسة تونس والجزائر. فكانت مهمته علمنة الإسلام. انظر ص215، منهج ابن عاشور في التفسير لعبد الله الريس، رسالة ماجستير جامعة الإمام محمد بن سعود 1408هـ، تقلب طيلة حياته في وظائف رسمية تحت حكم الاستعمار الفرنسي البغيض. فعينته الدولة نائباً عنها في النظارة العلمية 1907م، وعين عضواً بلجنة الإصلاح 1910م، وبمجلس الأوقاف الأعلى 1911م، وفي 1913م عين قاضياً مالكياً للجماعة، وفي 1923م عين مفتياً وترقى فيه حتى صار مثل محمد عبده في مصر. وفي 1927م صار كبير أهل الشورى في المالكية وهو أعلى منصب، ثم شيخ الإسلام 1932م وبقي فيه حتى 1951م. ثم تولى رئاسة جامع الزيتونة ولكن الطلبة ثاروا عليه فاستقال عام 1932م، ثم أعيد عام 1945م وأقيل عام 1951م للسبب نفسه. اشتهر بفتوى حِلِّ التجنس بالجنسية الفرنسية، وسانده محمد عبده بالفتوى الترنسفالية، أحرز جائزة بورقيبة التقديرية عام 1968م. ملخص من رسالة عبد الله الريس.(1/190)
…يقع هذا التفسير في خمسة عشر مجلداً تحوي أحد عشر ألف ومائة وثمانين صفحة. أنشأه في نحو أربعين عاماً، وقيل في خمسين عاماً. وكان ينشر في بداية الأمر في المجلة الزيتونية بتونس. وأما استطراده فهو يختلف عما أسلفنا. فقد توسع في علوم اللغة، وكأنه يريد اللحاق بأبي حيان في بحره المحيط، فتوسع في علوم اللغة ومسائلها المختلفة ومنها الاشتقاق، ووجوه الإعراب، ومعاني المفردات معتمداً على الشواهد الشعرية والأمثال، وقد اتخذ الزمخشري إماماً له في هذا الفن. واهتم بالنحو اهتماماً بالغاً ومنه إنّ وأنّ مثقلة ومخففة(1). وحتى الابتدائية والجارّة(2). وأين وهل وويكأن. وتناول تناوب حروف الجر في القرآن، وتوسع في ذكر الكلمات المعربة في القرآن. ولم ينس نصيبه من البلاغة فبحث في قضايا علم المعاني والبيان والبديع، وحروف المعاني وبيان استعمالاتها، حتى أننا نستطيع القول إن المميز له عن باقي التفاسير في القرن العشرين هو الصنعة اللغوية،وضخامة التفسير كانت بسبب استطراده في حرفة اللغة. كما أكثر من النقل عن أهل الكتاب على سنة المدرسة العقلية للتقريب بينهم وبين المسلمين.
…ومن أمثلة استطراده أنه كتب صفحة عن كلمة شهر، وفصول السنة، والأشهر عند العرب، والسنة الكبيسة، وقال إنه المعبّر عنه بالنسيء، والكبس عندهم زيادة شهر في السنة بعد ثلاث سنين وهو الفرق بين الأشهر القمرية والشمسية، وتحدث عن أسماء الشهور من حيث العَلَمِيَّة (3).
__________
(1) انظر تفسير التحرير والتنوير، 19/33.
(2) انظر تفسير التحرير والتنوير، 17/150-151.
(3) التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، 2/169-171.(1/191)
…وفي مقام آخر تحدث عن الحج عند العرب في الجاهلية. وقال إن العرب هم أقدم أمة عندها عادة الحج، ثم تحدث عن الحج عند النصارى، وهي زيارتهم إلى (أورشليم) وكذلك زيارة قبر (ماربولس) وقبر (ماربطرس) برومة وحج النصارى الذي لا يعرفه كثير من الناس وهو أقدم حجهم أنهم كانوا قبل الإسلام يحجون إلى مدينة عسقلان. وقال: والمظنون أن الذين ابتدعوا حجها هم نصارى الشام من الغساسنة لقد حرف الناس عن زيارة الكعبة(1). ثم استطرد عن الحج عند المصريين القدماء والكلدان إلى البلدان المقدسة عندهم، ثم تحدث عن اليونان وزياراتهم لكثير من المواقع المقدسة مثل أولمبيا وهيكل (زفس) وللهنود حجوج كثيرة(2). ولا يخفى أن أمثال هذه الأمور لا علاقة لها ببيان كلام رب العالمين.
…فالاستطراد الذي لا علاقة له بالتفاسير سمة عند مدرسة محمد عبده، وكأنها دعوة إلى تلاقح الثقافات، والتقريب بين أهلها. مع أنه أمر مستحيل لكنهم لا ييأسون من العمل على تحقيقه. والاستحالة آتية من جمع المتناقضات. فثقافة الإسلام من الخالق وثقافة أهل الأديان الأخرى من وضع البشر. فلا تلاقي بينهما. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ب- سوق الكلام بصيغة الاستحسان:
…اعتاد من تعمدوا إدخال الشوائب إلى تفاسيرهم في القرن العشرين أن يسوقوا الكلام بدون ردّه أو الإنكار عليه مع أنه ظاهر البطلان، وربما ادعوا حقيقة زائفة بدون إقامة الدليل عليها، أو قد يستشهدون بقصة تافهة من الواقع أو الخيال وكأنها دليل يعتد به، وإليك أمثلة على مثل هذه الشوائب التي تسللت إلى التفسير تحت جنح هذا الأسلوب.
سوق الكلام في تفسير المنار بصيغة الاستحسان:
__________
(1) التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، 2/218.
(2) التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، 2/219.(1/192)
قال الشيخ رشيد عند تفسير قوله تعالى: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } (1): "حتى إن من الإباحيين والإباحيات من أهل الحرية الطبيعية من يملك في مثل تلك الخلوة منع نفسه أن يبيحها لمن يراوده عنها، لا خوفاً من الله ولا حياء منه لأنه غير مؤمن به أو بعقابه بل وفاء لزوج أو عشيق عاهده على الاختصاص به فصدقه.
حدثنا مصور سوري كان زير نساء فاسقاً أنه كان في بعض الولايات المتحدة الأمريكانية فأعلن في بعض الجرائد أنه يطلب امرأة جميلة لأجل أن يصورها كما يشاء بجُعْلٍ معين من المال، وهذا معهود عند الإفرنج. فجاءه عدة من الحسان اختار إحداهن وخلا بها في حجرته الخاصة وأوصد بابها، وأمرها بالتجرد من جميع ثيابها فتجردت فطفق يصورها على أوضاع مختلفة من انتصاب وانحناء، وميل والتواء، وإقبال وإدبار وهو لا يفكر في غير إتقان صناعته، فعرض لها دوار في رأسها، فجلست على أريكة للاستراحة فجلس بجانبها وأنشأ يلاعبها ويداعبها وهي ساكنة ساكتة، فتنبه في نفسه من الشعور ما كان غافلاً أو نائماً، فرادوها عن نفسها فتمنعت بل امتنعت، فعرض عليها المال فأعرضت، فقال لها أنت حرة في نفسك، ولكني أرجو منك أن تجيبني عن سؤال علمي هو ما بيان سبب هذا الامتناع؟ قالت: سببه أنني عاهدت رجلاً يحبني وأحبه على أن يكون كل منا للآخر لا يشرك في الاستمتاع به أحداً، ولا يبتغي به بدلاً. فقال لها: إني أهنئك وأحترم وفاءك هذا. ثم أتم صناعته، ونقدها الجعل المعين فأخذته وانصرفت. والراجح عندي أن هذه المرأة لم تشته مواتاة هذا الرجل فتجاهد نفسها عن الامتناع، وأن المانع من اشتهائه توطين نفسها على الوفاء لعشيقها الأول حتى لم تعد تتوجه إلى الاستمتاع بغيره، وتوجيه النفس إلى الشيء، أو عنه هو صاحب السلطان الأعلى على الإرادة، وتربية الإرادة هي أصل التخلق بالفضائل والتخلي عن الرذائل باتفاق
__________
(1) سورة يوسف، آية 24.(1/193)
الحكماء والصوفية"(1).
وقال: "ولقد عجبنا أن أنكر علينا بعض المحرومين عن هذا (من ذاق عرف ومن حرم انحرف) ممن نعدهم بحق من الصالحين قولنا في المقصورة الرشيدية فيمن امتنع من رقية صدر فتاة حسناء:
أتت فتى خاف مقام ربه
لم يقترف فاحشة قط ولم
بعزةٍ منها وصفونية
مما يمنيه به شيطانه
لكن استعصم راوياً لها ... ما زال ينهى نفسه عن الهوى
يعزم ولا هم بها ولا نوى
في معزل تشتهيه أقصى ما اشتهى
من حيث لا يطمع منه في خنا
ما أمر الله به ونهى(2)
هذا القصص السمج أتى به الشيخ رشيد في معرض الاستشهاد عن سيدنا يوسف عليه السلام وكيف استعصم عندما راودته امرأة العزيز عن نفسه. فهو يهوّن أمر نبي ضرب المثل الأعلى في ملك إربه للناس على مدى الدهر. بل ضرب الله به المثل للناس ليحذوا حذوه في التقوى، ومخافة الله في مثل هذا الأمر، والشيخ رشيد يسوق القصة –على فرض وقوعها- بأن الأمر طبيعي قد يحصل عند العاهر. ثم يتبعه بشعر عن نفسه بأن فتاة حسناء جاءته وطلبت منه أن يضع يده على صدرها ليرقيها، فكان موقفه أصلب من موقف سيدنا يوسف عليه السلام. وزعم أنه لم يهم بمعصية قط. تلك شوائب في التفسير نبرأ إلى الله منها.
البابية والبهائية عند محمد عبده ورشيد رضا:
__________
(1) تفسير المنار، محمد رشيد رضا ومحمد عبده، 12/282.
(2) تفسير المنار، محمد رشيد رضا ومحمد عبده، 12/283. وانظر تفسير المنار، 1/545، وانظر الصفحة نفسها عن قصة ساقها عن شيخ من فصيلته وهو عبد الغني الرافعي الفقيه الصوفي كما يصفه ودخوله بستاناً يعمل به نساء من نصارى لبنان، تفسير آية 200 من سورة الأعراف { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } .(1/194)
وقعت مناقشة بين الشيخين أول وصول الشيخ رشيد مصر وإليكها كما ساقها الشيخ رشيد: "ثم رجعنا إلى موضوع دين البهائية، قلت: إنهم يقولون بصحة جميع الأديان والكتب الدينية ويدعون جميع أهل الملل إلى دينهم دعوة واحدة لأجل الجمع وتوحيد كلمة البشرية، ويستدلون عند دعوة أهل كل دين بشيء مما في كتبهم ولا سيما التوراة والإنجيل والقرآن، وقد ظهر لي أن طريقتهم أحكم من طريقة الماسون فإن هؤلاء الماسون رأوا من الحكمة أن لا يفرقوا بين الأديان في الدخول في جمعيتهم بدعوى أنها لا تمس الأديان، وإن كانت غايتها هدم جميع الأديان. وأما البهائية فيقولون بصحة كل دين في نفسه ويستدلون على دينهم الناسخ لما قبله. قال الأستاذ: إن التقريب بين الأديان مما جاء به الدين الإسلامي وتلا قوله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } (1). واستغرب استدلال القوم على قيام الباب والبهاء بالكتب السماوية ا.هـ"(2).
وقال الشيخ رشيد: "والحاصل أن الأستاذ يقول بضرورة الإصلاح وبغلو المصلحين ولولا هذا الغلو من البابية لكان يجب أن يساعدهم"(3).
__________
(1) سورة آل عمران، آية 64.
(2) تاريخ الأستاذ الإمام، محمد رشيد رضا، 1/936.
(3) المصدر السابق نفسه.(1/195)
ومن يجل النظر في الفقرة السابقة يجد أن من يزعمون الإصلاح لا ينكرون على البابية ولا على الماسون عقائدهم بل إن البابية أحكم من طريق الماسون. أي أن كلاهما حكيم وصحيح، ولكن أحدهما أحكم من الآخر. ويتمنى على البابية لو يتركون الغلو واعترف بأنهم مصلحون. فهذا الأسلوب استعمله الشيخ رشيد وأدخل الشوائب مع أن المقام يقتضي الإنكار والبراءة من هذا الاعتقاد. وأما الآية التي استشهد بها محمد عبده على تقريب الأديان فهي مغالطة كبرى لأن الآية مشهورة بآية المباهلة، أي المفاصلة بين المسلمين والنصارى وليست تقريباً بين الأديان بمعنى أن يبقى كل أهل دين على حالهم. والوقوف عند اجتزاء بعض الآية كالوقوف عند قوله تعالى { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ } . فرب قارئ لهذه العبارة يفهم أن البابية والبهائية لا شيء فيها لولا غلوّها، وهي حركة إصلاحية.
سوق الكلام بصيغة الاستحسان في تفسير الجواهر:(1/196)
قال طنطاوي جوهري في تفسير قوله تعالى: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } (1): "جوهرة في قوله تعالى: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ } يسبح المسلم ويحمد ليس الحمد وليس التسبيح قاصراً على ما تصنعون: إن هذا الدين نزل لرقيكم ولم ينزل لمجرد كلمات تقال، ولا آيات تحفظ، ولا صلوات تقام بلا عقل ولا تفكير، كثر في الصلاة التسبيح والتحميد وكثر في القرآن ذانك الأمران ألا إنما مثل الديانات في الأرض كمثل (كليلة ودمنة) الذي ألفه (بيدبا الفيلسوف) لملك الهند في زمانه قبل الميلاد بنحو ثلاثمائة سنة وجعله على ألسنة الأسد والثعلب والحمام والغراب والسلحفاة والغزالة والقرد والفيلة وما أشبه ذلك، فهذا الكتاب ظاهره ينتفع به الجهال يتسلون بالصور التي فيه ويفرحون بأسد يتكلم، وثعلب ينم عن الثور، وثور يسمع النميمة، فيظن السوء بالأسد، وهكذا الأسد يسمع ذلك فيفتك بالثور، ثم تدور الدائرة على النمام وهو (دمنة) فيحكم عليه بالقتل فيقتل. هذه حكايات يفرح بها الجهال. ولكن الحكماء لا يقفون عند الظواهر بل يدخلون في علوم السياسة ونظام الأمم والعمران. هذا كتاب (كليلة ودمنة). وهذا قصده، ولكن إياك أن تقول إن الديانات على هذا النمط كلا. وإنما أقول لك إن المقصد من هذا التشبيه أن كلام بعض مخلوقات الله في الأرض إذا كان له ظواهر يكتفي بها العامة وبواطن يفقهها الخاصة"(2).
__________
(1) سورة الأعراف، آية 44.
(2) الجواهر في تفسير القرآن، طنطاوي جوهري، م5، 9/61. وانظر م8، 15/134.(1/197)
…أسلوب الشيخ هو يقول ولكن أنت لا تقل. فساق الكلام ولا علاقة له بالآية أولاً، ثم إن تشبيه الديانات والإسلام من ضمنها بما صنعه المجوسي شائبة كبيرة لا تخرج ممن يرجون لدين الله وقاراً. فضلا عن أن فكرة الظاهر والباطن لنصوص الوحي فكرة غريبة عنه فهي من الشوائب.
…2- التسبيح في القرآن لغز الوجود (حل عقدة إله الخير وإله الشر):
قال الشيخ طنطاوي جوهري في تفسير الآية السابقة نفسها تحت هذا العنوان: "هل يعلم المسلمون أن هذه الآية هي اللغز الذي انتصب لحله أمم الأرض قاطبة التسبيح والتحميد هي مسألة (الخير والشر) فالتسبيح تنزيه عن فعل الشر أو الاتصاف به، والتحميد إيذان بالاتصاف بفعل الخير. والشر والخير المذكوران هما موضوع دراسة الأمم كلها إننا على هذه الأرض نحس بآلآم ولذات ومحبوب ومكروه هكذا أبناء آدم من عهده وإن تقادم بحثوا في الخير والشر ونظروا، فانظر في دين المجوس وكيف كان المجوس يقولون إن الذي صنع هذا العالم (إلهان) إله للخير وإله للشر. فإذا قيل من الذي صنع العقارب والحيات؟ ومن الذي أتى بالأمراض والموت فلا جواب لهم إلا أن يقولوا هو إله الشر. ولقد فرّوا بذلك من أن إلاهاً رحيماً يصبح فاعلاً للشر. وانتهى الأمر عندهم على ذلك. وإن الناس قديماً وحديثاً لا يعقلون إلهاً رحيماً ثم هو يخلق الشر. فهذه العقدة حلها دين المجوس بهذا الحل الذي فصل الخير عن الشر وجعلوا أن إله الخير تغلب على إله الشر وصنع هذه الخيرات هذا هو دين المجوس، وهذا الحل يتناول الشرور التي في العالم والتي في نفس الإنسان. فإذا قيل لم كانت الزلازل؟ يقولون: من فعل إله الشر. وإذا قيل لم
كانت الحياة؟ فيقولون من إله الخير. وهكذا المرض من الأول والصحة من الثاني" ا.هـ بتمامه(1).
__________
(1) المصدر السابق، م5، 9/63. وانظر ملحق الجواهر في التفسير 13/107، بعد ج26.(1/198)
فمن يقرأ هذا التفسير قد يخرج بنتيجة أن يستملح ويرتضي فكرة عبادة المجوس التي حلّت عقدة إله للخير وإله للشر، والمقام في السكوت على هذا القول يكون قد شاطر الشيطان الأخرس في مهمته. فقول ظاهر البطلان، وهو شوائب في التفسير.
3. وفي تفسير فاتحة سورة الأنعام(1) قال: "عنوان الظلمات والنور عند المجوس". فقد ألحقها بتفسير سورة الأنعام التي استهلت بها "ثانياً: يشير إلى دين المجوس المبني على أن في العالم إلهين مبنيين على الخير والشر، فللشر إله، وللخير إله، وإله الشر يحدث الظلمات والشرور. وإله الخير يحدث الخيرات والأنوار وكلاهما عدو للآخر. والعبادة موجهة لإله الخير الذي ينتصر على إله الشر". ولم يكتف بذلك فقد فضل طنطاوي جوهري الأمة الفارسية على أمة الإسلام قديماً(2). وهكذا يسوق طنطاوي جوهري الكلام وكأنه يؤصل لعقيدة المجوس من القرآن الكريم، ويزول هذا العجب إذا كان صاحب التفسير يقول بوحدة الوجود وبالحلول.
4. دفاع الشيخ طنطاوي جوهري عن عبادة الأصنام.
__________
(1) { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ } (الأنعام: 1). انظر ملحق الجواهر في التفسير، م13، 26/107.
(2) تفسير الجواهر، م13، 26/297.(1/199)
…قال في تفسير أوائل سورة البقرة تحت عنوان: "تفصيل الكلام على الأنداد وعبادة الأصنام": اعلم أن عبادة الأوثان قديمة العهد، بعيدة المدى، درجت عليها الأمم البائدة واتبعتها الحاضرة، وأنت لو سرت في بلاد الصين واليابان والهند لرأيت الأوثان ماثلة أمامك معبودة، والناس حولها ملتفون عابدون خاشعون حامدون راكعون ساجدون" وأنت ترى أن أهل الصين قوم فيهم العلماء والحكماء قديماً وحديثاً وهكذا الهند، وإذا أبيت إلا المدنية الحديثة والنبوغ في فنون القتال والحرب وجندلة الأبطال وغلبة الأمم والتفوق في الحرب، فهاك أمة اليابان عابدة الأصنام، كثيرة التماثيل، تلك الأمة التي تعبد إلهاً له جوادان عليهما يركب ذلك الإله جاثمان دائماً بإدارة المعبد بجوار تمثاله، وهذان الجوادان من أسعده الحظ وقدم إليهما قبضة من شعير يوم خروجهما في الأوقات المعلومة، فقد نال حظاً عظيماً لأنه قبلت هديته لجواد الإله. هذا مثل من أمثال عبادة الأوثان ببلاد اليابان اليوم. وهنا يقال: هل يعقل أن أمرأ تأباه الفطرة وينقضه العقل، وهو بدهي البطلان يبقى مع طول الزمان وفناء الأجيال ويعمر في الأرض ويبقى هكذا إلى يوم العرض؟ هل يعقل أن يكون هذا الإنسان قد بلغ من البلاهة حداً، بحيث لا يعرف أن هذا الحجر الذي تحت أقدامي من الجبل لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما ولم يخلق أنفسنا ونحن الذين أوجدناه وهندسناه وأبرزناه؟
…إن العقل يأبى أن يصدق أن هذه الأمم العظيمة الكبيرة الحكيم علماؤها تبقى مخدوعة هكذا آلافاً وآلافاً من السنين، إذن لا بدّ أن يكون هناك أصول رجعت إليها، وعوامل عولت عليها وأحوال فقهتها حتى بقيت تلك الديانات فيها، وهل يدوم ما لا أصل له؟ وهل الخداع له ثبات؟(1/200)
…ومن له خبرة بفكر القوم يدرك أن سؤاله منبعث من فكرة أن الحق يعلو إذا كان حقاً، وبقاؤه دليل صحته وإن شابه بعض البطلان(1). ومهما يكن من أمر فأسلوب سوق الكلام بهذا الشكل دون إنكار الباطل أو المنكر أو الخطأ أسلوب درج عليه من يدخلون الشوائب. ومن الجدير بالذكر أن الشيخ طنطاوي جوهري أثبت أن عبادة الأصنام لها أصل بأن كانت تمثالاً لرجل صالح. وتوفي الرجل الصالح وعبد الصنم. أو كانت عبادة للملائكة فعبد الكوكب وتنوسي الملك، أو عقيدة التثليث عن فلاسفة اليونان"(2).
5- الأخلاق الفاسدة وإغواء الشياطين رحمة(3).
__________
(1) تاريخ الأستاذ الإمام، رضا، محمد رشيد، 1/931، وانظر المصدر نفسه، ص 39، 40.
(2) تفسير الجواهر، طنطاوي جوهري، م1، 1/38-39.
(3) يعد أصحاب تفسير المنار روّاد هذه الغواية. فقد قالوا في تفسير المعوذتين: "حتى إن الشيطان لم يخلق شراً محضاً" بعد أن تحدث عن الشر، وإن سموم الأفاعي والعقارب والنحل والزنابير هو سلاحها الذي تحارب به أعداءها فيضر بهم، أي أنه يحاول بالسفسطة إقامة الدليل على غوايته فالتقطها طنطاوي وبثها في تفسيره بصورة أوضح، ومصرّاً عليها. انظر مجلة المنار م34، 7/521.(1/201)
…هذا عنوان في تفسير الجواهر في تفسير القرآن للمؤلف نفسه. وتحته قال: "فنسبة وسوسة الشياطين إلى عقولنا من حيث أنها تصدنا عن الاطلاع على الحقائق فجأة ونحن لا نطبقها كنسبة ظلمات الجو البالغة (16) ظلمة من حيث إنها تخفف ضوء الشمس الواصل إلى عيوننا بحيث يقل في أكثر النهار عما يمكن أن يصل فوق ألف مرة إذن ضوء الشمس لابد أن يخف بحجب حين يصل لنا والعلوم والمعارف التي يتجلى الله بها على عقولنا إذا لم تحجبها الوساوس الشيطانية التي استعدت لها نفوسنا بشهواتنا وأخلاقنا الأرضية فإنها تكون سبباً في إهلاك أرواحنا لأنها لا تقدر أن تتحمل جميع الحقائق دفعة واحدة كما لا تتحمل عيوننا ضوء الشمس من غير أن يلطف بظلمات الجو، وكما لا يحتمل الجنين أن يعيش إلا في ظلمات نقية، أنا أقول هذه وأنا أصبحت موقناً إيقاناً تاماً وهذا هو اليقين الذي أعلنه لأهل الأرض قاطبة ولك أنت أولاً فقل لهم جميعاً إن الله أذن بإظهار الحقائق إن ما في الأرض من الأخلاق الفاسدة وإغواء الشياطين الأرضية كل ذلك رحمة لأنه لولاه لم تتحمل العقول شموس المعارف العلمية التي تستعد لها النفوس الأرضية بفطرتها. وكما أن الطعام الذي كثرت مادة الغذاء فيه كاللبن واللحم والبيض إذا داوم امرؤ عليه فإن عاقبته تكون هلاكاً له غالباً"(1). ونجيبه لو كان إغواء الشياطين رحمة لما جعل الله الاستعاذة منها قبل البسملة في قراءة القرآن، وفي بدء كل أمرٍ ذي بال. ولما حذرنا القرآن من الشيطان. ففساد قوله ظاهر وبطلانه أظهر. هذا وقد أصل لعقيدة التثليث عند البرهمية والنصارى(2). ومن أراد الوقوف على الشوائب أكثر عند طنطاوي جوهري فلينظر حكاية المستشرق الإنجليزي (براون) في أن الكلب الأسود أفضل من المسلم السني"(3). كل هذه الشوائب أدخلها طنطاوي جوهري تحت
__________
(1) جوهري، طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن، م9، 18/185.
(2) المصدر السابق، م5، 10/59.
(3) المصدر السابق، م6، 11/143.(1/202)
أسلوب سوق الكلام مع أنه ظاهر البطلان ولا يستنكره.
6- حكم لحم الخنزير عند طنطاوي جوهري.
…قال في تفسيره سورة الأعلى، مع أنه لم يرد فيها ذكر للخنزير: "قال عالم من علماء الغرب: وبعبارة أقرب ألا نأكل منه إلا ما كان مطبوخاً طبخاً تاماً. فإن الطبخ المعتاد الذي لا مبالغة فيه لا قوة له على التأثير في هذا الحيوان الطفيلي (الديدان الشريطية في الخنزير) الثقيل انظر شكل (114). وقال: (إن هذه الدودة أصبحت عادية في بلاد أمريكا، وفي بلاد الألمان فإذا ما كان لحم الخنزير المشتمل على تلك الدودة الصغيرة غير مطبوخ طبخاً جيداً وأكل منه إنسان مثلاً فإن الدود الكثير العدد الذي اشتمل عليه هذا اللحم إذا وصل إلى الأمعاء ألقى بيضه فيها(1). ثم قال الشيخ طنطاوي (وليس العالم) وهناك دودة أخرى تسمى (تريتشنا) صغيرة جداً لا ترى بالعين المجردة، وتعيش في لحم الخنزير، وإذا أردنا إهلاك هذه الحشرة فعلينا أن نطبخ لحم الخنزير طبخاً جيداً ولنحترس من أكله إلا بعد أن نتحقق من تمام الإنضاج"(2). فهل من يقرأ قول هذه الجواهر –حسب تعبير صاحبها- يفهم أن لحم الخنزير حرام؟ مع أن النهي جاء بصيغة لفظ التحريم مقرونة بالميتة والدم وما أهل لغير الله به { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } (3). وعليه فسوق الكلام بصيغة الاستحسان والسكوت عليه مع أن المقام يقتضي الإنكار أسلوب اتخذه بعض المفسرين في القرن العشرين لإدخال الشوائب في تفسيرهم. وأكتفي بهذا القدر من الأمثلة التي في ظني أنها كافية لتوضيح الأسلوب الذي دخلت منه بعض الشوائب إلى المسلمين من
__________
(1) المصدر السابق، م2، 3/138.
(2) المصدر السابق، ص 140.
(3) سورة المائدة، آية 5. وانظر سورة البقرة، آية 173 { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } .(1/203)
خلال كتب التفسير في القرن العشرين.
المبحث الثاني :رفع شعار محاربة الإسرائيليات
…لم أعهد هذا الأسلوب في التفاسير التي سبقت تفسير المنار، وأدخلت منه شوائب تقصم ظهر الإسلام وإليك نماذج على ذلك:
1- تفسير المنار وحديث متفق عليه:
…قال أصحاب تفسير المنار عند قوله تعالى: { وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } (1): "وذهب المفسر (الجلال) إلى ترجيح اللفظ على المعنى، والصورة على الروح، ففسر السجود ككثير من غيره بالانحناء، وقال: إنهم أمروا بأن يقولوا (حطة) فدخلوا زحفاً على أستاههم. وقالوا: حبة في شعيرة، أي أننا نحتاج إلى الأكل، ومنشأ هذه الأقوال الروايات الإسرائيلية. ولليهود في هذا المقام كلام كثير وتأويلات خدع بها المفسرون ولا نريد حشوها في تفسير كلام الله تعالى و أقول إن ما اختاره الجلال مروي في الصحيح ولكنه لا يخلو من علة إسرائيلية "(2).
…ومن الجدير بالذكر أن قول الجلال هو حديث متفق عليه رواه البخاري(3) ومسلم، وأصحاب السنن كذلك. وقد جعله مسلم أول حديث في كتاب التفسير. فالحديث المتفق عليه لا يريد أصحاب المنار أن يحشوه في تفسير كلام الله -تعالى-. وهذه هي الإسرائيليات التي يحذران منها. وردّا الحديث المتفق عليه بدون دليل. تلكم هي الشوائب التي تقصم ظهر الإسلام، فتقلب الحق باطلاً وتجعل الباطل حقاً.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 58.
(2) تفسير المنار، 1/324-325، وانظر الحديث رقم 4479، فتح الباري، 8/64، باب 5.
(3) صحيح البخاري، 6/32، 33، كتاب التفسير، طبعة دار الشعب، ونص الحديث: "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قيل لبني إسرائيل { وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ } فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدّلوا، وقالوا حَبَّة في شعرة) وفي رواية أخرى (في شعيرة) فتح الباري، م8، كتاب التفسير، باب 4، حديث 4641.(1/204)
2- أحاديث طلوع الشمس من المغرب في تفسير المار:
…قال أصحاب تفسير المنار عند قوله تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } (1): "وأقوى الأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها ما رواه البخاري في كتاب الرقاق(2): "عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين { لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا } )، ومثله في التفسير وغيره من صحيحه. وأورده في كتاب الفتن مطولاً فيه ذكر آيات أخرى لقيام الساعة. وأخرجه أيضاً أحمد،ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم. وأخرجه أحمد، والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة أيضاً رفعه: (ثلاث إذا جرين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض). وهو مشكل مخالف للأحاديث الأخرى الواردة في نزول المسيح بعد الدجال. وإيمان الناس به، والمشكلات في الأحاديث الواردة في أشراط الساعة كثيرة، أهمها أسبابها فيما صحت أسانيده واضطربت المتون وتعارضت أو أشكلت من وجوه أخرى. إن هذه الأحاديث رويت بالمعنى. ولم يكن كل الرواة يفهم منها لأنها أمور غيبية فاختلف التعبير باختلاف الأفهام، على أنهم اختلفوا في ترتيب هذه الآيات".
__________
(1) سورة الأنعام، الآية 158.
(2) حديث 6506، باب 40، كتاب الرقاق 81، فتح الباري 11/352، المطبعة السلفية.(1/205)
…ومما استشكلوه أن علة عدم قبول الإيمان بعد طلوع الشمس من مغربها لا تنطبق إلا على من رآها أو رويت له بالتواتر. وقد رُوي أن الشمس والقمر يكسيان النور بعد كسوف وظلمة، ويعودان إلى الطلوع من المشرق. وقد روى عبد بن حميد عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً: (يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة). ولكن رفعه لا يصح. ويعارضه من حديثه ما رواه مرفوعاً: (الآيات خرزات منظومات في سلك إذا انقطع السلك تبع بعضها بعضاً). قاله الحافظ ابن حجر وهو المعتمد. وروى الطبراني والحاكم عن عبد الله بن عمر حديثاً ذكر فيه طلوع الشمس من مغربها. وقال (فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل هذه الآية).
…ثم عقب الشيخ رشيد على ذلك فقال: "هذا وإن أبا هريرة - رضي الله عنه - لم يصرح في هذه الأحاديث بالسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخشى أن يكون قد روى بعضها عن كعب الأحبار وأمثاله فتكون مرسلة. ولكن مجموع الرويات عنه وعن غيره تثبت هذه الآية بالجملة فننظمها في سلك المتشابهات. ونحمل التعارض بين الروايات وما في بعضها من مخالفة الأدلة القطعية على ما أشرنا إليه من الأسباب كالرواية عن مثل كعب الأحبار من رواة الإسرائيليات"(1).
…تفنيد أقوال الشيخ رشيد:
لقد اعترف الشيخ رشيد أن حديث طلوع الشمس من المغرب رواه الشيخان، وأصحاب السنن وأحمد وغيرهم. ومع هذا كله فقد رفع راية محاربة الإسرائيليات وردّ الحديث. وهذا يقودنا لندرك أن دعواه محاربة الإسرائيليات مجرد شعار حيث ترتب عليه رد حديث متفق عليه.
إن خبراء النقد اعتادوا أن يشرعوا في نقد الأضعف وما يمكن النفاذ منه، ولكن الشيخ رشيد سارع إلى نقد أقوى شيء في أحاديث الفتن. وهو الذي رواه الشيخان وأصحاب السنن وأحمد وهذا يدل على المجازفة في النقد لأن نقده لم يقم على أصول ثابتة ومقاييس صحيحة في علم الحديث.
__________
(1) تفسير المنار، 6/210-211.(1/206)
إن نقد الشيخ رشيد مبني على نظرية النقد التحليلي للأدب الذي يمارسه رجال الأدب، وهو منهج مؤسس على الاحتمالات والشك، وعدم مراعاة قدسية نصوص الوحي. ولا يخفى على المنصفين أن قواعد نقد الحديث النبوي مغايرة كل المغايرة لقواعد النقد التحليلي للنصوص الأدبية.
إن من يتتبع أحاديث الفتن من الصحيحين لا يجد رواية واحدة لأبي هريرة عن كعب الأحبار التابعي - رضي الله عنه -، فوضع الاحتمال هو مجرد خلق فتنة لتشكيك المسلمين في مصدر دينهم.(1/207)
إن تشكيك الشيخ رشيد في مسلمي أهل الكتاب اتباع لسنة المستشرقين في هدم السنة النبوية . ومسلمو أهل الكتاب من الصحابة ومنهم عبد الله بن سلام، وتميم الداري ، قد روى لهم أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد، وترى لهم مناقب في باب مناقب الصحابة عند البخاري (1) ومسلم. ومسلمو أهل الكتاب من التابعين أمثال كعب الأحبار، ووهب بن منبه وأخيه همام فيكفي لتعديلهم أنه روى لهم أصحاب الكتب الستة، ولم يرد لهم ذكر في كتب الضعفاء والمتروكين والوضاعين على كثرتها مما يجعلنا لا نلتفت لزيغ أعداء الدين. والحقيقة أن مناصبة الثقات من مسلمي أهل الكتاب العداء لم تقع إلا في عهد الكافر المستعمر بقيادة المستشرقين. وهو شعار رفعوه وقصدوا من ورائه هدم التشريع كله، بدليل أن الهدم والجرح لم يتوقف عند الثقات من مسلمي أهل الكتاب بل تعداه إلى الصحابة ومنهم أبو هريرة، وأبو ذر، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وامتد التطاول إلى الصحيحين وأصحاب السنن والمسانيد فضلاً عمن دونهم. والطعن في أبي هريرة يعني الطعن في (5374) حديثاً. وتجريح أي صحابي أو تابعي يعني تجريح مروياته كلها. وهذا يعزز أن الشيخ رشيد جعل من شعار محاربة الإسرائيليات عملاً أدى إلى هدم السنة النبوية الشريفة على عكس ما أشيع عنه وعن مدرسته زوراً وبهتاناً أنه يحارب الإسرائيليات.
__________
(1) انظر كتاب مناقب الأنصار 63، من فتح الباري شرح صحيح البخاري، ص 128، باب 19، مناقب عبد الله بن سلام، الحديث رقم 3812، 3813، 3814، 3938، باب 51. وانظر صحيح مسلم بشرح النووي م8، 16/41-44، فضائل عبد الله بن سلام، طبعة دار الفكر.(1/208)
إن قول الشيخ رشيد بنظم أحاديث آيات القيامة أو بعضها في سلك المتشابهات يعد أحبولة جديدة لتضليل المسلمين. فالمتشابه في الحديث هو نوع يتركب من المتفق عليه والمفترق "وهو أن يتفق الاسمان في الخط واللفظ ويفترق اسما أبويهما في بعض ذلك". وأخذ بسهم من المؤتلف والمختلف وهو أنواع(1)، وأحاديث آيات القيامة لا تمت إلى هذا بصلة. والمتشابه في
علوم القرآن هو ما احتمل أكثر من معنى(2). ويلزم المسلم باتباع أحد المعاني حسب قوة الدليل، ويحرم على المسلم ترك المتشابه وأحاديث أمارات الساعة الكبرى كلها ألفاظ لا تحتمل إلا معنى واحداً فهي أعلام على أشياء مادية، فلا تنخرط في سلك المتشابه. فيكون المتشابه في ذهن الشيخ رشيد وفي مصطلحه غير المتشابه في علوم الحديث والقرآن، فيرد قوله.
__________
(1) توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار، الأمير محمد بن إسماعيل، 2/493-497. وهي أنواع من الحديث تلزم المحدث العناية بها، ومثاله: أيوب بن بَشر، وأيوب بن بُشير، فالأول العجلي الشامي، والثاني العدوي البصري.
(2) انظر كتب علوم القرآن كالبرهان للزركشي، والاتقان للسيوطي، باب المحكم والمتشابه.(1/209)
زعم الشيخ رشيد أن أحاديث أشراط الساعة رويت بالمعنى(1)، ولم يكن كل الرواة يفهم المراد منها لأنها أمور غيبية فاختلف التعبير باختلاف الأفهام. وهذا يعني أن الأحاديث النبوية ليست هي حقيقة لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا محكم نظمه كما نطق به - صلى الله عليه وسلم -، وهذا القول تأسيس لفرية انتحال الحديث التي اشتق منها طه حسين أكذوبته انتحال الشعر العربي الجاهلي.
فيكون الشيخ رشيد قد بلغ الغاية في المجازفة في الحكم لأنه زعم بلا دليل، وتشكيك في الوحي الصادر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وتشكيك في حفظ الله لهذا الدين.
__________
(1) الواقع أن الشيخ رشيد يرى أن الأحاديث كلها رويت بالمعنى، انظر المبحث الثالث من الفصل الأول. وهذا يغاير ما حض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته من صحابته إلى يوم الدين عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه إلى غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). كتاب الرسالة للشافعي ص401، حديث 1102، تحقيق أحمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت.(1/210)
لقد عرّف علماء الحديث السنة بأنها: "كل ما أضيف لمحمد النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو وصف"(1). وأحاديث أشراط الساعة هي من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - خرج من بين شفتيه الكريمتين، فهي ليست أفعالاً ولا تقريراً ولا وصفاً يحتمل أن يكون اللفظ من غيره - صلى الله عليه وسلم -، وما روي من ألفاظ من عند الصحابة بدل بعض الكلمات المنسية فقد أظهرها علماء الحديث ولم تخف عليهم أبداً ولهذا ميّزوا الحديث المرفوع من الموقوف من المرسل، وقالوا هذا مدرج من الصحابي فلان أو الراوي علان، أو هذا مدى علم فلان الخ وهكذا فكل ما وقع من الاستثناء في أجزاء الحديث مما رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به، فهو مميز ولا يعد من جوامع الكلم. والقول بألفاظ غير ما نطق به الرسول - صلى الله عليه وسلم - متعمداً، وإسنادها إليه يعد من الكذب الذي ورد النهي عنه في الحديث المتواتر(2). وهذا لم يبلغنا أنه وقع من الصحابة - رضي الله عنه - قط. وأحاديث أشراط الساعة أقوال نطق بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمور ستحدث في المستقبل قبيل قيام الساعة لا يعلمها الصحابة، وليس للصحابة الكرام فيها غير النقل الحرفي، ولا شأن لهم في صياغتها ونظمها. وبالتالي فهي ليست أفهاماً للصحابة - رضي الله عنه - أجمعين. وقد اشتهر عن العرب أنهم كانوا يحفظون تراثهم في الصدور دون السطور، وقد بلغنا معلقات الشعراء السبع والعشر على طولها فلم يعجزوا عن حفظ أحاديث الوحي وهي مقدسة عندهم لا تتجاوز الأسطر وفي أطول حالاتها ثلاث صفحات(3)
__________
(1) تيسير مصطلح الحديث، الطحان، د. محمود، دار القرآن الكريم، بيروت، ص 14.
(2) من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، رواه البخاري ومسلم، وانظر الباعث الحثيث ص 143-145، لابن كثير، توزيع مكتبة السنة، القاهرة، 1994م.
(3) منها حديث ابن عمر في قصة أصحاب الغار الثلاثة، رواه مسلم في كتاب الرقاق، 17/55-58، بشرح النووي، وحديث بدء الخلق عن عائشة رواه مسلم في صحيحه.(1/211)
. وحتى الروايات الطويلة لا تجد فيها اختلافاً إلا ألفاظاً قليلة فلو كانت رويت بالمعنى على طولها فينبغي أن تأتي مختلفة اختلافاً كبيراً. ولقد اقتضت حكمة الله –تعالى- أن ينزل هذا الدين –الذي تكفل بحفظه- على أمة العرب الأميّة وليس ذلك عبثاً ولا مصادفة.
إن رواية أحاديث طلوع الشمس من مغربها لم تقتصر على أبي هريرة، فقد رواه حذيفة بن أسيد الغفاري(1)، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد صرح بالسماع، قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً لم أنسه بعد، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها) (2). وعليه يسقط ادعاء الشيخ رشيد من احتمال رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار. بالإضافة إلى قبولها إن وقعت. إلا أن الاحتمال هنا مردود لأن أبا هريرة صرح بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال. ولأن صحابة آخرين صرحوا بسماعهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فتدفع تخيلات وشكوك الشيخ رشيد ومن سار على دربه. وأما قوله فتكون مرسلة، فهي أكثر افتضاحاً لأن المرسل من يرويه تابعي ومنهم كعب الأحبار - رضي الله عنه - دون ذكر الصحابي(3). والرواية هنا عن أبي هريرة وقد رفع الحديث إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فضلاً عن تصريح كل من حذيفة وعبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - بالسماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) أبو سريحة، صحابي من أصحاب الشجرة مات سنة 42هـ، روى له مسلم والأربعة، انظر ترجمة 1154، تقريب التهذيب لابن حجر.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الفتن، 18/27-29. وحذيفة هو أبو سريحة.
(3) الحديث المرسل: هو ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مما سمعه من غيره. 2/283، توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار، لمحمد بن إسماعيل الأمير (ت1182هـ)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة السلفية، المدينة المنورة.(1/212)
أحدث الشيخ رشيد قاعدة لرد الأحاديث لم نعهدها عند علماء الحديث فقال: "نحمل التعارض بين الروايات وما في بعضها من مخالفة الأدلة القطعية على ما أشرنا إليه من الأسباب كالرواية عن مثل كعب الأحبار من رواة الإسرائيليات".
والتعارض عند العلماء هو تقابل دليلين على وجه يمنع كل منهما صاحبه، ولم يكن لأحدهما مزية على الآخر، وهو لا يقع بين الدليلين القطعيين مطلقاً، ولا بين الدليلين الظنيين كذلك، لأن التعارض ينافي قاعدة إعمال الدليلين، ولا يتصور تعارض بين فعلين من أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا بين قوله وفعله إلا في حالة واحدة هي النسخ. وما عدا هذه الحالة يكون من باب التعادل والتراجيح أو يمكن الجمع بينهما. وإعمال الدليلين يقتضي التدقيق في الأدلة من كل وجه العموم والخصوص والأحوال، وغير ذلك مما جاء مفصلاً عند علماء الأصول(1).
والإحداث في قاعدة الشيخ رشيد أن يعزو سبب التعارض على فرض وقوعه لاحتمال الإسرائيليات. وهو زعم يخذله عدم إقامة الدليل عليه. ثم إن الإسرائيليات كمصطلح هي القصص الوارد من بني إسرائيل أو من النصارى وليس له سند متصل مرفوع. وأحاديث أشراط الساعة ليست من هذا القبيل ولها سند متصل مرفوع. وقد رواها عدد لا بأس به من الصحابة.
__________
(1) انظر المسألة الرابعة والخامسة، الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، 1/142-146، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح، 1387هـ-1968م.(1/213)
ادعى الشيخ رشيد اضطراب متون أحاديث أشراط الساعة . ولم يبيّن موضع الاضطراب. وهو ادعاء لا ينطبق على الواقع. وحقيقة الحديث المضطرب أنه الذي اختلفت وجوه روايته، سواء أكان راوي هذه الوجوه المختلفة راوياً واحداً أو رُواة متعددين بشرط ألا يترجح بعضها على بعض(1). والمتتبع لأحاديث أشراط الساعة لا يجد متونها مضطربة حيث لم تختلف مخارج الأحاديث، ولم تتباعد الألفاظ، وهي أحاديث متعددة في وقائع متعددة، فالذي يتعين في مثل هذه الحالات أن تجعل أحاديث متعددة مستقلة. فلا إشكال في اضطرابها في مثل هذه الحالات. علماً بأن الحديث المضطرب لا يكون ضعيفاً دائماً بل منه الضعف ومنه الصحيح. وأحاديث أشراط الساعة وردت في الصحيحين وفي السنن والمسانيد فهي للتواتر أقرب. وعليه فلا وجه لما ادعاه الشيخ رشيد من اضطراب أحاديث أشراط الساعة، وطلوع الشمس من مغربها إنما يقع عند إشراف قيام الساعة. قال الطيبي: الآيات أمارات للساعة. إما على قربها وإما على حصولها. فمن الأول الدجال، ونزول عيسى ويأجوج ومأجوج والخسف ومن الثاني الدخان وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة والنار التي تحشر الناس(2). وقال ابن حجر: "وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة، ولعل خروج الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب. وقد أخرج مسلم(3)
__________
(1) توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار، 2/36، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة السلفية، المدينة المنورة.
(2) انظر فتح الباري لابن حجر، 11/352، كتاب الرقاق، 81، شرح الحديث 6506.
(3) وأخرج مسلم في باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها والدجال، ودابة الأرض). م1، 2/195، صحيح مسلم بشرح النووي.(1/214)
أيضاً من طريق أبي زرعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه: (أول الآيات طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى). فأيها خرجت قبل الأخرى فالأخرى منها قريب(1). وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب(2). أي هذا أول ابتداء قيام الساعة بتغيير العالم العلوي فإذا شوهد ذلك حصل الإيمان الضروري بالمعاينة وارتفع الإيمان بالغيب. فهو كالإيمان عند الغرغرة لا ينفع".
قول الشيخ رشيد: "إن علة عدم قبول الإيمان بعد طلوع الشمس من مغربها لا تنطبق إلا على من رآها أو رويت له بالتواتر. وقد روي أن الشمس والقمر يُكسيان النور بعد كسوف وظلمة ويعودان إلى الطلوع من المشرق". فهي عبارة منحولة ومحرفة عن القرطبي في "التذكرة" أوردها ابن حجر في شرح حديث البخاري في الرقاق حيث قال: "فلو امتدت أيام الدنيا بعد ذلك إلى أن ينسى هذا الأمر أو ينقطع تواتره ويصير الخبر عنه آحاداً فمن أسلم حينئذ أو تاب قبل منه وأيد ذلك بأنه روي أن الشمس والقمر يكسيان الضوء بعد ذلك يطلعان ويغربان من المشرق كما كانا قبل ذلك. قال القرطبي وذكر أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن عمران بن حصين قال: "إنما لا يقبل الإيمان والتوبة وقت الطلوع لأنه يكون حينئذ صيحة فيهلك بها كثير من الناس فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت لم تقبل توبته ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته".
__________
(1) ص353، المصدر السابق، ورأي الحاكم وابن حجر متطابقان كما ورد في الصفحة نفسها.
(2) المصدر السابق نفسه، وهذا نص حديث رواه البخاري في كتاب الفتن، 92، باب 24، خروج النار، عن أنس 13/79، فتح الباري.(1/215)
وعقب ابن حجر ذلك بقوله: "وأما حديث عمران فلا أصل له"(1). وقال: "وقد سبقه إلى هذا الاحتمال البيهقي في البعث والنشور"(2). قال البيهقي: إن كان في علم الله أن طلوع الشمس سابق احتمل أن يكون المراد نفي النفع عن أنفس القوم القرون الذين شاهدوا ذلك، فإذا انقرضوا وتطاول الزمان وعاد بعضهم إلى الكفر عاد تكليفه بالإيمان بالغيب"(3).
فاقتنص الشيخ رشيد هذه الاحتمالات وحديث عمران الذي لا أصل له وصيرها إشكالات على أحاديث أشراط الساعة.
"قوله روى عبد بن حميد عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً: (يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة) ولكن رفعه لا يصح ويعارض من حديث ما رواه مرفوعاً: (الآيات خرزات منظومات في سلك إذا انقطع السلك تبع بعضها بعضاً). قاله الحافظ ابن حجر وهو المعتمد".
__________
(1) المصدر السابق ص354، فتح الباري، ج11.
(2) المصدر السابق ص354، فتح الباري، ج11.
(3) المصدر السابق نفسه. قاله البيهقي في كتاب البعث والنشور باب خروج يأجوج ومأجوج.(1/216)
هذا القول للشيخ رشيد مجتزأ من فتح الباري وابن حجر هو الذي قال رفعه لا يصح وليس الشيخ رشيد. والحديث ذكره القرطبي في التذكرة نقلاً عن الميانشي عن عبد الله بن عمرو رفعه الحديث. قال "ابن حجر" رفع هذا لا يثبت وقد أخرج عبد بن حميد في تفسيره بسند جيد عن عبد الله بن عمرو موقوفاً. وقد ورد عنه ما يعارضه فأخرج أحمد ونعيم بن حماد من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو رفعه الحديث(1). وذكر جملة من الأحاديث ومنها: (عن أبي العالية بين أول الآيات وآخرها ستة أشهر يتتابعن كتتابع الخرزات في النظام"(2). ثم عقب ابن حجر على ذلك بقوله: "ويمكن الجواب عن حديث عبد الله بن عمرو بأن المدة ولو كانت كما قال عشرين ومائة سنة لكنها تمر مروراً سريعاً كمقدار مرور عشرين ومائة شهر من قبل ذلك أو دون ذلك كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رفعه: (لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر) الحديث وفيه (واليوم كاحتراق السعفة) (3). فيكون الشيخ رشيد أحيا إشكالاً ميتاً ولم يأخذ بالرد عليه المشفوع بحديث صحيح أخرجه مسلم. وهذه عادة الشيخ رشيد في اقتناص كل شاردة شاذة ليحملها وتكون الطامة الكبرى برد الأحاديث النبوية الصحيحة.
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق نفسه، 11/354، فتح الباري شرح صحيح البخاري. وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج)، م8، 16/22، صحيح مسلم بشرح النووي.(1/217)
3- رد حديث أبي ذر وقد رواه الشيخان:
…قال الشيخ رشيد: "ومن هذه الأحاديث في الباب، حديث أبي ذر جندب ابن جنادة الذي يعد متنه من أعظم المتن إشكالاً فهو يقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله أتدري أين تذهب الشمس إذا غربت؟ قال: قلت: لا أدري. قال: (إنها تنتهي دون العرش فتخر ساجدة. ثم تقوم حتى يقال لها ارجعي. فيوشك يا أبا ذر أن يقال ارجعي من حيث دخلت وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل) (1). وهذا الحديث رواه الشيخان من طريق إبراهيم بن يزيد بن شريك التميمي عن أبيه عن أبي ذر. وهو على توثيق الجماعة له مدلس، قال الإمام أحمد لم يلق أبا ذر، كما قال الدارقطني، لم يسمع من حفصة ولا من عائشة، ولا أدرك زمنها. وكما قال ابن المديني لم يسمع من علي ولا من ابن عباس. ذكر ذلك في تهذيب التهذيب. وقد روي غير هذا عن هؤلاء بالعنعنة فيحتمل أن يكون من حدثه عنهم غير ثقة. فإذا كان في بعض روايات الصحيحين والسنن مثل هذه العلل وراء احتمال دخول الإسرائيليات، وخطأ النقل بالمعنى فما القول فيما تركه الشيخان، وما تركه أصحاب السنن أيضاً؟"(2).
…تفنيد مزاعم الشيخ رشيد:
الحديث رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد بن حنبل(3). فهو صحيح ورجال سنده ثقات ولا يلتفت لتدليس وتشكيك المستشرقين ومن غرّد في سربهم.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، 14/131، طبعة الشعب الحديث رقم 3199، فتح الباري، 6/297.
(2) تفسير المنار، 8/211-212.
(3) رواه أحمد الحديث 21358 بسند صحيح، 8/68، طبعة دار الفكر تحقيق: عبد الله محمد الدرويش.(1/218)
نص الحديث كما ورد في صحيح البخاري "عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: (قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر حين غربت الشمس: أتدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئتِ، فتطلع من مغربها. فذلك قوله تعالى: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } (1).
إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي وثقه ابن حجر في التقريب وتهذيب التهذيب(2). وتقول يكفي في توثيقه رواية الستة له. وكونه يرسل ويدلس أحياناً فأهل الحديث الستة يعرفون ذلك وهم الذين نقلوا لنا هذه المعلومات، ويعرفون مكانها ومتى لا يحتج بحديثه. وما داموا قد احتجوا بحديثه هنا فيكون التدليس والإرسال في غير هذا الحديث.
__________
(1) سورة يس، الآية 38. الحديث 3199 من صحيح البخاري، انظر فتح الباري 6/297 وأطرافه في 4802، 4803، 7424، 7433. ورواه مسلم بالسند نفسه ولكن بخطاب الجماعة (أتدرون أين تذهب هذه الشمس، قالوا الله ورسوله أعلم) مرة 2/195. وأخرى رواه البخاري 2/196، صحيح مسلم بشرح النووي.
(2) انظر ترجمة 1/154، 324، وقد روى له الستة، كان من العباد روى عن أنس وأبيه وأرسل عن عائشة، روى عنه بيان بن بشر ومسلم بن مطعن وجماعة، قال ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: ثقة مرجئ، قتله الحجاج بن يوسف، وقال أبو حاتم صالح الحديث، وقال الدارقطني: لم يسمع من حفصة ولا من عائشة ولا أدرك زمانها، وقال ابن حبان في الثقات: كان عابداً صابراً على الجوع الدائم. انظر ترجمة 269 في التقريب: يكنى أبا أسماء، الكوفي، العابد، ثقة إلا أنه يرسل ويدلس، من الخامسة، مات سنة 92، وله أربعون سنة، وروى له الستة. والطبقة الخامسة تعني صغرى التابعين، وتعني أنه مات بعد المائة.(1/219)
لفظ (العلل) في مصطلح الحديث تعني أسباباً خفية تقدح في صحة الحديث والظاهر السلامة منها(1). وما زعمه الشيخ رشيد أنها علل فليست من هذا القبيل فلا يعتد به.
العنعنة في مصطلح الحديث عند الصحابة لا تعد قدحاً(2). فضلاً عن أن الرواية وردت بالسماع والفنقلة. وعلماء الجرح والتعديل هم الذين أسسوا قواعد نقد السند والمتن، وقد قالوا: إذا كانت العنعنة من غير الصحابة في إحدى الطرق مع غيرها بالسماع والتحديث فلا تضر(3). وعليه فلا قيمة لتشكيك الشيخ رشيد.
__________
(1) ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، ص 42، دار الكتب العلمية. وانظر ص 92 الباعث الحثيث لابن كثير، تحقيق أحمد شاكر، طبعة 1994، مكتبة السنة، القاهرة، وانظر ص72، هامش علم الحديث لابن تيمية، تحقيق موسى محمد علي.
(2) العنعنة: هي مصدر عنعن الحديث إذا رواه بلفظة عن من غير بيان للتحديث والسماع. وقد نقل إجماع قبول رواية العنعنة من غير الصحابة بألفاظ مختلفة كل من ابن عبد البر في التمهيد، وأبو عمر الداني، والحاكم والخطيب البغدادي، فما بالك بالعنعنة عن صحابي كان متفرغاً لسماع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يلهه الصفق في الأسواق والعمل في المزارع؟ انظر 1/330-339، توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأفكار صاحب سبل السلام، تحت عنوان "مسألة في بيان العنعنة وحكمها".
(3) المصدر السابق.(1/220)
ما زعمه الشيخ رشيد من أنه أعظم المتون إشكالاً مصدره من لا يؤمن بالغيب. ويتوقف فهم النصوص عند المنطوق والمفهوم دون زيادة ولا نقصان لأنه لا يتأتى للعقل أن يصدر حكمه فيه لأنه لا يقع تحت الحس. ونؤمن بالمغيب الذي ورد النص به لأنه صدر عن المقطوع بصدقه. وهو هنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالعرش الوارد في الحديث من الأمور الغيبية، وسجود الشمس ومخاطبتها، وتنفيذها لما طلب منها كل ذلك من الأمور الغيبية ولا شأن للعقل فيها غير فهم النصوص. ومثل هذا ورد في القرآن والسنة على حد سواء. والإيمان بالغيب صفة مدح للمؤمن، وعكسه مذموم في الإسلام.
فرية احتمال دخول الإسرائيليات تنتفي مع اليقين وهو ثبوت صحة الحديث كما ورد في رقم (1).
فرية احتمال خطأ النقل، هي احتمال عقلي، وظن لا يغني من الحق شيئاً لثبوت صحة الحديث كما أسلفنا.
قد بلغ الشيخ رشيد غايته في المجازفة والتشكيك بالسنة النبوية بعامة وما ورد منها في المسانيد وعند غير أصحاب السنن والشيخين بخاصة حينما قال: (فإذا كان في بعض روايات الصحيحين والسنن مثل هذه العلل وراء احتمال دخول الإسرائيليات، وخطأ النقل بالمعنى، فما القول فيما تركه الشيخان وما تركه أصحاب السنن أيضاً؟! فإذا تباكى على ما تركه الشيخان وأصحاب السنن فهو قد أجهز على السنة بكاملها عندما رد الأحاديث الثابتة عند الشيخين وأصحاب السنن في العقائد والأحكام على حد سواء(1).
__________
(1) في الغيبيات رد أحاديث أشراط الساعة، وفي الأحكام رد أحاديث تحريم أكل الحمر الأهلية، وهي أحاديث وردت في الصحيحين كما مر سابقاً.(1/221)
رد حديث أخرجه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه(1)، عن أبي هريرة قال: (أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فقال: خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل).
قال الشيخ رشيد: "وهذا ظاهر في أن الخلق كان جزافاً ودفعة واحدة لكل نوع في يوم من أيامنا القصيرة. فالجواب: إن كل ما روي في هذه المسألة من الأخبار والآثار مأخوذة من الإسرائيليات لم يصح فيها حديث مرفوع. وحديث أبي هريرة هذا وهو أقواها مردود لمخالفة متنه لنص كتاب الله. وأما سنده فلا يغرنك رواية مسلم له. فهو قد رواه كغيره عن حجاج بن محمد الأعور المصيص عن ابن جريج. وقد تغيّر في آخر عمره وثبت أنه حدِّث بعد اختلاف عقله كما في تهذيب التهذيب وغيره، والظاهر أن هذا الحديث مما حدّث به بعد اختلاطه" ا.هـ(2).
تفنيد مزاعم الشيخ رشيد:
الحديث باعتراف الشيخ رشيد نفسه رواه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده عن أبي هريرة وقال أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي وقال: فهو حديث مرفوع بالسماع فيندفع ما زعمه أنه لم يصح فيه حديث مرفوع.
ما زعمه أنها أخبار وآثار مأخوذة من الإسرائيليات دعوى بدون دليل فلا قيمة لها.
__________
(1) الحديث في مسند أحمد رقم 8349، 3/218. ورواه مسلم باب ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام، 17/133، كتاب صفة القيامة والجنة والنار.
(2) تفسير المنار، 8/449.(1/222)
ما زعمه أن حجاج بن محمد الأعور –راوي الحديث- روى الحديث بعد اختلاطه يدفعه اعتماد مسلم لروايته، ويكفي توثيقه أن روى له الشيخان وأصحاب السنن. بل لم يعلم الشيخ رشيد أن حجاج قد اختلط في آخر عمره إلا من علماء الجرح والتعديل، فالفضل لهم في هذه المعلومة. ولو كان الحديث كما زعم لردوه ولما قرأه أحد في صحيح مسلم. وعليه فالحديث من حيث السند صحيح لا غبار عليه، ويحرم إنكاره أو تكذيبه.
…ويغلب على ظني أن السبب الحقيقي في رد الشيخ رشيد لحديث مسلم(1/223)
–هذا-…أنه يتعارض مع نظرية النشوء والارتقاء في أصل التكوين حيث يزعم كفار الغرب أن الحياة وجدت بعد ملايين السنين(1) والنظريات المسماة علمية زوراً وبهتاناً هي كاذبة خاطئة تناقض الأدلة القطعية الدلالة القطعية الثبوت، منها قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } (2). فإذا جعلنا اليوم كما يزعم أصحاب النظريات المسماة علمية، وضربنا الستة بعدد أيام الآخرة { كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } أو بعدد الأيام التي تحتاج للعروج إلى عرش الرحمن في السماوات ومقداره خمسون ألف سنة، فإذا جعلنا اليوم كذلك فلا يستقيم الأمر مع إعجاز قوله تعالى: { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } . ويتعارض مع قوله تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (3). ويعارض ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق عن أبي بكر ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الزمان قد استدار يوم خلق السماوات والأرض. السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم) (4). وعليه فاليوم الوارد في القرآن(5) هو اليوم المعهود للإنسان، وتفسير المفسرين المعتبرين صحيح ولا شيء فيه.
__________
(1) تفسير المنار، 8/445-448، حيث أثبت الشيخ النظرية، وصيرها إسلامية ثم شرع في رد حديث مسلم.
(2) سورة ق، الآية 38. وانظر سورة يس، الآية 3، وسورة هود، الآية 7، وسورة الحديد، الآية 24، وسورة الفرقان، الآية 59، وسورة السجدة، الآية 4.
(3) سورة يس، الآية 82.
(4) صحيح البخاري، 8/130، طبعة الشعب، وهو الحديث رقم 3197، عن أبي بكرة، كتاب بدء الخلق، 6/293. فتح الباري.
(5) { إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (الأعراف: من الآية54).(1/224)
…وأما ما زعمه الشيخ رشيد في معارضة متن الحديث للآية فيرد دراية فليس صحيحاً لأن الآية تقول في ستة أيام والحديث كذلك. وأما خلق آدم في اليوم السابع فلا يتنافى ولا يتعارض معها لأن السماوات والأرض غير آدم عليه السلام.
…وقال الشيخ رشيد تحت عنوان: "فصل فيما ورد في قرب الساعة وأشراطها": "وهذا البلاء كله من دسائس رواة الإسرائيليات وتلبيسهم على المسلمين بإظهار الإسلام والصلاح والتقوى، ومن وضع بعض الاصطلاحات العلمية في غير موضعها ككون كثرة الروايات الضعيفة يقوى بعضها بعضاً. فإن هذا إنما يصح في المسائل التي لا يحتمل إرجاعها إلى مصدر واحد يعني بنشرها والدعوة إليها كمسألة المهدي المنتظر الذي هو أساس مذهب سياسي كُسِيَ ثوب الدين، ألم تر أن رواياته لا تخلو أسانيدها من شيعي، وأن الزنادقة كانوا يبثون الدعوى إلى ذلك تمهيداً لسلب سلطان العرب وإعادة ملك الفرس، وككون كلام الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه، والاجتهاد فيه له حكم الحديث المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجب تقييد هذا فيما لا يحتمل أن يكون من الإسرائيليات(1).
__________
(1) تفسير المنار، 9/482، تفسير سورة الأعراف آية 187.(1/225)
…وهنا يكرر الشيخ رشيد هجومه على الصحابة رواة الأحاديث الصحيحة تحت شعار محاربة الإسرائيليات واتهمهم بالنفاق بدون بينة. وعمد إلى علم مصطلح الحديث، الذي به نميز الخبيث من الطيب، ليقوض أركانه بجعل الصحابة ليسوا عدولاً. وأن كلامهم فيما لا مجال للرأي فيه يأخذ حكم المرفوع، ورد أحاديث المهدي بالهوى، وبتهم باطلة لم تستند إلى حجة. وأما قاعدة الروايات الضعيفة يقوي بعضها بعضاً والتي شن هجومه عليها فهي لا موقع لها في حديث أشراط الساعة لأن الأحاديث التي ردها كانت في الصحيحين وفي السنن والمسانيد ولم يتّسم أي منها بالضعف. ولكن قواعد التحليل الأدبي التي تقوم على الشك والاحتمالات هي التي قادته لرد الأحاديث الصحيحة تحت شعار دسائس رواة الإسرائيليات، وتحت الزعم بأن مسألة المهدي المنتظر مذهب سياسي كسي ثوب الدين، وأن الشيعة والزنادقة كانوا يؤسسون مثل هذه الأحاديث لسلب سلطان العرب وإعادة ملك الفرس.
…وخلاصة القول:
…إن الشيخ رشيد رفع راية محاربة الإسرائيليات وجاهد تحتها في هدم السنة النبوية حق جهاده، وهذا الحكم كما يرى القارئ نبع مما قاله الشيخ رشيد لا مما قيل عنه، ومن تفسيره وشرحه لا عمّن فسر أقواله، كل ذلك يدل دلالة واضحة على أني لم أتجاوز وصف واقعه قيد شعرة.(1/226)
…ولا بأس بأن أنوّر القارئ الكريم برأي أحد المتشيعين للشيخ رشيد، والذي لم يرض عنه بديلاً في الإصلاح إلا أستاذه الإمام الشيخ محمد عبده، الذي يُزْعم أنه شديد التأثر بمذهب السلف وطريقتهم(1). قال الشيخ فضل حسن عباس من الأردن تحت عنوان: "ابتعاده عن الإسرائيليات ووقوعه فيما هو أخطر منها": "وجاء صاحب المنار ينبه المسلمين بقوة إلى وجوب طرح هذه الخرافات (الإسرائيليات) وتنقية التفسير منها لأنها حجاب كثيف يحول بين المسلمين وبين هداية القرآن وحججه الواضحة.. ولكن مع الأسف غالي وتطرف، وهدم بقدر ما بنى، ودمّر أكثر مما جنى، وكان لمغالاته وتطرفه نتائج خطيرة تكاد تعصف ريحها الصرصر العاتية بقواعد من أصول العقيدة، وأهم هذه النتائج الطعن في أحاديث أجمعت الأمة على صحتها، والتشكيك في عدالة الصحابة، واتهامهم باستقاء علومهم وأحاديثهم من أهل الكتاب"(2).
وقال الشيخ فضل: "وإذا كان الشيخ رشيد رد بعض الأحاديث لتوهين بعض الحفاظ لها، أو توقفهم فيها فإننا رأيناه قد اخترق حصن إجماع الأمة، لا من حيث رد أحاديث لم تَحُمْ حولها من قبل شبهة، وإنما كذلك من حيث نقض هذه القاعدة وهي كون الصحابة عدولاً، فهو تارة يتهم أبا هريرة وابن عباس بكثرة النقل عن أهل الكتاب من بني إسرائيل، مع أن ابن عباس –رضي الله عنهما- ثبت عنه النهي عن سؤال أهل الكتاب شيئاً كما ورد في صحيح البخاري"(3).
__________
(1) قال الشيخ فضل عباس: "كان الشيخ رشيد أشد تأثراً بمذهب السلف وطريقتهم" 1/313، اتجاهات التفسير في العصر الحديث في مصر وسوريا، رسالة الدكتوراة ستانسل، بالأزهر، رقم 500.
(2) 1/304، المصدر السابق نفسه.
(3) انظر صحيح البخاري، كتاب الاعتصام، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسألوا أهل الكتاب، 9/136، طبعة الشعب).(1/227)
…وقال الشيخ فضل: "... تارة أخرى يشتط فيتخذ لنفسه طريقاً عجباً، إذ يزعم بأن الصحابة –رضوان الله عليهم- كانوا ينقلون عن كعب وأضرابه، وحتى عن التابعين وينسبونه للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويردّ على كون الصحابة عدولاً بأنها أغلبية لا مطردة. وهذا من شأنه أن يعرّي السنة ورجالها من كل ما يجب لهم من قدسية وتقدير. وأن يكون بالتالي كسراً لباب عظيم من أبواب الإسلام ليلج منه كل حاقد وطامع وطاعن(1).
…وقال الشيخ فضل: "وعجيب أمر الشيخ، إنه يرد أحاديث المهدي، لما بينها من تعارض، ولأن الشيخين لم يعتدا بها، هكذا صنع مفسرنا –رحمه الله- أنه إذا لم تتفق الأحاديث مع مقاييسه(2) يرفضها جملة وتفصيلاً. فإذا لم تكن قد وردت في الصحيحين احتج بأن الشيخين لم يعبئا بها فلم يروياها، فإذا وردت في صحيح مسلم كحديث عائشة –رضي الله عنها- في الرضاع، وحديث الجساسة رد الحديث متحججاً بأن البخاري أعله فلم يُخرجه. فإذا ورد في صحيح البخاري زعم بأنه لا يخلو من علة إسرائيلية، أو من خطأ الرواية في المعنى"(3).
__________
(1) 1/305، 306، اتجاهات التفسير، فضل حسن عباس، المصدر السابق نفسه.
(2) ذكر الشيخ فضل من مقاييس الشيخ رشيد في رد الحديث: "لا يخلو من علة إسرائيلية، وموافقته للقرآن والعقل، وموافقته لسنن الله في الكون، وموافقته لقواعد العلم"، انظر المصدر السابق نفسه، 1/305، 306.
(3) 1/311، المصدر السابق نفسه.(1/228)
…وقال الشيخ فضل: "وخلاصة القول: إن الشيخ رشيد -رحمه الله- نفّر من الإسرائيليات في تفسيره، ونفّر منها وحذر ولكنه غالى وتطرف، وحكَّم العقل أكثر مما ينبغي، وجعله أعظم المقاييس التي يقاس بها تمريض الحديث أو تصحيحه. فكانت النتائج التي وصل إليها لا تقل خطورة عن الإسرائيليات. بل إنها والحق يقال أشد خطورة، وأسوأ آثاراً ذلك لأنها تتعلق بمصدر من مصادر التشريع وهو السنة وليست كذلك الإسرائيليات"(1).
…وأكتفي بشهادة شاهد من أهله سجلها قبل بحثي بثلاثة عقود ونيف(2). وعليه يكون شعار محاربة الإسرائيليات عند الشيخ رشيد مجرد شعار تمسح به لهدم المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي.
__________
(1) 1/312، المصدر السابق نفسه.
(2) نال الشيخ فضل حسن عباس على بحثه هذا درجة الدكتوراة من الأزهر، بإشراف شيخ الأزهر الحالي محمد سيد طنطاوي، ويحرص الشيخ فضل أن لا يطلع أحداً على رسالته لدرجة أنه لم يجعل منها نسخة في مكتبة الجامعة الأردنية التي درس فيها ردحاً من الزمن حتى بلغ السبعين وأحيل على التقاعد. وطبعاً لم يطبعها قط رغم أن له مؤلفات مطبوعة.(1/229)
شعار محاربة الإسرائيليات في تفسير عبد الكريم الخطيب:
…قال في اسم سورة الإسراء: "ومن أعجب الأعاجيب هنا، أن نجد لهذه السورة اسماً يجعله المفسرون من بعض أسمائها على ما جرت به عادتهم في تكثير الآراء وحشدها للأمر الواحد، فجعلوا من أسماء هذه السورة اسم (بني إسرائيل) ووَضح أن هذا الاسم دخيل منتحل تسلل إلى المفسرين وأصحاب السير فيما تسلل من الإسرائيليات التي دسّها اليهود على هؤلاء العلماء فقبلوها بحسن نيّة. ولو كان لبني إسرائيل أن تكون لهم سورة باسمهم في القرآن، لكانت سورة البقرة مثلاً أولى من سورة الإسراء في هذا المقام، إذ كانت البقرة تحوي من أخبار بني إسرائيل أكثر مما تحويه سورة الإسراء، ومع هذا فقد أخذت السورة اسم البقرة. وهي بقرة بني إسرائيل ولم تأخذ اسمهم، الأمر الذي يحمل على القول بأنه مستبعد أصلاً، ومن جهة أخرى، فإنا نرى سوراً في القرآن فيها بحث مستفيض عن بني إسرائيل كسورة الأعراف، وسورة طه، مثلاً، ومع هذا فلم تسمّ أي منها سورة بني إسرائيل. إننا نشم هنا ريح بصمات أصابعهم المتلصصة التي تريد أن يكون حديث الإسراء خافتاً لا يذكر إلا عند تلاوة الآية. دون أن يجري له ذكر عند الحديث عن سور القرآن الكريم، كلما ذكرت من آيات هذه السورة، ونسبت إليها الآية، هذه واحدة من فعلات يهود في حديث الإسراء(1).
تفنيد مزاعم د. عبد الكريم الخطيب:
__________
(1) الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، 8/406.(1/230)
أسماء السور توقيفي، ويعترف الشيخ عبد الكريم الخطيب بذلك(1)، وقد ورد لبعض سور القرآن أكثر من اسم، ومنها سورة الإسراء، وسميت سورة سبحان، وسورة بني إسرائيل، وقد أخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: (في بني إسرائيل والكهف ومريم إنهم من العتاق الأول وهنّ من تلادي) (2). وبذلك يخرج د. الخطيب عن إجماع المسلمين في هذه التسمية التي لا تتأتى إلا عن طريق السماع. ويضرب بما رواه البخاري عرض الحائط.
المدقق في كلام الشيخ الخطيب يجد أنه من محض الخاطر الذي طرأ على ذهنه. فقد جابه الحقائق القطعية من الحديث بأسماء السور باتهامات باطلة دون أن يستند إلى شبهة دليل لأن الموطن لا مجال فيه لغير السماع. ولو رجع إلى سند الحديث في صحيح البخاري لما وجد فيه اسماً ممن يشنون الحرب عليهم عادة من ثقات مسلمي أهل الكتاب، أو أبي هريرة، أو ابن عباس، أو أبي ذر، فالراوي هو عبد الله بن مسعود.
إن العقل الذي استند إليه في رد رواية البخاري يدينه فقد ذكر أن لأبي لهب سورة باسمه. أي أن اسم السورة لا يدل على فضل الاسم. فاسم سورة البقرة ليس لبيان فضل البقرة وتقديسها، واسم سورة تبّت أو المسد بأبي لهب ليس فضلاً له، وهي تذمه وتُعبِّد الناس بمذمته، وكذلك سورة الإسراء التي سميت ببني إسرائيل ليس فضلاً لهم. ويكفي أن يستعمل اسمهم في الشتم وضرب المثل في السوء.
__________
(1) انظر م9، 18/1199، التفسير القرآني للقرآن، تفسير فاتحة سورة النور.
(2) 6/103، صحيح البخاري، كتاب التفسير، طبعة دار الشعب. العتاق: جمع عتيق، القديم، أو بالغ الجودة. والتلاد: قديم الملك، والمراد من قول ابن مسعود أنه من أول ما تعلم من القرآن. انظر الاتقان للسيوطي، 1/72، النوع السابع عشر في معرفة أسمائه وأسماء سوره، طبعة مصطفى الحلبي، وفي هامشه، إعجاز القرآن للباقلاني، ط4، 1398هـ-1978م.(1/231)
…من هذا ندرك أن د. عبد الكريم الخطيب كسابقه الشيخ رشيد يرفع شعار محاربة الإسرائيليات ويعمد لرد الأحاديث الصحيحة تحت الشعار نفسه. ومن أمثلة ما رده د. الخطيب من الأحاديث الشريفة الصحيحة أحاديث بدء الخلق جملة ومنها أن الله خلق آدم على صورته، وأن حواء خلقت من ضلع آدم(1). وهي في الصحيحين وردّها على أنها من الإسرائيليات ومن مورد قصص الأولين وأساطيرهم. كل ذلك بمحض العقل الحر وليس بالدليل الشرعي.
…وأظن أن في هذا القدر غنية لبيان أن محاربة الإسرائيليات في القرن الرابع عشر الهجري عند أصحاب المدرسة العقلية الحديثة هو مجرد شعار كانت نتائجه محاولة هدم السنة النبوية الشريفة، وإدخال الشوائب للتفسير. ومن الجدير بالذكر أن ما سقناه من تفسير أتباع هذه المدرسة كان مجرد أمثلة وليس للإحصاء وقد جاء غيرهم بما لا يقل نكارة عنهم، ومنهم عبد الرحمن فراج الذي يزعم أن الأحاديث جاء بها الماسون، ومنهم علي نصوح الطاهر، ومحمد عزت دروزة. والمهم أني أرجو أن أكون قد وفقت في توضيح هذا الأسلوب عند القوم. والله يقول الحق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) أحاديث الصورة وردت في صحيح مسلم (خلق الله عز وجل آدم على صورته طوله ستون ذراعاً)، م9، 17/172، 178، وانظر مسند أحمد الحديث 8177، 3/193، طبعة دار الفكر، ط1، 1411هـ-1991م، تحقيق عبد الله محمد الدرويش. وأحاديث زوج سيدنا آدم قد خلقت من ضلعه كما ورد في الحديث الصحيح: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج). انظر تفسير ابن كثير، 1/448. وانظر تفسير القرطبي، 1/301، ذكره على أنه في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.(1/232)
المبحث الثالث :التذرع بالتخييل والتمثيل وبالرمز والإشارة
أ- التخييل والتمثيل:
…لقد دخلت شوائب في التفسير في القرن الرابع عشر الهجري تحت جنح أسلوب القول بالتخييل والتمثيل، سالكين سلك الزمخشري في كشافه، وقد أدى ذلك إلى إنكار أو تحريف معنى المغيبات وإليك نماذج على ذلك:
الكرسي في تفسير المنار:
…قال الشيخ رشيد عند قوله تعالى { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } (1): قال الأستاذ الإمام: "السياق يدل على أن الكرسي هو العلم الإلهي وبذلك قال بعض المفسرين وأهل اللغة. ويقال: كَرِسَ الرجل كفرح، أي كثر علمه وازدحم على قلبه، أي أن علمه تعالى محيط بما يعلمون مما عبر عنه بقوله: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } (2) وبما لا يعلمون من شؤون سائر الكائنات فبماذا يمكن أن يعلمه الشفعاء. وقيل هو العرش، واختاره مفسرنا (الجلال). وهو إنما يثبت بخبر المعصوم. وقيل إنه تمثيل لملك الله تعالى، واختاره القفال والزمخشري. والآية تدل على أنه شيء يضبط السماوات والأرض، ولا يتوقف التسليم بها على تعيينه. والقول بأنه علم أو مُلك أو جسم كثيف أو لطيف، أي فإن كان هو العلم الإلهي فالأمر ظاهر، وإن كان خلقاً آخر فهو من عالم الغيب نؤمن به ولا نبحث عن حقيقته، ولا نتكلم فيه بالرأي"(3). والكرسي المضاف إلى الضمير العائد على لفظ الجلالة في الآية نفسها يدل على علم وهو شيء مادي من عالم الغيب لا يثبت إلا بخبر المعصوم، ونؤمن به ولا نبحث عن حقيقته، ولا نتكلم فيه بالرأي. ولكن أصحاب تفسير المنار جعلوه معنوياً منخرطين في سلك الزمخشري صاحب الكشاف(4). وقالوا بأنه العلم الإلهي. ونقلوا بأنه تمثيل لمُلك الله تعالى حسبما اختاره القفال والزمخشري أي ليس على سبيل الحقيقة. وركز على الأمر المعنوي
__________
(1) سورة البقرة، الآية 255.
(2) الآية السابقة نفسها.
(3) تفسير المنار، 3/33.
(4) انظر تفسير الكشاف، 1/154، حيث يقول "وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط، ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد".(1/233)
بقوله والآية تدل على أنه شيء يضبط السماوات والأرض ولا يتوقف التسليم بها على تعيينه. مع أن المعنى اللغوي الذي أشاروا إليه متعذر، قال الأزهري: "والذي روي عن ابن عباس في الكرسي أنه العلم، فليس مما يثبته أهل المعرفة بالأخبار"(1). وقال محقق تهذيب اللغة(2) عبارة ج: ومن روى عنه فقد أخطأ وفي لسان العرب فقد أبطل(3).
…وقد تهوك أصحاب المنار في معنى الكرسي مع أنه في العربية مما نقل إلينا بالتواتر مثل السماء والأرض، والرياح والجبال الخ. ولذلك قال صاحب تهذيب اللغة عن ثعلب: "الكرسي: ما تعرفه العرب من كراسي الملوك"(4). وقال أبو إسحاق الزجاج: "الذي نعرفه من الكرسي في اللغة: الشيء الذي يُعتمد ويجلس عليه، فهذا يدل على أن الكرسي عظيم دونه السماوات والأرض"(5). وفي لسان العرب قال: والكرسي: معروف واحد الكراسي(6).
الكرسي في التفسير الحديث:
…قال محمد عزت دروزة: "ولقد تعددت الأقوال في صدد الكرسي كما هو الأمر في صدد العرش واللوح والقلم ومنها ما جاء فيه أوصاف مادية لا تخلو من غرابة ولا تنسجم مع صفات الله وتنزهه، وليست متصلة بحديث نبوي وثيق السند. وأظهر الأقوال وأكثرها انسجاماً مع صفات الله أن الكلمة مستعملة على سبيل المجاز، وأن المقصود منها بيان عظمة ملك الله وسلطانه والله أعلم"(7).
__________
(1) الأزهري، أبو منصور، محمد أحمد، تهذيب اللغة، 10/54، مادة كرس.
(2) علي حسن هلالي محقق الجزء العاشر، الدار المصرية للتأليف والترجمة، مراجعة محمد علي النجار.
(3) تهذيب اللغة، 10/54، هامش رقم 3. وانظر لسان العرب 6/194، وحرف ج يرمز إلى نسخة تهذيب اللغة الموجودة في الحجاز قبل التحقيق.
(4) تهذيب اللغة، 1/53.
(5) المصدر السابق.
(6) لسان العرب، لابن منظور، 6/194.
(7) التفسير الحديث، دروزة، محمد عزت، 7/383، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1383هـ-1963م.(1/234)
…والناظر في تفسير دروزة يرى أنه وجه الانتقاد والاستغراب من المعنى المادي وهو المتبادر للذهن في اللغة، والمنقول إلينا بالتواتر. وفرّ منه إلى المجاز الذي لا توجد قرينة في النص تدل على صرفه إليه. والكرسي بالمعنى المعهود لا يتنافى مع تنزيه الله تعالى. ولو كان كذلك لجاءت قرينة لتصرف المعنى الحقيقي إلى معنى مجازي.
إماتة الرجل مائة عام في تفسير أبي زيد الدمنهوري:
…قال محمد أبو زيد الدمنهوري عند قوله تعالى: { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } (1): تمثيل ترى صورته حين تموت في نومك فيمر عليك مائة سنة في نظرك ثم تصحو فتجدك لم تلبث إلا قليلاً من الزمن لم يتغير فيه ما عندك من الطعام والشراب، فالعجب ممن ينكرون البعث والقيامة وهم يبعثون كل يوم من نومهم"(2).
…وقد غلى أبو زيد الدمنهوري في تأويل المعجزات المادية عبر تفسيره كله وليس في هذا المقام فحسب مع أن النص قطعي لا يحتمل التأويل { فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } (3).
معجزة العصا لسيدنا موسى عليه السلام في تفسير الدمنهوري:
…قال أبو زيد عند قوله تعالى: { فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ } (4): "انظر كيف يكون التمثيل في قوة الحجة والبرهان"(5).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 259.
(2) تفسير الهداية والعرفان في تفسير القرآن، الدمنهوري، محمد أبو زيد، ص35، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، 1932م-1349هـ، وهو موجود في الهيئة المصرية العامة تحت رقم تفسير 1116.
(3) سورة البقرة، الآية: 259.
(4) سورة الشعراء، الآية: 32، 33.
(5) الهداية والعرفان في تفسير القرآن، محمد أبو زيد، ص 288.(1/235)
…وقال عند قوله تعالى: { فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } (1): "يفيدك أن حججهم ميتة لا روح فيها وأنهم يأفكون ويزيفون فكشف موسى بحججه إفكهم وتزييفهم"(2).
…فالدمنهوري، أبو زيد يرى أن العصا تعني الحجة، ونزع اليد كذلك. ولا ثعبان ثمة ولا خروج لليد البيضاء. فهذه رموز وتمثيل "وليس على الحقيقة" لبيان الحجة. وهذا يعد إفراطاً في المغالاة بإنكار المعجزات المادية للأنبياء، ويعد هذا التفسير من الشوائب التي تناقض معجزات الأنبياء.
خلق عيسى عليه السلام من غير أب في تفسير المنار(3):
__________
(1) سورة الشعراء: آية 44، 45.
(2) الهداية والعرفان في تفسير القرآن، محمد أبو زيد، ص 289.
(3) { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } (آل عمران: من الآية 47).(1/236)
…قال أصحاب المنار: ويمكن تقريب هذه الآية الإلهية من السنن المعروفة في نظام الكائنات بوجهين: أحدهما: أن الاعتقاد القوي الذي يستولي على القلب ويستحوذ على المجموع العصبي يحدث في عالم المادة من الآثار ما يكون على خلاف المعتاد. فكم من سليم اعتقد أنه مصاب بمرض كذا وليس في بدنه شيء من جراثيم هذا المرض فولد له اعتقاد تلك الجراثيم الحيّة وصار مريضاً، وكم من امرئ سقى الماء القراح أو نحوه فشربه معتقداً أنه سم ناقع فمات مسموماً به. والحوادث في هذا الباب كثيرة أثبتتها التجارب، وإذا اعتبرنا بها في أمر ولادة المسيح نقول: إن مريم لما بشرت بأن الله تعالى سيهب لها ولداً بمحض قدرته، وهي على ما هي عليه من صحة الإيمان وقوة اليقين انفعل مزاجها بهذا الاعتقاد انفعالاً فعل في الرحم فعل التلقيح، كما يفعل الاعتقاد القوي في مزاج السليم فيمرض أو يموت، وفي مزاج المريض فيبرأ، وكان نفخ الروح الذي ورد في سورة أخرى متمماً لهذا التأثير"(1).
__________
(1) تفسير المنار، 3/309.(1/237)
…الوجه الثاني: وهو أقرب إلى الحق، وإن كان أخفى وأدق، وبيانه يتوقف على مقدمة وجيزة في تأثير الأرواح في الأشباح، وهي أن المخلوقات قسمان أجسام كثيفة وأرواح لطيفة، وأن اللطيف هو الذي يحدث في الكثيف الحي ما نراه فيه من النمو والحركة والتولد الذي يكون من النمو أو يكون النمو منه. فلولا الهواء لما عاشت هذه الأحياء، والهواء روح، والماء الذي منه كل شيء حي مركب من روحين لطيفين وهو يكاد يكون في حال التركيب وسطاً بين الكثيف واللطيف، ولكنه أقرب إلى الثاني، والكهرباء من الأرواح وناهيك بفعلها في الأشباح. فهذه الموجودات اللطيفة التي سميناها أرواحاً هي التي تحدث معظم التغيير الذي نشاهده في الكون. فإذا كان الأمر كذلك في الأرواح التي لا دليل عندنا على أنها تدرك وتريد، فلم لا يجوز أن يكون تأثير الأرواح العاقلة المريدة أعظم!! إذا تمهد هذا فنقول: إن الله المسخر للأرواح المنبثة في الكائنات قد أرسل روحاً من عنده إلى مريم فتمثل لها بشراً ونفخ فيها، فأحدثت نفخته التلقيح في رحمها، فحملت بعيسى عليه السلام. وهل حملت إليها تلك النفخة أم لا؟ الله أعلم"(1).
__________
(1) تفسير المنار، 3/310.(1/238)
…وهكذا صير أصحاب تفسير المنار المعجزة وهي أن تلد البنت البكر بدون أن يمسها بشر بإرسال الله جبريل -عليه السلام- إلى مريم بأنه أمر حصل بالتهيؤات لمريم عليها السلام، أو بالانفعالات التي تحدثها الأرواح اللطيفة "على حد تعبيره" المنبثة في الكائنات. وهو لا يؤمن بأمر الله للملائكة أن تجري مثل هذه المعجزات. ولهذا عقب ذلك قال: "أما البحث في تمثل هذه الأرواح التي تسمى بلسان الشرع الملائكة فسيأتي الكلام عليه إذا أنسأ الله لنا في الأجل ووفقنا للمضي في هذا العمل "التفسير"(1). ومن يقرأ الآيات 45-50 من سورة آل عمران يدرك جازماً أن المعجزة تمت بإرسال الله عز وجل الملائكة إلى مريم عليها السلام لتبشرها بالمسيح يلد منها من غير أب، ويكلم الناس في المهد وكهلاً ويبيّن لها أن الله يخلق ما يشاء على سنته { إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } (2)، ويعلمه الكتاب وهو طفل رضيع، ويعلمه الحكمة والتوراة والإنجيل ويبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل ومعه آيات من ربه منها أنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ... الخ المعجزات(3). وقال تبارك وتعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } (4). وبهذا يتضح خطورة الشوائب التي أتى بها أصحاب تفسير المنار في تقليل شأن معجزة ميلاد سيدنا عيسى عليه السلام.
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) سورة آل عمران، الآية: 48.
(3) ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله، وينبئ قومه بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.
(4) سورة آل عمران، الآية: 59.(1/239)
ب- الرمز والإشارة:
نزول المسيح ومجيء الدجال في تفسير الجواهر:
…كتب تحت عنوان "كيف ينزل المسيح": "وهنا نقول: هل ينزل المسيح بنفسه؟! أم ذلك رمز لنزع الغل والحقد من القلوب واتحاد الأمم وتعاونها وتصافحها؟ اعلم أن أتباع كل دين في الأرض لا يصدقون بغير دينهم، ولو أن المسيح اليوم جاء للنصارى لقالوا له كذبت. وكذلك نحن معاشر المسلمين لو جاءنا أي إنسان وقال أنا عيسى أو موسى أو محمد لقلنا أنت مدع ألا ترى أن اليهود وعدوا بمجيء المسيح فلما جاء كذبوه، والنصارى لما أرسل سيدنا محمد كذبوه إلا قليلاً منهم. فهكذا نحن معاشر المسلمين إذا جاء لنا أي إنسان مهما كان شأنه فإن الجمهور لا يصدقه وإنما يفعلون معه ما فعلته الأمم مع الأنبياء فيتبعه قوم ويرفضه آخرون. هذا هو الأمر الذي يمكن وقوعه. فإذا نزل المسيح فلا ينال من النصارى واليهود والمسلمين إلا ما ذكرته لك فيتبعه قوم ويخذله آخرون، يقولون أنت لست الموعود به فأين الهناء وزوال التحاسد والتباغض، وثبوت المحبة في الأرض. اللهم إلا أنه يحصل في عقول النوع الإنساني في حال غريبة فجائية، ثم ما فائدة هذا الزمان القليل أي زمان وجود المسيح في الأرض، وللأمم أعمار طويلة فإذا تهنأت الأمم كلها عدة أعوام وذهب المسيح من بينهم فهذا أمر لا تكون فائدته تامة.(1/240)
…ومالي أذهب معك بعيداً، انظر إلى الأمم الآن ألست ترى في الهند من قام وقال إني أنا المسيح ومات في زماننا، وجاء بتعاليم إسلامية ونهى عن الحرب !! والحكومة الإنجليزية ساعدته وله أتباع هناك في الهند؟ أولا ترى في طائفة البهائية ببلاد الفرس فإنهم قاموا بتعاليم عامة من القرآن ونشروها في أمريكا وأوروبا واتبعهم أناس كثيرون. وأخبرتني سيدة انجليزية من أتباعه أنه هو المسيح. ومع ذلك لا يزال التحاسد في الأمم كما هو، والحرب والضرب والتخريب وهم يقولون إن هذه الشريعة تعلو على الأديان كلها. وأكثر المتبعين لهذا الدين من أمم الفرنجة وقليل من المسلمين اتبعوه وهم يجعلون شرعهم هذا هو شرع المسيح الموعود. وقد تبعهم ملايين كثيرة، وربما جاء كثيرون يقولون بهذه الدعوى فأيهم يتبعه الناس! ولعل مقدمات عيسى المذكورة في الحديث هي الحال التي سيصير إليها البشر من الاتحاد والإخاء والأعمال النافعة العامة الموافقة لروح الإسلام ثم يأتي هو ويظهر الزمان المستقبل يكون مداره على الحقائق لا على الظواهر فيكون الدجال رمزاً لما عليه الأمم من الدجل والكذب والنفاق والجهالة والعمى. والمسيح إشارة لما تستأهل له الأمم في المستقبل من ظهور الحقائق وتقارب الأمم واتحاد الأعمال والنظام العام وربما كان ذكر أنه لا يركب الإبل في الحديث الشريف الإشارة إلى أن زمان ذلك الحب قد قرب فإن الناس أخذت تركب القطار والطائرات فإذا عم هذا يكون قد اقترب زمان التعاون بين الأمم لأن سرعة النقل بين الشرق والغرب تقرب وجهة النظر(1).
__________
(1) الجواهر في تفسير القرآن، م2، 3/112-113.(1/241)
…وقال: "ولا تظن أني أقول بمنع وجوده في الأرض ولكني أقول إن المهم في الأمر ليس شخصية المسيح ولا وجود ذاته وإنما السلام العام والصدق والإخلاص فليس القصد من المسيح ذاته سواء حضر بنفسه أم كانت المحبة الأخوية بين الجامعة الإنسانية فالمقصد سعادة الأمم لا حضور الأشخاص فلينزل المسيح فهو أمر ممكن ولكن المدار على الإخاء العام فأما الديانات فإن الكتب تنتشر في أنحاء المعمورة كما هو حاصل اليوم.
…ألا ترى أن دولة الإنجليز قد أخذت تعتنق الإسلام وابتدأ ذلك عظماؤها الأغنياء وذلك للدراسة فنشر الدين اليوم يسير بطريقة غير طريقة السيف بل بالاقتناع. فالمدار على الحقائق فإذا وجدنا أن ديننا ينشر بطريق الإقناع وسيتم ذلك في زمان السلام العام بنزول المسيح فلنفعل ذلك كما يفعل الفرنجة في دينهم فلا نحارب ولا نقاتل لأن المقصود هو الإيمان، والإيمان يحصل بلا حرب ولا ضرب. ونحن ليس عندنا مبشرون فما بالك لو كان هناك مبشرون دينيون مسلمون؟"(1). إلى أن يقول: "وبوادر ذلك ظاهرة اليوم "الجامعة الإنسانية" فإنهم يقولون جمعية الأمم وتنقيص السلاح وما أشبه ذلك. وذلك هو اليوم الذي قيل فيه: إن المسيح يرسل لأهل الأرض ويزول الحقد والحسد من أهل الأرض ويعيش الناس بسلام ويصبح الناس إخواناً ولا يأخذ المسلمون الجزية بل يعيشون بسلام مع الأمم، وهذا هو مقصد الحديث النبوي ليستعد المسلمون لذلك اليوم ولا ندري أقريب هو أم بعيد؟"(2).
بيان الشوائب التي أدخلها طنطاوي جوهري تحت عباءة رمزية نزول عيسى عليه السلام:
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 114.(1/242)
إن نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض مرة ثانية قصة ترمز لمقصد عصبة الأمم وهيئة الأمم، وهذه شائبة لأن نزول عيسى عليه السلام معجزة بعد هذا الانقطاع الطويل عن الحياة في الأرض وتحقيقاً لقوله تعالى: { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً } (1). فنزوله عليه السلام حقيقة وليس رمزاً على الإطلاق. وسيؤمن به كل أهل الكتاب لقوله تعالى: { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } (2).
إن تسويته لنزول موسى أو محمد مرة ثانية مثل عيسى عليهم السلام جميعاً يدل على أنه لا يفسر آيات الله بل يتخيل ويتصور مفاهيم يريد أن يشربها قلوب العباد تضليلاً لهم. فنزول عيسى وحده المميز بهذه المعجزة وليس غيره من الأنبياء. وهذه شائبة ثانية.
يقلل من شأن معجزة نزول سيدنا عيسى إلى الأرض لأنها ستكون قليلة وقصيرة. مع أن نزوله عليه السلام أمارة على قرب انتهاء الحياة على الأرض. وقرب انتصاب الميزان للعباد فإما إلى الجنّة وإما إلى النار. فالحديث الصحيح الوارد في نزوله هو من أشراط الساعة.
زعم أن أحمد القادياني الذي ارتد عن الإسلام أتى بتعاليم إسلامية، وكذلك البهائية زعم أنها جاءت بتعاليم إسلامية. وكلها فرق بعيدة كل البعد عن الإسلام؛ لأن الأولى ادعت النبوة وادعت الثانية الألوهية وكلتاهما جاءت بدين جديد.
قرر أن مجيء الدجال ليس على الحقيقة بل هو رمز للدجل والكذب والنفاق الذي عليه الأمم، والمسيح إشارة لظهور الحقائق وتقارب الأمم في نظام عام، وهذه شوائب لمناقضتها للأحاديث الصحيحة في الموضوع.
إن الذي يقرب وجهات نظر الأمم من بعضها هو سرعة النقل بين الشرق والغرب.
التلويح بإلغاء الجهاد، ولمز طريقة السيف في حمل الدعوة، ويدعونا لتقليد الفرنجة في دينهم من هذه الزاوية.
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 110.
(2) سورة النساء، الآية: 159.(1/243)
يقترح بالإشارة تكوين جهاز تبشير إلى الإسلام وذلك للاستغناء عن الجهاد.
إسقاط حكم الجزية وكأنه لا يفكر بدولة للإسلام لتطبق الشرع، فإذا سقط الجهاد وسقطت الجزية فإن المسلمين لا يكون لهم سلطان ولا لدينهم سيادة.
إنه يدعو إلى جامعة إنسانية ويرى أنها تتحقق في عصبة الأمم وفي هيئة الأمم. وواقعها الآن يغني عن التعقيب فهي مؤسسة استعمارية.
…هذه الشوائب دخلت تحت عباءة القول بالرمز والإشارة لنزول عيسى عليه السلام عند طنطاوي جوهري، ولا دليل له من الشرع ولا من العقل ولا من العلم الذي يعدهما فاروقاً بين الحق والباطل.
التين والزيتون وطور سينين في التفسير القرآني للقرآن:
…يرى د. الخطيب أن هذه الألفاظ الثلاثة ترمز إلى عهود الإنسان الأولى. فالتين يرمز إلى عهد نوح. والزيتون يرمز إلى ظهور الشريعة الموسوية، وطور سينين يرمز إلى مطلع الرسالة الخاتمة لما شرع الله للناس(1). مع أن هذا التفسير لا تسعفه النصوص ولا اللغة ولا العقل. والقول بالرمز يجعل النصوص لا ضابط لها في الفهم.
…وفي هذا القدر كفاية لكشف هذا الأسلوب وبيان الشوائب التي دخلت منه، والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل.
__________
(1) انظر التفسير القرآن للقرآن، م16، 30/1615، طبعة دار الفكر العربي، القاهرة، 1970م.(1/244)
المبحث الرابع :تحريف المصطلحات
…يعد هذا الأسلوب شاقاً وشائكاً لا لعدم ظهوره في تفسير القوم وكلامهم، بل لأن أكثر الناس المخدوعين بهم لا يستطيعون تصور استعمال الألفاظ لمعانٍ لا تحتملها الألفاظ. ولأنه من القضايا المسلمة أن لا مشاحة في الاصطلاح(1). ولا مندوحة عن مراعاة ما يتواطأ عليه أي قوم، ومجاراة الناس على ما يصطلحون عليه في كل زمان ومكان، وقد انطلقت الألسنة في هذا القرن، وجرت أقلام من يزعمون الإصلاح بألفاظ يريدون بها من المعاني غير ما تدل عليه في أصل اللغة، أو عرف الشرع، أو مصطلح علم من العلوم(2). قال الشيخ رشيد: "فرأينا أن نشرح في صحيفتنا هذه الألفاظ حيناً بعد حين لأن الكثيرين من القراء غير عارفين بها على الوجه الذي نستعمله"(3). وهذا قول صريح يقتضي أن يعقله العقلاء وإلا فسيكون ببدائه الأمور جاهلاً. وإليك بعض الألفاظ التي يبيّن الشيخ رشيد معناها على الوجه الذي يستعمله.
__________
(1) الاصطلاح هو اتفاق جماعة إلى إطلاق اسم معين على شيء معين، ومن ذلك اللغات، والاصطلاحات الخاصة، ومنها اصطلاح أهل الفقه، أو أهل الأصول، أو النحو، أو الكيمياء، أو الهندسة، أو أهل القرية .. الخ.
(2) مجلة المنار، م1، 1/14، بعنوان اصطلاحات كتاب العصر. وقد اقتبست كلام الشيخ رشيد للرد عليه بما قال، أي من فمه أدينه.
(3) مجلة المنار، م1، 1/15.(1/245)
أولاً: لفظ الكفر:
…قال الشيخ رشيد: "وأما لفظ الكفر فيطلق في عرف كتاب اليوم على الملاحدة كما ألمعنا إليه فيه عرض كلامنا آنفاً فمهما أطلقنا لفظ الكافر، أو لقب الكفر في كلامنا فنريد به ما ذكرنا. ولا نطلقه على المخالفين لنا في الدين من أصحاب الملل الأخرى لأنهم ليسوا كفاراً بهذا المعنى. بل نقول بعدم جواز إطلاقه عليهم شرعاً. لأنه صار في هذه الأيام من أقبح الشتائم، وأجرح سهام الامتهان وذلك مما تحظره علينا الشريعة باتفاق علماء الإسلام، ولا يصدنك عن قبول هذا القول إطلاق ما ذكر في العصر الأول للملة على كل ما خالف فإنه لم يكن في زمن التشريع يرمي به لهذا الغرض بل كان من ألطف الألفاظ التي تدل على المخالف من غير ملاحظة غميزة ولا ازدراء فضلاً عن إرادة الشتم والإيذاء المخالفة لمقاصد الدين وآدابه ذلك أن معنى الكفر في أصل اللغة الستر والتغطية"(1).
…وعليه فالشيخ رشيد يقر بأن معنى لفظ الكفر في القرآن، وفي اصطلاح خير القرون "العصر الأول للملة" كان يطلق على كل من يخالف دين الإسلام سواءً أكان كتابياً أم غير ذلك. وكذلك يطلق على كل من أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة. وهذا هو وجه الحق في هذا المصطلح في الإسلام للآتي:
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 17، 18.(1/246)
النصوص الشرعية قطعية في ثبوتها ودلالتها وهي كثيرة منها: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (1). ومنها: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } (2). ومنها: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } (3). ومنها: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ30/9اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ31/9 يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (4).
وعليه فيطلق لفظ الكفر في الإسلام على الملحد، وعلى كل من يخالف المسلمين في عقيدتهم سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم كمن يعتقد عقيدة فصل الدين عن الحياة. والدين لله وحده فلا يملك مخلوق تعديل معانيه، أو تغييرها لا ملك مقرب ولا رسول مرسل فكيف برجال في القرن الرابع عشر الهجري؟!!!
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 85.
(2) سورة المائدة، الآية: 73.
(3) سورة المائدة، الآية: 17، والآية: 72.
(4) سورة التوبة، الآيات: 30-32.(1/247)
إن لفظ الكافر مما بلغنا معناه بالتواتر أنه يطلق على المخالف للمسلمين في العقيدة. وقد تنوسي المعنى اللغوي الذي وضعه العرب بمعنى المزارع الذي يستر الحب في الأرض ويخفيه. فصار المعنى الشرعي علماً على هذا اللفظ. ولهذا لا قيمة لقول الشيخ رشيد "ولا يصدنك عن قبول هذا القول إطلاق ما ذكر في العصر الأول للملة على كل مخالف".
إن المسلمين نهوا نهياً جازماً عن استعمال مصطلحات المخالفين لهم في دينهم إذا كانت المصطلحات تتعلق بوجهة النظر في الحياة. فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (1). فلفظ راعنا، ولفظ انظرنا، من حيث اللغة متقاربان، ولكنهما مختلفان في الاصطلاح كما ورد في سبب نزول الآية. فنهانا الله عز ثناؤه عن استعمال لفظ "راعنا" لأنه بمعنى السب القبيح عند اليهود، ولذلك فإن مصطلحات الإسلام مفاهيم عند المسلمين يجب التقيد بها وجوباً عينياً لا فرض كفاية.
…ويهمني في هذا الأسلوب أن أبلغ القارئ رسالة القوم حسبما يقولون ويعتقدون. وتطبيقاً لمعنى الكفر عند أصحاب المدرسة العقلية الحديثة فقد نافح الشيخ رشيد عن شبلي شميل النصراني السوري الذي كان يجاهر بكفره على صفحات الجرائد، وفي كتبه المنشورة على الملأ، وفي رسائله الخاصة للشيخ رشيد. ونافح عن شخصيات رثاهم في مناره، أو عدد مناقبهم –وقد زادوا عن مائة شخصية – ظاهري الكفر ومنهم: الأب لاون الثاني، والقس تيلر، وقد عدّ البابية والقاديانية بأنهم دعاة للإسلام.
…وقد شهد الشيخ رشيد للأرثوذكسي برتبة أرشمنديت، خريستوفر جبارة، فقال: "أنا أعتقد أنه مؤمن ناج عند الله إذا كان قد مات على ما عرفته منه وهو في مسألة الصلب متأول معذور"(2).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 104.
(2) تاريخ الأستاذ الإمام، رضا، محمد رشيد، 1/828.(1/248)
…وعلى هذا الأساس عدّ الدكتور عبد الكريم الخطيب دارون والإسكندر المقدوني من الموحدين بالله ومن أشد المؤمنين إيماناً بالله، فقال: "ثم إن دارون الذي أثار هذا الإعصار العاصف في عقول رجال الدين -من كل دين- لم يكن منكراً لله، ولا كافراً به، بل إنه -فيما روي عنه- كان من أشد الناس إيماناً بالله وشهوداً له في آياته"(1).
…وعلى هذا الأساس عدّ الشيخ عبد المتعال الصعيدي(2) والشيخ رشيد مصطفى كمال أتاتورك بأنه من المصلحين المجددين في الإسلام. وعليه فكلمة الكفر أطلقوها على الملحد فقط(3). أما المشرك أو المخالف لعقيدة المسلمين، أو منكر الزكاة، أو الصلاة فليس بكافر.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن، 1/65.
(2) انظر كتاب المجددون في الإسلام، لعبد المتعال الصعيدي، وقد أخذ كثيراً من الأسماء من مجلة وتفسير المنار.
(3) انظر تفسير المنار، 1/288، قال الشيخ رشيد: "قال الأستاذ بعد تفسير الكفر بالجحود والتكذيب بالإنكار..".(1/249)
ثانياً: معنى الإسلام:
…قال الشيخ رشيد: "وأما لفظ الإسلام في عرفنا اليوم فهو لقب على طوائف من الناس لهم مميزات دينية وعادية تميزهم عن سائر طوائف الناس الذين يلقبون بألقاب دينية أخرى، ولا يشترط في إطلاق هذا اللقب العرفي عند أهله أن يكون المسلم خاضعاً مسلماً لدين الله مخلصاً له أعماله، بل يطلقونه أيضاً على من ابتدع في ما ليس منه، أو ما ينافيه، ومن فسق عنه واتخذ إلهه هواه" (1). وخلاصة القول أن اليهودية والنصرانية والإسلام، ومن اتخذ إلهه هواه دين واحد هو الإسلام في عرف القوم. ويؤكد ذلك تفسيره لقوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } (2): "إن الحصر يتناول جميع الملل التي جاء بها الأنبياء لأنه هو روحها الكلي الذي اتفقت فيه على اختلاف بعض التكاليف وصور الأعمال فيها وبه كانوا يوصون"(3). وقال: "وبذلك تعلم أن المسلم الحقيقي في حكم القرآن من كان خالصاً من شوائب الشرك بالرحمن، مخلصاً في أعماله مع الإيمان، من أي ملة كان، وفي أي زمان وجد ومكان. وهذا هو المراد بقوله عز وجل: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (4).
__________
(1) تفسير المنار، 1/478.
(2) سورة آل عمران، الآية: 19.
(3) تفسير المنار، 3/257.
(4) سورة آل عمران، الآية 85.(1/250)
…وقال الشيخ رشيد: "نحن المسلمين نعتقد أن دين المسيح عليه السلام هو الإسلام الذي بيّنا معناه آنفاً"(1). أي جميع الأديان. وقال تأكيداً لهذا المعنى: "وعلم مما تقدم أن المراد بالإسلام معناه الذي شرحناه فمن قام به هذا المعنى فهو المسلم في عرف القرآن، وليس المراد به اسم في حكم الجامد يطلق على أمة مخصوصة حتى يكون كل من يولد فيها أو يقبل لقبها مسلماً ذلك الإسلام الذي نطق به القرآن ويكون من الذين تنالهم دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام"(2).
…وقال عند قوله تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } (3): "تطلق الأمة في كتاب الله تعالى بمعنى الملة. أي العقائد وأصول الشريعة كما في قوله: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } (4). أي أن جميع الأنبياء ورسل الله على ملة واحدة ودين واحد كما قال: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } (5). والمغالطة التي يدور الشيخ رشيد ويلف حولها هي التوحيد الجامع للأنبياء عليهم السلام، ولكنه في الإسلام لا يكفي للنجاة من الكفر لأن الإسلام جاءنا ناسخاً للشرائع السابقة، ومهيمناً عليها. أصحابها مطالبون بترك أديانهم والإيمان برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي هي وحدها الإسلام إذا أطلق هذا اللفظ. وقد جاء محلى بالألف واللام التي تفيد العهد. ولا مجال للإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، حتى ولو بآية واحدة منه. ولهذا فقوله مردود لا محل له في الإسلام وهو شائبة من الشوائب.
__________
(1) تفسير المنار، 3/259.
(2) تفسير المنار، 1/471. قال ذلك في تفسير قوله تعالى: { وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } (البقرة: من
الآية 128).
(3) سورة البقرة، الآية 213.
(4) سورة الأنبياء، الآية: 92.
(5) سورة آل عمران، الآية: 19.(1/251)
…والمغالطة الثانية عند الشيخ رشيد في استعماله المعنى اللغوي لكلمة الإسلام وتعميمه على الأديان الأخرى. وإهماله لعلمية الاسم التي هي المتبادرة للذهن عند سماعها وليس المعنى اللغوي الذي أطلق على سيدنا إبراهيم وغيره. ولذلك فكلمة الإسلام كمصطلح إذا أطلقت فلا تدل إلا على الدين الذي أنزله الله تعالى على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. ومن لم يؤمن به يكفر قال تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } (1). قال أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن: "وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئاً من أوامر الله تعالى، أو أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع عن التسليم وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي - صلى الله عليه وسلم - قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان 1.هـ" (2).
__________
(1) سورة النساء، الآية: 65.
(2) انظر مجلة المنار، م25، 1/29. ولنجل النظر أننا نأتي بالأدلة من كتاب ساقه ليرد على أن من يعمل بالمحاكم الأهلية ويخضع لأحكام الكفر المطبق عليهم في مصر 1925م غير معذورين لأنهم نالوا استقلالهم على حد زعمه مع وجود المعاهدة البريطانية المصرية بوجوب وجود الجيش الإنجليزي المحتل 1923م، وجعل الإثم على النواب الذين يقبلون بالتشريع الوضعي. وقد أعذر الشيخ محمد عبده في عمله بالمحاكم الأهلية معللاً ذلك أنه كان في زمن الاحتلال. تلك هي المغالطات في إدخال الشوائب فلننتبه، وانظر ص28 من المصدر نفسه.(1/252)
ثالثاً: معنى الدين:
…قال الشيخ محمد عبده: "اللهم إلا إذا ظن هؤلاء وأولئك (1) أن الدين حيوان يمشي على رجلين يطلب رزقه من القلوب حيث يجد الحاجة إليه، ويغدو إلى مراعاة من النفوس حتى اشتد الجوع عليه، فإذا قصر في ذلك حتى أهلكه الجوع ومات فإنما إثمه على نفسه لا عليهم، ربما يقول قائل: ولم تستبعد هذا الظن منهم "أن الدين حيوان يمشي" فتعبر في جانبه بكلمة "اللهم" وهم قد يزعمون أنهم من أهل السنة وربما طلبوا الدخول في أثواب حماة السنة بهذا الظن الذي تستبعده وما عليهم في ذلك إلا أن يقولوا نحن سنيون لا نقول باستحالة شيء وفخرنا أن نجوز المحال ونذهب إلى جواز تجسيم المعاني ونعتقد أن الأعمال والعقائد وهي معان نفسية وحركات بدنية يمكن أن تنقلب أشخاصاً وحيوانات تمشي، وأناس تتكلم، أليست هذه العقيدة التي هي مطيتنا إلى الجنة؟ فليكن الدين رجلاً عاقلاً، أو ميكروباً متنقلاً مفيداً لا قاتلاً يفعل لنفسه ما كان فاعلاً ويدعنا نتمتع بالنسبة إليه، وإن لم يكن لنا عطف عليه”. إن ألفاظ الشيخ محمد عبده هذه تحمل السخرية من المسلمين الملتزمين بالإسلام فيقال عن فلان إنه إسلام يمشي في الطريق لشدة التزامه بالإسلام.
…وعبّر بصراحة مطلقة أنه لا عطف له على الدين، وقد أفضى إلى ما قدم.
__________
(1) تحدث عن الأغنياء والملوك وعملهم بروح الدين لتقوية سلطانهم على حد تعبيره.(1/253)
…وأما تحديدهم لحدود الدين فقال الشيخ رشيد: "أقول يعني في مسائل الدين البحتة العبادات والحلال والحرام. أما المسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فهي مفوضة بأمر الله إلى أولي الأمر، وهم رجال الشورى من أهل الحل والعقد، فما يقررونه يجب على حكام المسلمين أن ينفذوه وعلى الرعية أن يقبلوه. فما جرى عليه المقلدون من المسلمين من الأخذ بآراء بعض الفقهاء في العبادات والحلال والحرام هو عين ما أنكره كتاب الله تعالى على أهل الكتاب وجعله منافياً للإسلام بل جعل مخالفتهم فيه هي عين الإسلام فليعتبر المعتبرون"(1). وهذه جرأة على دين الله في قلب الأمور. وقال الشيخ محمد عبده: "في الأحكام التي شرعها الله تعالى نوع يسمى بالشعائر ومنها لا يسمى بذلك كأحكام المعاملات كافة لأنها شرعت لمصالح البشر فلها علل وأسباب يسهل على كل إنسان أن يفهمها"(2).
__________
(1) تفسير المنار، 3/327، قال ذلك في تفسير سورة آل عمران عند قوله تعالى: { فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (آل عمران: من الآية 64).
(2) تفسير المنار، 2/44.(1/254)
…وقال الشيخ رشيد: "إن الأحكام الاجتهادية التي لم تثبت بالنص القطعي الصريح رواية ودلالة لا تجعل تشريعاً عاماً إلزامياً بل تفوض إلى اجتهاد الأفراد في العبادات الشخصية والتحريم الديني الخاص بهم، وإلى اجتهاد أولي الأمر من الحكام وأهل الحل والعقد في الأمور السياسية والقضائية والإدارية، ومأخذه هذا من قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا )(1). ووجهه: أن هذه الآية تدل على تحريم الخمر والميسر بضرب من الاجتهاد في الاستدلال، وهو ما كان إثمه وضرره أكبر من نفعه فهو محرم يجب اجتنابه، وبناء على هذه القاعدة كان يعذر كل أحد من سلف الأمة من خالفه أو خالف بعض الأخبار والآثار الاجتهادية غير القطعية رواية ودلالة(2).
تفنيد مزاعم أصحاب المنار:
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 219. وانظر تفسير المنار، 1/118.
(2) تفسير المنار، 1/118.(1/255)
قوله: "إن الأحكام الاجتهادية التي لم تثبت بالنص القطعي الصريح رواية ودلالة لا تجعل تشريعاً عاماً إلزامياً" قول خطير يجهز على الإسلام، ويعطل العمل به لأنه يلغي جل السنة النبوية الكريمة لأنها غير متواترة، وتلغي كثيراً من نصوص القرآن لأن دلالتها ظنية، ومنها قوله تعالى : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء } (1)، ومنها { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } (2). كما يخرج الحديث المتواتر الذي دلالته ظنية. ولا يقول بهذا مسلم. فقد انعقد الإجماع عند الصحابة –رضوان الله عليهم- على وجوب العمل بخبر الواحد في الأحكام(3). وقال الغزالي في المستصفى: "وأما العمل بخبر الواحد فمعلوم الوجوب بدليل قاطع أوجب العمل عند ظن الصدق. والظن حاصل قطعاً ووجوب العمل عنده معلوم قطعاً كالحكم بشهادة اثنين أو عن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه"(4). قال الشافعي: "ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصّة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد، والانتهاء إليه، بأنه لم يُعلم من فقهاء المسلمين أحدٌ إلا وقد ثبَّتهُ، جاز لي. ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفت من أن ذلك موجودٌ على كلهم"(5).
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) سورة البقرة، الآية: 228.
(3) ذكر ذلك ابن حزم في إحكامه.
(4) الغزالي، أبو حامد، محمد بن محمد، المستصفى من علم الأصول، 1/146، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، عن الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية، ببولاق، مصر، 1322هـ.
(5) الشافعي، محمد بن إدريس، الرسالة، ص 457-458، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق: أحمد شاكر، وقد استمر في ذكر الأدلة (الحقة) في تثبيت خبر الواحد من ص401. واستمر كذلك بعد موضع النقل ص458.(1/256)
قوله: "الأحكام الاجتهادية ليست تشريعاً عاماً" قول خطير يتعارض مع قوله تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } (1). والتحكيم يكون بالقرآن كله وبالسنة النبوية كلها. والاجتهاد في جلها أمر طبيعي لعموم النصوص.
التفويض إلى اجتهاد الأفراد في العبادات الشخصية يعيد المرء ليعبد الله حسب عقله فيضل ويشقى. وما عباد الأوثان وعبدة الأشخاص إلا من هذا القبيل. وهذا خطر مردود. وشوائب خطرة، لأن الاجتهاد مفتوح لمن يملك أهلية الاجتهاد حسبما حدد علماء الأصول فحسب. وليس الاجتهاد لكل أحد.
التفويض في الأحكام السياسية والقضائية لأهل الحل والعقد ووجوب خضوع الحكام والناس لهم أمر خطير لأن العبادات والأحكام السياسية، والعقائد والأحكام القضائية بل تحديد علاقات الإنسان الثلاث لا تكون إلا لله ومصدر معرفتها الكتاب والسنة ليس غير، والاجتهاد فيها لا يكون إلا لمن ينطبق عليهم وصف المجتهدين حسبما هو مقرر في مصطلح علم الأصول. وإذا لم نفعل ذلك نفصل بين الدين والسياسة فنكن قد خالفنا قوله تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } . والآية تنفي أصل الإيمان أي تكَِفِّر والعياذ بالله.
__________
(1) سورة النساء، الآية: 65.(1/257)
إن الآية التي استشهد بها على قيله لا دلالة فيها البتة على ما قال. وهي ضمن آيات المباهلة. ومطلع الآية يطلب من أهل الكتاب أن يشتركوا مع المسلمين في عبادة الله وحده والتخلي عن عقيدة الشرك بالقول بأن عزيراً وعيسى أبناء الله، وأن لا يتخذوا أحبارهم ورهبانهم مراجع يرجعون إليهم في حياتهم فإن رفضوا هذا العرض فقولوا أيها المسلمون إنا مسلمون أي وأنتم لستم كذلك في حال توليكم. وتفسير الشيخ رشيد يعد دعوة مشابهة لمن يتخذ أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله حيث يريد أن يخضع الحكام والمحكومون إلى آراء أهل الحل والعقد. كما هو الشأن في النظام الرأسمالي الديمقراطي الذي يفصل الدين عن الحياة. وهذه شوائب خطيرة.
مما سبق ندرك أن معنى الدين عند الشيخ رشيد هو العبادات العملية القطعية الدلالة والثبوت، والعقائد القطعية كذلك فقط وقد تمت(1) قال الشيخ رشيد: "لأن الاعتقادات والعبادات هي الدين الذي قال الله تعالى فيه: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (2). فتكون الأحكام الاجتماعية والاقتصادية والقضائية والسياسية ليست من الدين وهي كما قال آنفاً مفوض الأمر فيها لأهل الحل والعقد. وهذه هي عقيدة فصل الدين عن الحياة بعينها.
__________
(1) انظر ص 53، كتاب محاورات المصلح والمقلد، رضا، محمد رشيد، ط1، بمطبعة المنار بمصر، 1354هـ.
(2) المصدر السابق نفسه.(1/258)
…ولم يكتف بذلك بل جعل أحكام العبادات العملية لا تثبت إلا بالعمل وأما الأقوال فليست كذلك. قال الشيخ رشيد: "وإنما بين الأحكام العملية بالعمل وما بينه بالقول وكله إلى أفهام المخاطبين وعرفهم"(1). وقال في (المقدمة الحادية عشرة) إن أصول الدين الأساسية هي العقائد الصحيحة وتهذيب الأخلاق وأدب النفس وعبادة الله على الوجه الذي بينه وارتضاه. وكل هذه الأصول قد كملت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -... وأما أحكام المعاملات وبعد وضع قاعدة الشورى فوض الشارع الأمر في جزئيات الأحكام إلى أولي الأمر من العلماء والرؤساء والحكماء يقررون بالمشاورة ما هو الأصلح للأمة بحسب الزمان"(2)، وحتى العبادات فقد قوض أركانها فقال: "وأما العبادات فما بينته السنة بالعمل وتناقله الخلف عن السلف كذلك بالاتفاق حتى صار معلوماً من الدين بالضرورة.. وما اختلفوا فيه ... فهو غير واجب وإن عده بعض الفقهاء واجباً. وهو على التخيير فمن ترجح عنده شيء بدليل أو بموافقة لحاله أخذ به ولا يجب عليه البحث عن وجوه الترجيح لأن اختلاف المسلمين فيه عملاً دله على أنه ليس من ضروريات الدين وفرائضه، ولا يعيب من خالفه بما ترجح عنده من فعل أو ترك لأنه على التخيير"(3).
__________
(1) ص56، محاورات المصلح والمقلد.
(2) ص59، محاورات المصلح والمقلد، رضا، محمد رشيد.
(3) ص65، محاورات المصلح والمقلد، رضا، محمد رشيد.(1/259)
…وفي هذا القدر غنية لتحديد معنى الدين إذا أطلقه القوم وهو مغاير تمام المغايرة لواقع الدين في الإسلام حيث يعني كل ما جاء به الوحي من كتاب وسنة، وما استنبط منها من أحكام "حسب أصول الاستنباط" لتنظيم علاقات الإنسان الثلاث مع ربه وتشمل العقائد والعبادات، ومع نفسه وتشمل المطعومات والمشروبات والملبوسات والأخلاق وغير ذلك وتشمل العقوبات والمعاملات، كل هذا هو الدين، وإنقاص أي شيء منه إنقاص من الدين، قال تعالى: { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } (1). وحصره الدين بالعقائد والعبادات تخصيص للآية بغير مخصص فلا يعتد به وهو من الشوائب.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 54.(1/260)
رابعاً: الإيمان:
…قال الشيخ محمد عبده: "وأما أنساب الشعوب وما تدين به من دين، وما تتخذه من ملة فكل ذلك لا أثر له في رضاء الله ولا غضبه، ولا يتعلق به رفعة شأن قوم ولا ضعتهم، بل عماد الفلاح ووسيلة الفوز بخيري الدنيا والآخرة إنما هو صدق الإيمان بالله تعالى بأن يكون التصديق به سطوعاً على النفس من مشرق البرهان، أو جيشاناً في القلب من عين الوجدان فيكون الاعتقاد بوجوده وصفاته خالياً من شوب التشبيه والتمثيل، واليقين في نسبة الأفعال إليه خالصاً من وساوس الوهم والتخييل، ويكون المؤمن قد ارتقى بإيمانه مرتقى يشعر فيه بالجلال الإلهي(1). إلى أن قال: "فيكون عبداً لله وحده، سيداً لكل شيء بعده"(2). وعقب الشيخ رشيد على تعريف الإيمان عند الأستاذ فقال: "هذا هو الإيمان المرضي عند الله تعالى... وللإيمان إطلاق آخر وهو التصديق بالدين في الجملة أي الإيمان بالله وبأن ما جاء به فلان النبي مثلاً هو صحيح غير مكذوب على الله تعالى، ويدخل فيه أهل الفرق الضالة من كل دين من الأديان السماوية، فهو إطلاق صحيح لغة وعرفاً"(3). وقال: "وهذا الإطلاق هو الذي عناه الأستاذ الإمام بقوله: لا أثر له في رضاء الله ولا غضبه.. الخ. وهو كون الدين جنسية لمن ينتسب إليه"(4).
…وقال الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد: "إن الإيمان هو اليقين في الاعتقاد بالله ورسله واليوم الآخر بلا قيد في ذلك إلا احترام ما جاء على ألسنة الرسل"(5).
__________
(1) تفسير المنار، 1/334.
(2) تفسير المنار، 1/335.
(3) تفسير المنار، رضا، محمد رشيد، 1/335.
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) رسالة التوحيد، عبده، محمد، ص 189، جمع وتعليق د. محمد عمارة، ط3، 1989م، المركز المصري العربي للإعلام والنشر.(1/261)
…وقال الشيخ رشيد: "إنه لا إشكال في حمل { مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الخ على قوله { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } الخ. ولا إشكال في عدم اشتراط الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الكلام في معاملة الله تعالى لكل الفرق أو الأمم المؤمنة بنبي ووحي بخصوصها، الظانة أن فوزها في الآخرة كائن لا محالة لأنها مسلمة أو يهودية أو نصرانية أو صابئة مثلاً، فالله يقول إن الفوز لا يكون بالجنسيات الدينية وإنما يكون بإيمان صحيح له سلطان على النفس، وعمل يصلح به حال الناس، ولذلك نفى كون الأمر عند الله بحسب أماني المسلمين أو أماني أهل الكتاب، وأثبت كونه بالعمل الصالح مع الإيمان الصحيح"(1).
…مما تقدم نفهم أن الإيمان عند الشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا هو الإيمان بالله واليوم الآخر فقط وقد أكدا ذلك بقولهم: "وذهب كثير منهم إلى الاكتفاء ببلوغ دعوة أي نبي في ركني الدين الركينين وهما الإيمان بالله وباليوم الآخر، فمن بلغته وجب عليه الإيمان بهذين الأصلين، وإن لم يكن النبي مرسلاً إليه"(2). كما يفهم أن الإيمان بالله فقط ذاتاً وصفاتٍ. ويدخل في هذا الإيمان اليهود والنصارى والصابئة وغيرهم. ويصرح الشيخ رشيد أن للإيمان إطلاقاً آخر هو الإيمان بالجملة بالدين. أي بالله وما جاء به فلان النبي مثلاً هو صحيح. وأدخل فيه أيضاً الفرق الضالة من كل دين من الأديان السماوية وقال عنه إنه إطلاق على الإيمان إطلاقاً صحيحاً لغة وعرفاً. ورأى الشيخ رشيد أنه لا إشكال في عدم اشتراط الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويكتفي باحترام ما جاء على لسانه، هذا هو الإيمان الصحيح الذي يدعو له أصحاب تفسير المنار.
تفنيد مزاعم أصحاب تفسير المنار:
__________
(1) تفسير المنار، رضا، محمد رشيد، 1/336.
(2) تفسير المنار، رضا، محمد رشيد، 1/338.(1/262)
إنه من الخطأ حصر الإيمان بركنين فقط مع آيات كثيرة قطعية في ثبوتها وفي دلالتها منها: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } (1). وقوله تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } (2).
__________
(1) سورة البقرة، الآية 177. وانظر صحيح البخاري باب أمور الإيمان وقول الله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم.
(2) سورة البقرة، الآية: 285.(1/263)
كما يتعارض حصر الإيمان بركنين فقط بالحديث الصحيح الذي جاء فيه جبريل عليه السلام يعلم الناس أمور دينهم وفيه: (قال ما الإيمان؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث) رواه البخاري عن أبي هريرة(1). وفي رواية مسلم عن عمر بن الخطاب: (قال فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال صدقت)(2). وعليه فحصر الإيمان بركنين فقط يعد من شوائب التفسير.
إن إدخال الفرق الضالة في الإيمان –حسب تعبيره- يعد تشريعاً مغايراً لتشريع الله تعالى الوارد في الكتاب والسنة فهو من الشوائب ولا يلتفت إليه شرعاً. فضلاً عن أنه يجمع بين الكفر والإيمان.
إن قوله لا إشكال في عدم اشتراط الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، قول بدون دليل. بل قول يناقض قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) (3). فالإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - شرط في الإيمان المقبول عند الله تعالى بنص الوحي.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة. رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -، وصحيح مسلم بشرح النووي، تعريف الإسلام، 1/162، والراوي نفسه.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإيمان، تعريف الإسلام والإيمان، 1/157. طبعة دار الفكر، والراوي عمر بن الخطاب.
(3) رواه مسلم عن أبي هريرة، صحيح مسلم بشرح النووي، 1/210، 211.(1/264)
قول الشيخ محمد عبده: "وأما أنساب الشعوب وما تدين به من دين وما تتخذه من ملة فكل ذلك لا أثر له في رضاء الله ولا غضبه، ولا يتعلق به رفعة شأن قوم ولا ضعتهم" فهو قول خطير نبرأ إلى الله منه؛ لأن الإخبار عن الله لا يكون إلا بوحي. وقد أرسل الله الرسل منذ أن خلق آدم عليه السلام حتى جاء سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين بالديانات. والأمم تقاس بعقائدها ومدى التزامها بها. بل تقاس الأمم بعظمة المبدأ الذي تحمله، ورفعة أي أمة يتوقف على قوة المبدأ الذي تطبقه. بل لم تنشأ أي حضارة إلا تبعاً للمبدأ. وعليه فقوله شوائب مهلكة.
قول الشيخ عبده: "فيكون عبداً لله وحده، سيداً لكل شيء بعده". كلام ينقض آخره أوله لأنه إذا كانت العبودية لله وحده فيقتضي أن تكون السيادة له تعالى في كل شيء وليس للإنسان. والعبودية تعني الطاعة والاستسلام لله في كل أمر في جميع مناحي الحياة. وعليه فقوله هذا شائبة في التفسير.
…وعليه فتحريف مصطلح الدين عن مواضعه في تفسير المنار يعد شائبة يجب أن تمحى من التفسير.(1/265)
خامساً: الوحي.
…قال الشيخ رشيد: "وعرفه شيخنا في رسالة التوحيد بأنه: عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين من قبل الله تعالى بواسطة أو بغير واسطة، والأول بصوت يتمثل لسمعه، أو بغير صوت. (قال) ويفرق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى. وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور"(1). ثم بين إمكان هذا ووقوعه وأسباب شك بعض الناس فيه وتفنيد شبهاتهم عليه بما يراجع في الرسالة نفسها. وأما تمثل الملك فكانوا يكتفون في إثباته بقولهم: إنه ممكن في نفسه وقد أخبر به الصادق فوجب تصديقه. ونقول اليوم إن العلوم الكونية لم تبق شيئاً من أخبار عالم الغيب غريباً إلا وقربته إلى العقل، بل وإلى الحس تقريباً، بل ظهر من الاختراعات المادية المشاهدة في هذا العصر، ما كان يعد عند الجماهير محالاً في نظر العقل، لا غريباً فقط"(2). ثم استعرض الشيخ رشيد بعض الاختراعات ومنها الكهرباء، وقال: "دع مخترعات الكهرباء العجيبة التي لا يوجد شيء مما أخبر به الرسل من عالم الغيب إلا وفيها نظير له يقربه من الحس، لا من العقل وحده، وهل الكهرباء إلا قوة مسخرة للملائكة"(3).
…وقال الشيخ رشيد: "ودع ما يثبته الألوف من علماء الأمم كلها من تمثل بعض أرواح البشر لبعض الناس في صور كصور الأجساد، وهو يوافق المأثور عندنا عن الإمام مالك من أئمة الفقه في صفة الروح، ووقائعه عند الصوفية، ومن ينكر ما يحكي من وقوع هذا لا ينكر إمكانه في نفسه، ولا الرجاء في ثبوته في يوم ما، بحيث يشاهده جميع الناس"(4).
مناقشة أقوال أصحاب تفسير المنار:
__________
(1) تفسير المنار، 1/220، وانظر رسالة التوحيد، محمد عبده، ص 111، جمع وتعليق د. محمد عمارة.
(2) المصدر السابق نفسه، تفسير المنار.
(3) تفسير المنار، 1/321.
(4) المصدر السابق نفسه.(1/266)
بالرجوع إلى رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده وجدناه يقول: "وقد عرفوه شرعاً: أنه كلام الله تعالى المنزل على نبي من أنبيائه. أما نحن فنعرفه على شرطنا.." (1). ثم ذكر التعريف، أي أنه يعلم الحق في تعريف الوحي بالمعنى الشرعي وهو إعلام الله تعالى لنبي من أنبيائه بإحدى الطرق التي حددها القرآن الكريم: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } (2). والرسول من الملائكة كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } (3).
تعريفه للوحي: "بأنه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين من قبل الله تعالى بواسطة أو بغير واسطة. وفسر الواسطة بالصوت" هذا التعريف منشؤه المستشرقون لا النصوص الشرعية. ومحل هذه المسألة هو النصوص لا العقل ولا العلم لأنه غيب.
إن الوحي إعلام من الله تعالى، وليس من نفس الإنسان، أي أن الوحي من خارج النفس وبهذا ينقض ما يزعمه الغرب من أن النبي عبقري، أو رجل ممتاز الاستعداد فالوحي خارج عن ذات الموحى إليه.
إن مزاعم بعض الصوفية، وكثير من الباطنية تري أن ما يخطر ببالهم من خيالات أنها إلهام من الله تعالى وتستيقنه أنفسهم زوراً أنه من عند الله، ويزعمون أنه الإلهام الصادق الذي لا يخطئ. فيستوي الصادق والكاذب في تعريفهم.
__________
(1) رسالة التوحيد، محمد عبده ص 111، جمع وتعليق د. محمد عمارة. وقال الشيخ رشيد في الوحي المحمدي: "وقال شيخنا الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد بعد تعريف الوحي لغة: "وقد عرفوه شرعاً أنه إعلام الله تعالى لنبي من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه، أما نحن فنعرفه على شرطنا..." ص44، ط9، المكتب الإسلامي، بيروت، 1399هـ - 1979م.
(2) سورة الشورى، الآية: 51.
(3) سورة الشورى، الآية: 52.(1/267)
أقام الدليل على الوحي من العلوم الكونية. وزعم أنها أتت بالدليل للحواس والعقل على سواء بإمكانية وقوعه وضرب مثالاً على الكهرباء وأنها جاءت بكل شبيه مما جاء به الأنبياء من المعجزات. وعدها مسخرة للملائكة. وهذا طريق خطر لأنه إذا صح أن تكون العلوم الكونية دليلاً على إثبات المغيبات فإنه ينبغي أن تصح كذلك دليلاً على النفي. فيصبح العلم والعقل ميزاناً يوزن به الشرع. مع أن الشرع محصور في الكتاب والسنة فحسب.
استشهد بتحضير الأرواح وما يزعمه علماء من الأمم عبر القرون، وتجاهل أن الأرواح التي تستحضر قد تكون لكفار أو ملاحدة وثنيين، وهذا تأصيل لهذا العلم المنهي عنه لأنه من أحابيل الشياطين. وهل فصل الأرواح عن الأجساد في مقدور البشر؟! وماذا يحصل للجسد إذا استحضرت روحه؟! وإذا كان الجسد ميتاً فمن أين ستحضر روحه؟! ومن يتتبع تحضير الأرواح في تفسير الجواهر يجد أنه قد يفضي إلى الكفر الصراح ولا علاقة له بالقرآن ولا بتفسير القرآن. وطريق الإيمان بالإسلام هو العقل والشرع لا تحضير الأرواح ولا العلوم الكونية ولا العلوم التجريبية. ولذلك تعريفهم للوحي يعد شوائب في التفسير ينبغي أن يتخلص منها.
سادساً: مهمة النبوة والرسالة:
…قال الشيخ رشيد: "إن موضوع الرسالة: تعليم وإرشاد إلهي يملك الوجدان، وتذعن له النفس بالإيمان، فيكون هداية تزع صاحبها عن الباطل والشر، وتوجهه إلى الحق والخير، وإن القرآن قد بلغ مرتبة الكمال فيها، فاهتدت به الأمم والشعوب، فمن كان يؤمن بها على علم بحقيقتها، لا تقليداً لآبائه وقومه فيها لا يسعه أن يؤمن بالتوراة أو بالإنجيل أو الفيدا، أو غيرهم من الكتب المنسوبة إلى المرسلين الأولين، ولا يؤمن بالقرآن، وهو أكملها في موضوعها وأصحها نسباً إلى ما جاء به"(1).
__________
(1) تفسير المنار، 1/222.(1/268)
…وقال الشيخ رشيد: "وقد عقد شيخنا الأستاذ الإمام لهذا البحث فصلاً طويلاً في رسالة التوحيد سلك فيه مسلكين: (أحدهما) مبني على عقدية خلود النفس البشرية وكونها لا تزول من الوجود بالموت المعهود، وهي عقيدة اتفقت عليها كلمة البشر من المليين موحديهم ووثنييهم والفلاسفة إلا قليلاً من الماديين الجدليين الذين لا يعتدون إلا بمدركات الحس. (وثانيهما) مأخوذ من طبيعة الإنسان في حياته الاجتماعية(1).
…قال الشيخ محمد عبده: "للكلام في بيان الحاجة إلى الرسل مسلكان:
…الأول: وقد سبق الإشارة إليه يبتدئ من الاعتقاد ببقاء النفس الإنسانية بعد الموت، وأن حياة أخرى بعد الحياة الدنيا، تتمتع فيها بنعيم، أو تشقى فيها بعذاب أليم، وأن السعادة والشقاء في تلك الحياة الباقية معقودان بأعمال المرء في حياته الفانية سواء كانت تلك الأعمال قلبية كالاعتقادات، والمقاصد والإرادات، أو بدنية كأنواع العبادات والمعاملات.
__________
(1) تفسير المنار، 1/223.(1/269)
…اتفقت كلمة البشر، موحدين ووثنيين، مليين وفلاسفة، إلا قليلاً لا يقام لهم وزن على أن لنفس الإنسان بقاء تحيا به بعد مفارقة البدن، وأنها لا تموت موت فناء مطلقاً، وإنما الموت المحتوم هو ضرب من البطون والخفاء، وإن اختلفت منازعهم في تصوير ذلك البقاء، وفيما تكون عليه النفس وتباينت مشاربهم في طرق الاستدلال عليه فمن قائل بالتناسخ(1) في أجساد البشر أو الحيوان على الدوام، ومن ذاهب إلى أن التناسخ ينتهي عندما تبلغ النفس أعلى مراتب الكمال. ومنهم من قال: إنها متى فارقت الجسد عادت إلى تجردها من المادة، حافظة لما فيه لذتها أو ما به شقوتها. ومنهم من رأى أنها تتعلق بأجسام أثيرية ألطف من هذه الأجسام المرئية، وكأن اختلاف المذاهب في كنه السعادة والشقاء الأخرويين، وفيما هو متاع الحياة الآخرة. وفي الوسائل التي تعد للنعيم أو تبعد عن النكال الدائم. وتضارب آراء الأمم فيه، قديماً وحديثاً مما لا تكاد تحصى وجوهه.
__________
(1) قال محمد عمارة في الهامش معلقاً: "نظرية قديمة قال بها فيثاغورس، أخذاً عن الفلسفة الهندية، وهي تعني انتقال النفس بعد الموت إلى جسم آخر، سواء أكان نباتاً أو حيواناً أو إنساناً. ومن المتصوفة من يرى تقسيم التناسخ بحسب ما تنتقل إليه النفس فإذا انتقلت من إنسان إلى إنسان سمي نسخاً. وإذا انتقلت من إنسان إلى نبات سمي (فسخاً) وإذا انتقلت من إنسان إلى جماد سمي (رسخاً).ص 95 هامش رسالة التوحيد نقلاً عن المعجم الفلسفي، د. مراد وهبه وآخرون. طبعة القاهرة 1966م، مادة تناسخ.(1/270)
…هذا الشعور العام بحياة ما بعد هذه الحياة، المنبث في جميع الأنفس، عالمها وجاهلها، وحشيها ومستأنسها، باديها وحاضرها، قديمها وحديثها، لا يمكن أن يعد ضلة عقلية أو نزعة وهمية(1). وإنما هو إلهامات اختص بها هذا النوع كما ألهم الإنسان أن عقله وفكره هما عماد بقائه في هذه الحياة الدنيا"(2). وأردف قائلاً: "وإن شذ أفراد منه، ذهبوا إلى أن العقل والفكر ليسا بكافيين للإرشاد في عمل ما، أو إلى أنه لا يمكن للعقل أن يوقن باعتقاد، ولا الفكر أن يصل إلى مجهول بل قالوا أن لا وجود للعالم إلا في اختراع الخيال وأنهم شاكون حتى في أنهم شاكون"(3).
…وقال: "ولم يطعن شذوذ هؤلاء في صحة الإلهام العام المشعر لسائر أفراد النوع أن الفكر والعقل هما ركن الحياة وأسس البقاء إلى الأجل المحدود. كذلك قد ألهمت العقول وأشعرت النفوس أن هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان في الوجود، بل الإنسان ينزع هذا الجسد كما ينزع الثوب عن البدن، ثم يكون حياً باقياً في طور آخر وإن لم يدرك كنهه. ذلك إلهام عقلي يكاد يزاحم البديهة في الجلاء. يشعر كل نفس أنها خلقت مستعدة لقبول معلومات غير متناهية من طرق غير محصورة، شيقة إلى لذائذ غير محدودة، ولا واقفة عند غاية مهيأة لدرجات من الكمال لا تحددها أطراف المراتب والغايات.. (4). وقال: "فمن كان استعداده لقبول ما لا يتناهى من معلومات وآلام ولذائذ وكمالات لا يصح أن يكون بقاؤه قاصراً على أيام أو سنين معدودات"(5).
__________
(1) رسالة التوحيد، ص 94، 95.
(2) رسالة التوحيد، ص 96.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) رسالة التوحيد، ص 97.
(5) المصدر السابق نفسه.(1/271)
…ثم قال: "ولا نزال إلى الآن من هم هذه الحياة الدنيا في اضطراب، لا ندري متى نخلص منه، وفي شوق إلى طمأنينة لا نعلم متى ننتهي إليها. هذا شأننا في فهم عالم الشهادة، فماذا نؤمل من عقولنا وأفكارنا في العلم بما في عالم الغيب؟ هل فيما بين أيدينا من الشاهد معالم نهتدي بها إلى الغائب؟ وهل في طرق الفكر ما يوصل كل أحد إلى معرفة ما قدر له في حياة يشعر بها وبأن لا مندوحة عن القدوم عليها.." (1).
…ويجيب عن هذه التساؤلات: "كلا فإن الصلة بين العالمين تكاد تكون منقطعة في نظر العقل ومرامي المشاعر، ولا اشتراك بينهما إلا فيك أنت. فالنظر في المعلومات الحاضرة لا يوصل إلى اليقين بحقائق تلك العوالم المستقبلة"(2). ويستمر على هذا المنوال ليثبت حاجة الناس إلى الرسل من المسلك الأول ثم الثاني.
…وقفة مع هذه الأفكار:
إن الإجماع الذي زعمه من الوثنيين والفلاسفة والمليين لا قيمة له لأن البحث في مسألة لا تقع تحت حسهم جميعاً، وهي الحياة بعد الموت. ولذلك لا يسمى بحثه هذا فكراً ولا عقلاً ولا إدراكاً بل هو مجرد تخيلات وفرضيات. وكذلك البحث في الروح بعد الموت لا سبيل إليها غير الغيب من الأدلة السمعية.
إن عقيدة الوثنيين بتناسخ الأرواح التي جاء بها الهنود، وأخذها عنهم الفلاسفة ومنهم فيثاغورس، عقائد باطلة لا يجوز لمسلم أن يستشهد بها، أو يجعل لها وجهاً من الصحة لأنها تناقض عقيدة المسلمين التي جاء بها سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
جعل الشعور العام بهذه العقائد دليلاً على صحتها. وزعم أنه لا يمكن أن تعد ضلالة عقلية أو نزعة وهمية وإنما هي إلهامات مختص بها هذا النوع الإنساني كما ألهم عقله وفكره.
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 98.
(2) المصدر السابق نفسه.(1/272)
فنقول له: إن فكرة الواقعية ليست صحيحة في كل شيء ولا يمكن تعميمها، فالشعور العام إذا بني على وهم وخيال لا يكون واقعاً. ولهذا وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تجعل الحق في جانب مغاير للكثرة { وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (1). كما ورد وأكثر الناس لا يشكرون ولا يؤمنون: { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا } (2)، ولذلك فإن هذه الفكرة محض خيال، ووهم وهي ضلالة عقلية قطعاً. ولا صحة لسندها.وأما زعمه أنها إلهامات فهي دعوى يستحيل إقامة الدليل عليها. فوساوس الشيطان والخواطر، وحديث النفس ليس فكراً ولا عقلاً. ولا يسمى الفكر فكراً وعقلاً إلا إذا كان الحكم منزلاً على الواقع المحسوس.
إن دعوى نظرية الشك باطلة وليست هي التي نعتمد عليها في بيان تهافت نظريته. والعقل والنقل هما طرق إثبات العقائد المحسوسة.
إن لا أدريته في متى الخلاص من اضطراب هذا الهم يدل على فساد العقيدة لأنه استلهمها من غير الإسلام، وشكه في عالم الغيب مبناه تنكره لرسالة الإسلام واعتماده على العقل وحده، والشواهد المحسوسة لا يمكن أن تكون طريقاً سليماً يوصل إلى عالم الغيب. ولذلك لم يترك الله البشر هملاً بل كلأهم برعايته بإرسال الرسل والأنبياء لهداية البشر إلى عالم الغيب.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية 187، وفي سورة يوسف الآية: 21، والآية: 40، وفي سورة النحل، الآية: 38، وفي سورة الروم، الآية: 6، وفي سورة سبأ، الآية: 28، وفي سورة الصافات، الآية: 71، وفي سورة الزمر، الآية: 57.
(2) سورة الإسراء، الآية 89.(1/273)
قال تعالى: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } (1). أي ومن بلغه القرآن ينذر به. ولم يجعل الله سيدنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين بمعنى توقف الهدى الإلهي للبشر بل جعل الإسلام خاتمة الهدى إلى يوم الدين للبشرية كافة. ومن يقرأ كتابات الشيخ محمد عبده لا يجد فيها بحث علماء المسلمين وهي إلى بحث الفلاسفة أقرب.
سابعاً: الوطنية:
…قال الشيخ محمد عبده: "إن وطنيتي ووطنية سلطان باشا واحدة، وكلانا عمل وفكر تفكير الرجل الواحد، وقد أصبح سلطان باشا ذا لقب (سير) (2). وحصل أيضاً على مكافأة قدرها عشرة آلاف ليرة، لذلك وجب أن تكون وطنيته حسنة وأهلاً للثناء عليها، إذن يكون سلوكنا كلينا أهلاً للثناء عليه.
…فلماذا يا ترى أزج في السجن منتظراً محاكمتي على وطنيتي بينما يصبح سلطان باشا حائزاً على رتبة الشرف الإنجليزية، وحاصلاً على مكافأة قدرها عشرة آلاف ليرة"(3).
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 19.
(2) لقب ينعمه الإنجليز على رجالاتهم الذين من جنسهم أو الموالين جداً لهم في مناطق نفوذهم.
(3) تاريخ الأستاذ الإمام، 1/227، رضا، محمد رشيد، ثم عقد الشيخ رشيد عنواناً في ص233 "خيانة سلطان باشا لمصر".(1/274)
…وبهذا التصريح يزداد تبختر هذه الحقيقة اتضاحاً، وتتضاءل تلك الشبهة (إصلاح القوم) افتضاحاً بما دبجته يراع الشيخ محمد عبده، فلا معنى للوطنية حسب هذا التصريح إلا العمالة للإنجليز، وخيانة المسلمين. فهل يعقل أن يفهم مخلوق على وجه الأرض هذا أن مفهوم الوطنية إذا أطلقت تعني الخيانة والعمالة للإنجليز الأعداء؟ّ! (1) فمن يفعل ذلك يكن خائناً لدينه وأمته ووطنه ونفسه، ومن هنا نشدد على أهمية مقولة الشيخ رشيد أنه لابد من فهم مذهب الشيخ محمد عبده في الإصلاح أولاً لمعرفة آرائه الدينية والسياسية.
ثامناً: الخيانة:
…وأما الخائن والعميل في اصطلاحهم فهو من يعتقد معتقدهم ويتقاعس عن مؤازرة إخوانه، أو من يعاكسهم ويقاومهم، وقال الشيخ رشيد: "ويجب على جميع العقلاء من الشرقيين أن يساعد هؤلاء الذين يجاهدون في سبيل الأمة والوطن ومن يتقاعس عن مؤازرتهم ومعاضدتهم فهو خائن لأمته ودولته، وعامل خراب على وطنه. فما بالك بمن يعاكسهم ويشاكسهم ويقاومهم ويصادمهم كل خائن ملعون يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون"(2).
__________
(1) ظروف كتابة هذا المقال كان الشيخ محمد عبده في السجن في مصر ينتظر المحاكمة، وكانت مصر تابعة للنفوذ الإنجلوفرنسي حيث تآمرت بريطانيا مع عملائها في مصر لإحداث ثورة عرابي باشا لإيجاد المبرر لإنزال قواتها العسكرية لتشارك الاستعمار الفرنسي الذي نزل في 1798م ثم تطرده في النهاية. وكاد يصل الشيخ محمد عبده لليأس حيث بُصق عليه وعذبه القائد التركي الذي تولى سجنه، وقد ذكر محامي الشيخ الكسندر برودلي الإنجليزي هذا الضعف الذي اعتراه. فعمل محمد عبده وعرابي كان خدمة جليلة للإنجليز فلماذا يكون الجزاء أن يوضع في السجن وينفى، وسلطان باشا ينعم بالمراكز العالية.
(2) مجلة المنار، م1، 12/283.(1/275)
…وهكذا تجد المصطلحات منكوسة فمن يحارب عملاء الكافر المستعمر، أو من يخرج من حزبهم يعد خائناً. ولله في خلقه شؤون. فليعلم المفتونون برجالات هذه المدرسة هذه الحقائق لعلهم يغيّرون ويبدلون.
تاسعاً: الجامعة الإسلامية:
…التبس على كثير من الناس أن جمال الدين الأفغاني كان يدعو لجامعة إسلامية بمعنى توحيد المسلمين في دولة واحدة ضد دول أوروبا الاستعمارية، ولا يعقل أن يكون هذا مراداً لجمال الدين على ضوء عقيدته، وطبيعة الإصلاح الذي يدعو إليه، وولائه لأولياء نعمته الذين لا تغيب الشمس عن امبراطوريتهم. وحتى لا يفتتن الناس بذلك حذر الشيخ رشيد ولفت الأنظار حتى لا يفهم إصلاح القوم على غير واقعه. وقد ترجم لنا هذه الملاحظة بمثال حي لكي يفهم من يريد الفهم. فكتب تحت عنوان "الجامعة الإسلامية": "يعرف اللورد كما يعرف جماهير القراء أن السيد جمال الدين الأفغاني كان أشهر دعاة ما يسمونه الجامعة الإسلامية ذكراً، وأقواهم صوتاً، وأكثرهم سعياً، وأشدهم اضطلاعاً، وقد اشتهر عنه أنه كان يحاول جمع كلمة المسلمين على خليفة واحدٍ أو سلطان منهم، والصحيح أنه لم يكن يدعو إلى ذلك ولم يخطر له على بال أن هذا مما تتناوله يد الإمكان، بل قال في معرض تنبيه المسلمين وحثهم على الوحدة: "ولست أعني أن يكون لهم إمام واحد فإن هذا ربما كان متعذراً وإنما أعني أن يكون إمامهم القرآن"(1).
__________
(1) مجلة المنار، م10، 3/218. وانظر: الأعمال الكاملة لمحمد عبده، جمع محمد عمارة، 1/865، حيث قال: "إن المسلمين ليس لهم اليوم إمام إلا القرآن، وإن الكلام في الإمامة مثار فتنة يخشى ضره ولا يرجى نفعه". ومن الجدير بالذكر أن الخلافة كانت قائمة والسلطان عبد الحميد هو خليفة المسلمين.(1/276)
…وقال الشيخ رشيد: "وقد عرف اللورد الأستاذ المرحوم وحمد طريقته هذه وشبهها في بعض تقاريره بطريقة السيد أحمد خان في الهند". وقال: "إن حزبه جدير بالمساعدة والتنشيط من الأوروبيين، والذي نعرفه نحن بعد السير على هذه الطريقة تسع سنين وأشهر، أن طلاب الإصلاح الإسلامي في مصر وسوريا وتونس كلهم على طريقة الشيخ محمد عبده. كما أن معظم المصلحين في الهند على طريقة السيد أحمد خان ولا يوجد في غير هذه الأقطار حركة إسلامية تدعو إلى الإصلاح إلا في روسيا وإيران"(1). وقفّى الشيخ رشيد على هذا الشرح بقوله: "فالجامعة الإسلامية بالمعنى الذي يفهم من كلامه لا وجود لها في الأرض، وإنما يوجد في المسلمين دعوتان: دعوة إسلامية، وتنحصر فيما بيّناه آنفاً؛ وهو ترك البدع والجمع بين الدين وبين العلم والمدنية. ودعوة وطنية أو سياسية، وهي تنحصر في مطالبة أصحاب السلطة فيهم بما يرقي بلادهم ويحفظ حقوقهم فيها ولا علاقة لهذه الدعوة بالدين بل كثيراً ما تخالفه"(2).
__________
(1) مجلة المنار، م10، 3/219.
(2) المصدر السابق نفسه.(1/277)
…فعلى هذا الأساس ينبغي أن يفهم إصلاح القوم. فإذا سمعت مركّب الجامعة الإسلامية، فلا يعنون منه ما يتبادر إلى الأذهان منه وهي توحيد المسلمين في دولة واحدة ضد دول الكفر المستعمرة في العالم. بل تفهم أنها مجرد شعار، أو مجرد أناشيد تستمال بها نفوس لتعظيم القائل. ومن لم يع هذا فهو ببدائه الأمور أجهل. لأنه لا يعقل أن تكون عقيدة القوم ومذهبهم كما أسلفنا من البعد عن الإسلام ويعملون لجمع المسلمين في دولة واحدة. وهم ينطلقون من دول تحت نفوذ الاستعمار وبحماية الاستعمار في دار الحرب. ودولة المسلمين قائمة على مقربة منهم تحاربهم ويحاربونها. وكذلك ينبغي أن يفهم معنى مجلة إسلامية، وجريدة إسلامية، فهي تعني أنها تُعنى بشؤون البلاد الإسلامية أو بشؤون المسلمين في البلاد الإسلامية فتتحرى أخبارهم ولا يعني أنهم يرعون شؤون هذه البلاد على أساس الإسلام. وكذلك قولهم دولة إسلامية فلا تعني الدولة التي تطبق الإسلام وتحمله للعالمين. بل تعني دولة قائمة في بلاد الإسلام ولو كان دستورها ينطق بالكفر.
…وعلى هذا الأساس ينبغي أن تفهم جميع شعاراتهم المختلفة ومصطلحاتهم الكثيرة كما مرّ معنا لمصطلح الكفر، الدين، الإيمان، الإسلام، الوحي، والوطنية والخيانة. فهم لم يفرغوا هذه المصطلحات من معانيها فحسب بل وضعوا لها معاني من عند أنفسهم. وهذا هو تحريف المصطلحات، واللعب عليها كان أسلوباً مميزاً لمن يضعون الشوائب في القرن الرابع عشر الهجري. وفيه ما فيه من الجرأة على دين الله في تحويل المعاني الشرعية التي حددها القرآن الكريم إلى معان من عند أنفسهم لا تمت للإسلام بسبب ولا نسب.
…وفي هذا القدر كفاية لبيان هذا الأسلوب الذي دخلت منه شوائب جمة أطاحت بمفاهيم الإسلام الأساسية. فنسأل الله العافية.(1/278)
الفصل الثالث :شوائب التفسيرفي شؤون العقيدة
المبحث الأول : شوائب التفسير في المغيبات ومعجزات الأنبياء.
المبحث الثاني : شوائب التفسير في خلق الإنسان ونظرية دارون.
المبحث الثالث : شوائب التفسير في القصص القرآني.
المبحث الأول
شوائب التفسير في المغيبات ومعجزات الأنبياء
…يعد الإيمان بالغيب من مميزات العقيدة الإسلامية، وصبغة باهرة تصبغ الدين الإسلامي، فجاءت شوائب التفسير ولوثت هذه الصبغة، وهدمت هذا الركن من الدين. ويمكن جمع وضبط ما سمي تفسيراً للقرآن افتراءً عليه من هذه الناحية بالخطوط الرئيسية الآتية:
إنكار معجزات الأنبياء عليهم السلام بالتأويل الذي يزيل عنهم صفة الإعجاز مما يقدح في نبوة من جرت على يديه تلك المعجزة، زاعمين أنها تنافي السنن الكونية الإلهية، ومنها معجزات عيسى وموسى وسليمان -عليهم السلام-. والبقرة، والذي أماته الله مائة عام، والإسراء والمعراج بالروح والجسد جميعاً ونحوها.
إنكار مخلوقات من عالم الغيب ثبتت بالأدلة القطعية. وأجمع عليها المسلمون قاطبة من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يومنا هذا. وأوّلوها تأويلاً أخرجها عن مدلول خطاب الشارع الوارد في القرآن الكريم، ومنها: الملائكة، والشياطين، والجن، وعذاب النار، ونعيم الجنة، والكرسي، والعرش، والسماوات، ونحوها.
جعل العلم والعقل دليلاً على بعض المغيبات. وهذا يقتضي من يسلم بهذا الدليل عليه أن يرتضي ما ينكره العقل والعلم من المغيبات.(1/279)
أولاً: الكلام في معجزات الأنبياء:
…المعجزة(1): هي أمر خارق للعادة يخلقه الله تعالى على يد مدّعي النبوة تحدياً للناس، وإلزاماً لهم بصحة دعوته. وذلك ليحوط الله تبارك وتعالى منصب النبوة، ويصونه من زعم الأدعياء، وافتراء المفترين، وتأييداً لأنبيائه ورسله بما هو ليس في مقدور البشر. والمعجزة سنة إلهية يخرق بها الباري سنن الكون، ونظم الحياة، وخواص الأشياء للدلالة على نبوة إنسان أو رسالة رسول. وكأنها تقول للناس: صدقوا هذا النبي بكل ما يبلغ عن الله تعالى. فها هو قد جاء بما عجز عنه الناس أجمعون رغم تحديه لهم، وقد خرقت على يديه السنن الكونية المستحيل خرقها حسب العرف والعادة، أو عطلت خواص الأشياء وقوانين الحياة لأجله. ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى.
…وقد وضع القرطبي خمسة شروط للمعجزة فإن اختل منها شرط واحد لا تكون معجزة وهي:
أن تكون مما لا يقدر عليها إلا الله سبحانه.
أن تخرق العادة.
أن يستشهد بها مدّعي الرسالة على الله عز وجل.
أن تقع على وفق دعوى المتحدي بها المستشهد بكونها معجزة له.
أن لا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدي على وجه المعارضة(2).
__________
(1) عرف السيوطي المعجزة:: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة، وهي إما حسيّة، وإما عقلية، 2/148. الإتقان للسيوطي، طبعة مصطفى الحلبي، نشرته دار المعرفة، بيروت، ط4، 1398هـ - 1978م، وانظر تعريف واقع المعجزة عند ابن خلدون، ص 93، المقدمة، ط4، 1398هـ - 1978م.
(2) القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن صححه أحمد عبد العليم البردوني، 1/69-71، ط2، 1372هـ-1952م.(1/280)
…والمعجزة بمثابة المنبه لما جبلت عليه الفطر، ودليل قاطع، وحجة بالغة على عظمة الخالق، وعلى نبوة من يجري على يديه خرق سنن الكون والتحدي بهذا الاختراق، وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون المعجزة هي سبيل النبوة يستحيل أن يبلغها أي فرد من الناس ببشريته مهما سمت مداركه وارتقت مواهبه، ومهما بلغت عبقريته، وصفت فطرته، وكمل استعداده. قال ابن خلدون: "إن الغيب لا يدرك بأمر صناعي البتة"(1).
__________
(1) ص 113، 117، مقدمة ابن خلدون.(1/281)
…فإنكار المعجزة سواء بالنفي التام أم بالتأويل الذي يخرجها عن حد الإعجاز يعد إنكاراً للدليل القاطع على صحة رسالة الرسل، ونبوة الأنبياء عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم. وإبقاء دعواهم مجردة عن كل حجة فلا توجب على الناس تصديقهم فيها وإلزامهم بها. ولذلك طلب فرعون من موسى فقال له: { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } (1)، فأجابه موسى عليه السلام إلى طلبه، ولم يراجعه في صحة اقتراحه { فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ } (2).وهكذا اقترنت دعوى الرسالة بالمعجزة ومن يتدبر القرآن يجد أن خرق نواميس الكون هي المعجزة بحد ذاتها. وأنها حطمت قانون الأسباب والمسببات، والمعلولات وعللها، والغايات ووسائلها، فخلق آدم وزوجه، وميلاد عيسى لم يكن على سنن الكون من تلقيح الذكر للأنثى . وإشفاء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى الذي جرى على يد عيسى عليه السلام كل ذلك لم يكن على سنن الكون، وقلب الجماد (العصا) كائناً حياً يبتلع حبال السَّحَرة، وضرب الحجر بالعصا، وانفجار الماء منه، وضرب البحر بالعصا، وتكوين طرق من اليابسة في عرض البحر يجري عليها موسى وأتباعه، كل ذلك ليس من نواميس الكون. وقطع المسافات الشاسعة بسرعة البرق أو يزيد، وانطاق الحجر، وتكلم الحيوان الأعجم، وتوقف النار عن الإحراق والسكين عن القطع، كل ذلك جرى على سنة إلهية اخترقت سنن الكون ونواميس الطبيعة بأدلة قطعية لا مجال للمراء فيها. وهي تدل على عظمة الخالق، وعلى صدق مدّعي النبوة.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 106.
(2) سورة الأعراف، الآيات: 107، 108.(1/282)
…وجاءت شوائب التفسير بين نافية البتة لهذه المعجزات، وبين متؤوّلة تأويلاً نزع الإعجاز منها رغم تلك الكثرة الفياضة من الحجج والبراهين الدامغة، والدلائل القاطعة من الكتاب والسنة، وإليك نماذج من شوائب التفسير حيث جاءت هذه التأويلات متحللة من دلالة اللغة. ومحكومة بالهوى والتشهي، ومنسلخة من تقييد الألفاظ بمعانيها التي وضعت لها حتى لو سميت البقرة طائراً، والإنسان حماراً، أو بالعكس لم يكن عليك في ذلك أي بأس. وليتكلم من شاء بما شاء. تلك هي شوائب التفسير لا تعبأ بقوانين اللغة، ولا تراعي لأوضاع اللغة حرمة، ولا تعير لإجماع المسلمين انتباهاً، ولا ترجو لدين الله وقاراً.
المعجزات في تفسير المنار(1/283)
…قسم الشيخ رشيد المعجزات بحسب مظهرها إلى قسمين، الأول: معجزات تكوينية لا يعرف لها سنة إلهية يجري عليها فهو يشبه الأحكام الاستثنائية في قوانين الحكومات أو ما يكون بإرادة سنية من الملوك لمصلحة خاصة – ولله المثل الأعلى(1) – وذكر منها الآيات التسع لموسى عليه السلام، والآيات التي ظهرت في أثناء خروجه ببني إسرائيل والتيه(2). والقسم الثاني: يقع بسنة إلهية روحانية لا مادية(3). وأدخل فيها معجزات عيسى عليه السلام، وتحضير الأرواح، وإشفاء الصرع من مس الشيطان وقراءة الأفكار ومراسلتها. فلم يحصرها في الأنبياء بل أشرك معهم الروحانيين الكفار من الهنود وغيرهم، وكذلك متصوفة المسلمين، ومما قاله: "وأما المسيح عليه السلام فالآيات التي أيده الله تعالى بها – على كونها خارقة للعادات الكسبية وعلى خلاف السنن المعروفة للناس – قد يظهر فيها أنها كلها أو جلها حدثت على سنة الله في عالم الأرواح كما كان خلقه كذلك، فقد حملت أمه به بنفخة من روح الله عز وجل فيها، وهو الملك جبريل عليه السلام، كانت سبب علوقها به يفعلها في الرحم ما يفعل من تلقيح الرجل بقدرة الله عز وجل، فلا غرو إن كانت مظاهر آياته أعظم من مظاهر سائر الروحيين من الأنبياء والأولياء كالكشف وشفاء بعض المرضى وغير ذلك من التأثير في المادة الذي اشتهر عن كثير منهم. والفرق بينه وبين الروحانيين من صوفية الهنود والمسلمين أن روحانيته عليه السلام أقوى وأكمل. وأنها لم تكن بعمل كسبي منه بل من أصل خلق الله عز وجل له بآية منه(4). ثم قال: "ودون هذا إحياء الميت الصحيح الجسم القريب العهد بالحياة فإن توجيه سيال روحه القوي إلى جثة الميت مع توجيه قلبه إلى الله عز وجل ودعائه كان يكون سبباً روحانياً لإعادة روحه إليه بإذن الله ومشيئته، كما يمس النور ذبال السراج
__________
(1) 11/233، تفسير المنار.
(2) 11/233، تفسير المنار.
(3) المصدر السابق.
(4) ص 234، المصدر السابق.(1/284)
المنطفئ فتشتعل، أو كما يتصل السلك الحامل للكهرباء الإيجابية بالسلك الحامل للكهرباء السلبية بعد انقاطعها فيتألق النور منها. وقد ثبت عن بعض أطباء هذا العصر إعادة الحياة الحيوانية إلى فاقدها عقب فقدها بعملية جراحية أو معالجة للقلب. ومن دون هذا وذاك شفاء بعض الأمراض ولا سيما العصبية سواء كان سببها مس الشيطان وتلبسه بالمجنون كما في الأناجيل أم غيره، فإن الشيطان روح خبيث لا يستطيع البقاء مع توجه الروح الطاهر الذي هو شعلة من روح القدس جبريل عليه السلام واتصاله بمن تلبس به وقد وقع مثل هذا لشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من الروحانيين"(1). وقال: "ومن دون هذا وذاك المكاشفات المعبر عنها فيما حكاه(2) تعالى عنه بقوله: { وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } (3). وقد أنبأ غيره من أنبياء بني إسرائيل وغيرهم بما هو أعظم من هذا من الأمور المستقبلية، وكذا غيرهم من الروحانيين ولا سيما صالحي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكنها درجات متفاوتة في القوة والضعف، وطول المدة وقصرها، والثقة بالمرئي وعدمها، وإدراك الحاضر الموجود، والغائب المفقود، وما كان في الأزمنة الماضية، وما يأتي في الأزمنة المستقبلية"(4). ثم قال: "ومن المكاشفات الثابتة في هذا العصر ما يسمونه قراءة الأفكار، وقد شاهدنا من فعله، ومنها مراسلة الأفكار. فتبين لهذا وذاك أن آيات الله تعالى المشهورة لموسى (ع.م) بمحض قدرته تعالى دون سنة من سننه الظاهرة في قواه الروحية، وأن آياته لعيسى (ع.م) بخلاف ذلك. والنوع الأول أدل على قدرة الله تعالى ومشيئته واختياره في أفعاله في نظر البشر لبعدها عن نظام الأسباب والمسببات التي تجري عليها
__________
(1) 11/234، 235 المصدر السابق.
(2) هذا التعبير أراه لا يليق في حق الخالق عز وجل لأنه يحمل معنى المحاكاة أو الحكاية.
(3) سورة آل عمران، الآية: 49.
(4) 11/235، تفسير المنار.(1/285)
أفعالهم"(1).
…وهكذا ميّع الشيخ رشيد المعجزة بتقسيمها إلى ما يقع دون سنة إلهية وإلى ما يقع بسنة إلهية روحية لا مادية، والتي لم يحصرها في الأنبياء بل أشرك معهم غيرهم. وكلامه مردود لا يستحق المناقشة لأنه مبني على سفسطة في الكلام، وليس له دليل شرعي. فمعجزات عيسى عليه السلام ومعجزات موسى ومعجزة سيدنا يوسف ما يأكل القوم وما يدخرونه كلها خرجت من مشكاة واحدة ودليلها القرآن القطعي الثبوت القطعي الدلالة. وما زعم من قراءة الأفكار والمكاشفات وأعمال الروحانيين والصوفيين والأطباء لا يمت إلى المعجزة –التي ثبتت بالنبوة- بصلة. والمعجزة للأنبياء السابقين وكتبهم دليلها نقلي وليس عقلياً.
معجزة البقرة في تفسير المنار:
…قالا: "على أن هذا الحكم منصوص في التوراة وهو أنه إذا قتل قتيل لم يعرف قاتله فالواجب أن تذبح بقرة غير ذلول في واد دائم السيلان ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتول أيديهم على العجلة التي كسر عنقها في الوادي، ثم يقولون إن أيدينا لم تسفك هذا الدم، اغفر لشعبك إسرائيل ويتمون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل، ومن لم يفعل يتبين أنه القاتل، ويراد بذلك حقن الدماء فيحتمل أن يكون هذا الحكم هو من بقايا تلك القصة أو كانت هي السبب فيه"(2).
…وقال الشيخ رشيد: "إن ما أشار إليه الأستاذ من حكم التوراة المتعلق بقتل البقرة هو في أول الفصل الحادي والعشرين من سفر تثنية الاشتراع ونصه... وذكر ثمانية نصوص ا.هـ"(3).
…وقال: "والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله ليعرف الجاني من غيره، فمن غسل يده وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برئ من الدم، ومن لم يفعل ثبتت عليه الجناية"(4).
__________
(1) 11/235، تفسير المنار، المصدر السابق نفسه.
(2) 1/347، تفسير المنار.
(3) 1/347-348، تفسير المنار.
(4) 1/351، تفسير المنار.(1/286)
…فالشيخ رشيد جعل نصوص التوراة المحرفة قاضية على القرآن، ويضعّف أن تكون البقرة التي أمر بنو إسرائيل بذبحها أن تكون معجزة إذا ضرب القتيل ببعضها فإنه يحيى ويعترف على الذي قتله فقال: "والآية ليست نصاً في مجمله فكيف بتفصيله"(1)، ورأى أن البقرة من طقوس بني إسرائيل ووسيلة لكشف القاتل على الوجه الذي ذكره حسبما ورد في أسفار التوراة. وجعلها راجحة على ما ورد في القرآن { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (2). وهكذا قلل من شأن المعجزة المادية التي صيّرها رب العالمين على يد موسى عليه السلام.
…وتبعه في هذا التفسير كل من اتخذ المدرسة العقلية الحديثة إماماً له، ومنهم صاحب التحرير والتنوير الشيخ محمد الطاهر بن عاشور. قال في تفسير الآية نفسها: "فالذي يظهر لي أنهما قصتان أشارت الأولى وهي المحكية هنا إلى أمر موسى إياهم بذبح بقرة وهذه هي القصة التي أشارت إليها التوراة في السفر الرابع وهو سفر التشريع الثاني (تثنية) في الإصحاح 21 أنه إذا وجد قتيل لا يعلم قاتله فإن أقرب القرى إلى موقع القتيل يخرج شيوخها ويخرجون عجلة من البقر لم يحرث عليها ولم تنجُر بالنير فيأتون بها إلى واد دائم السيلان لم يحرث ولم يزرع ويقطعون عنقها هنالك ويتقدم الكهنة من بني لاوي فيغسل شيوخ تلك القرية أيديهم على العجلة في الوادي ويقولون لم تسفك أيدينا هذا الدم، ولم تبصر أعيننا سافكه فيغفر لهم الدم" ا.هـ. وقال: "وكيفما كان فهذه بقرة مشروعة عند كل قتل نفس جهل قاتلها وهي المشار إليها هنا"(3).
__________
(1) 1/351، تفسير المنار.
(2) سورة البقرة، الآية: 73.
(3) انظر 1/546-547، تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر 1984م.(1/287)
…وهكذا لزم الشيخ محمد طاهر بن عاشور غرز أصحاب تفسير المنار في هذه القضية وجعل ذبح البقرة سنة متبعة عند بني إسرائيل في حالة القتل وليس أمراً إلهياً لهم في تلك الواقعة.
معجزة البقرة في تفسير أبي زيد الدمنهوري:
…فقال: "بقرة بتاء الوحدة، وسؤالهم عن الصفات دليل على أنهم فهموا أن المقصود ذبح الصنف الذي كانوا يعبدونه ويقدسونه"(1). ولو كان التفسير كما قال لما سألوا بعد الأمر بذبح البقرة أي سؤال.
معجزة البقرة في رسالة الفتح:
…قال: "معنى بقرة طائر فقد رأى العزيز في المنام سبع طيور سمان يأكلهن سبع طيور عجاف والتي سماها المحرفون بقرة. واستقام لسان العرب على المعنى المحرف بعد الجيل الثالث الإسلامي"(2). وقال: "وموسى قال لقومه إن الله يأمركم أن تقدموا قرباناً لله بقرة أي دجاجة. فالطائر (بقرة) لأنه كاشف وخالص ويتعدى كل حاجز، والقربان لله يكون ذا قيمة غالية"(3). وهذا كله من شوائب التفسير لأنه لا تحتمله النصوص، ولا يستند إلى اللغة.
معجزة البقرة في قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار:
…فقال: "إن المفسرين يذكرون أن القتيل ضرب بجزء من البقرة فحيي وأخبر بقاتله فأخذ وقتل ويذكرون للبقرة حكايات وروايات وغرائب ما أنزل الله بها من سلطان. أما قولهم إن القتيل ضرب ببعض البقرة وأخبر بقاتله فهذا شيء زائد على ما نص في كتاب الله تعالى"(4).
__________
(1) الدمنهوري، محمدأبو زيد، الهداية والعرفان في تفسير القرآن، ص 10.
(2) فراج، عبد الرحمن، رسالة الفتح، ص 10.
(3) فراج، عبد الرحمن، رسالة الفتح، ص 12.
(4) النجار، عبد الوهاب، قصص الأنبياء، 283، ط3، دار الجيل، بيروت.(1/288)
…وقال: "وكل ما قصّوه في هذا الموقف في كتبهم ليس إلا إسرائيليات تلقفها أولئك المفسرون من مسلمة أهل الكتاب أمثال كعب الأحبار، ووهب بن منبه الذين لا يبالون بما ينسبونه إلى كتاب الله التوراة. والتوراة خالية منه بالمرة. وقد أفاضوا على المسلمين ثرثرة من تلك الإسرائيليات التي لم ينزل الله بها سلطاناً ولا يمكن أحداً من المسلمين أن يجعلها برهاناً على أمر من الأمور"(1).
…وقال: "إذا فرضنا المستحيل في العادة وأن القتيل حيى وأخبر بقاتله. فما فائدة ذلك؟ إنا نعلم أن القتيل إذا أحيي بعد قتله كان حكمه حكم سائر الناس فهو مخاطب بأحكام الشرع فإذا شهد فلا تقبل شهادته وحده بل لا بد من قيام نصاب الشهادة.. فلا بد من شاهد آخر"(2).
__________
(1) المصدر السابق، ص 284.
(2) النجار، عبد الوهاب، قصص الأنبياء، ص 285.(1/289)
…وهكذا نصّب الشيخ عبد الوهاب النجار من عقله الحر فاروقاً على القرآن مع أن نص القرآن واضح لا لبس فيه { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (1). فهي معجزة مادية خاصة بتلك الواقعة في بني إسرائيل. ثم في نهاية المطاف أقر ما جاء في التوراة مما ساقه الشيخ رشيد والشيخ محمد الطاهر بن عاشور(2). وجعل الأمر شريعة معدّة في التوراة لبني إسرائيل لأن تتبع في النوازل والوقائع. وشبهه بما يحدث عند الأعراب في البلاد المصرية إذا قتل عندهم قتيل لا يعلمون قاتله واتجهت التهمة إلى قوم آخرين، أرسلوا إليهم رسولاً يقول لهم: إن دمنا عندكم فاذبحوا لنا ذبيحة، فإذا فعلوا جاء أولياء الدم وأقسم المتهمون يمين القسامة أنهم لم يقتلوا ذلك القتيل ولا يعلمون قاتله، ثم يسوى لهم لحم الذبيحة فيأكلون ويأمن بعضهم بعضاً وتثبت براءتهم من القتيل، يقولون الدم يمسح العيب"(3).
…وهكذا جعل الشيخ عبد الوهاب أن القصة القرآنية حسب النصوص غير معقولة ولا مقبولة، وآثر ما ورد من التوراة مع افتقاره للقطيعة. وصوّر المعجزة بعادة موروثة عند المصريين.
…والغريب العجيب أن الشيخ عدّ ما قاله المفسرون المسلمون إسرائيليات، وشكك في نزاهة بعض الصحابة، وفي الوقت نفسه استشهد بنصوص التوراة وكأنها ليست إسرائيليات. وأستطيع أن أحكم بعد قرائتي لجميع ما كتب في تفسير الآية أن كتاباته هذه أقرب إلى الخواطر منها إلى التفسير، وهي أفكار تستحوذ على ذهنه، وليست بياناً لمعنى كلام رب العالمين، ولا أدلّ على ذلك من خلوصه من هذه القصة إلى أهمية علم النفس الجنائي(4).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 73.
(2) المصدر السابق، ص 296، 297، وقال في الهامش: وهذا نصها من أول الإصحاح الحادي والعشرين وسفر التثنية.
(3) المصدر السابق، ص 297، 298.
(4) المصدر السابق، ص 312، 313.(1/290)
معجزة البقرة في تفسير الجواهر:
…فقد خلص إلى أن العلم والحكمة تكمن في أن الآية تقرر تحضير الأرواح والتنويم المغناطيسي فقال: "وإما علم تحضير الأرواح فإنه من هذه الآية استخراجه، إن هذه الآية تتلى والمسلمون يؤمنون بها حتى ظهر علم تحضير الأرواح بأمريكا أولاً ثم بسائر أوروبا ثانيا"(1).
…ثم جعل طريقة استحضار الأرواح هي الطريقة الثانية للإيمان بالله وجعل قصة البقرة رمزاً إلى استحضار الأرواح فقال: "وكأن القرآن يقول: إذا قرأتم ما جاء عن بني إسرائيل في إحياء الموتى في هذه السورة عند أواخرها فلا تيأسوا من ذلك فإني قد بدأت بذكر استحضار الأرواح فاستحضروها بطرقها المعروفة(2) { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } (3).
معجزة البقرة في تفسير روح المعاني:
…وعدّه من باب الإشارة فقال: "إن البقرة هي النفس الحيوانية حين زال عنها شَرْهُ الصبا ولم يلحقها ضعف الكبر، وكانت معجبة رائقة النظر لا تثير أرض الاستعداد بالأعمال الصالحة، ولا تسقي حرث المعارف والحكم التي فيها بالقوة بمياه التوجه إلى حضرة القدس والسير إلى رياض الأنس، وقد سلمت لترعى أزهار الشهوات، ولم تقيد بقيود الآداب والطاعات فلم يرسخ فيها مذهب واعتقاد.. وذبحها قمع هواها ومنعها عن أفعالها الخاصة بها بشفرة سكين الرياضة.. إلى أن قال وهذا الذبح هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر، وعقباه الحياة الحقيقية والسعادة الأبدية"(4).
__________
(1) جوهري طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن، 1/82، 83، ط2، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
(2) جوهري طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن، 1/89.
(3) سورة الأنبياء، من الآية: 7.
(4) الألوسي، أبو الفضل، شهاب الدين، السيد محمود، روح المعاني تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، 1/294، 295، دار إحياء التراث العربي، ط4، بيروت، 1405هـ - 1985م.(1/291)
…مما تقدم نستطيع أن نحكم أن شوائب التفسير في القرن العشرين قللت من شأن المعجزة بإحياء قتيل بضربه ببعض بقرة ميتة، وأولت النصوص بما لا تحتمله وجعلت الرمز والإشارة وسيلة لإيصال أفكار في رؤوس أصحابها إلى القارئ تحت اسم التفسير. فاشتط بعضهم وقال إنه طائر، وادعى آخر أنها تدعو لاستحضار الأرواح، وآخر دعا إلى ضرورة علم النفس الجنائي، وآخر رأى أن التفسير الصحيح إسرائيليات نفَّر منها. ودعا إلى ما ورد في التوراة، فأعلى شأنها، وقدّمها على نص القرآن، إلى غير ذلك من الشوائب مما لا يجوز أن يعد تفسيراً لكتاب الله العزيز إذا كنا منصفين.
…والصواب في المسألة أن قتيل بني إسرائيل كان معجزة وأخبر تعالى أنه يحييه، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبراً جزماً لا يدخله احتمال، فتختلف قصته وحكمها عن غيرها في السابق واللاحق(1).
معجزة عصا سيدنا موسى عليه السلام:
__________
(1) وهو رأي القرطبي، انظر الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد الأنصاري القرطبي، 1/457.(1/292)
…لقد جرت بعض المعجزات لسيدنا موسى عليه السلام بواسطة عصاه حيث أودع الله جلّت قدرته فيها خصائص تخرق سنناً أخرى في الحياة مع أنها كانت عصا عادية استعملها سيدنا موسى قبل النبوة فكان يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، ولم تكن عصا سحرية، ولم تكن من الجنّة، ولم تخلق ابتداءً خلقاً خاصاً، ولم تكن جنّاً مسخراً لسيدنا موسى بصورة عصا، ولا شيئاً من هذا كله. بل كانت عصا عادية لا عجبة ولا غرابة فيها، فحوّلتها قدرة الله تعالى لصنع المعجزات، فضرب موسى عليه السلام بها الحجر وليس الصخرة أو الجبل، بل الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بعدد الأسباط، وعلم كل سبط مشربه ولا خصوصية للحجر المضروب لعدم ورود دليل على هذه الخصوصية، بل الخصوصية تكمن في ضرب موسى الحجر بعصاه، أي حجر. وألقى موسى عليه السلام عصاه في جمع عظيم من الناس من بني إسرائيل يوم الزينة في مقام التحدي لفرعون وسحرته وقدرتهم فتلقفت ما يأفك السحرة من حبال وعصي، وخيّل للخلق العظيم المشاهد لواقعة التحدّي أن إفك السحرة يسعى. فأزال مقدرتهم، وأبطل سحرهم بمجرد إلقاء سيدنا موسى عصاه على الأرض فظهرت قدرة الله تعالى، وتجلت للخلق. وأيقن السحرة أن هذه قدرة لا تكون من مخلوق، فسارعوا للإيمان برب موسى، وبدعوة موسى دون أن يجعلوا لفرعون أدنى اعتبار في هذا المقام. ووردت الشوائب في هذا القرن بأساليب شتّى تهوّن من أمر هذه المعجزة المادية التي ذكرت بأدلة قطعية الثبوت قطعية الدلالة.(1/293)
…فأوَّل أصحاب الشوائب ووسعوا دائرة التأويل حتى أخرجوا المعنى عن مقام المعجزة، ومن ذلك ما أتى به الشيخ رشيد من تأويله للحجر بأنه الصخرة معتمداً على ذلك بما ورد في سفر الخروج، تزعم أنه مجرد حجر مخصوص له صفات تميزه عندهم ككونه صلباً أو عظيماً تتسع مساحته لتلك العيون ويصلح أن تكون منه موارد لتلك الأمم. وهذا يعارض منطوق الآية الذي جاء بالتنكير (حجر) أي حجر المعنى حتى تكون معجزة أبلغ في الدلالة على نبوة النبي(1).
…كما رجح الشيخ رشيد أن التقام عصا موسى لحبال السحرة وعصيّهم أنها مأخوذة عن اليهود من سفر الخروج(2). مع أن نص القرآن، صريح لا يحتمل التأويل وهو قطعي الدلالة.
__________
(1) انظر 1/326، تفسير المنار.
(2) 9/68، تفسير المنار.(1/294)
…وأسس الشيخ رشيد لفرية أن العصا لم تصنع معجزة وهي رمز للإشارة. والكناية عن الحجة، فجعل "ما" مصدرية في قوله تعالى: { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } (1). وليست اسماً موصولاً فقال: "وينافيه كونها مصدرية إذْ المعنى عليه أنها تناولت عملهم هذا فأتت عليه بما أظهرت بطلانه"(2). وقال: "فالذي بطل كان عملاً عملوه وكيداً كادوه، وليس شيئاً مادياً أوجدوه"(3). واستشهد بقول ابن عربي فقال: "قال الشيخ محيي الدين بن عربي ما معناه أو محصله على ما نتذكر أن إبطالها لسحر السحرة أنه ترتب على إلقائها أن رأى الناس تلك الحبال والعصي على أصلها ولو ابتلعتها لبقي الأمر ملتبساً على الناس إذ قصاراه أن كلا من السحرة وموسى قد أظهر أمراً غريباً ولكن أحد الغريبين كان أقوى من الآخر فأخفاه على وجه غير معلوم ولا مفهوم. وهذا لا ينافي كونهما من جنس واحد"(4). ولكن زوال غشاوة السحر وتخييله حتى رأى الناس أن الحبال والعصي التي ألقاها السحرة ليست إلا حبالاً وعصياً لا تسعى ولا تتحرك"(5). وقال: "وكل ما في الأمر أن عصا موسى أزالت هذا التخييل بسرعة وهو معنى اللقف"(6). أي أن الشيخ رشيد ينفي الناحية المادية عن فعل السحرة فتنتفي المعجزة المادية التي أبطلت الفعل المادي، فيصبح المراد والمعنى: الحجج والبراهين العقلية. وهذا هو التأسيس لإلغاء أو إنكار المعجزات المادية لنبي الله موسى عليه السلام، وسواء أكان النفي للمعجزات المادية بالكلية أم بالتأويل فهو تحريف لمعنى كلام رب العالمين، وهو من الشوائب التي ينبغي إخراجها من التفسير.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 117.
(2) 9/68، تفسير المنار.
(3) المصدر السابق، 9/69، تفسير المنار.
(4) تفسير المنار، 9/68.
(5) 9/68، 69، تفسير المنار.
(6) المصدر السابق نفسه.(1/295)
…هذا ولم يسلم مفهوم العدد في الآية من الشوائب، فالآية حددت اثني عشر سبطاً ولكن الشيخ رشيد جعل عددهم مليونين حسبما ورد في سفر العدد من التوراة. ورغم أنه ساق تشكيك ابن خلدون بهذه الروايات في مقدمته إلا أنه قال: "ولكن لا يمكن الشك في أنهم كانوا ألوفاً كثيرة أو عشرات الألوف"(1).
…والنص القرآني يقول حجر ولكن الشيخ رشيد يقول: "فلا بدّ أن تكون مساحة ذلك الصخر واسعة جداً، وأن يكون السهل أمامه أفيح ليسع الألوف من الأسباط يردون ويصدرون"(2).
…فالشيخ رشيد ينافح عما ورد في التوراة من أعداد، وليته يقف الموقف نفسه مع القرآن والسنة. وهو في الوقت نفسه يعيب على المفسرين أخذهم من الإسرائيليات وكأن ما يأتي به ليس إسرائيلي المصدر مع تصريحه بأنه من التوراة ومن سفر العدد.
معجزة العصا في تفسير أبي زيد الدمنهوري:
…قال في تفسير قوله تعالى: { اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } (3). أن الضرب معناه: اطرقه واذهب إليه. أي الضرب في الأرض بمعنى ابتغاء الرزق والبحث عنه.
…وأوّل ما نتج عن فعل موسى بضربه البحر بالعصا أنه بيان لحالة البحر وتصويره بأنه مناطق طرق ناشفة ويابسة. وزاد على ذلك بأن آيات الله في نصر أنبيائه لا تناقض سنته في خلقه وكونه(4). وفي هذا تأكيد على نفي المعجزة. فالمعجزة المادية تعني قوة الحجة وظهور البرهان. والمعجزة المادية عنده من قبيل الرمز والإشارة، بمعنى أعدّه وهيأه للانتصار بقوة الحجة غير المادية(5).
__________
(1) 9/367، تفسير المنار.
(2) المصدر السابق.
(3) سورة الشعراء، الآية: 63.
(4) ص 290، الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن، أبو زيد الدمنهوري، وانظر ص 126، في تفسير الآية 160 من سورة الأعراف، وانظر ص 296.
(5) ص 269، الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن، أبو زيد الدمنهوري، وانظر ص 126، المصدر نفسه.(1/296)
…وقال عند قوله تعالى: { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا } (1): اطرقه والمقصود من الآية أن الله هداه إلى الطريق اليبس في ظلال ذلك الماء الكثير(2). وهذا كله من شوائب التفسير لأنه يفتقر إلى السند الشرعي واللغوي.
مسخ بني إسرائيل قردة في تفسير المنار:
…يرى الشيخ رشيد أن المسخ معنوي (صوري) لا حقيقي لبني إسرائيل الذين عصوا الله في مخالفة أمره بنهيهم عن الصيد في يوم السبت. ويرى أن الأمر (كونوا) للتكوين وليس للإيجاد بأن يكونوا حقيقة قروداً، (أي فكانوا بحسب سنة الله في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس). وكل ما في الأمر أن كلام الناس صاروا يحتقرونهم ولا يرونهم أهلاً لمجالستهم ومعاملتهم. واستشهد برواية مجاهد رواها ابن جرير وابن أبي حاتم أنه قال: "ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار"(3). ولكن الشيخ رشيد لم ينقل لنا ما ذكره الطبري أنه ردّ رواية مجاهد هذه فقال: "وهذا القول الذي قاله مجاهد، لظاهر ما دلّ عليه كتاب الله مخالف. وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت" وقال الطبري لمن ينكر مسخ عصاة بني إسرائيل قردة: "ومن أنكر شيئاً من ذلك وأقر بآخر منه، سئل البرهان على قوله وعورض فيما أنكر من ذلك" بما أقر به، ثم يُسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح. هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نَقلته مجمعة عليه. وكفى دليلاً على فساد قولٍ إجماعها على تخطئته"(4).
__________
(1) سورة طه، الآية: 77.
(2) ص 248، المصدر نفسه.
(3) انظر 1/343، 344، تفسير المنار، ورواية مجاهد هي الأثر 1143، 1144، 2/172، تفسير الطبري تحقيق محمود وأحمد شاكر، طبعة دار المعارف بمصر، ط2، وانظر، 1/332، طبعة دار الفكر، 1405هـ-1984م.
(4) 2/173، تفسير الطبري، طبعة دار المعارف، تحقيق محمود وأحمد شاكر.(1/297)
أي أن أبا جعفر الطبري يبيّن فساد هذا الرأي بإجماع من يعتد برأيهم على تخطئته. فيكون الشيخ رشيد التقط رأياً مخالفاً للإجماع في تفسير الآية، وتبناه ونافح عنه. وأما رواية ابن عباس عند الطبري فهي مسخ على الحقيقة وبتفصيل واضح(1). فقد أهملها الشيخ رشيد مع أنها تنسجم تماماً مع منطوق النصوص.
…وقال تلميذه الشيخ أبو زيد المنهجوري: "الغرض أنهم أخذوا صفات القردة بالتفاني في الشهوات والعتوّ في العصيان"(2).
…وذهب الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره إلى ما ذهب إليه الشيخ رشيد فقرر أن الأمر (كونوا) للتكوين وليس للإيجاد وأن الآية ليست صريحة في المسخ. وقال: "ومعنى كونهم قردة أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها، وأخذوا بصورة الألفاظ فقد أشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات، فلم يتميّزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني، وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه. وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات"(3).
__________
(1) 2/170، تفسير الطبري، طبعة دار المعارف، تحقيق محمود وأحمد شاكر.
(2) ص10، الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن لأبي زيد الدمنهوري.
(3) 1/544، تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية.(1/298)
…وهذه الشائبة تقلب صورة التفسير بالكلية وسار على المنوال نفسه جمال الدين القاسمي في الشام فقال: "أي صاغرين مطرودين مبعدين عن الخير أذلاء. وقال: وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً. وقال: وهكذا قال القاشاني (كونوا قردة) أي مشابهين الناس في الصورة وليسوا بهم(1). إلى أن قال: "والحاصل أن من غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات، ورسخ فيه بحيث زال استعداده، وتمكّن في طبعه، وصار صورة ذاتية له، صار طبعه طبع ذلك الحيوان، ونفسه نفسه، فصارت صفته صفته"(2). والقاسمي جعل المسألة خلافية ورجح رأي الباطني القاشاني، وهو رأي الشيخ رشيد نفسه.
…وأما الشيخ عبد الكريم الخطيب فقد اغتنم فرصة ذكر المسخ لتأييد نظرية دارون في النشوء والارتقاء فقال: "وأن الإنسان كما انتقل صاعداً من قرد إلى إنسان، كذلك رُدَّ نازلاً من إنسان إلى قرد. وزعم أن كلمة (خاسئين) تقوي هذا الرأي(3). ثم قال: "ومعنى (خاسئين) مبعدين، مطرودين من عالم الإنسان، مردودين إلى عالم الحيوان، وإلى فصيلة القردة منه، التي هي أعلى مراتب الحيوان وأوّل مراتب الإنسان الحيوان"(4).
…وأما الشيخ طنطاوي جوهري فجعل المسخ في الأعمال فقال: "فمسخوا قردة في أعمالهم وصاروا في صورة إنسانية ونفوس قردية كما هو شأن المقلدين في الباطل الغافلين الذين لا يفكرون"(5).
__________
(1) القاسمي، محمد جمال الدين، 1/150، تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل، دار الفكر، بيروت، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
(2) ص 151، المصدر السابق.
(3) انظر 1/94، التفسير القرآني للقرآن، د. عبد الكريم الخطيب.
(4) ص 95 المصدر السابق نفسه.
(5) 1/76، الجواهر في تفسير القرآن، طنطاوي جوهري.(1/299)
…أي أن الشيخ طنطاوي جوهري لا يرى أن المسخ كان على الحقيقة والواقع. وهذه الآراء كلها تلتقي مع آراء المعتزلة إن لم تكن تقليداً لهم. قال الزمخشري في كشافه: (قردة خاسئين) خبر إن، أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء وهو الصغار والطرد"(1). فالقردية حدد معناها بالصغار والذل. وليس بالمعنى الحقيقي الذي يدل عليه مفهوم الآية. وهكذا أزالت الشوائب سمة المعجزة عن مسخ العصاة والمذنبين من بني إسرائيل إلى قردة.
…ومن الجدير بالذكر أن الشوائب في القرن العشرين ترى أن العلوم العقلية قد حلت محل المعجزات فقال الطنطاوي جوهري عند قوله تعالى: { يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } (2): "إن خوارق العادات استبدلت في القرآن بالعلوم العقلية كما رأيت في سورة طه"(3).
…وهكذا وردت الشوائب في باقي معجزات الأنبياء المادية، فمنطق الطير الذي عُلِّمه سيدنا سليمان في سورة النمل آية 16 زعم أبو زيد الدمنهوري أنه أمر طبيعي فكل من يربي الطير ويؤلفه يمكنهم أن يتعلموا منطقه، وماذا يريد، ويمكنهم أن يستعملوه في الرسائل وغيرها"(4).
__________
(1) 1/73، تفسير الكشاف لمحمود بن عمر الزمخشري، طبعة دار المعرفة، بيروت، وانظر 1/158، الأساس في التفسير، سعيد حوّى، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1405هـ-1985م، القاهرة.
(2) سورة الأنبياء: الآية: 69.
(3) م5، 10/227، الجواهر في تفسير القرآن، طنطاوي جوهري.
(4) ص 297، الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن، لأبي زيد الدمنهوري.(1/300)
…وجعل السرعة في نقل قصر الملكة إلى حيث يقيم سيدنا سليمان المقصود به الحال والسرعة فقال: "ويحتمل أنه رسمه في الحال أو كان عنده مرسوماً، ولو كان عهد الفتوغرافيا قديماً لصح أن يكون ذلك الرسم بها. وترى أن سليمان يشكر الله على ما في مملكته من العلماء العاملين في كل فن(1). ويرى الدكتور عبد الكريم الخطيب أن رجعة السيد المسيح غير محققة وأن الشك في وقوعها يغلب أي احتمال ينبني على روايات وآثار تقول بها(2).
…وسئل الشيخ محمد عبده عن الدجال فقال: "إن الدجال رمز للخرافة والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها"(3).
…وقال عن النفخ في الصور: "إن النفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق"(4). أي أن الأمر للتمثيل والتخييل وليس على الحقيقة وهذا كله من شوائب التفسير.
النبوة عند محمد إقبال:
__________
(1) ص 266 المصدر السابق نفسه.
(2) انظر تفسير آية 46 من سورة آل عمران، م2، 3/450، التفسير القرآني للقرآن عبد الكريم الخطيب، وهو رأي الشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا في تفسير المنار. انظر 3/317، تفسير المنار.
(3) 3/317، تفسير المنار.
(4) ص6، جزء عم، محمد عبده، طبعة كتاب الشعب، 1409هـ-1989م. تفسير آية 18 من سورة عمّ.(1/301)
…يرى د. محمد إقبال أن النبوة ضرب من الوعي الصوفي يستعمل فيه النبي ما حصّله في مقام الشهود في سبيل توجيه قوى الحياة توجيهاً جيداً. ورغبة النبي في أن يرى رياضته الدينية تتحول إلى قوة عالمية حيّة رغبة تعلو على كل شيء واختبارها ليس إلا اختبار هذه القوى الجنّة التي أوجدها النبي في إطار الحضارة الإنسانية"(1).
…ولا يخفى خطأ التعريف، فقد سلك مسلك جمال الدين الأفغاني حيث عدّ النبوة صنعة يمكن أن يصل إليها المرء بالكسب، وهو مغاير لمفهوم الإسلام عن النبوة، فالله تعالى يختار من عباده من يشاء للنبوة، ويصطفيه من بين خلقه دون أن يكون للنبي أي كسب في الموضوع. ويحصل فجأة فقد اصطفى رب العزة آدم عليه السلام بعد أن خلقه وعلمه، وكما اصطفى عيسى عليه السلام، وهو في المهد، وكما اصطفى سيدنا يحيى وهو صبي وأتاه الحكم مع النبوة صبياً. وكما حدث لسيدنا موسى في طور سيناء عندما وجد ناراً، وكما وقع لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتعبد في غار حراء. فالكسب والاجتهاد لا علاقة لها باختيار آدم وعيسى ويحيى وموسى ومحمد عليهم السلام جميعاً. ولهذا فإن مقولة د. محمد إقبال في النبوة تعد من الشوائب التي ينبغي أن تمحى من التفسير.
__________
(1) ص 170، محمد إقبال وموقفه من الحضارة الغربية، خليل الرحمن عبد الرحمن، رسالة دكتوراة في العقيدة، جامعة أم القرى، مكتبة دار إحياء التراث في جامعة أم القرى، رقم 703، ستانسل، والطالب من البنجاب من مدينة سيالكون. وقد نوقشت الرسالة 1405هـ بإشراف د. محمد قطب. ص 170، عن تجديد التفكير الديني في الإسلام، محمد إقبال، ص 142-144. وانظر محمد إقبال مفكراً إسلامياً لمحمد الكتاني، ص 71-73، حقيقة النبوة عند إقبال.(1/302)
…قال بعض الصوفية: إننا معشر الصوفية أفضل من الأنبياء، لأن اتصالنا بالله تعالى مباشر واتصال الأنبياء به تعالى يحتاج إلى واسطة وهو الملك"(1). ولا يخفى أن هذا زعم بلا دليل، بل ويناقض نصوص القرآن، وفيه تطاول على مقام النبوة. فهو من الشوائب في التفسير بلا ريب. قال خليل الرحمن عبد الرحمن في تفنيد رأي د. محمد إقبال: "دور العقل في الإسلام مقيد بالوحي والأمة الإسلامية مسؤولة أن تحمل رسالة الإسلام في ضوء ذلك الوحي المنزل وليس العقل في المنهج الإسلامي حراً طليقاً في تصرفاته يحرم ما يشاء ويحلل ما يشاء، كما يوهم تفسير إقبال هذا. والواقع أن إقبال متأثر منخذع في رأيه أن العقل حل محل الوحي في العصر الحاضر بأفكار الغربيين"(2).وأقول إن من يربط بين مقولة محمد إقبال هذه وبين مقولة جمال الدين المشهور بالأفغاني في استنانبول بأن النبوة صنعة وقد قدم الفيلسوف على النبي، فمن يربط بين المقولتين ير أنهما تخرجان من نفق واحد. وخلاصة الفكرة أن العقل حل محل الوحي في المرحلة الأخيرة من اكتمال البشرية، وتمام النبوة بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهي من الشوائب الواضحة ولا تمت للإسلام بأي صلة، وأكتفي بهذا القدر من النماذج في تحريف الإسلام وتزييفه في مسألة النبوة ومعجزات الأنبياء عليهم السلام فإنني أظن فيه الغنية لمن يلقي السمع وهو شهيد.
ثانياً: إنكار مخلوقات من عالم الغيب ثبتت بالأدلة القطعية، وأجمع عليها المسلمون وأوّلت تأويلاً باطلاً أخرجها عن مدلول خطاب الشارع، منها:
الملائكة:
__________
(1) ص 172، محمد إقبال وموقفه من الحضارة الغربية، خليل الرحمن عبد الرحمن.
(2) ص 173، المصدر السابق.(1/303)
…قال الشيخ محمد عبده في تفسير المنار: "فكل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده فإنما قوامه بروح إلهي سمي في لسان الشرع ملكاً، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمي هذه المعاني القوى الطبيعية إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة"(1). وقال: "والعاقل من لا تحجبه الأسماء من المسميات"(2). وقال: "يشعر كل من فكر في نفسه ووازن بين خواطره عندما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن في نفسه تنازعاً كأن الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى، فهذا يورد وذاك يدافع، وأحد يقول: إفعل، وآخر يقول: لا تفعل، حتى ينتصر أحد الطرفين، ويترجح أحد الخاطرين، فهذا الشيء الذي أودع في أنفسنا، ونسميه قوة وفكراً –هو في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه، وروح لا تكتنه حقيقتها – لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكاً أو يسمى أسبابه ملائكة، أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حجر فيها على الناس فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة، والسلطان النافذ والعلم الواسع"(3).
__________
(1) 1/268، تفسير المنار.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) 1/268، تفسير المنار، وانظر تفسير المراغي 15/161، وانظر 1/86-87.(1/304)
…فالشيخ محمد عبده يحدد معنى الملائكة من خارج نصوص الوحي. وما دامت الملائكة من عالم الغيب الذي لا يقع عليه الحس فمن الطبيعي أن يكون تعريفه من شوائب التفسير. وإطلاق الأسماء على غير مسمياتها كتسمية الإنسان جاموسة فيه قلب للحقائق، وإلغاء للتفاهم بين الناس، فالملائكة ليست خواطر الإنسان، وليست كل أمر قائم بنظام مخصوص، وليست قوة الفكر ولا أسبابه، بل هي ذوات مستقلة من عالم الغيب خلقها الله تعالى، ولها أعمال مخصوصة منها نقل الوحي من الله تعالى إلى الرسل: { يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } (1). ومنها نصرة الأنبياء والمؤمنين: { أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ } (2). ومنها قبض أرواح العباد وتعذيب العصاة والمذنبين { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } (3). ومنها حفظ أعمال البشر { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } (4) . إلى غير ذلك من الأعمال الموكلة إليهم. ولهذا فرض الله تعالى الإيمان بهم رغم عدم وقوعهم تحت حسّ الناس. وجعل الإيمان بهم أساساً في قبول الإنسان عند الله تعالى. وهو ركن من أركان الإيمان بالإسلام.
__________
(1) سورة النحل، الآية: 12.
(2) سورة آل عمران، الآية 124.
(3) سورة الأنفال، الآية: 50.
(4) سورة ق، الآية: 18.(1/305)
…ويرى الشيخ رشيد أن تفسير الشيخ محمد عبده يقوم على الإيماء والإشارة. ونقول: هذا سبيل دخلت منه الشوائب إلى التفسير، ولا ضابط له، ولا حدود. والأبلغ من هذا أنهما لم يقفا عند حد الجواز لقبول هذا التحريف لمعنى الملائكة بل تعدّاه للوجوب. فقال الشيخ محمد عبده: "ولست أحيط علماً بما فعلت العادة والتقاليد في أنفس بعض من يظنون أنهم من المتشددين في الدين إذ ينفرون من هذه المعاني كما ينفر المرضى والمخدجون من جيد الأطعمة التي لا تضرهم، وقد يتوقف عليها قوام بنيتهم، ويتشبثون بأوهام مألوفة لهم تشبث أولئك المرضى والمخدجين بأضر طعام يفسد الأجساد، ويزيد الاسقام ، لا أعرف ما الذي فهموه من لفظ روح أو ملك؟ وما الذي يتخيلونه من مفهوم لفظ قوة؟ أليس الروح في الآدمي مثلاً هو الذي يظهر لنا في أفراد هذا النوع، بالعقل والحس، والوجدان والإرادة والعمل، وإذا سُلبوا سلبوا ما يسمى بالحياة؟ أوليست القوة هي ما تصدر عنه الآثار فيمن وهبت له، فإذا سمّى الروح لظهور أثر قوة، أو سميت القوة لخفاء حقيقتها روحاً، فهل يضر ذلك بالدين، أو ينقص معتقده شيئاً من اليقين؟(1).
…ثم يعود ليشكك في وجود الملائكة فيقول: "أفلا تزعم أن لله ملائكة في الأرض، وملائكة في السماء؟ هل عرفت أين تسكن ملائكة الأرض؟ وهل حددت أماكنها، ورسمت مساكنها؟ وهل عرفت أين يجلس من يكون منهم عن يمينك؟ ومن يكون عن يسارك هل ترى أجسامهم النورانية تضيء لك في الظلام، أو تؤنسك إذا هجمت عليك الأوهام؟ .." إلى أن يقول: "فإن لم تجد في نفسك استعداداً لقبول أشعة هذه الحقائق، وكنت ممن يؤمن بالغيب، ويفوض في إدراك الحقيقة ويقول { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } فلا ترم طلاب العرفان بالريب.. وهم في إيمانهم أعلى منك كعباً"(2).
__________
(1) تفسير المنار، 1/270.
(2) تفسير المنار، 1/273.(1/306)
…وهكذا أطلق الشيخ محمد عبده على القول بوجود الملائكة أنه زعم رغم أنه يعرف أن الإيمان بها ركن من أركان الإيمان، ومن لم يؤمن به يخرج من هذا الدين. بل عدّ إيمان من لم يؤمن بالملائكة أعلى كعباً ممن يؤمن بوجودها. ومصدر قوله هو تحكيم العقل في أمر لا يقع تحت حس البشر وما ينبغي لهم أن يدركوه بحواسهم.
…وقد أطلق الشيخ رشيد على من عرّف الملائكة بأنهم أجسام نورانية أنهم عبدة الألفاظ(1). وفي الوقت نفسه كال بمكيالين، وجاء بأسوأ خرافة ليثبت ما يزعمه علماء الروح من الإفرنج أن الأرواح البشرية تكون بعد الموت قادرة على التشكل في أجساد تأخذها من مادة الكون كالملائكة والجن.
…وكما يقول الصوفية في الإنس(2) فقال: "قال بعض من شاهد في فرنسا روح امرأة تجسدت: إنها ظهرت أولاً بشكل بخار أو ضباب، ثم تكاثف فكانت جسداً تام الجمال في ثوب أبيض فسألها أن تعطيه قطعة من ثوبها فسمحت له، فقصّها فلم تلبث أن تكون مثلها في موضعها، ثم عرضها على معامل النسيج في باريس، وسألهم هل يوجد مثل هذا النسيج المهلهل؟ قالوا: لا، ولكن يمكن إيجاده إذا طلب. وهذا مثل ما يحكيه صوفيتنا عن الذين يتجردون من أجسادهم تارة، ويتشكلون كابن عربي، ومنهم قضيب البان الذي طلب مرة فوجد مالئاً البيت الذي كان فيه حتى يتعذر خروجه بجسده ذاك، ثم صغر فخرج، ومن لم يصدقها من علماء الكيمياء لأنه لم يشاهد مثله لا ينكر إمكانه"(3).
__________
(1) تفسير المنار، 1/270.
(2) انظر ص 181، 182، الوحي المحمدي، محمد رشيد رضا، ط9، المكتب الإسلامي.
(3) ص 182، الوحي المحمدي، محمد رشيد رضا، وقد سجلها تحت عنوان "البعث الإنساني جسماني وروحاني".(1/307)
…فمثل هذه الخرافات، فإنها لا يجوز أن تكون أدلة على عالم الغيب وهو تشكل الروح من بخار أو ضباب ثم إلى جسد تام الجمال في ثوب أبيض، ولا على شكل قضيب البان. ولا فرق بين الخرافة الأوروبية والخرافة الصوفية، وإن كانت الأخيرة تحسب على الإسلام والمسلمين. والعجيب الغريب أن يسوق الشيخ رشيد هذه الخرافة ليستدل على تشكل الروح (مع أنه استبعد التشكل عن الملائكة) ويرد أحاديث نبوية صحيحة في عودة سيدنا عيسى عليه السلام لأنها ليست متواترة(1). وهذا كله من الشوائب التي دخلت التفسير.
…قال الشيخ عبد الكريم الخطيب في تفسيره عند قوله تعالى: { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ } (2): "ما هذا المدد السماوي ؟ وما هو صورته؟ وكيف يكون عمله في المعركة؟ وهل يكون على هيئة الرجال أم الفرسان، أو بين الرجال والفرسان؟! أم ماذا؟"(3). وبعد هذه التساؤلات أجاب بإسهاب نقتطف منه الآتي: "إن هذا المدد السماوي كان روحاً من عند الله، لبست المؤمنين، وأحاطت بهم، فكانت قوة راسخة في قلوبهم، ودرعاً حصينة على صدورهم، وسيوفاً قاطعة في أيديهم! وما كان لهذه القوى أن تظهر عياناً للناس، وإلا لكانت فتنة لهم، ولكن يجد المؤمنون أثرها في أنفسهم، كما يجد المشركون مس الرعب لقلوبهم"(4).
__________
(1) تفسير المنار، 3/317.
(2) سورة آل عمران، الآية: 124.
(3) م2، 4/575، التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب.
(4) م2، 4/575، التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب.(1/308)
…وقال في موقع آخر لتبرير هذا التصور: "فلو أن الملائكة كانوا هم الذين قاتلوا دون المؤمنين لما كان للمؤمنين فضل في هذه المعركة، ولما كان لهم شرف هذا البلاء الذي أبلوه في هذا اليوم، بل ولما كان من النبي هذا الحال الذي استولى عليه ساعة بدء القتال وهو الذي تلقى وحي السماء بهذا المدد الملائكي فإنه عليه الصلاة والسلام يعلم أن هذا المدد لا يخلي المؤمنين من مسؤولية حمل العبء في لقاء المشركين، وإن كان من ورائهم تلك القوى السماوية التي تظاهرهم"(1).
…وهكذا أطلق الدكتور الخطيب لخياله العنان فنسج حول حقائق عقدية من عالم الغيب ما شاء له الخيال أن ينسجه من عجائب وغرائب فزعم أن الملائكة لبست المؤمنين في القتال ولم تقاتل المشركين مستقلة عن المؤمنين. سائراً بذلك على مفهوم الملائكة عند الشيخين محمد عبده ومحمد رشيد رضا، جاعلاً القضية عقلية مع أنها لا تقع تحت الحس. تلكم هي شوائب التفسير فلا تقربوها.
__________
(1) م5، 9/573، التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب.(1/309)
…وهذا الدكتور مصطفى زيد يسير على المنوال نفسه فيرى أن الخطاب في سورة الأنفال للمؤمنين وليس للملائكة مع أن النص صريح: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } (1). وتساءل د. مصطفى زيد لم اختار الله للعون ألفاً من الملائكة فلم تزد ولم تنقص. ثم ذكر رأي أبي بكر الأصم المعتزلي الذي ينكر قتال الملائكة في معركة بدر مع المؤمنين. وقال: "إن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط، فإذا حضر هو يوم بدر –وجميع الروايات تذكر أنه كان على رأس الملائكة- فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار؟ بل أي حاجة حينئذ إلى إرسال سائر الملائكة..." إلى أن قال: "فكان يجب أن يتواتر ويشتهر بين المسلم والكافر، والموافق والمخالف. وأيضاً لو أنهم كانوا أجساماً كثيفة لوجب أن يراهم الكل، وإن كانوا أجساماً لطيفة هوائية فكيف ثبتوا على الخيول"(2).
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 12.
(2) انظر ص83-91، وبخاصة ص 85، 86، سورة الأنفال عرض وتفسير، د. مصطفى زيد، دار الفكر العربي، 1389هـ - 1970م. وانظر 1/257، 258، تفسير القرآن الكريم كما أفهمه، علي نصوح الطاهر، مطبوع ستانسل ويرى أن الآية تسجيل ما شاع على ألسنة الناس من ظهور الملائكة.(1/310)
…فالدكتور مصطفى زيد تبنى رأي أبي بكر الأصم المعتزلي، وأطلق لعقله الحر العنان في الحكم على عالم الغيب، ولم يتقيد بفهم الأمر كما يدل منطوق ومفهوم الآيات عليه. فشكك في قتال الملائكة مع المؤمنين في بدر، وأنه لا داعي لإنزال ألف من الملائكة فيكفي ملك واحد لإهلاك جيش قريش، وشكك في العدد النازل من الملائكة، كما شكك في ماهية الملائكة، وأصرّ على أن الخطاب للمؤمنين مع أن الملائكة بحاجة إلى تعلم فنون القتال مع البشر، وأن القتال مألوف للعرب قبل الإسلام. قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط: "والذي يظهر أن ما بعد يوحي ربك إلى الملائكة هو من جملة الموحى به، وأن الملائكة هم المخاطبون بتثبيت المؤمنين، وبضرب فوق الأعناق وكل بنان"(1). وإنني أدعو القارئ الكريم للنظر في تفسير المنار، الجزء الثالث، الصفحة الثالثة عشرة بعد المائة ليستيقن أن رأي الدكتور مصطفى زيد يخرج من مشكاة تفسير المنار. وقد ساق موقف الرازي من هذا الرأي فقال: "واعترض الرازي عليه بأن مثل هذا إنما يصدر من غير المؤمنين، وكان يجب أن يرد عليه بما يدفع هذه الحجج أو يبيّن لها مخرجاً"(2).
…وقال الفخر الرازي: "أجمع أهل التفسير والسير على أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار"، ثم قال: "واعلم أن هذه الشبهة إنما تليق بمن ينكر القرآن والنبوة، فأما من يقر بهما فلا يليق به شيء من هذه الكلمات، فما كان يليق بأبي بكر الأصم إنكار هذه الأشياء مع أن نص القرآن ناطق بها. وورودها في الأخبار قريب من التواتر"(3).
__________
(1) 4/47، تفسير البحر المحيط، محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، دار الفكر، ط2، 1403هـ-1983م.
(2) 3/113، تفسير المنار، وانظر ص 85، 86، سورة الأنفال عرض وتفسير د. مصطفى زيد.
(3) 8/213، تفسير الرازي، طبعة طهران، وانظر 4/58، غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري، مطبعة الحلبي، تحقيق إبراهيم عوض.(1/311)
…وهكذا نرى شوائب التفسير اقتنص فيها رأي شاذ شارد وصُيّر صواباً بل أصوب من الرأي الذي أجمع عليه أهل التفسير وأرباب السير، وكفى بشوائب التفسير شذوذاً ما حدد فيها من مقياس لتمييز الحق من الباطل بدل نصوص القرآن الكريم فقال الشيخ محمد عبده: "ولو أن نفساً مالت إلى قبول التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك، والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس إلى ما أبصرت من الحق"(1).
…وفي هذا القدر غنية للوقوف على شوائب التفسير في الإيمان بالملائكة، والمسلم الصادق في إيمانه لا يمكن أن يقبل أن تحل القلوب والنفوس محل نصوص رب العالمين في الحكم على المغيبات التي لا تقع تحت حس الإنسان.
البعث وعلى أي صورة يقع:
…يرى د. عبد الكريم الخطيب أن البعث يكون بالروح فقط دون الجسد، وأن الإنسان يتغير يوم البعث تغيراً يتناسب مع الواقع الجديد، فيصير كائناً روحانياً محلقاً فوق هذا العالم الأرضي. ويشبه الإنسان بالفراش حقيقة، ويرى أن هذا التشبيه من إعجاز القرآن. ويشبه الكفار والضالين بالجراد. هكذا يرى الخطيب بعث الناس. ويرى أن تبديل الأرض يقع في إحساس الإنسان نفسه. وفي معطيات بصره، وكذلك يرى البحار وكأنها قد فجرت، ويرى الجبال وكأنها قد سيّرت، وكذلك السماء تبدو له في دنياه سقفاً مصمتاً، ويراها يوم القيامة قد فتحت فكانت أبواباً، وكانت فروجاً(2). قال د. الخطيب: "ومن إعجاز القرآن الكريم أن الفراش تمثل الدوْرة الإنسانية من مولده إلى مماته، إلى بعثه من مقبره، إلى طيرانه، إلى محشره ...
فهي تكون بيضة .. على حين يكون الإنسان نطفة ..
تكون دودة .. على حين يكون الإنسان وليداً يتحرك في الحياة أشبه بالدودة.
ثم تكون عذراء داخل شرنقة .. على حين يكون الإنسان مقبوراً في جَدَثه.
__________
(1) 1/269، تفسير المنار، وانظر ص 273، حيث كرر المعنى نفسه.
(2) هذه الصورة مقتبسة من تفسير الخطيب من ألفاظه بعينها.(1/312)
ثم تخرج من الشرنقة فراشة .. على حين يكون الإنسان قد خرج من قبره، كما تخرج الفراشة من الشرنقة وقد تخلقت لها أجنحة تسبح بها في الفضاء"(1).
…ثم قال: "الناس إذن يكونون يوم القيامة كالفراش المبثوث، فحين يخرجون من الأجداث يطيرون في خفة كما يطير الفراش المنطلق نحو النور والنار! ولكن إلى أين يطير هذا الفراش الآدمي؟ وإلى أين يطير الفراش الحشري إذا رأى ناراً؟ أو أحسّ ضوءاً؟ إنه لا وجهة له حينئذ إلا هذه النار وهذا الضوء؟! وكذلك الناس، أو الفراش البشري، لا مورد لهم إلا هذه النار التي سُعِّرت وتأججت .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: { وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا } (2). وما مصير هذا الفراش الحشري المتدافع إلى النار؟ إنه يتقحمها، ويلقي بنفسه فيها، وكأن يداً قوية تدفعه إليها دفعاً ليكون وقوداً لها... وقليل قليل هو الذي ينجو بنفسه، ويعدل بوجهه عن لهيبها .. وكذلك شأن الفراش البشري الوارد على نار جهنم، إنه وقود هذه النار إلا قليلاً قليلاً ممن أنجاهم الله منها، وكتب لهم الفوز بجنات النعيم كما يقول سبحانه { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } (3)(4).
__________
(1) م14، 27/549، 550، التفسير القرآني للقرآن د. عبد الكريم الخطيب، تفسير سورة الطور.
(2) سورة مريم، الآية: 71.
(3) سورة مريم، الآية: 72.
(4) م14، 7/551، 552، التفسير القرآني للقرآن، د. عبد الكريم الخطيب.(1/313)
…ثم قال: "وأكاد أقول إن الناس سيكونون يوم القيامة على صورة الفراش حقيقة لا تشبيهاً وذلك لهذا التوافق العجيب الدقيق بين الصورتين، صورة الفراش الحشري، وصورة الفراش البشري، في الملامح، والألوان والظلال .. ويتأكد هذا المفهوم، إذ نجد القرآن الكريم يلتزم هذا التشبيه في معرض آخر، من معارض البعث والنشور، فيقول سبحانه: { يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } (1). فالجراد المنتشر، والفراش المبثوث صورتان متماثلتان في مرأى العين، وفي أطوار الحياة يتنقل فيها كل من الفراش والجراد"(2).
…وقال عن أحوال الإنسان { فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ } (3). نجد في هذا إشارة إلى ما يقع لبصر الإنسان من تحوّل يزداد به قوة خارقة في مجال الرؤية. { لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } (4). هذه صورة مجملة للإنسان يوم القيامة، ولموقفه من الموجودات في هذا اليوم، فهو كائن سابح في عالم علويّ، قد يبلغ في سبحه هذا مدارج الكواكب والنجوم، ثم هو في هذا العلو السحيق يملك بصراً حديداً كاشفاً لا يمكن تصوره، ومن هذا الأفق العالي، وبهذا البصر الحديد النافذ، ينظر الإنسان إلى هذه الأرض التي كان يعيش فيها.. فيرى الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء.." (5). وقال: "تلك هي السماء كما يراها الإنسان، ويختبر تصعيده فيها، أما هي في حقيقتها فهي هي لم تتبدل ولم تتحول"(6).
__________
(1) سورة القمر، الآية: 7.
(2) التفسير القرآني للقرآن، م14، 7/553.
(3) سورة القيامة، الآية: 7.
(4) سورة ق، الآية: 22.
(5) التفسير القرآني للقرآن، م14، 7/553.
(6) ص 557، المصدر السابق نفسه.(1/314)
…وهكذا يسير د. الخطيب مع عقله الحر في تصوير عالم الغيب، ولم يتوقف عند مدلول الألفاظ التي حددها القرآن الكريم. فالله تعالى يقول: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } (1). أي وتتبدل السماوات كذلك. و د. الخطيب يقول عكس ذلك تماماً. فيحق لنا أن نعدّ كلامه شوائب في التفسير.
…أما تفسيره لقوله تعالى: { وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا } (2). فقد فسرها وقطعها عن سياقها، فالآية تخاطب الإنسان الذي يستهجن البعث بعد الموت { وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا } (3)، والخطاب فيه التفات من الحديث عن الغائب إلى الحاضر. وليس الخطاب لكل إنسان مؤمناً كان أو كافراً. وكلمة واردها تحتمل أكثر من معنى منها الدخول ومنها المرور عليها، وقال آخرون هو الدخول، ولكنه عنى الكفار دون المؤمنين، وقال آخرون: بل الورود عام لكل مؤمن وكافر، غير أن ورود المؤمن مرور، وورود الكافر الدخول. وقال آخرون يردها الجميع، ثم يصدر عنها المؤمنون بأعمالهم(4). والذين فسّروا الورود بالدخول قالوا إن النار تكون على المؤمنين برداً وسلاماً حسبما صحّ عندهم من أدلة من الكتاب والسنة منها قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ } (5). فلا تعارض ولا تناقض في القرآن. فالأنبياء والشهداء والصالحون ومن يؤتون كتبهم بأيمانهم لا يدخلون النار قطعاً
__________
(1) سورة ابراهيم، الآية: 48.
(2) سورة مريم، الآية: 71.
(3) سورة مريم، الآية: 66.
(4) هذه المعاني الخمسة ذكرها الطبري في تفسيره للآية م9، 15، 16/108-111، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، طبعة دار الفكر.
(5) سورة الأنبياء، الآيات: 101، 102.(1/315)
بنصوص قطعية من القرآن الكريم.
…وتصوير د. الخطيب ليوم البعث، والصورة التي يقع عليها كانت من نسج الخيال، لا تفسيراً لآيات الله. والبعث في اعتقاد الدكتور الخطيب يكون بالأرواح وليس بالأجساد فقال: "إننا نرجح الرأي القائل بأن البعث يكون بالأرواح لا بالأجسام". وقال: "والأرواح الإنسانية التي نلمحها من الآيتين الكريمتين، ليست أرواحاً مجردة، بل هي أرواح تلبس أجساداً شفافة، هي قوالب روحانية، على هيئات بشرية يعيش فيها الناس .. وهي ما يسمى بالنفس التي هي وسط بين الروح والجسد"(1).
…هذا هو البعث حسبما صوّره د. الخطيب حسب ملته واعتقاده، ولا يسعنا إلا أن نقول إنه أغار على فكر فلاسفة اليونان وتلامذتهم من المتأخرين(2) أمثال ابن سينا والفارابي وابن رشد، وأعاد صياغته وزعم أنه تفسير قرآني. والمسلم، أي مسلم يربأ بنفسه أن يعتقد هذه العقيدة، وهي أليق بمن ينكر الغيب الذي نطق به القرآن. وهو تأويل يليق بأعداء الدين. ولا شك ولا ريب أنه من شوائب التفسير. وإذا علمنا أن الشيخ محمد عبده يؤول البعث بكثرة النسل(3)، أدركنا أن الدكتور الخطيب يتبنى رأي مؤسس المدرسة العقلية الحديثة. وهي لم تتجاوز في أحسن حالاتها – معنى الحديث الضعيف (من مات فقد قامت قيامته) (4).
البعث والجنة والنار عند محمد إقبال:
__________
(1) م14، 7/559، التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب.
(2) اعترف صراحة أن هذه مقولة بعض الحكماء والفلاسفة، م14، 7/545، 546، تفسير سورة الطور، طبعة دار الفكر، التفسير القرآني للقرآن، د. عبد الكريم الخطيب.
(3) 1/322، تفسير المنار.
(4) انظر حديث 2618، كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لإسماعيل محمد العجلوني، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 2/279، ط3، 1988م – 1408هـ.(1/316)
…قال د. إقبال: "فالإنسان في نظر القرآن متاح له أن ينتسب إلى معنى الكون وأن يصير خالداً. إن كائناً اقتضى تطوره ملايين السنين ليس من المحتمل إطلاقاً أن يلقى به كما لو كان من سقط المتاع"(1). وقال: "والبعث إذن ليس حادثاً يأتينا من خارج. بل هو كمال لحركة الحياة في داخل النفس، وسواء أكان البعث للفرد أم للكون، فإنه لا يعدو أن يكون نوعاً من جرد البضائع أو الإحصاء لما أسلفت النفس من علم، وما بقيت أمامها من إمكانيات"(2).
__________
(1) ص 185، محمد إقبال موقفه من الحضارة الغربية، الطالب البنجابي، خليل الرحمن عبد الرحمن، رسالة دكتوراة، جامعة أم القرى، مكتبة دار إحياء التراث في جامعة أم القرى، رقم 703، ستانسل، 1405هـ.
(2) محمد إقبال موقفه من الحضارة الغربية، ص 185.(1/317)
…وقال: "أما الجنة والنار فهما حالتان، لا مكانان، ووصفهما في القرآن تصوير حسّي لأمر نفساني أو لصفة أو حال. فالنار في تعبير القرآن { نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ } (1). هي إدراك أليم لإخفاق الإنسان بوصفه إنساناً، أما الجنة فهي سعادة الفوز على قوى الإنحلال وليس في الإسلام لعنة أبدية. ولفظ الأبدية الذي جاء في بعض الآيات وصفاً للنار يفسره القرآن نفسه بأنه حقبة من الزمان { لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } (2). والزمان لا يمكن أن يكون مقطوع النسبة إلى تطور الشخصية انقطاعاً تاماً، فالخلق ينزع إلى الاستدامة، وتكييفه من جديد يقتضي زماناً. وعلى هذا فالنار كما يصورها القرآن ليست هاوية من عذاب مقيم بسلطة إله منتقم، بل هي تجربة للتقويم، وقد تجعل النفس القاسية المتحجرة تحس مرة أخرى بنفحات حيّة من رضوان الله، وليست الجنة كذلك إجازة أو عطلة، فالحياة واحدة ومتصلة والإنسان يسير دائماً قدماً، فيتلقى على الدوام نوراً جديداً من الحق غير المتناهي الذي هو { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } (3).. ومن يتلقى نور الهداية الإلهية ليس متلقياً سلبياً فحسب، لأن كل فعل لنفس حرّة يخلق موقفاً جديداً. وبذلك يتيح فرصاً جديدة وتتجلى فيها قدرته على الإيجاد"(4).
__________
(1) سورة الهمزة، الآيات: 6-7.
(2) سورة النبأ، الآية: 23.
(3) سورة الرحمن، الآية: 29.
(4) ص 185-186، المصدر السابق، وانظر تجديد الفكر الديني في الإسلام، لمحمد إقبال، 134-141، وانظر الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، د. محمد البهي، ص 398-400، مكتبة وهبة بمصر 1975م.(1/318)
…ومن يجعل النظر في مقولة إقبال هذه لا يشك لحظة في فساد عقيدته. فالجنة والنار مكانان لا حالتان، وليستا حالة نفسية، وآيات وصف الجنة والنار كثيرة جداً مما يغني عن ذكرها. وقد فسر الخلود والأبدية بحقبة زمنية تمنح النفس بعدها فرصة أخرى لاستئناف نشاطها وكفاحها. وليس في الإسلام على ما يراه هو لعنة أبدية، ويرى أن الزمن متصل. والقرآن يحدد الحياة الدنيا والحياة في الآخرة، وسمى الحياة الأولى كذلك العاجلة، والثانية: الآخرة. وحدد القرآن أن الآخرة دار جزاء وليست دار عمل وكفاح للنفس. وكأن د. محمد إقبال يريد أن يقول لنا بعقيدة تناسخ الأرواح. قال خليل الرحمن: "وفي هذا يكون إقبال متأثراً بالتناسخ عند الهندوس، وبالتطور الدائم عند نيتشه"(1). ونقول: "إن مفاهيم الإسلام ثابتة إلى الأبد لا تتغير لأنها من خالق الكون والإنسان والحياة. وكذلك لغة الإسلام أبدية، فالحياة للإنسان تمر عبر حياتين الأولى، وهي الحياة الدنيا وهي دار عمل، والثانية وهي الآخرة وهي دار جزاء فإما الجنة وإما النار. والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل. فما ذكره د. إقبال محض شوائب دسها في التفسير.
الجزاء الأخروي كما يصوره بعض رجال المدرسة العقلية الحديثة:
__________
(1) ص 186، 187، المصدر السابق، رسالة دكتوراة.(1/319)
…قال د. مصطفى محمود في تفسير قوله تعالى: { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } (1): "الآية تبدأ بأنها ضرب مثل وليست إيراداً لأوصاف حرفية، فهذا أمر مستحيل لأن الجنة والجحيم أمور غيبية بالنسبة لنا لا يمكن تصويرها في كلمات من قاموسنا"(2). وقال: "وكل ما جاء عن الجنة والجحيم ما هو إلا ألوان من ضرب المثال، وألوان من التقريب وألوان من الرمز"(3).
…ولا أدري كيف طوّعت للدكتور مصطفى محمود نفسه أن يقول ليست إيراداً لأوصاف حرفية. فهذا أمر مستحيل لأنها أمور غيبية وكأن النص ألفاظ لمخلوق لم يشهد الغيب. وهو في النتيجة يرى أن العذاب معنوي(4). فقد كسى فلسفة اليونان ثوب الإسلام من جهة، وبلور رأي أصحاب تفسير المنار في هذه المسألة. قال الشيخ رشيد: "وأما التمثيل فيما نحن فيه منها فيصح عليه أن يراد بالجنة الراحة والنعيم"(5).
…ولا يخفى على مسلم أن ما ذهب إليه الدكتور مصطفى محمود من أن الجزاء الأخروي ليس حقيقياً بل هو من قبيل ضرب المثل، ومن قبيل الرمز، ومن ألوان التقريب، لا يخفى أن هذا من الشوائب لأنه يناقض عقيدة المسلمين القطعية في ثبوتها وفي دلالتها.
__________
(1) سورة محمد، آية: 15.
(2) ص 85، القرآن محاولة لفهم عصري، مصطفى محمود.
(3) ص 86، المصدر السابق نفسه.
(4) انظر ص 94-96. وانظر لغاية ص109، المصدر نفسه.
(5) 1/282، تفسير المنار.(1/320)
…وقال أبو زيد الدمنهوري عند تفسير قوله تعالى: { اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } (1): "تمتع بالزوجية في نعيم الحياة وطيباتها" وزعم أن الشجرة تمثيل للأشياء التي حرمها الله"(2). فالجنة عند أبي زيد: الحياة الزوجية، ويترتب على هذه المفاهيم أن يكون العذاب هو الجهل والنعيم هو العقل. وهو مفهوم فلاسفة اليونان بعينه. فهذه شوائب لا شأن للتفسير بها.
د. عبد الكريم الخطيب:
…يرى أن النعيم في الآخرة روحي لا يخالطه نعيم مادي، وكذلك العذاب حيث أن الإنسان عندما يبعث يتحول إلى عالم الملائكة. ويرى أن العذاب والجزاء المادي مرجوح والراجح عنده هو أن النعيم والعذاب للروح. قال في تفسير سورة الإنسان عند قوله تعالى: { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } (3): "وفي التعبير بلفظ (عاليهم) بدلاً من عليهم –هو والله أعلم- إشارة إلى أن هذه الملابس لا تلتصق بأجسادهم كما تلتصق ثيابنا على أجسادنا في هذه الدنيا، وإنما هي ألوان من نور، أشبه بألوان الطيف، تنعكس على هذه الأجسام النورانية ... وهذا يعني أن الحياة في الجنة حياة روحية، لا يخالطها شيء من عالم المادة إلا كان في شفافية الروح وصفائها"(4).
…ويرى أن تبديل جلود المعذبين في النار إنما هو تبديل في النار ذاتها التي تشبه الثوب وليس في جلد المعذب من الكافرين(5). ولا يخفى أن هذه شوائب لا تمت للتفسير بصلة.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 35.
(2) ص 7، الهداية والعرفان لأبي زيد الدمنهوري.
(3) سورة الإنسان، الآية: 21.
(4) م15، 29/1372، التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب.
(5) انظر م3، 5/818، التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب.(1/321)
…وقال تحت عنوان: الجنة ونعيمها بين الروحي والجسدي: " ونريد أن نقف وقفة قصيرة مع تلك الأوصاف التي ذكرها القرآن الكريم لنعيم الجنّة، والتي تبدو كأنها صورة من النعيم الدنيوي بما فيه من ألوان المآكل والمشارب، والدور والقصور، والملابس، والحلي والأواني والأمتعة والجواري والغلمان، والعيون والأنهار والأشجار والثمار إلى غير ذلك مما اعتاد الناس في الدنيا أن يروه، أو يعيشوا فيه .. وهذا مما دعا بعض الأدعياء أو الأغبياء إلى أن القول بأن هذه الجنّة مما يحلم به المحرومون، ومما يغذي به الدين هذه الأحلام الجائعة! ولنسلم –جدلاً- من أول الأمر بأن نعيم الجنة هو من هذا النعيم الذي يعرف الناس في الدنيا.. فأي قصور يلحق هذا النعيم، وأي مطلب يعوز الذين ينزلون منازل هذه الجنّة فيجدون كل ما كانت تشتهي أنفسهم في الدنيا جاهزاً بين أيديهم لا يتكلفون له جهداً، ولا يريقون من أجله دماً أو عرقاً؟ أهذا نعيم تزهد فيه النفوس؟ .. إلى أن يقول: "ولا يقال – كما قيل فعلاً- إن هذا النعيم الأخروي، هو نعيم جسدي، يشبع أحلام الجوعى والمحرومين، ويرضي مطالب البيئات الفقيرة المجدبة، وهذا بدوره يعني أن الدين الذي يَعِدُ أهله بمثل تلك الجنة في الآخرة، إنما هو دين على مستوى هذه الحياة البدائية في الصحراء، التي لا تبعد الحياة فيها كثيراً عن حياة الغابة، وأن الدين ليس إلا أكذوبة خادعة تستهوي الجوعى والمحرومين بهذه الموائد الممدودة لهم في عالم الرؤى والأحلام"(1). وقال: "فهذا القول إن كان من جاهل، فهو جهل يفضح أهله ويخزيهم، وإن كان من عالم فهو زور وبهتان يتخرص به المتخرصون في غير خجل أو حياء ممن يكيدون للإسلام"(2).
__________
(1) م15، 29/1374، 1375، التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب.
(2) م15، 29/1374، 1375، التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب.(1/322)
…مما سبق أستطيع أن أعقب وأنا مطمئن أن هذه شوائب لا شأن لها بالتفسير، أراد صاحبها أن يجدد الإسلام بها ويعيد النظر في تراثه كما فعل مصطفى كمال التركي على حد تعبير د. محمد إقبال، ولا تراني بحاجة للرد عليه، وتفنيد أقواله لوضوح انحرافه، ولمعارضته الشديدة للمتواتر لفظاً ومعنى في هذه القضية.
علي نصوح الطاهر:
…يرى أن تكوير الشمس أنها صارت كروية ومعنى الآية إذا ترقت علوم الإنسان وازدادت معارفه فإنه سيكتشف أن الشمس كروية، وسيقول بتكويرها. ولقد تحققت هذه النبوءة القرآنية ووصل الإنسان بعلمه إلى إثبات ذلك. وقد ذهب أغلب المفسرين إلى اعتبار تكوير الشمس من علامات يوم القيامة وهذا رأي كتابي، وخطأهم واضح لأن الشمس كروية أصلاً(1).
…وفي تفسير سورة الواقعة يرى أن الواقعة هي الحادثة العظيمة، ويقول أغلب المفسرين إن الواقعة هي قيامة القيامة ولست أرى أن السياق بعدها يؤيد ذلك. وإنما يؤدي إلى وصف يوم أرضى تكون فيه حادثة عظيمة. والغالب أنها انفجار ذري أو حرب ذرية.
…وقال في تفسير الآية الثانية: { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } وهي مؤكدة الوقوع وليس هناك ما يكذبها. وهذه النبوءة مؤكدة من القرآن وقد تحققت بحذافيرها في استعمال القنابل الذرية في اليابان. وقال في تفسير الآية الثالثة: { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } وإذا وقعت فستخفض أقواماً وترفع أقواماً. وقد حدثت فعلاً إذ رفعت الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا السوفيتية، وخفضت المحور المكون من ألمانيا وإيطاليا واليابان ويضاف إليهم بريطانيا وفرنسا.
__________
(1) 14/58، تفسير القرآن الكريم كما أفهمه، علي نصوح الطاهر، مخطوط ستانسل، مكتبة مجمع اللغة العربية الأردني، عمان.(1/323)
وقال في تفسير الآية الرابعة: { إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا } تصف الآية هول الإنفجارات فتقول بأن الأرض ستهتز اهتزازاً كأنها من فعل الزلازل وقد تحققت في هيروشيما"(1). ووصف المقربون في جنات النعيم بأنهم الناجحون في صنع السلام من الحرب الذرية(2).
…وقال في تفسير قوله تعالى: { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } (3): "الآية تقرب وصف الجنة التي وعد بها المتقون وهم المؤمنون برسالة النبي فتشبهها ببلاد في الأرض سيفتحها المؤمنون وهي بلاد الأنهار الجارية وبلاد اللبن والخمر والعسل وهي البلاد المقدسة فلسطين. وأرض الجنة القديمة المعروفة بجنة عدن والشاملة لأراضي الدجلة والفرات والنيل وسيحون وجيحون. والأرض المقدسة أي فلسطين عرفت في الكتب القديمة وهي بلاد الحضارة القديمة. وتقول إن هذه الجنة فيها أنهار من ماء غير آسن أي أنهار جارية، وليست سيولاً غير دائمة، وهي تشير إلى أنهار مصر وسوريا والعراق. وفيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه. أي متوفراً بكثرة الأنهار من حليب طازج لم يفسد وهذا يشمل ألبان الضأن والماعز والأبقار والجاموس. وفيها خمرة بكثرة كأنه الأنهار لكثرة أعنابها"(4).
__________
(1) 11/75، تفسير القرآن الكريم كما أفهمه علي نصوح الطاهر.
(2) 11/76، المصدر السابق.
(3) سورة محمد، الآية: 15.
(4) 1/88، تفسير القرآن الكريم كما أفهمه، علي نصوح الطاهر.(1/324)
…وخلاصة القول إن الجنة التي وعد الله بها المؤمنين هي منطقة الهلال الخصيب ومصر. والأمر لا يحتاج إلى تعقيب. والرجل يرى أن الكفار هم الجهلة في العلوم. وربما تكون دراسته في الجامعة الأمريكية ودراسته العليا في السوربون لها أثر في تفكيره وفي تفسيره. وله أسوة بأصحاب تفسير المنار(1). حيث أن علي نصوح الطاهر توكأ على عبارة تفسير المنار في فهمه للجنة التي تجري من تحتها الأنهار. وهذه كلها شوائب لا صلة للتفسير بها.
الشيطان والجن:
…لم يخرج علي نصوح الطاهر في فهمه للشيطان ووسوسته عن مفهوم أصحاب تفسير المنار فقال: "هو عامل الشر الخفي (الخناس) الذي يلقي في النفس أحاديث السوء وهو الذي يحطم عنصر الثقة بين الناس بما يبث في نفوسهم من سوء الظن بعضهم بالبعض الآخر"(2).
…وقال: "إن هذا العامل قد يكون الأجهزة الخفية التي تعمل في الليل أي في الخفاء، وقد يكون هذا العامل من الناس المستأجرين (الطابور الخامس). ولا شك في أن مثل هذا العامل الموسوس الخناس سواء أكان متجسداً في إنسان ظاهر أو خفي، حكومي أو غير حكومي يعمل لبث البلبلة بين الناس من الداخل والخارج يعتبر أكثر العوامل خطراً في حياة الناس أفراداً وجماعات وحكومات فلا غرو إذن من استعاذة المؤمن من شر الوسواس الخناس الذي هو من أخطر أعداء الجنس البشري وأشدها فتكاً في استقراره وطمأنينته". ويلفت النظر إلى أن اليهود يمثلون الوسواس الخناس(3). وهذه شوائب لا تمت للتفسير بسبب ولا بنسب.
__________
(1) انظر تفسير المنار، 1/232.
(2) تفسير القرآن الكريم كما أفهمه، 14/283.
(3) المصدر السابق نفسه.(1/325)
…فالدكتور علي نصوح الطاهر يمثل لوناً من ألوان الانحراف في التفسير، فلم يعتمد على اللغة في فهمه للقرآن، ولم يعتمد على المعارف الشرعية، وإنما اعتمد على ما كتبه المستشرقون، وما خطر على خياله في تقليد زعماء المدرسة العقلية الحديثة في إنكار الجن والشياطين من عالم الغيب مع أن الآيات قطعية في ثبوتها وفي دلالتها.
الجن والشياطين في تفسير المراغي الأصغر:
…لقد تقلب الشيخ أحمد المراغي في تفسيره لمفهوم الملائكة والشياطين بين الصواب والخطأ لدرجة يمكن وصفه بالتناقض، ففي تفسير سورة الكهف، قال: "الملائكة والشياطين أرواح لها اتصال بأرواح الناس على وجه لا نعرف حقيقته بل نؤمن به كما ورد ولا نزيد عليه شيئاً. وكلنا نشعر بأنا إذا هممنا بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو الشر بأن في نفوسنا تنازعاً، وكأن هاجساً يقول إفعل، وآخر يقول: لا تفعل، حتى ينتصر أحد الطرفين على الآخر، فهذا الذي أودع في النفوس ونسميه قوة وفكراً –لا يبعد أن نسميه ملكاً إن كان يميل إلى الخير، وشيطاناً إن كان يميل إلى الشر"(1). ولا يخفى التناقض في كلامه بين أوله وآخره.
__________
(1) 15/161، تفسير المراغي، وانظر 1/86، 87، حيث نقل عبارة المنار وعزاها إلى بعض المفسرين دون أن يفصح أنها لصاحب المنار، وانظر تفسير المنار 1/266-267. تفسير آية { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ } (البقرة: من الآية 34).(1/326)
…وقال في تفسير قوله تعالى: { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا } (1): "والحرس: هي الأدلة العقلية التي نصبها سبحانه لهداية عباده، والشهب الأدلة الكونية التي وضعها في الأنفس والآفاق. وعلى هذا يكون المعنى: إن القرآن الكريم بما نصب من الأدلة العقلية، والأدلة الكونية حَرَسٌ للدين من تطرق الشبه التي كان الشياطين يوسوسون بها في صدور الزائغين، ويحوكونها في قلوب الضالين ليمنعوهم من تقبل الدين والاهتداء بهدايته فمن يفكر في إلقاء الشكوك والأوهام في نفوس الناس بعدئذ يجد البراهين التي تقتلعها من جذورها"(2).
…فهذا التفسير يعد إشارياً باطنياً لا يخفى على ذي لب، ولا تحتمله نصوص الآية ولا بوجه من الوجوه، فلا مستند له لا من اللغة ولا من الشرع، فهو من الشوئب التي ينبغي أن تنقى من التفسير.
…هذه نماذج في المغيبات، ومعجزات الأنبياء، قد أصابها وابل من الشوائب في التفسير من القرن الرابع عشر الهجري، وما ذكرناه غيض في فيض بغية الاختصار فنرجو الحذر منها حتى تبقى عقيدة المسلمين صافية، وأرجو أن أكون قد وفقت في التنبيه على الشوائب لإزالتها من التفسير. والله الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) سورة الجن، الآية: 8.
(2) 29/99، تفسير المراغي.(1/327)
المبحث الثاني:شوائب التفسير في خلق الإنسان (نظرية دارون)
لمحة تاريخية عن النظرية:
…يعود الحديث عن نظرية النشوء والارتقاء إلى قدماء فلاسفة اليونان والإغريق لأنها نظرية وليدة التصور والتخيل(1). وبعد الفتوحات الإسلامية، وترجمة فلسفة اليونان إلى العربية، انتقلت هذه التصورات إلى بلاد المسلمين. وهناك من زعم أن الحسن البصري ألمح أو قال بها(2). وهناك من قال أن أبا العلاء المعري قد صرح بها(3)
__________
(1) وجدي، محمد فريد، دائرة معارف القرن العشرين، مادة إنسان، 1/703، طبعة دار المعرفة، ط3، بيروت، 1971م. حيث يقول: "هذا الرأي ليس بحديث فقد قال به بعض الأقدمين من اليونانيين، وأخذه عنهم فلاسفة العرب فزادوه شرحاً وبياناً.
(2) من التابعين (ت116هـ)، فقد روى الفخر الرازي عنه قوله: "خلق الله تعالى كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دواب البر والبحر في الأيام الستة التي خلق فيها السماوات والأرض، وآخر ما خلق آدم عليه السلام". التفسير الكبير، 3/35، طبعة طهران، تفسير سورة الإنسان، ولا يخفى أن الحسن البصري قد التزم في مقولته الزمن الذي حدده القرآن الكريم وبينته السنة النبوية الصحيحة كما ورد في صحيح البخاري وهي ستة أيام من الأيام المعهودة، فمقولته بعيدة كل البعد عن واقع نظرية النشوء والارتقاء.
(3) أبو العلاء المعري: شاعر من معرّة النعمان بالشام. فقد قال جمال الدين الأفغاني أن أبا العلاء قصد النظرية عند قول الأخير:
والذي حارت البرية فيه……حيوان مستحدث من جماد
فقال الأفغاني: "أما مقصد أبي العلاء فظاهر واضح، ليس فيه خفاء، فهو يقصد النشوء والارتقاء، أخذاً بما قاله العلماء العرب قبله بهذا المذهب". انظر المخزومي، محمد باشا، خاطرات جمال الدين الأفغاني، ص182، 183. ولا يخفى أن بيت الشعر هذا لا يكفي للدلالة على النظرية حيث يعد البعض هذا البيت من الأحاجي، ويكون جواب اللغز: بيضة الطير. ويسترعي الانتباه قول الأفغاني مذهب مع أنها مجرد نظرية تقوم على التخيل. كما أسندها للعرب وليس لدارون، واستشهد بقول أبي بكر بن بشرون في رسالة لأبي السمح عرضاً في علم الكيمياء: "إن التراب يستحيل نباتاً، والنبات يستحيل حيواناً، وإن أرفع مواليد التراب (ومنه المعادن) النبات، وهي أدنى طبقات الحيوان، سلسلة تنتهي عند الإنسان.. الخ، انظر المخزومي، محمد باشا، خاطرات جمال الدين الأفغاني، ص 183.(1/328)
. وهي دعاوى تفتقر إلى أدلة. ومن الذين خاضوا فيها أحمد بن سهل أبو يزيد البلخي(1)، والفيلسوف ابن مسكويه(2)، وإخوان
__________
(1) 235-322هـ)، هو أحمد بن سهل أبو زيد البلخي، ولد بقرية بلخ من أراضي فارس من مؤلفاته: البدء والتاريخ، وأقسام العلوم، وشرائع الأديان، وكتاب السياسة الكبير، وكتاب القرود، وأخلاق الأمم وغيرها، وكان يتشيع للمذهب الزيدي. هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين من كشف الظنون، 5/59، البلخي، وانظر الأعلام للزركلي. وانظر معجم المؤلفين، كحالة، عمر رضا، 1/240. فقد ورد في كتاب البدء والتاريخ ما يفيد القول بالتطور والارتقاء وتحول الحيوان إلى إنسان، ويرى أن العسمد (نوع من الحيوان) قد تولد من الرطوبة، وأنه كان يغشاه قشر مثل قشور السمك. ولما أتت عليه السنون صارت إلى الجفاف واليبس فانقشر عنها ذلك القشر وصارت حياتها زماناً يسيراً". وقال: "فهذا جملة قولهم في ظهور الحيوانات، وآدم حيوان، فعند بعضهم أن آدم تولد من رطوبة الأرض كما يتولد سائر الهوام، وكان جلده كجلد السمك، وعند آخرين أنه (أي آدم) ظهر شيئاً بعد شيء ثم تركب على مرور الأزمان وصار إنساناً ا.هـ. انظر، باشميل، محمد أحمد، الإسلام ونظرية دارون، ص 142، طبعة مكة المكرمة، ط2، 1388هـ-1968م.
(2) ت421هـ-1030م)، هو أحمد بن محمد بن يعقوب الملقب بمسكويه، الرازي الأصل، من تصانيفه: تجارب الأمم وتعاقب الهمم، وأدب العرب والفرس، وتطهير الأعراق في علم الأخلاق، فهو أديب مؤرخ فيلسوف. انظر كحالة، عمر رضا، معجم المؤلفين، 2/168. قال ابن مسكويه: "إن الموجودات مراتب وكلها سلسلة متصلة، وكل نوع من الموجودات يبدأ بالبساطة ثم لا يزال يترقى ويتعقد حتى يبلغ أفق النوع الذي يليه. فالنبات في أفق يبدأ بسيطاً ثم يترقى حتى يصل إلى مرتبة قريبة من الإنسان". انظر باشميل، محمد أحمد، الإسلام ونظرية دارون، ص 140، عن كتاب قصة الإيمان لنديم الجسر.(1/329)
الصفا (1)
__________
(1) وهم جماعة سرية ظهرت في مطلع القرن الهجري الرابع في الدولة العباسية، وتعد من فرق الباطنية، ولهم صلة بالإسماعيلية، وهم أقرب إلى الفلاسفة من السياسيين. ومن بحوثهم ترتيب العالم، وفيضه والعقل والنفس والكلية. ومؤلف رسائلهم لا يزال مجهولاً. وغاياتهم السياسية من رسائلهم لا يزال مجهولاً لكنها لا تنفك عن البعد عن الإسلام وعن محاربته. ملخص من إخوان الصفا للدكتور عمر فروخ، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1401 هـ - 1981م.
ومما جاء في رسائلهم: "فَأدْوَنُ الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة. وهكذا أكثر الديدان التي تكون في الطين، وفي قعر البحار وفي أعماق الأنهار، فهذا النوع حيوان نباتي، إذ يشارك الحيوان في الحركة، ويشارك النبات في الحس فقط .. وأن النبات متقدم الكون والوجود على الحيوان بالزمان، والحيوانات الناقصة الخلقة متقدمة الوجود على الحيوانات التامة الخلقة التي تتكون في زمان طويل لأسباب يطول شرحها. وأن حيوان الماء وجوده قبل حيوان البر بزمان، والحيوانات كلها متقدمة الوجود على الإنسان". انظر باشميل، محمد أحمد، الإسلام ونظرية دارون، ص140، عن رسائل إخوان الصفا، 2/154، 155. وقالوا: "ومن الحيوان ما هو أدنى رتبة مما يلي النبات، وهو كل حيوان ليس له إلا حاسة اللمس فحسب. وهذا النوع من الحيوانات أجسامه لحمية، وبدنه متخلخل، وجلده رقيق، وهو يمتص المادة بجميع بدنه بالقوة الجاذبية، ويحس باللمس، وليس له حاسة أخرى، وهو سريع التكوين وسريع الهلاك والبلى" ا.هـ. الإسلام ونظرية دارون ص141 عن رسائل إخوان الصفاء، 2/157.(1/330)
، وابن خلدون (1) ، وهذا يدل على أن فكرة النشوء
والارتقاء سابقة لنظرية دارون. وأما أبرز أرباب
__________
(1) ابن خلدون، هو عبد الرحمن بن محمد الحضرمي. قال: "وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني وأولاً عالم العناصر كيف تَدْرُجُ صاعداً من الأرض إلى الماء. ثم إلى الهواء، ثم إلى النار، متصلاً بعضها وكل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعداً وهابطاً، ويستحيل بعض الأوقات. والصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط. (المقدمة ص95). وقال: "ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدرج آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بَدْرَ له. وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط، ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والرّوية ترتفع إليه من عالم القدرة والفكر بالفعل. وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده وهذا غاية شهودنا (المقدمة ص 96).
ومن الجدير بالذكر أن هناك من حرّف النقل عن ابن خلدون فقال من عالم القردة بدل عالم القدرة. ومنهم ساطع الحصري (انظر هامش ص 139، من الإسلام ونظرية دارون، لمحمد أحمد باشميل).
وخلاصة رأي ابن خلدون بأن أصل الإنسان حيوان ترقى في مدارج التكوين من الأدنى إلى الأعلى حتى صار إلى ما هو عليه من كمال. (المقدمة ص 139).(1/331)
النظرية في القرنين التاسع عشر والعشرين فهم لامارك الفرنسي(1)،
__________
(1) لامارك الفرنسي (1748م-1829م). وقد قال بالتوليد بالسوائل بتفاعلات الطبيعة المادية الذاتية الخلاقة تولد بضع الكائنات مباشرة حيث تكون نسيج من الكتل الصغيرة المتألفة ذاتياً مادة لزجة تشبه الغراء والجلاتين، ثم تملأ تلك الكتل الصغرى في أحوال مناسبة ببعض السوائل المناسبة ثم يكون إحياؤها لها بتحريكها لتلك السوائل، وفسر على ضوء ذلك سر الحياة أو قوة الحياة. بأنه ليس قضية سرية بحتة، وليس قوة بحتة، وليست قوة ذات خصوصية بحتة. أي أن القوة لم تأت من الخارج بل خفيت على الباحث في تقصّيها. وعليه فالأنواع لا يمكن أن تكون وجدت دفعة واحدة بصورة نهائية، بل خلقت تدريجياً فكان وجودها=
= نسبياً، وكان بقاؤها محدوداً ووقتياً وعابراً. وكذلك فناؤها وإعدامها" (انظر ص25، 27، 39، 40، 78 الإسلام ونظرية دارون، كيف تتولد الحياة عند لامارك. عن الآيات البينات للسلطان صالح بن غالب القعطيي، ص68. وفيه يتحدث عن تحضير الأرواح. ومن الجدير بالذكر أن لامارك جاء قبل دارون بخمسين عاماً. وكان يفسر التطور والتحول والارتقاء إلى المصادفة والزمن. ويعد واضع أسس النظرية وليس دارون. ووجه الإلحاد في نظريته أن الطبيعة هي الموجد للكائنات الحيّة مباشرة من الجماد وليس الله –تعالى-.(1/332)
وشارلز دارون البريطاني(1)، وآرنست هيجل الألماني(2). وقد بولغ في إسناد نظرية النشوء والارتقاء إلى دارون كما بولغ في
__________
(1) شارلز دارون البريطاني الجنسية، اليهودي ديانة (1809م-1882م)، وقد بولغ في إسناد نظرية النشوء والارتقاء إليه، كما بولغ في إبداعه لها مع أنه من حيث الواقع يعد مطوراً لها فحسب، وهو يرى أن الحياة الأولى وجدت حول المستنقعات، وصارعت من أجل البقاء فتغلفت بصدف كلسي يقيها من عوامل الجو من حرارة وبرودة. (ص22-24 الإسلام ونظرية التطور، لمحمد أحمد باشميل). ويرى دارون ولامارك، ومن يتبنى نظريتهما، أن حيوانات كانت تمشي على بطنها قد تحولت إلى حيوانات ذات أربع، وأن ريشيات ومجنحات قد تطورت إلى غيرها من ذوات الفقرات، وهم بهذا يصلون إلى القول بأن الإنسان ما هو –في الأصل- إلا حيواناً بسيطاً تحول من نوع إلى آخر، وارتقى من الأدنى إلى الأعلى حتى وصل إلى ما هو عليه من كمال. ومثل هذا يقولونه في النباتات من حيث تطورها وارتقاؤها وانتقالها من نوع لآخر حسب البيئة والظروف عبر الزمن. (المصدر نفسه ص22-24).
(2) آرنست هيجل الألماني (1834م-1919م)، ويعد معاصراً لدارون ومعمراً أكثر منه. وقد بالغ في نظرية التوليد الذاتي مما أدى إلى مبالغته في الإلحاد. وزعم أن التفرقة بين الخالق والمخلوق افتراض وهمي، فالكون والإنسان والحياة هو الله. وهو الطبيعة، الأمر الذي يذكر بعقيدة وحدة الوجود عند الصوفية والفلاسفة. فلا وجود للروح في بحثه على الإطلاق، ولو مجازاً، والكون مؤلف من المادة فحسب، والمادة من الذوات، وحركة العالم حركة تطور مستمر. (ص31، 32، 39-40، من كتاب الإسلام ونظرية دارون، لمحمد أحمد باشميل، عن كتاب عباقرة العالم في الغرب، ص304، جورد سلسلتي، وعن كتاب قصة الإيمان لنديم الجسر، ص188، ط2). ويعد هيجل مؤسس عقيدة لا إله والحياة مادة التي تبنتها روسية، وانهارت الفكرة وهي في الحكم لشدة فسادها 1989م.(1/333)
إبداعه لها مع أنه من حيث الواقع يعد مطوراً لها فحسب. وربما كانت المبالغة لأغراض سياسية حيث كانت بريطانيا تعد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وتعمل لتمزيق دولة الخلافة والسيطرة عليها، فتعد برنامجاً ثقافياً ليحل محل ثقافة الإسلام. وخلاصة نظرية النشوء والارتقاء أنها تقوم على قواعد أربع:
تنازع البقاء.
نظرية الانتخاب الطبيعي.
قاعدة التطابق.
قانون الوراثة (الجينات) (1).
شوائب التفسير في أقوال بعض المفسرين في القرن الرابع عشر الهجري في نظرية النشوء والارتقاء:
1- تفسير المنار -خلق آدم-
…قال الشيخ رشيد عند قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } (2): "وقد ذهب الأستاذ إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال، وذلك لا يليق بالله تعالى أيضاً ولا بملائكته، ولا يجامع ما جاء به الدين من وصف الملائكة لكونهم { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (3).
__________
(1) انظر، وجدي، محمد فريد، دائرة المعارف في القرن العشرين، 4/30-36، مادتي دارون والإنسان.
(2) سورة البقرة، الآية: 30.
(3) سورة التحريم، الآية: 6. وانظر تفسير المنار، 1/251، 252.(1/334)
…وقال: "إن المفسرين في الخليفة مذهبان: ذهب بعضهم إلى أن هذا اللفظ يشعر بأنه كان في الأرض صنف أو أكثر من نوع الحيوان الناطق، وأنه انقرض، وأن هذا الصنف الذي أخبر الله الملائكة بأنه سيجعله خليفة في الأرض سيحل محله ويخلفه كما قال تعالى بعد ذكر إهلاك القرون { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم } (1). وقالوا إن ذلك الصنف البائد قد أفسد في الأرض وسفك الدماء، وأن الملائكة استنبطوا سؤالهم بالقياس عليه لأن الخليفة لابدّ أن يناسب من يخلفه ويكون من قبيله كما يتبادر إلى الفهم، ولكن لما لم يكن دليل على أنه يكون مثله من كل وجه وليس ذلك من مقتضى الخلافة، أجاب الله الملائكة بأنه يعلم ما لا يعلمون مما يمتاز به هذا الخليفة على من قبله، وما له سبحانه في ذلك من الحكمة البالغة. قال الأستاذ: وإذا صح هذا القول فليس آدم أول الصنف العاقل من الحيوان على هذه الأرض، وإنما كان أول طائفة جديدة من الحيوان الناطق يماثل الطائفة أو الطوائف البائدة منه في الذات والمادة، وتخالفها في بعض الأخلاق والسجايا"(2).
__________
(1) سورة يونس، الآية: 14.
(2) تفسير المنار، 1/258.(1/335)
…وقال: "هذا أحسن ما يجلى فيه هذا المذهب"، ثم ذكر الإسرائيليات والأساطير كالقول بأنه كان في الأرض قبل آدم خلق يسمون بالحن والبن، أو الطم والرم. وقال إن الأكثرين على أن الجن هم الذين كانوا قبل آدم مباشرة، وقال ليس في الإسلام سند يحتج به على هذه القصص، ثم قال: "ولكن تقاليد الأمم الموروثة في هذه المسألة تنبئ بأمر ذي بال، وهي متفقة فيه بالإجمال، ألا وهو ما قلناه من أن آدم ليس أول الأحياء العاقلة التي سكنت الأرض"(1). وبلغ بأصحاب المنار الأمر أن نفوا نبوة آدم عليه السلام فقالوا: "وآدم لم يكن نبياً رسولاً عند بدء خلقه اتفاقاً ولا موضع للرسالة في ذلك الطور. والظاهر من الآيات الواردة في الرسل ومن بعض الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن رسولاً مطلقاً، وأن أول الرسل نوح عليه السلام وعليهم السلام"(2).
…وإنكار نبوة آدم عليه السلام ليسهّل أمر أخذ نظرية دارون بعين الرضا والقبول، ويجعلها مستساغة شرعاً في نظرهم. فقال عند تفسير قوله تعالى:
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ } (3): "وقد خلق الله آدم أبا للبشر من الطين كما خلق أصول سائر الأحياء في هذه الأرض إذا كانت حالتها مناسبة لحدوث التولد الذاتي(4). بل خلق كل فرد من أفراد البشر من سلالة من طين، فبنية الإنسان مكونة من الغذاء ومنه ما في رحم الأنثى من جراثيم النسل وما يلقمه من ماء الذكر، فهو متولد من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض، أو من لحوم الحيوان المتولد من الأرض، فمرجع كل إلى النبات. وإنما النبات من الطين"(5).
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) تفسير المنار، 8/354، تفسير سورة الأعراف، وانظر تفسير سورة الأنعام، ج7.
(3) سورة الأنعام، الآية: 2.
(4) تفسير المنار، 7/296.
(5) المصدر السابق نفسه.(1/336)
…واستشهد الشيخ رشيد على صحة أقواله فقال: "ونحن نرى علماء الغرب وفلاسفته متفقين على إمكان التولد الذاتي، أي تولد الحيوان من غير الحيوان، أو من الجماد، وهم يبحثون ويحاولون أن يصلوا إلى ذلك بتجاربهم. وإذا كان تولد الحيوان من الجماد جائزاً فتولد الحيوان من حيوان واحد أولى بالجواز، وأقرب إلى الحصول"(1).
…وقال عند قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء } (2): "وقال الأستاذ الإمام: ليس المراد بالنفس الواحدة آدم بالنص ولا بالظاهر. فمن المفسرين من يقول إن كل نداء مثل هذا يراد به أهل مكة، أو قريش، فإذا صح هذا جاز أن يفهم منه بنو قريش أن النفس الواحدة هي قريش أو عدنان، وإذا كان الخطاب للعرب عامة جاز أن يفهموا منه أن المراد بالنفس الواحدة يعرب أو قحطان. وإذا قلنا أن الخطاب لجميع أهل الدعوة إلى الإسلام، أي لجميع الأمم فلا شك أن كل أمة تفهم منه ما تعتقده"(3).
…وقال: "والقرينة على أنه ليس المراد هنا بالنفس الواحدة (آدم) قوله: { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء } بالتنكير، وكان المناسب على هذا الوجه أن يقول: وبث منهما جميع الرجال والنساء، وكيف ينص على نفس معهودة والخطاب لجميع الشعوب! وهذا العهد ليس معروفاً عند جميعهم، فمن الناس مَنْ لا يعرفون آدم ولا حواء، ولم يسمعوا بهما"(4).
__________
(1) تفسير المنار، 3/308-309.
(2) سورة النساء، الآية: 1.
(3) تفسير المنار، 4/323، 324. ثم ذكر الأصناف الكبرى لكل صنف من البشر وهي الأبيض القوقاسي والأصفر المنغولي، والأسود الزنجي، وغيره وبعض فروع هذا تكاد تكون أصولاً كالأحمر الحبشي والهندي الأمريكي والملقي" أي أن آدم هذه الأصناف متعدد بتعددها.
(4) المصدر السابق، 4/324.(1/337)
…وقال: "وهذا النسب المشهور عن ذرية نوح مثلاً هو مأخوذ عن العبرانيين فإنهم هم الذين جعلوا للبشر تاريخاً متصلاً بآدم وحددوا له زمناً قريباً. وأهل الصين ينسبون البشر إلى أب آخر ويذهبون بتاريخه إلى زمن أبعد من الزمن الذي ذهب إليه العبرانيون. والعلم والبحث في آثار البشر مما يطعن في تاريخ العبرانيين ونحن المسلمين لا نكلف تصديق تاريخ اليهود وإن عزوه إلى موسى عليه السلام. فإنه لا ثقة عندنا بأنه من التوراة وأنه بقي كما جاء به موسى"(1).
…وقال: "وما ورد في آيات أخرى من مخاطبته الناس بقوله: { يَا بَنِي آدَمَ } لا ينافي هذا ولا يعد نصاً قاطعاً في كون جميع البشر من أبنائه إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجه إليهم في زمن التنزيل من أولاد آدم. وقد تقدم في تفسير قصة آدم في أوائل سورة البقرة أنه كان في الأرض قبله نوع من هذا الجنس أفسدوا فيها وسفكوا الدماء"(2).
…وقال: "وأقول زيادة في الإيضاح: إذا كان جماهير المفسرين فسروا النفس الواحدة هنا بآدم فهم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها، بل من المسألة المسلمة عندهم وهي أن آدم أبو البشر"(3).
__________
(1) تفسير المنار، 4/324.
(2) تفسير المنار، 4/324، 325.
(3) تفسير المنار، 4/325. ثم ذكر من تفسير الرازي ثلاثة تأويلات: 1- عن القفال بأن القصة على سبيل ضرب المثل والمراد خلق كل واحد منكم من نفس واحدة. وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية. 2- الخطاب لقريش الذي كانوا في عهد النبي وهم آل قصي، وأن المراد بالنفس الواحدة قصي. 3- أن النفس الواحدة آدم. وهو يشير بذلك للآية 189 من سورة الأعراف.(1/338)
…وقال: "وقد نقل عن الإمامية والصوفية أنه كان قبل آدم المشهور عند أهل الكتاب وعندنا آدمون كثيرون، قال في روح المعاني: وذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبراً طويلاً نقل فيه أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم بين كل آدم وآدم ألف سنة. وأن الدنيا بقيت خراباً بعدهم خمسين ألف سنة، ثم عمرت خمسين ألف سنة، ثم خلق أبونا آدم عليه السلام.
…وروى ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضاً، أنه قال: لعلك ترى أن الله لم يخلق بشراً غيركم؛ بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم وأنتم في آخر أولئك الآدميين. وقال الميثم في شرحه الكبير للنهج: ونقل عن محمد ابن علي الباقر أنه قال: قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر. وذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته ما يقتضي بظاهره أن قبل آدم بأربعين ألف سنة آدم غيره"(1).
…ثم قال: "وفي المسألة نقول أخرى في الفتوحات وغيرها، ثم نقل عن زين العرب القول بكفر من يقول بتعدد آدم. وهذا من جرأته وجرأة أمثاله الذين يتهجمون على تكفير المسلمين لأوهي الشبهات"(2).
…وعقب ذلك، قال الشيخ رشيد: "للأستاذ الإمام في هذا المقام رأيان (أحدهما) أن ظاهر هذه الآية يأبى أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم أي سواء كان هو الأب لجميع البشر أم لا. لما ذكره من معارضة المباحث العلمية والتاريخية له، ومن تنكير ما بثه منها ومن زوجها على أنه يمكن الجواب على هذا الأخير بأن التنكير لمن ولد منهما مباشرة كأنه يقول بث منهما كثيراً من الرجال والنساء وبث من هؤلاء سائر الناس، وعن الأول بأنه لا يزال غير قطعي. (وثانيهما) أنه ليس في القرآن نص أصولي قاطع على أن جميع البشر من ذرية آدم"(3).
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر السابق، ص 326.
(3) تفسير المنار، 4/326.(1/339)
…وقال: "هذا وإن المتبادر من لفظ النفس بصرف النظر عن الروايات والتقاليد المسلمات أنها هي الماهية أو الحقيقة التي كان بها الإنسان هو هذا الكائن الممتاز على غيره من الكائنات أي خلقكم من جنس واحد وحقيقة واحدة. ولا فرق في هذا بين أن تكون هذه الحقيقة بدأت بآدم كما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين أو بدأت بغيره وانقرضوا كما قال بعض الشيعة والصوفية، أو بدأت بعدة أصول أنبث منها عدة أصناف كما عليه بعض الباحثين، ولا بين أن تكون هذه الأصول أو الأصل مما ارتقى عن بعض الحيوانات، أو خلق مستقلاً على ما عليه الخلاف بين الناس في هذا العصر"(1).
الرد على أصحاب المنار في قصة الخلق:
الخليفة في الآية: "في قول ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل –آدم عليه السلام: وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره، لأنه أول رسول إلى الأرض، كما في حديث أبي ذر. قال: قلت يا رسول الله أنبياً كان مرسلاً؟ قال: نعم، الحديث. ويقال لمن كان رسولاً ولم يكن في الأرض أحدٌ؟ فيقال كان رسولاً إلى ولده"(2).
__________
(1) تفسير المنار، 4/327.
(2) تفسير القرطبي، 1/263.(1/340)
الفنقلة في الآية ليست كما ذهب أصحاب المنار. "ولقد علمنا قطعاً أن الملائكة لا تعلم إلا ما أعلمت، ولا تسبق بالقول، وذلك عام في جميع الملائكة. والمعنى أنهم لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد، إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد، لكن عمموا الحكم على الجميع بالمعصية، فبيّن الرب تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد، فقال تطييباً لقلوبهم: { إني أعلم } وحقق ذلك بأن علم آدم الأسماء، وكشف لهم عن مكنون علمه، والسؤال إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه وينعم عليه بذلك. وإما عن طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعاً: الاستخلاف والعصيان"(1). وقال قتادة: كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خلقاً أفسدوا وسفكوا الدماء فسألوا حين قال تعالى: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } أهو الذي أعلمهم أم غيره. وهذا قول حسن(2).
قال القرطبي: "والقول الأول أيضاً حسن جداً، لأن فيه استخراج العلم واستنباطه من مقتضى الألفاظ وذلك لا يكون إلا من العلماء. وما بين القولين حسن فتأوله"(3).
وقال الزمخشري: "فإن قلت لأي غرض أخبرهم بذلك (قلت) ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم. وقيل ليعلم عباده المشاوره في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة"(4).
__________
(1) تفسير القرطبي، 1/274، وتفسير التساؤل ذكره القرطبي عن ابن زيد وغيره.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) تفسير القرطبي، 1/75.
(4) الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، الزمخشري، محمود بن عمر، 1/61، طبعة دار المعرفة، بيروت.(1/341)
هذه تفاسير القرطبي والزمخشري، أما تفسير الشيخ رشيد رضا وأستاذه قاقتنصوا شوارد شاذة وردت في تفسير الفخر الرازي وقد ردّ عليها. وأحيوها لإثارة الفتن وليشغلوا المسلمين بالرد عليها.
قول أصحاب المنار أنه لابد أن يتناسب الخليفة مع من يخلفه ويكون من قبيله لا يسلم به وهو من محض الخيال. فآدم مخلوق. والذي استخلفه هو الخالق سبحانه وتعالى. والاستخلاف كان في إمضاء أوامر الله وأحكامه { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } (1). لأن الله تعالى هو الذي يضع النظام للمخلوق.
قول أصحاب المنار أن آدم ليس أول الصنف العاقل من الحيوان على هذه الأرض قول يتعارض ويتناقض مع الآيات القطعية الكثيرة منها: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ } (2)، { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (3).
ذكرهم، لما وصفوه بالإسرائيليات من أن الأرض كان يسكنها الجن قبل آدم، أو الحن والبن، والطم والرم، واعترافهم أنه ليس في الإسلام سند يحتج به على هذه القصص. وترتيبه على هذا وعلى تقاليد موروثة للأمم بأن آدم ليس أول الأحياء العاقلة التي سكنت الأرض. كلام في غاية السقوط فلا ينخرط في سلك الأدلة حتى ولا في سلك الشبه، فهي شوائب محضة لا تمت للتفسير بصلة.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 54.
(2) سورة آل عمران الآيات: 59-60.
(3) سورة ص، الآية: 75.(1/342)
نفي أصحاب تفسير المنار لنبوة آدم عليه السلام يتناقض مع الأدلة السمعية القطعية: منها قال تعالى: { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } (1)، { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } (2). فلفظ اصطفى مقرون مع غيره من الأنبياء ومنهم نوح وآل إبراهيم وآل عمران دلالة على نبوته وكذلك اجتباه ربه بعد عصيانه وتوبته والتوبة عليه تدل على النبوة كذلك بالإضافة إلى الأحاديث الشريفة المبينة لهذه الأدلة القطعية.
القول بالتولد الذاتي للأحياء قول من الخيال والتصور لا يستند إلى العقل ولا إلى النقل. بل ورد من النقل ما يدحضه. وأما استشهاده على اتفاق علماء الغرب وفلاسفته بالقول بالتولد الذاتي فهو قول من لا محصل عنده. فهل نترك قول رب العالمين الذي بلغنا بالتواتر لفظاً ومعنى وهو أن الله خلق آدم عليه السلام خلقاً مستقلاً من طين لازب وقال له كن فكان إنساناً كاملاً عاقلاً ليكون خليفة الله في الأرض في إمضاء أوامره تعالى وأحكامه ثم اجتباه نبياً، ثم خلق منه زوجه، وكما أشارت الأحاديث الصحيحة من ضلعه، فهل نترك هذا ونأخذ بما سماه زوراً وبهتاناً: اتفاق علماء الغرب وفلاسفته، المارقين من الدين، على إمكانية التولد الذاتي، وهو احتمال لا قطع فيه !!
وأما تفسير أصحاب المنار للنفس الواحدة الواردة في فاتحة سورة النساء: قريش أو عدنان، أو يعرب وقحطان. وأن كل أمة لها أن تعتقد الأصل الذي تنتسب إليه. فهو قول من الخيال والاحتمالات ومجافاة للصحيح الثابت، فلا يعتد به، ولا يعد شبهة له لأنه لم يقم على أصول التفسير، ولم ينضبط بضوابطه.
2- محمد فريد وجدي في نظرية النشوء والارتقاء:
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 33.
(2) سورة طه، الآية: 121، 122.(1/343)
…قال: "إني أصرح بأعلى صوتي أن النشوء والارتقاء، وإن كنت لا أقول به للآن، هو أقرب المذاهب إلى العقل، وأدناها شبهاً بفعل النواميس الظاهرة، أشبهها بسنة الخالق في تدرج الخلق في عالم التكوين. لا أنكر أن الإنسان يستطيع أن يملأ الصحف استشكالات على هذا الفرض العلمي، ولكنها كلها استشكالات لها درجة معينة من القيمة العلمية، لا تدحض أصلاً واحداً من الأصول العلمية الطبيعية التي اعتمد عليها أصحاب نظرية النشوء والارتقاء"(1).
…وقال: "فيجب علينا قبل أن نثور على هذا المذهب أن ندرس جميع الوجوه العلمية التي يستند عليها القوم لنستطيع أن نؤثر على الأذهان من جهتها الحسّاسة وإلا اعتبر كلامنا من التعصب للعقيدة ومن الجمود على القديم"(2).
…وقال: "وليس علينا من بأس أن نعترف بصحة النظريات التي قعَّد عليها الداروينيون مذهبهم، بعد درسها وإدراك مغازيها تمام الإدراك من الوجهة العلمية، وأن نشك في نتيجتها كما يشك أصحابها أنفسهم، فإنهم يعترفون علناً أن نظريتهم لا تزال فرضاً علمياً يعوزه الدليل الحسي. وإنما تمسكهم به لأنه الطريق العلمي الفذ الذي تدرك به حقائق الخليقة وأدوار التكوين الطبيعي، إن لاعتقادنا بصحة مقدمات مذهب داروين نفعاً عظيماً لأنها تقرب منّا الذين يشذون عنا زاعمين أننا جامدون"(3).
__________
(1) دائرة المعارف في القرن العشرين، 1/731، وجدي، محمد فريد، مادة أنس.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) 1/731-732، دائرة معارف القرن العشرين، محمد فريد وجدي.(1/344)
…وقال: "وزدنا أنفسنا قرباً من إخواننا في الإنسانية الذين يدعوهم هذا المذهب للهرب منا، والابتعاد عنا"(1). وقد أحس الكاتب من نفسه الاعتراض على معتقده هذا فقال: "هنا يقول قائل أليس هذا من موقف المنافقين؟ كيف نقف موقف شكك فيما تصرح كتبنا السماوية بنقيضه، أو كيف نشك في أمر خلق الإنسان، وقد صرحت الكتب السماوية بأنه خلق من طين، وأن الله سوّاه بيده، ثم نفخ فيه من روحه؟ فإن كانت الكتب السماوية وحياً من الله وجب علينا أن نعتقد بما صرحت به بلا محاباة، وأن نرفض كل ما عداه معلنين بأنه لا شائبة للحق فيه.
…نقول: نعم، صرح الله في الكتاب العزيز في مواضع كثيرة بأنه خلق الإنسان من طين، وأنه سوّاه بيديه،ونفخ فيه من روحه"(2). ثم برر ذلك بأن القرآن الكريم استعرض أدوار الخلق باعتبارها وجهاً من وجوه الاعتبار، وصورة من صور اللفت إلى الإبداع التكويني، ودعا إلى فقه النصوص من حيث الباطن، واستكناه روحها حتى لا نكفر في اعتقادنا حسبما ذكرت نصوص القرآن. وضرب مثالاً على آيات الصفات، فمن يعتقد أن لله يداً أو وجهاً فإنه يكفر رغم تصريح النصوص بذلك. وعقب على ذلك بقوله: "هذا وأمثاله يسمح لنا أن لا نقف بالآيات الواردة في خلق آدم عليه السلام مع ظاهر اللفظ إن اضطررنا إلى ذلك. على أننا لو أجدنا النظر ما وجدنا في الكتاب آية تدل دلالة صريحة على الخلق المستقل"(3).
__________
(1) 1/731-732، دائرة معارف القرن العشرين، محمد فريد وجدي.
(2) 1/731-732، دائرة معارف القرن العشرين، محمد فريد وجدي.
(3) 1/731-732، دائرة معارف القرن العشرين، محمد فريد وجدي.(1/345)
…وقال: "نقول ولسنا نجزم بصحة مذهب(1) داروين. ولكننا نهديء روع الذين يخشون من تحقق هذا المذهب في يوم من الأيام على الإسلام، وما ورد في أمر آدم عليه السلام فنقول لهؤلاء: ليهدأ روعكم فإن كل ما ورد في خلق آدم عليه السلام يمكن صرفه عن ظاهره على مقتضى أسلوب القرآن نفسه فإن قام الدليل المحسوس في يوم من الأيام على صحة مذهب داروين فلا يتزعزع من العقائد إلا ما كان جامداً منها، أما الذين هداهم الله بنور العلم وبث فيهم روح الإسلام بمعناه الحق، فلا يخشى على عقائدهم من شيء"(2). وقال: "نقول للواقفين مع العادات والظواهر أن يقولوا ما شاءوا ولكن الواقع أن روح الله ممتدة لكل شيء حتى للجمادات فإذا ثبت أن الإنسان مترق عن الحيوان، وأن روحه هي روح حيوانية مرتقية فلا يقدح ذلك في كرامته عند أهل التحقيق، ولماذا لا يأنف الإنسان أن تكون روحه روح طفل مترقية، وهو يرى أنه كان طفلاً يَفْضُله الحيوان بكثير من الصفات الروحية، ويأنف أن تكون روحه روحاً حيوانية مترقية؟ أليس العبرة بالنهاية؟"(3).
__________
(1) هذه العبارة تدل على أنه يعتقد النظرية على غرار عقيدة مطوريها فهم لا يجزمون بصحتها، ولكنهم يصدقونها ويرجحون صحتها.
(2) 1/734، دائرة معارف القرن العشرين، محمد فريد وجدي.
(3) 1/734، دائرة معارف القرن العشرين، محمد فريد وجدي.(1/346)
…وقال: "الخلاصة أن على علماء المسلمين ومرشديهم أن لا ينقطعوا عن مجموع الأمة، بل عليهم أن يشاركوا العصريين في أبحاثهم، وأن لا يجعلوا نصيبهم من المناقشة مجرد التكذيبات والاستشكالات الخالية من القيمة العلمية، فيتغلب عليهم خصومهم فيسقطون ويسقط الدين معهم معاذ الله"(1). وقال: "بقيت مسألة وهي أن القرآن فيه كثير من الآيات الدالة على أن الله خلق الإنسان بيده من طين، ونفخ فيه من روحه، وأسكنه جنته، وأمر ملائكته بالسجود له الخ. نقول: كل هذا يعالج بالتأويل وليس في ذلك التأويل مجافاة للأسلوب الإسلامي، فقد سار عليه العلماء قديماً وحديثاً". وقال: "أفنعجز إن ثبت مذهب (دارون) عن تأويل ما ورد من الآيات التي يناقض ظاهرها نظرية الخلق المستقل"(2).
__________
(1) 1/735، دائرة معارف القرن العشرين، محمد فريد وجدي.
(2) 4/36، دائرة معارف القرن العشرين، محمد فريد وجدي، مادة دارون.(1/347)
…مما سبق ندرك أن محمد فريد وجدي ممن يناصرون نظرية النشوء والارتقاء، أو نظرية الخلق المستقل، أي بلا خالق، ويراها أقرب إلى العقل والعلم، وإن كان لا يجزم بها فلأن منظِّميها أنفسهم لم يجزموا بها، ولأن، ثورة المسلمين عليها عارمة. ودعا إلى التأويل والأخذ بما سماه روح النصوص، والباطن حتى تنسجم النظرية مع نصوص القرآن الكريم، وقد أورد عليها إشكالات في دائرة معارفه، ولكن أتبعها بردود عليها أعلى فيها شأن النظرية. وزعم أن مجابهة النظرية تدل على الجمود على العقيدة. وأن التمسك بالنظرية هو الطريق العلمي الفذ الذي تدرك به حقائق الخليقة وأدوار التكوين الطبيعي. ويفهم من هذا أن للقرآن طريقاً دون هذا الطريق في إدراك حقائق الخليقة. وأن القول بأن المخلوقات لم توجد تدريجياً بل بأمر من خالق الكون وبسرعة تنفيذ الأمر الإلهي، وأن هذا القول لا يبرز الدليل الحسّي في يوم من الأيام، فيبطلها، ويزعزع هذه العقيدة الجامدة (الثابتة)، وامتدح القائلين بنظرية دارون، ووصفهم بالذين هداهم الله بنور العلم وبث فيهم روح الإسلام بمعناه الحق. كما وصف الملتزمين بنصوص القرآن بأنهم الواقفون مع العادات والظواهر. ودعا علماء المسلمين لمشاركة العصريين في أبحاثهم ونتائجها، ولا يكونوا من المشككين، وأشار عليهم بالتأويل (التحريف) للتخلص من معارضة النظرية لنصوص القرآن الكريم، وجعل التأويل هو العلاج الناجح لما يناقض ظاهرها نظرية الخلق المستقل. ومن يجل النظر في جميع ما صدر عن محمد فريد وجدي يجده من الشوائب التي لا تمت للتفسير بسبب ولا بنسب، فهو مما لم تحتمله نصوص القرآن، بل مما يعارضه تماماً.
3- د. عبد الكريم الخطيب في نظرية النشوء والارتقاء:(1/348)
…قال د. الخطيب: "فالمراد بآدم هنا هو الإنسانية"(1). وقال: "وآدم الذي واجه الملائكة قد لا يكون أول السلالة الإنسانية، بل لعله في حلقة متأخرة شيئاً ما عن الحلقة الأولى لهذه السلالة"(2). وقال: "إن لآدم –في نظرنا- مفهوماً غير هذا المفهوم الذي تحدثت عنه روايات المفسرين التي تعتمد في هذا على الإسرائيليات، وعلى ما بقي من أساطير الأقدمين من قصة الخلق ومكان آدم منها"(3).
…فالدكتور الخطيب يرى أن لفظ (آدم) ليس علماً على شخص معين بل هو مصدر مخترع في القرن العشرين. فآدم ليس أول البشر حسب قوله. وزعم أن القول بأن آدم أول إنسان على الأرض، أو أبو البشر هو من الإسرائيليات وأساطير الأقدمين، ضارباً بعرض الحائط منطوق الآيات والأحاديث فضلاً عن مفهومها مع أنها تدل دلالة قطعية، وما ساقه هو مجرد احتمالات "قد لا يكون أول السلالة ... بل لعله في حلقة متأخرة ... في نظرنا ...".
…وقال: "ونريد أن نقف قليلاً مع قصة الخلق –خلق آدم- كما تحدث عنها القرآن، لا على ما جاءت به التفاسير من إسرائيليات وأساطير عن خلق آدم، فألقت بذلك ظلالاً على آيات الله، وأخرجت منها مفهوماً لخلق آدم، يبعد كثيراً عما صرح به منطوق الآيات ومفهومها، ويصادم أيضاً بعض حقائق العلم الحديث فيما كشف عنه علم الحياة، وأصل الأنواع، بل ويصادر العقل الإسلامي الذي يفهم القرآن على ضوء هذه التفاسير، فلا يجد له سبيلاً إلى النظر والبحث عن أصل الإنسان ومكانه في سلسلة التطور"(4).
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن، الخطيب، د. عبد الكريم محمود، م1، 1/53.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق، م1، 1/53، 54. وانظر ص 59، تحت عنوان آدم وجنته.
(4) التفسير القرآني للقرآن، م1، 1/59.(1/349)
…ومن يجل النظر في قيله هذا يجده منكوساً، وهو من الشوائب المحضة الخالية من التفسير. فقد جعل العلم والعقل فاروقاً على ما جاءت به نصوص القرآن الكريم. وصيّر نظريات العلم القائمة على الفرض والتخمين أثبت وأرجح من نصوص الوحي القطعية في ثبوتها وفي دلالتها.
…وقال: "ولعل في قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ } (1) ما يشعر بالمعنى الذي ذهبنا إليه، وهو أن آدم لم يجئ من الطين مباشرة وإنما كان ذلك بعد سلسلة طويلة من التطورات، وبعد عمليات معقدة من التصفية والانتخاب استمرت ملايين السنين حتى انتهت بظهور الإنسان على تلك الصورة التي علا بها جميع أبناء سلالته. وكان أهلاً لتلقي النفخة الإلهية يوم مولده، وكأنها التاج الذي توّج به ملكاً على العالم الأرضي كله، وهذا ما تشير إليه أيضاً الآية الكريمة { مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } (2).
…ولا يخفى أن الدكتور الخطيب يتبع هنا أسلوب المغالطة لأن النص يقول عن الإنسان وليس عن آدم. وآدم خلقه بالنص { مِّن طِينٍ } (3) وفي نص آخر { مِّن طِينٍ لَّازِبٍ } (4)، وفي نص ثالث { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (5). وفي نص رابع { كُن فَيَكُونُ } (6). ففصل النصوص في التفسير، وإهمل قاعدة التفسير المشهورة أن ينظر في التفسير إلى القرآن أولاً، ثم إلى السنة النبوية، ثم إلى اللغة، ثم الاستئناس بأقوال الصحابة والتابعين وممن يعتد بتفسيرهم مع تقديم المعنى الشرعي على المعنى اللغوي، ففصل النصوص وإهمال قاعدة التفسير أدى إلى المغالطة فأدخلت الشوائب.
__________
(1) سورة المؤمنون، الآية: 13.
(2) سورة نوح، الآية: 14.
(3) سورة المؤمنون، الآية: 13.
(4) سورة الصافات، الآية: 11.
(5) سورة ص، الآية 75.
(6) سورة آل عمران، الآية: 59، وسورة البقرة، الآية: 117، وغيرها.(1/350)
…ويقال الشيء نفسه عن تفسير قوله تعالى: { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } . أي في بطون أمهاتكم كما ورد في قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (1). أما آدم عليه السلام فلا ينطبق عليه هذا الخلق { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } (2).
…وقال عند قوله تعالى: { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } (3). حيث مسخ الله يهود قروداً عندما عصوا واعتدوا في السبت: "ولنا أن نذكر هنا تحوّل هؤلاء الممسوخين من الإنسان إلى القرد يمكن أن يستأنس به في حديثنا الذي عرضناه من قبل في خلق الإنسان، وفي تطوره في الخلق، وأن الإنسان كما انتقل صاعداً من قرد إلى إنسان، كذلك رُدَّ نازلاً من إنسان إلى قرد"(4). وقال: "ولعل في قوله تعالى { خاسئين } ما يقوي هذا الرأي الذي ذهبنا إليه .. ومعنى خاسئين: مبعدين، مطرودين من عالم الإنسان، مردودين إلى عالم الحيوان، وإلى فصيلة القردة منه، التي هي أعلى مراتب الحيوان، وأول مراتب الإنسان الحيوان"(5).
__________
(1) سورة المؤمنون، الآيات 12-14.
(2) سورة آل عمران، الآية: 59.
(3) سورة البقرة، الآية: 65.
(4) التفسير القرآني للقرآن، م1، 1/94.
(5) المصدر السابق نفسه، ص 95.(1/351)
…إن قول الخطيب هذا ينبئ عن نفي المعجزة في المسخ الإلهي ليهود على عصيانهم، وكأن القضية تحولات طبيعية من قرد إلى إنسان وبالعكس. فيكون المسخ الذي تحدث عنه من خياله، ومن وحي شيطانه، ولا يمكن فهمه من لغة العرب التي وردت في القرآن الكريم، ومعنى الخسأ قد فصّله كذلك من خياله لا من دلالة اللفظ على معهود العرب فيرد قوله ويوضع في سلة الشوائب.
…وقال في الخلق المباشر { ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } : ما يُسْأل عنه.. وهو كيف يقول للشيء كن، ثم لا يكون واقعاً في الحال، كما يدل على ذلك قوله تعالى: { فَيَكُونُ } التي تدل على المستقبل المتراخي، ولو كان ما أمر الله به واقعاً في الحال، لكانت صياغة الآية على غير هذا، ولكانت تلك الصياغة مثلاً: (ثم قال له كن فكان) فكيف يكون هذا؟ وهل أمام قدرة القادر العظيم حواجز وحوائل تحول بين القدرة وبين إمضاء ما قدرت على الفور وفي الحال؟"(1). وأجاب عن هذا التساؤل بقوله: "والجواب على هذا هو أن قول الله للشيء (كن) لا يقتضي وقوع هذا الشيء في الحال، إذ قد يكون الأمر موقوتا بوقت، أو متعلقاً بأسباب لابد أن يقترن حدوثها بها، وهذه الأسباب لا متعلق لها بقدرة الله، وإنما متعلقها بالشيء ذاته الذي دعته القدرة إلى الظهور، والذي قضت حكمة الله ألا يستكمل أسبابه المقترنة به. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (2). وقيله هذا مبني على نظرية أن الخلق والتكوين مبني إلى الأسباب والمسببات الذي يفضي إلى القول بأن الطبيعة هي الخالق، وليس القدرة الإلهية التي تؤدي إلى الإيمان بوجوب وجود خالق أزلي مدبر. فإزالة الإعجاز في قصة الخلق من وحي الدكتور الخطيب لا من دلالة اللغة على الإطلاق.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن، م2، 3/478-479.
(2) سورة يس، الآية: 82.(1/352)
…وقال في تفسير قوله تعالى: { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } (1): "ما يكشف عن وجه واضح من وجوه الإعجاز القرآني .. وانظر في وجه هذه المعجزة، على ضوء ما كشف العلم الحديث، من علم الأحياء، ونظرية النشوء والارتقاء، فإنك ترى عجباً من العجب في نظم القرآن الكريم، وما يحمل هذا النظم من أسرار وغيوب. إن آدم –ونعني به الإنسان- لم يخلق من تراب خلقاً مباشراً، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى قبض قبضة من تراب، فقال لها كوني –آدم- أي إنساناً فكانت .. ولو شاء الله سبحانه وتعالى هذا لكان كما شاء وأراد .. ولكنه سبحانه خلق آدم خلقاً متطوراً، كما يخلق الشجرة العظيمة –مثلاً- من بذرة، وكما يخلق الرجل المكتمل من نطفة"(2). ثم قال: "وكما يقول سبحانه في هذه السورة { وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } (3). فآدم الذي هو أول إنسان ظهر على هذه الأرض قد كان تراباً .. ثم تخلق من هذا التراب أول جرثومة للحياة، هي أدنى مراتب النبات في عالم الطحالب، ثم تدرجت الأحياء في هذا العالم النباتي إلى مداها، فكان منها النخل الذي هو قمة هذا العالم النباتي، ثم بدأت جرثومة العالم الحيواني في الأميبيا والمحار والإسفنج وذلك في أدنى مراتب هذا العالم نما صُعدا حتى بلغ مداه في فصائل القردة، التي بدت تُطِل من وجهها صورة باهتة للإنسان (آدم) ثم أخذت هذه الصورة تتضح قليلاً قليلاً، وتنضج في بوتقة الزمن على مهل حتى كان اليوم الذي أطل منه وجه (آدم) ممثلاً في إنسان الغاب، وكان هذا الآدم هو باكورة ثمار هذه الشجرة التي امتدت جذورها في أعماق الأرض"(4).
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 59.
(2) التفسير القرآني للقرآن، م2، 3/480.
(3) سورة نوح، الآية: 17.
(4) التفسير القرآني للقرآن، م2، 3/480-481. وانظر ص 376 القصص القرآني في منطوقه ومفهومه، للمؤلف نفسه.(1/353)
…هذه هي قصة الخلق عند من زعم أن تفسيره تفسيرٌ قرآني فهي شعارات منكوسة معكوسة، إنها نظرية دارون لم تنقص شيئاً، بل أضفى عليها طابع الشرعية مع أنها من نسج الخيال، وزعم أنها معجزة لنصوص القرآن، حيث ظهرت النظرية وفقاً لنصوص القرآن، مع أن الأمر معكوس كذلك لا يمكن أن يفهم من دلالة النص على الإطلاق، وكأن مخالفة القرآن بما لا سند له من الواقع، أو التاريخ، أو العلم، أو العقل معجزة. فهذه النظرية فاض بها عقله الحر لا من نصوص القرآن بل مناقضة لمنطوق ومفهوم النصوص في القرآن { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } (1). والفاء في اللغة ظاهرة في التعقيب المباشر بعيدة فيما سواه(2). فعدل الدكتور الخطيب عن المعنى الظاهر إلى البعيد بدون قرينة.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 59.
(2) قد ترد الفاء بمعنى الواو في إرادة الجمع المطلق، وقد ترد بمعنى ثم في إرادة التأخير مع المهلة، ولكن هذه المعاني بعيدة، والمعنى القريب والمتبادر للأذهان أن تكون للفورية، والتعقيب المباشر، ولا توجد هنا أي قرينة تصرف معنى الفاء للمعنى البعيد.(1/354)
…وكذلك تفسيره لقوله تعالى: { وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } (1). فهو من محض الخيال جاء به ليضفي عليه الشرعية. وهو بذلك يجمع المتناقضات في عقيدة واحدة. فالعقيدة الإسلامية تواتر عنها أن الخلق للإنسان والكون والحياة كان خلقاً مستقلاً مباشراً من الله تبارك وتعالى كما تدل عليه نصوص القرآن الكريم. ونظرية دارون ترى أن الخلق عبر ملايين السنين وليس من الله تعالى، وبالتطور والتولد الذاتي، أي أن الطبيعة (الكون والإنسان والحياة) هي الخالق. وعليه فما ورد في تفسير د. الخطيب في قصة الخلق هو محض شوائب لا نصيب للتفسير فيها. وإذا أضفنا إلى هذا ما زعمه أن تفكير الإنسان وما ورد في الفلسفة الهندية القديمة كما سجلت أسفار (بوبانشاء) كتاب الهند المقدس والقصص التي تحويها كتب التفسير من أن حواء خلقت من ضلع من أضلاع آدم، أنها كلها متقاربة(2). إذا أضفنا قيله هذا نر أنه يدفع القارئ إلى التخلي عن الإيمان بهذه العقيدة (أن حواء خلقت من ضلع زوجها آدم). ما دامت هذه العقيدة من الفلسفة الهندية ومن الإسرائيليات، متجاهلاً بذلك قوله تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء } (3). وضارباً عرض الحائط بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - المبيّن لهذه الآية: (فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه) (4). فالآية الكريمة ذكرت وصفه تعالى لنفسه بأنه المتوحد بخلق جميع الأنام من شخص واحد، وعرّف عباده كيف كان مبتدأ الخلق وكيف أنشأه
__________
(1) سورة نوح، الآية: 17.
(2) انظر د. الخطيب، عبد الكريم محمود، القصص القرآني في منطوقه ومفهومه، ص 372-373.
(3) سورة النساء، الآية: 1.
(4) حديث صحيح رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، كتاب الأنبياء، 60، باب خلق آدم وذريته.(1/355)
من نفس واحدة، ونبه الناس إلى أنهم بنو رجل واحد، وأم واحدة(1). فالنفس الواحدة هي آدم عليه السلام، وخلق منها زوجها: أي امرأته (حواء)، وبث من آدم وحواء أي بالتزاوج رجالاً كثيراً ونساء كثيرات. فآدم خلق من تراب، وامرأته خلقت من ضلعه .. هكذا وصف الإسلام قصة الخلق وليس كما ذهب إليه دارون اليهودي ديانة، الإنجليزي جنسية، فكل ما زعمه الدكتور الخطيب أنه تفسير هو شوائب يجب أن تقصى من التفسير.
__________
(1) انظر تفسير الطبري، م2، 4/223، طبعة دار الفكر.(1/356)
خلق حواء في تفسير د. الخطيب:
…قال د. الخطيب: "والقصة التي تقول إن (حواء) من ضلع آدم هي من واردات الأساطير، وقد أخذ بها معظم المفسرين، وفهموا هذه الآية الكريمة عليها(1). وقال: "والآية لا تعين على هذا الفهم، ولا تسانده، وإنا إذ ننظر في قوله تعالى: { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } (2) لنجد الضمير في (منها) الذي يشير إلى النفس الواحدة، لا يقصدها باعتبارها كائناً بشرياً هو (آدم) وإنما يشير إليها باعتبارها مادة مهيأة لخلق البشر، ومن هذه المادة كان خلق آدم، ومن هذه المادة أيضاً كان خلق زوجه التي يكتمل بها وجوده، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } (3). وليس هذا في خلق الإنسان وحده، بل هو التدبير الذي قدّره الله لخلق الكائنات الحية كلها من حيوان ونبات، ومن يدري فربما كان ذلك في عالم الجماد أيضاً"(4). ثم قال: "فهل كان خلق هذه الموجودات على تلك الصورة التي خلق عليها آدم وحواء كما تحدثت الأساطير عنها؟ الذكر أولاً، ثم كان من ضلع الذكر خلق الأنثى؟ ذلك ما لا مفهوم له في علم ولا معقول له في عقل! (5). ولو أردنا أن نأخذ بهذه الأسطورة، ونقول في خلق آدم وحواء بما تقول به الأساطير لكان علينا أن نرتفع لخلق آدم إلى بذرة الحياة الأولى للأحياء .. في (الأميبيا) حيث يقوم التوالد والتكاثر فيها على الانقسام في الجرثومة الواحدة! فهل إلى هذه الجرثومة الأميبية تمتد أنظار المفسرين الذين قالوا: إن حواء وآدم خلقا من جرثومة واحدة كانت آدم أولاً، ثم انقسمت على نفسها فكانت آدم وحواء ثانياً؟ إن يكن ذلك فلا بأس به عندنا وهو الذي نقول به، وهو أن آدم وليد دورة طويلة في سلسلة التطور، وأن أول سلسلة للحياة التي تطور
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن، م1، 1/75، وانظر القصص القرآني في منطوقه ومفهومه، ص 392.
(2) سورة النساء، الآية: 1.
(3) سورة النبأ، الآية: 8.
(4) التفسير القرآني للقرآن، م2، 4/683.
(5) المصدر السابق نفسه.(1/357)
منها كانت (الأميبيا) التي تتوالد بالانقسام"(1).
…وهكذا نجد الدكتور الخطيب فيما سماه تفسيراً لاحظ ولا نصيب له من التفسير. بل هي معان في ذهنه، أراد أن يسبغ عليها صفة التفسير فكانت ظلالاً قاتمة على التفسير، وأثقلت عبئه بهذه الشوائب. فهو مصرّ على أن آدم –وهو اسم علم- أن يكون رمزاً للجنس البشري، ومصر على أن زوج آدم (حواء) بنص الحديث المبيّن لنص القرآن، لم يخلقا خلقاً مباشراً من الله تعالى، بل جعل الحديث الصحيح بل الأحاديث الصحيحة أنها من الأساطير ومن الإسرائيليات. مع أن قصة خلق آدم عليه السلام، ذكرت في القرآن في سور كثيرة منها: سورة البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف، وطه، وص، وذكر فيها قصة الخلق وزوجه وصراعهما مع إبليس، وأمر الملائكة بالسجود لخلق آدم .. الخ وفي الحديث خلق الله آدم على صورته(2). وقصة خلق زوج آدم عليه السلام، والمشهورة باسم حواء، أنها خلقت من آدم ذكرت مجملة في فاتحة سورة النساء، ومفصلة في الحديث الشريف وأنها خلقت من ضلع آدم عليه السلام، والرواية في الصحيحين وغيرهما(3)
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن، م2، 4/683-684.
(2) رواه مسلم والبخاري وأحمد، انظر صحيح البخاري، 4/160، 8/62، كتاب الاستئذان، وانظر فتح الباري، 11/3، طبعة المطبعة السلفية، القاهرة. وانظر صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب البر والصلة، باب النهي عن ضرب الوجه، 32، رقم 4/115، الحديث 2017، طبعة السعودية، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، والجنة، ب11، رقم 28، وانظر مسند أحمد بن حنبل 2/315.
(3) رواه البخاري حديث 3331، فتح الباري 6/363، كتاب أحاديث الأنبياء، وانظر 364، أحاديث ساقها ابن حجر عن مسلم والترمذي والنسائي والبزار وأحمد، وصحيح ابن حبان، وانظر حديث 5184 فتح الباري، كتاب النكاح، 9/252، وانظر تفسير القرطبي، 1/301، حديث مسلم، وانظر 5/2، تفسير القرطبي. وانظر تفسير ابن كثير، 1/448، طبعة دار المعرفة سورة النساء، وانظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، 14/431.(1/358)
. ومع هذا كله عدل د. الخطيب عن منطوق الوحي ومفهومه وهرول إلى نظرية لا عماد لها، شك فيها منظروها ومؤيدوها على سواء، وأعلى شأنها على ما ورد في كتاب الله تعالى وعلى ما في الصحيحين، جاعلاً عقله الحر والنظريات العلمية القائمة على الاحتمالات والشك فاروقاً بدل الشرع. ذلك ما لا مفهوم له في علم ولا معقول له في عقل. ولو أنصف لاعترف أنه لا دليل من العلم على ظنون أصحاب النظرية، لا من الوراثة (الجينات)، ولا من الآثار، ولا من الواقع، حتى ولا من العقل ذلك لأن العقل حتى يكون كذلك لابد من وجود الواقع تحت حس الإنسان. وقصة الخلق من المغيبات، وصدق الله العظيم { مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } (1). وخلاصة القول: إن أقوال الخطيب تدل على أن الرجل في رأسه خاطرة، وأراد أن يسخر القرآن لها، ويضفي عليها صفة القداسة الشرعية، وبهذا دخلت الشوائب في التفسير. والحق أن لا علاقة لقيله بالتفسير.
4- علي نصوح الطاهر(2) في تفسير قصة الخلق:
__________
(1) سورة الكهف، الآية: 51.
(2) من مواليد نابلس، وتوفي في القاهرة أعزب مع خليلته الإيرانية، كان وزيراً للزراعة في الأردن في الخمسينات، وصار سفيراً في إيران، وله تفسير مخطوط كان قد أوصى أن لا يفتح إلا بعد موته، وهو موجود في مجمع اللغة العربية الأردني بعمان، وقد اطلعت عليه بتكليف من أستاذ التفسير في الجامعة الأردنية وبإذن خطي من الجامعة الأردنية لرئيس مجمع اللغة العربي الأردني، وقد قرأته كاملاً وكتبت عنه تقريراً في 1988م.(1/359)
…قال عند تفسير قوله تعالى: { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } (1): "وفي هذا القول تقرير بأن الإنسان نشأ نشأة جرثومية على هذه الأرض من منشأ صغير حقير في نظر الجهلاء من الناس وهم أغلبيتهم"(2). وقال: "وترك ذلك -تفاصيل خلق السماوات والأرض والإنسان والكائنات الحية- لرجال الفكر والبحث. وترك للمسلم أن يبحث ويتابع نظريات العلماء المسلمين وغيرهم بهذا الصدد فيأخذ بما يتفق عليه منها دون أن يكون للعقيدة أثر في ذلك فلا تدخل العقيدة في العلم ما دام العلم يكتشف كل يوم ما يصل إليه العلم في زمانه"(3).
…وقال في تفسير فاتحة سورة النساء: "وهو الذي خلقهم من نفس واحدة أي من مرجع سلالي واحد". وبذلك رد الجنس البشري إلى مصدر واحد. وقد يفهم منها أن هذه النفس حينما خلقها كانت تتكاثر بانقسامها لا بتزاوجها وهو ما يعبر عنه علمياً بهرمافروديت. ولا تزال هذه الظاهرة مشاهدة في الأحياء ثم انقسمت على نفسها في طفرة Mutation الله أعلم متى حدثت. وبعد هذا الانقسام أصبحت تتزاوج أي خرج منها الذكر، وخرج منها الأنثى، وأصبح التكاثر بالتزاوج وليس بالانقسام. وبعد هذه الطفرة بث الله منهما أي جعل الجنس البشري ينتشر بسرعة فخرج منهما أي من تزاوج الذكر والأنثى رجالاً كثيراً، أي ذكوراً كثيرة ونساء أي أنثيات كثيرات(4).
__________
(1) سورة العلق، الآية: 2.
(2) تفسير القرآن الكريم كما أفهمه، الطاهر، علي نصوح، 15/121، مخطوط ستانسل، مكتبة مجمع اللغة العربية الأردني.
(3) المصدر السابق، 15/133.
(4) المصدر السابق، 1/302، وانظر ص 303.(1/360)
…ولا يخفى على أولي النهى أن هذا الكلام لا علاقة له بتفسير فاتحة سورة النساء، لا لغة ولا شرعاً، وإنما هي خواطر في خيال معالي السفير أراد أن يلبسها ثوب الشرعية. فخطها باسم تفسير الآية. وأطلق عليه تفسيراً علمياً. وهو لم يخرج عن نظرية دارون قيد شعرة. فقرر أن نشأة الإنسان كانت نشأة جرثومية على هذه الأرض وأن تفاصيل خلق السماوات والأرض والإنسان والكائنات الحية متروكة لرجال الفكر والبحث، بغض النظر عن عقائدهم، وجعل المسلم يبحث ويتابع هذه القضية الغيبية من خارج النصوص، بل يلهث وراء من لا يؤمنون بالغيب ليعرف منهم قضية غيبية.
5- د. مصطفى محمود في تفسير قصة الخلق:
…قال: "أعود إلى الحياة .. وإلى مبدئها، والتقط دارون أبا التطور ليروي لنا رؤيته عن مسيرة الحياة، وهي الرؤية التي غيرت فكر الدنيا"(1). وتحدث عن رحلة دارون، وعن اسم الباخرة التي استقلها لجمع العينات البحرية، ثم تحدث عن العينات البرية والبحرية وملاحظاته، وكأنها قرآن يتلى لا يحتمل النقض. وجعل أصل الحكاية أن الحيوانات أصلها واحد، ثم تطور هذا الأصل، وتباين واختلف إلى هذه الفصائل المتباينة بسبب تباين الظروف والبيئات(2). ثم جعل من علم التشريح شاهداً ودليلاً على ملاحظاته، مع أنها ظنون لا ترقى لأكثر من احتمالات. ومن كبرى الظواهر عنده قوله: "والمشروط وهو يعبث خلف الأذن البشرية يكتشف شيئاً آخر، فها هي ذي نفس عضلات الأذن التي كانت تحرك آذان أجدادنا الحمير وقد تليفت وضمرت حينما لم تعد لها وظيفة، وحينما اتخذت آذاننا أشكالاً تغنيها عن الحركة(3).
__________
(1) القرآن محاولة لفهم عصري، د. محمود، مصطفى، ص 52. وله كتابان في الموضوع نفسه هما: لغز الموت ولغز الحياة.
(2) المصدر السابق، ص 53.
(3) المصدر السابق، ص 56.(1/361)
…وهكذا بنى د. مصطفى محمود على هذه الظنون أن جعل أجداد البشرية حميراً، ثم قال: "وابتكر دارون لنفسه فقال: إن الترقي حدث بحوافز داخلية، وبدون يد هادية من خارج، مجرد صراع البقاء كان الغربال"(1). أي أن نظرية صراع البقاء كالغربال فيبقى الأصلح، ويموت الأقل صلاحاً. ثم اعترف أن الترقي بيد هادية من خارج لم يعد مقنعاً.
…ويعد التطور حسب صراع البقاء راجحاً(2). وزعم أن العلم أجمع على مبدأ الحياة من الماء، من ماء المستنقعات الذي تختمر فيه المادة وتتحلل وتتركب بقوة غير معروفة إلى الشكل الأول للحياة(3). كما زعم أن علم الفلك أجمع بأن كل شيء نشأ من الهواء من سحب الغاز والتراب الأولية(4). وعقب على ذلك كله بقوله: "هذا مبلغنا من العلم في قضية الخلق في عرض سريع موجز. فماذا قال القرآن حينما تعرض لهذه القضية منذ أربعة عشر قرناً من الزمان؟"(5). وأجاب عن السؤال بأن أسلوب القرآن يختلف عن أسلوب العلماء. فالقرآن يقدمها بالإشارة والرمز والمجاز والاستعارة واللمحة الخاطفة، والعبارة التي تومض في العقل كبرق خاطف، إنه يلقي بكلمة قد يفوت فهمها وتفسيرها على معاصريها، ولكنه يعلم أن التاريخ والمستقبل سوف يشرح هذه الكلمة ويثبتها تفصيلا"(6).
__________
(1) المصدر السابق، ص 56، 57.
(2) انظر ص 57-59، القرآن محاولة لفهم عصري، د. مصطفى محمود.
(3) ص60، المصدر السابق نفسه.
(4) ص61، المصدر السابق نفسه.
(5) ص61، المصدر السابق نفسه.
(6) ص61، المصدر السابق نفسه.(1/362)
…وهكذا فقد حدد د. مصطفى محمود موقف القرآن من قضية الخلق بأنه سيكون عن طريق الرمز والإشارة، وهو طريق غير واضح المعالم، ومقياس بلا ضوابط ولا حدود. فمن السهل جداً إدخال جميع الشوائب إلى التفسير من طريق الرمز والإشارة، وبالتالي تدخل نظرية دارون ضمن موقف القرآن، ويخرج منطوق الآيات ومفهومها باللسان العربي المبين، وبناء على هذا المنطق المقلوب قال: "إن آدم جاء عبر مراحل من التخلق والتصوير والتسوية، واستغرقت ملايين السنين بزماننا وأياماً بزمن الله الأبدي(1). وقال: إنه كانت هناك قبل آدم صور وصنوف من الخلائق جاء هو ذروة لها(2). وقال: "وأعجبني في كتاب للمفكر الإسلامي محمود طه بعنوان "رسالة الصلاة" تعبير جميل يقول فيه: إن الله استل آدم استلالاً من الماء والطين { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ } (3). إن الانبثاق من الطين، درجة درجة، وخطوة خطوة، من الأميبيا إلى الإسفنج إلى الحيوانات الرخوية إلى الحيوانات القشرية إلى الفقريات إلى الأسماك إلى الزواحف إلى الطيور إلى الثديات إلى أعلى رتبة آدمية بفضل الله وهديه وإرشاده"(4).
…هذه هي خلاصة نظرية دارون، وهي التي نطق بها محمود طه، وهو القول الذي أعجب المفسر د. مصطفى محمود، وآدم عنده آدم الصورة، وآدم المثال. أي خلق آدم على مرحلتين الأولى وهي آدم الأرضي الذي انبثق من ظلام المادة. ومن رحم الأرض، ومن أسفل سافلين حيث ألقى به مبعداً مطروداً، وآدم المثال الذي خلق الله في أحسن تقويم ليكون إلى جواره في الملكوت(5).
__________
(1) ص 66، القرآن، محاولة لفهم عصري، د. مصطفى محمود.
(2) ص 67، المصدر السابق نفسه.
(3) سورة المؤمنون، الآية 13.
(4) ص 67، 68، القرآن محاولة لفهم عصري، د. مصطفى محمود.
(5) ص 76، القرآن محاولة لفهم عصري، د. مصطفى محمود.(1/363)
…وهذا كلام ما أنزل الله به من سلطان، فيهوي في دائرة الظن التي لا تغني عن الحق شيئاً، فيكون من الشوائب التي تعارض بل تناقض نصوص القرآن الكريم التي تفيد أن الله تعالى خلق آدم بيديه من تراب، وقال له كن فاستحال إنساناً عاقلاً كاملاً راشداً معّلماً.
الشجرة في تفسير د. مصطفى محمود:
…قال: "وأنا أرى أنها رمز للجنس والموت اللذين تلازما في قصة البيولوجيا حينما أخذت الكائنات الحية بطريقة التلاقح الجنسي لتتكاثر فكتبت على نفسها طارئ الموت. ولم تكن الكائنات قبل ذلك تموت بل تتجدد وتعود إلى الشباب بالانقسام الذاتي. كان التلاقح الجنسي هو الشجرة المحرمة التي أكلت منها الحياة فهو من الخلود إلى العدم"(1).
…فالشجرة رمز للجنس في ملة واعتقاد د. مصطفى محمود. ثم زعم أن الطهور للذكور هو الكفارة التي قضى بها آدم على نفسه بعد الخطيئة كمحاولة للخصاء تقززاً مما فعل ثم أصبحت تقليداً دينياً من يومها(2).
…وقال: "ولا يوجد مانع من أن تكون الشجرة هي شجرة تؤكل بالفعل فتؤدي إلى إطلاق الهرومونات واشتعال الرغبة الجنسية ومن ثم تلقي بآدم إلى المخالطة الجنسية وتكون الآية صادقة حرفياً ومجازياً"(3). وكأن الدكتور مصطفى محمود يرى أن الأصل في معنى كلمة الشجرة أنها (رمز للجنس). وهو تفسير لا تسعفه اللغة، ولا الشرع، فلا قيمة له ويعد من الشوائب في التفسير في القرن الرابع عشر الهجري.
رأي الباحث في المسألة:
…إن شوائب التفسير في قضية خلق آدم وزوجه نفذ من عباءة حرية الفكر. وكما قال مؤسس المدرسة العقلية الحديثة في التفسير جمال الدين المشهور بالأفغاني: "وخلاصة القول إن الحكم للعقل والعلم"(4).
__________
(1) ص 80، القرآن محاولة لفهم عصري، د. مصطفى محمود.
(2) انظر ص 81، القرآن محاولة لفهم عصري.
(3) ص 81، القرآن محاولة لفهم عصري.
(4) ص 95، خاطرات جمال الدين الأفغاني، محمد باشا المخزومي.(1/364)
…وفلسفة جمال الدين أن الشجرة حيوان قطعت رجلاه وساخت في الأرض. وأن الحيوان شجرة لها أقدام تسير عليها. وقد مدح الدكتور شبلي شميل لجرأته في الصدع بنظرية النشوء والارتقاء فيعد هذا المدح مؤشراً على استحسانه لها. وأما ردّه عليها أو بيان سلبياتها فهذا قدر مشترك بين أتباعها ومعارضيها على سواء.
…إن المؤسس للشوائب في هذه المسألة في القرن الرابع عشر الهجري هو جمال الدين وتبعه خليفته محمد عبده ومحمد رشيد رضا، وكان الباقون تبعاً لهم. وعندما أنظر للمسألة فإني أنظر إليها من زاوية هل هي تفسير أولا ؟ ثم ما هو موقف الإسلام منها؟ وأما ما قيل فيها إنه تفسير فالمنصف لا يعدّه تفسيراً البتة لأنه لم يعتمد على لغة الشرع، ولا على علومه. والتفسير هو بيان معاني كلام رب العالمين. فمن الحيف على القرآن أن نعد ما زعم في نظرية النشوء والارتقاء أنه بيان لكلام رب العالمين، ونحن نعلم علم اليقين أن القرآن لم يأت لبيان تاريخ بدء الخليقة وتكوين السماوات والأرض، ولا لتفصيل نشوء الحياة على الأرض. والقَبْليَّة والبَعْديَّة الواردة في القرآن ظنية الدلالة لأن الظرفية تحتمل الزمان والمكان والذكر. وكذلك نسبة التراخي في حروف العطف، وتراوحه بين التراخي الرتبي والزمني، ومع ذلك ينبغي أن يكون تفسيرها محكوماً بقوله تعالى: { وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } (1). والفاء للتعقيب وليس للتراخي، ويجب أن تحمل ألفاظ القرآن الكريم على ظاهرها إلا إذا وردت قرينة تصرفه عن المعنى الظاهر، وعلينا أن نتحاشا التأويل (التحريف) الذي تزل فيه الأقدام والأقلام.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 117.(1/365)
…إن لوثة نظرية النشوء والارتقاء منحدرة من الفلاسفة القدماء، ثم من تلامذتهم من الملل المختلفة، ثم تسربت إلى المسلمين من أهل عقائد الزيغ والضلال من الفلاسفة والباطنية، وهم وإن حسبوا على المسلمين لكن الإسلام بريء من أفكارهم ومفاهيمهم براءته من المشركين يوم الحج الأكبر. ومن هؤلاء: ابن سينا والفارابي وأضرابهما، والقاشاني وابن عربي وأمثالهما.
…ومن الجدير بالذكر أن استنباط تاريخ الخلق من المعاني اللغوية خطأ فادح، وسفسطة توقع الناس في المهالك، لأن المغيبات لها معان شرعية توضحها، ولا شأن للغة في ذلك لأن العرب لم يعرفوها سابقاً، حتى يضعوا إزاءها ألفاظاً تبين معناها. ولا قبل لهم أن يضعوا معاني لما هو مغيب مجهول عنهم، ولم يرد مصدر تاريخي موثوق بصحته سنداً ومتناً في قضية الخلق غير القرآن الكريم. فلا يلتمس أبعاد هذه المسألة من غير الكتاب والسنة. بل إن نص القرآن صريح بأن الله لم يُشهد الإنس ولا الجن خلق أنفسهم فكيف يصار إلى تصديقهم؟! وعليه فكل تأويل أو تفسير من خارج الكتاب والسنة، ومن غير اللغة وعلوم الشرع يعد من التأويل الذي يفضي إلى إدخال الشوائب في التفسير فضلاً عن أنه لا يجوز مقارنة نظريات الطبيعيين بنصوص القرآن الكريم، لأن المسألة غيبية وتتعلق بالعقيدة، فلا يجوز النظر في غير ما ورد عن الوحي فيها، ولا وجه لكلامهم حتى لو صادف وجهاً من وجوه اللغة الواردة في القرآن لأنه يعد رجماً بالغيب فلا يسمى علماً. ولأن نصوص القرآن لم ترد لهذه الغاية، فيعرض عنها، ويقتصر بالوقوف على النصوص بما جاءت لأجله، والتأويل بمعنى التحريف لا يفيد قطعاً ولا ترجيحاً. والحديث عن الغيب من قبل الإنسان دون استناد إلى نصوص صحيحة من رب الغيب ضرب من الوهم والخيال. ولذلك فإن الحديث عن مسيرة الخلق، والأطوار الحياتية المزعومة للإنسان، وتقدير عمرها ظنون لا ينفع العلم بها، وجهلها لا يضر شيئاً. بل إثمه أكبر من نفعه، وفيه لفت(1/366)
الأنظار عن خالق الكون والإنسان والحياة. هذا على فرض عدم معارضتها للقطعي من الوحي. وعبارات العلماء لا يجوز أن يستنبط منها أي علم غيبي أو شرعي، لأن العقائد والأحكام الشرعية محصورة في نصوص الوحي ليس غير، أو ما يستنبط منها حسب دلالة الخطاب، وما يسمى بالتفسير العلمي لإلباس النظريات البشرية في أصل الخلق ثوب الشرعية لا يصح تصديقه ولا مكان له في التفسير، وهو من الشوائب المحضة.
موقف الإسلام من نظرية النشوء والارتقاء:
…خلاصة النظرية أن الإنسان خُلِق خلقاً غير مباشر عبر ملايين السنين، وبتطوير الحياة على الأرض تولدت من الرطوبة سائر الهوام، واستمرت في التطور حتى ظهر آدم إنساناً. هذا هو واقع النظرية.
…وأما مفهوم قصة الخلق كما أخبر به المقطوع بصدقه فهو أن آدم عليه السلام خلق خلقاً مباشراً من الله تعالى دون تطور، وقد خلق السماوات والأرض وما بينهما، والكائنات الحية جميعها بما فيها آدم عليه السلام في ستة أيام –حسبما يفهم العرب من كلمة يوم- وما مسّه تعالى من لغوب.
…وقد خلق الله تعالى آدم بيديه من طين لازب، فقال له كن فاستحال إنساناً سوياً عاقلاً كاملاً وعلمه واصطفاه نبياً(1).
__________
(1) قال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } (ق:38)؛ وقال: { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } (ص: 71-72)، وانظر الآيات 28، 29 الحجر، وقال: { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (ص: من الآية 75). وقال: { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } (طه: 122). وقال: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ } (البقرة: من الآية 31),(1/367)
…وعليه فهناك تعارض بل تناقض بين الواقعين، وعليه فترد نظرية دارون، ولا تقبل أن تكون من ثقافة المسلمين، فضلاً عن أن تكون تفسيراً لكتاب الله تعالى. هذا من ناحية النصوص.
…وأما رد النظرية من حيث العلم، فعلم الجينات أثبت خطأ النظرية، والواقع كذّبها فلم تتحول أي فصيلة من الأحياء إلى غيرها صعوداً أو نزولاً. وأما علم الآثار فقد تناقض فيها رغم أن نتائجه ظنية، واحتمالات وفرضيات لا ترقى لدرجة غلبة الظن فضلاً عن القطع.
…ولا يعنينا كثيراً إن تبنّى هذه النظرية بعد ذلك أعداء الله أم من يزعمون الإصلاح، فهي فكر خاطئ يناقض الإسلام لا شأن للمسلمين بها. وكفاها ضعفاً أن تبقى نظرية رغم أنه مرّ على تأسيسها قرنان ونصف تقريباً حتى هذه الأيام. وهي من الشوائب المحضة لا تمت للتفسير بسبب ولا نسب.(1/368)
…أما الذين نافحوا عن دارون وعدّوه من أشد الناس إيماناً بالله، متجاهلين عقيدته اليهودية، وغرضه السياسي الذي يشيع سياسة الإنجليز الخبيثة في نشر السموم في عقائد الناس، وبخاصة المسلمين حتى يزعزعوا العقائد الثابتة القطعية النازلة من رب العالمين. أما هؤلاء أمثال: الشيخ محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، و د. عبد الكريم الخطيب، ومحمد فريد وجدي، وصالح القعيطي، ونديم الجسر، و د. شبلي شميل، وعباس محمود العقاد، أما هؤلاء وأمثالهم فهم يطلقون الكفر على الإلحاد فقط، وما دام الإنسان كتابياً أو حتى رأسمالياً يعترف بوجود خالق، فله أن يقول ما يشاء، ولو كان كفراً صراحاً في عقيدة المسلمين. لأنه يدخل تحت باب حرية الرأي والعقيدة. ومن أخطر ما ورد في ذلك مقولة العقاد: "والذين أنكروا مذهب التطور يحق لهم أن ينكروه من عند أنفسهم لأنهم لم يطمئنوا إلى براهينه ودعاواه، ولكنهم لا يجوز لهم أن ينكروه استناداً إلى القرآن الكريم"(1). أي أن العقاد يريد أن يذهب صفة القطعية عن دلالة الآيات من جهة، ويريد أن لا يكون القرآن حكماً في المسألة من جهة ثانية، مع أن المسألة تتعلق بالعقائد، وفي قوله هذا فصل للدين عن الحياة، مع أن دليل العقائد الغيبية هو الوحي قطعاً ليس غير، وهذا اللون من الرفض، أو القبول للفكر يعد من الشوائب الوافدة إلينا من أعداء الإسلام.
__________
(1) ص 131، الإسلام ونظرية دارون، محمد باشميل. عن كتاب العقاد الفلسفة القرآنية. ص 183.(1/369)
…وأما تفسير قوله تعالى: { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } (1) فهي كما وردت عن الصحابة والتابعين ومنهم: ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وعكرمة، ويحيى بن رافع، والسّدي، وكما تدل عليه اللغة في منطوق الآيات ومفهومها: أن الله خلقنا حالاً بعد حال، من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة إلى تمام الخلق كما ذكر في سورة المؤمنون(2). والآية تدل على أن الله تعالى جعل في أنفسنا آية تدل على توحيده، وهي أطوار خلق الإنسان حتى يكتمل.
…وأما تفسير قوله تعالى: { وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } (3)، فمعناه أن الله عز وجل أنشأ الإنسان من تراب الأرض، أي آدم عليه السلام، فخلقه من الأرض إنشاءً فجعل الاسم الذي هو النبات في موضع المصدر. واستعير الإنبات للإنشاء فكانت الاستعارة أدّل على الحدث والتكوين لأنهم إذا كانوا نباتاً كانوا محدثين قطعاً كالنبات(4).
__________
(1) سورة نوح، الآية: 14.
(2) انظر تفسير الآيات 14، 17 من سورة نوح في تفسير الطبري، والقرطبي، والكشاف، وفتح القدير للشوكاني، وغيرها من التفاسير المعتبرة.
(3) سورة نوح، الآية: 17.
(4) انظر تفسير الآية: 17 من سورة نوح في تفسير الطبري والقرطبي، والكشاف، وفتح القدير، وغيرها من التفاسير المعتبرة.(1/370)
…وأما التعبير بالفعل المضارع الدالة عليه فاء التعقيب { يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } (1) فيدل على أن التكوين وقع بعد أمر الله تعالى في الخلق مباشرة. على سنته عز وجل { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (2). وقوله: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } (3)، وقوله: { وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } (4).
…ولما كان الفعل المضارع يدل على التجديد والاستمرار فيكون أبلغ في الدلالة على وقوع الخلق كما أراد الخالق فلا يقتصر على الماضي فحسب. ولما خلق الله تعالى عيسى عليه السلام، من غير أب قال: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } (5). فخلق آدم وزوجه وعيسى لم يكن على سنة التزاوج ولا الانقسام، بل خلق مباشر للإرادة الإلهية. هذا هو التفسير وهذا هو موقف الإسلام من قضية الخلق. وأما ما ورد عن تفاصيل قصة الخلق حسب نظرية دارون فهي شوائب لا تمت للتفسير بصلة. والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل.
المبحث الثالث :شوائب التفسير في القصص القرآني
تفسير المنار:
…كتب الشيخ رشيد تحت عنوان "مبحث السحر وهاروت وماروت": "ومن البديهي أن ذكر القصة في القرآن لا يقتضي أن يكون كل ما يحكى فيها عن الناس صحيحاً، فذِكْرُ السحر في هذه الآيات لا يستلزم إثبات ما يعتقده الناس منه"(6).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 117.
(2) سورة يس، الآية: 82.
(3) سورة النحل، الآية: 40.
(4) سورة غافر، الآية: 68.
(5) سورة آل عمران، الآية: 59.
(6) تفسير المنار، 1/399.(1/371)
…قال الأستاذ الإمام ما مثاله بيّنا غير مرة أن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار لا لبيان التاريخ، ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين، وإنه ليحكي من عقائدهم الحق والباطل، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب، ومن عاداتهم النافع والضار، لأجل الموعظة والاعتبار، فحكاية(1) القرآن لا تعدو موضع العبرة ولا تتجاوز موطن الهداية(2). وقال: وقد يأتي في الحكاية بالتعبيرات المستعملة عند المخاطبين، أو المحكى عنهم وإن لم تكن صحيحة في نفسها كقوله: { كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (3). وكقوله: { بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ } (4). وهذا الأسلوب مألوف فإننا نرى كثيراً من كتاب العربية، وكتاب الإفرنج يذكرون آلهة الخير والشر في خطبهم ومقالاتهم، لاسيما في سياق كلامهم عن اليونان والمصريين القدماء، ولا يعتقد أحد منهم شيئاً في تلك الخرافة الوثنية، ويقول أهل السواحل غربت الشمس، أو سقط قرص الشمس في البحر أو في الماء، ولا يعتقدون ذلك وإنما يعبرون به عن المرئي"(5).
__________
(1) تعبير دخيل يحمل معنى التشبيه والمثيل، والقرآن منزه عن ذلك، والصواب أن يقال: فالقصص في القرآن.
(2) 1/399، تفسير المنار، وانظر ص 173، الفن القصصي في القرآن الكريم، د. محمد أحمد خلف الله.
(3) سورة البقرة، الآية: 275.
(4) سورة الكهف، الآية: 90.
(5) تفسير المنار، 1/399.(1/372)
…تلكم هي قواعد تفسير القصة في القرآن عند محمد عبده ورشيد رضا. وقد طبّقاها في التفسير فقالا عند تفسير قوله تعالى: { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } (1): "قيل إن المراد بهما داود وسليمان عليهما السلام. وقيل بل هما رجلان صاحبا وقار وسمت فشبها بالملائكة.. وقالا: وتلك عادة الناس فيمن ينفرد بالصفات المحمودة يقولون هذا ملك وليس بإنسان.. وقالا: "كان الناس على عهد هاروت ومارت على مثالهم اليوم لا يقصدون للفصل في شؤونهم الأهلية من الجهة الروحانية إلا إلى أهل السمت والوقار اللابسين لباس أهل التقوى والصلاح، هذا ما نشاهدهم عليه في زماننا وهذا ما حكى الله عنهم في الزمن القديم، وقال الأستاذ الإمام: "لعل الله تعالى سمّاهما ملكين (فتح اللام) حكاية لاعتقاد الناس فيهما، وأجاز أيضاً كون إطلاق لفظ الملكين عليهما مجازاً: (2). وقال: "وليس معنى الإنزال عليهما أنه وحي من الله كوحيه للأنبياء فيشكل عدّة من الشر والباطل الذي يذم تعلمه. فإن كلمة أنزل تستعمل في مواضع لا صلة بينها وبين وحي الأنبياء"(3).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 102.
(2) 1/402، تفسير المنار.
(3) المصدر السابق.(1/373)
…ومن يجل النظر في مقولة الرجلين يجد أنهما صرفا معنى ملكين الوارد في الآية إلى غير لفظه، مع أن لفظ ملك محلى بالألف واللام للتعريف بهما، وصرفا كذلك القرينة (وما أنزل) إلى غير معناها. ومع أن النص صريح بذكر هاروت وماروت قالا: المراد بهما داود وسليمان أي يرمزان إليهما، كما نقلا أنهما رجلان صالحان، وربطا القصة التي وقعت في غابر الأزمان بما يجري بين الناس في هذه الأيام لإزالة معنى الإيحاء للملكين، وأنه أمر عادي لا غرابة فيه، وختما ذلك بضلال كبير، وإثم مبين فقالا: لعل الله سمّاهما ملكين حكاية لاعتقاد الناس فيهما، أي ليس على سبيل الحقيقة والواقع مع تجويزه أن يكون ذلك على سبيل المجاز. وبذلك يكون الشيخ محمد عبده وخليفته محمد رشيد رضا المؤسسان لهذه الشائبة في العصر الراهن. وهما رواد إدخال الشوائب في التفسير في القرن الرابع عشر الهجري. قد فتحا باباً للشوائب في التفسير لا يوصد إلى ما شاء الله تعالى.
…والقصص في القرآن هو كلام رب العالمين، أوحى الله به، شأنه شأن العقيدة والأحكام سواء بسواء، فالسرد التاريخي في القصص القرآني صدق وحق، وكان واقعاً كما أخبر عنه القرآن، فتلتمس الحقيقة التاريخية منه، كما تلتمس العظة والعبرة، كما تلتمس العقيدة والأحكام، والهداية والإعجاز.(1/374)
…قال تعالى: { مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (1). ويلتزم في فهم وتفسير القصص ما يلتزم في تفسير القرآن كله. فهو لا ريب فيه من حيث الواقع التاريخي، والحقائق التاريخية، ويلزم أن تكون قد وقعت بالفعل لأن المخبر مقطوع بصدقه وهو الله تبارك وتعالى. فلا يقال: إنها رمزية، ولا يقال إنها للتمثيل والتخييل، ولا يقال إنها سيقت للعظة والعبرة فقط ولا يلزم صدقها ووقوعها لأن هذا كله يغاير ما ورد بلسان عربي مبين بطريق القطع ثبوتاً ودلالة.
…ولذلك يكون أصحاب تفسير المنار بقيلهم في القصة "لعل الله سماهما ملكين حكاية لاعتقاد الناس" قد أشغلا نفسيهما بأمور لا تمت إلى أمور القصة بصفة فأدخلا شوائب تتعارض مع عقيدة المسلمين في هذه القضية بإدخال الشك في التسمية، وفي أصل القصة. ويكونان بذلك قد صرفا القصة بطريق غير مشروع.
المدرسة الأدبية في تفسير القصة في القرآن:
__________
(1) سورة يوسف، الآية: 111.(1/375)
…قال د.محمد أحمد خلف الله: "إنا حين نذكر لفظ القصة إنما نقصد شيئاً آخر أهم من متابعة الخبر أو الحدث، نقصد ذلك العمل الأدبي الذي يكون نتيجة تخيل القاص لحوادث وقعت من بطل لا وجود له، أو بطل له وجود ولكن الأحداث التي دارت حوله في القصة لم تقع، أو وقعت للبطل ولكنها نظمت في القصة على أساس فني بلاغي فقدم بعضها وأخّر آخر، وذكر بعضها وحذف آخر، أو أضيف إلى الواقع شيء لم يقع، أو بولغ في تصوره إلى الحد الذي يخرج بالشخصية التاريخية عن أن تكون من الحقائق العادية والمألوفة ويجعلها من الأشخاص الخياليين. ذلك هو الذي نقصده عندما نذكر لفظ قصة في الميدان الأدبي، وهو الذي نقصد إليه من درسنا للقصص الفني في القرآن الكريم، ومن هنا يجب علينا أن نقف لنبحث عن ذلك القصد الأدبي أو الفني من قصص القرآن الكريم(1).
…فالدكتور خلف الله تعامل مع نص القصة في القرآن مثل تعامله مع القصة الأدبية من إنتاج البشر، والتي يعتورها التخيل، والكذب، والمبالغة، والرمز والإشارة، وهذا موطن للزلل عظيم. فلا يسار في فهم القصة في القرآن على عناصر القصص في الأدب من عرض، وعقدة، وحل، لأن كلام الخالق لا يقاس على كلام المخلوق، كما لا تدرس القصة في القرآن على أنها فن أدبي، ولا يبحث فيها عن الدوافع النفسية التي لا يطلع عليها إلا رب الغيب.
…وقد حدد د. خلف الله منهجه في دراسة القصة في القرآن فقال: "كنت قد أحسست بحاجتي الملحة على الإطلاع على ما يفعله علماء الغرب حين يدرسون الأدب وتاريخه فاستجبت لهذا الإحساس وقرأت بعض الكتب التي تعالج هذه المسائل. وكان مما قرأت تلك المجموعة من الأبحاث التي قام بها علماء الأدب من الإنجليز وأخرجتها جامعة إكسفورد على أساس من الدراسة فريد"(2).
__________
(1) خلف الله، محمد أحمد، الفن القصصي في القرآن الكريم، ص19، مكتبة الأنجلو المصرية، ط3، 1973م.
(2) المصدر السابق، ص 9.(1/376)
…وهكذا يعترف د. خلف الله أن دراسته للقصة على غرار دراسة القصة في الأدب الإنجليزي والفرنسي من حيث العناصر والقيمة العقلية والعاطفة والفنية.
…وقال: "ثم كان مما قرأت أيضاً ذلك البحث القيم الذي كتبه عن المنهج الأدبي لانسون وعرّبه مندور. قرأت هذه الكتب فانتهت بي القراءة إلى الإحساس بالمقارنة العجيبة التي توجد بين ما تصورته للدراسة الأدبية من منهج وما عليه نسير"(1).
…ولذلك لا نعجب من النتائج في دراسته فقد اهتدى إلى أن القصص القرآني يمثل ثلاثة نماذج، أو ألوان من القصص الفني وهي:
اللون التاريخي ووضح قصده بأنه القصص الذي يدور حول الشخصيات التاريخية من أمثال الأنبياء والمرسلين.
اللون التمثيلي ووضح قصده أن الأحداث في القصص لم يقصد منها إلا البيان والإيضاح أو إلا الشرح والتفسير، والذي لا يلزم فيه أن تكون أحداثه من الحقائق فقد يكتفي فيه بالفرضيات والمتخيلات.
اللون الأسطوري، وهو الذي تبنى فيه القصة على أسطورة من الأساطير والذي يقصد منه في الغالب إلى تحقيق غاية علمية، أو تفسير ظاهرة وجودية، أو شرح مسألة قد استعصت على العقل. والعنصر الأسطوري في هذه الأقاصيص لا يقصد لذاته بل يتخذ وسيلة وأداة(2).
…اللون التاريخي: توصل د.خلف الله من ذلك إلى أن القرآن لم تكن الأحداث التاريخية فيه قد وقعت بالفعل. وناقشها على افتراض صحتها فقال: "وإنما سنمضي في هذا الموقف وقد فرضنا أو سلمنا بأن هذه الأحداث قد وقعت حقاً لنرى رأينا في كيفية صياغة القرآن الكريم لهذه الأحداث، وتصويره للأشخاص وهل قصد من وراء كل ذلك إلى العظة والعبرة أو إلى الحقيقة والتاريخ"(3).
__________
(1) ص 9، الفن القصصي في القرآن الكريم.
(2) ص 119، 120، الفن القصصي في القرآن الكريم.
(3) ص 121، المصدر السابق.(1/377)
…وقد اتكأ في هذه الأفهام على عبارة صاحب المنار الواردة في حديثه عن قصة الطوفان من سورة هود حيث قال: "ولهذا لم يذكر فيها من حادثة الطوفان إلا ما فيه العبرة والموعظة المقصودة بالذات منها"(1).
…وخلص خلف الله إلى النتيجة التالية: "ونستطيع الآن أن ننتهي من هذه الفقرة "قول رشيد رضا" إلى القول بأن المقاصد والأغراض هي التي تدفع إلى ذكر بعض الأحداث وحذف بعضها الآخر. ويلي القول بأن ما يقال أساساً للذكر والحذف عند الأقدمين من مفسرين وبلغاء. هو ما نقول به اليوم أساساً لاختيار الأحداث في القصص القرآني، وأن هذا الاختيار إنما يقوم على الاعتبارات البلاغية الأدبية التي تردها إلى منطق العاطفة لا إلى منطق النظر العقلي لأن قضايا الأولى وجدانية شعرية وهي التي تليق بهذا الميدان"(2).
…وقال د. خلف الله: "ومعنى ذلك أن القصص التاريخي في القرآن قصص أدبي أولاً وآخراً"(3). ثم بلور موقفه بصورة جلية: "4- عرضنا عليك في الفقرات السابقة أموراً تدل على أن القصة التاريخية ليست عرضاً تاريخياً نطلب فيه المطابقة الواقعية المحققة للصدق العقلي، وإنما هي عرض أدبي يطلب فيه التأثير وقوة الوقع ليتحقق به الصدق الفني أو الأدبي، ويكون التوجيه نحو الغاية مبتغاه. وانتهينا إلى أن القصة التاريخية في القرآن قصة أدبية يقصد منها غير ما يقصد
من التاريخ، وتعرض غير ما يعرض التاريخ، وتثبت غير ما يثبت التاريخ"(4).
__________
(1) ص 123، الفن القصصي في القرآن الكريم، وانظر 12/101 تفسير المنار.
(2) ص 123، الفن القصصي في القرآن، وانظر 12/101، تفسير المنار.
(3) ص 131، الفن القصصي في القرآن.
(4) ص 131، الفن القصصي في القرآن.(1/378)
…ثم بحث الموضوع من زاوية موقف القرآن من العنصر القصصي الواحد أي من زاوية الخطاب بتصوير ما سيقع في المستقبل بصيغة الماضي، ومنها ما يحدث في الجنة أو في النار، فقال: "بعبارة حديثة صور هذا المنظر بالصورة التي تدل على الإيهام بالواقع"(1).
…وقال مفسراً الدلالة البلاغية في القصة القرآنية: "والدلالة البلاغية حين تراد فيكون ذلك منطق العاطفة الذي لا يحكم عليه أو معه بصدق أو كذب لأن المراد ليس إفادة الوقوع بل إفادة شيء آخر هو التحقق والتأكد"(2).
…وقد امتد تفسيره هذا لمشاهد القيامة فقال: "وإني لأعتقد أيضاً أن مذهب القرآن في تصوير مشاهد القيامة أو ما يستبعد وقوعه من المصائب والعذاب يعتمد في الغالب على هذا الأسلوب"(3).
…أي أن مشاهد القيامة ليست بالضرورة أن تكون مما سيقع بالفعل بل المقصود منها استثارة العاطفة والوجدان لبلوغ غاية القرآن من العظة والعبرة، ودافع عن موقفه هذا فقال: "وإذا كان هذا الأمر قد وقع قديماً حينما ذهب بعض الأقدمين إلى أن الاستعارة أو التخييل كذب، والكذب لا يجوز وقوعه في القرآن، فقد مضى ذلك الزمن وأصبحنا نرى وقوع الاستعارة والمبالغة"(4). وهكذا تؤسس المدرسة الأدبية قواعد للشوائب في تفسير القرآن الكريم. وقال: إن القرآن يصور التصوير الأدبي لا التصوير التعليمي التاريخي، وليس بعد ذلك من دلالة على أن القصة التاريخية في القرآن قصة أدبية"(5).
__________
(1) ص 134، الفن القصصي في القرآن.
(2) ص 134، الفن القصصي في القرآن.
(3) ص 136، المصدر السابق.
(4) ص 137، الفن القصصي في القرآن.
(5) ص 140، الفن القصصي في القرآن.(1/379)
…وأردف ذلك قائلاً: "6- على أننا نستطيع أن نمضي في الدلالة على أن القصة التاريخية في القرآن قصة أدبية يعتمد فيها القرآن على تصوير الأحداث كما يعتقدها المخاطبون"(1). وهذه فرية جديدة تفيد أن ما في القرآن من قصص ليس واقعاً بل تصوير معتقد المخاطبين أو المعاصرين. وذكر مثالاً على ذلك قصة أصحاب الكهف، فقال: "ومعنى ذلك أن القرآن الكريم يصور في بعض قصصه اعتقاد المعاصرين أو المخاطبين"(2). وقال: وهذا الرأي هو الذي اعتمد عليه الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الوهاب النجار في رده على المستشرقين الذين كتبوا مادة أصحاب الكهف من دائرة المعارف الإسلامية(3).
…ثم قال: "ويجعلنا نجزم بأن صنيع القرآن لم يكن إلا الصنيع الأدبي الذي يقوم على الدلالات التي يعتقدها المخاطب"(4).
…ومما افتراه على القرآن في بحث اللون التاريخي في القصة أن القرآن، أنطق أشخاصاً بما لم ينطقوا به مراعاة لأمور اعتبارية(5) وقال: "وليس من شك في أن هذه العملية عملية إنطاق الأشخاص بما لم ينطقوا به لاعتبارات يراها الخالق جل وعلا، تدل على أن القصص القرآني عرض أدبي للأحداث والأقوال وليس عرضاً تاريخياً لها. ومعنى ذلك أن القصة في القرآن عمل أدبي فني"(6). وبهذا ندرك قاعدة أخرى في تأسيس الشوائب على التفسير الأدبي.
اللون التمثيلي:
__________
(1) ص 141، الفن القصصي في القرآن.
(2) ص 143، الفن القصصي في القرآن.
(3) ص 143، الفن القصصي في القرآن.
(4) ص 144، الفن القصصي في القرآن، وانظر ص 145، 146، 147، 148.
(5) ص 150، الفن القصصي في القرآن، وانظر ص 151.
(6) ص 151، الفن القصصي في القرآن الكريم.(1/380)
…قال د. خلف الله: "والقصة التمثيلية وهي التي تضرب مثلاً أو تجيء تمثيلاً موجودة في القرآن الكريم، وهي قصة فنية بل هي عند المفسرين أدخل في باب الفن والأدب من القصة التاريخية"(1). وقال: "والتمثيل ضرب من ضروب البلاغة، وفن من فنون البيان، والبيان يقوم على الحق والواقع، كما يقوم على العرف والخيال، فليس يلزم في الأحداث أن تكون قد وقعت، وليس يلزم في الأشخاص أن يكونوا قد وجدوا، وليس يلزم في الحوار أن يكون قد صدر، وإنما قد يكتفي في كل ذلك أو في بعض ذلك بالفرض والخيال"(2).
…ثم توكأ على مذهب الزمخشري من المعتزلة في القول بالتمثيل والتخييل، ثم استشهد بقول الشيخ محمد عبده على مدى صحة رأيه، ثم بين أن الصدق في تصوير ما يختلقه الوجدان أو يخترعه الخيال. أي الصدق في الترجمة عما بالنفس من رأي أو فكر أو عاطفة أو إحساس، وسماه الصدق الفني وجعله يتعدى التمثيل إلى المبالغة والغلو والإغراق وغيره من أمور البلاغة(3).
…ثم قال: "وهنا أحب أن أصرح بأني لا أقصد إلى القول بأن كل المواد القصصية في القصص التمثيلي في القرآن وليدة الخيال، ذلك لأن بعضها قد يكون وليد الأحداث الواقعية"(4).
__________
(1) ص 153، الفن القصصي في القرآن الكريم.
(2) ص 153، المصدر السابق.
(3) ص 157، المصدر السابق.
(4) ص 158، الفن القصصي في القرآن الكريم.(1/381)
…وقال: "وهنا أمر آخر لا بد من توضيحه وهو أن الحاجة إلى الخيال في القصص القرآني أو في التمثيل القرآني لم تأت لحاجة المولى سبحانه وتعالى إلى الخيال في التعبير عن الموارد، وإنما جاءت لحاجة البشرية لهذا الخيال(1). ثم استشهد برأي صاحب الكشاف على صحة دعواه حيث يكون الخيال أوقع في الذهن وآكد في النفس من الصور التي تمثل الحقيقة(2). وقال: وننتهي من كل حديث الزمخشري على أن التمثيل من صنع الخيال وأنه موجود في كتاب الله. وقال: وهكذا نرى أن الاعتماد على عنصر الخيال أسلوب من أساليب القرآن(3).
…وضرب من الأمثلة الآيات التي تتعلق بإنزال المائدة على بني إسرائيل(4). وآية الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت(5). وآية الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها(6). وآيات طلب سيدنا إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى(7). ثم استشهد بأقوال صاحب المنار(8) الذي امتدح رأي أبي مسلم المعتزلي وقال إنه هو الذي يجلّي الحقيقة. وقال: "لله در أبي مسلم ما أدق فهمه وأشد استقلاله فيه"(9).
__________
(1) ص 159، الفن القصصي في القرآن الكريم.
(2) ص 160، الفن القصصي في القرآن الكريم.
(3) ص 161، المصدر السابق.
(4) الآيات 112-115 من سورة المائدة، ص 163 المصدر السابق.
(5) سورة البقرة، الآية: 243. ص163، الفن القصصي في القرآن.
(6) سورة البقرة، الآية: 259. ص164، الفن القصصي في القرآن.
(7) سورة البقرة، الآية: 260. ص 164، الفن القصصي في القرآن.
(8) ص 165، المصدر السابق.
(9) المصدر نفسه.(1/382)
…ونحن نقول: إن مكمن الخطر في قياس الخالق على المخلوق، فالخيال والتمثيل في البيان العربي لا يلزم منه الصدق الكامل المطابق للواقع في الصورة البيانية. ولكن البيان في القرآن حق ومطابق للواقع لأنه صدر عمّن هو مقطوع بصدقه وهو رب العالمين. وقدرة الإنسان العاجز، الناقص، المحتاج، المحدود لا يجوز أن تقرن أو تقاس بقدرة الخالق عز وجل القادر الغني الأزلي الواجب الوجود. وأقوال الزمخشري وابي مسلم المعتزلي، وأقوال محمد عبده والشيخ رشيد لا يجوز أن تعد أدلة شرعية. بل هي شوائب شابت التفسير وعلينا مزايلتها عن التفسير، وتصفيته وتنقيته منها.
اللون الأسطوري:(1/383)
…قال د. محمد أحمد خلف الله: "ويختلف الوضع هنا عنه في اللونين السابقين من حيث المواد الأدبية ومن حيث تناولها"(1). وقال: "أما هنا فلم يقل واحد من المفسرين بوجود القصة الأسطورية في القرآن، بل على العكس نرى منهم كما نرى من بعض المحدثين نفوراً من لفظ الأسطورة، ومن القول بأنها في القرآن ولو إلى حد ما"(2). ثم قال: "نعم نحن لا ننكر أن بعض المفسرين من أصحاب اللمحات قد فتح الباب وأجاز القول بوجود القصة الأسطورية، وأصل لذلك أصولاً مهمة لهذه الفكرة، مثل تقريره أن هناك جسماً للقصة أو هيكلاً للحكاية، وأن هناك أموراً أخرى، والجسم أو الهيكل غير مقصود، أما المقصود حقاً فهو ما في القصة من توجيهات دينية أو خلقية. وهو ما ذهب إليه الأقدمون كالإمام الرازي. وهو ما قرره الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في صراحة ووضوح حين تحدث عن التعبيرات البيانية وأنها قد تقوم على شيء من الخرافات الوثنية(3). ثم ذكر أقوال هذين العالمين. فقال الرازي عند تفسير قوله تعالى: { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } (4): "الأول أنهم كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين، ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها"(5). فنحن نلحظ أن الرازي يفرق بين شيئين: الأول هيكل القصة أو جسم الحكاية، والثاني: ما في القصة من توجيهات دينية"(6).
__________
(1) ص 171، الفن القصصي في القرآن الكريم.
(2) ص 172، المصدر السابق.
(3) ص 172، الفن القصصي في القرآن الكريم.
(4) سورة يونس، الآية: 39.
(5) ص 172، الفن القصصي عن التفسير الكبير للرازي، 4/951.
(6) ص 172، المصدر السابق نفسه.(1/384)
…ثم استشهد بما ورد في تفسير المنار عند تفسير قصة هاروت وماروت وقد ذكرناه في مطلع هذا البحث. ثم ساق الآيات التي ذكر فيها قول "أساطير الأولين" واستدل منها أن القائلين لهذا القول هم الغالب الذين ينكرون البعث ولا يؤمنون بالحياة الآخرة(1).
…كما استدل من الآيات على أن القرآن نفسه لم يحرص على أن ينفي عن نفسه وجود الأساطير فيه وإنما حرص على أن ينكر أن تكون هذه الأساطير هي الدليل على أنه من عند محمد –عليه السلام- وليس من عند الله –تعالى-(2). ثم قال: "إذا كان هذا ثابتاً فإنا لا نتحرج من القول بأن في القرآن أساطير لأنا في ذلك لا نقول قولاً يعارض نصاً من نصوص القرآن"(3).
…ثم استعرض الآية الكريمة: { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } (4). وعقب على ذلك بقوله: "ويقف بعض المفسرين من هاتين القصتين موقفاً يدل على أنهما عندهم من الأقاصيص التي لم تقع ولم تحدث، واستشهد بقول تفسير المنار "ويحتمل أن تكون القصة من قبيل التمثيل"(5).
…وأردفها بقول المعتزلي أبي مسلم الوارد في تفسير الفخر الرازي حيث ينكر وقوع القصة ويذهب إلى أنها من قبيل التمثيل ليس غير(6). وأتبع هذين القولين بقوله: "وإذا ما ضممنا إلى ذلك ما يذهب إليه بعض المستشرقين من أن قصة أصحاب الكهف قصة أسطورية تبين لنا السر في أن القائلين بالأسطورة هم الذين ينكرون البعث إذ أنهم لم يستطيعوا تصديق أمثال هذه القصص التي تجسم عملية الإحياء بعد الإماتة وجروا على أنها أساطير الأولين"(7).
__________
(1) ص 175، المصدر السابق نفسه.
(2) ص 178، الفن القصصي في القرآن الكريم.
(3) ص 180، المصدر السابق.
(4) سورة البقرة، الآية: 259.
(5) المصدر السابق نفسه.
(6) ص 180، 181، المصدر السابق.
(7) ص 181، المصدر السابق.(1/385)
…فهذه هي مصادر ومراجع القصة الأسطورية أنها واردة في القرآن الكريم على حد قول الدكتور خلف الله. وهم المعتزلة، وأصحاب تفسير المنار، وبعض المستشرقين، فيكون هؤلاء هم مصدر ثقافة المدرسة الأدبية في التفسير بالقول بأن في القرآن أساطير الأولين. وتكون هذه هي القواعد الأساسية التي دخلت منها شوائب التفسير في تفسير القصة القرآنية، والمغيبات كأحوال جهنم ونعيم الجنة.
…ثم زعم د. خلف الله أن القصص الأسطوري يعتبر تجديداً في الحياة الأدبية المكية، وتجديداً جاء به القرآن الكريم، وجديداً لم يألفه القوم ومن هنا أنكروه"(1).
…وهذه مغالطة من د. خلف الله لا تخفى على المثقفين. فقصص الزير سالم، وتغريبة بني هلال من القصص الأسطوري لا يزال يتناقله الناس عن العرب، وهو فارقة للخيال والجهل والوهم لا للجيد والتجديد والإعجاز والأدب الرفيع كما زعم الدكتور.
…ومما زعمه كذلك أن القصص الأسطوري سبيل الآداب العالمية، والأديان الكبرى، واكتفى بالمفاخرة أن القرآن الكريم قد سن السنن، وقعّد القواعد، وسبق غيره في هذه الميادين(2).
…ثم قال: "ونسطيع الآن أن ننتهي من هذه الفقرة إلى القول بأن القرآن الكريم لا ينكر أن فيه أساطير" ثم قال: "ومن هنا يجب أن لا يزعجنا أن يثبت عالم من العلماء، أو أديب من الأدباء أن بالقرآن أساطير. ذلك لأن هذا الإثبات لن يعارض نصاً من نصوص القرآن الكريم"(3).
__________
(1) الفن القصصي في القرآن الكريم، د. محمد أحمد خلف الله، ص 181.
(2) الفن القصصي في القرآن الكريم، د. محمد أحمد خلف الله، ص 182.
(3) الفن القصصي في القرآن الكريم، د. محمد أحمد خلف الله، ص 182.(1/386)
…ونقول: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } (1). ويكفي في بطلان أقوالهم هذه أن الله تبارك وتعالى قد وصفها بأنها حق، ونفى عنها الافتراء، ووصفها بأنها أحسن القصص. قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (2). وقال تعالى: { نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (3). وقال تعالى: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } (4). وقال تعالى في قصة أصحاب الكهف: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } (5). وقال: { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } (6).
…وفي نهاية المطاف يحسن بنا أن نذكر أن فكرة الشوائب في تفسير قصص القرآن الكريم تقوم عند المدرسة الأدبية على الآتي:
قياس القصص في القرآن على القصص الذي ينشئه الأدباء، وفيه الرمز، والتخيل، والمبالغة، وعدم الصدق.
جُعل القصص في القرآن عملاً أدبياً محضاً، كما يفعل الأدباء من البشر وعناصر القصص في الأدب هي: العرض، والعقدة، والحل، وتدرس الدوافع النفسية، كما لا تُراعى قدسية القرآن.
__________
(1) سورة الكهف، الآية: 5.
(2) سورة يوسف، الآية: 111.
(3) سورة القصص، الآية: 3.
(4) سورة يوسف، الآية: 3.
(5) سورة الكهف، الآية: 13.
(6) سورة آل عمران، الآية: 62. عن سيدنا عيسى عليه السلام.(1/387)
استعارة قواعد النقد الأدبي والتحليل الأدبي عند الغرب بعامة، وعند الإنجليز بخاصة "جامعة اكسفورد" وتطبيقها على القرآن الكريم وباختصار شديد قاسوا قول الله تبارك وتعالى على قول البشر الضالين منهم.
…وخلاصة رأي المدرسة الأدبية في التفسير بقيادة الشيخ أمين الخولي ترى أن في القرآن أساطير الأولين، ولهم مثل أعلى سابق الشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار.
…وعلى هذا أصر الشيخ أمين الخولي حيث قال: "فلو لم يبق في مصر والشرق أحد يقول إنه حق لقلت وحدي وأنا أقذف في النار إنه حق إنه حق، لأبرأ أمام ضميري، ولا أشارك في وصم الإسلام اليوم هذه الوصمة"(1).
__________
(1) مقدمة الفن القصصي في القرآن، د. محمد أحمد خلف الله، تقديم: أمين الخولي، ص ح.(1/388)
…وقد آزرهم في هذه الشائبة الضالة توفيق الحكيم، أحد مشاهير مدرسة الأفغاني ومحمد عبده حيث قال: "شهادة الأستاذ الخولي خطيرة كما يرى الرأي العام، وإني أحب أن ألفت النظر إلى نقطة الخطورة فيها: تلك هي قوله إن الأستاذ الإمام محمد عبده انتهى إلى مثل هذه الآراء منذ اثنين وأربعين عاماً، إذا كان هذا القول صحيحاً، كما يؤكد الأستاذ الخولي، فلنا أن نطلب تعليلاً لما صرنا إليه وعلى المسؤولين من رجال الدين أن يوضحوا الموقف. فإنه لا يرضيهم أن نرجع اليوم –في عهدهم- القهقرى بعد نهضة إسلامية بعثها الأستاذ الإمام. أما رجال الجامعة، فقد اتهمهم الأستاذ الخولي في عقليتهم وخلقهم تهمة لا يدفعها عنهم غير دليلهم، وهي إن صحت لكانت قديرة على هدم "التعليم الجامعي" من أساسه واقتلاع أهدافه من جذورها"(1).
__________
(1) المصدر السابق، ص ط. وهو يشير إلى كلية الآداب التي كان عميدها الشيخ أمين الخولي، حيث رفضت هيئة الممتحنين منح محمد أحمد خلف الله، تلميذ الخولي، شهادة الدكتوراة على بحثه الفن القصصي في القرآن، فثار الخولي وذم أساتذة الجامعة الذين حجبوا الشهادة عن تلميذه لأقواله أن في القرآن أساطير الأولين، بل قد وصل الحد إلى تكفيره.(1/389)
…وإمعاناً في إصرار الشيخ أمين الخولي على تأييد تلميذه محمد أحمد خلف الله على مقولته في أن في القرآن أساطير الأولين قال: "وإني أودع هذا البيان بين يدي التاريخ، لأشعر أني أضع صحيفة في جوف الكعبة، أو كما يقال اليوم: لأشعر أني أودعها في قدس الأقداس من معبد الحق، وأحس أن روحي تهتف: أيها التاريخ: كم شدّت أزر الأحرار همساتك المدوية من وراء الأجيال تدمدم: إن ملاحدة اليوم هم قديسو الغد.. وبدعة الحاضر هي تقوى المستقبل.. وإلا فلا تقدم ولا تطور"(1). وقال في مقدمة الطبعة الثالثة تحت عنوان "تجربة مطردة": "من النواميس الاجتماعية أن نعد الفكرة حيناً ما كافرة تحرم ثم تصبح عقيدة تعتنق".
…ولقد قالوا ما قالوا، وأفضوا إلى ما قدموا، ونحن نقول: إن هذه شوائب شابت التفسير في القرن العشرين، وننبه إلى خطورتها ونبقى على ذلك حتى انتهاء الأجل، والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل.
د. محمد إقبال والقصة في القرآن:
__________
(1) مقدمة الفن القصصي في القرآن، ص ط.(1/390)
…تحدث د. محمد إقبال عن قصة هبوط آدم عليه السلام وزوجته من الجنة وفسرها على أنها قصة رمزية أو أسطورية فقال: "على أننا نجد السبيل لفهم معضلتنا هذه فهماً أوفى في القصة التي تسمى قصة هبوط الإنسان، والقرآن يحتفظ في سردها بشيء من الرموز القديمة، ولكنه يحور القصة تحويراً ملموساً ليجعل لها معنى جديداً، مختلفاً عن معناها السابق كل الاختلاف، وطريقة القرآن في تحوير القصص تحويراً جزئياً أو كلياً ليبعث فيها معاني جديدة يلائم بينها وبين روح التقدم في الزمن أمر له خطره، ولكن دارسي الإسلام من المسلمين، ومن غير المسلمين على سواء كادوا يهملونه على الدوام، وهدف القرآن من إيراد هذه القصص قلما يكون العرض التاريخي بل يكاد دائماً يهدف إلى أن يجعل له مغزى عاماً أو مضموناً فلسفياً. ويحقق قصده هذا بحذف أسماء الأشخاص والأماكن التي من شأنها أن تحدد معنى القصة بصبغها بصبغة حادثة تاريخية معينة، وكذلك يحذف التفصيلات التي تبدو خاصة بنوع آخر من الشعور، وهذه الطريقة ليست غير مألوفة في عرض القصص، فهي شائعة في الأدب الذي لا يعالج الموضوعات الدينية. فمن ذلك مثلاً قصة (فاوست) فقد أضفت عليها عبقرية جيتة معنى جديداً تمام الجدّة.
…ولننتقل إلى قصة هبوط آدم من الجنة، إننا نجدها في آداب العالم القديم على صورة مختلفة، ومن المستحيل حقاً أن نحدد مراحل نموها، وأن نرسم في وضوح البواعث الإنسانية المختلفة التي لا بدّ أن تكون قد أثرت في تجديدها البطيء.(1/391)
…ولكنا إذا قصرنا بحثنا على صورة القصة كما جاءت عند الساميين فإن من المرجح جداً أنها نشأت عن رغبة الإنسان البدائي في أن يفسر لنفسه تعاسته البالغة، وسوء حاله في بيئة غير مواتية له، تفيض بالمرض والموت، وتعوقه من كل ناحية في سعيه لاستبقاء حياته. ولما لم يكن للإنسان أي سلطان على قوى الطبيعة، فإن نظره إلى الحياة نظرة متشائمة كان طبيعياً، وعلى ذلك نجد في نقش بابلى قديم ثعباناً (رمز عضو التذكير)، وشجرة، وامرأة تقدم إلى رجل تفاحة (رمز البكارة). ومعنى هذه الأسطورة واضح هو أن سقوط الرجل من حال مفترضة من حالات السعادة كان سببه الاختلاط الجنسي بين الرجل والمرأة لأول مرة. ويتضح لنا أسلوب القرآن في عرض هذه القصة عندما نقرنه بما ورد في سفر التكوين، ونقط الخلاف الظاهرة بين رواية التوراة تشير إلى غرض القرآن إشارة لا تقبل الخطأ.." (1). ثم ساق نقاط الخلاف بين قصة الهبوط في القرآن وسفر التكوين، ثم قال: "وهكذا نرى أن قصة هبوط آدم كما جاءت في القرآن لا صلة لها بظهور الإنسان الأول على هذا الكوكب، وإنما أريد بها بالأحرى بيان ارتقاء الإنسان من بدائية شهوة الغريزة إلى الشعور بأن لها نفساً حرة قادرة على الشك والعصيان. وليس يعني الهبوط أي فساد أخلاقي، بل هو انتقال الإنسان من الشعور البسيط إلى ظهور أول بارقة من بوارق الشعور بالنفس، وهو نوع اليقظة من حلم الطبيعة أحدثتها خفقة من الشعور بأن للإنسان صلة عليه شخصية بوجوده"(2).
…وقال: "فالمعصية الأولى للإنسان كانت أول فعل له تتمثل فيه حرية الاختيار، ولهذا تاب الله على آدم كما جاء في القرآن وغفر له"(3).
__________
(1) ص 69، 97، تجديد الفكر الديني في الإسلام، د. محمد إقبال.
(2) ص 99، تجديد الفكر الديني في الإسلام، د. محمد إقبال.
(3) ص 99، تجديد الفكر الديني في الإسلام.(1/392)
…ومن يجل النظر في مقولة إقبال هذه في قصة هبوط سيدنا آدم عليه السلام، لا يلمس فيها شيئاً من التفسير بالمعنى الاصطلاحي. وكلامه يعبّر عن خواطر تدور في خلده، وصبّها في قوالب لغوية تحت اسم الرمز والإشارة، ولا يوجد أدنى صلة بينهما وبين خطاب الشارع في القرآن الكريم، فجاءت النتائج منكوسة. فآدم كان بدء ظهور الإنسان الأول على كوكب الأرض كما ورد في القرآن الكريم، ولكن عند إقبال نفى ذلك بالكلية. ومعصية آدم لربه زعم أنها حرية الاختيار. وتاب الله على آدم بعد استغفاره وإنابته إلى الله تعالى، ولكن د. إقبال جعل توبة الله على آدم حرّية في الاختيار. وهذه مفاهيم لا تندرج في دائرة الإسلام بل هي شوائب اختلطت بالتفسير ينبغي أن تفصل عنه ليكون صافياً نقياً من هذه الشوائب.
علي نصوح الطاهر في تفسير القصة في القرآن:(1/393)
…قال عند تفسير قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ } (1): "وهذه الآيات أيضاً تشمل استمراراً في تسجيل المختلف عليه من أقوال اليهود في بدء الخليقة". ثم قال: "تقدم لنا هذه القصة الإله والملائكة في وضع غريب فالملائكة حول الله في هذه القصة لا يعرفون شيئاًَ من مسميات المخلوقات بينما تظهرهم القصة السابقة في خلافهم مع الله عن خلافة آدم في الأرض ذوي نظر بعيد فيلجأ الله في هذه القصة للانتقام منهم وإظهارهم بمظهر الجهلة لاعتراضهم على خلق آدم. ويعلم آدم أسماء الأشياء التي لا يعرفونها ثم يطلب منهم أن ينبؤوه عن أسمائهم فيعترفون بجهلهم. وهنا يطلب من آدم أن يخبرهم عنها فينبؤهم بها دون تلكؤ فيقول الله للملائكة ألم أقل لكم إني أعلم مالا تعلمون. وبذلك فقد ثأر لنفسه منهم وجهلهم كما جهلوه في القصة السابقة. وتلك صورة منكرة يقدمها الذكر الإسرائيلي عن الله سبحانه عن أن يتصرف بمثل هذه الصورة سبحانه من أن يكون محيطاً بهذا الجهل الذي صوروه"(2). فالسيد علي نصوح الطاهر يرى أن القصص في القرآن ليست من كلام رب العالمين بل هي تسجيل للمختلف عليه من أقوال اليهود في بدء الخليقة. وتراه يشتط في الحديث عن فحوى القصة ولا يراعي الأدب العالي في القرآن، كما لا يتأدب في التعبير ومنه قوله: "فينبؤهم دون تلكؤ" وقوله: "فقد ثأر لنفسه منهم وجهّلهم كما جهّلوه". وفي مكان آخر وصف الباري بجابل طين، وصانع فخار. فالخطورة تتمثل في أمرين: الأول: كأنه يلغي القصص من القرآن الكريم لأنه يزعم أنها ليست من رب العالمين بل هي حكاية حال أثارها أهل الكتاب، وكانت فيما بينهم من خلافات، ويزعم أن فيها من التعارض والتناقض والتهافت مما يترفع الخالق عن إصدارها للبشر. كما زعم أن جميع الآيات التي تتعلق
__________
(1) سورة البقرة، الآيات: 31-33.
(2) 1/21، تفسير القرآن الكريم كما أفهمه، علي نصوح الطاهر.(1/394)
بالجنة والنار والقيامة التي لم يستطع دفعها وتأويلها بالعلم، زعم أنها من خلافات كتابية وهي متناقضة لا علاقة لنا بها. ويحشد الأقاويل من الكتب السماوية لإثبات أنها من مصدر كتابي. وقد ألف أربعة أجزاء في القصص القرآني منفصلة عن التفسير. كتب تحت عنوان "خلاف الملأ الأعلى على خلق الإنسان": "ثم ندد القرآن باليهود وسماهم المضلين في سورة الكهف(1). والقرآن لم يسجل خلافاتهم المتناقضة في تاريخهم والتي تدل على أنهم في شك مريب مما ورد في كتبهم دون أن يجلوا الحقائق في تلك الخلافات إذ ترك ذلك لله عز وجل ليظهرهم عليه يوم يقفون بين يديه. ولقد أوضح القرآن ذلك في أكثر من مناسبة في قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } (2). إذ لو كان القرآن يبين الحقيقة في الخلاف في هذه الدنيا لما كان هناك محل للآية.. فضلاً عن أن الله لو بيّن حقائق خلافاتهم في هذه الدنيا لأقحم النبي في جدل بيزنطي في خلافاتهم دون طائل. ولاتهموا محمداً حينئذ بالافتراء، ولما آمنوا بحكمه ولتحدّوا النبي في بيان السند الذي يستند عليه في بيان حقيقة ضاعت في بطون التاريخ منذ قرون طويلة"(3).
…ثم قال: "مما سبق نتبين مهمة القرآن بوضوح فهي محصورة في تدوين الخلافات بأسلوب القرآن لإظهار التناقض فيما يدعيه أهل الكتاب على لسان الله، وسيجد القارئ فيما يلي ما سجله القرآن في هذا الصدد مع دراسة تحليلية لقصص الخلق بأسرها كما ادعاها أهل الكتاب ورواها القرآن تظهر التناقض العجيب الذي اكتشفه القرآن في هذا القصص. فالتناقض الواقع ليس تناقض القرآن، ولكنه تناقض التي دونها القرآن مما ذكر أهل الكتاب على لسان الله عز وجل دون وحيه أو علمه"(4).
__________
(1) 1/15، المصدر السابق.
(2) سورة السجدة، الآية: 25.
(3) 15/2، تفسير القرآن الكريم كما أفهمه.
(4) 15/3، تفسير القرآن الكريم كما أفهمه.(1/395)
…ومن يدقق النظر في كلام الرجل يجد أنه يقول أن في القرآن أساطير الأولين، وأفظع من ذلك قوله إن القصص القرآني ليست من القرآن، وليست كلام رب العالمين. والعياذ بالله تعالى.
…هذا وقد استعرض د. علي نصوح الطاهر ما في الكتاب المقدس عن خلق الإنسان، ونقل عن الإصحاح الأول من سفر التكوين من 11-31 مقتطفات ويسميها آيات. ثم نقل من الإصحاح الثاني من سفر التكوين ما يناقض المعلومات السابقة 1-25(1).
…ثم عنون "سقوط آدم" وذكر مقتطفاً من الإصحاح الثالث من سفر التكوين من 1-24، وذكر ما جرى بين الحية والمرأة "حواء"(2). ثم تحدث عن آدم في التلمود ملخصاً من ص50-93 مقتبساً مما ورد في التلمود ص 11، وخلاصتها أن الإله استشار السماوات والأرض في خلق آدم ثم استشار الملائكة. ثم وازن المفسر بين ما ورد في الكتب السماوية القديمة وبين ما ورد في القرآن الكريم، وقد سجل في صفحة 27 مقتطفات من إنجيل يوحنا الإنجيلي صفحة 189 من الأبوكريف. وفي صفحة 28 سجل مقتطفات من إنجيل برتولوميو صفحة 175-178. وفي صفحة 29 سجل مقتطفات من إنجيل برنابا عن خلق الإنسان وخلاف الملأ الأعلى. ولا أبالغ إذا قلت إن أكثر من نصف تفسيره للقصص القرآني نقولٌ من الإنجيل والتوراة. ثم بين غرضه من هذه النقول بقوله: "إن كل ما سبق يبيّن بوضوح ما بعده أن مهمة القرآن تسجيلية فقط لمواطن الخلاف وليست بيانية للصحيح منها"(3).
__________
(1) انظر 15/3-15، المصدر السابق.
(2) 15/18، تفسير القرآن الكريم كما أفهمه.
(3) 15/45، تفسير القرآن الكريم كما أفهمه.(1/396)
…وهذا الكلام الخطير يؤكد ما سبق أن قاله من أن القصص في القرآن ليست منه، ويؤيد هذا قوله: "لم يكن من السهل تدوين مواطن الخلاف بأسلوب قصصي لأن القصة تحتاج أسلوباً قصصياً قائماً بذاته، أما مواضع الخلاف فليست قصة أو قصصاً قائمة بذاتها، وإنما هي مقتطفات من رواية أو روايات أو أقوال في مراجع معينة فلا علاقة في تدوينها لبلاغة أو فصاحة أو إعجاز أو أسلوب أدبي خاص. وإذا ما ظهر على بعضها الطابع القصصي أحياناً فذلك بحكم أنه مستمد من قصة يرويها الله أنها منسوبة إليه من قبل أهل الكتاب"(1).
…وهذا يؤكد ما ذهب إليه من أن القصص في القرآن ليست من القرآن ولهذا فهي غير معجزة، ولا شأن لها بالبلاغة والفصاحة، أو أسلوب خاص من الخالق لأنه حسب زعمه خلاف الكتابيين فيما بينهم، وتأكيداً لذلك ضرب مثالاً على كلامه السابق فقال: "مثال ذلك قوله تعالى في قصة سجود الملائكة لآدم { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ } ليس هذا النص تقريراً من الله أنه فعل ذلك، وإنما هو تسجيل لقول أهل الكتاب على لسانه أنه فعل ذلك في رواية تقول بأن الخلق كان سابقاً للتصوير. وأن الأمر للملائكة بالسجود لآدم كان بعد خلقه وتصويره. وهذا هو موضوع الخلاف بين التوارة والتلمود والأناجيل.
…ثم قال في معرض الدفاع عن القرآن أمام المستشرقين: "ولو أدرك كتلر ذلك لعلم أن القرآن ليس كتاباً قصصياً، ولم يكن يروي قصصاً وإنما كان يسجل خلافات أهل الكتاب على الأخبار المدونة لديهم والتي كانوا يعتبرونها حقائق تاريخية أوحاها الله لكتبتها ولم تسجلها التوراة وكتب أهل الكتاب على أنها قصص للعبرة فقط". وقال: "فضلاً عن أنها التفاهة بحيث لم يكن فيها أي غذاء روحي أو عقلي أو حقائق علمية لها قيمتها في حياة المجتمع وتطوره"(2).
__________
(1) 15/46، تفسير القرآن الكريم كما أفهمه.
(2) 15/41، تفسير القرآن الكريم كما أفهمه.(1/397)
…هذه هي الشوائب التي شابت التفسير في القرن العشرين، حيث ترى أن القصص القرآني تفاهة لا يوجد فيها غذاء روحي ولا عقلي، ولا يوجد فيه حقائق علمية لها أي قيمة في المجتمع، ولا تساعد على تطوره. فنعوذ بالله من هذا الكفر سجلته ليرى القارئ الكريم مدى خطورة الشوائب في التفسير في القرن العشرين.
عبد الوهاب النجار في قصص الأنبياء:
…لقد جعل د. النجار للعقل الدور الأول في تفسير القصص القرآني فقال:
"إنَّ العقل ركن المعتقدات فما أوجبه كان واجباً وما أحاله كان محالاً، وما أجازه كان جائزاً". وقال: "إذا عارض الخبرُ العقل وجب تأويل الخبر بما يزيل هذا التعارض"(1). ولم يأخذ من الحديث إلا ما كان متواتراً(2). ونص على أن هذه من القواعد التي سار عليها في كتابه في تفسير القصص القرآني. وتطبيقاً لهذه القواعد قال في تفسير آية استخلاف الله آدم في الأرض: "قد يظن القارئ لهذا السؤال أن الملائكة قاموا بمظاهرة أمام الله واحتجوا عليه لاستخلافه آدم في الأرض.. والذي أفهمه أن شيئاً من ذلك لم يحصل ولكن خواطر خطرت بأنفسهم وهي تشوقهم لمعرفة الحكمة في استخلاف ذلك المخلوق الذي من شأنه تلك الأشياء.." (3).
…ولا يخفى خطأ وخطل هذا الفهم لأن نصّ القرآن واضح { قَالَ رَبُّكَ } ،
{ قالوا } أي الملائكة وهو ليس خواطر بل قول صدر بالفعل والمخبر مقطوع بصدقه وليس كما زعم د. عبد الوهاب النجار.
__________
(1) انظر ص12، قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، ط2، دار الجيل، بيروت.
(2) انظر ص12، قصص الأنبياء عبد الوهاب النجار، ط2، دار الجيل، بيروت.
(3) ص17، قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار.(1/398)
…لقد درج د. النجار على أن يقرن ما ورد من القصص في القرآن بما ورد في التوراة والإنجيل ويستشهد بها كما فعل في قصة آدم في سفر التكوين(1). وفي تعريف من هم الجن(2). وفي الوقت نفسه كان لا يأخذ بالأحاديث الصحيحة في تفسير القصص القرآني بحجة أنها خبر آحاد، وزعم أنه لا يأخذ إلا بالمتواتر من الحديث. وهذا يشير إلى أنه يرى أن أسفار التوراة والإنجيل قطعية تفوق حديث خبر الآحاد الذي ورد في أحد الصحيحين.
…والأدهى والأمرّ أنه استشهد برؤيا وردت في كتاب الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن كثير (غير الحافظ) أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وهابيل وأنه استحلف هابيل أن هذا دمه –يعني مغارة الدم بجبل قاسيون شمالي دمشق يقال أن قابيل قتل أخاه هابيل عندها- فحلف له وذكر أنه سأل الله تعالى أن يجعل هذا المكان يستجاب عنده الدعاء فأجابه إلى ذلك وصدقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال إنه وأبا بكر وعمر يزورون هذا المكان كل يوم خميس"(3).
…وهذا يسترعي الانتباه، ويستدعي الحذر ممن يرد الحديث الصحيح بحجة أنه خبر آحاد، وهو يشكل جل السنة النبوية، ويأخذ بالرؤى والأحلام، وبما ورد في التوراة والإنجيل، بل وبأقوال المؤرخين، قال د. النجار: "إن إدريس عليه السلام ولد بمصر وسموه هرمس الهرامسة، ومولده بمنف، وقالوا هو باليونانية آميس وعرب بهرمس. ومعنى أرميس: عطارد. وقال آخرون اسمه باليونانية طرميس، وهو عند العبرانيين خنوخ وعرب أخنوخ. وسماه الله عز وجل في كتابه العربي المبين إدريس.." (4). ثم استمر صفحة ونصفاً من هذا القبيل.
__________
(1) انظر ص30، 31، قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار.
(2) انظر 34، 35، المصدر السابق.
(3) ص38، قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار.
(4) ص 40، قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار.(1/399)
…كل هذا يجعلنا نجزم أن رفضه لخبر الآحاد(1) في القصص أمر مشبوه.
…كما استشهد د. النجار بأقوال المستشرقين ومنهم شبرنجر وسنوك هجرونييه إلى جانب التوراة والإنجيل في النسب والتواريخ والقصص.
…وخلاصة القول فإن الدكتور النجار قد جعل للعقل الحر الأولوية في تفسير القرآن. ثم إلى التوراة والإنجيل. ولذلك تجد قصصه في حق الأنبياء مليئة بالشوائب حتى منع الأزهر طباعته لفظاعة الشوائب التي تناقض مفاهيم الإسلام.
عبد القادر ملاحويش في تفسير بيان المعاني – قصة الغرانيق:
…زعم أن الشيطان ترصد سكتات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتلو سورة النجم على الناس، وبعد أن تلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } (2). قرأ الشيطان محاكياً صوت الرسول: "تلك الغرانيق العلي وإن شفاعتهن لترتجى" فسمعها من دنا من الكفار فظنوها من الرسول(3). ثم كرر القول في الصفحة الثانية. وعزز قوله بأن الشيطان كان يظهر بصورة إنسان ويتكلم، ويسمع كلامه كسائر البشر كما هو ثابت في الكتب القديمة"(4).
__________
(1) انظر كيف رد حديثاً متفقاً عليه زاعماً تنزيه سيدنا إبراهيم عن الكذب، وقد استعمل سيدنا إبراهيم التورية بقوله عن زوجته بأنها أخته يعني في الإسلام للنجاة من جبار في زمنه حيث كان القوم لا يتعرضون لغير ذات البعل، ويأخذون ذات البعل قهراً. انظر ص 120-124، قصص الأنبياء. عبد الوهاب النجار، وكذلك رد حديثاً آخر في فتنة سيدنا سليمان ورد في الصحيحين، وقد رواه البخاري سبع مرات، ورواه مسلم في كتاب الإيمان بطرق متعددة. انظر ص 384، قصص الأنبياء عبد الوهاب النجار. (الحديث لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله).
(2) سورة النجم، الآية: 19.
(3) 1/210، بيان المعاني، عبد القادر ملاحويش، طبعة الترقي، 1962م.
(4) 1/211، بيان المعاني، عبد القادر ملاحويش.(1/400)
…وهذا القول من شأنه أن يشكك المسلمين في وحيهم ما دام الشيطان يستطيع أن يحاكي صوت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويستطيع أن يدس على القرآن بين سكتاته - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين ما شاء، وهذا يعارض حفظ الله تعالى للقرآن الكريم، ويعارض السنة النبوية التي أخبرتنا أن الشيطان لا يتمثل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو بالمنام(1). قال ابن حجر: "وما قيل من أن ذلك (السجود) بسبب إلقاء الشيطان في أثناء قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا صحة له عقلاً ولا نقلاً"(2).
__________
(1) روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من رآني في المنام فقد رأني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي) كتاب العلم، الحديث 110، ص 202، فتح الباري، ج1، ورواه مسلم في الرؤيا، 10، 11. والترمذي الرؤيا 4، 7، وابن ماجه الرؤيا 2، والدارمي الرؤيا 2، وأحمد في المسند، 1/375. وتكرر في أحد عشر موطناً. وفي رواية: (إنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي).
(2) 8/614، فتح الباري كتاب التفسير، باب فاسجدوا لله واعبدوه، تفسير سورة الجن، المطبعة السلفية.(1/401)
…وقال القاضي عياض: "فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال: لقد بُلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته واضطراب رواياته، وانقطاع سنده واختلاف كلماته"(1). وقال القاضي عياض: وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته - صلى الله عليه وسلم - من جريان الكفر على قلبه أو لسانه، لا عمداً ولا سهواً، أو أن يشبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقي الشيطان أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله لا عمداً ولا سهواً ما لم ينزل عليه. وقد قال الله تعالى: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } (2). وقال القاضي عياض: ووجه ثان وهو استحالة هذه القصة نظراً وعرفاً(3). وذكر وجهاً ثالثاً ورابعاً في توهين معنى هذه الرواية. وهذا شأن من يرجون لدين الله وقاراً. أما من نراه يقتنص شوارد الأقوال الشاذة الباطلة والتي تطعن في كتاب الله، وفي نبي الله، وفي دين الله فلا يستحق غير أن نعده من أهل الدخيل الذين شوّهوا التفسير بإدخال أمثال هذه الشوائب، لأنه انخرط في سلكهم بإرادته واختياره، وقد عبث بالقصة فأفسد التفسير.
قصة الخلق في تفسير بيان المعاني:
__________
(1) ص 750، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض، مكتبة زهران، القاهرة، تحقيق علي محمد البجاوي، طبعة عيسى البابي الحلبي.
(2) 2/752، 753، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، والآيات 44-46، من سورة الحاقة.
(3) بالنظر في الأدلة، والعرف عرف الرسول وأحوال غيره من الأنبياء.(1/402)
…قال: "والمراد بالخليفة هنا هو آدم عليه السلام. قالوا لما أراد الله تعالى خلق آدم أوحى إلى الأرض إني خالق منك خليفة، منهم من يطيعني فأدخله الجنة، ومنهم من يعصيني فأدخله النار وبعث جبريل عليه السلام ليقبض قبضة من أنواعها ويأتيه بها ليكون الخلق منها كلها، فلما أراد أن يأخذ منها قالت أعوذ بعزة الله منك، فترك ورجع، وقال يا رب استعاذت بك فكرهت أن أقدم عليها، فأرسل ميكائيل فكان ما كان من جبريل، فأرسل عزرائيل فاستعاذت منه، فقال لها إني أعوذ بعزته أن أعصي له أمراً، فقبض من عذبها ومالحها وحلوها ومُرِّها وطيبها وخبيثها وأبيضها وأحمرها وأسودها وما بين ذلك، وصعد بما قبضه"(1). ثم قال: "ثم أخرجها فسوّاها طيناً مدة، ثم حمأة مدة، ثم صلصالاً مدة، ثم جسداً، وألقاه على باب الجنة، فصارت الملائكة تعجب من صورته، وقال إبليس لأمر ما خلق هذا، ونظر إليه فإذا هو أجوف، فقال هذا خلق لا يتمالك، أي أنه يخدع، وقال للملائكة إن فضّل هذا عليكم ماذا تصنعون؟ قالوا نطيع ربنا فيه، فقال في نفسه لئن فضل عليّ لأعصينه، ولئن فضلت عليه لأهلكنه، فلما أراد الله تعالى نفخ الروح فيه، قالت الروح يا رب كيف أدخل؟ فقال: كرها تدخلين وستخرجين منه كرها، فدخلت يافوخه حتى وصلت إلى عينيه فنظر إلى سائر جسده طيناً فلما وصلت منخريه عطس، فعندما وصلت لسانه قال الحمد لله رب العالمين، فقال الله: رحمك الله ربك لهذا خلقتك، وقد صارت سنة في الخلق على كل من يعطس، وعلى كل من يسمعه التشميت بأن يقول له يرحمك الله ويرد عليه يرحمنا ويرحمك الله، فلما بلغت ركبتيه همّ ليقوم فلم يقدر .. فلما انتهت إلى قدميه استوى بشراً سوياً من لحم"(2).. الخ ما قال.
__________
(1) 5/23، بيان المعاني، عبد القادر ملاحويش، تفسير سورة البقرة.
(2) 5/24، بيان المعاني، عبد القادر ملاحويش.(1/403)
…هذه القصة التي سردها ملاحويش بالفنقلة لم ترد في الكتاب ولا في السنة الصحيحة، ومنها ما يعارض ما ورد في القرآن الكريم وهو تمنع جبريل وميكائيل من الملائكة عن القيام بما أمرهم به رب العزة، وتجزؤ سريان الروح في جسد آدم عليه السلام، ونطق الأعضاء، وتشميت العاطس قبل أن يكتمل خلق آدم، وردّ اللسان، فكله يحتاج إلى وحي صحيح ليثبته. وصدق الله العظيم { مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } (1).
…وهكذا جاء عبد القادر ملاحويش بقصص من خارج الكتاب والسنة ليفسر لنا القصة الواردة في القرآن، فألقت بظلالها على التفسير فكانت عبئاً عليه، وقد تؤثر سلباً في عقيدة بعض المسلمين، وربما يحول دون أن يدخل بعض الناس في دين الله إذا أدرك أن في الإسلام تناقضاً أو تعارضاً أو خرافات ونحوها. ولهذا فمقولة عبد القادر ملاحويش هذه في تفسير القصة في القرآن تعد شوائب محضة لا نصيب للتفسير فيها.
قصة داود عليه السلام في تفسير بيان المعاني:
__________
(1) سورة الكهف، الآية: 51.(1/404)
…قال تحت مطلب قصة داود: "ولكن القصاص ذكروا وجوهاً كثيرة فيما وقع من السيد داود عليه السلام. أقوالاً أعدلها وأقربها إلى المنطق وأصدقها عقلاً هو أن داود عليه السلام كان رأى زوجة عامله أوريا فأعجبته، وكان في زمانه جواز سؤال الرجل أن يتنازل للغير عن زوجته، وكانت هذه عادة متفشية بينهم فسأله النزول عنها إليه .. فتزوجها وأولدها سليمان عليه السلام فعتب الله عليه لعظم منزلته عنده وكثرة نسائه ووجود أمثالها في أمته وعدم منع إرادته وأنه لا ينبغي لمثله وعنده النساء الكثيرات وقدرته على تزوج من شاء منهم أن يسأل رجلاً من رعيته ليس له غير امرأة واحدة التنازل عنها له بل كان عليه أن يغلب هواه ويقهر نفسه ويصبر على ما امتحن به من رؤيته لها"(1).
…هذا ما أخذه السيد عبد القادر من القصاص وحكم عليه بأنه أعدل وأصدق الأقوال، وأقربها إلى المنطق فيه قدح في مقام نبوة داود عليه السلام. ويصوره بأنه يسير وراء نزواته لا حسب الوحي. فضلاً عن تناقض ذلك، مع أن القرآن الكريم قد مدح سيدنا داود قبل هذه القصة وبعدها مما يدل على زيفها. ونذكر هنا أنه لا ينقل إلا المعقول شرعاً(2). فهذه الشوائب تطعن في مقام النبوة واعتبرها معقولة شرعاً. فعلام يدل هذا؟
__________
(1) 1/305، بيان المعاني، عبد القادر ملاحويش، تفسير سورة ص.
(2) 1/314، بيان المعاني، عبد القادر ملاحويش.(1/405)
قصة نزول عيسى عليه السلام في تفسير بيان المعاني:
…قال تحت مطلب في نزول عيسى عليه السلام: أخذ بالقول أن عيسى عليه السلام يأخذ الأحكام شفاهاً عن سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - عندما ينزل في آخر الزمان. وزعم أنه وقع لبعض الكاملين رؤيته - صلى الله عليه وسلم - يقظة والأخذ عنه كالشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي، والشيخ أبي العباس المرسي وغيرهم(1). وقال: "وواقعة الرفاعي رحمه الله مشهورة متواترة حينما زار قبره الشريف وقال بحضور جماعة لا يحتمل تواطؤهم على الكذب:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها
وهذه دولة الأشباح قد حضرت ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي
فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
فمدّها - صلى الله عليه وسلم - وقبّلها بحضور جم غفير وتناقلتها الركبان وشاع خبرها في مشارق الأرض ومغاربها .." (2).
…وذكر رواية لابن عساكر مفادها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صافح سيدنا عيسى وهو يطوف بالبيت ورآه الصحابة"(3).
…ولا يخفى أن ما زعمه من تواتر من مصافحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبره للرفاعي، وما زعمه عمن وصفهم بالكاملين هراء يناقض عقيدة الإسلام من أن محمداً قد مات، وما ذكره مستحيل. وهذا من شأنه أن يشيع الخرافة في ديننا. ومن الإنصاف لدين الله أن نخرج هذه الخرافات من تفسير كلام رب العالمين، وهي شوائب لا تمت للتفسير بصلة.
__________
(1) 4/80، بيان المعاني، عبد القادر ملاحويش.
(2) 4/81، بيان المعاني، عبد القادر ملاحويش.
(3) المصدر السابق نفسه.(1/406)
…وهكذا جمع العاني ملاحويش في تفسير القصة القرآنية الخرافة وكل غريب، وجمع الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات، واعتقد بصحة حكاية الغرانيق المفتراة وشكك في الوحي، وجاء بقصص تقدح في مقام النبوة، وأسند المعجزات لغير الأنبياء، وأحيا سيدنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - بعد موته ليصافح الرفاعي، وأسند الكمال لأناس اشتهروا بعقيدتهم الباطنية. وتجد في كل قصة قرآنية تفسيراً غريباً، أو توهيناً لمعجزة، أو خرافة إسرائيلية مما ينبغي أن يخرج من دائرة التفسير(1) لتبقى عقيدة المسلمين خالصة لرب العالمين.
محمد عزت دروزة في تفسير القصة في القرآن الكريم:
…قال دروزة: "إن ما ورد من قصص وأخبار متصلة بالأمم السابقة وأحداثها: أولاً: لم يكن غريباً عن السامعين إجمالاً اسماعاً أو مشاهدة آثار أو اقتباساً أو تناقلاً، وسواء ما هو موجود في الكتب المنزلة المتداولة مماثلاً أو زائداً، أو ناقصاً أو مبايناً لما جاء في القرآن، وما لم يكن موجوداً فيها مما يتصل بالأمم والأنبياء الذين وردت أسماؤهم فيها مثل قصص إبراهيم المتعددة مع قومه. وتسخير الجن والريح لسليمان وقارون، والعبد الصالح مع موسى، ومائدة المسيح، أو مما يتصل بغيرهم من الأمم والبلاد العربية وأنبيائهم مما لم يرد أسماؤهم فيها مثل قصص عاد وثمود وسبأ وتبع وشعيب ولقمان وذي القرنين.
__________
(1) انظر على سبيل المثال: 2/319، بيان المعاني قصة الهدهد مع سيدنا سليمان؛ و2/320، مطلب ما قاله الهدهد لسيدنا سليمان وعلوم القرآن الأربعة؛ و 2/321، مطلب ملك بلقيس وسلاطين آل عثمان؛ وانظر 5/208، مطلب قصة ذي الكفل ونادرة السلطان سليم وقصة أشمويل عليه السلام. وانظر 5/213-221، مطلب في التابوت؛ وانظر 4/351، مطلب هجرة مريم بعيسى عليهما السلام، وكان مع يوسف النجار.(1/407)
…وثانياً: لم يورد للقصة لذاتها وإنما ورد للعظة والتمثيل والتذكير والإلزام والإفحام والتنديد والوعيد"(1).
…رسم دروزة خطوطاً عريضة في نظرته للقصص في القرآن الكريم، والخط الأول يعارض آيات في القرآن الكريم منها: { تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } (2).
…ومنها { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } (3). في قصة مريم عليها السلام وكفالة سيدنا زكريا لها.
…ومنها : { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } (4) في قصة سيدنا يوسف عليه السلام.
…فهذه نصوص صريحة في أن القصص بشأن نوح ومريم ويوسف وزكريا عليهم السلام من أنباء الغيب لم يعلمها محمد ولا قومه من قبل. فيكون الخط العريض الأول مناقضاً لهذه الآيات الكريمة. ويكون قوله في النقطة الأولى شبهة واعتراضاً على منطوق هذه الآيات أكثر منها أدلة على ما ذهب إليه.
…ثانياً: فإن المعهود عند العرب أنهم أمة أمية لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، ولم يكن لكتب أهل الكتاب أي تداول أو انتشار بينهم، ولم يردنا من التاريخ الصحيح ولا المزيف ما يدل على عكس ذلك.
__________
(1) ص 166، القرآن المجيد، محمد عزت دروزة، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت.
(2) سورة هود، الآية: 49. وذلك عن قصة سيدنا نوح عليه السلام.
(3) سورة آل عمران، الآية: 44.
(4) سورة يوسف، الآية: 102.(1/408)
…ثالثاً: إن اليهود الذين كانوا حافّين حول المدينة كانوا مجتمعاً مغلقاً لا ينشرون ما فتحه الله عليهم لغيرهم. وهم يتلاومون فيما إذا فرّط بعضهم بشيء مما عنده لغيره. { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ } (1).
…رابعاً: إن التراث الأدبي الجاهلي لم ينقل لنا قصصاً عن الغابرين مما يدل على عدم تداوله بينهم، وعدم ذيوعه، وما المعلقات عنا ببعيد، فلم يبلغنا صراعٌ بين الثقافة الوثنية والنصرانية واليهودية ولم يبدأ الصراع الفكري إلا بعد مجيء الإسلام.
…خامساً: إن العرب الذين تنصروا أو تهوّدوا قبل مجيء الإسلام كانوا منعزلين عن مجتمعهم. فضلاً عن عدم ورود أسماء ما يتجاوز أصابع اليدين، ومنهم ورقة بن نوفل، ولا علم لنا بأنهم كانوا يقرأون ويكتبون حتى نحكم بنشرهم لتفصيلات التوراة والإنجيل. ولذلك نقول صدق رب العالمين وكذب المتقولون بما يناقض الآيات الكريمة.
…وأما النقطة الثانية عند دروزة، فورود القصة في القرآن للعظة لا يعني بحال من الأحوال أنها ليست بحق، أو أنها لم ترد للإيمان بها، أو حسب مصطلح دروزة "من الوسائل التدعيمية". ويدحضه قول الله تعالى: { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } (2). وقوله: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ } (3). وقوله:
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } (4). وقوله: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } (5). وعليه فإن ما جاء به محمد عزت دروزة في تفسيره بشأن قواعد تفسير القصة شوائب محضة لا تمت للتفسير بصلة، وهي تناقض ما جاء به القرآن فتمس عقيدة معتقدها.
وفي هذا القدر كفاية لبيان شوائب التفسير في القصص القرآني في القرن الرابع عشر الهجري، ومَنْ يحرص أن لا يقع في شرك الشوائب في تفسير القصص في القرآن عليه أن يتقيد بضوابط التفسير. وأن لا يفرق بين نصوص الوحي سواء تعلقت بالأوامر أو بالنواهي، أو بالقصص والأخبار. وعليه أن يراعي قدسية القرآن الكريم.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 76.
(2) سورة الأعراف، الآية: 7.
(3) سورة الكهف، الآية: 13.
(4) سورة آل عمران، الآية: 62.
(5) سورة يوسف، الآية: 3.(1/409)
الفصل الرابع :شوائب التفسير في قضايا اقتصادية واجتماعية
المبحث الأول…: الفوائد المصرفية واستثمار الأموال في البنوك.
المبحث الثاني…: اليانصيب الخيري.
المبحث الثالث…: تعدد الزوجات، زواج المسلمة من الكتابي.
المبحث الرابع…: الطلاق.
المبحث الأول
الفوائد المصرفية واستثمار الأموال في البنوك
…نشأت مسألة استثمار الأموال في البنوك إثر تطبيق النظام الاقتصادي الرأسمالي في بلاد المسلمين، حيث يقوم النظام على الربا فأصبحت المجتمعات في العالم تعد المصارف (البنوك) من ضروريات الحياة. أي الحياة الرأسمالية. وفرضت الدول نظام المصارف على المسلمين، حتى صار عادة، وقد استمرأه الناس، ثم توالت الفتاوى الواسعة بعدم تحريم الفوائد (الربا) القليلة، وصار تأويل الآيات عادة مستساغة عند بعض المشايخ ليسوّغوا وجود البنوك، وأهمل بعضهم أحاديث خبر الآحاد التي تحرم الربا بدعوى أنها ليست متواترة، وصار رموز الإصلاح يتعاملون بالربا في البنوك فصاروا قدوة لغيرهم، وانخرط في سلكه بعض العوام تقليداً للعلماء، فيخرجون سالمين من الإثم على ظنهم، بالإضافة إلى ضعف الإسلام في نفوس بعض الناس. هذه العوامل مجتمعة جعلت من الربا قضية رائجة. وإليك نماذج من إباحة الفوائد المصرفية.
موقف جمال الدين الأفغاني من الربا:(1/410)
…"وحرم الربا بنكتة غاية في الحكمة وهي أن لا يؤكل الربا أضعافاً مضاعفة، وهو ما وقع عليه التحريم، ولكي يكون للإمام مخرج إذا قضت المصلحة بالتسامح للحكم بجواز الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المديون، ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال، ويصير أضعافاً مضاعفة"(1).
…واستشهد بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (2).
…وقد أباح الربا دون الأضعاف المضاعفة فقال: إن الربح قد يكون أضعافاً مضاعفة في التجارة فما معنى حله في التجارة وتحريمه في الربا الذي يعد تشغيلاً للمال.
الرد على جمال الدين في إباحة الربا:
__________
(1) المخزومي، محمد باشا، خاطرات جمال الدين الأفغاني، ص 195.
(2) سورة آل عمران، الآية: 130.(1/411)
إن ما وقع عليه التحريم هو جنس الربا ولو كان أقل القليل بدليل قوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1). وأل تفيد الجنس هنا. قال أبو حيان الأندلسي: "والحكم في الأشياء إنما هو إلى الله تعالى لا يعارض في حكمه ولا يخالف في أمره. وفي هذه الآية دلالة على أن القياس في مقابلة النص لا يصح إذ جعل تعالى الدليل في إبطال قولهم هو أن الله أحل البيع وحرم الربا"(2). وورد في آخر آية في تحريم الربا قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ278/2فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } (3). فربط تعالى حرمته بالإيمان فكأن الردة في تعاطيه. والإيذان بالحرب من الله ورسوله قرينة ثانية. وعلامة التوبة هي الاكتفاء برأس المال فقط فينتفي الظلم المعتبر شرعاً في معاملة الربا.
إن تحريم الربا أضعافاً مضاعفة لا يعني حل ما دونه بدليل الآيات الواردة في رقم (1). قال أبو حيان في البحر المحيط: "والربا محرم جميع أنواعه فهذه الحال لا مفهوم لها وليست قيداً في النهي إذ ما لا يقع أضعافاً مضاعفة مساو في التحريم لما كان أضعافاً مضاعفة"(4). وقول أبي حيان لا مفهوم لها يعني لا مفهوم مخالفة لها.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 275.
(2) أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، 2/335، ط2، دار الفكر، 1403هـ-1983م.
(3) سورة البقرة، الآيات: 278-279.
(4) أبو حيان الأندلسي، محمد بن يوسف، تفسير البحر المحيط، 3/54، ط2، دار الفكر، 1403هـ-1983م.(1/412)
إن إباحة الربح في التجارة ولو بلغ أضعافاً مضاعفة كان بالنص وليس بالعقل، وقوله صياغة ثانية لقول أهل الجاهلية: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } (1). ولذلك لا يقاس على الربا المحرم بالنص.
فتوى الشيخ محمد عبده في الربا:
…كان الشيخ محمد عبده –فيما أعلم- أول من حرر في الصحف المصرية إباحة استثمار الأموال في البنوك. ومنها ما ورد في المنار حيث أصدر الشيخ فتوى بإباحة هذا النوع من المعاملات في صندوق توفير البريد، وإليك ما ذكرته المنار عن هذه الفتوى: "وأما صندوق التوفير في إدارة البريد المصري فقد أقر نظامه لجنة من علماء المذاهب في الأزهر، وكتبوا بذلك كتابة عرضتها الحكومة في ذلك الوقت على مفتي الديار المصرية الأستاذ الإمام –رحمه الله تعالى- فأفتى به وجرى العمل به وقد بينا ذلك بالتفصيل في ص28 من مجلة المنار المجلد السابع"(2).
الشيخ محمد رشيد رضا والربا عملاً وقولاً:
…لقد طبق الشيخ رشيد حكمة جمال الدين في الربا، وفتوى محمد عبده قولاً وعملاً، فمنذ أن وطئت قدماه مصر 1897م اشترى داراً بالقاهرة من يوناني بالربا كما وجدت في أوراقه الخاصة.
…ومن اعترافاته بتعامله بالربا ما ورد في رسالة لصديقه الدرزي الأمير شكيب أرسلان: "... إلى أن سددنا حسابها في أوائل هذه السنة الميلادية برهن جديد للدار على ألف ومائتي جنيه بفائدة 9 في المائة ست سنين يستحق القسط الأول في مايو 1935. وهو مائتا جنيه تضاف إليه فائدة السنة 108 جنيهات. وخسرنا نفقة هذا الرهن الجديد زهاء مائة جنيه أيضاً" رسالة في 13 رجب 1353هـ - 22 اكتوبر 1934"(3).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 275.
(2) مجلة المنار، محمد رشيد رضا، م27، 5/346.
(3) السيد محمد رشيد رضا، أو إخاء أربعين عاماً، الأمير شكيب أرسلان، ص754، ط1، دمشق، مطبعة ابن زيدون.(1/413)
…وفي خطاب آخر عن تكالب الديون عليه: "وقد بلغت الحرارة درجة الأربعين أو زادت من حيث بلغت العسرة درجة 100. وجاءنا في بريد الصباح إنذار من بنكين باستحقاق كمبالتين عليّ وإنذار من بنك مصر بالتذكير بكمبيالة سابقة بعد مطالبتي له بتأجيل كمبيالة استحقت في هذا الشهر. ثم جاءني بعد العصر عامل من محل تجارة نكامولي (يهودي) يحمل ثلاث كمبيالات قديمة لم تدفع لتغييرها بكمبيالات جديدة مؤجلة تستحق أولاها بعد شهرين، فأمضيت الجديدة، واستعدت القديمة. وإن ما يطلب منا اليوم لا نملك عُشْره ولا نصف عشره"(1).
…وأما إباحته للربا دون الأضعاف المضاعفة فقد ظهر في عدة صور وإليك بعضها:
__________
(1) رشيد رضا، الإمام المجاهد، ص 278، تأليف د. إبراهيم أحمد العدوي.(1/414)
1- ورد جواب عن سؤال بخصوص صندوق توفير البريد في إدارة البريد مشفوعاً ببيان حكمة تحريم الربا. وفيه: "لا نرى بأساً من العمل به لأننا إنما ننتقد الحيل على علماء الظاهر أو علماء الرسوم ما ينافي مقاصد الشرع الثابتة بالكتاب والسنة، كالحيلة في منع الزكاة، والحيلة في الربا الحقيقي الذي علل القرآن تحريمه بقوله { لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } (1) ... وقال: والذي يفهم سبب تحريمه من قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً } (2). وقال: "ولا يخفى أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ والمعطي والتي لولاها لفاتتهما المنفعة معاً لا تدخل في هذا التعليل { لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } لأنها ضده، على أن المعاملة التي يقصد بها البيع والاتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج. ولا يخفى أن إدارة البريد هي مصلحة غنية من مصالح الحكومة، وأنها تستغل المال الذي يودع في صندوق التوفير فينتفع المودع والعمال المستخدمون في المصلحة والحكومة فلا يظلم أحدهما الآخر. فالأرجح أن ما قالوه ليس من الحيل الشرعية. وإنما هو من قبيل الشركة الصحيحة من قوم المال ومن الآخرين الاستغلال فلا مانع إذن في رأينا من العمل بتعديلهم على أن العبرة في نظر الفقه بالعقد"(3). وقال: "والباحث في الفقه الحقيقي وهو حكمة المشرع وسرّه لا يرى ما ينافي حلها بناء على ما تقدم. والتضييق في التعامل يفقر الأمة ويضعفها ويجعلها مسودة للأمم والله أعلم وأحكم" (4).
__________
(1) سورة البقرة، الآية 279.
(2) سورة آل عمران، الآية 130.
(3) مجلة المنار، م9، 5/28، 29.
(4) مجلة المنار، م9، 5/28، 29.(1/415)
…ومن يجل النظر في فتوى الشيخ رشيد هذه يجد أنها تطبيق لفتوى أساتذته، وزيادة عليهم في إضفاء الصبغة الشرعية على الربا وتسهيل التعامل به على الناس مستخدماً العقل والحيلة والأساليب الباطنية في اصطناع التقوى، واختراع الحِكَم العقلية للنصوص وإقامتها مقام العلة الشرعية لزحزحة المُحْكم عن إحكامه. فصوّر إيداع الأموال في صندوق توفير البريد بفائدة بأنه بيع وتجارة لأنه يفيد الآخذ والمعطي. ثم حصر الربا المحرم على ما قاله كبيرهم الذي علمهم التأويل بالربا الفاحش الذي يبلغ الأضعاف المضاعفة. وجعله السبب في تحريم الربا. أي وما كان دونه فلا بأس به. كما صور أن وضع الأموال في صندوق التوفير في البريد تخلو من استغلال الغني لحاجة الفقير لأن المستثمر هو الفقير بفائدة يأخذها من الغني وهو مصلحة البريد الحكومية. وهذه سفسطة لأن تحريم الربا جاء بالنص ولم يرد فيه تعليل البتة. وما زعمه أنه تعليل لا تسعفه اللغة. وما زعمه بأن، المعاملة نفع وتنفيع هي منطق المذهب الرأسمالي. ومنطق المسلمين أن المعاملة تشريع من رب العالمين لتنظيم العلاقة بين الفرد وغيره من الناس. وما زعمه أن التعامل بالربا دون الأضعاف المضاعفة رحمة للآخذ والمعطي ولولاها لفاتت المنفعة سفسطة لأن التحريم والتحليل في الإسلام جاء بنصوص الوحي وليس بالعقل والنص يحرم جنس الربا { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1). والمسلم مقيد في كسبه وفي انفاقه للمال على الوجوه التي حددتها النصوص، ولا يتصرف في المال بوحي عقله وعادة المجتمع الذي يعيش فيه. وهذه الاستفاضة في إضفاء الشرعية على إباحة الربا دون الأضعاف المضاعفة من هذا الرمز صارت شرعاً فيما بعد إلى يومنا هذا. وكل الذين تواردوا بعده عالة عليه فلا يستطيعون أن يأتوا بجديد.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 275.(1/416)
2- عقد الشيخ رشيد فصلاً في بيان حكمة تحريم الربا مستشهداً بأقوال أستاذه الإمام في دروسه وخلاصتها تدريب المؤمنين على حل الأشياء وتحريمها بالعقل لا بالنصوص. وقد توكأ على مقولة لتلستوي من مشاهير رجال الماسون، وبنقول طويلة للغزالي وهي لا تمت لإباحة الربا بصلة. ثم ختم حكمته لتحريم الربا باليوم الموعود الذي يفوز فيه الاشتراكيون في الممالك الأوروبية ويهددون أكثر دعائم الإثرة المادية التي تستحوذ على الحياة الغربية ومنها منع الربا والاحتكار والالتزام برعاية حقوق المساكين والعمال"(1).
…ومن الجدير بالتذكير دائماً أن تحريم الربا عنده يعني الأضعاف المضاعفة فقط. وأن المعاملات المالية والقضائية والسياسية هي مما فوض الله الناس فيها حسب رأي أولي الأمر.
3- عقد فصلاً بعنوان: "التفرقة بين ما ثبت بنص القرآن من الأحكام وما ثبت بروايات الآحاد وأقيسة الفقهاء ضرورية فإن من يجحد ما جاء في القرآن يحكم بكفره، ومن جحد غيره ينظر في عذره".
…وفي العنوان تشتم رائحة الفصل بين الكتاب والسنة المعهودة من القوم وهذه شوائب كبيرة. وفي قوله وتفريقه بين ما ثبت بنص القرآن من الأحكام وبين ما ثبت بالسنة شوائب خطيرة تطيح بالسنة النبوية الشريفة فضلاً عن أنها مغالطة لأن الذي يكفر هو جحود القطعي سواء أكان في القرآن أم في السنة كما هو الحال في حكم رجم الزاني المحصن فهو قطعي ومن السنة وحدها فيكفر منكرها. وأما الربا فهو قطعي من القرآن فضلاً عن قطعية التحريم بالسنة كذلك. وانعقد الإجماع على تحريم الربا قليله وكثيره وبلغنا بالتواتر من لدن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يومنا هذا.
ومن أقواله في إباحة الربا:
__________
(1) مجلة المنار، م9، 5/345-352.(1/417)
…"فالناس في أشد الحاجة إلى التمييز بين الربا القطعي المتوعد عليه في القرآن بالخلود في النار وبين غيره مما اختلف فيه أو كان وعيده دون وعيده لأن ضرره دون ضرره"(1).
…وقال: "قد علم مما تقدم في تفسير الآيات أنها نزلت في وقائع كانت للمرابين من المسلمين قبل التحريم فالمراد بالربا فيها ما كان معروفاً في الجاهلية من ربا النسيئة أي ما يؤخذ من المال لأجل الإنساء أي التأخير في أجل الدين. وكان يتكرر ذلك حتى يكون أضعافاً مضاعفة فهذا ما ورد في القرآن بتحريمه لم يحرم فيه سواه. وقد وصفه في آية آل عمران التي جاءت دون غيرها بصيغة النهي وهي قوله عز وجل: { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (2) وهذه أول آية نزلت في تحريم الربا فهو تحريم لربا مخصوص بهذا القيد وهو المشهور عندهم"(3).
…وقال: "فقوله تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } (4) الآيات يحمل الربا فيها على ما سبق ذكره في النهي الأول".
…وقال: "وهذا النوع من الربا هو أشدها ضرراً وهو مذموم عند كل عاقل بل هو ممنوع في قوانين الأمم التي تبيح غيره من أنواع الربا"(5).
…وقال: "وما معنى حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - الربا فيه –يشير إلى ربا النسيئة الوارد في الحديث الشريف (إنما الربا في النسيئة)- إلا بيان ما أراد الله من الربا الذي توعد عليه بأشد الوعيد الذي توعد عليه على الكفر"(6).
__________
(1) مجلة المنار، م9، 5/352.
(2) سورة آل عمران، الآية: 130.
(3) مجلة المنار، م9، 5/353.
(4) سورة البقرة، الآية: 275.
(5) مجلة المنار، م9، 5/353.
(6) مجلة المنار، م9، 5/355، وقد استشهد بقول ابن القيم في أعلام الموقعين، وهو استشهاد في غير محله كما سبق وأن استشهد بقول الغزالي ولا محل للاستشهاد ولكنها سفسطة معهودة عنده.(1/418)
…ومن يدقق في كلام الشيخ رشيد يجد فيه عجباً فقبل قليل فرق بين ما ورد في القرآن وما ورد في السنة وعمل بالأول وترك الثاني. والآن يعمل بالثاني ثم بعد ذلك رد العمل بالثاني في تحريم ربا الفضل وكأن المسألة هي تحريم أو تحليل عقلي فيأخذ ما يوافق عقله ويرد ما سواه.
4- وجعل الشيخ رشيد تحريم ربا الفضل من باب سد الذرائع وبنى على ذلك أن ما حرم لسد الذرائع أبيح للمصلحة. ثم قال: "وممن جوز من الصحابة والتابعين ربا الفضل مطلقاً عبد الله بن عمر ولكن رووا عنه أنه رجع عن ذلك، وابن عباس واختلف في رجوعه، وأسامة بن زيد وابن الزبير وزيد بن أرقم وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير واستدلوا بحديث الصحيحين المتقدم (إنما الربا في النسيئة) فلو كان ربا الفضل كربا النسيئة لم يقع هذا الخلاف بين الصحابة والتابعين - رضي الله عنه - أجمعين"(1).
تفنيد أقوال الشيخ رشيد في إباحة الربا:
أ- إن تحريم الربا لم يكن لسد الذرائع ولا لجلب منفعة ولا لدرء مفسدة بل هو تشريع ابتدائي لتحريم هذا النوع من المعاملات بين الناس للنصوص في القرآن والسنة التي لا مجال للطعن فيها ثبوتاً ودلالة.
__________
(1) مجلة المنار، م9، 5/356.(1/419)
ب- إن تحريم ربا الفضل كان بنص قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد). رواه مسلم عن عبادة بن الصامت، ورواه البخاري كذلك وانعقد إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على كون الربا في هذه الأنواع الستة(1). وهذه الأشياء الستة استثنيت من القاعدة الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم. وهذا الحديث وحديث: (إنما الربا في النسيئة) خرجا من مشكاة واحدة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رواهما البخاري ومسلم.
__________
(1) رواه مسلم في باب الربا عن أبي سعيد الخدري، وفي رواية (ولا تُشِفُّوا بعضه على بعض ولا تبيعوا غائباً منه بناجز إلا يداً بيد. 6/14، واعترض عبادة بن الصامت على معاوية في بيع مغانم الفضة فقال: (إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضلة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى) 6/13. صحيح مسلم بشرح النووي، وفي رواية الآخذ والمعطي سواء. 6/15.(1/420)
ج- ذِكْرُهُ أن ابن عمر روى جواز ربا الفضل ثم رجع عنه(1). فما دام رجع عنه فهو دليل على أن القول في الأول باطل ولبطلانه رجع
__________
(1) روى الرجوع ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث 2176، كتاب البيوع، باب 78 بيع الفضة بالفضة ونص الحديث (حدثنا سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أبا سعيد الخدري حدثه مثل ذلك حديثاً عن رسول الله فلقيه عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا سعيد ما هذا الذي تحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال أبو سعيد في الصّرف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل، والورق بالورق مثلاً بمثل)، وطرفاه في 2177، 2178. ثم ذكر ابن حجر قصة رجوع ابن عمر فقال: فلقيه عبد الله بن عمر، أي بعد أن كان سمع منه الحديث فأراد أن يستثبته فيه، وقد وقع لأبي سعيد مع ابن عمر في هذا الحديث قصة وهي هذه، ووقعت له فيه مع ابن عباس قصة أخرى كما في الباب الذي بعده. فأما قصته مع ابن عمر فانفرد بها البخاري من طريق سالم، وأخرجها مسلم من طريق الليث عن نافع ولفظه (أن ابن عمر قال له رجل من بني ليث: إن أبا سعيد الخدري يأثر هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال نافع: فذهب عبد الله وأنا معه والليث حتى دخل على أبي سعيد الخدري فقال: إن هذا أخبرني أنك تخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلاً بمثل) الحديث فأشار أبو سعيد بأصبعيه إلى عينيه وأذنيه، فقال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل) الحديث. (صحيح مسلم بشرح النووي، 6/24) ولمسلم من طريق أبي نضرة في هذه القصة لابن عمر مع أبي سعيد (أن ابن عمر نهى عن ذلك بعد أن كان أفتى به لما حدثه أبو سعيد بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -). (فتح الباري شرح صحيح البخاري، 4/380، كتاب البيوع 34، باب 78 بيع الفضة بالفضة.(1/421)
عنه ابن عمر. ثم ما دام أن ابن عمر قد رجع عنه فما الفائدة من الاستشهاد به على أنه من الصحابة الذين قالوا بهذا الرأي المخالف؟!
د- إن ابن عباس رجع عن قوله لأنه لم يكن قد سمع بحديث ربا الفضل الذي رواه أبو سعيد وعندما سمعه قال: (أستغفر الله وأتوب إليه، فكان ينهى عنه أشد النهي) (1).
هـ- والمعهود أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقول جملة أحاديث في الموضوع الواحد دفعة واحدة، وإنما يورد الحديث منجماً كما نزل القرآن. ولما كان الحديثان (إنما الربا في النسيئة) و (الذهب بالذهب) كان لا بد من الجمع بينهما وأمثل ما قيل في الجمع بينهما ما قاله ابن حجر: "فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم. فيقوم عليه حديث أبي سعيد لأن دلالته بالمنطوق، ويحمل حديث أسامة (إنما الربا في النسيئة) على الربا الأكبر كما تقدم والله أعلم"(2).
…ومن الجمع بينهما أن حديث أسامة متقدم على حديث أبي سعيد ولهذا قال بعضهم بالنسخ ومعروف أن النسخ لا يثبت بالاحتمال ولهذا قلنا أمثل ما قيل في الجمع بين الحديثين هو ما قاله ابن حجر. ومعنى تقدم حديث أسامة أن من سمعه ولم يسمع حديث أبي سعيد كان يقول به كما وقع لابن عمر ولابن عباس. وإذا ثبت رجوع الصحابي للدليل فيبقى إصرار الأغيار بدون دليل. ولا قيمة له شرعاً. قال ابن حجر: "وفي قصة أبي سعيد مع ابن عمر، ومع ابن عباس أن العالم يناظر ويوقفه على معنى قوله ويرده من الاختلاف إلى الاجتماع، ويحتج عليه بالأدلة وفيه إقرار الصغير للكبير بفضل التقدم"(3). ولكن الشيخ رشيد ارتد من الاجتماع إلى الاختلاف.
__________
(1) انظر فتح الباري، شرح صحيح البخاري، لابن حجر، 4/382.
(2) فتح الباري، 4/382، شرح الحديث 2178، 2179، باب 79، بيع الدينار بالدينار نساءً.
(3) فتح الباري، 4/382. والتقدم يعني تقدم أبي سعيد الخدري في السن على ابن عباس، وملازمته للرسول - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ابن عباس.(1/422)
و- وفي الأحاديث الواردة في صحيح البخاري غنية للدلالة على اجتماع الصحابة رضوان الله عليهم في تحريم ربا الفضل بنص الحديث. وأن الذي قال به منهم فترة من الزمن لم يكن قد بلغه حديث أبي سعيد الخدري. وقد أكدّ أنه سمعه بنفسه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن سمع حجة على من لم يسمع. وعليه فلا وجه للقول أن الصحابة قد اختلفوا في ذلك كما زعم الشيخ رشيد.
…قال السرخسي في المبسوط: "فأما الحكم ففي الحديث حكمان –حديث الذهب بالذهب- حرمة النساء في هذه الأموال عند المبايعة بجنسها وهو متفق عليه. وحرمة التفاضل وهو قول الجمهور من الصحابة - رضي الله عنهم - إلا البتي –يعني عثمان البتي- روى عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أنه كان يجوز التفاضل في هذه الأموال ولا معتبر بهذا القول فإن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يسوغوا له هذا الاجتهاد على ما روي أن أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - مشى إليه فقال: يا ابن عباس إلى متى تؤكل الناس الربا. أصحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يصحب، أسمعت منه ما لم يسمع. فقال: لا. ولكن حدثني أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ربا إلا في النسيئة) فقال: "والله لا آواني وإياك ظل بيت ما دمت على هذا القول". وقال جابر بن زيد - رضي الله عنه -: "ما خرج ابن عباس - رضي الله عنه - من الدنيا حتى رجع عن قوله في الصرف والمتعة. فإن لم يثبت رجوعه فإجماع التابعين رحمهم الله بعده يرفع قوله فهذا معنى قولنا لا يعتد بهذا القول"(1).
__________
(1) المبسوط، لشمس الدين السرخسي، 6/11-112، طبعة دار المعرفة.(1/423)
…فمن أصدق قيلاً يا ترى الإمام السرخسي أم الشيخ رشيد؟! الإمام السرخسي يقول فإجماع التابعين رحمهم الله بعده –أي بعد ابن عباس- يرفع قوله. ولهذا قال لا يعتد بقول ابن عباس بإباحة ربا الفضل. على فرض عدم رجوعه. أما وقد رجع فالحق أحد أن يتبع. وجمهور الصحابة وجمهور التابعين اجتمعوا على تحريم ربا الفضل ولا فرق في تحريمه بينه وبين ربا النسيء.
ز- وأما قوله اختلف الفقهاء فكان اختلافهم ليس في التحريم البتة، وإنما كان في تعدية الأصناف الستة إلى غيرها فمن قائل بالقصر عليها، ومن قائل تعدى بالوصف، ومن قائل تعدى بالعلّة، واختلفوا في تحديد العلة. هذا هو اختلاف الفقهاء الذي اطلعت عليه في المسألة. قال السرخسي: "وتأويل حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن مبادلة الحنطة بالشعير، والذهب بالفضة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ربا إلا في النسيئة)، فهذا بناء على ما تقدم من السؤال فكأن الراوي سمع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع ما تقدم من السؤال أو لم يشتغل بنقله.
…وأما المعنى فنقول اتفق فقهاء الأمصار رحمهم الله على أن حكم الربا غير مقصور على الأشياء الستة وأن فيها معنى يتعدى الحكم بذلك المعنى إلى غيرها من الأموال إلا داود من المتأخرين وعثمان البتي من المتقدمين فإن داود يقول حكم الربا مقصور على هذه الأشياء الستة لأنه لا يجوز قياس غير المنصوص على المنصوص لإثبات الحكم. وعند فقهاء الأمصار رحمهم الله القياس حجة لتعدية الحكم الثابت بالنص، والبتي يقول بأن القياس حجة ولكن من أصله أن لا يجوّز القياس على الأصول إلا أن يقوم دليل في كل أصل على جواز القياس عليه ولم يقم ذلك الدليل هنا"(1).
__________
(1) المبسوط للسرخسي، 6/112، طبعة دار المعرفة.(1/424)
…وعليه فما ادعاه الشيخ رشيد باطل وهو من الشوائب. ولا يسمى اجتهاداً لأنه أعرض عن النص مع اعترافه بأنه في الصحيحين. وأخذ بقول معدول عنه. والعدول عن الرأي في المسألة التي نحن بصددها يدل على بطلان الرأي المعدول عنه وليس على أنه مرجوح. وفهم الصحابة يُلْغَى إذا ثبت نص من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد أسهبنا في الرد لنقطع الطريق على حزب التبرير ولنثبت أن فتاوى مؤسسي المدرسة العقلية الحديثة في التفسير في إباحة الربا دون الأضعاف المضاعفة من الشوائب وقد ألقيت لهوى في نفوسهم ولا تقع تحت الاجتهاد الشرعي حسب أصوله المرعية في علم الأصول. وقد عقد صاحب كتاب المعتمد في الأصول: باب الفرق بين مسائل الاجتهاد، وما ليس من مسائل الاجتهاد". وقال: "اعلم أن قاضي القضاة ذكره في (المعتمد) أن ما عليه دلالة قاطعة فليس هو من مسائل الاجتهاد، والحق في أحد منه لا يحل خلافه سواء كانت تلك الدلالة خفية أو جلية"(1). والربا من المحرمات القطعية التي لا مجال للاجتهاد فيها.
أمانات البنوك بفائدة عند الشيخ رشيد:
__________
(1) البصري، أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب، المعتزلي، المعتمد في أصول الفقه، 2/396، طبعة دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1403 هـ - 1983م.(1/425)
…قال: "ويشبه مسألة الحوالة مسألة الوديعة التي تقع كثيراً فإن بعض البنوك قد تزيد للمودع شيئاً على ماله المودع فيها وما قد يقع منه بلا شرط فهو يشبه الواقعة إلا أن يقال أن الوديعة أشبه بالقرض أو الدين منها بالأمانة لأن أهل البنك يتصرفون بالمال ويردون غيره والعرف يقوم مقام العقد في ذلك وقد صرح غير واحد من الفقهاء بأن كل قرض جر نفعاً للمقروض فهو ربا.. إلى أن قال: "فمن اعتقد ذلك حرم عليه"(1). أي أن الشيخ رشيد يجعل الحل والحرمة متوقفين على اعتقاد واضع المال في البنك لا على النصوص الشرعية. وضرب مثالاً فقال: "مثال ذلك أن من أعطى البنك ألفاً على أن له في المائة ثلاثة في السنة ثم طلب قبل انقضاء السنة خمسة بالمائة فإن البنك يعطيه إياها على أن له ستاً في المائة أو أكثر أو أقل قليلاً وكلُّ ذلك يجري بعقود مكتوبة. أما الودائع فيعطي البنك بها وصلاً للمودع يشبهها أنها من قبيل القرض الذي جر نفعاً، وهي ضعيفة في الحوالة قوية في الوديعة. على أن الفقهاء لا سيما الحنفية قد شددوا في مثل ذلك ويعدون كل ما يؤخذ بلا مقابل ربا فمن اعتقد ذلك حرم عليه الأخذ. وقال: "وإذا رجعنا إلى الدليل رأينا أن حديث (كل دين جر نفعاً) الخ ضعيف كما سيأتي عن نيل الأوطار، بل قال الفيوزآبادي إنه موضوع. ولكن في الباب أحاديث أخرى وآثار تفيد في إنارة المسألة"(2).
__________
(1) مجلة المنار، م10، 5/361.
(2) مجلة المنار، م10، 5/362.(1/426)
…ونقول: إن معنى الحديث الذي ضعفه وقال الفيروزآبادي إنه موضوع: موجود في صحيح البخاري، وللتغرير بالقارئ عمد إلى حديث ضعيف السند، ثم ختم الفتوى بقوله: "وأما الربا الذي نهى عنه الكتاب العزيز بالنص الصريح فهو ربا النسيئة المضاعف... وكأنه يقول أمانات البنوك بفائدة دون الأضعاف المضاعفة جائزة لا شيء فيها. وهي تعود إلى عقيدة المودع. ثم قال: "وتحريمه (الربا) ليس تعبدياً كما يقول من يرى ذلك من الفقهاء. بل هو معلل بقوله عز وجل { لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } (1). وبقوله { وَاتَّقُواْ اللّهَ } . بعد قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً } (2). فإن هذا من القسوة ومنع المعروف عند الحاجة المنافي للتقوى والمراد بهذا الربا المعروف ما كان عليه الناس في الجاهلية"(3). ثم قال: "هذا ما عنّ لنا في هذه المسألة مع صرف النظر عن حكم دار الحرب وما أحلوه فيها من العقود الفاسدة"(4).
…ويلفت نظرنا جعله الامتناع عن الربا دون الأضعاف المضاعفة فيه قسوة ومنع للمعروف عند الحاجة أنه مناف للتقوى وكأنه يقول إن تعاطي الربا واجب في حالة الاحتياج والعياذ بالله وهذه شوائب لا تمت للتفسير بصلة.
ربا الفضل عند الشيخ رشيد(5):
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 279.
(2) سورة آل عمران، الآية: 130
(3) مجلة المنار، م10، 5/364.
(4) مجلة المنار، م10، 5/365.
(5) مجلة المنار، م34، 5/362. ذكر هذا العنوان تحت عنوان كبير مباحث الربا والأحكام المالية، تابع لما في الجزء السادس 33/363.(1/427)
…قال: "بقي عليّ هنا بيان مسألة مهمة وهي أن قاعدة اليسر ورفع الحرج من أحكام الإسلام مسألة قطعية ثابتة بنص القرآن وصريح السنة، وإجماع الأمة. وأن مسألة ربا الفضل في بعض فروعها من العسر والحرج والخروج عن المعقول في حكمة التشريع ما يشق معه المحافظة على نصوصها وحكمتها معاً لأن حكمتها غير ظاهرة"(1).
…ونقول للشيخ رشيد إن أي قاعدة لا يجوز أن تعارض نصاً. لأن القواعد مستنبطة، والنصوص هي الأصل. وربا الفضل حرم بالنص. وإذا عمل بالقاعدة على إطلاقها فإنه يبيح جميع المحرمات. وتحريم ربا الفضل لا مجال للاجتهاد فيه لثبوته بنص قطعي الدلالة. وعليه فيرد قوله ويعد من الشوائب.
العسر المالي والربا والبنوك عند الشيخ رشيد:
…قال الشيخ تحت هذا العنوان: "وأساس المعاملات في الشريعة أن كل محرم ضار، وكل نافع حلال. ولذلك علل الكتاب حرمة الربا بقوله: { لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } (2). ولكن أكثر معاملات البنوك لا ظلم فيها بل منها ما فيه الرحمة للمتعاطين فإن العاجز عن الكسب إذا ورث مالاً وأودعه فيه بربا الفضل يستفيد هو والبنك معاً. وتبحث اللجنة في سائر فروع المسألة وتمضي الأمة ما تقرره اتباعاً لهداية القرآن وتثبت للعاملين أن شرع الإسلام موافق لمصالح البشر في كل زمان ومكان"(3).
__________
(1) مجلة المنار، م34، 5/363.
(2) سورة البقرة: آية 279.
(3) مجلة المنار، محمد رشيد رضا، م10، 6/434.(1/428)
…ثم بعد ذلك أسس الشيخ رشيد قاعدة لإنشاء بنوك ربوية في البلاد ومما قاله في هذا السبيل: "فإنك تعلم أن الاقتراض بالربا لم يرد به نص الكتاب وإنما جاء تحريمه في الحديث. وقد يستنبط من الكتاب استنباطاً ومكان ذلك من النفوس دون مكان النص قوة وتأثيراً، ثم إن الضرورة قد تلجئ المحتاج إلى الاقتراض ولا ضرورة تلجئ الغني إلى الاقتراض، فإن الفقيه لا يرى تلك ضرورة صحيحة شرعاً فإن المقترض يراها صحيحة وهو سوق للعمل بما يرى ويعتقد دون ما يرى غيره ويعتقد"(1).
__________
(1) مجلة المنار، محمد رشيد رضا، م10، 6/432.(1/429)
…وقال: "لولا التقليد لوجد المسلمون المخرج في شريعتهم من كل حرج وعسر"(1). ثم قال عن إنشاء بنك وطني من أغنياء البلاد: "هذه مسألة من أكبر المصالح العامة التي ينبغي أن تنظر الجماعة المعبر عنها في الكتاب بأولي الأمر. أي أصحاب الشأن في الأمة ليستنبطوا حكمها بمقتضى قوله تعالى: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } (2). وليس أصحاب الأمر هم الملوك والأمراء، ولا طائفة الفقهاء إذ لم يكن مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند نزول الآية ملوك يحكمون، ولا فقهاء يفتون، وإنما كان هناك جماعة من أصحاب الشأن في الأمة العارفين بمصالحها المعروفين بحسن الرأي فيها وهم يوجدون في كل أمة بحسب حالها فأولو الشأن والرأي في المصريين الآن يتألفون من عدة أصناف: رجال مجلس الشورى، وقضاة المحاكم العليا من شرعية وأهلية والمحامون وأصحاب الجرائد وكبار المدرسين والمزارعين والتجار فأقترح أن تتألف لجنة من هؤلاء الأصناف وتنظر في هذا الأمر هل هو ضروري للأمة فإن كان ضرورياً وضعوا له قانوناً أول مواده منع الربا المضاعف المحرم بالنص القطعي لشدة ضرره وهو لا ضرورة إليه. ونظروا فيما عدا ذلك من أعماله التي لابدّ منها هل فيها شيء من ربا الفضل الذي حرم لسد الذريعة لا لذاته، فإن كان فيها شيء من ذلك. فهل وصلت الضرورة فيه إلى حد يجوز العمل بقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات أم لا"(3).
تفنيد أقوال الشيخ رشيد في قضية العسر المالي والربا والبنوك:
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) سورة النساء، الآية: 83.
(3) مجلة المنار، 6/433.(1/430)
أساس المعاملات في الشرع هو الحلال والحرام وليس الضرر والنفع لأن الأخيرة قاعدة أساسية عند أصحاب عقيدة فصل الدين عن الحياة. والأولى قاعدة أساسية عند المسلمين لقوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (1).
حرم الربا بدون بيان العلة حسبما ورد في النصوص كلها. وما زعمه الشيخ بأنه علّة لا دلالة عليه حسبما هو مقرر في أصول الفقه. فيرد قوله.
قوله: إن أكثر معاملات البنوك لا ظلم فيها بل منها ما فيه الرحمة للمتعاطين، وقاعدة آكل الربا وموكله كلاهما يستفيد، ثرثرة كلام وطيش أقلام، وتشريع من العقل لا من دين الإسلام الذي أنزل على محمد. فالمحرم محظور بغض النظر عن الفوائد المجنية منه.
إن إباحة الربا دون الأضعاف المضاعفة لا يجوز أن يسمى هداية القرآن بل الأمر منكوس تماماً. وما زعمه تشريع من عقله لا من نصوص الكتاب والسنة التي تفيد نقيضه. وهو هنا من باب التنصيص على بشاعة الصورة التي كانوا يتعاملون بها، ومفهوم المخالفة هنا معطل كما سبق أن بينا.
نعم إن الإسلام موافق لمصالح البشر في كل زمان ومكان، ومصالح البشر تدور مع تشريع الإسلام وجوداً وعدماً. فإذا وجد التشريع وجدت المصلحة سلباً أو إيجاباً، وليس العكس.
إن ربا البنوك في واقعه ربا نسيئة لأن الزيادة في المال بسبب العامل الزمني. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه يحسب بحساب الربح المركب فكل من يتأخر في الدفع يترتب عليه فوائد المال والقسط وفوائده عن المدة التي تم فيها التأخير عن الدفع، فيؤول إلى أضعاف مضاعفة.
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 36.(1/431)
ما زعمه أن الاقتراض بالربا لا نص عليه من الكتاب ويمكن استنباطه من الكتاب وإنما جاء تحريمه في الحديث يعد تلاعباً بالألفاظ وفيه تناقض مع الآية { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1). فضلاً عن أنه لا فرق في التحريم أن يكون صدر في السنة أو في الكتاب فكلاهما وحي من الله تبارك وتعالى.
لقد جعل الشيخ رشيد حاجة المقترض وتقدير المحتاج عليها يدور الحل والحرمة وليس النصوص. وهذا مغاير لقوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (2).
قول الشيخ رشيد: "لولا التقليد لوجد المسلمون المخرج في شريعتهم من كل حرج وعسر" فيه تدليس لأن التقليد في عبارته يعني الالتزام بالإسلام. ولا يعني ما يقابل الاجتهاد لأنه محظور مع وجود النص القطعي في الثبوت والدلالة كما هو الشأن في الربا والخمر والميسر.
أما قضية قاعدته في إنشاء بنك وطني فما أنزل الله بها من سلطان. فقد جعل الربا أولاً مما هو مجال للنظر مع أن النصوص دلالتها قطعية فضلاً عن قطعية ثبوت بعضها ولا مجال للاجتهاد في مورد النص.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 275.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 36.(1/432)
وثانياً: جعل النظر في حكم إنشاء بنك ليس لمن لهم أهلية الاجتهاد الشرعي بل إلى من لا دين ولا خلاق لهم ممن يخدمون الكافر المستعمر حيث صدرت الفتوى ومصر محكومة عسكرياً وسياسياً بالإنجليز بُعَيْدَ أن تنازلت فرنسا لبريطانيا مكرهة عن مصر مقابل تونس 1904م. ورجال مجلس الشورى ممن لا يعينهم إلا الكافر المستعمر الإنجليزي. وكذلك قضاة المحاكم الأهلية العليا وهم يحكمون بالنظام البلجيكي. والمحامون الذي تأسس علمهم على الثقافة الغربية والقوانين الغربية في مرافعاتهم والقوانين التي يحتكمون إليها. وأما أصحاب الجرائد في مصر فهم مستوردون من كفار بلاد الشام وفسقتها(1). أو كانوا من الكفار المستعمرين ومنهم أبو نظارة. فهل الإسلام يعد هؤلاء أولي أمر المسلمين { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } (2). وهل أولئك ينطبق عليهم قول الله تعالى: { أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ } ، وقوله: { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ؟! وأما قوله لم يكن مع الرسول ملوك يحكمون ولا فقهاء يفتون فهو قول حق أريد به باطل لأن الذي كان يحكم هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى بل هو وحي يوحى. وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - يكون ولي الأمر هو الخليفة أو أمير المؤمنين الذي يحكم بما أنزل الله. والمجتهدون هم الذين يستنبطون
__________
(1) جريدة الأهرام، لآل تقلا وهم من نصارى الشام، والمقطم والمقتطف لنمر صرّوف، ويعقوب صرّوف، وهما نصرانيان من الشام الذين حضرا لمصر لهذه المهمة. وجريدة التجارة لأديب إسحاق نصراني من تلاميذ جمال الدين، ومجلة المنار لمحمد رشيد رضا، والفتح والزهراء لمحب الدين الخطيب، وهو شامي مناوئ للخلافة ومناصر لمصطفى كمال أتاتورك حيث أنشأ الفرع الرابع عشر لجمعية الاتحاد والترقي في الحديدة.
(2) سورة النساء، الآية: 83.(1/433)
الأحكام من أدلتها التفصيلية من الكتاب والسنة. والربا من الأمور التي لا مجال للاجتهاد فيها لمورد النص.
إن ربا الفضل حرم بالنص بل بالنصوص الصحيحة الواردة في أهم كتابين بعد القرآن في الدنيا كلها وهما صحيحا البخاري ومسلم. وليس كما زعم لسد الذريعة.
قاعدة المطعومات "الضرورات تبيح المحظورات" استنبطها المجتهدون لمن يشرف على الهلاك ولم يجد ما يأكله إلا المحرم وإلا فإنه يموت ويهلك. ولا يجوز تعديتها لإخضاع المسلمين للنظام الربوي الذي جاء به الكافر المستعمر. وتركه مربوط بالفلاح { فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (1).
…ونضيف هنا أن الشيخ رشيد يبيح الربا في دار الحرب، وقد صدرت في المنار فتوى تبيح الربا الصريح(2). وذكر كذلك إباحة القمار وقال: "ولم يخالفنا أحد في ذلك فراجعوا فتوانا"(3). وكأن قوله شرع، والسكوت عليه إجماع، وهذا باطل لأنه لا شرع إلا من الوحي، أو ما استنبط منه بطريق صحيح. وقال: "إن تلك الفتوى لا خطر فيها على التوحيد ولا تقتضي شيئاً من المحرمات. ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها فلا يعلن بها"(4).
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 90.
(2) مجلة المنار، رضا، محمد رشيد، م35، 2/129. أي قبل وفاته بشهرين وقد نشر الجواب في ج8، م27، الصادرة في ربيع الآخر، 1346هـ.
(3) مجلة المنار، رضا، محمد رشيد، م27، ص575.
(4) مجلة المنار، م35، 2/129(1/434)
…وهذا قول باطل أيضاً لأن تحريم الربا ربط بالإيمان كما سبق أن بيّنا. ولأنه جعل الحل والحرمة لاطمئنان الأشخاص لا للنصوص الصادرة من الوحي(1). وأما الربا في دار الحرب فيحرم فيها كتحريمه في دار الإسلام سواء بسواء(2). لأن النصوص حرمت الربا دون تحديد مكان للتحريم ولا زمان، ولا إقامة دولة. وغياب دولة الإسلام المنوط بها تطبيق الأحكام وإيقاع العقوبات على المخالفين لا يسوغ فعل الموبقات. وإباحته في دار الحرب يحتاج إلى دليل من الوحي. ولم يرد حسب علمنا فيرد قول الشيخ رشيد ويعد من الشوائب.
…وأكتفي بهذا القدر من شوائب التفسير عند الشيخ رشيد رضا في موضوع إباحة الربا دون الأضعاف المضاعفة وفي الترخيص لإنشاء بنوك ربوية على أساسه، وإن كانت هذه الشوائب غيضاً من فيض إلا أنها معبرة وكافية حسب تقديري في الدلالة على هذه الشوائب.
طنطاوي جوهري والربا في تفسيره:
__________
(1) قوله تعالى: { وَحَرَّمَ الرِّبَا } (البقرة: من الآية 275). وقوله: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (البقرة: من الآية 275)، وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } (البقرة: من الآية 278). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ربا إلا في النسيئة) رواه البخاري ومسلم، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة.. فمن زاد أو ازداد فقد أربى) رواه البخاري ومسلم.
(2) انظر المسألة في المغني والشرح الكبير لابن قدامة، محمد بن عبد الله بن أحمد (موفق الدين أبو محمد)، 4/162، 163.(1/435)
…قال: "وأحل الله البيع وحرم الربا، وترك الأمر ولم يبيّن إلا الحكم وحده تاركاً لعقولنا التفصيل مع الوقوف عند النص فلنبيّن الحكمة التي قالوها أولاً ثم نتبع ذلك بما يكون من الربا ثم نذكر مذاهب الاشتراكية"(1).
…وقال: "الربا حرام وإنما حرم لسر ظهر في هذا الزمان وذلك السر عرفه علماء الإسلام قديماً ولكن لم ينفذ فعلاً إلا على يد البولشفيك فاقرأ ذلك في آية الربا في سورة البقرة. فقد اتفقت أدلتهم مع أدلة الإسلام على أن المرابي لم ينفع الإنسانية بعمل ما هذا سره"(2).
…وقال طنطاوي جوهري: "وهنا ننظر ونقول: الربا حرام، ولكن هذا الحرام جعل سبباً في تخريب بلاد المسلمين ولو أن الربا أخذ لدولتنا، وسدت به ديون دولتنا للإفرنجة، الذين يحيطون بنا لكان ذلك واجباً لا جائزاً فقط. ولو أن الربا أخذ منهم وأعطي للفقراء والمساكين والذين لا يجدون صناعة يعيشون بها، فيشتري بها آلات للزراعة مثلاً لكان ذلك من باب الاضطرار في المسألتين. فهذا اضطرار يبيح هذا المحظور مؤقتاً(3).
تفنيد أقوال طنطاوي جوهري في إباحة الربا:
جعل الشيخ جوهري مهمة بيان القرآن وتفصيله للعقل وليس للغة ولا للشرع. وهذا باطل من الشوائب. فالبيان للقرآن وللسنة وللغة هو في زمان الاحتجاج كما مرّ معنا سابقاً. والعقل ليس له إلا الفهم على أساس الشرع، وبالقدر الذي يحتمله منطوق ومفهوم النصوص.
جعل الحكمة من تحريم الربا موكولة للعقل كذلك، وهذه شائبة. لأن الحكمة ينبغي أن تؤخذ من النصوص فحسب.
ربط بين الإسلام والاشتراكية ربطاً غير موفق لأنه يجمع المتناقضات، فالأول من الخالق والثاني من المخلوق، ثم ما هذا الهراء أن سر حرمة الربا لم يظهر إلا على أيدي البلشفيك؟!
__________
(1) الجواهر في تفسير القرآن، طنطاوي جوهري، م1، 1/272.
(2) الجواهر في تفسير القرآن، طنطاوي جوهري، م5، 9/192-193.
(3) الجواهر في تفسير القرآن، طنطاوي جوهري، م5، 9/193.(1/436)
جعل أحكام الربا متعددة منها الواجب ومنها الجائز ومنها الحرام وكان مصدر أحكامه عقله الحر وهذا التشريع ما أنزل الله به من سلطان. وبناه على قاعدة النفعية التي تعد مقياس النظام الرأسمالي. وهي تناقض قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (1). وسواء سدّت به الديون أو وزع على الفقراء فهو محظور لأن عقد الربا نفسه حرام لا يجوز.وليس الأمر من باب الحرية الشخصية.
إن هذه الأقوال التي سماها تفسيراً أوردها في تفسير سورة الكهف حيث لا ذكر للربا فيها. مما يدل على أن الرجل في رأسه موال ويريد أن يصبغه بالشرع. فهي شوائب محضة.
إن تحويل الربا المحرم إلى فرض بفذلكة لا تغني من الحق شيئاً يكون حكمه حكم من يعلن الحرب على الله ورسوله. وهذه شوائب لا تمت للإسلام بسبب ولا نسب. وفي هذا القدر كفاية لبيان الشوائب التي أدخلها الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره بشأن الربا.
الربا في تفسير د. عبد الكريم الخطيب:
…قال د. الخطيب: "فالذين يأكلون الربا هما الطرفان المتعاملان به المُقرِض والمقترض. حيث لا تتم العملية إلا بهما معاً. والأظهر هنا أن المراد بهم هم المقترضون حيث يأخذون المال "الربا" ويأكلونه. أي يستهلكونه فيما اقترضوا"(2).
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 36.
(2) التفسير القرآني للقرآن، د. الخطيب، محمود عبد الكريم، م2، 3/350، وانظر ص354.(1/437)
…وقال عند تفسيره قوله تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (1): "الضمير في الآية يراد به المقترضون بالربا الذين يأكلون هذا المال المقترض ويستهلكونه في الأمر أو الأمور التي اقترضوا من أجلها، ويسند هذا الرأي أن المُقرِض –وهو المرابي- لا يأكل المال الذي أقرضه بالربا، ولا يستهلكه، وهذا ما ينطق به ظاهر اللفظ { يَأْكُلُونَ } والحمل على الظاهر أولي. ولا يصار إلى غيره إلا عندما لا يكون للظاهر وجه مقبول، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإننا لو نظرنا في الصورة كلها على هذا الوجه، لبدا لنا أن آكلي الربا، وهم المقترضون قد أرهقهم الدين، وأثقلهم حمله، وأنهم أصبحوا في يد المرابي كالسمكة في شبكة الصياد، كلما ضربت برأسها وذنبها في الشبكة لتجد طريقاً إلى الخلاص كلما اشتد ضغط الشبكة عليها وإمساكها بها. فالمقترض بالربا قد علقت به حبائل المرابي، وكلما أراد أن يفلت من يده، ويتخفف من الدين الذي أثقله به كلما ازداد إحكام يده عليه، وتضاعف الدين الذي كان ينوء به، والصورة التي رسمها القرآن الكريم لآكلي الربا من المقترضين أحكم إحكاماً، وأروع روعة من كل صورة تكشف عن حال هؤلاء المقترضين وسوء المصير الذي يتخبطون فيه"(2).
…وهكذا يورد الدكتور الخطيب الأمور منكوسة. لأن آكل الربا هو الذي ينمي ماله بالربا. فكسبه سحت والمراد بآكل الربا هنا: المتعامل به حسبما ذهب إليه المفسرون كافة.
__________
(1) سورة البقرة، الآية 275.
(2) التفسير القرآني للقرآن، م2، 3/351.(1/438)
…ولكن المغالطة أسلوب تدخل منها الشوائب وتقلب فيها الحقائق. كما زعم أن العذاب الذي يصيب آكل الربا بأنه عذاب نفسي دنيوي يصيب الأضعف حظاً في المال، والأقل حولاً في المادة. والربا المحرم عند د. الخطيب هو ربا النسيئة فقط(1). ويرى أن الربا تتناوله أحكام الحظر والإباحة والوجوب(2). وقال: "حرم القرآن الربا على الصورة التي كانت معروفة في الجاهلية، وهو ربا النسيئة، ثم جاءت السنة المطهرة، فحرمت الذرائع المفضية إليه، حتى لا يتخذ الناس من تلك الذرائع مطايا تنقلهم بقصد أو غير قصد إلى الربا الصريح"(3). ثم عدّ ربا الفضل قد حرم من باب سد الذرائع"(4).
…وقال: "فهذا الوصف بالمضاعفة للربا هو تقرير لحقيقته"(5). والموازن بين آراء د. الخطيب ومحمد رشيد رضا يجدهما متطابقين في الأحكام وقد بيّنا بطلانها وأنها من الشوائب. ولمزيد من الردود على هذه الشوائب نقول:
لقد روى حرمة ربا الفضل من الصحابة الكرام في صحيح مسلم وحده كل من: أبي سعيد الخدري، وابن عمر، ونافع، والليثي، وعثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، ومالك بن أوس بن الحدثان، وعبادة بن الصامت، وأبي الأشعث، ومسلم بن يسار، وأبي هريرة، وأبي المنهال، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وأبي بكرة وأبيه، وفضالة بن عبيد الأنصاري، ومعمر بن عبد الله، وبلال بن رباح، وأبي نضرة، وعبد الله بن عباس بعد رجوعه، وهذا عدد يصل حد التواتر، فتحريم ربا الفضل يساوي تحريم ربا النسيئة وبالدرجة نفسها.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن، م2، 3/364.
(2) التفسير القرآني للقرآن، م2، 3/365، 366.
(3) التفسير القرآني للقرآن، م2، 3/367. وانظر م2، 4/584، المصدر السابق تفسير آية 130 آل عمران.
(4) التفسير القرآني للقرآن، م2، 3/366-367.
(5) التفسير القرآني للقرآن، م2، 4/584.(1/439)
أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) (1). أي أن المعصية يستوي فيها الأربعة المذكورون فلا وجه للتفريق بين الآخذ والمعطي، ولا بين الكتبة والشهود، فالكل منغمسون في الإثم، وكسبه حرام بهذا النص الصريح وعليه فلا وجه شرعي لإباحة البنوك الربوية لدى المسلمين.
الربا محرم في الإسلام قليله وكثيره كحكم الخمرة للنصوص العامة الكثيرة، والقطعية في ثبوتها وفي دلالتها، وهي من المعلوم من الدين بالضرورة فمستحله كافر، وحرمته مغلظة فهو من الموبقات. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اجتنبوا السبع الموبقات وذكر منها: آكل الربا(2). روى أحمد عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية) (3). والإثم يطال كل من يشترك في عملية الربا من مقترضين ومقرضين ومن كتبة وشهود وكفلاء حسبما وردت به النصوص.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، 6/26، باب الربا.
(2) انظر تفسير الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 3/364، 365.
(3) قال الشوكاني في نيل الأوطار: وحديث عبد الله بن حنظلة أخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط والكبير، قال في مجمع الزوائد، ورجال أحمد رجال الصحيح. ويشهد له حديث البراء عند ابن جرير بلفظ (الربا اثنان وستون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه)، وأخرج ابن جرير عنه نحوه، وكذلك أخرج عن نحوه ابن أبي الدنيا. وحديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم وصححه بلفظ (الربا ثلاث وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم) نيل الأوطار، 5/214، باب التشديد في الربا، الطبعة الأخيرة، مصطفى البابي الحلبي.(1/440)
قال تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } (1). وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } (2). وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (3). وقال: { وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ } (4). فلفظ الربا في هذه الآيات وفي الأحاديث التي تنص على تحريم ربا النسيئة، وربما الفضل كله جاء محلى بالألف واللام ويفيد الجنس فيكون جنس الربا محرماً ولا يخرج منه شيء إلا بنص ومنه البيع لورود النص بالحل صراحة. ومنه السلم أو السلف. أخرج مسلم عن أبي المنهال عن ابن عباس قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يُسْلفون في الثمار السَّنة والسنتين فقال: من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) (5)
__________
(1) سورة البقرة، الآيتان: 275-276.
(2) سورة البقرة، الآيتان: 278، 279.
(3) سورة آل عمران، الآية: 130.
(4) سورة الروم، الآية: 39.
(5) رواه مسلم في باب الربا، 6/14، صحيح مسلم بشرح النووي.(1/441)
. وعليه فلا وجه لمن يخصص الربا بالأضعاف المضاعفة ويبيح ما دونه وهو من الشوائب الموبقة. وكثرة أحاديث تحريم ربا الفضل هي من باب التنصيص على تحريمه مبالغة في الاهتمام بتحريمه وإلا فهو حرام بنص الآية لعمومها. وبعد فإن من يبقى سادراً في غيه من أهل اللجاج بعد هذا البيان، معرضاً عن هدي الله ورسوله، فله من محاجة إبليس لربه سلف، وله من رموز الباطنية الحديثة خلف، ولسنا معاشر المسلمين عليهم بمسيطرين، والله يتولى الصالحين.(1/442)
المبحث الثاني :اليانصيب الخيري
…اليانصيب: لم أعثر على هذا اللفظ في قواميس اللغة المعتبرة. وربما يكون حرف النداء للإقبال على شراء ورقة الحظ ثم أضيف قبله أل بالإضافة إلى الاسم نصيب. فيكون استعمالاً جديداً في عصرنا. أي خارج عصر الاحتجاج فيراد به علماً على نوع من أنواع الميسر.
…المعنى اللغوي: ورد في تهذيب اللغة: النَّصْبُ: الإعياءُ من العناء. والفعل نَصِبَ يَنْصَب. والنَّصْبُ: نَصْبُ الداء، والنِّصْبُ: لُغَةٌ في النصيب. قال تعالى:
{ كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } (1). ونَصْب: عَلَم منصوب يستبقون إليه. ونُصُب: أصنام ومنه قوله تعالى: { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } (2). والنُّصُب: جماعة النصيبة. والمِنْصَب: ما يُنْصَبُ عليه القدر إذا كان من حديد(3). والنَّصيبُ: الحظ من كل شيء. قال تعالى: { أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ } (4). والنصيب هنا: ما أخبر الله في جزائهم. والجمع أنْصِباءُ وأنْصِبَةٌ. والنِّصْبُ: لغة في النصيب. وأنْصَبَهُ: جعل له نصيباً. وهم يتناصبونه أي يقتسمونه. والنِّصاب: القدر الذي تجب فيه الزكاة إذا بلغه(5).
…وكلمة نصيب تكررت في القرآن واحداً وعشرين مرة في عشر سور من القرآن. ولكن هذا الاسم الذي أطلقه الشيخ رشيد لم تجد له من قبل العصر الراهن سمياً وهو يدل على عَلَمٍ أي على نوع من أنواع الميسر.
إباحة الشيخ رشيد لليانصيب:
__________
(1) سورة المعارج، الآية: 43.
(2) سورة المائدة، الآية: 3.
(3) الأزهري، محمد بن أحمد أبو منصور، تهذيب اللغة، 12/210-212، مادة نصب، الدار المصرية للتأليف والترجمة.
(4) سورة الأعراف، الآية: 37.
(5) ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، 1/760، مادة نصب، طبعة دار الفكر.(1/443)
قال الشيخ رشيد: "اليانصيب: هو عبارة عن مال كثير تجمعه بعض الحكومات أو الشركات من ألوف الناس كمائة ألف دينار (جنيه) مثلاً تجعل جزءاً كبيراً كعشرة آلاف منه لعدد قليل من دافعي المال كمائة مثلاً يقسم بينهم بطريقة الميسر وتأخذ هي الباقي. ذلك بأن تطبع أوراقاً صغيرة كأنواط المصاريف المالية (بنك نوت) تسمى أوراق (اليانصيب) تجعل ثمن كل واحدة منها ديناراً واحداً مثلاً يطبع عليها وتجعل العشرة آلاف التي تعطى ربحاً للمشتري هذه الأوراق مائة سهم أو نصيب تعرف بالأرقام العددية وتسمى النمر (جمع نمرة) ويطبع على الورقة المشتراة عددها، وما تربحه كل واحدة من العشرة الأوائل منها وتجعل الباقي للتسعين الباقية من المائة بالتساوي بترتيب كترتيب أزلام الميسر يسمونه السحب ذلك بأنهم يتخذون قطعاً صغيرة من المعدن ينقش في كل واحدة منها عدد من أرقام الحساب يسمونه نمرة من واحد إلى مائة ألف إذا كان المبيع من الأوراق مائة ألف ويضعونها في وعاء من المعدن كري الشكل كخريطة الأزلام (القداح) التي بيّناها آنفاً فيها ثقبة كلما أديرت مرة خرج منها نمرة من تلك النمر فإذا كان يوم السحب أديرت بعدد الأرقام الرابحة فما خرج منها أولا سمي النمرة الأولى مهما يكن عددها وهي التي يُعطى حاملها النصيب الأكبر من الربح كالقدح المعلى عند العرب، وما خرج منها ثانية سمي النمرة الثانية ويعطى حاملها النصيب الذي يلي الأول حتى إذا ما انتهى عدد النمر الرابحة وقف السحب عنده وكان الباقي خاسراً"(1).
__________
(1) تفسير المنار، 2/329، وانظر مجلة المنار، م34، 6/445، عنوان: حكم اليانصيب. وقد اعترف أنه نوع من أنواع الميسر.(1/444)
…ومع هذا الوصف الدقيق لواقع (اليانصيب) وربطه بالأزلام والقداح، ومع الاعتراف بأنه نوع من أنواع الميسر إلا أنه قال: "إن اليانصيب لا يظهر فيه كل ما وصف به ميسر العرب مع الخمر في آيات المائدة. فبعد أن قال إن الميسر هو القمار وبين اشتقاقه من يسر إذا وجب أو من اليسر بمعنى السهولة لأنه كسب بلا مشقة ولا كد، أو من اليسار وهو الغنى لأنه سبب للرابح، أو من اليسر بمعنى التجزئة والاقتسام يقال يسروا الشيء إذا اقتسموه(1). قال: "وأما كيفيته عند العرب فهي أنه كان لهم عشرة قداح وتسمى الأزلام والأقداح. وذكر أسماءها ثم قال لكل واحد من السبعة الأولى نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها عشرة أجزاء أو ثمانية وعشرين جزءاً، وليس للثلاثة الأخيرة شيء. فللفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة وهو أعلاها، ولذلك يضرب به المثل لمن كان أكبر حظاً أو نجاحاً من غيره في كل شيء مفيد له. فيقال: صاحب القدح المعلى. وكانوا يجعلون هذه الأزلام في الربابة وهي الخريطة، ويضعونها على يد عدل يجلجلها ويدخل يده فيخرج منها واحداً باسم رجل، ثم واحداً باسم رجل الخ. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح. ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يدخل فيه، ويسمونه البرم (بالتحريك). وهو في الأصل ثمر المعناه لا ينتفع به". ثم قال الشيخ رشيد: "وقد اختلفوا هل الميسر ذلك النوع من القمار بعينه أم يطلق على كل مقامرة.." (2). ثم قال: "ولكن لا خلاف بين الفقهاء في أن كل قمار محرم إلا ما أباح الشرع من الرهان في السباق والرماية ترغيباً فيهما للاستعداد للجهاد. وليس منها سباق الخيل المعروف في عصرنا فإنه من شر
__________
(1) تفسير المنار، 2/324.
(2) تفسير المنار، 2/325.(1/445)
القمار الذي ترجع جميع أنواعه إلى كونها من أكل أموال الناس بالباطل"(1).
…ثم انتقل الشيخ للخمرة المقرونة بالميسر وقال إن إثمها أكبر من نفعها وعرج على أنها تورث العداوة والبغضاء وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وأن هذا ظاهر في ميسر العرب وفي جميع أنواع القمار المعروفة في عصرنا إلا ما يسمونه اليانصيب فإنه على كونه ميسراً لا شك فيه لا يظهر جميع مفاسده في بعض أنواعه(2). ثم فصل هذا الإجمال فقال: "وأما كون هذا النوع لا يظهر فيه ما في سائر الأنواع من ضرر العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة فلأن دافعي المال فيه لا يجتمعون عند السحب. وقد يكونون في بلاد أو أقطار بعيدة عن موضعه ولا يعملون له عملاً آخر فيشغلهم عن الصلاة أو ذكر الله تعالى كقمار الموائد المشهورة. ولا يعرف الخاسر منهم فرداً أو أفراداً أكلوا ماله فيبغضهم ويعاديهم كميسر العرب وقمار الموائد ونحوه، وكثيراً ما يجعل (اليانصيب) لمصلحة عامة كإنشاء المستشفيات والمدارس الخيرية وإعانة الفقراء، أو مصلحة دولية ولا سيما الإعانات الحربية. والحكومات التي تحرم القمار تبيح (اليانصيب) الخاص بالأعمال الخيرية العامة أو الدولية. ولكن فيه مضار القمار الأخرى وأظهرها أنه طريق لأكل أموال الناس بالباطل أي بغير عوض حقيقي من عين أو منفعة. وهذا محرم بنص القرآن كما تقدم في محله(3). وقد يقال إن المال يبنى به مستشفى لمعالجة المرضى، أو مدرسة لتعليم أولاد الفقراء أو ملجأ لتربية اللقطاء لا يظهر فيه معنى أكل أموال الناس بالباطل إلا في آخذ ربح النمر الرابحة دون آخذي بقية المال من جمعية أو حكومة وهو على كل حال ليس فيه عداوة ولا بغضاء لأحد معين كالذي كان يغرم ثمن الجزور عند العرب، وليس فيه صد عن ذكر الله وعن
__________
(1) تفسير المنار، 2/325.
(2) تفسير المنار، 2/329.
(3) تفسير المنار، 2/330، وانظر مجلة المنار م34، 6/446، أي قبل وفاة الشيخ رشيد بعام واحد.(1/446)
الصلاة"(1). وقال: "ومن منافع الميسر مواساة الفقراء كما علمت من عادة العرب التي لا وجود لها الآن إلا فيما ذكر آنفاً من النوع الذي يسمونه (يانصيب) لبناء الملاجئ والمستشفيات والمدارس وغير ذلك من البر الذي هو أنفع للفقراء من لحم الجزور الذي كان العرب يخصونهم به، ومنها سرور الرابح وأريحيته(2). (ومنها أن يصير الفقير غنياً من غير تعب ولا نصب) (3). ثم قال: "وزعم بعض الناس أن المنافع التي كانت في الخمر والميسر قد سلبها الله تعالى منهما بعد التحريم وهو قول غير معقول ولا دليل عليه بل الحس ينبذه ولا حاجة إليه في التنفير عن الجريمتين بعدما بين الله تعالى الأصل في التنفير بقوله: { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } (4). وهذا القول إرشاد للمؤمنين إلى طريق الاستدلال فكان عليهم أن يهتدوا منه إلى القاعدتين اللتين تقررتا بعد في الإسلام. قاعدة درء المفاسد مقدمة على جلب المصالح. وقاعدة ترجيح ارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بد من أحدهما ولكن لم يهتد إلى ذلك جميعهم، إذ ورد أن بعضهم ترك الخمر عند نزول الآية وبعضهم لم يترك كما تقدم"(5).
__________
(1) تفسير المنار، 2/330.
(2) تفسير المنار، 2/331.
(3) تفسير المنار، 2/332.
(4) سورة البقرة، آية 219.
(5) تفسير المنار، 2/332.(1/447)
…ثم قال: "هذا ما كنت كتبته ونشرته في تفسير الآية في المرة الأولى. ثم فطنت بعد ذلك إلى قاعدة عظيمة من قواعد التشريع الإسلامي بينتها في المنار وفي التفسير واستدللت عليها بهذه الآية وهي أن ما كانت دلالته على التحريم من النصوص ظنية غير قطعية لا يجعل تشريعاً عاماً تطالب به كل الأمة وإنما يعمل فيه كل أحد باجتهاده فمن فهم منه الدلالة على تحريم شيء امتنع منه، ومن لم يفهم منه ذلك جرى فيه على أصل الإباحة. ودلالة هذه الآية على تحريم الخمر والميسر ظنية ولذلك عمل فيها الصحابة باجتهادهم على اختلافهم وأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك"(1). وقال في مجلة المنار قبل وفاته بأقل من عام: "فإذا ثبت أن هذا النوع لا يدخل في عموم الميسر المحرم في القرآن فلا يعد من الحرام القطعي بالنص ويظهر هذا إن فعلته حكومة أو جمعية خيرية لا تأكل من ربحه شيئاً ولكن شراءه قد يكون ذريعة لغيره فينهى عنه من هذا الباب"(2).
__________
(1) تفسير المنار، 2/332. وانظر تفسير المنار، 7/66.
(2) مجلة المنار، م34، 6/446 فتوى 27 حكم اليانصيب محمد رشيد رضا. وانظر فتوى 28، 30، ص 447-449 من المصدر نفسه.(1/448)
…وأورد الشيخ رشيد سؤالاً برقم 28 ونصه ما يلي: "إن حكومتنا الهولندية قد تعمل بعض الأعمال الكبيرة كبناء المستشفيات والملاجئ، أو إعانة المنكوبين بما يسمونه لو تراي (يانصيب) وقومته بنحو مائة ألف ربية وجعلتها عشرة آلاف سهم (لوت) وتبيع كل سهم منها بعشرة روبيات وتأخذ من ثمن هذه الأسهم خمسين ألفاً مثلاً لبناء المستشفيات والملاجئ أو إعانة المنكوبين ثم تقسم الخمسين إلى نحو عشرين قسماً تدفع للذين اشتروا هذه الأسهم بطريقة القرعة بينهم فمن خرجت له فله نصيب منها. فهل يجوز شراء هذا السهم (اللوت) وأخذ ربحه أم لا؟ وهل يجوز لنا طلب شيء من الخمسين التي أخذتها الحكومة تنفقه على مدرسة إسلامية أو غيرها من مصالح المسلمين؟ وهل يجوز أن نعمل مثل هذا العمل (لوتري) بإذن الحكومة لضعف المسلمين وإعراضهم على البذل في سبيل الخير العام؟ أم يُعدُّ هذا العمل من القمار الذي حرمه الله بنص القرآن؟"(1). وقد أجاب الشيخ على السؤال بالإيجاب. وأحاله على جواب سابق ص 670 من مجلة المنار عدد 33. وقال: "إذا فعلت حكومتكم ذلك وأعطتكم منه شيئاً للمنافع العامة فإن لكم أخذه لذلك بغير شبهة"(2).
…وقال في تفسير آية المائدة: "قد يقال إن الله تعالى قد بين بهذه الآية علتين لتحريم الخمر والميسر: إحداهما اجتماعية والأخرى دينية، والدينية تصدق على الألعاب التي اشتد ولوع كثير من الناس بها كالشطرنج. فالظاهر أن تعد بذلك محرمة كالميسر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة"(3).
…وقال: "ولما بين جل جلاله علة التحريم (الخمر والميسر) وحكمته أكده بقوله { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } فهذا استفهام يتضمن الأمر بالانتهاء(4).
__________
(1) مجلة المنار، م30، 6/447.
(2) مجلة المنار، م30، 6/448، وانظر 449-450 سؤال وجواب لا يخرج عما ورد في المجلة، وفي التفسير مما سقناه.
(3) تفسير المنار، 7/62.
(4) تفسير المنار، 7/63. سورة الأعراف آية 91.(1/449)
تفنيد مزاعم الشيخ رشيد في إباحة (اليانصيب):
أولاً: إن حكم اليانصيب قطعي الثبوت قطعي الدلالة فلا يجوز الاجتهاد فيه وقد جاء تحريمه بمؤكدات عدها الشيخ رشيد نفسه، وبلغت أربعة عشر توكيداً في تحريم الميسر أو القمار أو (اليانصيب) لأنها مسميات لواقع واحد. وهذه المؤكدات هي حسبما أحصاها الشيخ رشيد:
إنه جعله رجساً، والرجس هو منتهى القبح والخبث.
إنه صدر الآية بـ (إنما) الدالة على الحصر للمبالغة في ذمهما كأنه قال: ليست الخمر وليس الميسر إلا رجساً فلا خير فيهما البتة.
إنه قرنه بالخمر والأنصاب والأزلام التي هي من أعمال الوثنية وخرافات الشرك.
إنه جعله من عمل الشيطان(1). وعمل الشيطان موجب لسخط الرحمن.
إنه جعل الأمر بتركه من مادة الاجتناب وهو أبلغ من الترك لأنه يفيد الأمر بالترك مع البعد عن المتروك بأنه يكون التارك في جانب بعيد عن جانب المتروك. ولذلك نرى القرآن لم يعبر بالاجتناب إلا عن ترك الشرك والطاغوت وقول الزور والفواحش وكبائر الإثم.
إنه جعل اجتنابه معداً للفلاح ومرجاة له فدل على ذلك أن ارتكابه من الخسران والخيبة في الدنيا والآخرة.
إنه جعله مثاراً للعداوة.
إنه جعله مثاراً للبغضاء.
إنه يصد عن ذكر الله.
إنه يصد عن الصلاة.
الأمر بالانتهاء بصيغة الاستفهام المقرون بفاء السببية ولا يصح الفصل بين السبب والمسبب(2).
وجاء في الآية التالية ثلاثة مؤكدات أخرى:
قوله عز وجل { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ } (3) أي أطيعوا الله تعالى ورسوله فيما أمركم به من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما كما تجتنبون الأنصاب والأزلام.
__________
(1) هذه المؤكدات الأربعة مختصرة من تفسير المنار، 7/63. محمد رشيد رضا.
(2) تفسير المنار، 7/64. وهذه المؤكدات ذكرها الشيخ رشيد في تفسيره في هذا الموطن.
(3) سورة المائدة، آية 92.(1/450)
قوله عز وجل { وَاحْذَرُواْ } (1). أي احذروا عصيانهما، أو ما يصيبكم إذا خالفتم أمرها من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة.
الإنذار والتهديد في قوله تعالى { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } (2). ثم عقب الشيخ رشيد على هذه التأكيدات قائلاً: "لم يؤكد تحريم شيء في القرآن مثل هذا التأكيد ولا قريباً منه"(3). ومن البديهي أن الأحكام القطعية لا يجوز الاجتهاد فيها لورود النص فيها ولقطعيتها وللإجماع عليها. ومن هنا كان تفسير الشيخ رشيد شوائب محضة وفيه جرأة متناهية على دين الله تعالى.
ثانياً: إنه لم ترد علة في النص يتوقف عليها تحريم الميسر والخمر. والعلة بحث أصولي فيه مواصفات العلة الشرعية، ولها ألفاظ تدل عليها ويدور الحكم معها وجوداً وعدماً. وعليه فلا يجوز أن يتخيل أحد عللا لتحريم الميسر. ولا يقبل ما يزعم أنه علة من غير النصوص وتعد من شوائب التفسير.
ثالثاً: إن بغية الشيطان في الخمر والميسر من إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين والصد عن ذكر الله وعن الصلاة لم تكن سبباً في تحريم الخمر والميسر في الآية فقد سبقها قرائن ستة في الآية لتحريم الميسر.
__________
(1) سورة المائدة، آية 92.
(2) سورة المائدة، آية 92.
(3) تفسير المنار، 7/65. وهذه المؤكدات ذكرها كثير من المفسرين القدامى منهم الزمخشري في كشاف، وأبي حيان في البحر المحيط، والنيسابوري في غرائب القرآن ورغائب الفرقان، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن وغيرهم.(1/451)
…والحكمة هي قصد الشارع من تشريع الحكم، وليست قصد الشيطان، فلا يجوز بحال من الأحوال التشبث بها لجعلها علة شرعية. مع أنه من المعروف بداهة في علم الأصول أن الحكمة قد تتحقق، وقد لا تتحقق، ويبقى الحكم كما هو سواء في التحريم أو الفروض أو المندوبات. وسوق الحكمة خبر من الأخبار التي يسوقها الله تعالى في بعض الأحكام ليضبط الإنسان أعماله المتعلقة بتلك الحكمة إن كان ذلك ممكناً. فالحكمة من الصلاة مثلاً أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر لقوله تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } (1) ولا أحد من فقهاء المسلمين يقول إن المصلي الذي يسرق أو يختلس النظرات المحرمة من النساء، أو يغش في معاملة، أو نحو ذلك، لم يقل أحد من الفقهاء إن صلاته باطلة لأنَّ الحكمة من الصلاة لم تتحقق. بل قال الله تعالى: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } (2). وكذلك الحاج الذي يؤدي مناسك الحاج ولا ينتفع بمنافع مادية بعد إقامة الشعائر لم يقل أحد من الفقهاء إن حجه ليس مبروراً لأنه لم يحقق الحكمة من الحج الواردة في الآية الكريمة { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } (3). وعليه فسواء تحقق هدف الشيطان في المقامرين والسكارى من إثارة العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة أم لم يتحقق فلا شأن له برفع الحرمة والإثم عنهما. وسواء أكانوا متحابين متآلفين، أم صاروا أعداء يحملون في قلوبهم الشحناء، فإن الخمر والميسر تبقى محرمة بالمؤكدات الأربع عشرة المذكورة.
__________
(1) سورة العنكبوت، آية 45.
(2) سورة هود، آية 114.
(3) سورة الحج، آية 28.(1/452)
رابعاً: إن واقع الميسر عند العرب ليس قيداً في التحريم لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وكل واقع ينطبق عليه الميسر يكون محرماً بالدليل والمؤكدات الأربع عشرة المذكورة. ولا يستثنى منه شيء ويحلل إلا بدليل. لأن التحريم وهو تفصيل للمحرمات قد جاء عاماً محلى بالألف واللام. ولا يخصص إلا بدليل شرعي. وعليه فالقول إن (اليانصيب) لا يحوز على كل مواصفات الميسر في الجاهلية ثرثرة كلام، وطيش أقلام لا تغني من الحق شيئاً وهي شوائب محضة يجب أن ينقى التفسير منها. ولهذا فاللعب بالورق أو النرد أو الشطرنج أو بأي شيء آخر يتحقق فيه صور الميسر سواء كان معهوداً عند الجاهلية أم لم يكن كذلك فهو حرام بالنص المذكور.
خامساً: إن قاعدة الشيخ رشيد في الحلال والحرام: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } (1) قاعدة ميكافيلية وليست قاعدة شرعية لأن هذه الآية بالإجماع، -وباعتراف الشيخ رشيد نفسه- لا تحريم فيها للخمر ولا للميسر. ثم جاءت آية قطعية في ثبوتها وفي دلالتها –حسب اعتراف الشيخ رشيد كذلك- تحرم الخمر والميسر وعليها المعتمد في حكم الخمر والميسر. فالتخلي عن اللاحق والأخذ بالسابق لم نعهد عالماً من المسلمين يجوّز أن يقول به ولهذا يعد ما جاء به الشيخ رشيد شوائب محضة. وقاعدة العمل باللاحق قاعدة شرعية ووضعية، وعدم العمل بها لا يصدر إلا بالتشهي والهوى.
__________
(1) سورة البقرة، آية 219.(1/453)
سادساً: قاعدة الشيخ رشيد: "إن ما كانت دلالته على التحريم من النصوص ظنية غير قطعية لا يجعل تشريعاً عاماً تطالب به كل الأمة، وإنما يعمل كل أحد باجتهاده فمن فهم من دلالة التحريم امتنع منه ومن لم يفهم من ذلك جرى فيه على أصل الإباحة". هذه قاعدة باطلة لأنه استنبطها من غير نص شرعي. والعمل في الأحكام الشرعية يكون لغلبة الظن سواء أكانت ظنية في ثبوتها أو في دلالتها. والذي عليه الشيخ يؤدي إلى تعطيل العمل بجل الإسلام وهو أنَّ ما كان قطعياً في ثبوته وفي دلالته يعمل به ويكون قد بلغنا بالتواتر وبالعمل دون القول. والميسر من المعلوم من الدين بالضرورة في تحريمه كحكم تحريم الخمر والأنصاب والأزلام سواء بسواء. فضلاً عن أنه انعقد الإجماع على وجوب العمل بظني الدلالة في الأحكام سواء وردت في القرآن أو في السنة النبوية الشريفة. وهذه القاعدة باطلة أيضاً لأنها تحيل التحريم والحل لأفهام الناس وتشمل المجتهدين والمقلدين. وهذا حرام بإجماع الأمة كلها فالمقلد يحرم عليه أن يجتهد لأنه لا تتوفر فيه شروط الاجتهاد.(1/454)
سابعاً: إن فتوى الشيخ رشيد بإباحة الميسر للمنافع العامة من غير شبهة فتوى جريئة جداً في ارتكاب المحرم المؤكد المغلظ وإن المصالح العامة، والمصالح الدولية، والأعمال الخيرية لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، والغاية لا تبرر الوسيلة في دين الإسلام. والقاعدة أن الحرام ما حرمه الشرع. وبيعه حرام وأكل ثمنه حرام. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة عام الفتح: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال: لا، هو حرام. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه) (1).
__________
(1) جملوه: أذابوه – رواه البخاري في صحيحه. الحديث رقم 2236 فتح الباري، 34 كتاب البيوع، باب 112، بيع الميتة والأصنام وطرفاه في الحديث 4296، 4633، انظر فتح الباري 4/424.(1/455)
…وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، وأن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه) (1). وهذه النصوص الشرعية في التحريم غير معللة ولا يوجد نص شرعي آخر يعللها فتبقى بدون علة، ولا يلتمس منافع أو مضار للتحريم ولا للتحليل لأن دوران الأحكام على النصوص منطوقاً ومفهوماً، وعليه فتحريم الميسر تحريم للانتفاع من ماله سواء أكان للأفراد أم للجمعيات أم لبناء مساجد أو مستشفيات، وسواء كان لرصف الشوارع أو لعمل المجاري. فالكسب الحرام النار أولى به ولا يجوز التبرع به للجهاد ولا لغيره من الفروض والطاعات أو المباحات وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمِنَ الحلال أم الحرام) (2).
ثامناً: قاعدة الشيخ رشيد "زعم سلب الله منافع الخمر والميسر بتحريمهما" قول غير معقول ولا دليل عليه، بل الحسّ ينبذه ولا حاجة إليه في التنفير من الجريمتين بعدما بين الله تعالى الأصل في التنفير بقوله: { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } (3).
__________
(1) رواه البخاري، الحديث رقم 2224، فتح الباري، كتاب البيوع، باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه. وانظر الحديث 2223 عن ابن عباس رضي الله عنهما، فتح الباري 4/414، 34 كتاب البيوع، باب 103.
(2) رواه البخاري، الحديث 2883 فتح الباري عن أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب البيوع، باب 23، 4/313. وانظر الحديث 2059 كتاب البيوع، باب 7، 4/296، فتح الباري شرح صحيح البخاري.
(3) سورة البقرة، آية 219، والقول من تفسير المنار، 2/332.(1/456)
…ما ادعاه أنه زعمٌ هو حقيقة في فهم الشرع فالحرام لا قيمة لأي منفعة فيه في نظر الإسلام، بل لا تسمى منفعة لأن المنافع والمصالح تكمن فيما حدده الشرع من فروض أو مندوبات، فحيثما يكون الشرع تكون المصلحة والفائدة، وحيثما يكون الحرام تنتفي المنافع والفوائد. والآية التي استشهد بها لم تكن تحمل التحريم أبدا. وكذلك آية { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } (1) لم يفهم منها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة الكرام أنها تدل على التحريم. فالاستنباط منها على المنافع والمضار استنباط خاطئ. وهو مفهوم أهل الجاهلية الذي كانوا عليه. وعندما نزلت آيات المائدة وتقرر تحريمها أراقوا الخمر التي كانت مخزونة عند المسلمين في المدينة حتى قيل سالت أزقة المدينة منها. وهذا يدل على فهم الصحابة رضوان الله عليهم أن الله سلب الخمر منافعها حين حرمها. ويحرم بيعها، ويحرم الاستفادة منها. كما مر في البند رقم سبعة الحديث الذي رواه البخاري ولو أهدر مسلم خمارة بكاملها لمسلم فإنه لا يضمن شيئاً منها لأنه لا يتلف مالاً بخلاف ما لو أتلف زجاجة خمر واحدة لغير المسلم في منزله فإنه يضمن ثمنها كاملاً لأنها مال في حق غير المسلم. ومثله الخنزير وثمن الكلب وحلوان الكاهن، وثمن البغاء والأصنام وثمن الميتة وسائر المحرمات لا تعد مالاً في حق المسلمين. وجعل العقل دليلاً على الأحكام الشرعية ليس له محل في الإسلام. وبناء الحكم الشرعي على مصلحة لم يقرها الشرع هو تحكيم للعقل المجرد وهو من الشوائب. ومثله يقال عن الحس الذي ينبذ أي حكم شرعي سواء أكان حٍسَّ منافق أو حس كافر أو حس فاسق، فالحس والوجدان لا تقبل في الحل ولا في الحرمة. وهي من الشوائب.
__________
(1) سورة النساء، آية 43.(1/457)
تاسعاً: قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المنافع إنما يقولون بها في حالة عدم وضوح الدليل. أما وإن الدليل قد جاء يحمل مؤكدات أربع عشرة قرينة على تحريم الخمر والميسر فلا محل للاستشهاد بهذه القاعدة في هذا المقام. ثم إن هذه القاعدة لا يجوز أن تعد علة لأنها ليست من الألفاظ الدالة على العلية في لغة العرب. ثم ما علاقة هذه القاعدة بحل الميسر. بل ظاهرها يقتضي تحريم الميسر على فرض عدم وجود دليل. أما وقد وجد الدليل قطعياً في ثبوته وفي دلالته فلا مجال للعمل بهذه القاعدة، كما لا مجال للاجتهاد في هذا الحكم والعمل بها من الشوائب.(1/458)
عاشراً: قاعدة ارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بد منهما. من يحاول الربط بين هذه القاعدة وبين حل الميسر لا يجد بينهما أدنى علاقة. فالإقدام على ما يغضب الرب بما جاء قطعياً في ثبوته وفي دلالته جريمة لا يسوغها قاعدة ارتكاب أخف الضررين ونسأل الله أن لا نكون ممن قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنهم: (إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تخلل الباقرة بلسانها) (1). وفي رواية أبي هريرة قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال أو الناس لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) (2). وتقدير قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتخلل الكلام بلسانه. والباقرة: البقرة. والتقدير الكلأ بلسانها. وهل يراد بقاعدة أخلف الضررين في حل الميسر هو ضرر الإثم، هو أقل وأهون وأخف من زوال الربح المادي من اليانصيب. اللهم إن صرف الكلام هذا من الشوائب نبرأ إليك منه.
__________
(1) رواه أبو داود، 95 باب ما جاء في التشدق (المتشدق) في الكلام، الحديث 2984، م13، ص 349، عون المعبود شرح سنن أبي داود – طبعة دار الفكر. ورواه أحمد في مسنده برقم 6554، 2/565 ورواه الترمذي في سننه باب 105 ما جاء في الفصاحة والبيان، حديث 3011 وقال عنه حديث حسن غريب من هذا الوجه. وفي الباب عن سعد 4/219. طبعة دار الفكر. (أبواب الاستئذان والآداب) ورواه ابن منظور في لسان العرب قال ابن الأثير: هو الذي يتشدق في الكلام ويفخم به لسانه ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفا: 11/220. وأورده السيوطي في جمع الجوامع الحديث 4990.
(2) عون المعبود، شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم أبادي، م13، ص 348.(1/459)
…وعليه فإن ما نكبت به الأمة الإسلامية اليوم منذ بداية القرن الرابع عشر الهجري من تحليل الميسر وتسميته بغير اسمه كان من سنة الشيخ محمد رشيد رضا وأساتذته، والباقي تبع لهم. وهو من الموبقات التي لا يعذر المسلم بجهلها. ومرجعية المسلم الكتاب والسنة وليس الرجال في مقام الأحبار والرهبان. وهذا هو وجه الحق في ما عرف باليانصيب الخيري في هذا الزمان والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل.(1/460)
المبحث الثالث:تعدد الزوجات، وزواج المسلمة من الكتابي
أ- تعدد الزوجات
…هذا تعبير متأخر يقصد به غمز الإسلام ولمزه من هذه الناحية. ولم يستعمله فقهاء المسلمين عامة، ولا تجده في كتبهم ومؤلفاتهم التي لا تحصى. وأمر الزواج بأكثر من واحدة عند الفقهاء شرع ثابت، وسنة متبعة، ولا غرابة فيه حتى أنهم لم يختلفوا مطلقاً في هذا الحكم رغم اختلافهم في أكثر أبواب الفقه ومسائله لأنه بدليل قطعي في الثبوت والدلالة، ولا مجال للاجتهاد فيه. وعمل الفقهاء إنما يظهر في الأدلة الظنية لأنها محل الاجتهاد، وميدان الرأي المستند إلى الأدلة التفصيلية. وعندما هيمن الغرب النصراني، في دول الأيام، بعقيدته الوضعية الجديدة، فصل الدين عن الحياة، وجعل من أحكام الإسلام ومعالجاته أهدافاً يوجه سهامه إليها. وشكك في صلاحيتها، وقدرتها على المعالجة. وكانت قضية تعدد الزوجات من القضايا الأولى التي أولاها بالاهتمام، ليعيد تنظيم الأسرة في المجتمع الإسلامي على غرار تنظيم الأسرة في المجتمع الأوروبي، بعد الثورة الفكرية والصناعية الحديثة. وقد كانت قضية الأسرة والمرأة قبل زمان غير بعيد أعظم فارق بين الإسلام وغيره في المجتمع. فالغرب اشتهر بكثرة الخليلات والسفاح والتعدد غير الشرعي. والإسلام اشتهر بالنكاح الشرعي وبتعدد الزوجات لغاية أربع وحظر العشيقات والخليلات. ونشأ عن الأول مشاكل يصعب حصرها أبرزها: الأولاد غير الشرعيين، تفكك الأسرة، الإجهاض، الأمراض الناتجة عن الاتصال الجنسي خارج نطاق الزوجية، وتخفيف أعباء المسؤولية عن الرجل، والبطالة.(1/461)
…وجاء المؤولون (المحرفون) والمبررون –بحسن نية أو بسوء نية- للتوفيق بين الإسلام وبين ما عليه الغرب فاعتذروا للغرب عن حكم الإسلام في هذه المسألة وغاية ما تمسكوا به أن تعدد الزوجات لا يصار إليه في الإسلام إلا لضرورة ملجئة، وأن جوازه مقيد بشروط تكاد تجعله نادر الوقوع ويكاد يكون محظوراً، وطفقوا يتصيدون مساوئ له فذكروا بعض ما يرى من عادة بني العلات(1) بعضهم بعضاً، وتجاهلوا ما يحاذيهم من بني الأخياف(2) في المعاداة الممكنة الوقوع. واستشهدوا ببعض الزوجات المنكودات الحظ من أزواج ظالمين قساة المعاملة مع أهليهم في المجتمع الإسلامي، وأعرضوا عن جل الزواج التعيس في الغرب الذي يفر منه الزوجان إلى العشق والسفاح وإنجاب الأولاد غير الشرعيين، وتجاهلوا قوة الإسلام في تأديب الظلمة مهما كانت صفاتهم حتى لو كانوا رؤساء دول.. ومن هنا دخلت شوائب جمة في التفسير فأسأل الله أن يعينني على إظهارها بالقدر الكافي وإليك بعضها مما ورد في كتب التفسير في القرن الرابع عشر الهجري.
أولاً: تعدد الزوجات في تفسير المنار:
__________
(1) العلة: الضرة، وبنو العلات بنو أمهات شتى من رجل واحد لأن التي تزوجها على أولى قد كانت قبلها ناهل ثم عال من هذا. انظر مادة العل – القاموس المحيط للفيروز أبادي 4/21، دار الجيل، بيروت، وانظر أساس البلاغة للزمخشري، ص 434، دار صادر، بيروت.
(2) أخياف: مختلفون. وأخوة أخياف أمهم واحدة والآباء شتى. انظر مادة خاف الخيفان، 3/145 القاموس المحيط للفيروز أبادي. وانظر مادة خيف، أساس البلاغة للزمخشري، ص 180، دار صادر، بيروت.(1/462)
…قال الشيخ رشيد عند تفسير قوله تعالى: { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } (1). وأقول إن الإفضاء بذلك إلى أكل أموال اليتامى قد جعل حجة على تقليل التزوج لظهور قبحه. وفي ذلك التعدد من المضرات الآن ما لم يكن يظهر مثله في عهد التنزيل(2). قال الأستاذ الإمام: ولما قال: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } علله بقوله(3) { ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } أي أقرب من عدم الجور والظلم فجعل البعد من الجور سبباً في التشريع وهذا مؤكد لاشتراط العدل ووجوب تحريه ومنبه إلى أن العدل عزيز.
__________
(1) سورة النساء، آية 3.
(2) تفسير المنار، 4/346.
(3) تفسير المنار، 4/348.(1/463)
…وقال قال تعالى في آية أخرى من هذه السورة { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } (1) وقد يحمل هذا على العدل في ميل القلب ولولا ذلك لكان مجموع الآيتين منتجا عدم جواز التعدد بوجه ما، ولما كان يظهر وجه قوله بعدما تقدم من الآية { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } (2). ثم قال: "فمن تأمل الآيتين علم أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل والأمن من الجور. وإذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربي أمة فشا فيها تعدد الزوجات فإن البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا تستقيم له حال ولا يقوم فيه نظام، بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت كأن كل واحد منهم عدو للآخر ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عدو، فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيوت، ومن البيوت إلى الأمة. (قال) كان للتعدد في صدر الإسلام فوائد أهمها صلة النسب والصهر الذي تقوى به العصبية. ولم يكن له من الضرر مثل ما له الآن لأن الدين كان متمكناً في نفوس النساء والرجال وكان أذى الضرة لا يتجاوز حزنها. أما اليوم فإن الضرر ينتقل من كل ضرة إلى ولدها، إلى والده، إلى سائر أقاربه فهي تغري بينهم العداوة والبغضاء: تغري ولدها بعداوة إخوته، وتغري زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها. وهو بحماقته يطيع أحب نسائه إليه فيدب الفساد في العائلة كلها ولو شئت تفصيل الرزايا والمصائب المتولدة من تعدد الزوجات لأتيت بما تقشعر منه جلود المؤمنين فمنها السرقة والزنا والكذب والخيانة والجبن والتزوير بل منها القتل حتى قتل الولد والده، والوالد ولده، والزوجة زوجها، والزوج زوجته. كل ذلك واقع ثابت
__________
(1) سورة النساء، آية 129.
(2) الآية السابقة نفسها.(1/464)
في المحاكم وناهيك بتربية المرأة التي لا تعرف قيمة الزوج، ولا قيمة الولد، وهي جاهلة بنفسها، وجاهلة بدينها، لا تعرف منه إلا خرافات وضلالات تلقفتها من أمثالها يتبرأ منها كل كتاب منزل، وكل نبي مرسل"(1). وقال: "أما والأمر على ما نرى ونسمع فلا سبيل إلى تربية الأمة مع نشوء تعدد الزوجات فيها فيجب على العلماء النظر في هذه المسألة خصوصاً الحنفية منهم الذين بيدهم الأمر وعلى مذهبهم الحكم. فهم لا ينكرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس وخيرهم وأن من أصوله منع الضرر والضرار فإذا ترتب على شيء مفسده في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله فلا شك في وجوب تغير الحكم وتطبيقه على الحال الحاضرة: يعني على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. قال وبهذا يعلم أن تعدد الزوجات محرم قطعاً عند الخوف من عدم العدل"(2).
…ثم قال في الدرس الثاني: "تقدم أن إباحة تعدد الزوجات مضيقة قد اشترط فيها ما يصعب تحقيقه فكأنه نهى عن كثرة الزواج وتقدم أنه يحرم على من خاف عدم العدل أن يتزوج أكثر من واحدة"(3).
…وقال في قوله تعالى { أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } : "وهذا لا يفيد حل ما جرى عليه المسلمون منذ قرون كثيرة من الإسراف في المجتمع بالجواري المملوكات بحق أو بغير حق مهما ترتب على ذلك من المفاسد كما شوهد ولا يزال يشاهد في بعض البلاد إلى الآن ا.هـ"(4).
…وعقب الشيخ رشيد على مقولة الشيخ محمد عبده: "هذا وإن تعدد الزوجات خلاف الأصل الطبيعي في الزوجية فإن الأصل أن يكون للرجل امرأة واحدة يكون بها كما تكون به زوجا. ولكنه ضرورة تعرض للاجتماع ولا سيما في الأمم الحربية كالأمة الإسلامية فهو إنما أبيح للضرورة واشترط فيه عدم الجور والظلم"(5).
__________
(1) تفسير المنار، 4/349.
(2) تفسير المنار، 4/350.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) المصدر السابق نفسه.(1/465)
…وقال الشيخ رشيد جوابا عن سؤال في حكم تعدد الزوجات: "يذهب الإفرنج إلى أن نهاية الارتقاء هو أن يخص الرجل الواحد بامرأة واحدة، وهو مُسَلَّم، وينبغي أن يكون هذا هو الأصل في البيوت"(1).
…وكرر ذلك وقال: "ولا تنس مع العلم بهذه المسائل أن غاية الترقي في نظام الاجتماع وسعادة البيوت (العائلات) أن يكون تَكَوُّنُ البيت من زوجين فقط يعطي كل منهما الآخر ميثاقاً غليظاً على الحب والإخلاص والثقة والاختصاص"(2). ثم قال: "إذا أنعمت النظر في هذه المقدمات كلها وعرفت فرعها وأصلها تتجلى لك هذه النتيجة أو النتائج وهي: أن الأصل في السعادة الزوجية والحياة البيتية هو أن يكون للرجل زوجة واحدة وأن هذا هو غاية الارتقاء البشري في بابه والكمال الذي ينبغي أن يرى الناس عليه ويقتنعوا به"(3).
__________
(1) تفسير المنار، 4/355.
(2) تفسير المنار، 4/356.
(3) تفسير المنار، 4/357.(1/466)
…ثم قال: "جعل التعدد في الإسلام رخصة لا واجباً ولا مندوباً لذاته وقيد بالشروط الذي نطقت به الآية الكريمة وأكدته تأكيداً مكرراً فتأملها"(1). وقال: "وجعل مجرد توقع الإنسان عدم العدل من نفسه كاف في المنع من التعدد"(2). وقال: "ومن لم يلتزمه –الشرط- فزواجه غير إسلامي"(3). وقال: "إذا كان هناك حكومة إسلامية فإن للإمام أن يمنع المباح الذي يترتب عليه مفسدة ما دامت المفسدة قائمة به والمصلحة بخلافه"(4). وقال: "ألا إن التهذيب الذي يعرف به الإنسان قيمة الحياة الزوجية يمنع صاحبه التعدد لغير ضرورة فهذه الحياة التي بينها الله تعالى في قوله { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } (5) قلما تتحقق على كمالها من التعدد لاسيما إذا كان لغير عذر ولذلك يقل في المهذبين من يجمع بين زوجين وإنني لا أعرف أحداً من أصحابي في مصر وسورية له أكثر من زوج واحدة"(6).
…وختم الموضوع بقوله: "وجملة القول: إن التعدد خلاف الأصل، وخلاف الكمال، وينافي سكون النفس والمودة والرحمة التي هي أركان الحياة الزوجية لا فرق بين زواج من لم يقمها وبين ازدواج العجماوات ونزوات بعضها على بعض، فلا ينبغي للمسلم أن يقدم على ذلك إلا لضرورة مع الثقة فيما اشترط الله سبحانه فيه من العدل ومرتبة العدل دون مرتبة سكون النفس والمودة والرحمة وليس وراءه إلا ظلم المرء لنفسه وامرأته وولده وأمته والله لا يحب الظالمين(7).
تفنيد مزاعم أصحاب تفسير المنار:
__________
(1) تفسير المنار، 4/358.
(2) تفسير المنار، 4/358.
(3) تفسير المنار، 4/359.
(4) تفسير المنار، 4/363.
(5) سورة الروم، آية 21. وقد كتبها جعل بدل خلق.
(6) تفسير المنار، 4/363.
(7) تفسير المنار، 4/370.(1/467)
جعل أصحاب المنار الضرر الناجم عن تعدد الزوجات في عصرهم سبباً في منع تعدده. وهو بحث عقلي محض لا يتفق مع النص الذي هم بصدد تفسيره، حيث جعل النص خوف الأزواج من القسط في نكاح اليتامى أن يتوجهوا للزواج من غيرهن مبتدئاً بالمثنى ومنتهياً بالرباع، والأصل أن يكون التعدد حسب النص لا المنع الذي انتحلوه(1).
__________
(1) لقد تتبعت تفسير الآية فيما يربو على خمسة وعشرين تفسيراً من تفاسير ما قبل القرن العشرين فوجدتها مجتمعة على أن الأصل في الزواج في الإسلام هو التعدد، ولا يصار إلى الزوجة الواحدة إلا في حالة غلبة ظن الزوج أن يقع في الظلم فلا يعدل بين زوجاته فيما هو من مقدوره وضمن طاقته وهو السكن والنفقة والقسم واللباس والمنام. وأما الحب والوطء فقد خبرت عنه آية (29) من سورة النساء أنه ليس في مقدور البشر. بل جاء التخيير لمن يعجز عن العدل في التعدد إلى نكاح امرأة واحدة مضافاً إليها ملك اليمين بدون تحديد بعدد على اعتبار أن ]أو[ بمعنى الواو. ومن قال إنه للتخيير وليس للجمع بمعنى الواو وخير بين نكاح الحرة الواحدة وبين التسري بملك اليمين بلا عدد محدد لأنه لا يلزمه العدل بينهن في شيء مما هو من حقوق الزوجية.(1/468)
ما زعمه أنه علّة وأنه سبب في التشريع لا تسعفه اللغة، فالشرط { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى } جوابه { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } . قال أبو حيان الأندلسي: "هذان شرطان مستقلان لكل واحد منهما جواب مستقل فأول الشرطين { وإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ } وجوابه { فَانكِحُواْ } صرف من خاف من الجور في نكاح اليتامى إلى نكاح البالغات منهن ومن غيرهن وذكر تلك الأعداد. وثاني الشرطين قوله: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } وجوابه { فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } صرف من خاف من الجور في نكاح ما ذكر من العدد إلى نكاح واحد أو تسر بما ملك وذلك على سبيل اللطف بالمكلف والرفق به والتعطف على النساء والنظر لهن"(1). وقد أورد أبو حيان رأياً شاذاً في فهم الشرط ورد عليه بما يغني عن التعقيب فقال: "وذهب بعض الناس إلى أن هذه الجمل اشتملت على شرط واحد وجملة اعتراض، فالشرط { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ } وجوابه { فَوَاحِدَةً } .
__________
(1) تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، 3/164.(1/469)
…وجملة الاعتراض في قوله: { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } وكرر الشرط بقوله { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } لما طال الكلام بالاعتراض. فأعيدت الجملة وصار المعنى على هذا التقدير: إن لم تستطيعوا أن تعدلوا فانكحوا واحدة. قال وقد ثبت أنهم لا يستطيعون العدل بقوله: { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } (1). انتهى هذا القول وهو منسوب إلى أبي علي، ولعله لا يصح عنه، فإن أبا علي كان من علم النحو بمثابة، وهذا القول فيه إفساد نظم القرآن التركيبي، وبطلان للأحكام الشرعية لأنه إذا أُنتج من الآيتين هذه، وقوله { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ } بما نتج من الدلالة اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوج غير واحدة أو يتسرى بما ملكت يمينه، ويبقى هذا الفصل بالاعتراض بين الشرط وبين جوابه لغواً لا فائدة له على زعمه. والعدل المنفي استطاعته غير هذا القول المنفي هنا، ذلك عدل في ميل القلب وقد رفع الحرج فيه عن الإنسان، وهذا عدل في القسم والنفقة، ولذلك نفيت هناك استطاعته، وعلق هنا على خوف انتفائه لأن الخوف فيه رجاء وظن غالباً"(2).
…وقال ابن العربي في أحكام القرآن في المسألة الثالثة: "دليل الخطاب وإن اختلف العلماء في القول به، فإن دليل خطاب هذه الآية ساقط بالإجماع، فإن كل من علم أنه يُقسط لليتيمة جاز له أن يتزوج سواها، كما يجوز ذلك له إذا خاف ألا يقسط"(3).
__________
(1) سورة النساء، آية 129.
(2) تفسير البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي، 3/164.
(3) ابن العربي، أحكام القرآن، 1/310، طبعة دار الجيل، بيروت، 1988م.(1/470)
…وقال أبو حيان في البحر المحيط عن مفهوم الشرط (الأول)، والظاهر أنه لا يباح النكاح مثنى أو ثلاث أو رباع إلا لمن خاف الجور في اليتامى لأجل تعليقه عليه أما من لم يخف فمفهوم الشرط يدل على أنه لا يجوز له ذلك. والإجماع على خلاف ما دل عليه الظاهر من اختصاص الإباحة بمن خاف الجور، أجمع المسلمون على أن من لم يخف الجور في أموال اليتامى يجوز له أن ينكح أكثر من واحدة، اثنتين وثلاثاً وأربعاً كمن خاف فدل على أن الآية جواب لمن خاف ذلك وحكمها أعم(1). وهذا يدل على اتفاق ابن العربي وأبي حيان في نقل الإجماع.
…قال القرطبي: "الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أول الإسلام من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء. فقصرتهن الآية على الأربع(2). وقد عرج القرطبي على من زعم إباحة ما فوق الأربعة فردّه إلى بُعْدِ فَهْمِهِ للكتاب والسنة وإعراض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وذلك بسبب جهله باللسان والسنة ومخالفة لإجماع الأمة إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أن جمع في عصمته أكثر من أربع بعد نزول هذه الآية. وأشار إلى قصة تخير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لغيلان الثقفي والحارث بن قيس(3). هذا ولم يورد أحد من المفسرين القدامى أي شرط أو قيد على الزواج ولم يجعل له أحد منهم علّة شرعية بل إن قوله تعالى { مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } يغري بالتعدد ويدل على نفي التعليل.
__________
(1) أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، 3/163.
(2) القرطبي، أبو عبد الله، الجامع لأحكام القرآن، م5، ص11-23.
(3) المصدر السابق نفسه.(1/471)
دعوته العلماء للنظر في حكم التعدد مراعاة لمصلحة الناس ولمنع الضرر، ولتغيير الحكم بتغيير الزمان والمكان، والأخذ بقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. هذه الدعوى باطلة ومشبوهة لأنها دعوة للنظر في مسألة قطعية في ثبوتها وفي دلالتها وانعقد عليها الإجماع، فالتعدد شرعة الله للمسلمين وهي ثابتة لا لبس فيها. ولا يجوز الاجتهاد في مورد النص.
قوله: "وبهذا يعلم أن تعدد الزوجات محرم قطعاً عند الخوف من عدم العدل" قول باطل لأنه بُني على باطل، فالاجتهاد في الأحكام القطعية لا قيمة له ولا يجوز في حكم الإسلام، وما بناه عليه من قواعد مختلف فيها أو باطلة لا تثبت أمام الأصل وهو النص من الوحي.
وأما قوله: "كأنه نهي عن كثرة الأزواج" فهو أشد بطلاناً لأن الآية فيها أمر ]فانكحوا[ وإغراء { مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } والنهي غير وارد لأن الشرط معطل حيث نقل ابن العربي وأبو حيان الإجماع على تعطيل الشرط، فالنهي المزعوم لا وجود له في الآية بناء على ما تقدم.
قوله { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } لا يفيد حل ما جرى عليه المسلمون منذ قرون من التمتع بالجواري. قول باطل لأنه يعارض النص في الآية نفسها بالأمر بالنكاح ما طاب لكم مضافاً إليه ملك اليمين.
قوله: "تعدد الزوجات خلاف الأصل الطبيعي في الزوجية" قول باطل وهو تشريع وضعي يناقض التشريع الإلهي الوارد في الآية { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } ويعارض ما كان عليه الصحابة الكرام في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعارض ما أجمع عليه الصحابة الكرام. فيرد قول الشيخ رشيد المبني على نظريات الإفرنج. ويعمل بتشريع رب العالمين.(1/472)
قوله: إن التعدد رخصة قول من لا محصل عنده، وهو مبني على الهوى وليس مستنبطاً. فالرخص في الإسلام أحكام شرعية مخففة للعزيمة لعذر مع بقاء حكم العزيمة دون أن تلزم العباد بالعمل بها وهي مأخوذة من النصوص والتعدد في الإسلام يتراوح عند الفقهاء بين المباح والمندوب حسب قرائن النصوص. من الكتاب والسنة وهي إلى الندب أقرب منها للإباحة.
قوله: "من لم يلتزم الشرط فزواجه غير إسلامي" قول باطل لأن الشرط معطل انعقد الإجماع على عدم العمل به. وفيه تناقض لقوله قبل تسع صفحات حيث قال: "وتقدم أنه يحرم على من خاف عدم العدل أن يتزوج أكثر من واحدة. ولا يفهم منه كما فهم بعض المجاورين أنه لو عقد في هذه الحالة يكون العقد باطلاً أو فاسداً فإن الحرمة عارضة لا تقتضي بطلان العقد فقد يخاف الظلم ولا يظلم. وقد يظلم ثم يتوب فيعدل فيعيش عيشة حلالاً"(1).
وأما قوله للإمام أن يمنع المباح الذي يترتب عليه مفسدة قائمة والمصلحة بخلافه –فهو قول مردود في هذه القضية حيث نص عليها القرآن الكريم، وأكدتها وبينتها السنة النبوية الشريفة، وانعقد عليها إجماع الصحابة والمسلمون أجمعون. وأما المباحات التي للخليفة أن يمنعها فتكون في الأمور الإدارية كتنظيم السير مثلاً ونحوها وما أوكلت إليه شرعاً من مهام، أما في قضية تعدد الزوجات فلا محل لرأي الإمام مع قول الله تعالى ولأنها ليست مما أوكلت إليه شرعاً من مهام.
وأما التهذيب الذي يقتضي منع تعدد الزوجات وأن الشيخ رشيد وصحبه عليه فهو ثرثرة كلام وطيش أقلام لا محل له في تشريع الإسلام. حيث أن الوحي وحده مصدر التشريع.
__________
(1) تفسير المنار، م4، ص 350.(1/473)
وأما إجماله للرأي بأن التعدد خلاف الأصل وخلاف الكمال وينافي سكون النفس والمودة والرحمة فهي نتائج باطلة لأنها بنيت على باطل، بعيدة عن دلالة النصوص وهكذا يتبين لنا مدى الشوائب التي جاء بها أصحاب تفسير المنار في مسألة تعدد الزوجات ويظهر لنا الفرق بين تشريع رب العالمين، وبين تشريع المدرسة العقلية الحديثة بزعامة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا.
ثانياً: الشيخ البهي الخولي وتعدد الزوجات:
…قال: "إن التعدد محرم في حال احتمال الظلم. واحتمال الظلم أمر متوقع لا محالة. فكأن إباحة التعدد علقت بأمر يجعله محرماً أو شبيهاً بالمحرم"(1).
ثالثاً: الشيخ عبد المتعال الصعيدي:
…قال: "نعم نملك تحريم تعدد الزوجات. ويشبه التعدد بتحريم زرع القطن في أكثر من ثلث الأرض إذا أمر الوالي بذلك"(2).
رابعاً: عبد العزيز فهمي:
__________
(1) عباس، فضل حسن، اتجاهات التفسير في العصر الحديث في مصر وسوريا، 1/114، ستانسل، مكتبة الأزهر رقم 500، سنة 1972، عن المرأة بين البيت والمجتمع ص59، البهي الخولي.
(2) المصدر السابق نفسه عن مجلة الرسالة 1367هـ.(1/474)
…قال: "إن القرآن الكريم يحرم بتاتاً تعدد الزوجات، فقوله تعالى { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } ليس المقصود منه إباحة أكثر من واحدة، بل قصد منه تحريم ذلك بتاتاً. وكل ما في الأمر أن صيغة التحريم وردت على عادة القرآن في الاستدراج والتلطف فالآية واضح لكل متذوق أنه هزؤٌ وسخرية ممن يريد تعدد الزوجات لأن المولى سبحانه وتعالى أردفها بقوله { أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } وقوله في موضع آخر { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } (1), و ]لن[ كما يقرر النحاة هي أشد أدوات النفي للمستقبل إذ تنفيه نفياً باتاً، فالقرآن يسجل بصريح العبارة أن الاستطاعة مستحيلة، أي أن العلة المتوهمة للتصريح بالتعدد لن تتحقق، والمقرر عند الفقهاء من عقليين وحرفيين إنه متى زالت العلة زال المعلول"(2).
…وقال في مجلة الثقافة: "إن { ما } في قوله تعالى: { مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } من أقوى ما يكون في إفادة العموم، وهي نكرة بمعنى (أي شيء) أي امرأة أو مجموعة من النساء –أي لا مفهوم للتحديد بأربع- وإن القرآن استعمل
{ طاب } ولم يستعمل كلمة (حلَّ) لأن الطائب قد يكون حلالاً وقد يكون حراماً. وإن القول بدلالة الآية على حكم تحديد التعدد بأربع يؤول بنا إلى منكرة ذلك أن { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } معناها: اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، أي أن الرجل يأتي لامرأتين فيتزوجهما ثم إلى ثلاث. واتهم الفقهاء بأنهم سايروا واقع التعدد الذي فشا بعد الصدر الأول من أجل الجنود في الحرب فاضطروا أن يوجدوا لها سنداً من القرآن"(3).
__________
(1) سورة النساء، آية 129.
(2) اتجاهات التفسير في العصر الحديث، 1/114-115.
(3) اتجاهات التفسير في العصر الحديث، 1/115.(1/475)
…وهذه أقوال في غاية البطلان ولا تستحق الرد. لأن قائلها جاهل باللغة، جاهل بأساليب العربية، جاهل بمفاهيم الإسلام، وهذه شوائب لا تمت للتفسير بسبب ولا بنسب.
خامساً: جمال الدين القاسمي:
…قال: "تنبيه في سر ما تشير إليه الآية من إصلاح النسل، قال بعض علماء الاجتماع من فلاسفة المسلمين في مقالة عنوانها (الإسلام وإصلاح النسل) وخلاصته: (أن إصلاح النسل في الإنسان أولى من إصلاحه في الحيوان حسبما قال فيلسوفان ألماني وإنجليزي وذكرا طرقاً لإصلاح النسل (منها): منع أصحاب العاهات والأمراض المزمنة وأولي الجرائم الكبيرة من الزواج لينقطع نسلهم الذي يجيء غالباً على شاكلتهم. (ومنها) إباحة تعدد الزوجات النابغات من الرجال ليكثر نسلهم. وقالا: إذا جرى المجتمع على هذا الانتخاب الصناعي قروناً عديدة كان نسل الإنسان الأخير بحكم ناموس الوراثة سالماً من الأمراض، حسن الطوية .. كأنه أرقى من الإنسان الحاضر، وكانت أهم طريقة أبدياها للارتقاء المنتظر للبشر في المستقبل هي طريقة تعدد الزوجات في الحاضر للنابغين من الناس) (1). وقال: (وتعدد الزوجات للنابغين من المسلمين، قد جاء به الإسلام قبل هذين الفيلسوفين بأكثر من ألف وثلاثمائة سنة) قال (وقد جعل رضاهن بذلك شرطاً له لئلا يكون فيه إجحاف بحقوقهن والعاقلة من النساء تفضل أن تكون زوجة لنابغة من الرجال –وإن كان ذا زوجات أخر- على أن تكون زوجة لرجل أحمق. وإن اقتصر عليها) (2). وقال: (وأما غير النابغين منهم فإن الدين يمنعهم من نكاح أكثر من واحدة لئلا يكثر نسلهم) (3).
__________
(1) تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل، 5/30-31، طبعة دار الفكر، ط2، بيروت، 1398هـ-1978م.
(2) المصدر السابق، 5/32.
(3) المصدر السابق، 5/32.(1/476)
…وقال إنَّ القدرة في العدل بين أربع من النساء، متوقفة على عقل كبير وسياسة في الإدارة، وحكمة بالغة في المعاملة، وهذا لا يتأتى إلا لمن كان نابغة بين الرجال ... والرجل النابغة، إذا تزوج بأكثر من واحدة، كثر نسله فكثر النوابغ والشعب الذي يكثر نوابغه أقدر على الغلبة في تنازع البقاء من سائر الشعوب كما يدلنا عليه التاريخ.
…ثم خاطب الله في مكان آخر، الخائفين أن لا يعدلوا بين النساء، وهم غير النوابغ من المسلمين بقوله { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } (1) فأمرهم في هذه الآية التي هي في المعنى تتمة للأولى. أن لا يقترنوا بأكثر من واحدة لأنهم في درجة من العقل دون درجة من النابغين. لن يستطيعوا معها إتيان العدل بين النساء(2) ولكي يكثر نسل النابغين وهو الأهم"(3).
…وقال: " { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } إشارة إلى مراتب نبوغ الرجل الثلاث فكأنه أراد أن لا يتجاوز الذي قل نبوغه، الاقتران باثنتين، وأن لا يتجاوز من نبوغه متوسط، الاقتران بثلاث، وأن يحل للذي نبوغه أعلى من الأولين الاقتران بأربع"(4).
__________
(1) سورة النساء، آية 129.
(2) تفسير القاسمي، 5/32.
(3) تفسير القاسمي، 5/32.
(4) تفسير القاسمي، 5/33.(1/477)
…وقال: "وهناك إنسان نبوغه أكبر من كل نبوغ هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي اختاره الله لوفور حكمته رسولاً منه إلى البشر. قد أحل له أن يقترن بأكثر من أربع لقدرته على العدل بينهن"(1). وختم التنبيه بقوله: "وأظنك بعد قراءة ما أوردت، تعترف، إن كنت من المنصفين، أن الإسلام جاء قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام، بسنة للزواج عليها وحدها يتوقف إصلاح نسل البشر، الذي أخذ في هذا القرن أفراد من فلاسفة الغرب يحضون عليه. تلك السنة هي تعدد الزوجات بعد أن كان الرأي العام في الغرب يعيبه عليها. هذا هو الإسلام يقرر أكبر قاعدة للترقي.. ولكن المسلمين لم يأتمروا بأمر الله فأباحوا هذا التعدد لكل أحد من المسلمين ففسد النسل(2) واختتم القاسمي ذلك بقوله: "وهو استنباط بديع"(3).
…ولا يخفى على القارئ أنه مدح زائف للإسلام، تسلل منه لإدخال الشوائب في التفسير مما لا تحتمله نصوص الآيات لا منطوقاً ولا مفهوماً. فهي أشبه بخواطر في نفس الرجل أراد أن يلبسها ثوب القداسة الزائفة فألصقها في التفسير. وما تحدث عنه من تحسين نسل الحيوان والإنسان لا علاقة له بالآية لا من قريب ولا من بعيد، وأضاف شائبة حديثة وهي قاعدة الترقي أو التحضر يجعلها مقياساً للأخذ والرد من الأفكار بدل الشريعة الغراء، ومدحه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه نابغة في النفس منه شيء. لأن من الكفار من يقول أن محمداً عبقري وجاء بالشريعة من عند نفسه.
سادساً: أحمد مصطفى المراغي:
__________
(1) تفسير القاسمي، 5/34.
(2) تفسير القاسمي، 5/34.
(3) تفسير القاسمي، 5/34.(1/478)
…قال: "وصفوة القول. إن تعدد الزوجات يخالف المودة والرحمة وسكون النفس إلى المرأة، وهي أركان سعادة الحياة الزوجية، فلا ينبغي لمسلم أن يقدم عليه إلا ضرورة. مع الثقة بما أوجبه الله من العدل، وليس وراء ذلك إلا ظلم المرء لنفسه وامرأته وولده وأمته) (1) وبالموازنة بين ألفاظ الشيخ أحمد المراغي وكلمات محمد عبده ورشيد رضا نجد بينهما نسباً وصهراً.
سابعاً: محمد عزت دروزة:
…قال: "ومع أن صيغة الفقرة الثانية { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } في إباحة تعدد الزوجات في عصمة الرجل ليست تشريعية في التحديد، وإنما هي سبيل المخرج من خوف عدم الإقساط في اليتيمات فإن معظم العلماء اعتبروها تحديداً لعدد الزوجات اللاتي يسوغ للرجل جمعهنَّ في عصمته وهو أربع زوجات) (2). وقال: "على أن هناك أقوالاً ومذاهب مخالفة لذلك حيث ذهب قائلوها إلى أن الفقرة ليست لأجل الحصر والتحديد وإنما هي للترغيب لأجل تفادي ظلم اليتيمات وحسب، وأن من السائغ أن يجمع الرجل في عصمته ما شاء أكثر من أربع"(3).
__________
(1) تفسير المراغي، 4/183، وانظر تفسير المنار، 4/370.
(2) التفسير الحديث، دروزة، محمد عزت، 9/11.
(3) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 9/11.(1/479)
…وقال: "ويبدئ بعض الأغيار ويعيدون في أمر إباحة الإسلام لتعدد الزوجات، والإنصاف يقتضي القول إن هناك ظروفاً يكون فيها التعدد مفيداً من دون ريب، وأن هناك ظروفاً يكون فيها مضراً من دون ريب أيضاً". وعدد الأحوال التي يكون التعدد فيها مفيداً. ثم قال: أما عدا هذه الحالات فإن التعدد يسبب المشاكل والبغضاء والتنافر داخل الأسرة فيجعل حياتها جحيما) (1). وخلص إلى نتيجة (بحيث يمكن أن يقال إن تلقين الاقتصار (على زوجة واحدة) هو الأقوى وإن إباحة التعدد هو المخرج للحالات والضرورات الاستثنائية المتنوعة الدواعي) (2).
تفنيد أقوال دروزة في تعدد الزوجات:
قوله: إباحة تعدد الزوجات ليست تشريعية في التحديد. قول باطل لأنه يعارض النص وهو قطعي الثبوت قطعي الدلالة.
قوله: إن هناك أقوالاً ومذاهب مخالفة لذلك تسوغ أن يجمع الرجل في عصمته أكثر من أربع، قول سطحي لأنه يعد الآراء الشاذة الشاردة التي تدل على جهل بالعربية والشريعة تعدل القطعي في القرآن والسنة والإجماع.
قوله إن التعدد يسبب المشاكل والبغضاء والتنافر داخل الأسرة فيجعل حياتها جحيماً هو بمثابة إيجاد علة عقلية للحكم ليصل إلى جعل ما في ذهنه شرعياً في هذه المسألة. ولا قيمة له شرعاً وسواء اعتبرها علة أم حكمة فهي ساقطة في عرف الشرع لأنها غير مستنبطة من الشرع بل من العقل.
ثامناً: د. عبد الكريم الخطيب:
__________
(1) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 9/12.
(2) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 9/13.(1/480)
…"وإذا كانت التسوية بين الزوجات تسوية مطلقة، والعدل بينهن عدلاً كاملاً أمراً غير ممكن، وإن أمكن في حال فلن يمكن في جميع الأحوال –إذا كان ذلك كذلك فقد أشار الإسلام إلى الدواء الناجع لسلامة الإنسان في دينه، فلا يظلم، وسلامته في نفسه، فلا يقع بين مهاب العواصف من الشقاق والخلاف- هذا الدواء هو الاقتصار على زوجة واحدة والاكتفاء بها"(1). { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } . وقال: "وهذا الدواء الذي يقدمه الإسلام هنا ليس مفروضاً فرضاً لازماً على كل إنسان، وفي كل حال، بل إنَّ شأنه شأن كل دواء –محكوم بحكم الحاجة وبحسب الحالة فمن خرج به عن هذا الحكم- حكم الدواء عند الحاجة- فقد ظلم نفسه، وجاوز حدود الله، وليس على الإسلام ولا على شريعة الإسلام شيء من عدوانه وظلمه"(2).
الرد على د. الخطيب في تعدد الزوجات:
بنى د. الخطيب حكمه في المسألة على المنطق وكانت المقدمة الصغرى خطأ محضاً مبنياً على الآية التي لا يمكن فيها العدل في القلب. وكانت المقدمة الكبرى كذلك خطأ فشرط العدل معطل في الآية بالإجماع. ومن البديهي أن تكون النتيجة المبنية على مقدمتين خاطئتين خطأ محضاً.
أن الإسلام لم يفرض تعدد الزوجات هو قول حق أريد به باطل حيث جعله دواء محكوماً بحكم الحاجة ومن لم يجعله كذلك فقد تجاوز حدود الله. وهذا أيضاً مناقض للنصوص التي يفسرونها. فقد جعل التعدد إثماً وهذا الحكم فيه ما فيه من التجني على الإسلام، ومخالفة لأحكامه.
تاسعاً: د. وهبه الزحيلي:
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن، د. الخطيب، عبد الكريم محمود، م2، 4/692.
(2) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م2، 4/697.(1/481)
…قال تحت عنوان الحكمة من تعدد الزوجات: "الوضع الطبيعي وهو الأشرف والأفضل أن يكون للرجل زوجة واحدة، لأن الغيرة مشتركة بين الزوج والزوجة، فكما أن الزوج يغار على زوجته كذلك الزوجة تغار على زوجها، ولكن الإسلام أباح التعدد لضرورة أو حاجة، وقيده بقيود، القدرة على الإنفاق، والعدل بين الزوجات، والمعاشرة بالمعروف والإباحة لأحوال استثنائية(1) منها عقم الزوجة، وكثرة النساء، والحالة الجنسية(2). وقال: (والخلاصة إن تعدد الزوجات في الإسلام أمر تلجئ إليه الضرورة، أو تدعو إليه المصلحة العامة أو الخاصة، وإصلاح مفاسده أولى من إلغائها، ولا يجرؤ أحد على إلغائها، لأن النصوص الشرعية تدل صراحة على إباحته، وتعطيل النص أو الخروج عليه أمر منكر حرام في شرع الله ودينه) (3). نجد أن جل آراء الزحيلي على مشرب أصحاب تفسير المنار. وقد فندناها قبل قليل.
عاشراً: علي نصوح الطاهر:
…قال: "لقد كانت إجازة تعدد الزوجات في زمن كانت مطالب الحياة فيها غير مرهقة، وكان الدخل القليل يساعد على الحياة بسهولة، ولكن في زماننا أصبحت التكاليف بالنسبة للحياة مرهقة حتى ليكاد الرجل يضيق ذرعاً بإعالة زوجة واحدة. فكيف به يعيل أربع زوجات. ولا يكاد يستطيع أن يحسن تربية ولد أو ولدين فكيف به يربي عشرة أولاد أو يزيد. ولذلك فإن الاكتفاء بزوجة واحدة هي ضرورة العصر الذي نعيش فيه كما أن تعدد الزوجات كان ضرورة العصور الماضية في محيطنا"(4).
__________
(1) الزحيلي، وهبة، التفسير المنير، 4/242، ط2 دار الفكر المعاصر، بيروت، 1411هـ-1991م.
(2) المصدر السابق، 4/243.
(3) المصدر السابق، 4/244.
(4) الطاهر، علي نصوح، تفسير القرآن الكريم كما أفهمه، 1/309.(1/482)
…وقال: "لقد كان موقف الإسلام من الموضوع بأسره أعظم موقف إنساني متعقل، ومتدرج، فهو حض على اكتفاء بزوجة واحدة أولاً، ثم أجاز الزواج بأكثر من واحدة تبعاً للظروف والمقتضيات إذا كانت تسمح بذلك، أو تملي ذك. واشترط العدل في حالة تعدد الزوجات وراعى ظروف المجتمع السائد في زمانه وراعى ظروف المجتمع المقبل بصورة لا نجد معها صعوبة علينا بالسير في ظل تشريعه الحكيم"(1).
…ثم شرع بعد ذلك في بيان رأي اليهود والنصارى في التعدد، وقد اقتبسه من الشيخ رشيد رضا من كتاب نداء الجنس اللطيف –مقدمة في تاريخ تعدد الزوجات وأصله(2).
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر السابق، 1/309-310 عن ص 45/47 نداء الجنس اللطيف، محمد رشيد رضا، ط دار الجيل، بيروت ومكتبة التراث الإسلامي، القاهرة، ط2، 1405 هـ - 1985م أو ص 40 وما بعدها، ط2، بمطابع المنار 1367هـ.(1/483)
…ومن يجل النظر في كلام معالي الوزير والسفير الأردني يجده كلاماً لا يستحق الرد عليه لأنه يخلو من مسحة التفسير، ويبدو أن الرجل في نفسه هوى يريد أن يضفي عليه صفة الشرعية فقال ما قال. حيث عد حكم تعدد الزوجات إجازة وقد انقضت وانتهت وجعل القاعدة الباطلة (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) هي محور حديثه بالنسبة للموضوع. وأكتفي بهذا القدر من الشوائب في موضوع تعدد الزوجات في تفاسير عشرة من مفسري القرن الرابع عشر الهجري كلهم عالة على تفسير المنار فله كفل من كل الشوائب التالية له. ومن العجيب الغريب أن نظام تعدد الزوجات الذي جاء به الإسلام وعمل هؤلاء العشرة وغيرهم على النيل منه قد ذكر بعضهم وبخاصة كبيرهم الذي علمهم التأويل تنبه بعض الأوروبيين إلى أهمية هذا النظام وطالبوا به في بلادهم لحل مشاكلهم الاجتماعية، وكتبوا على صفحات الجرائد، وحرروا الكتب يدعون دولهم ومجتمعاتهم للعمل به ومن العبارات التي صدرت في تفسير المنار (لا علاج لتقليل البنات الشاردات إلا تعدد الزوجات) (1)، (أتمنى تعدد الزوجات للرجل الواحد ليكون لكل امرأة قيم وكفيل من الرجال) (2).
__________
(1) رضا، محمد رشيد، تفسير المنار، 4/359. وانظر نداء الجنس اللطيف، أقوال بعض الفضليات الإنجليزيات في تعدد الزوجات، ص 54-59، ط2، دار الجيل بيروت ومكتبة التراث الإسلامي، القاهرة، 1985م.
(2) رضا، محمد رشيد، تفسير المنار، 4/360.(1/484)
…وهناك مقالات كثيرة(1) حررت نتيجة لاكتواء المجتمع الغربي بالآثار السلبية الناجمة عن نظام الزوجة الواحدة. وكانت هذه الأقوال في العام الأول من القرن الماضي فما بالك الآن؟! ونحن نستشهد بهذه الأقوال من باب اعترافهم بسيئات نظامهم، لا من باب إقامة الدليل على فساده، فلا دليل إلا قول رب العالمين وسنة نبيه الآمين، والواقع يؤكد مدى احتياج بني الإنسان إلى المخلص من هذه المفاسد، وهو نظام رب العالمين والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل.
ب- زواج المسلمة من الكتابي
ما زُعم أنها أدلة تبيح زواج المسلمة من الكتابي:
__________
(1) انظر تفسير المنار، 4/360-363، وانظر مجلة المنار م4، 481، وانظر نداء الجنس اللطيف ص54-59 طبعة دار الجيل والتراث الإسلامي.(1/485)
قالوا: إن النص القطعي في القرآن إنما ورد بالنهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين، ويحل نكاح المحصنات من أهل الكتاب، ولم يصرح بتحريم إنكاحهم، وأن التحقيق أن المشركين والمشركات في آية البقرة خاص بالعرب منهم أعني قوله تعالى: { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } (1) وقالوا: وجملة القول أن هؤلاء الذين أشركوا وهم الذين بينكم وبينهم غاية الخلاف والتباين في الاعتقاد لا يجوز لكم أن تتصلوا بهم برابطة الصهر لا بتزويجهم ولا بالتزوّج منهم، وأما الكتابيات فقد جاء في سورة المائدة أنهن حل لنا، وسكت هناك عن تزويج الكتابي بالمسلمة. وقالوا ورضيه الأستاذ الإمام – إنه على أصل المنع وأيدوه بالسنة والإجماع. ولكن قد يقال إن الأصل الإباحة في الجميع فجاء النص بتحريم المشركين والمشركات تغليظاً لأمر الشرك ويحل الكتابيات تألفاً لأهل الكتاب.. وأما تزويجهم بالمؤمنات فلا تظهر منه مثل هذه الفائدة .. فقد يصح أن يكون هذا هو المراد من النص في السورتين، وإذا قامت بعد ذلك أدلة من السنة أو الإجماع أو من التعليل الآتي لمنع مناكحة أهل الشرك على تحريم تزويج الكتابي بالمسلمة فلها حكمها لا عملاً بالأصل أو نص الكتاب بل عملاً بهذه الأدلة"(2).
__________
(1) سورة البقرة، آية 221.
(2) رضا، محمد رشيد، تفسير المنار، م2، 351.(1/486)
قالوا: إن النص الأصولي الذي نعنيه هو عند أهله ما يحتمل معنى واحداً لا يحتمل غيره حقيقة ولا مجازاً ولا كناية، وقالوا هذا خاص بأصول الدين. وأما الأحكام العملية فيكتفي بها بالنصوص اللغوية من منطوق ظاهر، ومفهوم موافقة وعليه فلا مبرر لاستعظام نفي نص أصولي قطعي في حكم شرعي عملي لأنه من الأمور الشخصية. وهو استعظام لما ليس بعظيم في نفسه(1). ولفظ الكفر والشرك والفسق والظلم وما اشتق منها قد أطلقت في الكتاب والسنة بحسب معانيها اللغوية على الكفار إطلاق المترادفات، وقوبلت بالإيمان والإسلام مقابلة المتضادات. وفي هذه المصطلحات خلاف عند أهل هذا العصر عمن سبقهم. ولذلك لا داعي للتكفير ولاستعظام من يخالف الحكم الذي يراه البعض قطعياً والمتأخرون لا يرونه كذلك(2).
__________
(1) رضا، محمد رشيد، مجلة المنار، م25، 3/223.
(2) المصدر السابق نفسه.(1/487)
المراد بالكفار في آية الممتحنة(1): المشركون بدليل نزولها في واقعة معهم. والأصل في وقائع الأعيان أنها لا عموم لها فإن تسامحنا وقلنا بجواز عمومها فلا يمكن أن نقول أنه نص أصولي قطعي والاحتمال قائم. وقد صرح المفسرون بنزولها في المشركين خاصة وهو مروي عن مجاهد كما في صحيح البخاري(2).
إن تحريم المسلمة على الكتابي بالسنة وبالإجماع وليس بنص القرآن(3). واستشهد بما ذكره البخاري عن ابن عباس تحت (باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي) وقال بعد أن أورد أهم ما في السنة في أصل المسألة: وأما ما ذكر في هذه الآثار من تحريم المسلمة على الكتابي فليس من نصوص الكتاب ولا من نصوص السنة(4).
__________
(1) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (الممتحنة: 10).
(2) مجلة المنار، م25، 4/315. ثم كرر العبارة في ص 316.
(3) المصدر السابق وانظر ص 317 كذلك.
(4) مجلة المنار، 4/317.(1/488)
وقال الشيخ رشيد في رد الإجماع: "وإن ابن جرير ذكر وروى عن قتادة أن لفظ المشركين في آية { وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ } (1) يشمل أهل الكتاب ولم يذكر مخالفاً فعدم ذكره مخالفاً دال على الإجماع"(2). وقال: "وإنما الحجة إجماعهم على أمر ديني(3).
ذكر التعليل أنه الخيرية في قوله تعالى { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } (4) أي خيرية المؤمن على المشرك وقال: "فكان في التعبير بالأمة والعبد إشارة بعلة الخيرية – والمشركة ليس لها دين يحرم الخيانة فهي موكولة إلى طبيعتها وهو خرافات الوثنية وأوهامها، وأماني الشياطين وأحلامها. وأما الكتابية فليس بينها وبين المؤمن كبير مباينة فإنها تؤمن بالله وتعبده، وتؤمن بالأنبياء وبالحياة الأخرى. وقد يقال إن هذه العلة في تحريم مناكحة المشركين متحققة في الكتابيات ولهذا ذهب بعض الشيعة إلى تحريم نكاح الكتابيين(5). ثم عقد مقارنة بين أهل الكتاب وبين المسلمين وصورهم بصورة واحدة من البعد عن الله حتى أن بعض المسلمين من يصرح بتحريم العمل بالقرآن(6). وعقب على كلامه بقوله (فإذا كان الفرق بيننا وبين أهل الكتاب يشبه الفرق بين الموحدين المخلصين العاملين بالكتاب والسنة وبين المبتدعة الذين انحرفوا عن الكتاب والسنة فكيف يكون أهل الكتاب كالمشركين في حكم الله تعالى؟ والجملة أن ما عليه الكتابية من الباطل هو مخالف لأصل دينها وقد عرض لها ولقومها بشبه ضعيفة. وأما ما نراه من التباين بين المسلمين وأهل الكتاب الآن فسببه سياسة الملوك والرؤساء. ولو أقمنا الكتاب وأقاموه لتقاربنا ورجعنا جميعاً إلى الأصل الذي أرشدنا إليه القرآن العزيز. ولا يخفى أن هذا
__________
(1) سورة البقرة، آية 221.
(2) مجلة المنار، م25، 3/222. وانظر تفسير المنار، 2/352.
(3) مجلة المنار، م25 ،3/227.
(4) سورة البقرة، الآية 221.
(5) تفسير المنار، 2/355.
(6) تفسير المنار، 2/356.(1/489)
الأمر يختلف باختلاف الأشخاص فرب مسلم مقلد يتزوج بكتابية عالمة فتفسد عليه تقاليده ولا عوض له عنها فينبغي أن يعرف هذا(1).
تفنيد مزاعم الشيخ رشيد في إباحة زواج المسلمة من الكافر (الكتابي):
إن ما زعمه الشيخ رشيد من أن القرآن لم يصرح بتحريم إنكاحهم، وقوله في موطن آخر: سكت عن تحريم الكتابيين: مغالطة لأن النص العام يندرج تحته كل أفراده. ولفظ (الكفار) في آية الممتحنة يشمل الكفار بكل أنواعهم كما أشار المفسرون القدامى وقرروه. وإذا ورد نص إضافة إلى النص العام فإنه يكون زيادة في التوكيد للمنصوص عليه وليس لتخصيص العام كما هو معلوم في أصول الفقه.
__________
(1) تفسير المنار، م2، 357.(1/490)
إن حكم الإسلام في زواج المسلمة من الكافر حرام شرعاً، وإذا وقع فهو نكاح باطل لا ينعقد، ولا يترتب عليه أي أثر لعقود النكاح الصحيحة في الإسلام والدليل على ذلك قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } (1) وفي الآية نفسها قال تبارك وتعالى: { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } . والنص صريح بلفظ الكفار فهو يشمل أهل الكتاب والمشركين على حد سواء، وأهل الكتاب لا يشك في كفرهم إلا أهل الزيغ والضلال أو الجهلة لأن تكفيرهم ورد في القرآن بصريح المنطوق { مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } (2): ومن: هنا بيانية وليست للتبعيض. قال الزمخشري: من الأولى للبيان لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان: أهل الكتاب والمشركون كقوله تعالى: { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } (3). وقال صاحب البحر المحيط: "والظاهر العموم في أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى وفي المشركين وهم مشركو العرب وغيرهم"(4)
__________
(1) سورة الممتحنة، آية 10.
(2) سورة البقرة، آية 105.
(3) سورة البينة، آية 1. وانظر تفسير الكشاف، 1/87، طبعة دار المعرفة، وانظر تفسير أبي السعود، 1/142، وانظر روح المعاني للألوسي، 1/350، وانظر التفسير الكبير للفخر الرازي، 3/324، وغيرها.
(4) تفسير البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي، 1/339. وانظر تفسير أحكام القرآن، لابن العربي، 4/1788 وانظر أحكام القرآن للكيا الهراسي 4/410، وقال ابن المنير على حاشية الكشاف استدل بهذه الآية على خطاب الكفار بالفروع، والمراد به يحرمن على الكفار لأن قسيمه متفق على أن المراد تحريم الكفار على المؤمنات فيكون كل من القبيلين المؤمنات والكفار مخاطباً بالحرمة تفسير الكشاف 4/89.(1/491)
. وقال تعالى: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } (1). وقال تبارك وتعالى: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } (2). وعليه فيكون معنى قوله تعالى: { فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } في آية الممتحنة عموماً سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من مشركي العرب أم من غيرهم. وكل من لم يؤمن بالإسلام الذي نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر لقوله تعالى { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (3). وقد أجمع المسلمون كلهم أجمعون أكتعون أبصعون أبتعون(4) على تحريم زواج المسلمة من الكافر ولم نعلم أن فقيهاً أو عالماً شذ عن هذا رغم كثرة الاختلافات الفقهية واتساعها، أياً كانت ديانته لا فرق بين وثني وكتابي. وقالوا لا تثبت ولاية لكافر على مسلمة. وهو قول عامة أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع عامة من نحفظ عنه مناهل العلم على هذا(5). وقال الخرقي: (لا يزوج كافر مسلمة بحال) (6). قال عز وجل: { وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } (7). والزواج أكبر سبيل فلا تحل مسلمة لكافر. لأنهم يعدون ولاية الكافر على المسلمة حتى لو كانت ابنته، مخالفة لأمر الله تعالى: { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ } (8). وقال: {
__________
(1) سورة المائدة، الآيتان 17، 72.
(2) سورة المائدة، آية 73.
(3) سورة آل عمران، آية 85.
(4) قال الأزهري في تهذيب اللغة: تؤكد الكلمة بهذه التواكيد كلها. أخبرني بذلك المنذري عن أبي الهيثم. مادة كتع، 1/303، طبعة الدار المصرية للتأليف، 1384هـ - 1964م.
(5) المغني لابن قدامه، 7/359.
(6) المغني لابن قدامة، 7/363.
(7) سورة النساء، آية 141.
(8) سورة آل عمران، آية 28.(1/492)
وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } (1). وقال: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } (2). وفي أحكام الردة أجمع الفقهاء على إنهاء زواج المسلمة من المرتد أياً كان دينه الذي صبأ إليه وثنياً كان أم كتابياً. واختلفوا هل هو فسخ أو طلاق، وأنه لا توارث بينهما ولا نفقة. وتتوقف كل الوشائح والصلات بينهما. وتحريم زواج المسلمة من غير المسلم من بدهيات الإسلام ومن المعلوم من الدين بالضرورة. وهي من المسائل القطعية التي لا يجوز فيها الاجتهاد. قال الشافعي: (نساء المؤمنين محرمات على الكفار) (3). وإن كان سبب نزول آية الممتحنة رد نساء مؤمنات بعولتهن مشركون إلا أن اللفظ ورد باسم (الكفار) وهو لفظ عام فيشمل جميع أصناف الكفار، كتابيين ومشركين على حد سواء لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر في أصول الفقه.
إن نفي حكم قطعي في العقائد والأحكام جريمته في الشرع واحدة. ويخرج من الملة، فمنكر الألوهية أو منكر حكم الربا أو الميسر أو رجم الزاني المحصن سواء في الكفر. ومن ينكر القرآن كله، ومن ينكر آية واحدة منه فحكمه واحد وهو الخروج من دين الإسلام. ولذلك لا وجه لقول الشيخ رشيد: "فلا مبرر لاستعظام نص أصولي قطعي في حكم شرعي عملي لأنه من الأمور الشخصية وهو استعظام لما ليس بعظيم في نفسه".
__________
(1) سورة الأنفال، آية 73.
(2) سورة التوبة، آية 71.
(3) انظر كتاب الأم للشافعي 5/7. وانظر أحكام القرآن للشافعي، 204، طبعة دار إحياء العلوم (بيروت) وانظر تفسير القرطبي، سورة الممتحنة 8/67. وانظر تفسير الطبري، م14، 28/69 وغيرها.(1/493)
إن الاجتهاد في مورد النص غير مقبول في الإسلام، والاجتهاد لخرق إجماع الصحابة لا أصل له عند المسلمين. ولا يجوز بحال. وعليه يجب على كل مسلم أن يستعظم نفي كل نص قطعي سواء أكان في أصول العقائد أو في الأحكام الشرعية. والاجتهاد في الإسلام مقصور على ظني الدلالة.
هناك بون شاسع بين سبب نزول الآية وبين واقعة الحال. والأصل في النصوص العموم ما لم يرد دليل التخصيص. وهذه مسألة قطعية عند علماء الأصول. وآية الممتحنة نص عام نزلت في سبب العبرة فيه بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومثلها آيات عن عدم الحكم بما أنزل الله فنزلت في سورة النساء في المنافقين، وفي سورة آل عمران نزلت في اليهود والنصارى ومع ذلك فهي للمسلمين كافة بالإجماع للقاعدة ذاتها.
إن ما زعمه الشيخ رشيد من أن كلمة الكفار، والكوافر في سورة الممتحنة لا عموم لها زعم بلا دليل، فلا قيمة له. ولفظ الكفار لقب يطلق على كل من لا يدين بدين الإسلام ويشمل الكتابيين والمشركين سواء أكانوا عرباً أم غيرهم.
التفريق في التحريم بين القرآن وبين السنة والإجماع دعوى مشبوهة لا يقول بها إلا المارقون من الدين فرجم الزاني المحصن ثبت بالسنة ولم يرد في القرآن. كما ثبت بالإجماع ومنكره كافر. وأما عدم زواج المسلمة من غير المسلم فثبت بالكتاب والسنة والإجماع وهو قطعي الثبوت قطعي الدلالة. وصار التفريق بين الكتاب والسنة دعوى لمن يسمون في هذا العصر بجماعة أو حركة القرآنيين. وهم ينكرون السنة كلياً أو جزئياً. فهذه شوائب خطيرة لا تمت للإسلام بسبب ولا نسب.(1/494)
إن العلة المعمول بها في الشرع هي العلة المنضبطة الواردة في النصوص أو مستنبطة منها. أما العلل العقلية الخارجة عن النصوص فلا محل لها في التشريع السماوي وهي خاصة بالتشريع العقلي الوضعي فما زعمه الشيخ رشيد من علة ومن تشبيه النصارى بالمسلمين بالانحراف في أصولهم طيش أقلام وثرثة كلام لا يعتد به ولا يجوز أن يستنبط على أساسه أي علة أو أي حكم شرعي. وما بني عليه فهو باطل ومن الشوائب.
إن المسلمين يتبعون ما جاء به الوحي قولاً وعملاً والكتاب والسنة. وهما مرجعيتهما في الأمور كلها. ولا يوقفون أتباع الوحي على إدراكهم للحكمة أو العلة. فإن وجدتا فنعما هي، وإن لم تذكرا يطبقوا منطوق ومفهوم النصوص ويعربوها دون أدنى تهوك.
إن تفسير القرآن الكريم يقتضي أن يكون حسب اللسان العربي ووفق المعاني الشرعية فلقب الكفار على إطلاقه يشمل جميع أنواع الكفار وتخصيصه بالمشركين كما ذهب الشيخ رشيد وحزبه(1) تحكم واتباع للهوى وهو من الشوائب التي ينبغي أن تلغى من التفسير. قال محمد الأمين الشنقيطي في تفسير أضواء البيان (وعليه تكون حرمة المسلمة من الكافر مطلقاً مشركاً كان أو كتابياً على التأبيد { لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ } أي في الحاضر { وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } أي في المستقبل"(2).
__________
(1) وقد تبع الشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا في تحديد الكفر بالشرك كثيرون منهم محمد فريد وجدي، والقاسمي، وعبد الكريم الخطيب ومحمد محمود حجازي، انظر المصحف المفسر، وجدي، محمد فريد، 737، وتفسير القاسمي 16/132، 131، والتفسير القرآني للفرآن، د. الخطيب، عبد الكريم محمود، م14، 28/905-909، طبعة دار الفكر، والتفسير الواضح، حجازي، محمد محمود، م3، 28/30-31.
(2) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، الشنقيطي، محمد الأمين بن محمد المختار الجنكي، 8/164، طبعة عالم الكتب، بيروت، والتتمة من عمل تلميذه عطيه محمد سالم.(1/495)
…قال الدكتور السيد أحمد صقر في تحقيق كتاب تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: (وكما حرم الله على المؤمنين أن يتزوجوا بالمشركات، فكذلك حرم على المسلمات أن يتزوجن بغير المسلم، ولو كان يهودياً، أو نصرانياً، لأن اليهود والنصارى كفار مشركون، بنص القرآن. وهذه الآية نص صريح في تحريم المسلمة على كل مشرك. وقد زعم الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار(1) أن تحريم زواج المسلمة باليهودي والنصراني لم يثبت بنص القرآن. وهو زعم باطل فتن به بعض المعاصرين(2).
…وفي هذا القدر غنية لمن ألقى السمع وهو شهيد. أطلنا الحديث فيه لأهمية هذه الشائبة ولشديد مساسها بحياتنا العملية ونسأل الله السلامة من كل إثم.
المبحث الرابع :الطلاق
…هو حل عقدة النكاح وهو مشروع في الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم.
حكم الطلاق عند أصحاب تفسير المنار:
…شنع الشيخ رشيد على من جعل رخصة الطلاق عادة ومثابة(3). وفي موضع آخر قال إن الطلاق مكروه في الإسلام(4). وقد شنع على من طلق ثالثة وقال: "إنه ناقص العقل والتأديب فلا يستحق أن تجعل المرأة كرة بيده يقذفها متى شاء، وتقبله، ويرتجعها متى شاء هواه بل يكون من الحكمة أن تبين منه ويخرج أمرها من يده"(5).
__________
(1) تفسير المنار، 3/351.
(2) هامش 84، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (213-276) تحقيق السيد أحمد صقر، دار الكتب العلمية، بيروت 1398هـ - 1978م.
(3) تفسير المنار، 2/395.
(4) نداء الجنس اللطيف، رضا، محمد رشيد، 121 تحت عنوان: عوائق الطلاق في الإسلام، طبعة دار الجيل، بيروت.
(5) تفسير المنار م2/392.(1/496)
…وقد أصَّلَ الشيخ محمد عبده لتشريع الطلاق في العصر الحالي حكماً مفاده: "أن الطلاق محظور في نفسه مباح للضرورة(1). وقد اتكأ على عبارة حاشية ابن عابدين (أن الأصل في الطلاق الحظر بمعنى أنه محظور إلا لعارض يبيحه وهو معنى قولهم الأصل فيه الحظر، والإباحة للحاجة إلى الخلاص. فإذا كان بلا سبب أصلاً لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص بل يكون حمقاً وسفاهة رأي ومجرد كفران بالنعمة وإخلاص الإيذاء بالمرأة وبأهلها وأولادها. ولهذا قال تعالى { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } (2). أي لا تطلبوا الفراق. ا.هـ"(3).
…ثم قال الشيخ محمد عبده إنه لا يمكن أن يفهم أن الطلاق يقع بكلمة لمجرد التلفظ بها مهما كانت صريحة. وفسر ذلك أن مراده أن اللفظ لا يجب الإلتفات إليه في الأعمال الشرعية إلا من جهة كونه دليلاً على النية. وقد عاب على الفقهاء لتمسكهم بالتلفظ بحروف ط ل ا ق(4).
…ثم وضع الشيخ محمد عبده قوانين ليعمل بها في القضاء المصري لتقييد الطلاق ما استطاع إليه سبيلا ومن القوانين التي شرعها:
المادة الأولى: كل زوج يريد أن يطلق زوجته فعليه أن يحضر أمام القاضي الشرعي، أو المأذون الذي يقوم في دائرة اختصاصه ويخبره بالشقاق الذي بينه وبين زوجته.
المادة الثانية: يجب على القاضي أو المأذون أن يرشد الزوج إلى ما في الكتاب والسنة مما يدل على أن الطلاق ممقوت عند الله وينصحه ويبين له تبعة الأمر الذي سيقدم عليه ويأمره أن يتروى مدة أسبوع.
__________
(1) تحرير المرأة، أمين، قاسم، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، 1984م. ومن الجدير بالذكر أن نسبة الكتاب إلى قاسم أمين مشكوك فيه والراجح أنه للشيخ محمد عبده، كما أشار الشيخ محمد رشيد رضا.
(2) سورة النساء، آية 24.
(3) تحرير المرأة، أمين، قاسم، عن حاشية ابن عابدين، 2/572.
(4) المصدر السابق.(1/497)
المادة الثالثة: إذا أصر الزوج بعد مضي الأسبوع على نية الطلاق فعلى القاضي، أو المأذون أن يبعث حكماً من أهل الزوج وحكماً من أهل الزوجة، أو عدلين من الأجانب إن لم يكن لهما أقارب ليصلحا بينهما.
المادة الرابعة: إذا لم ينجح الحكمان في الإسلام بين الزوجين فعليهما أن يقدما تقريراً للقاضي أو المأذون وعند ذلك يأذن القاضي أو المأذون للزوج في الطلاق.
المادة الخامسة: لا يصح الطلاق إلا إذا وقع أمام القاضي أو المأذون وبحضور شاهدين ولا يقبل إثباته إلا بوثيقة رسمية(1).
…ولم يكتف الشيخ محمد عبده بتضييق الطلاق إلى هذا الحد بل ذهب أبعد من هذا بكثير حيث قال: "ولكن لنا أن نلاحظ أنه مهما ضيقنا حدود الطلاق فلا يمكن أن تنال المرأة ما تستحق من الاعتبار والكرامة إلا إذا منحت حق الطلاق"(2). وقال الشيخ محمد عبده باسم قاسم أمين في كتاب تحرير المرأة: "ولما كان تخويل الطلاق للنساء مما تقتضيه العدالة الإنسانية السليمة كان لي الأمل الشديد في أن يحرك صوتي الضعيف همة كل رجل محب للحق من أبناء وطني خصوصاً من أولياء الأمور إلى إغاثة هؤلاء الضعيفات المقهورات الصابرات"(3).
وقال: "وأول ما يجب الإلتفات إليه هو أن شرعنا الشريف قد وضع أصلاً يجب أن ترد إليه جميع الفروع في أحكام الطلاق، وهو أن الطلاق محظور في نفسه مباح للضرورة"(4). وهذا يدلنا على الغاية البعيدة من وراء تقنين المواد السالفة بشأن الطلاق. ثم رسم طريقة لبلوغ غاية منح المرأة حق الطلاق. فقال: "والوصول إلى منح المرأة حق الطلاق يكون بإحدى طريقتين: الطريقة الأولى، أن يجري العمل بمذهب غير مذهب الحنفية الذي حرم المرأة في كل حال من حق الطلاق"(5).
__________
(1) أمين، قاسم، تحرير المرأة، 179.
(2) المصدر السابق، 183.
(3) أمين، قاسم، تحرير المرأة، 185، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، 1984م.
(4) أمين، قاسم، تحرير المرأة، 166.
(5) أمين، قاسم، تحرير المرأة، 183.(1/498)
…والطريقة الثانية: أن يستمر العمل على مذهب أبي حنيفة ولكن تشترط كل امرأة تتزوج أن يكون لها الحق في أن تطلق نفسها متى شاءت أو تحت شرط من الشروط(1). ورأى أن الطريقة الثانية تفضل الأولى.
…وقال قاسم أمين في كتاب المرأة الجديدة: "والذي أراه أن تمسكنا بالماضي إلى هذا الحد هو من الأهواء التي يجب أن ننهض جميعاً لمحاربتها لأنه ميل يجرنا إلى التدني والتقهقر. ولا يوجد سبب في بقاء هذا الميل في نفوسنا إلا شعورنا بأننا ضعفاء عاجزون عن إنشاء حال خاصة بنا تليق بزماننا ويمكن أن تستقيم بها مصالحنا. فهو صورة من صورة الاتكال على الغير"(2). وعند تفسير قوله تعالى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } (3) رأى أن الطلاق لا يقع عند التي يئست من المحيض، ولا عند من لم تحض بعد بل النص يحصر الطلاق بمن تحيض. فقال: "الحرائر ذوات الحيض بقرينة السياق. فلا يأتي هنا ما يقوله الأصوليون في كلمة المطلقات هل اللام فيها للاستغراق أم للجنس وهل هو عام بخصوص أم لا. إن وصل الآية بما قبلها يمنع كل ذلك كما يمنعه التربص بالأزواج وقال: "وأما حكم من لسن كذلك في الطلاق كاليائسة والتي لم تبلغ سن الحيض فمذكور في سورة الطلاق، وهن كأنهن لا يدخلن في مفهوم المطلقات فإن اليائسة من شأنها أن لا تطلق لأن من أمضى زمن الزوجية مع امرأة حتى يئست من المحيض كان من مقتضى الطبع والفطرة ومن أدب الشرع والدين أن يحفظ عهدها ويرعى ودها بإبقائها على عصمته الزوجية، وإن كان بعض السفهاء لا يحترمون تلك العشرة الطويلة، ولا يراعون ذلك الميثاق الغليظ، فيقدمون على طلاق اليائسة، ثم إن اليائسة إذا طلقت فلا تكاد تتزوج، وما خرج عن
__________
(1) أمين، قاسم، تحرير المرأة، 184
(2) أمين، قاسم، المرأة الجديدة، 184-185، طبع على نفقة خليل صادق، صاحب مجلة مسامرات الشعب، مطبعة الشعب، القاهرة، 1329هـ - 1900م.
(3) سورة البقرة، آية 228.(1/499)
مقتضى الشرع واستقامة الطبع فلا يعتد به، والتي لم تبلغ سن المحيض قلما تكون زوجاً ومن عقد على مثلها كانت رغبته فيها عظيمة فيندر أن يتحول فيطلق.
…وحاصل ما تقدم أن ما يتبادر في هذا المقام من لفظ المطلقات يفيد أنهن الزوجات المعهودات المستعدات للحمل والنسل الذي هو المقصد من الزوجية فينتظر أن يرغب الناس في التزوج بهن"(1).
بيان شوائب التفسير في موضوع الطلاق عند أصحاب المنار:
1- حكم الطلاق في الإسلام الإباحة والدليل على ذلك:
أ- من الكتاب قوله تعالى: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } (2). وقوله تعالى: { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء } (3). وقوله { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (4). وقوله { وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا } (5). إلى غير ذلك من الآيات وكلها تفيد الإباحة. ولم يرد نص واحد أو إشارة في نص تدل على التحريم أو على الكراهية فلا يوجد نهي. كما لم يرد في النصوص علة يتوقف عليها حكم الطلاق. ولم تشتمل النصوص على سبب معين لإيقاعه.
ب- من السنة:
__________
(1) تفسير المنار 2/370.
(2) سورة البقرة، آية 229.
(3) سورة البقرة، آية 236.
(4) سورة الطلاق، آية 1.
(5) سورة النساء، الآية: 20.(1/500)
عن قيس بن زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق حفصة تطليقة فأتاها خالاها عثمان وقدامة ابنا مظعون فقالت والله ما طلقني عن شبع فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل فتجليت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاني جبريل عليه السلام فقال راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة، رواه الطبري رجاله رجال الصحيح. (1).
__________
(1) انظر الهيثمي، الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 9/245 بتحرير الحافظين العراقي وابن حجر-دار الكتب العلمية، بيروت، 1408هـ - 1988م. وانظر كتاب الطلاق، 4/333. المصدر نفسه عن عاصم بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق حفصة بنت عمر بن الخطاب ثم ارجعها رواه أ؛مد والطبراني ورجاله ثقات. وعن أنس كذلك، رواه البزار. وأبو يعلي ورجاله رجال الصحيح. وعن ابن عمر قال دخل عمر على حفصة وهي تبكي فقال لها ما يبكيك لعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلقك إنه قد كان طلقك مرة ثم راجعك من أجلي والله إن كان طلقك مرة أخرى لا كلمتك أبداً. رواه أبو يعلى والبزار ورجال أبي يعلى رجال الصحيح وكذلك رجال البزار، وعن عمر كذلك. قال الشوكاني في نيل الأوطار. رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وهو لأحمد من حديث عاصم بن عمر، 6/247، نيل الأوطار شرح منتقى الأخيار، محمد بن علي الشوكاني – الطبعة الأخيرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.(2/1)
روى ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال له رسول لله - صلى الله عليه وسلم - (مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إذا شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء). متفق عليه(1).
روي عن عبد الله بن عمر قال: (كانت تحتي امرأة أحبها، وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك) (2).
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وفي حديث ابن عمر هذا (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق حفصة) دليل على أن الطلاق يجوز للزوج من دون كراهة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يفعل ما كان جائزاً من غير كراهة، ولا يعارض هذا حديث (أبغض الحلال إلى الله الخ) لأن كونه أبغض الحلال لا يستلزم أن يكون مكروهاً كراهة أصولية"(3). وعليه فالأدلة من السنة تدل على إباحة الطلاق لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - له، ولإشارته على ابن عمر به، ولفعل الصحابة الكرام له.
ج- دليل الإجماع:
__________
(1) انظر ابن قدامة، المغنى والشرح الكبير، 8/233. وانظر القرطبي، الجامع لاحكام القرآن، م3، 115. والحديث أخرجه البخاري في 68 كتاب الطلاق باب قول الله تعالى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء } حديث 2060. وأخرجه مسلم في 18 كتاب الطلاق، حديث 1 وما بعده طبعة محمد فؤاد عبد الباقي حديث 2179، والنسائي، في 27 كتاب الطلاق، باب وقت الطلاق للعدة التي أمر الله عز وجل أن تطلق النساء.
(2) رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي، انظر الشوكاني، محمد بن علي، نيل الأوطار شرح منتقى الأخيار 6/247.
(3) الشوكاني، نيل الأوطار، 6/248.(2/2)
…نقله ابن قدامة في المغني، قال: "وأجمع الناس على جواز الطلاق والعبرة دالة على جوازه فإنه ربما فسدت الحال بين الزوجين فيصير لإبقاء النكاح مفسدة محضة وضرر مجرد بإلزام الزوج النفقة والسكن وحبس المرأة مع سوء العشرة والخصومة الدائمة من غير فائدة فاقتضى ذلك شرع ما يزيل النكاح لتزول المفسدة الحاصلة منه"(1).
…وقال الدكتور عبد العزيز عامر: "إن الفقهاء على اتفاق بأن الطلاق مباح للرجل وأنه لا يكون إلا إذا وجدت حاجة إليه(2). وقال د. عبد الفتاح عمرو: "اتفق الفقهاء على أن طلاق المرأة طلقة واحدة في طهر لا وطء فيه وتركها حتى تمضي عدتها هو طلاق السنة، لأنه أقل ضرراً بالمرأة حيث لم تطل عليها العدة ولم يقل أحد من الفقهاء أنه مكروه إذا كان لحاجة(3).
…مما سبق نجزم بأن حكم الطلاق في الإسلام هو الإباحة بالمعنى المصطلح لثبوت تشريعه في الكتاب والسنة وقد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة الكرام، وأجمعوا على ذلك.
…وعليه فالقول إن الطلاق حرام أو مكروه لا وجه له في الشرع فهو من الشوائب وبذلك ينهار الأساس الأول الذي يبني عليه الشيخ محمد عبده تشريعه في الطلاق وهو العقل.
__________
(1) ابن قدامة، المغني والشرح الكبير، 8/233-234، طبعة دار الكتاب العربي.
(2) عامر، د. عبد العزيز، الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية فقهاً وقضاء (الزواج) 226 ط1، 1404هـ، 1984م. دار الفكر.
(3) عمرو، عبد الفتاح عايش، تطبيقات السياسة الشرعية في الأحوال الشخصية، 150، رسالة دكتوراة، الجامعة الأردنية، كلية الدراسات العليا، 1414هـ - 1993م. عن بداية المجتهد، 2/47، المبدع في شرح المقنع إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي، 7/251، رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، 2/419، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لمحمد بن أحمد الشربيني الخطيب، 3/280.(2/3)
…وأما النيل من حكم إباحة الطلاق ووسم من يفعلونه بالسفه، وقلة العقل، ونقص الأدب ونحو ذلك فهو من باب الشوائب لأنها تعارض مشروعية الطلاق الواضحة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وإجماع الصحابة الكرام.
2- عبارة حاشية ابن عابدين أن الأصل في الطلاق الحظر ليست في مشروعية الطلاق فهو مباح بالإجماع ورأي الأحناف أن إيقاع الطلاق مباح(1) واستدلوا بالأدلة السابقة من الكتاب وفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن لكبر السن ولا لريبة وكذلك الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم، فإن عمر طلق أم عاصم، وعبد الرحمن بن عوف طلق تماضر، والمغيرة بن شعبة كان له أربع نسوة فأقامهن بين يديه صفاً وقال أنتن حسان الأخلاق، ناعمات الأرداف، طويلات الأعناق، اذهبن فأنتن طلاق. وإن الحسن بن علي رضي الله عنهما استكثر من النكاح والطلاق بالكوفة حتى قال علي رضي الله عنه على المنبر: إن ابني هذا مزواجٌ مطلاق فلا تزوجوه، فقالوا إنا نزوجه ثم نزوجه)، ولأن هذا الطلاق إزالة الملك بطريقة الإسقاط فيكون مباحاً في الأصل كالإعتاق، وفيه كفران النعمة من وجه، ومعنى إزالة الرق من وجه، فالنكاح رق قال - صلى الله عليه وسلم -: (النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته وروي بم يرق كريمته). ولهذا صان الشرع القرابة القريبة من هذا الرق حيث حرم نكاح الأمهات والبنات والأخوات، وإلى هذا المعنى أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (وإن أبغض المباحات عند الله الطلاق). فقد نص على أنه مباح لما فيه من إزالة الرق ومبغض لما فيه من معنى كفران النعمة. ثم إن معنى النعمة إنما يتحقق عند موافقة الأخلاق، فأما عند عدم موافقة الأخلاق فاستدامة النكاح سبب لامتداد
__________
(1) انظر السرخسي، شمس الدين، المبسوط، م3، 6/2، ط2، دار المعرفة، بيروت، وهو رأي الأحناف والحنابلة والشافعية والمالكية، وانظر المغني لابن قدامة، والأم للشافعي، وشرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك.(2/4)
المنازعات. فكان الطلاق مشروعاً مباحاً للتفصي عن عهدة النكاح عند عدم موافقة الأخلاق(1).
…وعليه فهذا هو رأي الأحناف في مشروعية الطلاق، وحاشية ابن عابدين على المذهب الحنفي، ولكن العبارة تعني أن الطلاق عندهم بدون سبب الأصل فيه الحظر، وكلمة السبب كلمة مطاطة لأنها لا تعني أسباباً شرعية بل تعني أسباباً عند الزوج ولهذا برر الإمام السرخسي كثرة طلاق الحسن الذي وصل حدَّ المبالغة. وكذلك طلاق المغيرة لزوجاته الأربع، فالحظر عند الأحناف لا يعني الحظر الشرعي وهو الحرام، بل المنع المقابل للإباحة، والدليل ما سقناه من رأي الأحناف كما سطره يراع الإمام السرخسي.
3- قول الشيخ محمد عبده أنه لا يمكنه أن يفهم أن الطلاق يقع بكلمة لمجرد التلفظ بها مهما كانت صريحة... الخ. وفسر ذلك أن مراده أن اللفظ لا يجب الالتفات إليه في الأعمال الشرعية إلا من جهة كونه دليلاً على النية.
__________
(1) هذه الألفاظ لشمس الدين السرخسي في كتابه المبسوط، على المذهب الحنفي، م3، 6/2، 3، وعبارة السرخسي هذه تحمل رداً على من قال من الناس لا يباح الطلاق إلا عند الضرورة لحديث: لعن الله كل ذواق مطلاق، والحديث أيما امرأة اختلعت من زوجها من نشوز فعليها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولأن فيها كفران النعمة، فإن النكاح نعمة من الله تعالى على عباده وذكر آية { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا } سورة الروم آية 21 وآية { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ } سورة آل عمران آية 14 وكفران النعمة حرام وهو رفع النكاح المسنون فلا يحل إلا عند الضرورة وذلك إما لكبر السن لما روى أن سودة لما طعنت في السن طلقها رسول الله. وإما لريبة لحديث أن امرأتي لا ترد يد لامس فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - طلقها. فقال إني أحبها، فقال - صلى الله عليه وسلم - أمسكها إذن.(2/5)
…هذا قول مبني على العقل لا على الشرع فهو من الشوائب، وهو في غاية الخطورة حيث يفضي إلى التفلت من عقال العهود والمواثيق، والاتفاقيات والعقود كلها، بداع غير مرئي ولا يمكن الإطلاع عليه إلا من قبل رب العالمين حتى مع وجود الشهود يمكن الإنكار والتخلي عن العقود بحجة عدم القصد أو عدم النية.
…وقوله هذا يعارض ما جاء الوحي به صراحة بأن الطلاق يقع بمجرد اللفظ جاداً كان الزوج أم هازلاً، راضياً كان أم غاضباً. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث جُّدهُنَّ، وَهَزْلهُنَّ جدُّ: النكاح والطلاق والرجعة) رواه الخمسة إلا النسائي. وقال الترمذي حديث حسن غريب(1). وأخرجه الحاكم في مستدركه. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. ولم يخرجاه. وصححه الحافظ الذهبي(2).
…والطلاق من المعاملات وليس من العبادات. والعبرة في المعاملات بالألفاظ والمباني ولكن العبادات العبرة فيها بالقصد والنية. والشيخ محمد عبده يخلط بين العبادة والمعاملة لحاجة في نفسه وهو خطأ محض، وعليه ينهار هذا الأساس الثاني الذي بنى الشيخ محمد عبده عليه تشريعه في الطلاق وهو عدم الالتزام بالألفاظ في إيقاع الطلاق.
__________
(1) انظر الشوكاني، محمد علي، نيل الأوطار، 1/264، باب ما جاء في كلام الهازل والمكره والسكران بالطلاق وغيره.
(2) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، كتاب الطلاق، 2/198، وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي، دار الكتاب العربي – بيروت.(2/6)
4- أما تقنينه القوانين في الدستور المصري لتقييد وقوع الطلاق فيها: شرط إحضار الشهود، وأن لا يكون الطلاق إلا بحضرة القاضي، وتأجيل الزوج اسبوعاً أو أكثر، ثم إجبار الزوج على التحكيم قبل الطلاق كل ذلك مما يشكل الأساس الثالث الذي بنى عليه الشيخ محمد عبده تشريعه في الطلاق، والطلاق في الإسلام تشريع سماوي فيتوقف فيه عند الشروط التي حددها الشرع في النصوص. والاستشهاد شرط في صحة الزواج، ومندوب في الوصية، وفرض في إثبات اقتراف الحدود، وفي إقامتها لورود الأدلة على ذلك. أما الطلاق فلم يرد فيه دليل. فلا يلتمس من العقل بحجة مصلحة الناس، ومس الحاجة والضرر وما شابه ذلك لأن القضية بحث في تشريع سماوي. والشروط أحكام شرعية فلا تثبت إلا بدليل شرعي. وعليه فلا قيمة شرعاً للمواد التي صاغها الشيخ محمد عبده في كتاب تحرير المرأة لمنع أو لعرقلة وقوع الطلاق إلا في أقصى حالاته. لأن في هذا تضييقاً في أمر وسعه الله على العباد. ولأنه سلب الزوج حقه في الطلاق، أو يشرك معه غيره في هذا الحق، فضلاً عن تعطيل مصالحه وما يفضي إليه من السلوك الخاطئ وربما الشاذ. وهو في الوقت نفسه تعد صريح على شرع الله وحكمه واضح لا لبس فيه (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (1) ومن يجل النظر في المواد التي سنها يجد أنه اشترط: شاهدين وموافقة القاضي والتحكيم، والتسويف وبموازنة بسيطة بما كان الطلاق عليه في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام ونصوص الكتاب والسنة يجد أنها تشريع جديد في موضوع الطلاق. والتشريع السماوي محصور في أن يقع الطلاق في طهر لا مساس فيه. ومع هذا الابتداع الذي جاء به الشيخ محمد عبده فهو غير راض حتى تكون العصمة بيد
__________
(1) حديث متواتر روته عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاري في صحيحه برقم 2697 كتاب الصلح. وفي كتاب الاعتصام بلفظ آخر، ورواه مسلم كذلك، انظر فتح الباري 5/301 كتاب الصلح، 13/317 كتاب الاعتصام.(2/7)
المرأة أو بيد الاثنين معا. وهذا يدلنا على بعد الغاية من وراء تقنين المواد السالفة الذكر بشأن الطلاق.
…ونظرة إلى مشروع الشيخ محمد عبده المقدم إلى مجلس الشعب المصري بصفته الهيئة التشريعية باسم قوانين الأحوال الشخصية(1) عن طريق وزارة الشؤون الاجتماعية لتعديل القانون القائم نجد أنه أسس الاقتراح على ركائز أساسية ثلاث هي:
منع الطلاق بالإرادة المنفردة وجعله أمام القاضي.
منع تعدد الزوجات، وقصره على الحالات التي يراها القاضي.
النفقة. (2)
__________
(1) مصطلح جديد لم يعرفه المسلمون من قبل استعمل لأول مرة في أوروبا الوسطى ولم يدخل للمسلمين إلا في نهاية القرن الماضي بعد ضغط الكافر المستعمر على الخلافة العثمانية في أواخر عهدها وكانت غاية في الضعف وألف محمد قدري باشا كتابه الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية وخطورته تكمن في استعمال مصطلحات التراث الغربي في الفقه الإسلامي، ومن ثم قصر الإسلام على الزواج والطلاق والوصية والإرث إلى جانب بعض العبادات. انظر تحقيق استعمال هذا المصطلح 11، الأحوال الشخصية إعداد د. محمود السرطاوي وشركاه خمسة، وزارة الأوقاف الأردنية 1411هـ - 1990م.
(2) وهبة، د. توفيق علي، شبهات وانحرافات في التفكير الإسلامي المعاصر، 102، ط2، 1398هـ - 1978م القاهرة.(2/8)
…ومن العوائق التي وضعت أمام الطلاق: فرض رسوم على الطلاق، وإرهاق الزوج بالتسويف، والمراجعات وإحضار الشهود لإثبات دواعي الطلاق، والفتاوى الواسعة التي تصدر من القاضي بعدم إيقاع الطلاق مع أنها صريحة اللفظ مما يفضي إلى أن ينام كثير من الرجال مع نسائهم بالحرام، وينجبون أطفالاً غير شرعيين لأن الزوجة تستحق الطلاق البائن بينونة كبرى لتجاوز عدد الطلقات الثلاث وربما العشرة من غير أن تنكح زوجاً غيره، وإذا رغبنا في معرفة حالات تعسير الطلاق فلننظر إلى الحياة الغربية وما آلت إليه. ولنقارنه بالمجتمع الإسلامي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين. ومن الجدير بالذكر أن المجتمعات الأوروبية التي شنت حملة شعواء على تشريع الطلاق في الإسلام، قامت بعضها تنادي به لحل مشاكل الزوجية عندها على أساسه. ولا غرو في ذلك لأن الإسلام ينظر إلى المشاكل على أنها مشاكل تقع من الإنسان أو عليه بغض النظر عن البيئة. ولذلك لم تكن المرأة مشكلة عبر قرون طويلة وفي ظني أن المرأة شعار تستر به من زعموا الإصلاح في القرن العشرين لهجر الإسلام تحته والدليل على ذلك قول قاسم أمين في كتاب المرأة الجديدة: "والذي أراه أن تمسكنا بالماضي إلى هذا الحد هو من الأهواء التي يجب أن ننهض جميعاً لمحاربتها لأنه ميل يجرنا إلى التدني والتقهقر. ولا يوجد سبب في بقاء هذا الميل في نفوسنا إلا شعورنا بأننا ضعفاء عاجزون عن إنشاء حال خاصة بنا تليق بزماننا ويمكن أن تستقيم بها مصالحنا فهو صورة من صور الاتكال على الغير"(1).
__________
(1) أمين، قاسم، المرأة الجديدة، 184-185، مصدر سابق.(2/9)
5- حصر الشيخ محمد عبده الطلاق بأنه لا يقع إلا على ذوات الحيض. وأما اليائسة والتي لم تحض فقد استثناها من النص. وهذه شوائب تعارض نصوص القرآن الكريم مع علمه بها. فترد وواضح في استثنائه الهوى. فقد قال الله تبارك وتعالى { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } (1). فعدة الطلاق للحيض ثلاثة قروء، واللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر، وأولات الأحمال عدتهن أن يضعن حملهن. هذا هو تشريع الله. وجاء محمد عبده بتشريع يغايره فهو من الشوائب.
الطلاق في التفسير الواضح:
__________
(1) سورة الطلاق، آية 4.(2/10)
…قال د. محمد محمود حجازي: "الطلاق جعل سلاحاً في يد الزوج، ولكن يجب أن يستعمل في أضيق حدوده. ولا يشرع إلا إذا كان لا بد منه. فهو كما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق). وروي عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ولا تطلقوا النساء إلا من ريبة (أي بسببها). فإن الله عز وجل لا يحب الذواقين ولا الذواقات). وعن أنس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق). هذا الطلاق المبغوض عند الله يجب أن لا يوقعه الزوج في حالة يزداد بها ضرر المرأة. ولذا قال الفقهاء الطلاق نوعان سني وبدعي) (1). وعبارة د. محمد حجازي تفيد التحريم لأنه استعمل لفظ الوجوب السلبي. ورأيه يصب في دائرة الرأي الذي ذهب إليه إمام المدرسة العقلية الحديثة. حيث قرر أن مشروعية الطلاق وتعدد الزوجات لم يطلبا في الإسلام ولم يحمدا فيه وإنما أجيزا لأنهما من ضرورات الاجتماع"(2).
الطلاق في التفسير القرآني للقرآن:
…قال: "إن الشريعة الإسلامية لم تفرض الطلاق فرضاً، ولم تجعله واجباً يؤديه الرجال ابتغاء المثوبة والرضوان.. بل هو في شريعة الإسلام أمر كريه مبغض، ولم يجئه المرء إلا مكرهاً، ولا يلجأ إليه إلا مضطراً.. وحسبه شناعة وضلالاً أن يقول فيه النبي الكريم (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (3).
__________
(1) حجازي، د. محمد محمود، التفسير الواضح، م3، 28/55، ط4، مطبعة الاستقلال الكبرى، القاهرة، 1388هـ، 1968م.
(2) رضا، محمد رشيد، نداء الجنس اللطيف (حقوق النساء في الإسلام) 53، ط2، دار الجيل، بيروت.
(3) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م1، 2/263.(2/11)
…وقال: "إن الطلاق شر ولكن شر لا بد منه، إذ يدفع به ما هو أكثر منه شرا(1).. وهكذا ينظر الإسلام إلى الطلاق أنه مكروه، ولكنه مع كراهيته قد يركبه المرء مضطراً ليسلم، ولو بفقد عضو عزيز عليه من أعضائه(2). وقال: يقول نبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) – مع أنه رخصة – بغيض كريه، لا يقدم عليه المرء إلا مضطراً، ولا يتناوله إلا مكرهاً، شأنه في هذا شأن المحرمات التي أباحتها الشريعة في أحوال الاضطرار، كالخمر، والميتة، والدم، ولحم الخنزير، وغير ذلك مما تتقذره النفس وتعافه فإنه عند المخمصة، وتعرض الإنسان للهلاك، قد أبيح أكلها، والأخذ منها بالقدر الذي يحفظ الحياة، ويدفع التلف والله سبحانه وتعالى يقول: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (3) (4).
تفنيد مزاعم د. الخطيب:
قوله إن الإسلام لم يفرض الطلاق ولم يجعله واجباً قول حق لأن حكمه أنه مباح كما دلت عليه الأدلة الشرعية.
قوله أنه كريه لفظ مشكل لأنه يتردد بين كراهة النفس والطبع، والكراهة الشرعية في عرف الأصوليين ومع ذلك لم يستعمله لأي منها بل استعمله بمعنى الحرام أي أن حكم الطلاق أنه محرم. وهذا يغاير الاستعمال الشرعي للمصطلحات ولا يجوز لأنه يفضي إلى خلخلة لغة الخطاب. فهو من الشوائب.
__________
(1) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م1، 2/265.
(2) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م1، 2/266.
(3) سورة البقرة، آية 173.
(4) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م1، 2/266.(2/12)
جعل حكم الطلاق كحكم الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير وهذا يقلب مفاهيم الإسلام رأساً على عقب، وهو قول بلا دليل فيرد. ومن ينظر إلى أقوال د. الخطيب لا يجد بينها وبين نصوص الشرع نسباً ولا صهراً، بل هي خواطر في نفس الرجل يريد أن يلبسها ثوب الشرعية. ولا تسعفه اللغة ولا المعاني الشرعية، فهي شوائب لا تمت للتفسير بصلة. فالطلاق ليس رخصة وليس محرماً وليس مكروهاً بالمعنى الشرعي بل هو مباح لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعله وأمر ابن عمر أن يفعله وللنصوص من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة عليه.
…ولا يخفى على ذي لب أن حظر الطلاق، وتضييقه، أو تقييده بقيود من عند البشر يفضي إلى ما عليه الغرب من الفسق والفجور واتخاذ الخليلات والأخدان، وتفشي الزنا. ولعمر الحق إن المزواج المطلاق المقيد بشرع الله خير من الزناة الذين يفترشون ما لا يحصى من النساء لمجرد الشبق، ويحرمون من النسل أو يخلفون المشردين من أبناء الزنا. نعم إن الطلاق على ثقل هذا اللفظ على سمع منكريه خير وألف خير على الأمة الإسلامية في الدنيا من تضييقه وتقييده لتوجه الناس لعلاج الغرب في حل مشاكل الزوجية والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل.
الطلاق في التفسير الحديث:
…لقد سوغ الشيخ محمد عزت دروزة للحكام أن يتدخلوا في تنظيم أمر الطلاق والزواج وظروفها وحقوقها حتى لا يظل الأمر فوضى ومحلاً لسوء الاستعمال والأخطاء والبغي والأذى وانهيار الحياة الزوجية(1).
…ولا يخفى على القارئ الكريم أنه بقيله هذا لا جديد فيه عما جاء به المؤسسون في هذه القضية. وقد برزت الشوائب لأنها بعيدة عن منطوق ومفهوم النصوص وبعيدة عن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمره ابن عمر ليفعله إطاعة لوالده، ولفعل الصحابة له.
الطلاق التعسفي:
__________
(1) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 7/354.(2/13)
…ابتدأ التفكير في هذه الشائبة في التشريعات الوضعية الجديدة في مسائل الطلاق في قانون الأحوال الشخصية منذ أن بدأ سن القوانين في مصر عندما كان الشيخ محمد عبده قاضياً في المحاكم الأهلية، وبدأ وضع العراقيل أمام الطلاق، ومنها المهر المؤجل المرتفع، ومنها ما سمي بالطلاق التعسفي وجعلوا له مستنداً مما يعرف بالسياسة الشرعية. وهذا الحكم مغاير للكتاب والسنة والإجماع. قال د. عبد الفتاح عايش عمرو: "التعويض عن الطلاق التعسفي: هذه المسألة لم ترد على ألسنة الفقهاء الأقدمين بهذا النص بمعنى أنهم لم يرتبوا على الطلاق تعويضاً مالياً يعطي للزوجة، إضافة لحقوقها التي رتبها الشارع من نفقة وعدةٍ ومهرٍ"(1).
وقال: "أما أن يقول أحد منهم بأنه يجب على الزوج المطلق أن يدفع لزوجته مبلغاً من المال، تعويضاً لها على ما أصابها من ضرر نتيجة الطلاق، فهذا ما لم يرد بشأنه نص خاص من أي فقيه من فقهاء الشريعة الأقدمين"(2). وقال: "إن المقصود بالتعويض في هذه المسألة، هو إلزام الزوج المطلق بدفع مبلغ من المال تعويضاً عن الضرر اللاحق بالآخرين، نتيجة استعماله لحقه المشروع لغاية غير مشروعة أو مناقضة لحكم الشارع"(3).
__________
(1) د. عمرو، عبد الفتاح عايش، تطبيقات السياسة الشرعية في الأحوال الشخصية، ص 187.
(2) د. عمرو، عبد الفتاح عايش، تطبيقات السياسة الشرعية في الأحوال الشخصية، ص 187. رسالة دكتوراه، الجامعة الأردنية.
(3) المصدر السابق، ص 188، وانظر نظرية التعسف في استعمال الحق – الدريني، محمد فتحي، ص87، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت، حيث عرفها: (مناقضة قصد الشارع في تصرف مأذون فيه شرعاً بحسب الأصل). وعرفه غيرهما: (استعمال الإنسان لحقه على وجه غير مشروع). المصدر السابق نفسه.(2/14)
…ثم تحدث د. عبد الفتاح عن الطلاق بغير سبب ولغير حاجة بأنه سيفضى إلى حرمان الزوجة من نعمة النكاح، ويكسر قلبها بالفراق، إضافة إلى عدم رغبة الأزواج بها، وربما اتهامها بأنها ما طلقت إلا لريبة أو تهمة فعندئذ يتحقق الضرر من الطلاق التعسفي، وهو واجب الإزالة. وقد تعذر إزالة عين الضرر فيجب إزالة آثاره بالتعويض"(1). وبعد أن تحدث عن حكم ودليل تعويض الضرر
__________
(1) د. عمرو، عبد الفتاح عايش، تطبيقات السياسة الشرعية في الأحوال الشخصية، ص 190.(2/15)
قال: "من هنا أستطع القول إن الطلاق حق مشروع، واستعماله لغير حاجة مذموم شرعاً، وفاعله آثم، والآثم يستحق العقوبة ليس في الآخرة فقط، بل وحتى في الدنيا بأمر الحاكم، فإذا طلق الزوج زوجته بدون سبب مشروع مخالفاً بذلك حكم الشارع، ومرتكباً للإثم، فإنه يستحق إلزامه التعويض نتيجة لهذا الطلاق التعسفي"(1) وقرر بعد ذلك أن مدار التعسف على التصرف بالإرادة المنفردة بالطلاق، سواء بإرادة الزوج أم بإرادة الزوجة المفوضة بالطلاق"(2). وقال: بأن من يطلق زوجته بدون سبب شرعي أو لغير حاجة تدعوه لذلك، أو لعدم سبب معقول فإنه يقصد الإضرار بالزوجة أو بأهلها(3). وكرر السبب المقبول والسبب المعقول، ثم قال: "والذي أراه في هذه المسألة من باب السياسة الشرعية: أن التعويض عن الطلاق التعسفي يرتبط بنظرية التعسف في استعمال الحق، وهو تعويض مالي فيه معنى العقوبة على أمر محظور شرعاً بحسب الأصل، عند من يرى ذلك من الفقهاء. والعقوبة إنما وضعت للزجر والردع لأن الشارع لا يريد هذه المعصية فوضع لها عقوبة مناسبة وملائمة، فإذا رؤي ترجيح مذهب من يقول إن الطلاق محظور شرعاً، يكون إيقاعه دون سبب شرعي معصية لأمر الشارع، والتعويض المفروض في هذه الحالة فيه معنى العقوبة حتى لا يقدم المسلم على تلك المعصية، لأنه إذا علم أن الحاكم سيفرض عليه مبلغاً من المال يعطى لمن أضر به إذا أوقع الطلاق متعسفاً، امتنع عن التسرع في ذلك واحتاط حتى لا يتعمد الإضرار بالغير، وفي هذا مصلحة له ببقاء نكاحه، وحفظ ماله الذي أنفقه في الزواج، واجتماع شمله بأسرته وأولاده، وفيه أيضاً مصلحة للأسرة والمجتمع ببقائه متماسكاً تظله المودة لأن الطلاق يورث البغضاء والعداوة بين الأسر والأهل ولا شك أن تحقيق المصلحة للفرد والجماعة مما يجب على الحاكم مراعاته شرعاً، فيكون الحكم بالتعويض عن الطلاق
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر السابق، ص 191.
(3) المصدر السابق، ص 195.(2/16)
التعسفي عند القائلين به مستنداً للمصلحة في هذه الحالة وهي من السياسة الشرعية"(1).
…ثم قرر قاعدة مآلات الأفعال بالنظر إلى آثار فرض الحاكم للتعويض عن الطلاق التعسفي وعد ذلك أنه مقصود شرعاً، وأنه أصل من أصول السياسة الشرعية(2).
تفنيد مشروعية التعويض في الطلاق التعسفي:
1- لم يقم التعويض عقوبة للطلاق على الطريقة الشرعية في الاجتهاد، وهي استنباط الحكم الشرعي من الدليل التفصيلي. وقد اعترف د. عبد الفتاح عمرو بأن فقهاء المسلمين عبر القرون لم ترد على ألسنتهم هذه العقوبة. واعترف كذلك أن الكتاب والسنة والإجماع أباحت الطلاق وواقع الطلاق وآثاره السلبية والإيجابية كانت مدركة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن الصحابة الكرام، وعليه فلا يعقل أن يستطيع مخلوق أن يستنبط حكم هذه العقوبة من الأدلة الشرعية وعليه فالحكم استنبط من غير الأدلة الشرعية، فلا يكون شرعياً.
2- تعريف نظرية التعسف، وإن كان كل تعريف يختلف عن الآخر وبغض النظر عن خطئها أو صوابها – فإنها لا تنطبق على الطلاق إلا بالمغالطة والأدلة المنطقية التي تعتمد على التضليل في القضايا والمقدمات. ولنقتصر على تعريف د. عبد الفتاح باعتباره من أواخر الباحثين فنقول إن الغاية غير المشروعة ينبغي أن يرد عليها دليل يحظرها، ويقر بعدم شرعيتها فهلا ورد دليل من الوحي يذكر حالة واحدة غير مشروعة للطلاق.
__________
(1) د. عمرو، عبد الفتاح عايش، تطبيقات السياسة الشرعية في الأحوال الشخصية، ص 196.
(2) المصدر السابق نفسه.(2/17)
3- إن السياسة الشرعية مصطلح أطلقه الفقهاء ويقصدون منه معنى أصولياً تبنى عليه الأحكام فيما لا نص فيه من الشارع، وأنها خطة تشريعية يستخدمها ولي الأمر لتدبير شؤون الأمة بما يصلحها، وأنها منضبطة لا تخضع لهوى البشر أو رغباتهم الشخصية(1). والطلاق وأحكامه ورد في نصوص كثيرة فصلته تفصيلاً وعليه فلا تصلح السياسة الشرعية أن تطبق على حكم الطلاق. وليس للحاكم أن يضيف تشريعاً يفرض عقوبة على من يوقع الطلاق ما دامت النصوص موجودة والأحكام العقلية التي لا تستند إلى الشرع تعد شوائب.
__________
(1) د. عمرو، عبد الفتاح عايش، تطبيقات السياسة الشرعية في الأحوال الشخصية، ص 18.(2/18)
4- إن موضوع الضرر والمصالح مقيد بالنصوص، وليس بالضرر العقلي والمصالح العقلية، لأن الأخيرة قد تكون مصلحة لإنسان ومضرة لقبيله، أو العكس- وحيثما يكون الشرع فثمة المصلحة. والشارع شرع الطلاق وأباحه دون تعليل، ودون بيان الأسباب والله أعلم حيث تكون المصلحة في تشريعه سواء أدركها البشر، أم اختلفوا في تحديدها. ولا يتصيد أضرار لشرع الله كما لا يقتنص مصالح لما حرم الله، فالمسلم التقي الواعي هو الذي يكون عبداً لله فيطيعه وينفذ أوامره دون أن يشاركه في التشريع فيصير أمره كالأحبار والرهبان مع أقوامهم. وأما ما يعده البعض أضراراً فلا قيمة لها شرعاً لأن الشارع شرع الطلاق وهو خبير بعباده وبمآلات تشريعه والله يغني كلاً من سعته. وأما العداوة والبغضاء في الطلاق بين الأسر فمنشؤها الجهل بالأحكام الشرعية، وقلة التربية الدينية، وعدم أطر النفس على الحق أطرأ. فالشارع الذي جعل في الزواج مصلحة للعباد كمل هذه المصالح بإيقاع الطلاق بإرادة الزوج المنفردة. لقد كان الحسن رضي الله عنه مزواجاً مطلاقاً في عهد والده الخليفة. ولم يملك الخليفة أكثر من خطبة يحذر الناس منه مع أنه والده وولي أمر المسلمين كافة وقتئذ. وما كان من الناس إلا أن أصروا على تزويجه ومخالفة نصيحة الخليفة. وهذا المغيرة بن شعبة الصحابي يعترف بفضل نسائه الأربع وبجمالهن ويطلقهن دفعة واحدة كما سبقت الإشارة في فقه الأحناف عند الإمام السرخسي في المبسوط. ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، ولا فقهاء الأحناف، وقالوا لا بد أن يكون للحسن وللمغيرة حاجة في الطلاق. وهذا إحسان للظن بالمسلمين، وهو أمر مشروع كذلك لا سيما أن الشرع لم يحدد الحاجة ولم يصفها وصفاً لا منضبطاً ولا غير منضبط فيبقى الحكم على حاله والمصلحة تكون فيه. وعليه فلا تصلح المصلحة أو رفع الضرر أن يكون مستنداً لتشريع عقوبة الطلاق. ولا يجوز أن ندعي أنها مقصودة شرعاً.(2/19)
5- لقد ورد في الأحاديث أن الله لا يحب الذواقين والذواقات، ومع ذلك لم يشرع عقوبة لذلك، فهو يكون بمنزلة بغض الله لهذا الحلال المباح. ولا يجوز للبشر أن يوقعوا عقوبة على فعل شرعه الله وأباحه وقد أعرض الشرع عن عقوبته.
6- إن قضية الأسباب والحاجات من الطلاق الواردة في الكلام والأسباب المعقولة والمقبولة، هذه الأمور لا بد من ورود دليل شرعي عليها لأن صعيد البحث هو معرفة الحكم الشرعي لا الحكم العقلي. فالقرآن والسنة على شمولها وكمالها لم يذكرا لنا سبباً واحداً للطلاق. وعليه فلا يحق لمسلم أن يضيف أسباباً ويضع قيوداً على الطلاق من عند نفسه. والشرع جاء منضبطاً ومحدداً وأما الأسباب المعقولة والمقبولة فلا ضابط لها، ولا حدود تحدها، وهي تختلف حسب الناس، وتتعارض من إنسان لآخر في مستنقع الاختلاف والأهواء فلا تصلح للاعتماد عليها.
7- إن الطلاق مشروع في الإسلام بإرادة منفردة، بخلاف الزواج فإنه مشروع على إرادة مزدوجة فيها ارتباط إيجاب بقبول مع وجود ولي وشاهدين. حتى إن تنازل الزوج عن حقه في الطلاق لزوجته فإنه يكون بإرادة منفردة منها. ولا قيمة لإرادته لأنه ملك الطلاق لزوجته. هذا هو تشريع الله تبارك وتعالى. ولا يجوز لمسلم عاقل أن يصف تشريع الله بالتعسف. وليس كل إرادة منفردة تعسفاً، والتعسف يأتي بالإرادة المنفردة فيما يتوقف على إرادتين مثل الزواج. فلو أوقع العقد من الزوج وحده، أو من الزوجة وحدها فإنه يعد تعسفاً ولا يجوز شرعاً. لأن التعسف في اللغة هو التخبط على غير هداية(1). وتعد هذه العقود باطلة ويعاقب الشرع عليها. وأما الطلاق فهو إرادة منفردة يقع من مَنْ بيده عقدة النكاح وبدون شهود وهو الرجل. وعليه فمن الشوائب الآثمة فرض عقوبة على أمر شرعي جعله الشارع يقع بإرادة منفردة.
__________
(1) الزمخشري، عمر محمود، الأساس، انظر مادة عسف، ص 420، طبعة دار صادر.(2/20)
8- إن الطلاق حق مشروع للزوج حسب النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة - وهو مباح. وفرض عقوبة بشرية على مزاولة هذا المباح يناقض المشروعية. والإذن الشرعي ينافي الجزاء والعقوبة. فكيف يعطي الشرع حقاً لإنسان ما ونحاسبه نحن البشر على هذا الحق ؟! ولا يقال إنه لغاية غير مشروعة، لأن الذي يملك تحديد الغايات المشروعة والمنافية للشرع هو الشرع نفسه لا البشر. والعقوبات إنما وضعت للزجر والردع والمعاصي. والطلاق مباح بالإجماع وليس معصية فلا يجوز وضع عقوبة عليه.
9- إن القول - أن من يوقع الطلاق لغير حاجة مذموم شرعاً، وفاعله آثم، والآثم يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة وهذا يعد مسِّوغاً لفرض عقوبة مالية على الطلاق - هذا قول منطقي اعتمد على المغالطة، فالمقدمة الأولى خاطئة لأنه لم يرد دليل شرعي على أن الطلاق مذموم شرعاً. والأدلة من الكتاب والسنة والإجماع وفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلها تنفي الذم الشرعي. فالاستنتاج السابق معارض للنصوص الشرعية فلا يعتد به وهو من الشوائب. والتعويض على الطلاق تشريع بغير ما أنزل الله.
…مما سبق نرى أن هذا التشريع الوضعي لا مستند له من الشرع، وإن حاول أهله أن يضفوا عليه صبغة شرعية لمواءمة القوانين المعمول بها في الأردن أو في مصر أو فيما سواهما وهو من الشوائب التي فرضت على المسلمين في
القرن الرابع عشر الهجري.(2/21)
الفصل الخامس شوائب التفسيرفي قضايا مختلفة
المبحث الأول: الشوائب في علوم القرآن.
المبحث الثاني: الشوائب في العقوبات.
المبحث الثالث: الشوائب في الفنون.
المبحث الرابع: الشوائب في مفهوم وحدة المسلمين وفي نظام الحكم في الإسلام.
المبحث الأول
شوائب التفسير في علوم القرآن
…لقد امتلأت جنبات التفسير في هذا القرن بمسائل وقضايا في علوم أخرجت عن معاني مصطلحاتها، فأصبحت مصطلحات خاوية من معانيها، أو مؤوّلة تأويلاً يحرفها عن مدلولاتها، وقد نفى بعضهم الدلالات فانفصلت المعاني عن المصطلحات، أو ألبست المصطلحات معاني جديدة غريبة عنها، دسوها تحت أساليب متعددة. بل ربما قرروا عقيدة المسلمين في المسألة مجاراة في بداية الحديث ثم يلتفون عليها بأساليب ملتوية فيقلبون المعاني رأساً على عقب. وترى القراء مختلفين حيالهم فمنهم المؤيد لهم، ومنهم المعارض، ومنهم سُعاة التوفيق فيبرر حينا، ويرفض أحيانا، ويؤيد في الغالب. وكأن المسائل خلافية، والعلوم التي نتناولها في هذا المبحث مضافة للقرآن وليس لعقول الناس. فالأمر الطبيعي أن تكون مستندة لهذا القرآن لا تخرج عنه قيد أنملة، فلا بد أن تعلم منابع الأقوال، وأن تحاكم المسائل وأدلتها محاكمة شديدة حتى يحافظ على ملازمة المعاني للمصطلحات فنتقرب إلى الله بالطاعات لا بالمعاصي، وإليك بعض الشوائب في هذا المجال في القرن الرابع عشر الهجري (العشرين للميلاد).
1- تعريف القرآن الكريم د. عبد الكريم الخطيب:(2/22)
…قال د. عبد الكريم الخطيب: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كان يوحى إليه بآيات الله يسمع ما يوحى إليه لفظاً من جبريل، ومعنى من الله سبحانه وتعالى.. وعلى هذا المعنى يكون الضمير (نا) في قوله تعالى { قَرَأْنَاهُ } (1). عائداً إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى جبريل، أي أن الحق سبحانه وتعالى يقول للنبي: إذا قرأت القرآن عليك بمعناه، وقرأه جبريل عليك بألفاظه فلا تعجل بتحريك لسانك، بترجمة هذه المعاني إلى ألفاظ، بل تمهل وخذ الألفاظ التي يلقيها عليك جبريل، حتى تتحقق الصورة كاملة، للمطابقة بين اللفظ والمعنى. وعلى هذا المعنى يكون قوله تعالى { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } (2). أي اتبع قراءة رسول الوحي جبريل وقف عند حدود الألفاظ التي يلقيها إليك، ولا تنازعه بما يسبقه إليه خاطرك من كلمات تريد أن تمسك بها من هذه المعاني التي قذفها الله سبحانه وتعالى في قلبك، قبل أن تفلت منك. وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه لا نظن أحداً من المفسرين قد التفت إليه على كثرة ما توارد على هذه الآية من مختلف الآراء. فنرجو أن يكون هذا الرأي أقرب إلى الحق، وأدنى إلى الصواب"(3).
__________
(1) سورة القيامة، آية 18.
(2) سورة القيامة، آية 18.
(3) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م15، 29/1324، تفسير سورة القيامة، الآيات 16-18.(2/23)
…وقال عند تفسير قوله تعالى { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا } (1): "إشارة إلى أن هذا الوحي الذي تلقى به النبي صلوات الله وسلامه عليه هذه الأحرف لم يكن عن طريق الملك الذي اعتاد أن يلقاه، فيتلقى منه ما أذن الله بوحيه إليه من آياته وكلماته، وإنما كان كلاماً من ربه"(2). وقال: "وهذا يشمل القرآن كله عدا تلك الحروف المقطعة"(3).
__________
(1) سورة الشورى، آية 51.
(2) التفسير القرآني للقرآن، م13، 25/17 وانظر ص 89-98 حيث عقد عنواناً بين معكوفتين ]مفهوم جديد للحروف في أوائل السور[ حيث يؤكد المفهوم نفسه من الوحي الرمزي للحروف المقطعة وأنها كانت مباشرة من الله دون وساطة مَلَك.
(3) المصدر السابق، م3، 25/20.(2/24)
…اقرأ في كلام الخطيب هذا أنه يخط خياله وشطحاته وما يجول في خاطره ويريد أن يكسوه ثوب التفسير لأن الوحي قضية غيبية لا يتأتى لمخلوق الوقوف عليها من غير نصوص الوحي القطعية ثبوتاً ودلالة. وما قاله لا تسعفه اللغة على الإطلاق. هذا الذي يرى الخطيب أنه حاز به قصب السبق مما لم يلتفت إليه المفسرون كافة. فالتفريق في الوحي بين اللفظ والمعنى. وتقسيمه بين الذات العلية وجبريل محض خيال. والمدهش العجيب أن يستثني الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور في القرآن ويجعلها من الله تعالى وليس من جبريل. وهذه كلها شوائب لا ترقى لدرجة الشبهة. فالضمير في الآية { قَرَأْنَاهُ } يعود للذات العلية. وليس لجبريل عليه السلام غير النقل وهذا ما أجمع عليه المفسرون بأن القرآن لفظاً ومعنى من الله تعالى ولاحظ لجبريل عليه السلام غير النقل والتبليغ عن الذات العلية إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } (1) وقال { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } (2). وقال تعالى { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } (3)، فأسندت الآيات صراحة تلقى القرآن من لدن حكيم عليم، وأسند الكتاب إلى الرب وليس لجبريل، والقرآن كله وليس بعضه. فأي دعوى أن القرآن من غير الله باطلة لا أساس لها. والتفريق في الوحي بين القرآن وبين فواتح السور أشد بطلاناً وهو ادعاء بالهوى والتشهي فهي شوائب لا تمت للتفسير بسبب ولا بنسب.
2- شوائب التفسير في فواتح السور:
__________
(1) سورة النمل، آية 6.
(2) سورة الكهف، من الآية 27.
(3) سورة يوسف، آية 3.(2/25)
…يرى د. علي نصوح الطاهر أن الأحرف في فواتح السور مما استأثر الله بعلمه، أو أنها حساب الجمل (حساب يهود في علم التنجيم) (1). كما يرى أن كل حرف يدل على اسم من أسماء الله، أو على صفة من صفاته تعالى، أو على علم بعينه، أو على صفة تدل على ذات.
…ويرى طنطاوي جوهري في تفسير فاتحة سورة القصص: { طسم } الطاء: إشارة إلى طائفة، والسين إشارة لذل الطائفة واستعبادها. وهذه السين مذكورة في (يستضعف، ويستحيي وفي المفسدين) فالسين في الكلمتين الأوليين مذكورة في الإذلال. وفي الآخرة لتوجيه الفكر إلى صفة الظالمين وهو الإفساد. ولما كانت هذه الطوائف الضعيفة لا بد من نصرها كثر ذكر الميم في هذه المعاني إذ قال { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ } (2). الخ فالميم في طسم تشير إلى جعلهم أئمة لأن الميم جاءت في الكلمتين، وفي جعلهم الوارثين وفي نمكنّ لهم في الأرض. إذن { طسم } في هذه السورة فيها ملخص السورة) (3).
…وقال في تفسير سورة الشعراء: { طسم } و { كهيعص } كاف زكريا، وهاء هزي، وياء يحيى، وعين عيسى، وصاد صديقا، وطاء لأقطعن وأطمع، وميم الرحيم) (4).
__________
(1) انظر أوائل السور في القرآن الكريم، الطاهر، علي نصوح، ص 17-18 وما بعدهما، القاهرة، 1406هـ - 1986م.
(2) سورة القصص، آية 5، 6.
(3) جوهري، طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن، م7، 14/87، وانظر م13، 26/118-130 من أسرار الم وتضمن العلوم التي تركها المسلمون في عصرنا كعلم التشريح وكعلم النبات وكعلم السفن والطرق والبحرية وكعلم الأجنة وغيرها كثير.
(4) المصدر السابق، م7، 13/4.(2/26)
…ولا يحتاج هذا المسمى تفسيراً منا تعليقاً ولا تعقيباً أكثر من القول إنه لا مستند له لا من اللغة ولا من الشرع ومعارض لقوله تعالى { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } (1). وفيه فتح الباب للشر لا يعلم مداه إلا الله تعالى فهي شوائب محضة لا تمت للتفسير بسبب ولا نسب.
…وقال د. عبد الكريم الخطيب: إن بعض السور بدئ بحرف، وبعضها بحرفين، وبعضها بثلاثة أحرف، وبعضها بأربعة أحرف، وهذه بخمسة أحرف (حم عسق). وقال: وعلى هذا يمكن أن ينظر إلى هذه الحروف المقطعة على أنها أفعال، أو أسماء، ذات دلالات خاصة، يعرفها النبي، ويرى في أضوائها ما لا يراه غيره. وقد يشاركه في هذه الرؤية بعض المؤمنين الراسخين في العلم منهم. وفي هذه الرؤية ينكشف كثير من الأسرار والمعارف التي تحويها هذه الأحرف في كيانها فهي أشبه بصناديق مغلفة على كنوز من الأسرار والمعارف، يأخذ منها النبي ما شاء، على حين لا يأذن بشيء منها إلا لذوي البصائر من عباد الله الصالحين المقربين، ثم تظل مغلفة أسرارها دون من ليسوا بأهلها) (2).
…وذهب الدكتور الخطيب في فاتحة سورة النور إلى أنها موسيقى تدق طبول الحرب أمام جحافل المجاهدين(3). وهذا الرأي من الشوائب المستحدثة في القرن الرابع عشر الهجري نزع إليه زكي مبارك وهو مستمد من المستشرق مسيو بلانشو وهي إشارات وبيانات موسيقية يتبعها الملحنون(4).
__________
(1) سورة الشعراء، آية 195.
(2) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م13، 25/16، تفسير سورة الشورى.
(3) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، مطلع تفسير سورة النور.
(4) الطاهر – علي نصوح، أوائل السورة في القرآن الكريم، ص 16.(2/27)
…كانت شوائب التفسير في فواتح السور قديمة عبرت إلينا من الفلاسفة ثم تلاهم الصوفية وبعض الشيعة وأخيراً المعتزلة الجدد أو المدرسة العقلية الحديثة. وقالوا بأن الديانات رموزٌ وإشارات وهي مقصورة على أناس معينين. وأن القرآن مثل كتاب كليلة ودمنة فيه حكايات رمزية. ولا يخفى أن هذه الشوائب لا تمت للتفسير بصلة فهي عن اللغة العربية بعيدة، وعن المعاني الشرعية أكثر بعداً. والذي أراه وجه الحق في تفسيرها أنها أسماء للسور لأنه تواتر بعض أسماء السور بها نحو سورة ق، وطه، ويس، وصح البعض الآخر نحو الم البقرة، ألم آل عمران. وقد ورد هذا عن أسلم بن زيد رضي الله عنه. وهذا التفسير يوافق المأثور ويتفق مع اللغة. ولا يسمح للشوائب أن تتسلل إلى التفسير.
3- شوائب التفسير في رسم القرآن الكريم.
…ورد في مجلة المنار ما نصه: "17- كتابة القرآن بالرسم العرفي: المعروف المشهور أن علماء الملة متفقون على وجوب كتابة المصاحف بالرسم الذي كتبها به أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجمعوا عليها. وقد مست الضرورة لطبع مصحف مفسر بالرسم العرفي ليقرأه الجماهير قراءة صحيحة غير محرفة ويفهموه إذ علم بالتجربة أن أكثر الناس يخطئون في القراءة في هذا المصحف إلا من تلقاها من القراء وقليل ما هم. وسئلنا عن ذلك فأجبنا عنه بما رأيتموه في الجزء الثاني من منار هذه السنة من الجواز وتعليله"(1).
__________
(1) مجلة المنار، م34، 5/358-359، والذي أشار إليه هو الجزء الثاني من المجلد 34، وكان هذا قبل وفاة الشيخ رشيد بعام واحد، فهذا ما مات عليه في الفتوى، ولم يتراجع عنه فيما اطلعنا عليه من تراثه المخطوط والمطبوع.(2/28)
…من يتعمق في كلام الشيخ رشيد يجد أنه يعمد للأمور المتواترة القطعية ويعمل على زعزعتها وقلبها رأساً على عقب. فرسم المصحف توقيفي وقطعي ومع ذلك فتحت ما سماه الضرورة انتهك قدسية القطعي وجوز طباعة المصحف بغير رسمه الذي نزل به الوحي إلى خطوط تعارف عليها الناس في عصر لا تملك الأمة الإسلامية من أمرها شيئاً فيؤول الأمر إلى أن يصبح القرآن كالإنجيل له صياغات متعددة، ويصير لكل شعب، بل لكل قبيلة مصحف خاص بها، ويتناسى الناس قرآن رب العالمين. وهذه الخطورة الجسيمة تقودنا لإدراك مدى الضرر الذي يلحق بدين الإسلام من جراء استعمال القواعد الشرعية في غير ما وضعت له وتعديتها لأحكام غيرها، وتجاهل النصوص. فهذه شوائب ماحقة نسأل الله أن يبصر الأمة بها.
…وتنفيذاً لهذه الفتوى الجريئة انطلقت دعوى نشاز من رجاء النقاش بعنوان: (حرروا القرآن من هذه القيود) ومما قاله: كيف يمكن أن ننظر للقرآن نظرة عصرية؟ إذا أردنا أن نضع النقاط فوق الحروف ونتحدث بصراحة فلا بد أن نقول إن هناك كثيراً من القيود المفروضة على القرآن. وواجبنا هو أن نحرر القرآن من هذه القيود، حتى يعيش القرآن في حياتنا أكثر مما يعيش الآن، وحتى يتاح له أن يؤثر في نفوسنا ذلك التأثير الواسع العميق الذي استطاع القرآن أن يحققه في أجيال وعصور سابقة ويستطيع القرآن أن يحققه بالتأكيد بالنسبة لغرضنا وجيلنا.
…وعلينا أن نحدد هذه القيود ثم نعمل بعد ذلك على تحرير القرآن منها حتى ولو أدى بنا الأمر إلى تحقيق ثورة دينية مثل تلك الثورة التي قادها (لوثر) في عالم المسيحية الغربية. وكانت هذه الثورة هي الحركة (البروتستانتينية) المعروفة! فما هي هذه القيود التي ندعو إلى التحرر منها؟(2/29)
…هناك قيود شكلية من بينها الإصرار على عدم كتابة مصحف بالخط العصري المعروف. والإصرار على أن تكون كل المصاحف مكتوبة بالخط القديم مما يشكل عقبة رئيسية أمام كل الأجيال الجديدة التي تريد أن تقرأ القرآن فتجد في كتابته عناء شديداً قد يؤدي إلى صرفها عن هذه القراءة نهائياً ففي المصاحف الحالية نقرأ هذه الكلمات (الصرط) بدلا من (الصراط) و (الصلوة) بدلاً من (الصلاة). و (الزكوة) بدلا من (الزكاة) و (أبصرهم) بدلاً من (أبصارهم)، و(ظلمت) بدلاً من (ظلمات) و (السموت) بدلاً من (السماوات) و (جنت) بدلاً من (جنات) .. الخ.
…إن من واجبنا ولا شك أن نحتفظ بالمصحف القديم بخطه المعروف فذلك أثر عزيز من آثارنا لا يجوز أن نهمل في المحافظة عليه. ولكن يجب أن تكون لدينا الشجاعة الدينية الكافية لكي نطبع مصحفاً خالياً من هذه الحروف تجعل قراءته صعبة بل ومستحيلة إلا عند المتخصصين في قراءة القرآن. ونحن نريد أن يقرأه كل المتعلمين في بلادنا. وأن تقرأه الأجيال الجديدة على وجه الخصوص دون أن يجدوا في هذه القراءة كل المشقة التي يحسون بها الآن وليس هناك أي نص ديني مقدس يحرمنا من الإقدام على مثل هذه الخطوة، بل إن روح الدين تتمثل في (أن الدين يسر لا عسر) وكل ما ييسر الدين بدون الخروج على جوهر مبادئه أمر مطلوب.(2/30)
…إننا إذا أردنا أن نجعل هناك صلة حقيقية بين القرآن وأجيالنا الجديدة فلا بد من أن نقدم على مثل هذه الخطوة بلا تردد. أما إذا أردنا أن تظل هناك فجوة واسعة بين هذه الأجيال الجديدة وبين القرآن فلنرفض إذن إصدار مصحف جديد مكتوب بالخط العصري والحروف العصرية وخال – كما هو الحال في المصاحف الحالية – من أي علامة استفهام أو تعجب أو ما إلى ذلك"(1).
__________
(1) مجلة الهلال، عدد، ديسمبر، ص 4، شوال 1290هـ - 1970م، السنة الثامنة والسبعون عدد خاص، القرآن نظرة عصرية جديدة، رئيس الإدارة، أحمد بهاء الدين، رئيس التحرير: رجاء النقاش. ومن الدعاة لهذه الفكرة سلامة موسى، وطنطاوي جوهري وهو رئيس تحرير جريدة الإخوان المسلمين سنة 1936، وله خطبة في نادي دار العلوم في 27 فبراير دعا للعامية المصرية، وقال إن التحرر منها وهم قديم متأصل في النفوس لما سمع أنها مبتذلة. ثم أشار بجمع قاموس يشمل كل الألفاظ العامية المصرية لتدرس في المدارس لأن فيها الأصول الضرورية لمعاشنا، وقرر أن الدخيل فيها لا يتجاوز خمسة بالمائة. وكذا المحرف، وقال: فلا يمضي عشر سنين حتى تصير لغة الكلام لغة التحرير، مجلة المقتطف، م33، ص318-319. مقال: العامية والفصيحة، القاهرة، عدد ابريل، 1908م.(2/31)
…ولا أخال القارئ الكريم بحاجة إلى نظر أي تعقيب على هذه المقالة. فهي من البلاغة بمكان حيث تحدث أثراً طبيعياً في نفس كل مسلم، وكفاه فحشاً أن يعد القرآن تراثاً تاريخياً يحفظ في المتاحف. وكفاه سوءاً أن يتجاهل قداسة رسم المصحف وأنه من لدن حكيم عليم. وكفاه باطلاً أن يدعو لثورة ضد الإسلام على غرار ما فعله نصارى الغرب المتحللين من دينهم. وكفاه شراً أن يصر هو ومن قلده ومن تبعه من الأجيال على عدم فهم القرآن وقراءته كما أنزله الله تعالى على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وكفاه جرأه على دين الله أن يصدر كلامه: حرروا القرآن من هذه القيود. وكأن القرآن كتاب إنسي يملك كل تافه أن يعتلي أسواره ويعبث به كيف يشاء. هذا هو الدين العصري يا قوم. فما موقفكم منه؟!! تلكم شوائب ماحقة للدين لم يكن لها من قبْلُ محدثٌ .
4- شوائب التفسير في جمع القرآن:
…ذكر محمد عزت دروزة ثلاثة مجموعات من الروايات في مسألة تدوين القرآن وجمعه(1). وفيها ما هب ودب من الروايات، فخلط الموضوع بالصحيح، والإفك بالمتواتر، وفيها تعارض وتناقض دون أن يعني نفسه بتحري الصواب، وهذه سنة المستشرقين في البحث. فهم لا يتورعون من ذكر رواية لا سند لها موثوقاً ويقرنونها بالقرآن أو بالسنة الصحيحة على أنها إسلام يتلى. وذلك لتشويه الإسلام والتمكن من تزييفه ورده جميعاً الصالح والمنسوب كذباً إلى الإسلام.
…يذكر دروزة أن المجموعة الثالثة أكثر توثيقاً في الإجمال. ومع ذلك فإنه يشكك في مضمونها حسبما يمليه عليه خياله، لا حسب قوة الروايات وصحتها. ومن ذلك التشكيك في تدوين الشريعة:
__________
(1) المجموعة الأولى من ص 52-55، والثانية من ص56-64، والثالثة من ص 64-74، القرآن المجيد، محمد عزت دروزة.(2/32)
1- لا يمكن أن يكون تدوين القرآن على قطع عظيمة الحجم ثقيلة الوزن صعبة الحمل والحفظ والترتيب كأضلاع النخيل وأكتاف العظام، ورقائق الحجارة(1).
2- لا يمكن التسليم بصحة إطلاق فقدان أو نقص وسائل الكتابة اللينة المعروفة في ذلك العصر في البلاد المجاورة كالقرطاس والورق والحرير والقماش والرقوق الناعمة المسواة أو أن نطاق الكتابة في مكة والمدينة كان ضيقاً.
…واستدل على صحة دعواه بما سماه الثبوت العلمي للخط العربي الذي كان مستعملاً في بيئة النبي وعصره أن وجوده يمتد إلى عشرات السنين قبل بعثته. وأنه متطور على أشكال الخطوط الأخرى التي كان يستعملها عرب الشام واحتكاكهم بنصارى ويهود تلك البلاد عن طريق التجارة بين الجزيرة وبين الشام واليمن(2).
…وهذا رأي المستشرق بلاشير نفسه. وقد زعم الأخير أن التدوين على مواد خشنة لم ينشأ إلا بعد إقامة محمد في المدينة(3).
__________
(1) دروزة، محمد عزت، القرآن المجيد، ص 75، وانظر القرآن نزوله وتدوينه، بلاشير، ص 29.
(2) دروزة، محمد عزت، القرآن المجيد، ص 75-77.
(3) بلاشير، القرآن نزوله، تدوينه، ترجمته، ص 29، نقلة إلى العربية رضا سعادة، دار الكتاب اللبناني-بيروت، ط1، 1974م.(2/33)
…كما تهوك الشيخ دروزة في ترتيب القرآن آيات في سور، وسوراً في تسلسل أيضاً(1). فمرة ذكر رأي المسلمين بخير(2)، وأخرى شكك فيه وحاول توهينه وإقامة الدليل على عكسه ونقيضه(3). ومن الشوائب في ترتيب الآيات في السور ما ذكره د. عبد الكريم الخطيب في تشكيكه أن تكون الآية الأولى في سورة النور هي الآية الأولى في السورة ورجح بالهوى أن تكون بداية السورة من الآية الثانية. ومن الشوائب كذلك ما يدعى بالنقيصة عند الشيعة. وعند غيرهم ما زعم أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة، أو كان في القرآن سورٌ كالخلع والحفد ثم اختفت. إلى غير ذلك من الشوائب.
تفنيد مزاعم دروزة ومن سار في فلكه:
تشكيك دروزة في تدوين الشريعة كان على سنة الاتهام والاحتمالات دون إقامة الدليل وهو قول من لا محصل عنده.
__________
(1) دروزة، محمد عزت، القرآن المجيد، ص80.
(2) دروزة، محمد عزت، القرآن المجيد، ص74، ص 80، ص81.
(3) دروزة، محمد عزت، القرآن المجيد، ص 80.(2/34)
كلامه يعارض الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تذكر صراحة أن القرآن مكتوب على الرقاع(1) واللخاف(2) والعسب(3) والأكتاف(4) والأقتاب(5) وقطع الأديم(6). وقد أفرد البيهقي باباً في دلائل النبوة بما جاء في تأليف (جمع) القرآن – وذكر حديث زيد بن ثابت قال: (كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نؤلف القرآن من الرقاع – قلت (البيهقي): وهذا يشبه أن يكون أراد به تأليف ما نزل من الكتاب: الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم كانت مثبتة في الصدور، مكتوبة في الرقاع، واللخاف، والعشب (العسب) فجمعها منها في صحف، بإشارة أبي بكر، وعمر، ثم نسخ ما جمعه في الصحف، في مصاحف بإشارة عثمان بن عفان رضي الله عنه على ما رسم المصطفى- صلى الله عليه وسلم -)(7) وعليه. فجمع القرآن الكريم الذي حصل في عهد أبي بكر هو جمع لما كان القرآن مكتوباً عليه على ما رسم المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فجمعت كلها في مكان واحد، كل سورة بآياتها على حدة، يفصل بين كل سورة وسورة بالبسملة إلا سورتي الأنفال والتوبة.
__________
(1) حديث زيد بن ثابت قال (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع، البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين، دلائل النبوة، 7/147 وقد أخرج الحديث الترمذي في آخر كتاب المناقب باب فضل الشام واليمن الحديث 3954، 5/734 عن محمد بن بشار وقال حسن غريب. والرقاع: جمع رقعة وقد تكون من جلد أو كاغد أو غير ذلك.
(2) صفائح الحجارة الرقاق فيها عرض ودقة وأحدها لخفة، دلائل النبوة، 7/149.
(3) جريدة النخل، كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض، دلائل النبوة، 7/149.
(4) جمع كتف، وهو عظم البعير أو الشاة يكتبون عليه بعد أن يجف.
(5) جمع قتب وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه.
(6) الجلد.
(7) دلائل النبوة، للبيهقي، 7/147.(2/35)
…وأما الجمع الذي حصل زمن عثمان فهو نسخ ما كان مجموعاً في عهد أبي بكر وتعميمه في نسخ إلى الأمصار.
…وجمع القرآن من الأمور التي لا شك فيها عند المسلمين وهو برسمه الذي أوحى الله به. وكان يكتبه كتبة من الصحابة أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يرشدهم أحياناً لكتابة بعض الكلمات على لغة قريش مثلاً. ودقة حفظ القرآن حتى يومنا هذا وإلى قيام الساعة يعود إلى أن الله تبارك وتعالى تعهد بحفظه { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (1). على غير الكتب السماوية الأخرى حيث عهد للأقوام بحفظها، فوكل الأمر إلى أنفسهم، فحدث بها ما حدث. وأما القرآن الكريم فقد تعهد الباري عز وجل بحفظه. وهذه عقيدة عند المسلمين لا يتطرق إليها أدنى شك. وعليه فكلام دروزة والمستشرقين من الشوائب لا قيمة له.
عقيدة المسلمين أن ترتيب الآيات في السور توقيفي من الوحي. وهو أمر متواتر مقطوع بصحته لا مجال للاجتهاد فيه. ولذلك يرد قول د. الخطيب أن سورة النور تبدأ من الآية الثانية وأما الآية الأولى فهي بمثابة موسيقى تدق طبول الحرب أمام جحافل المجاهدين.
آيات القرآن وترتيبها في السور توقيفي بلغنا بالتواتر وعليه استبعد العلماء القراءات الصحيحة غير المتواترة من القرآن فكيف بما لم يصل إلى درجة الصحة؟ ولذلك فما زعم من القول بالنقيصة، أو عن طول سورة ثم قصرها، أو أن سوراً اختفت من القرآن كله شوائب لا نصيب للصحة فيه وهي شوائب ينبغي أن تمحى من آثار المسلمين.
__________
(1) سورة الحجر، آية 109.(2/36)
ترتيب السور في القرآن فيه رأيان: الأول توقيفي، والثاني من إجماع الصحابة عليه. ومهما يكن من أمر فلا مجال لطرح فكرة إعادة طبع القرآن حسب ترتيب سور النزول كما نزع إليه بعض المفسرين في القرن العشرين ومنهم محمد عزت دروزة في التفسير الحديث، وعبد القادر ملاحويش في تفسير معاني القرآن. وهي من الشوائب وخطورة الموضوع تكمن في التشكيك بمصدر شريعتنا، من حيث صحة الوحي، ومن حيث نقلة التشريع، فيشكك بالتالي في معناها وتصبح شريعتنا على شفا جرف هار، لا مجال للإيمان بها لأنها قلقة، ولا تصلح للعمل بها لأنه مشكوك في أمرها والتدوين والوثوق به عامل مهم في ثقة الأجيال بصحة التشريع. والفضل كله لله تعالى في تعهده بحماية دينه.
5- شوائب التفسير في مسألة النسخ في القرآن الكريم:
…يرى الشيخ محمد رشيد رضا أن لا نسخ في القرآن مطلقاً(1). وقال الدكتور عبد الكريم الخطيب: "إننا لا نسيغ القول أبداً بأن شيئاً منسوخاً من هذا القرآن الذي نقرؤه، ونتعبد به، إذ لا حكمة – مع هذا - لآيات كريمة نتلوها ونتعبد بتلاوتها، ثم لا نعمل بها، ولا نأخذها مأخذ الجد، في تحصيل الخير المشتمل عليه كيانها.
…إن النسخ معناه عزل الآيات المنسوخة عن الحياة، وإحالتها إلى "المعاش" وما الاحتفاظ بها في القرآن إلا كالاحتفاظ بجثث الأموات محنطة في توابيت!! وذلك مقام تنزه عنه كلام الله رب العالمين"(2).
__________
(1) مجلة المنار، م10، 9/686 تحت عنوان: (النسخ في الشرائع الإلهية). محمد رشيد رضا.
(2) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م1، 1/161. وانظر ص 152، 128، 150، 151، 158، 159.(2/37)
…وقال: "إذ أن النسخ للآيات القرآنية، ليس من شأنه أن يثبت قلوب المؤمنين، بل إنه يكون داعية من دواعي الإزعاج النفسي، بسبب تلك الآيات التي يعيش معها المسلمون زمنا، ثم يتخلون عنها"(1).
…وعندما اصطدم الدكتور الخطيب بالآيات التي تصرح بوقوع النسخ وتبديل الآيات قال: "وإذاً فلا نستصحب هذا الحكم، ونحن ننظر في الآيات التي يقال إنها ناسخة أو منسوخة. بل ننظر في تلك الآيات نظراً منقطعاً عن كل تأثير لهذا المفهوم(2).
…وبهذا يتضح للعيان أن الشيخ عبد الكريم الخطيب يطبق رأي الشيخ محمد رشيد رضا في النسخ ويصر على إنكاره. فهي شوائب لا تمت للتفسير بصلة لمعارضتها الكتاب والسنة والإجماع.
إن أقوال د. الخطيب تنبع من عقله الحر لا من نصوص الوحي التي تتعارض وتتناقض مع أقواله هذه منها قوله تعالى { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (3) ومنها قوله تبارك وتعالى { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } (4). فموقف الدكتور الخطيب ومن قلده يشبه موقف كفار قريش من النسخ.
أطلق على النسخ في الأحكام بما لا يليق بقدسية القرآن الكريم من الألفاظ ومنها إحالة على المعاش، جثث الموتى، تحنيط، دواعي الإزعاج النفسي. وهذا يدل على ولائه لعقله الحر أكثر بكثير من ولائه لكلام رب العالمين. مع أن النسخ قضية شرعية وليست عقلية. وقد انعقد إجماع الصحابة الكرام على وقوع النسخ.
__________
(1) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م7، 14/369. وانظر م11، 21/642-643.
(2) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م1، 1/128.
(3) سورة البقرة، آية 106.
(4) سورة النحل، آية 101.(2/38)
إن النسخ وقع في جميع الشرائع الإلهية والوضعية ولا جدوى من إنكاره غير خلق بلبلة في صفوف المسلمين. ونتساءل ما الهدف من وراء مخالفة هذه المصطلحات الكبرى؟ ومن تخدم؟
ليس من اللازم في معرفة النسخ أن يكون مشفوعاً بالحكمة من النسخ، لأن النصوص الشرعية يستمد منها سيادة الشرع على الخلق، وما العقل إلا مقود ومحكوم بتلك النصوص.
لقد وقع بالفعل نسخ أحكام في القرآن بآيات من القرآن ومنها { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } (1). فكان الغرض أن يثبت المجاهد المسلم أمام عشرة من الكفار ثم نسخ بفرضية ثبات المجاهد المسلم أمام اثنين فقط من الكفار بقوله تعالى في الآية التي تلتها { الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } (2). وأما نسخ التلاوة فلم يرد منه شيء ولم يثبت حديث صحيح واحد في الموضوع. فضلاً عن أن المسألة تتعلق بالقطعي ولا يتم النسخ إلا بقطعي مثله. والسنة لا تنسخ القرآن حتى لو كانت متواترة. وتفصيل ذلك في كتب الأصول. ومن هنا ندرك شوائب التفسير في مسألة النسخ وإنها لم تعتمد على أدلة بل اعتمدت على العقل الحر.
__________
(1) سورة الأنفال، آية 65.
(2) سورة الأنفال، آية 66.(2/39)
6- شوائب التفسير في معنى المحكم والمتشابه:
…قال محمد عزت دروزة: (إن محتويات القرآن نوعان متميزان وهما الأسس والوسائل. وأن الجوهري فيه هو الأسس لأنها هي التي انطوت فيها أهداف التنزيل القرآني، والرسالة النبوية من مبادئ وقواعد وشرائع وأحكام وتلقينات(1) مثل وحدة الله وتنزهه عن كل شائبة وشريك وولد، واتصافه بجميع صفات الكمال، ومطلق التصرف في الكون واستحقاقه وحده العبادة والخضوع ونبذ ما سواه، والقيام بالواجبات التعبدية له، ومثل المبادئ والأوامر والنواهي والتشريعات والأحكام والتلقينات الكفيلة بصلاح الإنسانية وطمأنينتها والتعاون الأخوي التام بينها أفراداً وجماعات وسلبية وإيجابية وأخلاقية واجتماعية وحقوقية وسلوكية واقتصادية والنهي عن كل ما يناقض ذلك.
…أما عدا ذلك مما احتواه القرآن من مواضيع مثل القصص والأمثال والوعد والوعيد والترهيب والترغيب والتنديد والجدل والحجاج والأخذ والرد والتذكير والبرهنة والإلزام، ولفت النظر إلى نواميس الكون ومشاهد عظمة الله وقدرته ومخلوقاته الخفية والعلنية فهو وسائل تدعيمية وتأييدية إلى تلك الأسس والأهداف وبسبيلها"(2).
__________
(1) تنحصر التلقينات في نطاق ما لم يرد فيه نص قرآني أو نبوي قاطع وصريح، وفي نطاق الرخص الصريحة، ومدى التسهيلات القرآنية والنبوية الثابتة، دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 1/87.
(2) دروزة، محمد عزت، القرآن المجيد، ص 159-160 المكتبة العصرية، صيدا، بيروت.(2/40)
…وقال عند تفسير قوله تعالى: { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } (1): "وهكذا يصح أن يقال إن الآية الأولى وإن كانت وردت في مناسبة خاصة فإنها بسبب إطلاقها تقرر صفة عامة للقرآن وهي أنه محتو نوعين من المجموعات والفصول. واحداً محكماً أساساً وجوهراً، وآخر بمثابة الوسائل والتدعيم يحتمل أن يكون بأساليب تشبيهية وتمثيلية وترهيبية وترغيبية ووعظية وقصصية وتذكيرية وحجاجية وتنويهية وتأنيبية وما في نطاق المغيبات. ويحتمل أن تتعدد وجوه تأويله وأن ذلك لا ينبغي أن يعطل أو يغطي على أهداف القرآن وأسسه ومبادئه المحكمة الجوهرية أو أن يتحمل به في سبيل ذلك. وفي هذا فيما نعتقد قول حاسم يجب الوقوف عنده، وفيه بسبيل التعريف بالقرآن ما فيه من قوة وروعة وحق وحكمة وتلقين"(2).
__________
(1) سورة آل عمران، آية 7.
(2) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 8/78.(2/41)
…وقال: "ومع أن جل هذه الوسائل مما له صلة ببيئة النبي وعصره من جهة، والسيرة النبوية من جهة وبفهمها، وأن منها ما يتصل بالأسس والمبادئ من بعض النواحي كنتائج لها مثل الحياة الأخروية ومشاهدها وأهوالها ونعيمها وعذابها، والملائكة والجن ومعجزات الأنبياء مما يدخل في الغيبيات الإيمانية من جهة، ومع أنها قد شغلت حيزاً كبيراً أو بالأحرى الحيز الأكبر من القرآن فإن من فائدة هذه الملاحظة أن تجعل الناظر في القرآن يقف عند الأهداف والمبادئ، ويعتني العناية الكبرى بتجليتها وإبرازها ولا يحمل الوسائل والتدعيمات ما لا ضرورة لتحميلها إياه ولا يترك لها المجال لتطغى على تلك. وتكون شغلاً شاغلاً مستقلاً بحيث يستغرق فيها مثل استغراقه في الأسس فضلاً عن استغراقه أكثر من استغراقه في هذه مما هو واقع ومشاهد كالإشتغال مثلاً في ماهية القصص القرآنية، والنواميس الكونية، أو ماهية الملائكة والجن أو ماهية مشاهد الحياة الآخروية. وبحيث يغفل عن هدفها الرامي إلى تدعيم الأسس والأهداف ما يؤدي إلى إهمال التدبير بالجوهري والتورط فيما لا طائل من ورائه والوقوع في الحيرة والبلبلة دون ما ضرورة"(1).
مساند دروزة في تقسيمه القرآن إلى أسس ووسائل تدعيمية:
قال دروزة: "وننبه إلى أن هذا التقسيم بالمعنى الذي نقرره مستلهم بوجه عام من روح القرآن وأسلوبه وآياته"(2). ولفت الأنظار إلى أن القصص والمواعظ والتنديد والإنذار لم تأت إلا بعد تقرير تلك الأسس والأهداف أو شيء منها والدعوة إليها.
__________
(1) دروزة، محمد عزت، القرآن المجيد، ص 161.
(2) دروزة، محمد عزت، القرآن المجيد، ص 161.(2/42)
وقال: "وهو مستلهم بوجه خاص من بعض نصوص صريحة في القرآن مع ملاحظة ما قد يكون لها من خصوصيات زمنية يأتي في مقدمتها، وقد يكون أقواها مدى وأوضحها دلالة آية آل عمران السابعة(1). ثم ذكر آيات الأنعام 151-153، والإسراء 23-38 وقال إنها مجموعات رائعة من المبادئ والأهداف. ثم ذكر آية 20 من سورة محمد { فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ } وأشار إلى آيات أخر في سور أخرى"(2).
اعتماده على أعلام العلماء والمفسرين في هذا التخريج. قال: "ولسنا منفردين في هذا التخريج فقد سبق إليه كثير من أعلام العلماء والمفسرين على تنوع أقوالهم واختلاف مدى السعة والضيق فيها. وقد أشار إلى تفسير المنار الجزء الثالث.
تطور التنزيل القرآني، قال: "ومما يزيد ما نقرره قوة ووضوحاً ما يلاحظ من تطور التنزيل القرآني وتطور إطلاق تعبير (القرآن) على أجزاء القرآن وسوره وفصوله. فالقرآن يطلق كما هو معروف على مجموعة السور التي بين دفتي المصحف. غير أن هذا التعبير قد بدئ باستعماله منذ بدء نزول القرآن، وبدئ بإطلاقه على ما كان ينزل من مجموعاته قبل تمامه"(3). وقال: "والمعقول والواقع أن الآيات والسور القرآنية التي نزلت قبل غيرها قد احتوت في الأكثر أسس الدعوة ومبادءها وأهدافها، واقتصرت أو كادت تقتصر على التبشير بها، وإنذار الذين لا يستجيبون إليها، ولم تتوسع في الوسائل كما نرى في سورة الفاتحة والأعلى والشمس والليل والعصر والإخلاص والتكاثر والتين والقارعة، مما يؤيد أن الأهداف والأسس هي المقصودة الجوهرية في القرآن أولاً"(4).
بيان الشوائب في مقولة دروزة:
__________
(1) دروزة، محمد عزت، القرآن المجيد، ص 161.
(2) دروزة، محمد عزت، القرآن المجيد، ص 163.
(3) دروزة، محمد عزت، القرآن المجيد، ص 164، وانظر التفسير الحديث، 1/74.
(4) دروزة، محمد عزت، القرآن المجيد، ص 164، وانظر ص 165.(2/43)
لقد أحدث محمد عزت دروزة معنى للمحكم والمتشابه طوح به عقيدة الإسلام، ونسف به جل الأحكام الشرعية، فالإيمان بالله عنده من المحكم ولكن الإيمان بالحياة الأخروية من المتشابه. وكذلك تبديل نواميس الكون عند قيام الساعة من المتشابه وهكذا فقد هدم نصف العقيدة وهذه شوائب محضة لا تمت للتفسير بسبب ولا نسب.
إن معنى المصطلح في علم من العلوم يجب أن يلتزم للمحافظة على العلم نفسه فإحداث دروزة تقسيماً جديداً للمحكم والمتشابه من علوم القرآن الأسس والوسائل يؤدي إلى تغيير معالم هذا العلم. بل لا يجوز له أصلاً أن يستعمل المصطلح في غير ما وضع له. لأنه يقضي على لغة التخاطب والفهم – وهذه شائبة تدخل منها شوائب لا تحصى.
المساند التي توكأ عليها في استحداث هذا المعنى لمصطلح المحكم والمتشابه، غير مرئية، وغير منضبطة ويكتنفها الإبهام والغموض وهي روح القرآن وأسلوبه وآياته دون تحديد الآية(1) التي استنبط منها إن كان محقاً في استنباطه. وكذلك استلهامه المعنى من علماء ومفسرين أعلام وذكر الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار في الجزء الثالث. ومن البديهي أن قول المفسرين الأعلام ليس حجة فما بالك إذا كانوا ممن كان تفسيرهم تأسيساً للشوائب في القرن الذي نتحدث عنه؟! ثم ما زعمه أنه مسند وهو تطور التنزيل القرآني فهو فوق أنه جهل في اللغة حيث يطلق اللفظ على الجزء ويراد به الكل أو العكس، فإنه قياس قول الحق تبارك وتعالى على عمل الأدباء من البشر والتطوير في الأسلوب وقوته من الأدنى إلى الأعلى. وهذه مساند لا تسنده لا من قريب ولا من بعيد. ولا يدل ادعاؤها إلا على أن الرجل في خاطره خواطر يريد أن يضفي عليها ثوب الشرعية.
__________
(1) ذكر الآية 7 من آل عمران، والآيات 151 – 153 من سورة الأنعام، والآيات 23-38 من سورة الإسراء. وذكر آيات أخر في سور أخرى.(2/44)
إن ما زعمه أنها وسائل تدعيمية جاءت لتأييد الأهداف الرئيسية، وهي لم تأت للإيمان بها زعم بلا دليل فيرد ويدخل في دائرة الشوائب الماحقة.
ما زعمه من احتمال أن تكون الوسائل التدعيمية للتشبيه والتمثيل وليس على سبيل الحقيقة والواقع أو احتمال تعدد وجوه التأويل زعم بلا دليل لأنه تحدث عن أمور قطعية في ثبوتها وفي دلالتها وهي نعيم الجنة، وعذاب جهنم، وتبديل نواميس الكون عند قيام الساعة، والملائكة، والجن ومعجزات الأنبياء.
إن دروزة يعد ما جاء به في معنى المحكم والمتشابه عقيدةً عنده وقولاً حاسماً يجب الوقوف عنده غير قابل للنقاش مما يدل على فساد عقيدة الرجل، وفساد عقيدة المدرسة التي ينتمي إليها وحتى أزيد هذا الحكم اتضاحاً أنقل للقارئ الكريم مقتطفات من أقواله:(2/45)
…قال الشيخ محمد عزت دروزة (ويلاحظ أن مشاهد الحياة الأخروية وأحوالها وحسابها وثوابها وعقابها مستمدة من مألوف الناس في الحياة الدنيا) (1). وأذكر القارئ الكريم بالشوائب في تفسير القصص القرآني وما جاءت به المدرسة الأدبية معتمدة على قول الشيخ محمد رشيد رضا. وقال: "والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك على سبيل التقريب والتأثير في النفوس التي لا تتأثر إلا بما تعرفه وتحس به"(2). وقال: "وما دامت هذه الحياة (الأخروية) مسألة إيمانية غيبية، وما دام وصف مشاهدها الذي جاء في القرآن مستمداً من مألوفات الناس في الدنيا للتقريب والتأثير فلا طائل من الخوض فيها خوضاً يتجاوز حدود القرآن ومقاصده"(3). وقال: "ثامناً: إن ما ورد في القرآن عن الحياة الأخروية وإعلامها ومشاهدها وصورها وأهوالها وعذابها ونعيمها قد ورد بأسلوب منسجم مع مفهومات السامعين ومألوفاتهم، ومتناول إدراكهم وحسهم، وخاصة العرب الذين كانوا أولاً المخاطبين به، وإنه ورد بالأسلوب الذي ورد به على سبيل التقريب، وقال: وهذا الأسلوب وسيلة من وسائل تأييد القصد وتدعيمه"(4).
__________
(1) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 1/38، تفسير سورة العلق.
(2) المصدر السابق، وانظر ص 58، وتفسير سورة القلم. وانظر ص 80 من المصدر نفسه.
(3) المصدر السابق، ص 39، وانظر القرآن المجيد، ص 193، الحياة الآخروية في القرآن، وانظر التفسير الحديث، 1/58، تفسير سورة القلم. وانظر 1/81، التفسير الحديث.
(4) دروزة، محمد عزت، القرآن المجيد، ص 193، وانظر ص 197 من المصدر نفسه.(2/46)
…وقال: "إن رجفان الأرض والجبال يوم القيامة وصيرورتها كثيباً مهيلاً ومثلها الجبال والسماء والقمر والبحار بالإضافة إلى ما في هذه الإشارات القرآنية من حقائق إيمانية غيبية عن تبدل نواميس الكون ومشاهده عند انتهاء الحياة الدنيا وبدء الحياة الأخرى.. فإنها قد جاءت بسبيل وصف يوم القيامة وإثارة الرعب في قلوب السامعين الذين تدهش نفوسهم من عظمة هذه المشاهد والنواميس وروعتها، وعلى وجه التقريب والتمثيل لإنذار المكابرين المعاندين"(1).
…وقال عن بحث التفاصيل: "وليس من طائل وراء ذلك كله وفيه تكلف لا ضرورة له فيما هو المتبادر عدا أنه لا يستند إلى روايات وثيقة متصلة بالنبي عليه السلام. فالحياة الأخروية حقيقة إيمانية مغيبة في جميع مشاهدها"(2). وننوه هنا إلى أن الشيخ محمد عزت دروزة رد أحاديث كثيرة وثيقة الصلة بالنبي عليه السلام منها أحاديث رجم الزاني المحصن. فضلاً عن أن ما يتحدث عنه ورد في القرآن الكريم على وجه القطعية في الدلالة.
…وقال عن النقر في الناقور وقد عده من الوسائل التدعيمية: "ولما كان الناس قد اعتادوا أن يضربوا الطبول أو ينفخوا بالأبواق وأن ينقروا على الأدوات المصوتة حينما يريدون التجمع لأمر هام. فقد جاءت هذه التعابير في الآيات القرآنية للتشبيه والتقريب كما هو المتبادر لأن الله غني عن ذلك حينما تقتضي مشيئته بعث الناس للحياة الأخروية"(3).
__________
(1) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث ، 1/79.
(2) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 1/80. وانظر تفسير سورة الكوثر ص 126، وانظر القرآن المجيد ص 190-193.
(3) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 1/94.(2/47)
…وهكذا يعد الشيخ دروزة كثيراً من أركان العقيدة أنها وسائل تدعيمية بمعنى لا يجب الإيمان بها ولا ضرورة للاهتمام بتفاصيلها والمهم هو الأسس وهو الإيمان بالله تعالى فقط. وهذه التقسيمات فوق أنها خاصة به لا تمت لمصطلحات المسلمين بسبب ولا نسب إلا أنها تتعارض مع القرآن من حيث وجوب الإيمان بكل ما ورد في القرآن لا فرق بين الإيمان بالله وبين وظيفة الملائكة. ولا فرق بين الإيمان بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين الإنذار والوعيد الشديد لمخالفة أمره ونهيه. ولا فرق بين ما جاء في القرآن من آيات في العقيدة أو في القصص فكله حق واجب الإيمان على ما ورد في القرآن فهو ليس على سبيل التمثيل والتقريب بل هو على سبيل الحقيقة والواقع. واكتفي بهذا القدر من شوائب التفسير عند الشيخ دروزة في مسألة المحكم والمتشابه.
7- شوائب التفسير في تعريف الحديث القدسي والحديث النبوي:
…عرف الدكتور عبد الكريم الخطيب القرآن بأنه: نور من ذاته تعالى. والحديث القدسي: بأنه نور من روح الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والحديث النبوي: نور من ذات الرسول- صلى الله عليه وسلم -(1).
…قال الدكتور الخطيب: "فلما سئل الدباغ ما الفرق بين نور الروح ونور الذات أجاب: الذات خلقت من تراب، ومن التراب خلق سائر العباد، والروح من الملأ الأعلى. وهم –أي الملأ الأعلى- أعرف الخلق بالحق، وكل واحد –أي من الذات والروح- يحن إلى أصله، فكان نور الروح متعلقاً بالحق سبحانه، ونور الذات متعلقاً بالخلق، فلذا نرى الأحاديث القدسية تتعلق بالحق سبحانه لتبيين عظمته أو إظهار رحمته، أو بالتنبيه على سعة ملكه، وكثرة عطائه، فمن الأول حديث:
(يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم). ومن الثاني حديث: (أعددت لعبادي الصالحين). ومن الثالث حديث: (يد الله ملأى..).
__________
(1) د. الخطيب، عبد الكريم محمد، التفسير القرآني للقرآن، م15، 29/1333، وقد استغرق الموضوع خمس صفحات 1330-1335.(2/48)
…وهذه من علوم الروح في الحق سبحانه. ثم يمضي الدباغ في حديثه عن الفرق بين القرآن والحديث القدسي، والحديث النبوي فيقول: "إن الأنوار من الحق سبحانه تهب على ذات النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تحصل له مشاهدة خاصة، وإن كان دائماً في المشاهدة"(1).
…ومن يجل النظر في كلام د. الخطيب، صاحب العقل الحر يجد عجباً فقد عدل عن المصطلحات المعهودة عند المسلمين في تعريف القرآن الكريم، والحديث القدسي، والحديث النبوي وهي في تمام الوضوح ودلالة الألفاظ محددة إلى كلام عام مبهم يكتنفه الغموض وينقصه الوضوح. فيسهل إدخال الشوائب من خلاله.
…وفي الأمثلة جاء بخطب جلل حيث صيّر لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المثال الأول أنه قرآن. وهذا خلط عجيب. وفي تعريف القرآن من هذا البحث أسند لفظ القرآن إلى جبريل عليه السلام باستثناء فواتح السور فأسندها للذات العلية وهكذا خلط القرآن بالحديث وهذه شوائب محضة. لا تمت للتفسير بسبب ولا نسب.
…هذا عدا عن أن د. الخطيب – صاحب العقل الحر – تناول الموضوع من زاوية غيبية وتحتاج إلى غيبي ليظهرها وكلامه أقرب إلى مواجيد الصوفية منه إلى التفسير. فقد بحث ما لا يقع تحت الحس فهو أيضاً لا يسمى عقلاً ولا إدراكاً ولا تفكيراً.
…والذي يدين به المسلمون أن القرآن: هو اللفظ العربي المعجز المنزل على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - من الله تعالى بواسطة جبريل عليه السلام، والذي بلغنا بالتواتر، المبدوء بالفاتحة والمنتهي بسورة الناس.
…والحديث القدسي: هو ما تلفظ به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوحي من الله مسنداً في الخطاب إليه تعالى.
…والحديث النبوي: هو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو وصف، ومعناه بوحي من الله تعالى. ولفظه من الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) نقل د. الخطيب هذا الرأي عن الدباغ من كتابه الإبريز. انظر المصدر السابق نفسه.(2/49)
8- شوائب التفسير في معنى الإجماع
…قال الدكتور عبد الكريم الخطيب: "وليس الإجماع في حقيقته إلا توارد العقول وتلاقى الفطر على أمر ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله نص فيه، وهذا يعني أن الرأي العام حكم يقضي بين الناس، وفيصل فيما لم يجدوا له حكماً في الكتاب أو السنة وأكثر من هذا فإن أحكام الكتاب والسنة، إنما هي موزونة بميزان الفطرة السليمة، والعقل الصحيح"(1).
…ثم قال د. الخطيب: "ومن هنا كان الإجماع في الشريعة الإسلامية أصلاً من أصول هذه الشريعة يقوم إلى أصلها الكتاب والسنة. وليس الإجماع في حقيقته إلا توارد العقول وتلاقي الفطر.." (2).
__________
(1) د. الخطيب، عبد الكريم محمد، التفسير القرآني للقرآن، تفسير قوله تعالى { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } سورة البلد، آية 10، م16، 30/1574.
(2) المصدر السابق. وانظر، 5/547، تفسير سورة الأعراف من المصدر نفسه، وانظر ص 548 حيث يصر على أن الإجماع هو الرأي العام القائم على الشورى.(2/50)
…الإجماع عند المسلمين هو المصدر الثالث من مصادر التشريع وهو ما اتفق عليه الصحابة الكرام أنه من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون أن يرووا لنا نصاً بذلك، مثاله، تحديد فترة إباحة خلو منصب الخلافة وهو ثلاثة أيام. فقد مكث المسلمون ثلاثة أيام دون إمام لهم بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ثم اختاروا أبا بكر وبايعوه. وتركوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسجىً في برده دون دفن، مع علمهم أن إكرام الميت الإسراع في دفنه. وأنه لا مخلوق أحق بالإكرام من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم رأوا أن اختيار إمام لهم أكثر وجوباً من دفن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتحديد المدة كان بالإجماع من الصحابة. وهذا الإجماع يكشف عن وجود دليل في ذلك عندهم لم يرووه لنا. ومثله عندما طلب الصحابة من عمر أن يستخلف بعد طعنه: فقد حدد لهم ثلاثة أيام ليختاروا واحداً من الستة ثم عين خمسين صحابياً بسيوفهم لقتل المرشحين للخلافة إذا لم يتفقوا على اختيار خليفة منهم خلال المدة المضروبة – وهي ثلاثة أيام. فدل الإجماع على أن الأيام الثلاثة مدة شرعية كشف إجماع الصحابة عنها. وكل الآخذين بالإجماع يجمعون على أن إجماع الصحابة هو الأولى والأوجب الأخذ به. وهناك من قال إن الإجماع هو إجماع الأمة في عصر من العصور، وإن كنت لا أراه قد يقع في يوم من الأيام، ففيه اختلاف: هل المقصود به جميع الأمة؟ أو العلماء؟ ومن هم العلماء؟ هل هم علماء الفقه أو علماء الحديث أو علماء التفسير، أو علماء أصول الفقه؟ وهل هم العلماء المقربون من الحكام أو من سواهم؟ وهل هو في ظل الحكم بما أنزل الله أو في ظل غير ذلك؟!! ومهما يكن من أمر فإن الدكتور الخطيب جاء بأمر جلل فأعرض عن المصطلح الذي عليه عهد المسلمين وجاء بمعنى جديد وهو الرأي العام القائم في بلاد المسلمين التي ترزح تحت نفوذ الكافر المستعمر.(2/51)
…وهل تجمع عقول الكافرين والمنافقين والفاسقين مع عقول المؤمنين الأتقياء من المسلمين؟! إن هذا لشوب من الشوائب فظيع.
…ولا يقل عن هذه الشائبة خطورة أن يجعل الرأي العام هذا ميزانا توزن به مصادر التشريع الصادرة من الوحي وهما الكتاب والسنة وبالتالي أجهز على الإسلام كله. وهذه شائبة ماحقة للدين. ومن يجل النظر في كلامه يلحظ أنه جاء بمقياس فضفاض، لا ضابط له ولا حدود وهو العقل والفطرة، دون أن يعرفهما، وأعرض عن مقياس محدد، منضبط وهو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فتلاقي العقول والفطر التي نادى بها في الرأي العام الذي يصيغه الحكام وذوو الاقتدار من أهل النفوذ عنوة ورغباً ورهباً في دول لا تحكم بما أنزل الله، بل تحارب حكم الله، وتقع تحت نفوذ الكافر المستعمر. تلكم شوائب ماحقة جاء بها مفسرون في القرن الرابع عشر الهجري نبرأ إلى الله منها.
9- شوائب التفسير في إصلاح الخط العربي:
…توجه علماء المسلمين بعد فساد اللسان العربي، صوناً للغة العربية، باعتبارها لغة القرآن الكريم، إلى إدراجها أصالة في علوم القرآن وفي علم أصول الفقه، واشترطوها للمجتهد الذي يحق له استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية. وأوقفوا جواز التفسير وقبوله على معهودها. وأوجبوا على كل من يريد الإسلام ممن لا يحسن العربية أن يتعلم منها ما لا بد منه لإقامة الصلاة، والتعبد بتلاوة القرآن ذلكم لأن فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية سبب بلاء هذه الأمة، وعامل قوي في هدمها، ومساعد على جهل الأمة بدينها. وامتدت يد الشوائب لتنال من لغة القرآن بل من حروفه. وقد مرت معنا الدعوة لكتابة مصحف بغير رسمه، كما تعالت صيحات لترجمة القرآن الكريم ليتعبد بتلاوته، وهناك من دعا إلى ترجمة معانيه. وهناك دعوة لتغيير شكل حروف اللغة نفسها. وإليك تفصيلها من صاحب الفكرة نفسه.(2/52)
…لقد حرر الشيخ رشيد مقالة في أعظم صرح خلده لورثته من حاملي دعوته وهي مجلة المنار بلغت تسع صفحات استعرض كلمة (مَلك) من حيث الحركات الثلاثة في كل حرف مع التخفيف ومع التشديد وفيها السكون فأوصلها بعمليات حسابية إلى زهاء 400 صورة. وقال ويكفي في الخلل أن تشتبه الكلمة بوجهين فقط كالمنتخب بكسر الخاء وفتحها. وقال: ترتب على هذا الخط مفاسد كثيرة أهمها جعل اللغة العربية وعلومها عسرة التحصيل، وكتبها عرضة للغلط والتحريف. وقال: "ولولا هذا العيب في خطنا لكان أكثر العامة الذين يتعلمون القراءة والكتابة قويمي اللسان بهذه اللغة، وإن لم يتعلموا النحو والصرف ويكثروا المراجعة في المعاجم، ولكانت ملكتها قوية فيهم، وفهمها يسيراً عليهم". وقال: "وفي هذا الخط عيب آخر ضار وهو تشابه حروفها الذي كان سبب كثرة التصحيف والتحريف في كتبها حتى أنك ترى الألوف من أسفارها المكتوبة في القرون الخالية لا يوثق بها أو لا يستفاد المراد منها أو يحتاج فيها إلى المراجعة وإطالة النظر ليعرف الأصل الصحيح منها".(2/53)
…وأشار إلى التنقيط الذي حليت به الحروف لرفع الإبهام عن الحروف المتشابهة ولضبط القراءة من اللحن والغلط وعقب على ذلك فقال: "ولكن هذين العلاجين لم يشفيا العلة، ولم يرويا الغلة". وشرع في بيان عيوب التنقيط الذي يقع فيه الكتاب وألصقه عيباً في اللغة نفسها فقال: "فأما النقط فيكثر التصحيف في مخطوطاتهم فإن نقطة الفاء إذا جاءت كبيرة ولو بغير تعمد تقرأ قافاً. ونقطتي القاف إذا كتبتا صغيرتين أو ذهب جزء منهما بسبب ما قرئ القاف فاء. ويقال مثل ذلك في الباء مع الياء، والتاء مع النون. وكثيراً ما يؤخر الكاتب النقطة عن مكانها من الحرف أو يقدمها قليلاً فتشبه الكلمة بكلمة أخرى"(1). وقال: "وأما الشكل فيحصل فيه مثل هذا التقديم والتأخير". وقال: "وهو مع ذلك عسير كأن الكاتب يكتب الكلمة مرتين، مرة بحروف كبيرة، ومرة بحروف دقيقة جداً"(2). وقال: "إذا أصلح الخط العربي بكتابته مضبوطاً غير متشابه الحروف يكون ذلك مزيداً في أعمار العرب والمسلمين الذين يكتبون بحروفهم لأنهم يتعلمون في أقل من نصف المدة التي يتعلمون فيها الآن، ومزيداً في ثورتهم لأنهم لا ينفقون حينئذ على التعليم ونسخ الكتب وطبعها إلا بعض ما ينفقون الآن، ويكون سبباً لسرعة ارتقائهم في العلوم والفنون والمدنية لأن هذا يتوقف على سهولة التعليم وتصميمه) (3).
__________
(1) رضا، محمد رشيد، مجلة المنار، م13، 3/197 مقالة بعنوان: إصلاح الخط العربي.
(2) المصدر السابق، ص 198.
(3) رضا، محمد رشيد، مجلة المنار، م13، 3/198 مقالة إصلاح الخط العربي.(2/54)
…وقال: "إن أذكياء المسلمين من العرب والترك وأذكياء نصارى العرب من السورين قد فكروا في مسألة إصلاح الخط العربي في أواخر القرن الماضي. وأتذكر أن شيخنا الجسر قد أطلعني في أيام الطلب على حروف رسمها بعض الأذكياء قد جعل الشكل متصلاً بالحرف فيكون للحرف عدة أشكال حفظ صورته الأصلية. ولم يكن هذا مرضياً لمن اطلع عليه من الباحثين"(1).
__________
(1) المصدر السابق، ص 200، ومن الأذكياء الذين ذكرهم أصحاب مجلة المقتطف نصارى وقد اقترحوا كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية. ومن الأذكياء الانجليزي ويلموز (قاض في مصر) روج للعامية، وجميل الزهاوي، دعا إلى تأليف خط جديد وصفه بأنه أمثل من الخط العربي ومن الخط الإنجليزي. وأحمد مختار باشا بالتشاور مع ناظر المعارف وهو أجنبي وبعض المفكرين من الفرس رأى أن تكتب الحروف العربية المشهورة الآن مقطعة ويجعل الألف بعد الحرف المفتوح، والواو بعد الحرف المضموم، والياء بعد الحرف المكسور. ويكتب الحرف المشدد مرتين كما هو في الأصل. وقد ذكر محب الدين الخطيب أن الداعي له هو الطبيب اسماعيل حقي الميلاسلي والشيخ رشيد نفسه. هؤلاء هم الأذكياء المهتمون بتغيير الخط العربي. وانظر مجلة المنار، م13، 3/200-202. وانظر مجلة الزهراء، محب الدين الخطيب، م5، 2/3/83 جمادى الأول 1347هـ. وقد سمّى شيخُ الإسلام مصطفى صبري جميلَ الزهاوي شاعر الإلحاد انظر موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، 3/433، طبعة المكتبة الإسلامية، القاهرة، 1950.(2/55)
…وأما الشيخ رشيد في إصلاح الخط العربي الذي يخلو من العيوب ويأتي بالخير على المسلمين فهو كما قال: "أرى أن تكون الحروف متفرقة فهذا شرط لا يتم الإصلاح بدونه ولكن الحروف التي تتصل بغيرها تكتب على حدتها بالصورة التي تكون عليها إذا كانت في أول الكلمة إلا ما اشتبه بغيره منها وكان المميز له النقط فقط فيترك على وضعه المفرد من غير تغيير أو بتغيير قليل لا يخفى به على أحد ولا يحتاج معه إلى تعليم جديد ولا يكتفى بالتمييز بالنقط. وذلك أن تكون الباء دائماً هكذا (بـ) والتاء مثلها ولكن نبرتها أو سنّها تكون من الأسفل كما ترسم في خط الثلث ( )، والثاء والنون والياء هكذا دائماً ( ، ، ) والجيم هكذا
( ) والحاء مثلها ولكن يلتقي الطرفان الأيسران منها اللذان كضلعي الزاوية أو تجعل كمثلث هكذا ( ) وأما الخاء المعجمة فتكون هكذا ( ) بزيادة نبرة من الطرف الأيسر، ويفرق بين الدال والذال بجعل أحدهما على الصورة التي يكتبه بها المغاربة. أي بزيادة شنخوب فيكون قريباً من الكاف الصغيرة في أول الكلمة ولا يشتبه بذلك على أحد، ويفرق بين الراء والزاي كما يفرق بينهما في قاعدة الثلث ( ، ) وبين السين والشين كذلك بجعلهما هكذا ( ، ) وبين الصاد والضاد هكذا ( ، ). وبين الطاء والظاء بجعل عمود إحداهما معقوفاً كما يرسم في الخط الديواني – وبين العين والغين بجعل إحداهما ذات شنخوب كما ترسم في الخط الثلث أحياناً – وبين الفاء والقاف هكذا ( ، ) ولا بأس بجعل نقطة الفاء من الأسفل ونقطة واحدة للقاف من الأعلى كما يكتب المغاربة وتكتب سائر الحروف هكذا (كـ، لـ، مـ، ن، هـ، ة، و). والرسم الثاني للهاء يخص بالمشتركة بين التاء والهاء. وهمزة الوصل تكتب ألفاً بغير علامة أو بالعلامة المشهورة هكذا ( آ ). وهمزة القطع هكذا ( أ ) والممدودة هكذا ( آ ). وأما ألف المد فيبقى على صورته ( ) إن جعلنا همزة الوصل ذات علامة وإلا جعلناه هكذا(2/56)
( ). وواو المد يكون هكذا ( و ). وياء المد هكذا ( ). هذا ما نكتبه الآن في وصف هذا الضرب على إصلاح الحروف بالاختصار ونرجئ التفصيل وبيان الجزئيات إلى أن تسبك الحروف على الوضع الذي أشرنا إليه.
…وأما الشكل الذي يضبط به الكلام وهو الأهم فيمكن أن يستغنى فيه عن علامة الفتح لأنه هو الأكثر. ويوضع للرفع والكسر هذه الأداة المعروفة في طباعتنا الآن ( ، ) ويفرق بينهما بكيفية وضعها هكذا (‘ _ ‘). وإذا كان الحرف منوناً توضع مزدوجة هكذا (“ – “). والحرف المفتوح المنون يوضع له علامة أخرى، إما العلامة المشهورة، وإما غيرها كعلامة التعجب المشهورة في المطبوعات العصرية مكررة مرتين فقط ( ! !). وعلامة السكون المعهودة في شكلها تجعل كبيرة وتبقى على حالها. وأما الحرف المشدد فإما أن نبقي له علامته المشهورة مع تكبيرها قليلاً، وإما أن نكتبه مرتين كما هو في الأصل.
…هذا ما أعرضه الآن موجزاً مجملاً على نادي دار العلوم بمصر، وعلى محبي الإصلاح من العلماء وأصحاب الجرائد والمطابع والمسابك ليبحثوا فيه ولهم أن يختاروا بعض الأشكال والشكول على بعض ولكن لا ينبغي أن يطول السكوت على هذا الخلل العظيم والله الموفق) (1).
…وقد اقترح أحمد مختار باشا لإنجاح هذا المشروع أن تكون جهة الاقتراح من علماء المسلمين وخلاصة الاقتراح: "أن الإصلاح لا يمكن أن يأتي من تحت الطربوش بل لا بد أن يكون من تحت العمامة فإذا لم يوجد في علماء المسلمين من يقوم بالإصلاح فلا يصلح حالهم حتى أن الخليفة الذي هو إمام المسلمين ورئيسهم الديني لا يمكنه وقد خرج من الهيئة العلمية الدينية أن يأتي بإصلاح جديد للمسلمين ما لم يفته في ذلك شيخ الإسلام"(2).
__________
(1) رضا، محمد رشيد، مجلة المنار، م13، 3/103-104. وكان هذا الاقتراح بعد نجاح انقلاب مصطفى كمال بعام واحد.
(2) رضا، محمد رشيد، مجلة المنار، م13، 3/201.(2/57)
…ولا يستغرب الخبير بمعنى إصلاح القوم هذا الاقتراح لأن المشروع ظهر بعد خلع السلطان عبد الحميد من الحكم وشل عمل الخليفة ليصبح كالبابا ليس له إلا إقامة الصلوات والأدعية في النوازل ومباركة الأزواج في الخطوبة، وشهود صلاة القيام في رمضان، وقراءة القرآن في المناسبات.
تفنيد مزاعم الشيخ رشيد في إصلاح الخط العربي
رتب على الخط العربي مفاسد كثيرة أهمها جعل اللغة العربية وعلومها عسرة التحصيل. وكتابتها عرضه للغلط والتحريف. وهذا قول غريب أن يصدر ممن هو متمكن من اللغة العربية ومنهم الشيخ محمد رشيد رضا، لأن الخط العربي من وضع العرب الأقحاح قبل مجيء الإسلام وعلوم العربية وضعها المسلمون بعد نزول القرآن وبعد اتساع الفتوحات واختلاط الأعاجم بالعرب، وفساد اللسان العربي، فكانت علوم العربية لحفظ اللغة على استقامتها لتؤدي دورها في قراءة وفهم القرآن فهماً سليماً، فضلاً عن أن تكون لغة التخاطب، فعلوم العربية إذن جاءت لضبط اللغة وتسهيل اللغة على الناطقين بها. ثم هل يختار الله عز وجل لغة صعبة للناس كافة دوّن بها شرعه، وجعلها صحفاً مُنَشَّرة لغير الناطقين بها، ويحاسبهم في الآخرة حساباً عسيراً لعدم استجابتهم لما في هذا القرآن؟!
إن أي لغة في الدنيا من وضع أصحابها عرضة لأن يخطئ الناطقون بها قراءة وكتابة وتعبيراً، وهي تحتاج إلى تعلم ومداومة على استعمالها. وأي تقصير في ذلك تكون المسؤولية على المقصرين لا على اللغة نفسها. فكيف إذا كانت اللغة هي لغة الشرع الذي أنزله الله للناس كافة لينظموا علاقات الإنسان الثلاث على أساسه؟! ثم إن الأحرف المقترحة بحاجة إلى تعلم وإلى تدوين وإلى مثابرة على الحفظ وبحاجة إلى مبدأ لتكون لها رسالة تؤديها غير لغة التخاطب، فما زعمه عن اللغة العربية من مفاسد ترمى به الحروف التي افترضها فضيلته.(2/58)
من يقرأ المقالة بكاملها ويعرف من وراء المشروع يدرك أنه مشروع مريب سواء أكان من حيث الدعاة إليه، أو من حيث مآلات المشروع نفسه وهو إبعاد المسلمين في المستقبل عن فهم الكتاب والسنة، ولذلك اقترح أحمد مختار باشا أن يصدر الاقتراح من تحت العمة لا من تحت الطربوش، فصدر من تحت عمة الشيخ محمد رشيد رضا، وقد أشرت في الهامش قبل قليل إلى أصحاب الفكرة.
إن تغيير الحروف على أي شكل كان مفسدة أيما مفسدة لأننا نفتقد الآلة التي تعيننا على فهم كتاب ربنا، وتقضي على علومنا السابقة اللغوية والشرعية فتظهر الفائدة التي يخطط لها أصحاب المشروع. ومن هنا نشك ونرتاب فيما ادعاه الشيخ محمد الخضر حسين عندما عد إدخال اللغة في علم الأصول فضولاً فهو يبيح انعدام هذه العلوم لتسمية الثوب فرساً، والفرس ثوباً(1).
إن ما زعمه الشيخ رشيد من عيب في اللغة من حيث تشابه الحروف هو مجرد ثرثرة كلام وطيش أقلام فيمكن أن يقال عن الأحرف التي اقترحها، ويمكن أن يقال عن أي لغة في الدنيا، فهو يعمد إلى الثوابت ليزعزعها، ويخلخل أركانها وقد لمسنا ذلك منه في العقيدة وفروعها، وفي الأحكام القطعية جميعها، حتى وصل به المقام للغة التي تحمل هذا المبدأ فحاول هدمها، والله هو المتعهد بحفظ هذا الدين من حيث رسمه ولغته ونعم المولى ونعم النصير.
إن ما زعمه محاسن وفوائد تجنى عند تغيير الخط العربي هي في واقعها منكوسة فأول خسارة هي خسارة الدين بعقيدته ونظام حياته، وثانيها خسارة في لغة التخاطب، وثالثها: تمكين الكافر المستعمر منا بل زيادة قبضته علينا، ولن تقوم لنا بعد ذلك قائمة.
…وأكتفي بهذه الردود آملاً أن يكون هذا البحث مدعاة لمن يجعله نواة لبحث كبير يكشف خطوط المؤامرة على لغة الإسلام من جميع جوانبها ويكفينا شرها. وشر الشوائب المستطيرة المتصلة بها.والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل.
__________
(1) انظر مجلة المنار، م13، 3/105. أطوار اللغة العربية بقلم الشيخ محمد الخضر حسين.(2/59)
المبحث الثاني :شوائب التفسير في العقوبات في الإسلام
العقوبة والعذاب:
…قال الشيخ رشيد رضا عند قوله تعالى: { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (1): "ونقل الرازي عن حكماء الإسلام أن المراد بالخزي هنا العذاب الروحاني لأنهم طلبوا الوقاية من النار من قبل وهو العذاب الجسماني، واستنبط من الابتداء بطلب النجاة من العذاب الجسماني، وجعل طلب النجاة من العذاب الروحاني آخراً وختاماً أن العذاب الروحاني أشد. ويعنون بالعذاب الروحاني الحرمان من الرضوان الأكبر بكمال العرفان الإلهي"(2).
…وقال عند قوله تعالى: { لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (3): فإن قلت إن ما قررته يشمل استعلاء بعض الأمم الشمالية على كثير من ممالك المسلمين الجنوبية، فهل كان أولئك الشماليون على الحق والصلاح، وهؤلاء الجنوبيون على الباطل والفساد، أقل: نعم الأمر كذلك فلولا أنهم يفضلونهم أخلاقاً وأعمالاً وعدلاً وإصلاحاً واتباعاً لسنن الله في نظام الاجتماع والسياسة لما سلطوا عليهم"(4).
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 194.
(2) تفسير المنار، 4/304.
(3) سورة آل عمران، الآية: 188.
(4) تفسير المنار، 4/294.(2/60)
…وقال عند قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ } (1): "ثم تكلم الأستاذ عن استشكال بعض المتكلمين لتعذيب الجلود الجديدة مع أن العصيان لم يكن بها. وأجاب عن ذلك بأربعة وجوه(2). كان آخرها أن هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع ثم قال: وقد علمت أنه يوافق ما اختاره الأستاذ الإمام في العبارة، ورأيت أنه صورها بما هو أقرب من هذا التصوير إلى العقل واللفظ"(3).
…ثم قال: "ولولا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجثماني بحيث صار إنكاره كفراً لم يبعد عقلاً القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط ولما توقف الأمر عقلاً على إثبات الأجسام فعلاً، ولا يتوهم من هذا أني أقول باستحالة إعادة المعدوم، معاذ الله تعالى، ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت. والنصوص في هذا الباب متعارضة فمنها ما يدل على إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها، ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى. ولا أرى بأساً بعد القول بالمعاد الجسماني في اعتقاد أي الأمرين ا.هـ"(4).
__________
(1) سورة النساء: الآية: 56.
(2) 1- البدل يكون عين الأصل المبدل منه في مادته وغيره في صورته وقال عن هذا الوجه سفسطة ظاهرة.2- المعذب هو الإنسان وذلك الجلد ما كان جزءاً من ماهيته بل هو كالشيء الزائد الملتصق به ونسبه للرازي. 3- المراد بالجلود السرابيل.
(3) تفسير المنار، 5/165.
(4) تفسير المنار، 5/166.(2/61)
…ثم قال: "ولست أدري ما هو المانع من كون هذا العذاب يسمى أشد العذاب وإن كان هو في نفسه قليلاً كما يدل عليه ظاهر لفظ يذوقوا. وقد استعمل القرآن لفظ الذوق في العذاب كثيراً فاختياره مقصود وإنما يعرف الأشد بالقياس على غيره فمهما كان عذاب الآخرة فهو أشد من عذاب الدنيا"(1). وقال عند قوله تعالى: { لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } (2) أي سواء كانت حسية أم معنوية(3).
مما سبق ندرك:
أولاً: أن الشيخ رشيد نقل رأي الرازي (دون تفنيده) عمن سماهم حكماء الإسلام بأن العذاب روحاني وأنه أشد من العذاب الجثماني. وأن معنى العذاب الروحاني هو الحرمان من كمال العرفان الإلهي وهو الرضوان الأكبر.
ثانياً: أن المسلمين الذين يفرحون بما أوتوا لا تحسبنهم بمفازة من العذاب فقد سلط الله عليهم أمم الغرب الأوروبيين واستعمرتهم لأن المسلمين أهل باطل وفساد والأوروبيون على الحق والصلاح وهم يفضلون المسلمين أخلاقاً وأعمالاً وعدلاً وإصلاحاً واتباعاً لسنن الله في الاجتماع والسياسة. وأن العذاب هنا عذاب دنيوي.
ثالثاً: استشكال الأستاذ الإمام ينم عن أنه من الظلم أن تعذب الجلود التي لم ترتكب المعصية وهي الجلود المبدلة (الجديدة). وأزال الإشكال بجعل العذاب استعارة وليس على سبيل الحقيقة.
رابعاً: لا يستبعد عقلاً أن يكون النعيم والعذاب روحانيين. ويرى عدم الحاجة إلى إعادة الجلد أو الجسم الفاني أو المحروق.
خامساً: يرى تعارض النصوص في إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها. أو إعادة مثلها.
سادساً: لا يرى بأساً بالاعتقاد بالمعاد الجسماني أو الروحي.
سابعاً: لا يرى مانعاً من تسمية عذاب جهنم أشد العذاب وإن كان هو في نفسه قليلاً.
ثامناً: الأزواج المطهرة في الآخرة قد تكون مطهرة حسية أو معنوية.
تعقيب على تفسير أصحاب المنار:
__________
(1) تفسير المنار، 5/166.
(2) سورة النساء، الآية: 57.
(3) تفسير المنار، 5/167.(2/62)
…إن العقوبات وبخاصة الحدود في الدنيا، والعذاب في الآخرة، جاءت الأدلة القطعية في ثبوتها وفي دلالتها مما لا يجعلها تدخل في دائرة الظن الذي يحتمل الاجتهاد، وهي متواترة عند المسلمين، ومن الثوابت التي لا تتزعزع، فهي عقيدة راسخة ومعلومة من الدين بالضرورة يعلمها المؤمنون والكافرون على سواء مع فارق الإيمان بها، والكفر بها عند أعداء الدين. والعذاب في الآخرة حسي وليس معنوياً كما جاءت به النصوص على سبيل الحقيقة والواقع وليس على سبيل التمثيل والاستعارة. هذا ما يؤمن به المسلمون إيماناً جازماً لا يتطرق إليه أي ارتياب. وما أدركناه من عبارات تفسير المنار يغاير هذا المفهوم فيعد من الشوائب. وخطورته تكمن في أنه يعد المؤسس لهذه الشوائب لمن التحقوا في مدرسته العقلية الحديثة كما يسمونهم. ولا يقل سوءاً في الشوائب أن يعتقد أن الأمة الإسلامية على باطل وهم أهل فساد على عكس الأوروبيين المستعمرين فهم على الحق وهم أهل الصلاح.
الشيخ طنطاوي جوهري ومفهومه للعقوبة:
…قال: "والمقصد من هذا أن تعذيب الأجسام سواء أكان في الدنيا أم في الآخرة يقصد منه تهذيب النفوس"(1). وقال: فحكومات الآخرة والدنيا على طراز واحد. فالحكومة الفاضلة العادلة هكذا تفعل، وحكومات الله المستقبلية هكذا فعلها، ولا يقصد منها كلها إلا تهذيب النفوس. فإذا قام المسلمون وهذبوا النفوس بالعلم والعرفان قام التهذيب مقام التعذيب، والتعلم مقام الإيلام، والحكمة مقام المحكمة. والعلم مقام الألم"(2).
…ويرى طنطاوي جوهري أن الأخلاق تلازم الروح بعد فراق الجسد وتتمنى لو تخلص من الأخلاق التي لازمتها، والأحوال التي لصقت بها(3). وقد أشار إلى أن الحد يسقط بالتوبة عند بعض العلماء(4).
__________
(1) جوهري، طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن، م2، 4/182.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) جوهري، طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن، م2، 4/130.(2/63)
مما سبق ندرك الآتي:
أولاً: المقصد من العقوبة في الدنيا والآخرة تهذيب النفوس.
ثانياً: يرى أن في الآخرة حكومات على طراز حكومات الدنيا.
ثالثاً: التهذيب يحل محل العقوبة والعذاب.
رابعاً: الأخلاق تلازم الروح بعد فراق الجسد.
خامساً: الحد يسقط بالتوبة.
…وهذه كلها شوائب ماحقة لا تمت للتفسير بسبب ولا نسب وهي تدل على عقيدة فاسدة وإليك بيان زيفها:
…أما الأول فهو ادعاء بدون دليل. وهو يغاير مفهوم العقوبة في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فالعقوبات زواجر وجوابر. تجبر الإثم عن فاعلها، وتزجر غيره عن أن لا يعود لمثله قال تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (1). وقال البخاري باب الحدود كفارة(2). فعقوبة القتل مثلاً سواء أكانت للقاتل أم للزاني المحصن فهي تجبر الجريمة عن صاحبها، وتزجر غيره عن أن يفعلها حتى لا يحل به ما حل بمن طبقت عليه العقوبة. وأما في الآخرة فهي جزاء وفاقاً لما اقترفت يداه. والنصوص قطعية في العذاب المتصل فلا يحيون فيها حياة طبيعية ولا يقضى عليهم فيموتوا. ويبقون في العذاب الأليم خالدين فيها أبداً. وأي تهذيب للنفوس التي تتعذب كلما نضجت جلودهم بدلها الله بجلود غيرها ليبقى حس العذاب متوالياً دون انقطاع!!!
__________
(1) سورة البقرة، آية 179. أي شرع لكم في القصاص حياة من أجل أن تتقوا الله وتتقوا العقوبات.
(2) صحيح البخاري، 8/15 طبعة المكتبة الإسلامية، استانبول، تركيا، وفيه حديث عبادة بن الصامت قال (كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس فقال بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا وقرا هذه الآية كلها فمن وفي منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارته. ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه إن شاء غفر له وإن شاء عذبه).(2/64)
…أما الثاني فهو من نسج خيال من انخرط في سلك التفسير بدون عدة ففي الآخرة لا حكم إلا لله الواحد القهار ولا حكومات تشارك الخالق في شيء. وحكومات الدنيا لا تشبه المحكمة الإلهية في شيء فيحاسب الله الناس جميعاً كحساب رجل واحد في ساعة واحدة(1) بالعدل المطلق. ولا يحد قدرته تعالى شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة من أعمال أي إنسان منذ أن خلق آدم عليه السلام وإلى قيام الساعة.
…وأما الثالث فهو زعم بلا شبهة دليل فلا يحل محل العقوبة شيء، ولا يرد العقوبة شفاعة نبي مرسل ولا ملك مقرب. فمقياس الحساب من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره. فالعقوبة التي فرضها الله تعالى لا يزيلها تهذيب النفوس أبداً، وأما الرابع فتفوح منه رائحة القول بالتناسخ والحلول وهي عقيدة تناقض عقيدة المسلمين.
__________
(1) قال تعالى { مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } (لقمان: من الآية 28).(2/65)
…وأما الخامس والأخير فلا علم لنا به عند من يعتد بإسلامهم. والأدلة على نقيضه فلم تشفع التوبة لما عز ولا للجهنية ولا للغامدية برفع الحد عنهم وقد قال - صلى الله عليه وسلم - عن الجهنية (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم. وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى) (1). وقال عن ماعز (استغفروا لماعز بن مالك قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك، قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم). وقال عن الغامدية بعد أن سمع خالد بن الوليد قد سبها (مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكسٍ لغفر له) (2). وقد جاءت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقول له إني قد زنيت فطهرني -فأمهلها حتى تلد ثم أتت بعد الولادة فأمهلها حتى ترضعه وتفطمه ثم جاءت بالصبي وفي يده كسرة خبز ثم أقام عليها الحد(3). وهكذا فإن الندم والتوبة ماثلة للعيان من تكرار معاودتها وإصرارها على العقوبة حتى تتطهر من الذنب وتسقط عنها عقوبة الآخرة. وعليه فما أتى به طنطاوي جوهري بأن الحد يسقط بالتوبة شوائب لا تمت للتفسير بصلة.
__________
(1) رواه مسلم عن عمران بن حصين م6، 11/205.
(2) رواه مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه، م6، 11/201
(3) رواه مسلم عن عبدالله بن بريدة عن أبيه، م6ـ 11/203، وفي الحديث دلالة على عظم جرم صاحب المكس.(2/66)
عقوبة المفسدين في الأرض:
… { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (1) يرى الشيخ محمد عزت دروزة أن الآيتين تحتويان تقريراً إنذارياً وتشريعاً والإنذار من الوسائل التدعيمية(2). واستبعد دروزة أن تكون الآيات نزلت في رهط بدو عكل وعرينة، وقال: "فمن المحتمل أن يكون وقع في ظروف نزول الآيتين فالتبس الأمر على الرواة ونقلوا أنهما نزلتا بصدده، ومن القرائن على ذلك أنه ليس في الآيتين عقوبة تسميل الأعين التي ذكرت الروايات. ومنها رواية البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوقعها عليهم". ويركز الشيخ دروزة على مسألة تشريع نبوي وتشريع قرآني. لأنه يرى أن أي أمر يصدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يكون ملزماً ولو كان فرضاً مجمعاً عليه ومنه رجم الزاني المحصن. مع أنه في الوقت نفسه يقبل ما عليه المجتمعات الحاضرة لأن تكون تشريعاً، ومنها: استبدال عقوبة التقتيل أو الصلب الواردة في الآية بالإعدام شنقاً، فقال: "ولعل مما يصح أن يزاد عليها احتمال كونها بمعنى الشنق حيث جرت العادة من قديم على إعدام المجرمين شنقاً". بل أكثر من ذلك فقد جعل العقوبة الواردة في القرآن والاستثناء هو لمن تاب قبل القدرة عليه كما هو صريح الآية. وقد سكتت الآية عمن تاب بعد القدرة عليه ولعل حكمة التنزيل اقتضت ذلك ليبقى الإنذار قوياً فعالاً. وتركت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وولي الأمر من بعده بالتصرف وفق ما تقضي به المصلحة
__________
(1) سورة المائدة، آية 33.
(2) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 11/91(2/67)
والظروف، ومع ذلك فمن الممكن أن يقال شيء هنا في حكم من تاب بعد القدرة عليه استئناساً بتأويلات أئمة التأويل والملهمات القرآنية.
بيان شوائب تفسير دروزة للمفسدين في الأرض:
اعتبر الشيخ دروزة جزاء الذين يحاربون الله ورسوله في الدنيا والآخرة تقريراً إنذارياً أي من الوسائل التدعيمية التي لا يتوجب الأخذ بها. وهذا الحكم مبني على الهوى والرغبات لا تسعفه اللغة ولا العلوم الشرعية.
استبعاده أن تكون الآيات قد نزلت في رهط عكل وعرينة من العقل الحر، والخواطر التي طرأت على ذهنه وهو يغاير روايات الكتب الصحيحة في الحديث(1) كما اعترف بها.
يطعن في رواية الصحابة بنظرية الاحتمال. وهو بهذا يخالف ما اتفق عليه علماء الأمة من أن الصحابة كلهم عدول. كما تقرر في علوم الأصول والحديث والفقه والتفسير.
__________
(1) رواه مسلم عن أنس بن مالك، م6، 11/154، 155، 156، 157. ورواه البخاري في كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة 15، ص18، 19، 8 صحيح البخاري.(2/68)
لا يأخذ إلا بما ورد في القرآن مخالفاً للقرآن نفسه فقد قال تعالى { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } (1). وفي الصحيحين عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام رجل فقال أنشدك الله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله فقام خصمه وكان أفقه منه إقضِ بيننا بكتاب الله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جل ذكره وحكم بالرجم على المرأة المحصنة(2). والسنة قاضية على الكتاب فتبين وتخصص، وتقيد، وتأتي بتشريع جديد حسبما هو مقرر في علم الأصول. ولذلك لا يقال أن السمل الوارد في الروايات غير مذكور في القرآن.
بدعة تشريع نبوي وتشريع قرآني من الشوائب التي لا دليل عليها ومعارضة للآيات القطعية في الثبوت والدلالة، ومعارضة الأحاديث الصحيحة.
قبوله ما عليه المجتمعات وإدخالها في التشريع وإعراضه عما ورد في الحديث النبوي يعد من الشوائب التي تدل على فساد الاعتقاد.
زيادته على عقوبة من يحارب الله ورسوله ويفسدون في الأرض الواردة في القرآن عقوبة الشنق لا تسعفه اللغة ولا الشرع وهو عمل بالاحتمال والعقل الحر وهو من الشوائب.
الأحكام القطعية في الكتاب والسنة لا يجوز للخليفة أن يجري أي تعديل عليها فما بالك بحكام لا يطبقون أصلاً شريعة الله ؟!!
سكوت القرآن عمن تاب بعد القدرة عليه حسب تعبيره لا يعني إحالته على أولي الأمر، بل هناك المفهوم بأنواعه يستنبط منه الحكم.
__________
(1) سورة النساء، آية 80.
(2) رواه البخاري في صحيحه 8/24 باب 30 الاعتراف بالزنا كتاب 86 طبعة المكتبة الإسلامية استانبول، ورواه مسلم في صحيحه، م6، 11/205-207. كلاهما عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني.(2/69)
مفهوم الآية أن من تاب من المحاربين والمفسدين في الآية بعد أن تقدر عليه لا تعفيه التوبة من إنزال العقوبة عليه. والمفهوم أقوى من خواطر الشيخ دروزة ومن يعتقد أنهم أئمة في التأويل كالشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا.
شوائب التفسير في عقوبة السارق:
…قال الشيخ دروزة: "فهلا يصح أن يقال لجواز إعفاء مثل هذه الحالات الاضطرارية(1) إذا ثبتت لدى الحاكم ولم تعد عند صاحبها حرفة. ولم تتعد نطاق الاضطرار. ونحن نميل إلى الإيجاب استئناساً بالتلقين(2) القرآني والنبوي والراشدي. ولا سيما إذا لاحظنا واقع أمر حكام المسلمين وأغنيائهم، فقد جعل القرآن للفقراء والمساكين والأرقاء والمعسرين أنصبة وحقاً في كل مورد من موارد بيت المال من فيء وغنائم وصدقات –أي الزكاة- وأوجب على الحكام أداءها لهم بحيث لو فعلوا ذلك بحق لاكتفى كل ذي حاجة، ولقضي على العوز والجوع، فلم يقوموا بما أوجبه الله عليهم وبقي الفقراء والمساكين مرتكسين في أشد حالات البؤس والعوز والشقاء"(3). وقد دعم رأيه هذا بورود كلمة عقوبة في حديث (من سرق دون (المجن) (4) فعليه غرامة مثله والعقوبة) (5). أي من يسرق دون النصاب الشرعي لحاجة يسد بها جوعه. كما استشهد بما
__________
(1) يعني بالحالات الاضطرارية استثناء تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به-التفسير الحديث، 11/102.
(2) يرى أن التلقين هو ما لا نص فيه. والوسائل التدعيمية تعتبر عنده من قبيل الإرشاد لا النصوص الواجبة، ويقرن ذلك بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لا نص مباشر فيه في القرآن. ومثلهما أفعال الخلفاء الراشدين.
(3) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 11/102.
(4) الترس وهي في مادة جنن، وفي مادة مجن، والأصل أن الميم زائدة. انظر لسان العرب م13، ص94، ص 400.
(5) ساق دروزة الحديث عن أبي داود وأحمد والنسائي عن عبد الله بن عمرو في سرقة الثمر المعلق، التفسير الحديث 11/101.(2/70)
يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عدم قطع يد السارق في عام المجاعة.
…كما رجح سقوط الحد بالتوبة أو العفو فقال "14- ولقد نبه الذين يقولون بسقوط الحد بالتوبة) والعفو عن ذلك ليس من شأنه إسقاط الغرامة على السارق. وهذا وجيه، ولعل الجملة القرآنية { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ } (1). تنطوي على ذلك بالإضافة إلى معنى إصلاح النفس بالتوبة والندم"(2). وقال: "وهذا التشريع النبوي (من سرق دون النصاب الأدنى لا يقطع) متمم للتشريع القرآني حيث أوضح ما سكت عنه القرآن. والمتبادر أن النصاب الأدنى سواء أكان ربع دينار أم ديناراً إنما حدد حسب ظروف البيئة النبوية. وهذا يورد على البال سؤالاً عما إذا كان يصح أن يكون وزن النصاب عرضة لتقدير ولي الأمر في حالة تغير الظروف والقيم وتطورها؟ ونميل إلى الإيجاب والله أعلم(3).
مما سبق ندرك
أولاً: أن الشيخ دروزة يحيل عقوبة السرقة للمحاكم وتعامل معاملة المضطر.
ثانياً: من لم تكن السرقة حرفة له يعفى من العقوبة لأن له عذراً وهو الاضطرار وله شبهة تدرأ عنه العقوبة وهي أن للسارق حقاً في مال الأغنياء المسروق منهم. ولم يوصل الحكام هذا الحق للصوص فكانت عندهم الحاجة دافعة للسرقة، ولو أخرجت الزكاة لقضي على الفقر، ولشبهة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حق من أصاب بفيه من بستان دون المجن، فعليه غرامة والعقوبة، أي تعزيزية وليس القطع، ولشبهة التلقين الراشدي هو أن عمر أسقط حكم قطع يد السارق عام المجاعة.
ثالثاً: أسقط حد القطع بالتوبة أو العفو لإطلاق الآية { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (4).
__________
(1) سورة المائدة، آية 39.
(2) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 11/104.
(3) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 11/100.
(4) سورة المائدة، آية 39.(2/71)
رابعاً: فرق بين التشريع القرآني والتشريع النبوي.
خامساً: شكك في حكم نصاب السرقة وجعله حسب ظروف البيئة وأوكل تقديره للمحاكم حسب تغير الظروف والقيم وتطورها.
بيان شوائب التفسير في عقوبة السرقة عند دروزة:
عقوبة السرقة قطعية في ثبوتها وفي دلالتها، وحكمها قطعي لا يجوز الاجتهاد فيه، وهو منقول إلينا بالتواتر، فلا يجوز لمخلوق أن يغيره أو يجري عليه أي تعديل. قال تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (1). فإحالة حكم السرقة للحاكم لا يجوز على الإطلاق لأن السيادة للشرع ليس غير.
الدليل في حكم عقوبة السرقة تضمن ترتيب الحكم على الوصف بفاء التعقيب والتسبب فيفيد العلية وهو ما تعرف عند الأصوليين بدلالة التنبيه أو الإيماء. وأل في كلمة السارق تفيد الجنس. أي جنس من ينطبق عليه وصف السارق وكما بينه الفقهاء حسب الأدلة من بلوغ نصاب معين، وأن يكون من حرز مثله.. الخ. فالقول إن المقصود من تعود السرقة لا دليل عليه من اللغة ولا من الشرع فيعد من الشوائب. وأما ما زعمه من شبهات لتدرأ العقوبة عن السارق فهي خواطر من خياله لا محل للنظر فيها. فضلاً عن أن السارق ليس شرطاً أن يكون قد سرق عن احتياج، والشرع ما ترك شيئاً لدرء الحدود إلا وأشار إليه. وجعل الخطأ في ترك العقوبة خيراً من الخطأ في إنزالها.
__________
(1) سورة المائدة، آية 38.(2/72)
إن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حق مَن أصاب بفيه من بستان دون المجن فعليه غرامة والعقوبة. هذا من النصوص التي تبين أن ما يؤخذ دون نصاب معين لا يسمى سرقة ولا يجوز فيه القطع. فهو تشريع من الله لتحديد المقدار الذي يتم فيه القطع. فهو قيد للآية يخصصها. روت عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا) (1). متفق عليه. وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك.
ما أطلق عليه التلقين الراشدي. فعمر لم يسقط حكم قطع يد السارق، ولم يوقفه، بل الذي حدث أن من سرق لحاجة، دون النصاب، يقيم بها أوده لا تنطبق عليه مواصفات السرقة التي يجب فيها القطع. ولم تثبت حالة واحدة في السرقة التي يحكم فيها الإسلام بالقطع وتغاضى عنها عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
قوله يسقط الحد بالتوبة لا يدل عليه الدليل الذي استشهد به لا من قريب ولا من بعيد. واللغة لا تسعفه كذلك.
التفريق بين التشريع القرآني والتشريع النبوي وما رتبه عليه من الأخذ بالأول والتخلي عن الثاني من الشوائب والضلالات التي أحدثها الشيخ دروزة متكئاً على عبارات الشيخ رشيد رضا. والمقطوع به عند المسلمين أن القرآن والسنة كلاهما وحي من الله تعالى لكن الأول لفظاً ومعنى من الله تعالى، والثاني معنى من الله ولفظاً من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا تفريق بينهما من حيث الحجية.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود باب 13، 8/16، المكتبة الإسلامية استانبول. ورواه مسلم في صحيحه كتاب الحدود، م6، 11/181 طبعة دار صقر صحيح مسلم بشرح النووي.(2/73)
إن النصاب الذي يجري فيه قطع اليد في حد السرقة ثابت بنص الوحي ودلالته قطعية فلا مجال للاجتهاد فيه لا من الحاكم ولا من المجتهد ولا من غيرهما. { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (1).
إن قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان من الشوائب التي لا تستند إلى دليل صحيح، وتعارض الأدلة القطعية التي تدل على ثبات الأحكام ودوامها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قيام الساعة. مقياساً واحداً لجميع الخلق في كل زمان ومكان ضمن هذه الحقبة.
شوائب التفسير في عقوبة السرقة عند أبي زيد الدمنهوري:
…"واعلم أن لفظ السارق والسارقة يعطي معنى التعود. أي أن السرقة صفة من صفاتهم الملازمة لهم ويظهر لك من هذا المعنى أن من سرق مرة أو مرتين ولا يستمر في السرقة ولم يتعود اللصوصية لا يعاقب بقطع يده لأن قطعها فيه تعجيز له ولا يكون ذلك إلا بعد اليأس من صلاحه"(2). وقد نشر أبو زيد هذا الرأي على صفحات الأهرام 14 مايو، 1931م. وقد أسند رأيه هذا إلى اللغة فقال: (ورأيي في السارق والسارقة والزاني والزانية مبني على اللغة التي تفرق بين الفعل والفاعل. وزعم أن اسم الفاعل يقتضي التكرار بعكس الفعل(3).
__________
(1) سورة الأحزاب، آية 36.
(2) الدمنهوري، محمد أبو زيد، الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن، ص 88.
(3) المصدر السابق، وانظر جريدة الأهرام عدد 14 مايو 1931م.(2/74)
شوائب التفسير في حكم السرقة والزنا عند عبد المتعال الصعيدي:
…لقد طرح الصعيدي مشروعاً للنقاش على صفحات جريدة السياسة الأسبوعية لصاحبها د. محمد حسين هيكل –صاحب كتاب في منزل الوحي- وقال إنه ليس للجزم ولكنها دعوة إلى إعادة النظر في حدود الإسلام (الزنا والسرقة) بوجه آخر جديد. ومما جاء في المقال: "وسيكون هذا بإعادة النظر في النصوص التي وردت فيها تلك الحدود لبحثها من جديد بعد هذه الأحداث الطارئة. وسأقتصر في ذلك الآن على ذكر ما ورد في تلك الحدود من النصوص القرآنية وذلك قوله تعالى في حد السرقة { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (1). وقوله تعالى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } (2). "فهل لنا أن نجتهد في الأمر الوارد في حد السرقة، وهو قوله تعالى { فَاقْطَعُواْ } والأمر الوارد في حد الزنا وهو قوله { فَاجْلِدُوا } فنجعل كلا منهما للإباحة لا للوجوب ويكون الأمر فيهما مثل الأمر في قوله تعالى { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } (3) فلا يكون قطع يد السارق حداً مفروضاً لا يجوز العدول عنه في جميع حالات السرقة بل يكون القطع في السرقة هو أقصى عقوبة فيها ويجوز العدول عنه في بعض الحالات إلى عقوبات أخرى رادعة. ويكون شأنه في ذلك شأن كل المباحات التي تخضع لتصرفات ولي الأمر وتقبل التأثر بظروف كل زمان ومكان.
…وهكذا الأمر في حد الزنا سواء أكان رجماً أم جلداً مع مراعاة أن الرجم في الزنا لا يقول به فقهاء الخوارج لعدم النص عليه في القرآن الكريم.
__________
(1) سورة المائدة، آية 38.
(2) سورة النور، آية 2.
(3) سورة الأعراف، آية 31.(2/75)
…وهل لنا أن نذلل بهذا عقبة من العقبات التي تقوم على سبيل الأخذ بالتشريع الإسلامي مع أن في هذه الحالة لا نكون قد أبطلنا نصاً، ولا ألغينا حداً، وإنما وسعنا الأمر توسيعاً يليق بما امتازت به الشريعة الإسلامية من المرونة والصلاحية لكل زمان ومكان. وبما عرف عنها من إيثار التيسير على التعسير والتخفيف على التشديد"(1).
…وقد ذكر د. محمد حسين الذهبي هذا الرأي وقد تستر على ذكر صاحب المقال(2). وأقول إذا كان الرجل لم يستح بترويس اسمه على صفحة الجريدة، واسعة الانتشار، فهل يستحق الأمر إخفاء اسمه تحت أي مبرر من المبررات؟
…وقد عاود الشيخ عبد المتعال الصعيدي الرد على منتقديه تحت عنوان: التشريع المصري وصلته بالفقه الإسلامي، في المكان نفسه من الصحيفة، بعد أن ناقش مفهوم الأمر (الطلب) في القرآن وقال: "والخلاصة أني أدين بأن الأمر في ذاته للوجوب في الآية. وأن هذا الوجوب أجراه الفقهاء كل على ما رآه"(3).
…وناصره صاحب الجريدة بقوله: "وطبيعي أن خلاف العلماء فيما مضى معناه إباحة عدم توقيع الحد حين لا تنطبق عليه الآية في رأي هؤلاء العلماء لعدم توافر أركان الجريمة جميعاً، الأركان المادية والركن المعنوي. أما الذين فهموا من مقال الشيخ عبد المتعال الأول ما أشار هو إليه هنا فقد أسرفوا"(4).
__________
(1) عبد المتعال الصعيدي في مجلة السياسة الاسبوعية – رئيس تحريرها محمد حسين هيكل، ص6، العدد6 من السنة السادسة، 20 فبراير، 1937م.
(2) الذهبي، محمد حسين، التفسير والمفسرون، 2/506. ولم يذكر صاحب المقال. وفي ظني أنه تستر عليه لأنه يعد رمزاً لحركة إسلامية وأقول إن الدين الإسلامي ينبغي أن يكون أعز من أي مخلوق فلا نتستر على من يجاهر بالشوائب.
(3) جريدة السياسة الأسبوعية، رئيس التحرير، محمد حسين هيكل، والمقال للشيخ عبد المتعال الصعيدي، ص7 عدد 27 فبراير، 1937، مصر.
(4) المصدر السابق.(2/76)
…وقال في عدد آخر: إن من يمنع هذه الآراء على صفحات الجريدة يكن قد أعاد عمل محاكم التفتيش وشجب ما قام به الأزهر من عقوبة علي عبد الرازق الذي نشر كتابه الإسلام وأصول الحكم. وقد جعل محمد حسين هيكل جريدته منبرأً حراً للرأي الحر، والثقافة العالمية –كما قال-. وقال: (إن محاربة الرأي بوسيلة غير المجادلة بالتي هي أحسن إنما هي عمل من أعمال الجاهلية(1). وقال في عدد آخر: "ألا لئن فعلنا (حدود السرقة والزنا والجروح قصاص) لنكوننَّ في أعين العالم المتمدين همجاً متوحشين"(2).
…هذا ولم يرعو الشيخ عبد المتعال مع كثرة الردود عليه، وإقامة الحجة على مقالاته، بل ألف كتيباً بعنوان اجتهاد جديد طبعه في مطبعة الاعتماد بعد ذلك بثمانية عشر عاماً(3). أباح فيه الفطر في رمضان مع إخراج الكفارة لكل صاحب عمل فيه مشقة ومنهم عمال سكك الحديد. مما يدل على أن الرجل عقيدته فاسدة وليس مجرد صاحب اقتراح بريء.
__________
(1) جريدة السياسة الأسبوعية، محمد حسين هيكل، ص7، السبت 27 فبراير، 1937م. مصر.
(2) جريدة السياسة الأسبوعية، محمد حسين هيكل، ص5، السبت 13 فبراير، 1937م. مصر.
(3) احتهاد جديد في آية { وَعَلى الَّذينَ يُطِيقونَهُ فِدْيَة } (البقرة: من الآية 184) الصعيدي، عبد المتعال، ط1، مطبعة الاعتماد بمصر، 1/12/1374هـ الموافق 21/7/1955 والكتاب موجود بالهيئة المصرية العامة للكتاب تحت رقم 26431 تفسير.(2/77)
…وقال د. مصطفى محمود والمستشار مصطفى كمال المهدوي: "نشرت مجلة (صباح الخير) القاهرية مقالاً في عددها 1093 بتاريخ 16/12/1976م. للدكتور مصطفى محمود بعنوان (قطع اليد في القرآن) ومما جاء فيه، إن الآية لا تذكر سارقاً أي سارق، وإنما هي تأتي به معرفاً بأل التعريف فتقول: والسارق والسارقة. وأل التعريف لا تأتي في القرآن عبثاً ولا يوجد في القرآن حرف زائد إلا لحكمة ومعنى مقصود وسبب. وفارق بين كلمة (سارق) وكلمة (السارق) فالسارق الذي تقطع يده في القرآن هو محترف السرقة الذي يرتكبها ويعاودها، أما الذي يسرق مرة في ظرف انفعالي فلا تنطبق عليه الآية، وإنما يؤخذ بقوانين الردع الجنائية السائدة، وينذر بقطع يده إذا عاود السرقة فإذا عاد إلى السرقة بعد خروجه من السجن فهو السارق الحق الذي يقع تحت طائلة الآية، ا.هـ باختصار"(1).
شوائب التفسير في حكم السرقة والزنا عند الدمنهوري والصعيدي وهيكل:
__________
(1) وهبة، توفيق علي، شبهات وانحرافات في التفكير الإسلامي، ص26، ص 27، ط2، المطبعة العالمية، 1398هـ/1978م.(2/78)
1- زعم الشيخ الدمنهوري أن لفظ السارق والسارقة يعطي معنى التعود وهو مبني على اللغة التي تفرق بين الفعل، والفاعل واسم الفاعل الذي يقتضي التكرار. وهذا محض خيال فلا نعلم في قواعد اللغة أن اسم الفاعل يفيد ما زعمه. والذي اشتهر في اللغة العربية أن الفعل يدل على الحدوث مقترناً بزمان، واسم الفاعل يدل على الحدوث وفاعله(1). والمصدر يدل على حدث وزمان. ولا يدل على الزمان من جهة اللفظ بل من لوازمه وضروراته. وأجرى واضعو اللغة ضرباً من أسماء الفاعلين مما فيه معنى المبالغة فجرى الفعل الذي فيه معنى المبالغة في العمل وإن لم يكن جارياً عليه في اللفظ فقالوا: زيد ضراب عبيده، وقتال أعداءه(2). ومن فعل السرقة يكون اللفظ: السّراق والسّراقة أي كثير السرقة ولكنها لم ترد في الآية فلا شبهة له في قيله وهو من الشوائب.
__________
(1) يعيش، موفق الدين النحوي، شرح المفصل، 1/22، 23، طبعة عالم الكتب، بيروت.
(2) يعيش، موفق الدين النحوي، شرح المفصل، 6/70.(2/79)
2- زعم عبد المتعال الصعيدي أن الأمر في السرقة والزنا للإباحة لا للوجوب على سبيل توسيع أمر الشريعة لتصلح لكل زمان ومكان. ومن صيغ الطلب عند بعض علماء الأصول أن الأمر يفيد الإباحة ولا ينصرف إلى غيره إلا بقرينة. والقرائن هنا تصرفه للوجوب سواء في آية السرقة أو آيات الزنا. ففي الأولى: جزاء بما كسباً نكالاً من الله. ثم ذيل الآية عزيز حكيم، وقبلهما ترتيب القطع على الوصف بفاء التعقيب كل ذلك قرائن تدل على الوجوب. هذا من الكتاب، فضلاً عن الأحاديث الكثيرة التي تنهى عن السرقة. وفضلاً عن إجماع الصحابة الذي وقع على قطع يد السارق. وكذلك القرائن على الزنا ومنها قرينة العلية في العقوبة، وقوله لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله، وجعل ذلك شرطاً في الإيمان بالله واليوم الآخر، وأمر بالتشهير بعقوبة الزنا. فضلاً عن تحريم الزنا بالنص وعقوبة القذف في الآيات التالية. عدا عن القرائن من السنة النبوية، وإجماع الصحابة وعليه فقوله من الشوائب التي لا تتسع لها الشريعة.
3- ما زعمه الصعيدي ومحمد حسين هيكل بأن من يمنع إعادة النظر في عقوبة الزنا والسرقة يعيد بذلك عمل محاكم التفتيش أو هو من أعمال الجاهلية أو نكون في أعين العالم المتمدين همجاً متوحشين فهذا قول من لا محصل عنده، وهي مجرد اتهامات باطلة لا تصدر عن مؤمنين لأن قولهم معناه زعزعة الثابت القطعي في أحكام السرقة والزنا، وجعل المتواتر مظنوناً ليكون محل نظر. وهذا عكس للأمور. وعليه فما زعموه لا يلتفت إليه ونتمسك بقوله تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } (1).
حد الزنا:
__________
(1) سورة الأحزاب، آية 36.(2/80)
قال الشيخ محمد أبو زيد الدمنهوري عند قوله تعالى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (1): "يطلق هذا الوصف على المرأة والرجل إذا كانا معروفين بالزنا وكان عادتهما وخلقهما، فهما بذلك يستحقان الجلد"(2).
بيان الشوائب في تفسير الدمنهوري:
جعل عقوبة الزنا للمحصن وغير المحصن على سواء. وهي الجلد مائة فقط.
جعل الزنا يطلق على من اعتاد الزنا وكانت له حرفة. واستثنى مَنْ دون ذلك.
الرد على هذه الشوائب:
أل في كلمتي الزانية والزاني تفيد الجنس أي جنس الزناة. وكل من زنا مرة واحدة يطلق عليه في اللغة هذا اللفظ. ومثله الطفل إذا خطا خطوة واحدة فيطلق عليه أنه مشى. وهكذا فقوله يعد مغايراً لمعهود العرب في اللغة. فضلاً عن مخالفته الشرع كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأقام الحد على من اعترف بالزنا مرة واحدة وليس على من تكرر منه.
ذكر الذكورة والأنوثة يفيد التوكيد. وكان يكفي أن يذكر الزاني فقط لأن خطاب الذكر خطاب للأنثى. إلا ما كان خاصاً بالذكورة أو الأنوثة وعليه فيكون قوله مغايراً للقواعد اللغوية.
قوله يغاير القواعد الأصولية وهي أن المشتق إذا أعقبه فاء السببية فإنها تفيد علة الحكم ومنها { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (3). ومنها { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } (4)، فالزنا علة الجلد والسرقة علة القطع. والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً.
__________
(1) سورة النور، آية 2.
(2) الدمنهوري، محمد أبو زيد، الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن، ص 274.
(3) سورة النور، آية 2.
(4) سورة المائدة، آية 38.(2/81)
ذكر القرآن في الموضوع وأعرض عن السنة الصحيحة شبه المتواترة والحكم للزاني المحصن متواتر وهو الرجم حتى الموت وهو بذلك يخالف القرآن والسنة على سواء، قال تعالى { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } (1) وقال { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (2). وقال - صلى الله عليه وسلم - (يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكيء على أريكته يحدث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل الذي حرم الله)(3).
…وفي رواية أبي داود (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه؛ ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي ولا كلُّ ذي ناب من السبع ..) (4) الحديث.
2- محمد عزت دروزة وحد الزنا:
…"جمهور المفسرين وأئمة الفقه مجمعون على أن الحد المذكور في الآية الثانية (من سورة النور) على العزاب غير المتزوجين مع زيادة مختلف عليها وهي (نفي سنة) حيث يثبتها بعضهم وينفيها بعضهم. وأن الحد الشرعي على المحصنين المتزوجين هو الرجم حتى الموت مع زيادة مختلف عليها وهي مائة جلدة قبل الرجم"(5).
__________
(1) سورة النساء، آية 80.
(2) سورة النور، آية 63.
(3) رواه أحمد في مسنده برقم 17194 ورواه أبو داود برقم 4580 ، 4604 ، ورواه الترمذي عن المقدام بن معد يكرب حديث 2802.
(4) رواه أبو داود الحديث رقم 4580 باب لزوم السنة. وانظر الحديث 4581 – وانظر مسند أحمد رقم 23922 – وفي رواية (من بلغه عني حديث فكذب به فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه).
(5) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 10/7، وانظر ص 11 من المصدر نفسه.(2/82)
…ثم قال في حد الأمة: "ولما لم يرد في القرآن حد قابل للتنصيص إلا ما ذكر في آية النور فالمعقول أن تكون آية النساء قد نزلت بعد هذه الآية وعطفت عليها، والجمهور على أن حد الأمة المحصنة هو خمسون جلدة فيقتضي هذا أن يكون (الجلدة مائة) هو المحكم القرآني للزانية المحصنة الحرة"(1).
…هذا وقد رد أحاديث رجم الزاني المحصن بالعقل رغم أنها ورادة في الصحيحين. فقال عن حديث عبادة بن الصامت: خذوا عني، خذوا عني.
…"والمتبادر أن المعقول أن يكون هذا الحديث صدر قبل نزول آية النور بإلهام رباني للإجابة على سؤال، أو رفع حرج وإنهائه من إمساكهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت. لأنه لا تفهم حكمة صدوره في نفس الوقت الذي نزلت فيه الآية لأنها احتوت الحكم الموعود. ولا تفهم حكمة الزيادة على ما احتوته، ولا تفهم حكمة صدوره بعبارته المروية بعد نزولها لأن ما أريد التنبيه إليه قد نزل قرآنا، فإذا صح ما نقول تكن الآية قد نسخت من التشريع النبوي السابق عليها ما زاد على ما احتوته من تشريع عام للزنا إطلاقاً بدون تفريق بين محصنين وأبكار وهو جلد مائة جلدة"(2).
…وقال: "وبقيت مسألة الأحاديث الأخرى التي تعين الرجم للزناة المحصنين والتي ذكرت بعض وقائع رجمهم، فقد يرد على البال أنها هي الأخرى قد صدرت قبل آية النور) (3). وقد أوّل إجماع الصحابة والخلفاء الراشدين في رجم الزاني المحصن بأنه سنة سنها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بتنفيذها بعد نزول سورة النور ومات دون أن ينسخها وهي بعد لا تتناقض مع النص القرآني الذي جاء مطلقاً، شأن سائر التشريعات النبوية بصدد ما سكت عنه القرآن أو ذكره مطلقاً والله أعلم"(4).
__________
(1) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 10/10.
(2) التفسير الحديث، 10/10.
(3) المصدر السابق، 10/10، والأحاديث هي رجم ماعز، والغامدية، واغديا أنيس .. الخ.
(4) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 10/11.(2/83)
…وزعم أن الإمام أحمد بن حنبل قد شذ عن الفقهاء لجمعه بين الرجم والجلد للزاني المحصن(1). وقال إنه واجب، ثم قال: "وعلى كل حال فليس فيما ورد من النفي بعد الجلد، والجلد ثم الرجم للمحصنين في الأحاديث النبوية مناقضة للحكم القرآني من حيث المبدأ لأنه كما قلنا من قبل من باب التشريع النبوي في ما سكت عنه القرآن أو تركه مطلقاً"(2).
…وقال: "وفي نهاية البحث يحسن أن ننبه على أمر، وهو أن الرجم للمتزوج هو ما عليه معظم المذاهب وأن هناك من لا يأخذ به ويتمسك بالنص القرآني فقط وهو الجلد مائة للزناة عامة لا فرق بين محصن وأعزب، وقد ذكر السيوطي هذا عن الخوارج"(3).
…وقال الشيخ دروزة: "إن آية النور عدلت حكم الزناة في آيتي النساء
(15، 16) مع بقاء الشهود محكماً(4).
حكم زنا الأرملة والمطلقة عند الشيخ محمد عزت دروزة:
…قال: "وهناك حالات محتملة الوقوع لم نقع على قول فيها فيما اطلعنا عليه، منها زنا المتزوج بالبكر أو بالثيب غير المتزوجة كأن تكون أرملة أو مطلقة. ومنها زنا غير المتزوج بامرأة متزوجة. ولما كان المتبادر من حكمة التشريع النبوي في تشديد عقوبة الزنا على المتزوجين هي كونهم غير مضطرين جنسياً إلى السفاح حيث تكون حاجاتهم مقضية بالزواج فإن من السائغ أن يقال إن الرجم يكون في هذه الحالات للمتزوج فقط رجلاً كان أو امرأة وإن حد غير المتزوج هو الجلد"(5).
بيان شوائب التفسير عند الشيخ محمد عزت دروزة:
__________
(1) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 10/11.
(2) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 10/11.
(3) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 10/13.
(4) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 10/13. وانظر الإكليل في استنباط التنزيل – السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، ص 188، تحقيق سيف الدين عبد القادر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1401هـ-1981م.
(5) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 10/12.(2/84)
أحدث قاعدة التشريع القرآني والتشريع النبوي، وأخذ الأول، وجعل الثاني غير ملزم.
جعل العقل حكماً وقاضياً على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وللإنصاف نقول جعل الخواطر والخيال حكماً على السنة النبوية وهي لا ضابط لها ولا حدود.
تحايل على النسخ بقوله عدلت رغم أنه لا يعترف بالنسخ في القرآن. وهذا يذكرنا بتحايل بني إسرائيل على شرع الله. وفي قوله: "فإذا صح ما نقول تكون الآية قد نسخت من التشريع النبوي السابق عليها ما زاد على ما احتوته من تشريع عام للزناة إطلاقا". أخذ للنسخ كافتراض لأنه يوصله إلى ما يريد من أحكام.
لا يراعي حرمة الأحكام المتواترة، وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم ويردها بسهولة دون دليل، ويزعم أن الأمر ملتبس على الصحابة مما شاع بينهم، أو أنه تشريع نبوي لا يفرض كتشريع عام.
جعل حكمة التشريع عقلية وأقامها مقام العلة فقد كرر عبارة: لا تفهم حكمة صدوره، لا تفهم حكمة الزيادة، ولا تفهم حكمة صدوره بعبارته المروية بعد نزولها.
زعم أن أحمد بن حنبل شذ عن الفقهاء لجمعه بين الرجم والجلد للزاني المحصن لقوله بالوجوب. مع أن اتباع السنن والأحاديث النبوية الشريفة لا يسمى شذوذاً في عرف الشرع والفقهاء والعبارة مشهورة عند الفقهاء: إذا صح الحديث فهو مذهبي وإلا فاضربوا برأيي عرض الحائط. والحكم الشرعي في الزنا استنبطه الإمام أحمد من صريح نصوص الأحاديث الصحيحة الواردة في كتب الحديث الصحيحة.
جعل المحصن من كان متلبساً بالزواج، أما الأرمل والأرملة والمطلق والمطلقة فحكمه الجلد وهذا من الشوائب لمخالفته للغة والشرع.(2/85)
جعل الاضطرار علة جنسية في إيقاع العقوبة النبوية –على حد تعبيره- وهذا يفضي إلى أن الرجل الذي ابتلى بامرأة مريضة يعجز عن جماعها أن يزني فلا يُرجم، ومثله المرأة التي نكبت برجل مريض، ومثلهم المطلقة والأرملة. وكذلك الذكور ممن ينطبق عليهم هذا الوصف. وهذه شوائب لا علاقة لها بالتفسير ولا باللغة ولا بالشرع.
3- قال د. مصطفى محمود: "وكذلك { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } فقد ورد كلاهما في القرآن بآل التعريف. وآل التعريف تعني الرجل والمرأة الذين أخلدا إلى الزنا واتخذاه سلوكاً مختاراً، أو حرفة، أو حياة. ولا تعني رجلاً سقط ذات مرة في لحظة ضعف تحت إغراء عارض فقارف الزنا ثم ندم. فمثل هذا الرجل مثل هذه المرأة لا يذكران بألف التعريف. وإنما هي محض زان وزانية، وتطبق عليهما الآية الأخرى من سورة النساء { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } (النساء: 16). ونوع الإيذاء هنا ودرجته متروك لولي الأمر"(1).
…ثم قال: "فإن عاود الإثنان الزنا واصطنعاه فإنهما يقعان تحت طائلة الآية الزاني والزانية ومما يؤكد هذا الفهم أن شرط إقامة الحد هو أن يشهد أربعة من شهود العيان على الزانية والزاني –يشهدون أنهم عاينوا الإدخال بالفعل.. وهو أمر لا يمكن أن يحدث إلا في بيت دعارة وعلى مستوى احتراف- لأن الذي يقارف الزنا في لحظة ضعف، وتحت إغراء عارض تختلسه اختلاساً من وراء العيون ولا يمكن أن يستعرضه أمام الجمهور، فالآية نزلت لتقيم الحد على داعر وداعرة محترفين وليس على مراهق غلبته غريزته في لحظة غواية. فهذا يكفي لردعه أن يترك لولي الأمر أن يؤدبه بالصورة التي تناسب درجة انحرافه. ا.هـ"(2).
__________
(1) وهبة، توفيق علي، شبهات وانحرافات في التفكير الإسلامي ، ص28، 29، ط2، 1398هـ/1978م.
(2) المصدر السابق، ص 30.(2/86)
…وقال د. مصطفى محمود والمستشار مصطفى المهدوي: "وأما الرجم فلم يرد به حرف واحد في القرآن الكريم، ولا توجد في القرآن آية رجم واحدة، وإنما قرأنا عن الرجم في روايات السيرة، وهي روايات لم تسلم من التغيير والتبديل وليس لها ما للقرآن من حفظ وثيق مطلق. والله تعهد بحفظ القرآن ولم يتعهد بحفظ روايات السيرة، فما جاء بالسيرة اجتهادات تحتمل الخطأ والنسيان والإضافة والمبالغة. ولو أراد الله الرجم –وهو حد خطير- لما أغفل ذكره في كتابه المحكم الذي لم يفرط في شيء وإنما الرجم كان من الحدود التوراتية"(1).
…وقال مصطفى محمود مستشهداً بآراء المستشار مصطفى المهدوي: "وأما الزوجة التي تزني فعقابها السجن وذكر آية النساء"(2).
…ومن يجل النظر في أقوال د. مصطفى محمود يجده نسخة مكررة عن محمد عزت دروزة. والغريب أنهم يعملون بالآية المنسوخة حكماً، ويعرضون عن الأحاديث الصحيحة في رجم الزناة المحصنين.
حكم اللواط والسحاق:
__________
(1) وهبة، توفيق علي، شبهات وانحرافات في التفكير الإسلامي المعاصر، ص 33.
(2) المصدر السابق نفسه، والآية هي { واللاتِي يَأتينَ الفاحِشَةً مِنْ نِسائكُمْ فاسْتَشْهِدُوا عَليْهِنَّ أربَعَةَ مِنْكُمْ فَإنْ شَهِدُوا فَامسِكوهُنَّ فِي البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبيلا } (النساء: 15).(2/87)
…قال الشيخ محمد رشيد رضا: "واستعمال الآيتين(1) في الزنا واللواط هو الشائع كما نرى في الآيات عن قوم لوط وحينئذ يكون مفعوله حدثا كما في الآية التي نفسرها وما بعدها، ويكون شخصاً كما في قوله تعالى { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ } (2) ثم قال: "لكننا إذا بحثنا في متن هاتين الروايتين كيفما كان سندهما نرى أنه لا يصح أن يكون ما جاء فيهما عملاً بهذه الآية إذ ليس في الآية إجازة لأخذ المهر بل الآيات قبلها وبعدها تحرم أكل الرجل شيئاً من حقوق المرأة. ثم إن ابن جبير قال إنهم كانوا يحبسونها في السجن. أي لا في بيتها، وصرح كل منهما بأن هذا كان في أول الإسلام، وبدئه فيؤخذ من هذا كله أنهم كانوا يفعلون ذلك بالاجتهاد أو استصحاب عادات الجاهلية لأنهم لم يلتزموا العمل بنص الآية ولا يظهر القول بأن الآية نزلت في أول الإسلام وبدئه فقد بينا أن السورة مدنية وأنها نزلت بعد غزوة أحد"(3).
…وقال عند تفسير قوله تعالى { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } (4) أي يأتيان الفاحشة وهي هنا الزنا في قول الجمهور. واللواط في قول بعضهم، وعليه أبو مسلم، والأمران معاً في قوله (الجلالين) (5).
__________
(1) الآيات 15، 16 من سورة النساء { واللذانِ يأتِيَانها مِنكُم فآذُوهما فإنْ تَابَا وأصْلحَا فأعْرَضُوا عَنْهُمَا إنَّ اللهَ كانَ توَّاباً رحيماً } (النساء: 16).
(2) سورة النمل، آية 55 { أإنكمْ لتَأتونَ الرِّجالَ شَهْوةً مِنْ دُون النِّساء بَلْ أنتُمْ قومٌ تَجْهَلونَ } ، وسورة العنكبوت آية 29 { أإنكم لتأتونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبيل وتأتُونَ فِي نَاديكُمُ المُنْكَرَ } .
(3) رضا، محمد رشيد، تفسير المنار، 4/437.
(4) سورة النساء، آية 16.
(5) رضا، محمد رشيد، تفسير المنار، 4/374. وانظر ص 435.(2/88)
…وقال: "والظاهر أن آية النور نزلت بعد هذه وهي مبينة ومحددة للإيذاء هنا على القول بأن ما هنا في الزنا وإلا فتلك خاصة بحكم الزنا لأنها صريحة فيه، وهذه خاصة باللواط ولذلك اختلفت الصحابة ومن بعدهم في عقاب من يأتيه، وهذا ما اختاره أبو مسلم، وتخصيصه الفاحشة في هذه الآية باللواط الذي هو استمتاع الرجل بالرجل، والفاحشة فيما قبلها بالسحاق الذي هو استمتاع المرأة بالمرأة هو المناسب لجعل تلك خاصة بالنساء. وهذه خاصة بالذكور. فهذا مرجع لفظي يدعمه مرجع معنوي وهو كون القرآن عليه ناطقاً بعقوبة الفواحش الثلاث، وكون هاتين الآيتين محكمتين، والإحكام أولى من النسخ حتى عند الجمهور القائلين به"(1).
…وقال الشيخ محمد عبده: " وخالف الجمهور أبو مسلم في الآيتين فقال: إن الأولى في المساحقات والثانية في اللواط فلا نسخ، وحكمة حبس المساحقات على هذا القول هو أن المرأة التي تعتاد المساحقة تأبى الرجال وتكره قربهم –أي فلا ترضى أن تكون حرثاً للنسل- فتعاقب بالإمساك في البيت والمنع من مخالطة أمثالها من النساء إلى أن تموت أو تتزوج، وقال الشيخ رشيد: والأولى أن يقال إلى أن تموت، أو تكره السحاق وتميل إلى الرجال فتقبل على بعلها إن كانت متزوجة، وتتزوج إن كانت أيّما"(2). ثم قال: "فالحق أن ما ذهب إليه أبو مسلم هو الراجح في الآيتين"(3).
…وقال أبو زيد الدمنهوري: "واللاتي إشارة إلى فعلة النساء بعضهن مع بعض. واللذان إشارة إلى فعلة الذكر مع الذكر. ويبقى فعلة الذكر مع الأنثى تراها في الإسراء في 32 وأوائل النور"(4).
__________
(1) رضا، محمد رشيد، تفسير المنار، 4/338.
(2) رضا، محمد رشيد، تفسير المنار، 4/339.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) الدمنهوري، محمد أبو زيد، الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن، ص 63.(2/89)
…وقال د. عبد الكريم الخطيب: "إن الآيتين السابقتين صريحتان في أن الأولى منهما في شأن النساء، وأن الآية الثانية في شأن الرجال خاصة. وليس بين النساء والنساء إلا السحاق. كما أنه ليس بين الرجال والرجال إلا (اللواط). وعلى هذا فإننا –وإذا خالفنا ما كاد ينعقد إجماع الفقهاء والمفسرين- نرى أن قوله تعالى: { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ } هي لبيان الحكم في جريمة (السحاق) التي تكون بين المرأة والمرأة. وأن هذا الحكم هو ما بينه الله سبحانه وتعالى في قوله { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } (1). أن يؤذين بالحبس في البيوت. بعد أن تثبت عليهن الجريمة بشهادة أربعة من الرجال دون النساء. كما تبين ذلك في قوله تعالى { فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ } أي أربعة منكم أيها الرجال المسلمون(2).
…وقال: "وأما قوله تعالى { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } (3) فهو خاص بجريمة اللواط بين الرجل والرجل، والحكم هنا هو أخذهما بالأذى الجسدي، أو النفسي، وذلك بعد أن يشهد عليهما أربعة شهود، على نحو ما في السحاق"(4).
__________
(1) سورة النساء، آية 15.
(2) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م4، 2/721. وانظر مجمل قوله في المسألة ص 718-725 من المصدر نفسه.
(3) سورة النساء، آية 16.
(4) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآني، م4، 2/721.(2/90)
…إن منزلق د. الخطيب هذا سببه تعطيله لدلالات قطعية لآيات النسخ في القرآن، ولعدم التزامه بما انعقد عليه إجماع الصحابة الكرام، وما عليه المسلمون من وجوب العمل بمصطلح النسخ، وهذه العقوبات التي ذكرها من الشوائب المدسوسة على التفسير –سواء أكانت من الخوارج أم من أبي مسلم المعتزلي أم من غيرهم- فالسحاق له عقوبة تعزيزية يقررها الخليفة أو القاضي، وشهوده اثنان وليس أربعة، واللواط حد من حدود الله شهوده اثنان، وعقوبته القتل كما ورد في الحديث الشريف والنهي عنهما ليس من هذه الآية على الإطلاق. والآيتان منسوختان، وهما في الزنا وليس في السحاق واللواط، وعقوبة الزنا هي الجلد لغير المحصن، والرجم للمحصن حتى الموت. والإحصان هو من تزوج في حياته بعقد شرعي ودخل بها، وإن طلق زوجته أو ترمل، وتفصيل ذلك في كتب الفقه.(2/91)
…وقال الشيخ محمد عزت دروزة: "والقياس قد يقتضي أن تكون العقوبة كعقوبة الزنا فيكون حد اللائط المتزوج الرجم وغير المتزوج الجلد، وحد الملوط به الجلد. غير أن هناك حديثاً رواه أصحاب السنن عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"(1). وهذا ما عليه الجمهور. وليس بينه وبين تشريع الزنا تناقض لأنه في صدد حالة سكت عنها القرآن"(2). وقال: "ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن ثبوت جرم اللواط منوط بما يناط به ثبوت جرم الزنا. والحدود المذكورة في الآية والأحاديث مطلقة بحيث تتناول الأحرار والمماليك. وقد احتوت آية النساء خمسة عشر استثناء للأمة المتزوجة.. أما المملوك الذكر فلم نطلع على أثر نبوي فيه، وإطلاق الآية والأحاديث قد يفيد أن شأنه شأن الحر في مختلف الحالات"(3).
بيان الشوائب في مقولة الشيخ دروزة:
زعم أن شهادة اللواط كشهادة الزنا وهي أربعة شهود. لأنه ساوى بين حكميهما فساوى كذلك في شهادتي إثباتهما. وهو رأي مخالف لما عليه فقهاء المسلمين، وجمهورهم بعامة، وخارق للقطعي والمتواتر عند المسلمين. وأن الآيتين في الزنا وليس في اللواط. والقرائن تدل على ذلك.
__________
(1) سجل دروزة في الهامش أنه أخذه عن تفسير ابن كثير في تفسير سورة البقرة. انظر دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 1/12، والحديث رواه الترمذي ورقمه 1456، وأبو داود برقم 4462، وأحمد 1/300 وغيرهم، وهو حديث صحيح.
(2) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 1/12.
(3) المصدر السابق، ص 13.(2/92)
جعل حد اللواط مما سكت عنه القرآن. ومن يسبر لغة الرجل ومصطلحاته يفهم أن حكم اللواط ما دام لم يرد في القرآن فيحق للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يشرع تشريعاً نبوياً مستوحى من البيئة التي كان يعيش فيها على سبيل التلقين والإرشاد – وهو غير ملزم – والحكم من بعده لولاة الأمور يقدرونه حسب المصلحة والظروف الزمانية والمكانية. فضلاً عن أن حكم اللواط ليس من هذه الآية.
يفرق بين الذكر والأنثى في جريمة الزنا. وهو قول بالتشهي والهوى لا بالدليل. وهو بهذا يخرق قواعد الأصول حيث أن خطاب الذكر هو خطاب الأنثى ما لم يرد دليل التخصيص. وهو بهذا يناقض نفسه حيث قال في عقوبة قذف المحصنات: "ومن تحصيل الحاصل أن يقال: إنه لا فرق في جريمة القذف بين أن يكون مرتكبها رجلاً أو امرأة. فالقرآن لا يفرق بين الرجل والمرأة في هذه المسألة على ما نبهنا عليه في مختلف المناسبات"(1).
يعارض نص القرآن الذي جعل عقوبة العبد المملوك نصف عقوبة الحر الوارد في آية النساء { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } (2). وهنا يقول: إن إطلاق الآية يفيد أن عقوبة المملوك مثل عقوبة الحر في مختلف الحالات. وقد أكد ذلك في حكم حد القاذف بالزنا بأنه نفس حد الحر(3).
__________
(1) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 10/17.
(2) سورة النساء، آية 25.
(3) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 10/17، 18.(2/93)
ومن شوائب التفسير قوله بسقوط حد القذف عن القاذف إذا تاب وعفا عنه المقذوف قياساً على عفو أهل القتيل عن القاتل وسقوط القصاص عنه بذلك(1). لأن هذا يعارض القياس المعتبر في أصول الفقه وهو العمل بالقياس بعلة شرعية. وهنا لا توجد علة فقياسه على غير قواعد القياس في الإسلام. والعفو الذي يسقط القصاص في القتل ورد به النص في القرآن بخلاف حد السرقة والزنا والقذف فلم يرد بها نصوص تسقط العقوبة عن مقترفيها. ونحن معاشر المسلمين أمة تتقيد بنصوص الوحي ورسومه، ونتيه على العالمين بهذا التقيد وبهذه القيود لأنه انقياد لخالق الخلق عز وجل. وفي هذا القدر كفاية لإلقاء الضوء في الشوائب التي شابت التفسير في موضوع العقوبات في القرن العشرين الميلادي، الرابع عشر الهجري.
__________
(1) دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، 10/20.(2/94)
المبحث الثالث :شوائب التفسير في الفنون
أولاً: الموسيقى
…إن الموسيقى في الحياة الغربية بمثابة البسملة عند المسلمين، وغدت عنوان الحضارة الغربية فتأثر بعض المفسرين في القرن الرابع عشر الهجري بذلك فزعموا أن القرآن موسيقى إلهية. ودعا علماء الموسيقى للانتهال من ينابيع الموسيقى السماوية. وتعالت أصوات تنادي بالتغني بالقرآن على أنغام الموسيقى، وأخرى لتصوير القصص القرآني في السينما والمسرح، وارتفعت أصوات – وإن كانت ناشزة – تنادي بتلحين القرآن بين أهل الفن ورجال الدين. هذا وقد حرص نابليون على تنفيذ وصية المستشرقين الذين نصحوه بإحضار جوقة موسيقية معه عند احتلال مصر 1897م لتغيير طراز عيش المسلمين فاستجاب على الفور وباهتمام بالغ لتغيير ذوق وحس المسلمين فبدل أن يطربوا على قعقعة السلاح في ساحات الجهاد تحولوا للطرب على هز خصور الغانيات، وعدلوا عن السياحة في الجهاد إلى السياحة على أنغام الموسيقى في المطاعم والملاهي والنوادي الليلية ودور السينما بل أدخلوه لكل بيت عن طريق شاشة التلفزيون والتسجيلات الصوتية. وحتى يأنس الناس إلى هذا الطراز الغربي فلا بد أن يُضفوا عليه صفة الشرعية فجاء بعض المفسرين وأوضعوا خلال تفسيرهم الدعوى للموسيقى يبغون المسلمين الفتنة ومن هؤلاء:
الشيخ طنطاوي جوهري:(2/95)
…لقد ملأ تفسيره بالحديث عن الموسيقى، وتحدث عن صفة الموسيقى عند القدماء، وعن هيئتها عند علماء العصر الحاضر. فعن القديم تحدث عن فيثاغورس الفيلسوف أنه سمع مطارق حداد فأطربته رناتها فوزنها فكانت نسبتها هكذا: 6، 8، 9، 12 فأتى بأوتار أربعة متساويات طولاً وسمكاً، وعلق فيها أثقالاً على هذه النسبة، فكانت مطربة مفرحة تشرح صدور البائسين. ثم ذكر ما في كتاب (إخوان الصفاء) أن أوتار العود لها نسب غير هذه. والأوتار عند القدماء أربعة وهي (الزير والمثنى والمثلث والبم) وهي مرتبة من أعلى إلى أسفل. وقد قالوا: إن وتر الزير مركب من 27 طاقة من الحرير، والمثلث يزيد عليه فهو 36 طاقة. والمثنى يزيد عليه ثلث فهو إذن 48. والبم يزيد على ما قبله ثلث فيكون 64 وبهذا انتظمت النغمات وابتهجت النفوس(1).
…وذكر نظيره في الموسيقى الحديثة مما ذكره في تفسير سورة مريم: "إدراك الإنسان للأصوات ينحصر في 10 دواوين أي أبعاد كلية موسيقية، فإذا ورد على الأذن 16 موجة في الثانية، فهذا أقل الأصوات ثم 32-64-128-256-512-1.024-2.048-4.096-8.192-16.384 ومعنى هذا أن أسماعنا تفرح بنظام الحركات بأي شكل كان، ففي العود العربي القديم تفرح نفوسنا بالنظام على ازدياد الطاقات بالثلث ويكون ذلك منتظماً. وها هنا تفرح النفس بما تحس من نظام المتوالية الهندسية البديعة. فنفوسنا هي هي قديماً وحديثاً لا تفرح إلا بما هو منظم"(2).
__________
(1) جوهري، طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن، م10، 2/30، تفسير سورة الشورى. وكلمة ثلث هكذا وردت والصواب يقتضي أن تكون بالفتح.
(2) جوهري، طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن، م10، 2/30، تفسير سورة الشورى، وانظر تفسير سورة مريم، م5، 10/30-31.(2/96)
…ويرى طنطاوي جوهري أن فاتحة سورة الشورى { حم عسق } تدل على الموسيقى. وأن الموسيقى لا بأس أن تملأ على المسلمين حياتهم. بل ادعى أن النغمات والألحان تؤثر في نفوس السامعين تأثيراً يضارع العقاقير الطبية في الأجسام(1).
…ويُصرُّ الشيخ طنطاوي على أن هذا الكلام تفسير للقرآن الكريم. فقال في مجلة الفتح يرد على الشيخ الحمامي الذي انتقد عليه في مسائل ستة ومنها الرقص عند قدماء المصريين حيث تحدث عن أربعين نوعاً من الرقص القديم والرقص الحديث على الرجلين، وعلى الرجل الواحدة، بل على رؤوس الأصابع، وعلى التمايل والتلوي ثم قال: "وها هو ذا في 25 مجلداً جمعت خلاصة حكمة اليونان وآبائنا أيام مجدهم، وحكمة علماء عصرنا بأوروبا ونموذج التاريخ وأحوال الإسلام العامة في زماننا، كل ذلك تفسير لآيات القرآن في هذا الزمان الذي ظهرت فيه عجائب الحكمة الإلهية وأصبحت العلوم الحديثة مصداقاً للقرآن"(2).
__________
(1) جوهري، طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن، م8، 15/179. عنوان الموسيقى.
(2) مجلة الفتح، محب الدين الخطيب، ص 391، العدد 370ـ السنة الثامنة، المجلد 8- رقم المجلة بالهيئة المصرية العامة للكتاب: 1039.(2/97)
…وهذه العبارة وإن تكررت في التفسير إلا أن ورودها بعد فراغه من التفسير في مجلة الفتح ردا على المعترضين يدل على إصراره على موقفه أن الرقص وأنواعه القديمة والحديثة، والموسيقى القديمة والحديثة تفسير لكلام رب العالمين. إن إيداع أمثال هذه الأمور في بيان معاني خطاب رب العالمين لإحدى الكبر. وليس غريباً أن يؤول الأمر إلى فساد الحس الإيماني عند من يأخذ بكلامه. فإيراد مثل هذه الأمور في تفسيره استحساناً، أو دون استنكار يعد مثلبة وأي مثلبة، حيث يوجه المسلمين إلى طراز الحياة الغربية بأسوأ ما فيها. ولا شك ولا ريب أن هذه شوائب في التفسير لا سند لها في اللغة ولا في الشرع بل هي أفكار تعشعش في ذهن صاحبها أراد أن يضفي عليها صبغة شرعية ليبلغ هدفه في الانقلاب الفكري الذي يسعى إليه من هذا التفسير فأودعها تفسيره.
الموسيقى في تفسير الشيخ عبد الكريم الخطيب:
…قال في تفسير سورة الرحمن – نظمها: "فهذا المقطع الذي بدأت به السورة الكريمة، هو مقدمة موسيقية علوية اللحن، قدسية النغم، لا تكاد تتحرك بها الشفاه، وتتصل بها الآذان، حتى يتفتق من أكمامها هذا الجلال المهيب، الذي يملأ القلب مهابة وخشية، وحتى يشيع في النفوس روحا وانتشاء. سواء في ذلك من وقف عند تناغم الألفاظ، وتجاوب جرسها، أم من جمع إلى هذا ما يفتح الله له من علم يرى في أضوائه جلال المعنى، وصدقه المصفى من شوائب الباطل والضلال.(2/98)
…فالنظم الذي جاءت عليه هذه الآيات، مستغن بنفسه عن أن يحمل كلماته ما تحمل اللغة من دلالات ومفاهيم متعارفة بين أهلها، وحسبه أن يفعل بنغمة الموسيقى ما لا تفعل أروع الألحان الموسيقية من روْح وانتشاء! فكيف إذا حمل هذا النغم مع ذلك أدق وأصدق وأحكم ما تحمل الكلمات من معنى"(1). وقال: "ثم انظر كيف كانت كلمة الرحمن التي بدئت بها السورة، هي الميزان الذي تجري أحكامه على آيات السورة كلها، وتنضبط عليها أنغامها، وتتألف منه وحدة اللحن كله.. فيكون أشبه (بالرتم) الذي يمسك باللحن الموسيقى من مطلعه إلى نهايته!!"(2). وقال: "إن لعلماء الموسيقى مجالاً فسيحاً للدراسة والإفادة من هذا النظم الذي تمثل كل آية فيه جملة موسيقية. تختلف طولاً وقصراً، وتأتلف مطلقاً – قراراً"(3). ثم قال: "أما عند الموسيقي فإنه يجد نفسه، وهو يتلو هذه الآيات إنما يتلقى درساً علوياً من ينابيع الموسيقى السماوية فيستفتح اللحن بكلمة (الرحمن) فيعطيها كل ما يمتليء به صدره من أنفاس الحياة، ثم يعود فيوزع أنفاسه بين كلمتين كلمتين، ثم بين ثلاث ثلاث، ثم بين أربع أربع، ثم بين ست كلمات، هي آخر ما يمكن أن يمتد إليه النفس غالباً، ثم يعود ليلتقط أنفاسه، فيوزعها بين ثلاث كلمات.. ثم يأخذ نفسه مرة أخرى ليوزعه إلى خمس كلمات، فتلقاه الآية التي ستكرر على امتداد السورة { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } وهي أربع كلمات، هي وسط بين الثلاث والخمس !! هذا قليل من كثير لا نهاية له مما يجده الناظر في نظم هذا المقطع الذي بدئت به السورة والذي جاءت عليه السورة كلها"(4).
وقال في تفسير سورة المسد:
__________
(1) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م27، 14/652.
(2) المصدر السابق، ص 653.
(3) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م14، 27/655.
(4) المصدر السابق، ص 656، وانظر ما قاله في تفسير الآية 48 من سورة هود، م6، 12/115.(2/99)
…وأكثر من هذا .. فإن النغم الذي جاءت عليه السورة الكريمة، قد جاء في صورة تغري بأن تكون أغنية يتغنى بها الولدان، ويحدو بها الركبان، ويتناشد بها الرعاة.. إنها تصلح أن تكون في نظمها غناء، أو نشيداً، أو حداءً، ولا نحسب إلا أنها كانت. بعد أيام قليلة من نزولها، نشيداً مردداً في طرقات مكة، على ألسنة الصبيان، وفي البوادي على أفواه الرعاة والحداة، وأنها قد أخذت صوراً وأشكالاً من الأوزان، والأنغام التي تولدت من نظمها العجيب المعجز. انظر ألا يمكن أن تنشد هكذا:
تبت يدا أبي لهب
ما أغنى عنه ماله
سيصلى ناراً
وامرأته
في جيدها ... وتبا
وما كسبا
ذات لهب
حمالة الحطب
حبل من مسد
ثم قال: ألا يمكن أن تكون صوت حداء هكذا:
تبت يدا أبي لهب وتب
سيصلى ناراً ذات لهب ... ما أغنى عنه ماله وما كسب
وامرأته حمالة الحطب
في جيدها حبل من مسد
ثم قال: ألا يمكن أن تكون نشيد رعاة هكذا:
تبت يدا ... أبي لهب ... وتبْ
ما أغنى عنه ... ماله ... وما كسب
سيصلى ... ناراً ... ذات لهب وامرأته حمالة الحطب
في جيدها ... حبل ... من مسد
وهكذا يمكن أن تتوالد منها الصور، وتتعدد) (1).
…وهكذا يحرف الدكتور عبد الكريم الخطيب الأنظار في تلاوة القرآن ويصرفه عن الهداية إلى تعلم وتعليم الموسيقى، وتذوقها في رحاب القرآن فيصبح ديناً للفن واللهو والطرب لا تشريعاً للالتزام والعمل.
__________
(1) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م16، 30/1708-1709.(2/100)
…وقد ذهب إلى مخالفة المتواتر من ترتيب الآيات في السور تحت مظلة مدح القرآن بالجرس الموسيقي. فقال في تفسير فاتحة سورة النور: "نقول – والله أعلم – إن بدء السورة في الحقيقة هو قوله تعالى في الآية الثانية { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } فقوله تعالى { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } هو أشبه بالموسيقى التي تتقدم موكب المجاهدين في سبيل الله، المتجهين إلى غزو مواقع الكفر والضلال. إذ أن الآيات التي جاءت بعد هذا المطلع، هي في الواقع أقرب شيء إلى أن تكون بعثاً من جند السماء، يحمل الهدى والنور إلى المواطن المظلمة من المجتمع الإسلامي، فيبدو ظلامها، ويكشف للأبصار والبصائر الطريق المستقيم إلى مرضاة الله"(1).
…وقال عن الأحرف التي افتتحت بها بعض السور: "فإن مجيء هذه الأحرف المقطعة في بعض سور القرآن، وفي مفتتح السور التي جاءت فيها – إن هذا أشبه "بالوحدة" التي يقوم عليها اللحن الموسيقي، والتي يسري صداها في اللحن كله، من أوله إلى آخره، وإن تعددت أنغامه، وخفتت أو علت أصداؤه..! فليس من الضروري إذن أن يجتهد في البحث عن معنى لهذه الأحرف المقطعة، ولنا أن نحسبها مطلعاً موسيقياً تقوم عليه وحدة النغم في ترتيل آيات السور التي بدئت بحرف أو حرفين أو أكثر"(2).
__________
(1) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م9، 18/1198-1199.
(2) المصدر السابق، م1، 1/25 تفسير سورة البقرة.(2/101)
…إن فكرة فواتح السور أنها إشارات وبيانات موسيقية بدعة ضالة حديثة وشائبة شابت التفسير نزع إليها زكي مبارك صاحب كتاب النشر الفني وقد استلهمها من المستشرق مسيو بلانشو(1). فقال: "عرض علي تأويلاً جديراً بالدرس والتحقق وفي رأيه أن الحروف ألم – ألر – حم – طسم هي كالحروف A.O.I التي توجد في بعض المواطن Chanson de gest فهي ليست Neumes أي إشارات وبيانات موسيقية يتبعها المرتلون. وقد كانت الموسيقى القديمة بسيطة يشار إلى ألحانها بحرف أو حرفين أو ثلاثة. وكان ذلك كافياً لتوجيه المغني أو المرتل إلى الصوت المقصود – وفي الكنيسة المسيحية في أوروبا حيث لا تزال تحفظ تقاليد الغناء الجريجوري. وفي أثيوبيا مثلاً يوجد اصطلاح موسيقي مشابه لذلك فإن رئيس المرتلين يبدأ الصوت بالحروف التي تذكر (بألم) في القرآن أو A.O.I. في نشيد (رولان).
…ويميل الدكتور زكي مبارك إلى هذا الرأي فيقول: "ويؤيد رأي المسيو بلانشو أن (ألم) تنطق هكذا عند الترتيل: ألف لام ميم فهي ليست رموزاً ولكنها رموز صوتية"(2).
__________
(1) الطاهر، علي نصوح، أوائل السور في القرآن الكريم، ص 16.
(2) الطاهر، علي نصوح، أوائل السور في القرآن الكريم، ص 16، عن كتاب عن القرآن لمحمد صبيح، ص133.(2/102)
…وعليه فأصل فكرة صرف أذهان الناس عن القرآن وما فيه من معنى إلى ألحان موسيقية هم المستشرقون. وتفسير الخطيب كان تطبيقاً عملياً لهذه الفكرة فصيّر د. عبد الكريم الخطيب نظم سورة الرحمن مقدمة موسيقية علوية اللحن، قدسية النغم تحدث في النفوس الانتشاء. وهذا اللحن الموسيقي مستغن بنفسه عن حمل مفاهيم ودلالات للألفاظ. والقرآن يحدث بلحنه، والموسيقى التي يحملها ما تعجز أروع الألحان من تأثيرها في النفوس من روْح وانتشاء، وشبه كلمة الرحمن بالرتم الذي يمسك باللحن الموسيقي من مطلعه إلى نهايته. ثم وجه الدعوة إلى علماء الموسيقى ليفيدوا من نظم القرآن في مجال دراستهم الموسيقية. وبين أن الموسيقي وهو يتلو آيات سورة الرحمن إنما يتلقى درساً علوياً من ينابيع الموسيقى السماوية. وفي سورة المسد بين أن نظمها جاء على صورة تغري أن تكون أغنية يتغنى بها الولدان والصبيان، ويحدو بها الركبان، ويتناشد بها الرعاة، ثم تخيل أنها كانت كذلك بعد نزول الآية تغنى بها الولدان والركبان في طرقات مكة وفي البوادي كذلك، مع أنه يدرك تمام الإدراك أن القرآن كان محظوراً في الحياة العامة في مكة، ولم يكن يتلى إلا في اناء الليل، وفي قعر بيوت المؤمنين وهي قليلة جداً. ثم قطعها: غناء وحداء ونشيداً. وفي سورة النور فقد حذف الآية الأولى من السورة وجعلها لحناً موسيقياً لبدء السورة. وفي سورة البقرة جعل الأحرف التي افتتحت بها السورة وحدة للحن الموسيقي وهي مطلع موسيقي ولا داعي للبحث عن معنى لها. وهكذا فإن الدكتور عبد الكريم الخطيب متأثر بالغرب في هذه القضية فجعل الألباب تتعلق بالقرآن كموسيقى وجرس موسيقي خلاب فلا ينظر إلى المعاني ويكتفي بالألحان التي تهز مشاعر التالين لذكره والسامعين. تعالى كتاب الله عن ذلك علواً كبيرا. ولا يخفى أن هذه شوائب لا تمت للتفسير بسبب ولا نسب فلا تحتملها اللغة ولا يقرها الشرع.(2/103)
…ويخشى هنا من حزب التبرير أن ينقل صعيد البحث إلى أحكام الاستماع إلى الموسيقى، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقر الراعي وهو يعزف على آلته، وأقر عمر على سماعه له، وربما يستشهد بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - استمع للجواري وهن يضربن الدفوف بين يديه وبحضور أبي بكر، وتوقفن خشية من عمر لا لأنه منهي عنه..، نقول لهؤلاء: نحن لسنا بصدد بحث أحكام فقهية في هذه المسالة بل نبحث عن الشوائب في تفسير القرآن الكريم التي تصرف الأنظار عن معانٍ في القرآن، وعن دلالات الألفاظ أي تصرف الأنظار عن هداية القرآن إلى الموسيقى وألحانها. إن توجيه المسلمين إلى الموسيقى، وتحويل قرآنهم إلى نوتة موسيقية تقرب الدعاة إلى الغرب الكافر زلفى. والمؤمن الغيور على دينه، المتمسك بهدي ربه يتقرب زلفى إلى الله بالعمل بما ورد في القرآن. هاجراً فسق وفجور الغرب المستعمر لنا، والمستعبد لشعوبنا، والمهيمن على مقدراتنا الفكرية والمادية على سواء. والموسيقى ثقافة تتعلق بوجهة النظر في الحياة. فلو كان فيها خيرٌ للمسلمين لما حرص نابليون عند استعماره لمصر أن ينفذ وصية المستشرق ويحضر معه جوقة موسيقية. فعلينا أن ننفر منها نفورنا من المجذوم لا أن نشوق الأذهان إليها لتملأ حياتنا. ولا أن نحور القرآن ليكون دعوة لها.
المسرح والسينما: فتوى الشيخ رشيد بارتياد المسارح:(2/104)
…لقد عثرت بين أوراق الشيخ رشيد الخاصة على قصاصات جريدة (أبي نظارة) التي كانت تصدر في القطر المصري، وتحت عنوان هذه فتوى نقل عن جريدة الشورى ما يلي: "أقامت مطربة الشرق الشهيرة (الآنسة أم كلثوم) إحدى حفلاتها الفنية الراقية. وما كاد يرفع الستار حتى كانت بأحد (ألواج) المسرح نخبة من أشهر علماء الإسلام. وأنبغ زعمائه ومفكريه، ومن بينهم الأمير شكيب أرسلان، والأستاذ محمد علي طاهر، ويتقدم الجميع محمد رشيد رضا، وما أن استقر بهم المجلس حتى قال صاحب (الشورى) متسائلاً: وهل يجوز سماع أم كلثوم؟ فأجابه الشيخ رشيد بقوله: كيف لا ؟ وأنت تراني هنا فقال الأمير شكيب عند ذلك: هذه فتوى" وقال الأمير مرتجلاً:
رؤوس تغطى بثلج المشيب
تميل من (الطرب) المستمر
أتيح لنا سمع آياتها ... ولكنما النار من تحتها
لدى (أم كلثوم) مع تختها
فعدته نفسي من بختها
…وقد عقب صاحب جريدة (أبو نظارة) بقوله: فهل بعد هذا يتشدق المتشدقون بأن الفن الموسيقي الجميل هو من المحرمات والمنكرات؟ أم أن حضرتهم اطلعوا على ما لم يطلع عليه أمثال هؤلاء الأفذاذ، وأدركوا ما لم يدركوه من أحكام الإسلام وأصوله وفروعه؟(2/105)
…ومما قاله كذلك: ابتلى فن (الطرب) الجميل بثلة ما انفكت تعتقد فيه المخالفات للدين الحنيف. وما فتئت تحذر الناس من الحضور لسماعه – لأنه في نظرها – من المحرمات المبتذلات والكبائر التي يجب الابتعاد عنها والفرار منها، ثم قال: أجيبوني أيها الإخوان: ماذا ترون في أعظم علماء الإسلام – بالعصر الحاضر – وأشهر المتدينين العلامة (الشيخ محمد رشيد رضا) صاحب (المنار) المضيء. وتلميذ ذلك الأستاذ الكبير المرحوم الشيخ محمد عبده؟ وماذا تعتقدون في أكبر زعماء الحركة الملية. وأخلص الكتاب المصلحين أمير البيان (الأمير شكيب أرسلان) صاحب المدبجات الذائعة الصيت. وماذا تقولون في المسلم المخلص، والصحافي الماهر (الأستاذ محمد علي الطاهر) صاحب الشورى الغراء؟ لا أحسب أنه يوجد من يستطيع القدح في كرامة أحد من هؤلاء الأفذاذ، أو تناول عقائدهم الطاهرة بسوء. ثم نقل الفتوى عن جريدة الشورى(1).
…ومن يجل النظر يجد أن الفتوى انبعثت من مسرح للهو شهد الحضور مغنية بلباسها المعهود عند الغناء. ونجد أن صاحب الجريدة – وهو أبو نظارة- كافر من كفار المستعمرين جاء ليفسد على المسلمين دينهم بنشر فتوى، احتفظ صاحبها بنسخة منها عنده، تعد الشيخ رشيد من أنبغ مفكري الإسلام في العصر الحاضر، وتعد عمله دليلاً شرعياً. وتوج صفاته أنه تلميذ للشيخ محمد عبده. بل جعل الدرزي المشهور الأمير شكيب أرسلان حجة، وشعره الفياض دليلاً. كما جعل صاحب جريدة الشورى الناطقة بلسان يهود الدونمة (الاتحاد والترقي) ذا عقيدة إصلاحية سليمة. وقد كان الشيخ رشيد رئيساً للجمعية. هؤلاء هم زعماء الحركة الملية. ونذكر القارئ الكريم أن الشيخ رشيد يرى أن جريدة ومجلة المنار شرع أوله وآخره.
لماذا لا تظهر قصص القرآن في السينما والمسرح:
__________
(1) من أوراق رشيد الخاصة، جريدة أبي نظارة، ولدي صورة عنها.(2/106)
…كتب عبد الحميد جودة السحار مقالاً تحت هذا العنوان ليضارع به فيلم الإنجيل. وقد التقط صورة لسفينة نوح، ولا يهمنا ما كتب في المقال بقدر ما تهمنا الفكرة الجريئة التي تنال من قدسية القرآن الكريم. وقال فإذا أردنا أن نتتبع قصة إبراهيم خليل الرحمن نجدها في عشرين سورة، وقصة موسى عليه السلام نجدها في أكثر من عشرين سورة ولا تعطينا صورة كاملة عن أي منهما. والسينما العالمية أخرجت لنا كل قصص أنبياء التوراة على الشاشة وكان آخرها فيلم الإنجيل وهذا لا يثير المؤمنين اليهود والمسيحيين وهذا على النقيض في بلاد المسلمين. وقال الأنبياء شخصيات ضبابية يتخيلها كل منا بصورة تختلف عن الآخر. وذكر أنه كان يتصور بلال بن رباح تصوراً خاصاً فيه قدسية فلماً ظهرت شخصية بلال على الشاشة اهتزت في نفسه وأحس بخيبة أمل ولذلك اقترح أن القرآن الكريم ليس به قصص تصلح للمسرح أو السينما إذا أردنا أن نكتفي بما جاء في كتاب الله دون الاستعانة بقصص الكتاب المقدس. ورأى أن الشخصيات الإسلامية لا مانع أن تظهر لأنها ستظهر في مواقف مشرفة تجلو الصدأ عن تاريخها الحافل المجيد وأما الرسول وبناته وزوجاته والخلفاء الراشدون فيرى أن لا تظهر على خشبة المسرح أو السينما. وذكر أن الفاتيكان خصص راتباً شهرياً لشخص مثل مرة واحدة دور المسيح ولم يعد يظهر على خشبة المسرح حفاظاً على قدسية المسيح(1). وكأنه يشير إلى هذا عن دور الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) الهلال عدد خاص – القرآن نظرة عصرية جديدة – ديسمبر 1970 – العدد 12 السنة الثامنة والسبعون مجلة شهرية – مقال لماذا لا تظهر قصص القرآن في السينما والمسرح، ص 74-77.(2/107)
…وكتب رجائي النقاش رئيس تحرير مجلة الهلال – عدد خاص (القرآن نظرة عصرية جديدة) عدد ديسمبر 1970، كتب مقالة بعنوان (حرروا القرآن من هذه القيود). جاء فيها وهو يعد العقبات أمامه "فما زالت المؤسسات الدينية عندنا ترفض إلى أبعد الحدود الاعتراف بوسائل التأثير العصرية مثل السينما والمسرح والموسيقى والرسم والإذاعة والتلفزيون. وإذا نظرنا إلى رجال الدين في الغرب وجدنا أنهم قد توسعوا في الاستفادة من هذه الوسائل إلى أبعد الحدود. فقد امتلأت الكنائس الغربية باللوحات الفنية الرائعة بل إن هناك مدرسة دينية فذة في الفنون التشكيلية وهناك آلاف اللوحات والتماثيل الرائعة في الغرب مستمدة كلها من المسيحية. كما توسعت في استخدام الموسيقى، وبذلك أصبحت الكنيسة مكاناً مشرقاً بجوه الروحي حيث يساعد الفن بوسائله المختلفة على تعميق هذا الجو بصورة رائعة.. أما عندنا فنحن نجد فاصلاً قاسياً بين المسرح والسينما وبين القرآن وقصص القرآن، كما نجد حرباً على أي اقتراب بين القرآن وبين فن الموسيقى أو فن التصوير والرسم. والحقيقة أن مثل هذا الموقف يجب أن يتغير. ومثل هذه القيود يجب أن تزول، ولا بد من عقد اجتماعات واسعة بين رجال الدين ورجال الفن والثقافة حتى يتم الوصول إلى حل لا يتعارض مع المبادئ الدينية بل يخدمها ويساعدها على أن تمد جذورها في أعمق أعماق الضمير. والوجدان(1) وقال: "إننا عندما نحرر القرآن من مثل هذه القيود المحيطة به لا نكون قد أسأنا إلى القرآن بل نكون قد أحسنا إلى أنفسنا وإلى الدين الإسلامي الذي نؤمن به.. إننا يجب أن لا نتردد في تقديم مسرحيات مستمدة من قصص القرآن، وأقلام مستمدة من قصص القرآن وموسيقى ولوحات مستمدة من روح القرآن. يجب أن لا نتردد في شيء من هذا على الإطلاق لأن ذلك يطلق القوى العظيمة الكامنة في القرآن ويملأ بها قلب الإنسان المعاصر وضميره ووجدانه، أما إذا اكتفينا بأن نجعل
__________
(1) المصدر السابق، ص 5.(2/108)
القرآن مجرد (نص مقدس) فسوف يصعب الوصول إليه إلا لمن كان متخصصاً في القرآن والعلوم الدينية إن واجبنا هو أن نحرر القرآن من هذه القيود ونبذل كل جهدنا في سبيل تمهيد الطريق للوصول إلى كل ما في القرآن من جمال فكري وروحي وفني وإنساني وكل ما فيه من قيم دينية عليا.. حتى لا يصبح الطريق إلى القرآن غاية في الصعوبة والقسوة والمشقة(1).
…هذا ما جاد به قلم رئيس تحرير مجلة الهلال الشهرية التي تصدر في القاهرة – الدكتور رجائي النقاش فدعا إلى تحويل القرآن إلى فن مسرحي وسينمائي وموسيقي وغنائي على غرار ما عليه الكنيسة في الغرب وهي دعوة جرئية جداً لاختراق قدسية القرآن.
الرسم والصور والتماثيل عند الشيخ رشيد رضا:
__________
(1) مجلة الهلال، العدد 12، السنة 78، أول ديسمبر 1970م – 2 شوال 1390هـ. ص5.(2/109)
…قال الشيخ رشيد في معرض مدح الصور والتماثيل في دور الآثار عند الأمم الكبرى: "ولهم تنافس في اقتناء ذلك غريب حتى أن القطعة الواحدة من رسم روفائيل مثلاً ربما تساوي مئين من الآلاف في بعض المتاحف. ولا يهمك معرفة القيمة بالتحقيق وإنما المهم هو التنافس في اقتناء الأمم لهذه النقوش، وعد ما أتقن منها من أفضل ما ترك المتقدم للمتأخر، وكذلك الحال في التماثيل"(1). وعلل الشيخ رشيد سبب محافظة القوم على هذه المصنوعات من الرسوم والتماثيل بأن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع. والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى(2). وذكر من فوائدها "أن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشؤون المختلفة ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية. يصورون الإنسان أو الحيوان في حال الفرح والرضا والطمأنينة والتسليم"(3). ثم أصدر فتواه في الصور والتماثيل للإنسان والحيوان فقال: "ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام وهي ما حكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية أو أوضاعهم الجثمانية، هل هي حرام أو جائز أو مكروه أو مندوب أو واجب؟ فأقول لك: إن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التماثيل أو الصورة قد يسحر الأذهان فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة. فإذا أوردت عليك حديث (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) أو ما في معناه مما ورد في الصحيح فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببين. الأول: اللهو، والثاني: التبرك بمثال
__________
(1) رضا، محمد رشيد، تاريخ الأستاذ الإمام، 2/44.
(2) رضا، محمد رشيد، تاريخ الأستاذ الإمام، 2/44.
(3) المصدر السابق نفسه.(2/110)
من ترسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه. والمصور في الحالين شاغل عن الله أو ممهد للإشراك به فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات. وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور ولم يمنعه أحد من العلماء مع أن الفائدة في نقش المصاحف موضع النزاع أما فائدة الصور فما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكره. وأما إذا أردت أن ترتكب بعض السيئات في محل فيه صور كما ورد فإياك أن تظن أن ذلك ينجيك من إحصاء ما تفعل فإن الله رقيب عليك، وناظر إليك"(1). وقال: "وبالجملة إنه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل"(2). وقال: "على أن المسلمين لا يتساءلون إلا فيما تظهر فائدته ليحرموا أنفسهم منها"(3). وقال: "إن المسلمين يمكنهم أن يجمعوا بين التوحيد ورسم صور الإنسان والحيوان لتحقيق المعاني العلمية، وتمثيل الصور الذهنية"(4).
…ثم تحدث عن ملاحظات الشيخ محمد عبده في سياحته إلى صقلية وبلرم وأشاد بالتماثيل في الكنائس(5). وقال: إن المسلمين حافظوا عليها ولم يعبثوا بها لأهمية التصاوير والتماثيل، ولأنهم قدروها حق قدرها(6).
__________
(1) رضا، محمد رشيد، تاريخ الأستاذ الإمام، 2/445-446.
(2) المصدر السابق، 2/446.
(3) المصدر السابق، 2/446.
(4) المصدر السابق، 2/447.
(5) رضا، محمد رشيد، تاريخ الأستاذ الإمام، 2/423، 424، 425، وانظر مجلة المنار، م6، ص746، 755. وانظر مجلة المنار، م7، بلرم – صقلية، ملاحظات سائح بصير. والسائح هو محمد عبده.
(6) رضا، محمد رشيد، تاريخ الأستاذ الإمام، 2/425.(2/111)
…وفي هذا القدر كفاية من النقول التي حررها يراع الشيخ محمد رشيد رضا في مسألة الصور والتماثيل لذي روح، وهي نظرة مقياسها ما نادى به ميكافلي وهو: المنفعة. وليس الحلال والحرام حسب مقياس المسلمين – والاستنباط من العقل وليس الشرع المتمثل بالكتاب والسنة، ولا يخفى أسلوبه في اللف والدوران في الإجابة عما افترضه من سؤال. وهو يحفظ الحديث الصحيح، ويخترع عللاً وحكماً من عقله حتى يخرج النصوص عن مدلولاتها باسم التأويل الذي لا يعني في مثل هذه الحالة إلا التحريف، فالإسلام عندما حرم رسم ذي روح لم يحرمها لعلة لا للهو ولا للتبرك.
…ثم ارجع البصر في أسلوبه الشيطاني في ارتكاب المعاصي في مكان فيه صور لأن جبريل عليه السلام لا يدخل بيتاً فيه كلب أو صورة كما ورد في الأحاديث الصحيحة.
…ثم أجل النظر في فتواه: أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم هذه الوسائل النافعة. وهكذا يكون مؤسس الشوائب في التفسير في القرن الرابع عشر الهجري يوجه همه لتسويغ الشوائب للأتباع، ولاختلاق شبه لهم يصيرها أدلة تحل الحرام، وتحرم الحلال.
فن النحت والرسم وصنع التماثيل في التفسير القرآني للقرآن:
…قال د. عبد الكريم الخطيب عند تفسير قوله تعالى { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } (1)" وهنا ملحظ لا بد منه، وهو أن الله سبحانه وتعالى قد كان من نعمه على سليمان أن سخر له الجن لتعمل له فيما تعمل –تماثيل- منحوتة من صخر، أو منجورة من خشب، أو مصبوبة من حديد ونحاس. وهذا يعني أن صناعة التماثيل ليست مما يقع في دائرة التحريم، أو الكراهة، وإلا لكان نبي الله سليمان أبعد الناس عن ملابسة هذه الصناعة والانتفاع بها.
__________
(1) سورة سبأ، آية 13.(2/112)
…بقي بعد أن نسأل لماذا قامت هذه الفجوة بين المسلمين وبين ممارسة فن النحت، والتصوير، والرسم وغيرها من الفنون الجميلة؟
…ولا نجد لهذا الجفاء مستنداً من كتاب الله، ولا من السنة الصحيحة.. بل إن عكس هذا هو الصحيح.. إذ كانت دعوة الإسلام تلتقي بالإنسان عن طريق عقله وقلبه، وتخاطبه في مواجهة مدركاته ومشاعره ووجداناته، ودعوة على هذا الأساس لا يمكن أن تحجر على ملكات الإنسان، أو أن تكبت مشاعره، وتحول بينه وبين أي فن جميل يثير المدارك، ويغذي المشاعر والعواطف"(1). وقد علل د. الخطيب عدم شيوع هذا الفن في صدر الإسلام لقرب عهدهم بالجاهلية التي كانت تصنع الأصنام لعبادتها. فقال: "والذي يمكن أن يكون من الإسلام في أول أمره، أنه لم يفتح صدره لفن النحت، ولم يفتح الناس طريقاً إليه، خاصة وأن المجتمع الإسلامي يومئذ، كان خارجاً من جاهلية اتخذت من النحت غاية لا تتجاوز صناعة الأصنام وعبادتها.. فكان من الحكمة أن تخف في الإسلام موازين النحت، الذي لم يلد على يد المجتمع الجاهلي إلا هذا الإثم الذي عكفوا على عبادته. وهذا الموقف يشبه موقف الإسلام من الشعر، الذي كان يحمل قدراً كبيراً من الضلال والإفك"(2).
__________
(1) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م11، 22/790-791.
(2) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م11، 22/791.(2/113)
…ثم دعا لإحياء هذه الفنون الجميلة –على حد تعبيره- فقال: "وقد كان من الطبيعي أن يرد إلى النحت والتصوير والرسم، وغيرها، اعتبارها بعد أن ماتت في النفوس عبادة الأصنام، واختفت شخوصها إلى الأبد، ولكن الذي حدث هو الإمعان في الفجوة لهذه الفنون، لا لسبب إلا أنها لم تكن من مادة الحياة في عصر النبوة، أو في عصر الخلفاء الراشدين وقد فات الذين ينظرون إلى هذه الفنون من خلال عصر النبوة، أن هذا العصر كان يعالج النفوس والقلوب والعقول، من آفات كثيرة علقت بها، وأنه لم يعرض للجوانب السليمة المعافاة من الأدواء في كيان الإنسان، بل تركها تجري على طبيعتها، وبقدر ما تحمل من طاقات وملكات"(1).
…وهذا القدر من أقوال الخطيب يكفي لإعطاء صورة واضحة عن موقفه من النحت والرسم والتمثيل، وقد تسربل بثوب الشرعية زوراً وبهتاناً، وهو في الواقع تفسير متأثر بالفن الغربي الذي يصور ويجسم ويرسم ويقيم لذلك المعارض ويعده مظهراً حضارياً. والبهتان العظيم في تفسير د. الخطيب أن يلصق ذلك بمفاهيم الإسلام ويزعم أن السنة الصحيحة لم تحرم النحت والتصوير ورسم ذي روح. ووجد في شريعة سليمان عليه السلام –وهي شريعة من قبلنا- أنها تبيح ذلك فتشبث بها وإليك مجمل الرد على مزاعم د. الخطيب في ثلاث نقاط:
أولاً: إن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا. وهذه قاعدة أصولية ثابتة، وإن اختلف بعض العلماء فيها إلا أنهم يجمعون على أنه إذا ورد نص شرعي فلا يجوز أن يؤخذ بشريعة سابقة ويترك النص. وفي هذه المسألة نصوص كثيرة صحيحة سنوردها بعد قليل. وعليه فلا يجوز أن تكون شريعة سيدنا سليمان عليه السلام في هذه المسألة شرعاً لنا.
__________
(1) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، التفسير القرآني للقرآن، م11، 22/792.(2/114)
ثانياً: إن أحكام الإسلام على الأفعال وعلى الأشياء ثابتة لا تتغير بتغير الأمكنة والأزمنة. وينكر كل الإنكار على من يقولون بعكسها لأن في ذلك مخالفة للإسلام مخالفة كلية، بل يعصف بأصول الإسلام وفروعه، ويقضي على تشريعه، ويطمس معالمه. وقد نشأت قاعدة لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان في خضم الانحطاط الفكري عند المسلمين في أوائل القرن التاسع عشر، وغذاها الاستشراق –طلائع الاستعمار- وتبنتها الدول التي أسسها الاستعمار فطغت وعمت بها البلوى حتى ظنها بعض المخلصين قاعدة شرعية، وما هي من الإسلام في شيء، بل تناقض الإسلام وتعارضه، وتقلل من شأن قدسية ثبات أحكام رب العالمين. فالربا حرام منذ أن نزلت آية الربا، وسيبقى محرماً إلى يوم القيامة. والزنا وموالاة الكافر المحارب والنحت والرسم لذي روح كان محرماً في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيبقى محرماً إلى قيام الساعة. فإذا فرض علينا نظام عيش الغرب وطريقتهم في الحياة فلا يحل لنا أن نجاريهم ونقول بإباحة النحت والتصوير. فالإسلام له طريقة في العيش خاصة، ومحدودة حددها الشرع، ومميزة كل التميز عن طرق العيش الوضعية وتبقى هذه كذلك إلى قيام الساعة.
وأما شبهة أن عمر بن الخطاب لم يقطع يد سارق في عام الرمادة، ولم يخرج سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة فهذه شبه لا تنهض أمام الأدلة. وواقعها أن من سرق لم تنطبق عليه شروط القطع حتى تقطع يده. وكذلك المؤلفة قلوبهم لم تنطبق عليهم مواصفات القوم الذين يستحقون سهم الزكاة وليس تبديلاً وتغييراً لأحكام الله من عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والمسلمون مقيدون بما ورد في كتاب الله وسنة رسوله، ولا يلتمسون شبهاً للتفلت من عقال الإسلام.(2/115)
ثالثاً: إن فتوى الدكتور الخطيب أن صناعة التماثيل ليست مما يقع في دائرة التحريم أو الكراهية، وقوله لا نجد لهذا الجفاء مستنداً من كتاب الله ولا من السنة الصحيحة بل إن عكس هذا هو الصحيح. فإن هذه الفتوى باطلة شرعاً لأنها لم تقم على دليل ولأنها تناقض وتعارض ما جاءت به الأدلة الصحيحة. منها:
قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة). رواه البخاري ومسلم(1).
عن عائشة رضي الله عنها أنها نصبت ستراً وفيه تصاوير، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزعه، فقالت فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما، وفي لفظ أحمد، فقطعته مرفقتين فلقد رأيته متكئاً على أحدهما وفيها صورة رواه مسلم(2).
روى مسلم عن عائشة أنها اشترت غرفة فيها تصاوير فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الباب فلم يدخل فعرفتُ أو فعُرِفَتْ في وجهه الكراهية فقالت يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله فماذا أذنبت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بال هذه النمرقة؟ قالت: اشتريتها لك تقعد عليها وَتَوَسُّدها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أصحاب هذه الصور يعذبون ويقال لهم أحيوا ما خلقتم ثم قال إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة(3).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق 3322 وفي كتاب اللباس 5949، 10/380 فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني. وأخرجه مسلم في كتاب اللباس عن عائشة وعن ابن عباس وعن ميمونة، وعن ابن عباس عن أبي طلحة، 14/81-85 صحيح مسلم بشرح النووي.
(2) رواه مسلم في كتاب اللباس عن عائشة قالت: (فقطعنا منه وسادتين وحشوتهما ليفا، 14/86-87 صحيح مسلم بشرح النووي.
(3) صحيح بسلم بشرح النووي، كتاب اللباس، 14/90، باب تحريم تصوير تصوير صورة الحيوان.(2/116)
روت عائشة رضي الله عنها، قالت: (قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هتكه وقال: أشد الناس عذاباً يوم القيام الذين يضاهون بخلق الله قالت فجعلناه وسادة أو وسادتين). رواه البخاري ومسلم(1).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - من سفر وعلقت درنوكا فيه تماثيل، فأمرني أن أنزعه فنزعته) رواه البخاري ومسلم(2).
قال ابن عباس (سمعت محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ). رواه البخاري ومسلم(3).
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنَّ الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم) رواه البخاري ومسلم(4).
__________
(1) القرام: الستر الرقيق الذي فيه ألوان، أو ستر فيه رقم ونقوش. رواه البخاري رقم 5954، كتاب اللباس، 10/386 فتح الباري، ورواه مسلم في كتاب اللباس، 14/88-89 صحيح مسلم بشرح النووي.
(2) الدرنوك: نوع من الثياب. رواه البخاري برقم 5955، كتاب اللباس، ورواه مسلم كتاب اللباس، 14/87، صحيح مسلم بشرح النووي.
(3) رواه البخاري برقم 5963، كتاب اللباس، فتح الباري، 10/393، ورواه مسلم في كتاب اللباس، صحيح مسلم بشرح النووي، 14/93 باب تحريم تصوير صورة الحيوان.
(4) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم 4951 فتح الباري، 10/382. ورواه مسلم في كتاب اللباس، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، 14/92.(2/117)
عن ابن عباس رضي الله عنهما جاء رجل فقال: (إني رجلٌ أصور هذه الصور فأفتني فيها، فقال له أدن مني.. فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم وقال إن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له). رواه مسلم(1).
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إنَّ أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون). رواه البخاري ومسلم(2).
روى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اتاني جبريل عليه السلام فقال: إني كنت أتيتك الليلة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان في البيت تمثال رجل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، فمر برأس التمثال يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر يقطع فيجعل منه وسادتان توطآن، ومر بالكلب، يخرج ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا الكلب جرو كان للحسن والحسين عليهما السلام تحت نضد لها) (3).
__________
(1) رواه مسلم، كتاب اللباس، باب تحريم صورة الحيوان، صحيح مسلم بشرح النووي، 14/93.
(2) رواه البخاري، كتاب اللباس، رقم 5950، ورواه مسلم في كتاب اللباس، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، صحيح مسلم بشرح النووي، 14/93.
(3) رواه أحمد في مسنده برقم 8051، مسند أبي هريرة، 3/172، طبعة دار الفكر تحقيق عبد الله محمد الدرويش، ط1، 1411هـ - 1991م.(2/118)
…تلك أدلة عشرة في أي منها كفاية لتفنيد فتوى الشيخ عبد الكريم الخطيب ومن قال بمثل قوله. وهذه مستندات صحيحة من الشرع الشريف. وعليه فما جاء به أصحاب المدرسة العقلية الحديثة من إباحة التصاوير والرسم والنحت شوائب محضة لا تمت للتفسير بسبب ولا نسب، ومن ينظر في أقوال المفسرين(1) في حكم التصوير، وصنع التماثيل، وفي أقوال الفقهاء والمجتهدين يجد إجماعاً على تحريمها لعموم الأدلة. وعليه فتفسير الخطيب وفتواه لا مستند لها من الشرع.
…وأكتفي بهذا القدر في بيان شوائب التفسير في الفنون الجميلة حسب تعبير أصحاب الشوائب في التفسير وما حرمه الله لا ينبغي أن يوصف بالجمال. ولا بالفن. والمشرع عند الغرب هو الهوى والعقل، والمشرع عند المسلمين هو الله تعالى، وشتان بين تشريع الخالق وتشريع المخلوق. ولذا فإنني أستنكر كل الإنكار أن تدخل هذه الشوائب على المسلمين من باب التفسير لتخلع عليها زينة الشرع فتصبح المعاصي شرعية، والآثام طاعات، وتنقلب الأمور رأساً على عقب.
ولا حول ولا قوة إلا بالله
__________
(1) انظر على سبيل المثال تفسير أحكام القرآن لابن العربي، 4/1600-1602 وتفسير القرطبي 14/272-273. وانظر 14/221. وانظر تفسير الكياالهراسي، 4/351، وأحكام القرآن للجصاص، 3/372.(2/119)
المبحث الرابع :شوائب التفسير في معنى وحدة المسلمين ونظام الحكم في الإسلام
أ- شوائب التفسير في معنى الوحدة.
…أولاً: رابطة القومية والوطنية: قال الشيخ رشيد عند تفسير قوله تعالى:
{ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء } (1): "لذلك جعلوا الدين رابطة سياسية وآلة لإخضاع العامة"(2): وقال: "قال عمر: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها". أي أن الشورى في انتخابه لم تكن تامة(3). وقال الشيخ رشيد تحت عنوان صنوف قراء هذا التاريخ: "ومنهم دعاة النهضة المدنية اللادينية، وسيجد المخلصون منهم أن إمامنا إمام لهم في جانب من جانبي إصلاحه. وإن الجانب الآخر لا يضرهم، فإن الجامدين في التقاليد الدينية والخرافيين فيها هم أعداء التجديد المدني فإذا صلحوا التقوا معهم في تعزيز النهضة الوطنية وتعاونوا معهم عليها، ما لم يكونوا دعاة للإلحاد ذاته، وقد كان المعاصرون منهم للحكيم الأفغاني والإمام المصري يدينون لزعامتهما، وإن لم يكونوا من مريديهما والمقتبسين منهما مباشرة، بل كان المخلص منهم لقومه ووطنه يعترف بفائدة إصلاحهما الديني وضرورته لإكمال النهضة المدنية، والرابطة الوطنية، كما ترى من تأبين أحرار النصارى وملاحدة المسلمين للأستاذ الإمام"(4).
…مما سبق ندرك أن الشيخ رشيد لا يروق له أن يكون الدين رابطة سياسية تجمع المسلمين وفي كلامه افتراء صارخ على عمر، وافتئات على أبي بكر، وإثم عظيم لمنع الدين أن يكون رابطة سياسية بين المسلمين، ثم جعل الرابطة الوطنية التي تجمع الملحدين والمسلمين في القطر هي التي تستحق الدعوة لها والتعاون من أجلها، ولذلك كان الشيخ محمد عبده إماماً للملاحدة في جانب من جانبي إصلاحه.
__________
(1) سورة البقرة، آية 214.
(2) تفسير المنار، ج2، ص302.
(3) تفسير المنار، ج2، ص492.
(4) تاريخ الأستاذ الإمام محمد رشيد رضا، ج1، ص7.(2/120)
…وقال طنطاوي جوهري عند تفسير قوله تعالى { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } (1) الجوهرة الأولى: الدعوة إلى الإسلام تحت الاستعمار البريطاني والفرنسي والروسي والوثني ظهور للدين الإسلامي في العالم، وفي أفريقيا وآسيا وأوروبا(2). والجوهرة الثانية: صيرها في فصلين: الأول في شدة المسلمين وهو خوف أوروبا من اتفاق المسلمين مع روسيا. والثاني في تحفز المسلمين لتلك الشدة بقيادة جمال الدين الأفغاني الذي نشر مبادئ الحرية وجعل هذا الفصل في مبحثين، الأول: في عدائه للمستبدين، شاه إيران الذي يحارب البهائيين، والسلطان عبد الحميد الذي سلم اثنين من البهائيين لشاه إيران. والجوهرة الثالثة: في شدة المسلمين في تحمل الاستعمار الإيطالي سنة 1911 لطرابلس، وتحمل الدول النصرانية في البلقان سنة 1912، وكان ستون مليوناً من المسلمين تحت حكم بريطانيا العظمى، والمسلمون في الهند ينفذون وصية جمال الدين الأفغاني في تآخيهم مع الهندوس.. عبدة البقر، دون المسلمين في العالم(3).
…كما جعل الحركات الوطنية والقومية لانفصالها عن الدولة الأم وتكوين كيانات منفصلة تدعو للحرية، جعل ذلك علامة تماسك العالم الشرقي الإسلامي(4).
__________
(1) سورة الفتح، آية 28.
(2) الجواهر في تفسير القرآن الكريم، م11، ج22، ص81-82. والجوهرة في تفسير قوله تعالى { لِيُظهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ } (التوبة: من الآية 33).
(3) الجواهر في تفسير القرآن الكريم، م11، ج22، ص87، 88.
(4) الجواهر في تفسير القرآن الكريم، م11، ج22، ص88، 89.(2/121)
…وأما الجوهرة الرابعة فكانت عن الجامعة الإسلامية وصورها بأنها المشاعر النفسية الوجدانية واستوى فيها الأحرار والمتعصبون الجاهلون الرجعيون. وعزا عداء المسلمين للغرب ليس لسيطرتهم عليهم بل لمجرد الإفراط والغلو في التعصب. ورأى أن المسلمين في دور النهضة والانتقال لاسترداد مجدهم الفائت تحت قيادة الأحزاب الوطنية وأحزاب الجامعة الإسلامية وحركة الإصلاح الحديث(1).
…اللافت للنظر قلب الأمور وتسميتها بعكس مسماها فقد عد ضعف المسلمين وانكسار شوكتهم، وتمزيق كيانهم فتحاً وشدة وقوة ونهضة!! وخلاصة معنى الفتح عند طنطاوي جوهري إنه الفتح العلمي، وقد عدّ السيد أحمد خان مؤسس جامعة عليكرة قد مدّ الفتح العلمي كما في الآية. وقال إن المسلمين كانوا حكام الهند، ولما دخل الإنجليز الهند انتشر العلم فيها وغض الطرف عنه المسلمون وحقروه فزال ملكهم في القرن الثامن عشر(2).
…والجدير بالذكر أنه يعد ذلك ديناً وعبادة، وقال ستكون صلاة أمم الإسلام المستقبلة الذين سيقرؤون هذا وأمثاله غير صلاة آبائهم. فهم لا يدخلون فيمن قال الله فيهم { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى } (3)، وإنما لا يكسلون لأنه فتح لهم باب المعرفة، فأدركوا سر الحركات، فهم إذ ذاك يصلون بمحض المحبة لا بالخوف. ويقولون: إذا كنا نحن المسلمين نستعمل حركات الجسم المشابهة لحركات الصلاة، اختياراً منا لا خوفاً وذلك لأجل صحتنا فليكن ذلك الاختيار والقيام بالحركات المذكورة في الصلاة أولى لأن فيها تقوية الجسم.." (4).
__________
(1) الجواهر في تفسير القرآن الكريم، م11، ج22، ص89-93.
(2) الجواهر في تفسير القرآن الكريم، م11، ج22، ص36-42.
(3) سورة النساء، الآية: 142.
(4) الجواهر في تفسير القرآن الكريم، م11، ج22، ص36.(2/122)
…مما سبق ندرك أن الرابطة عند طنطاوي جوهري التي توحد المسلمين ليست هي الإسلام الذي أنزله الله تعالى على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. بل هو العلم الذي جاء به الاستعمار الذي سيطر على المسلمين، والكلام بجملته ينمُّ عن عقيدة باطنية وقى الله المسلمين شرّها.
…وقال الشيخ محمد مصطفى المراغي: "إن في إمكان أي حكومة إسلامية أن تخرج عن دينها فتصبح حكومة لا دينية، وليس في هذا مانع من أن يبقى الشعب على إسلامه، كما هو الحال في تركيا الجديدة(1)، ويفهم من كلامه أن الدين يلزم للشعب ولا يلزم للحكومة فما هو الرابط يا ترى بين الحكومة والشعب، وهل يجيز الإسلام تعدد الحكومات؟".
…وقال مصطفى السباعي: "إن الذي يبنى بيتاً للسكن –للإيجار- يتخير أجود مواد البناء قوة وجمالاً، ولو كلَّفه ذلك مالاً وعناء، والقومية العربية بيت للسكن، لنسكن نحن وأبناؤنا والأجيال اللاحقة بنا"(2) فالدكتور السباعي اختار القومية العربية لتكون وسطاً سياسياً يجمع الناس ويتسع للأجيال القادمة وعلينا أن نتخير المفاهيم والأفكار الجديدة التي تريحنا في العيش.
…وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: "وقد اختلفت الدعاة إليها (القومية العربية) في عناصرها، فمن قائل إنها الوطن، والنسب، واللغة العربية، ومن قائل إنها اللغة مع المشاركة في الآلام والآمال، ومن قائل غير ذلك، أما الدين فليس من عناصرها عند أساطينهم والصرحاء منهم، وقد صرح كثير بأن الدين لا دخل له في القومية، وصرّح بعضهم أنها تحترم الأديان كلها من الإسلام وغيره"(3).
__________
(1) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، ج4، ص285. مصطفى صبري.
(2) د. السباعي، مصطفى، اشتراكية الإسلام، ص12، ط2، سلسلة اخترنا لك 113 دمشق -1379هـ/1960م.
(3) ابن باز، عبد العزيز، نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع، ص8، المكتب الإسلامي بيروت، ط2، 1400هـ.(2/123)
…وقال: "وهدفها كما يعلم من كلامهم هو التكتل والتجمع والتكاتف ضد الأعداء، لتحصيل المصالح المشتركة كما سلف، ولا ريب أن هذا غرض نبيل وقصد جميل"(1).
…وأما أبو الأعلى المودودي: "فقد اشترك والشاعر محمد إقبال في استعمال القومية الإسلامية(2)، وعاب بل سفه أحلام من يدعون للقومية بمفهومها الضيق بالدعوة إلى الانتماء إلى صدفة الميلاد، والرقعة الجغرافية، وكذلك جعل اللغة لا تصلح لربط بني الإنسان بعضهم مع بعض وجعل وحدة العقيدة والفكر هي الأساس الصالح، والمجال الواسع، والرباط الثابت المتين الذي يصلح لرص صفوف بني آدم(3)، وقرر المودودي أن الإسلام قوض أسس الجاهلية المادية والحسية والوهمية التي كانت تبني عليها مختلف القوميات في العالم، ومحا ما بين البشر من فروق أساسها اللون أو الجنس أو الوطن أو اللغة أو الاقتصاد أو السياسة أو ما إليها من الأسس التي تستند إلى عقل، والتي اتخذها الإنسان جهلاً وحماقة ذريعة لتقسيم الإنسانية وتفريق البشرية"(4).
…وعليه فإن المودودي ينكر أن تكون القومية الوطنية روابط تصلح لربط بني الإنسان بل على العكس هي روابط أدعى إلى التقسيم والتفريق منها إلى التجميع والتأليف بين الناس.
…ويرى أن القومية الإسلامية هي الصالحة لربط وتجميع بني الإنسان. ويكون المودودي قد أتى بمصطلح جديد فأطلق على الإسلام بأنه قومية.
تفنيد الشوائب السابقة:
__________
(1) المصدر السابق، ص8، 9. لقد كان الشيخ ابن باز موفقاً في نقض القومية العربية بالحجة والبرهان.
(2) المودودي، أبو الأعلى، الحكومة الإسلامية، ص162، المختار الإسلامي للطباعة والنشر، القاهرة، نقله إلى العربية، أحمد إدريس، ط1، 1397هـ - 1977م.
(3) المودودي، أبو الأعلى، الحكومة الإسلامية، ص 174.
(4) المودودي، أبو الأعلى، الحكومة الإسلامية، ص 150.(2/124)
إن جميع ما ورد عن الوطنية أو القومية لا يمت للتفسير بسبب ولا نسب بل هي أفكار تداعب عقول قائليها مستوردة ووافادة لا أصالة لها في ديننا لذلك من الحيف أن يحاول البعض أن يجد لها سنداً من الشرع أو اللغة، ومن الظلم أن نجد الحديث عنها في كتب التفسير أو زجها في أبحاث إسلامية.
روابط القومية والوطنية، روابط ضيقة، وبدائية، وعاجزة عن التجميع، وخالية من الفكر بل لا تصلح وتكون مؤقتة ثم تنقلب إلى عوامل تفكك وتناحر داخلي حالما يزول الخطر الخارجي، هذا فضلاً عن معارضتها للإسلام، وهي روابط يشترك فيها الطير والحيوان والإنسان.
إن واقع الدعوة إلى القومية والوطنية دعوة إلى فصل الدين عن الحياة وهي عقيدة تناقض عقيدة الإسلام.
من النصوص التي تنهى عن رابطة القومية:
أ- قال - صلى الله عليه وسلم -: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم) وغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضباَ شديداً عندما اختصم أحد المهاجرين مع أنصاري وقولهما: يا للمهاجرين، ويا للأنصار(1).
ب- وأخرج أبو داود في سننه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)(2).
__________
(1) الحديث ثبت في صحيح البخاري برقم 3518، كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج6، ص546.
(2) الحديث أخرجه أبو داود برقم 5121.(2/125)
ج- روى الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الله قد أذهب عنكم عصبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) (1).
د- قال - صلى الله عليه وسلم -: (ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثي جهنم، قيل يا رسول الله وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعو بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله) (2).
هـ- وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن. وقال إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي الناس بنو آدم وآدم من تراب) (3).
و- وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قُتِلَ تحت راية عُمّية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقِتْلةٌ جاهلية) (4).
__________
(1) الحديث 3324 في تفسير سورة الحجرات، ج5، ص64، 65. ورواه أبو داود برقم 5116، وأحمد في مسنده 2/361، 542 والحديث توافقه الآية 13 من سورة الحجرات: { يَا أيُّها النَّاسُ إنَّا خلقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأنثَى وَجَعَلنَاكُمْ شُعُوباَ وَقَبَائِلَ لتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ } (الحجرات: من الآية 13).
(2) رواه الحارث الأشعري. أخرجه في المسند 4/130، وابن حبان برقم 1222، 1550. وهو حديث صحيح.
(3) أخرجه أحمد في مسنده 2/361، 524 ورواه أبو داود في كتاب الأدب 111، والترمذي في كتاب المناقب 73.
(4) رواه مسلم في صحيحه بشرح النووي ج12، ص238-240 كتاب الإمارة باب وجوب ملازمة الجماعة عند ظهور الفتنة. وروى مجموعة أحاديث عن أبي هريرة عن جندب بن عبد الله البجلي.(2/126)
…وأما ما اشتهر على ألسنة الناس من قولهم (حب الوطن من الإيمان) فهو لا أصل له. قال الحافظ ابن حجر: لم أقف عليه. وقال القاري: لا أصل له بهذا اللفظ. ودرجته حديث موضوع كما قال الصغاني(1). وقولهم (أحبوا العرب لثلاث لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي) فهو ضعيف جداً(2). وقال العقيلي لا أصل له. وقال ابن حبان: يحيى بن يزيد (وهو راوي الحديث) يروي المقلوبات عن الأثبات فبطل الاحتجاج به) (3).
__________
(1) السمهوري، أبي الحسن نور الدين، الغماز على اللماز في الأحاديث المشتهرة، الحديث 92، ص60، تحقيق وتخريج محمد إسحاق محمد إبراهيم السلفي – دار اللواء للنشر والتوزيع، الرياض، ط1، 1401هـ-1981م وانظر: المقاصد 183، رسالة الصغاني 7، اللؤلؤ 32، أسنى المطالب 92، التمييز، 65، تذكرة الفتني 11، الفوائد الموضوعة 266، الأسرار المرفوعة 180، المصنوع 91، الكشف 1/345.
(2) الحديث 133، ج1، ص54 كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني، قال رواه الطبراني والحاكم والبيهقي وآخرون عن ابن عباس مرفوعاً بسند ضعيف جداً. وأخرجه أبو الشيخ بسند ضعيف أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ (أحبوا العرب وبقاؤهم نور في الإسلام، وإن فناءهم ظلمة في الإسلام). وانظر ص15 حديث 34 تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من أحاديث، لعبد الرحمن بن علي الشيباني، قال وهو ضعيف وانظر مجمع الزوائد للهيثمي ج10، ص 52.
(3) ج2، ص41، الموضوعات، لابن قيم الجوزية، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، ط2، مكتبة ابن تيمية القاهرة، 1407هـ/1987م. في باب حب العرب. وانظر مجمع الزوائد للهيثمي، ج10، ص52، 53.(2/127)
…ومن الأحاديث الضعيفة والموضوعة أحاديث إذا عز العرب عز الإسلام.. قال الشيخ عبد العزيز بن باز: سواء صح أم لم يصح فإن الواقع يشهد بخلاف ما ذكره القائل، فقد ذلَّ العرب يوم بدر ويوم الأحزاب، وصار في ذلهم عز الإسلام وظهوره. وانتصر العرب يوم أحد وصار في انتصارهم ذل المسلمين والمضرة عليهم(1). وقال سنده ضعيف(2). ثم قال: ولو صح الحديث لكان معناه: إذا ذل العرب الحاملون راية الإسلام والدعوة إليه لا العرب المتنكرون له الداعون لغيره(3).
__________
(1) ابن باز، عبد العزيز، نقد القومية العربية، ص29.
(2) ابن باز، عبد العزيز، نقد القومية العربية، ص30.
(3) المصدر السابق ص 31.(2/128)
…وأما كون مكة أحب بقاع الأرض إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فليست لأنها موطنه، وبها ولد ونشأ وترعرع ليس لهذا كله بدليل أنه بقي في المدينة (بين من نصروا الدين) بعد فتحها، ولم يعد إلى مسقط رأسه، ولم يوص أن يدفن فيها. ولكن محبته - صلى الله عليه وسلم - لمكة لأن الله تعالى بارك فيها وقدّسها ففيها الكعبة والنظر إليها عبادة والطواف حولها صلاة، والركعة في الحرم تفضل الصلاة في غيره بمائة ألف ركعة. وإقامة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بين من نصروا الدين تشريع ووحي من السماء فاعتبروا يا أولي الأبصار، ومطلوب من كل مسلم شرعاً أن يحب مكة والكعبة ويهوي فؤاده إليها، ويرحل إليها ولو مرة في العمر لأداء مناسك الحج والعمرة، فيرجع المسلم منها كيوم ولدته أمه. وفي هذا القدر كفاية لبيان أن الإسلام يمقت الوطنية والقومية وأنها لا تصلح لربط المسلمين بعضهم ببعض والرابطة الصحيحة هي رابطة العقيدة التي تذيب كل القوميات والوطنيات والجنسيات فيها وتجعل الناس إخواناً. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله) (1). رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
ثانياً: الشوائب في صورة الوحدة الإسلامية:
__________
(1) رواه التلارمذي في أبواب الإيمان رقم 2733، وانظر حديث 2734، 2735، م4، ص 117، 118 وفي الباب عن جابر وأبي سعيد وابن عمر، وعن معاذ بن جبل وعن أنس.(2/129)
1- قال الشيخ محمد عبده في تقرير للورد كرومر، المندوب البريطاني في مصر، في معنى الجامعة الإسلامية، حيث تكلم كرومر في تقريره الأخير عن الجامعة الإسلامية كلاماً يؤيد الذين أظهروا يقظة المسلمين في غير شكلها(1) وأورد الشيخ محمد رشيد رضا قول الشيخ محمد عبده وإليك بعضه: "أوكد لمسيو هانوتو أن هذه الدعوة (توحيد كلمة المسلمين وجمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد في جميع البلاد الإسلامية) لم يوجد لها أثر إلى اليوم في بلد من بلاد المسلمين ولو خطا خطوة إلى معرفة أحوالهم على ما هي عليه لما خطر بباله أن يشير إلى هذه الدعوة فضلاً عن أن يبنى عليها حكماً وإن ما علق بالأوهام منها فإنما منشؤه سوء فهم بعض مسيحيي الشرق ثم انعكاس ذلك في أذهان سياسيي الغرب، وقد يكون لسوء نية بعضهم مدخل في تعظيم ما توهم فيها"(2) ثم قال: "وإني أعرض الحقيقة كما هي لا يغشاها ستار من تمويه، ولا غطاء من تلبيس، وأرجو أن يكون في هذا البيان ما يقنع مسيو هانوتو بحسن مقاصد المسلمين اليوم في كلامهم عن الدين"(3). والحقيقة التي كشفها هي قوله: "أما السعي في توحيد كلمة المسلمين وهم كما هم فلم يمر بعقل أحد منهم ولو دعا إليه داع لكان أجدر به أن يرسل إلى مستشفى المجانين"(4).
…فالشيخ محمد عبده يرى أن من يعني بالجامعة الإسلامية توحيد كلمة المسلمين في جميع بلاد المسلمين في سلطة واحدة أجدر به أن يرسل إلى مستشفى المجانين، ولا أظن عاقلاً منصفاً بعد هذا التصريح يقول إن الشيخ محمد عبده يدعو للجامعة الإسلامية بما تعنيه هذه الكلمة.
__________
(1) رضا، محمد رشيد، مجلة المنار، م10، ج3، ص 200 مقالة الجامعة الإسلامية.
(2) رضا، محمد رشيد، مجلة المنار، م10، 3/200 ، مقالة الجامعة الإسلامية.
(3) المصدر السابق.
(4) رضا، محمد رشيد، مجلة المنار، م10، ج3، ص 207.(2/130)
…ومما قال الشيخ محمد عبده: "بقي الكلام على جمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد يقول فيه مسيو هانوتو إن أوروبا لم تتقدم إلا بعد أن فصلت السلطة الدينية عن السلطة المدنية وهو كلام صحيح، ولكن لم يدر ما معنى جمع السلطتين في شخص واحد عند المسلمين"(1). ووضح الشيخ محمد عبده معنى جمع السلطتين الدينية والسياسية في شخص واحد عند المسلمين فقال: "وهذه الدولة العثمانية قد وضعت في بلادها قوانين مدنية وشرعت نظاماً لطريقة الحكم وعدد الحاكمين ومللهم وسمحت بأن يكون في محاكمها أعضاء من المسيحيين وغيرهم من الملل تحت رعايتها. وكذلك حكومة مصر أنشئت فيها محاكم مختلطة ومحاكم أهلية بأمر الحاكم السياسي، وشأن هذه المحاكم وقوانينها معلوم ولا دخل بشيء من ذلك في الدين فالسلطة المدنية هي صاحبة الكلمة الأولى كما يطلب مسيو هانوتو"(2).
…ثم قال: "لا أظن أن مسيو هانوتو سيء الظن بدعوة دينية على الوجه الذي بينّاه وأظنه يكون عوناً للمسلمين على تعضيدها في البلاد الإسلامية الفرنساوية إذا وجد فيها من يقوم بها. وأنا أضمن له بعد ذلك أن تتفق مصالح المسلمين مع مصالح الفرنساويين فإن المسلمين إذا تهذبت أخلاقهم بالدين سابقوا الأوروبيين في اكتساب العلوم وتحصيل المعارف ولحقوا بهم في التمدين وعند ذلك يسهل الاتفاق معهم إن شاء الله"(3).
__________
(1) رضا، محمد رشيد، مجلة المنار، م10، ج3، ص 208، وانظر تاريخ الأستاذ الإمام، ج2، ص479.
(2) رضا، محمد رشيد، مجلة المنار، م10، ج3، ص 209، وانظر تاريخ الأستاذ الإمام، ج2، ص479.
(3) رضا، محمد رشيد، مجلة المنار، م10، ج3، ص 208، وانظر تاريخ الأستاذ الإمام، ج2، ص480.(2/131)
…ومن يجل النظر في مقولة الشيخ محمد عبده يجد أنه يعد المخالفات الشرعية إسلاماً، ومنها ما رضخت الدولة العثمانية في نزاعها الأخير من ضغط الأوربيين المستعمرين في إيجاد محاكم مختلطة، ومحاكم أهلية في مصر المستعمرة والتي كانت تحكم بالقانون البلجيكي تحت الاستعمار الأنجلوفرنسي، وكان الشيخ محمد عبده شيخاً كباراً في المحاكم الأهلية، وقد صرح الشيخ محمد عبده بما لا غموض فيه بأن شأن هذه المحاكم وقوانينها معلوم ولا دخل لشيء من ذلك في الدين. أي أن الوحدة الإسلامية عنده في فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية وهو عين ما يطلبه مسيو هانوتو، وهذه هي دعوة الشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا الدينية التي يدعوان لها، وارجع البصر كرتين في قوله (البلاد الإسلامية الفرنساوية) وهي البلاد التي استعمرها الفرنسيون في الجزائر وتونس ومصر. وهكذا تتضح صورة معنى الوحدة التي يدعو لها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وهي شوائب محضة لا تمت للإسلام بسبب ولا نسب.(2/132)
2- الشيخ محمد أبو زهرة: قد صاغ بحثاً ليلقى في المؤتمر الإسلامي في بيان كيف تكون الوحدة الآن. وتحدث عن مجمع البحوث الإسلامية أن غرضه الاتجاه إلى الوحدة العلمية الإسلامية ومثله الأعلى في اليقظة والوعي والنهضة جمال الدين الأفغاني: "ونحن في بحثنا، لا نأمل أن تعاد الآن الخلافة الإسلامية كما ابتدأت وارفة الظلال على الجماعة الإسلامية، وإن كان يجب أن يكون غرضاً مقصوداً وهدفاً منشوداً، وإنما نكتفي بالحد الأدنى من الوحدة، ونبني عليه ما بعده من الأدوار حتى يصل المسلمون إلى أعلى مدارجها، في أمر جامع لهم، تحت أي شكل من الأشكال"(1) ثم دعا الشيخ محمد أبو زهرة إلى الوحدة الإنسانية وجعلها دعوة شرعية(2). وقال إن التعارف بين الشعوب هو تثبيت للوحدة الجامعة(3).
__________
(1) أبو زهرة، الشيخ محمد، الوحدة الإسلامية، ص 12 من مقدمة الكتاب: دار الرائد العربي، بيروت، ط2، 1391هـ/1971م.
(2) المصدر السابق ص13، ص15.
(3) المصدر السابق، ص 14.(2/133)
…وقال في تحديد شكل الوحدة: "إننا نريد من الوحدة أن تتحقق فيها معاني الأخوة والتعاون الاجتماعي والاقتصادي والحربي والسياسي والثقافي. ولكن كيف تتحقق هذه الأمور؟ أتتحقق بإحياء الخلافة الإسلامية كما كانت في عهد الراشدين؟ إن هذا هو الاجتماع الأمثل خصوصاً أنه قد وردت به الآثار، وكان عليها الصحابة أجمعون. ولكن أيمكن الأخذ بها في هذا العصر، وأيمكن تحقق شروطها، وهل من المصلحة بعد أن توزعت أرض المسلمين ذلك التوزيع أن تكون دولة واحدة، يرجع فيها الحكم إلى إمام هو أعظم الولاة؟ ونقول في الجواب عن هذا إننا لا نرى أن تكون الوحدة قائمة على دولة واحدة لها حكومة مسيطرة على كل المسلمين، فإن ذلك لا يمكن من الوضع الهندسي للبلاد الإسلامية في الأرض، وخصوصاً أن الأراضي الإسلامية ليست متصلة الأجزاء، وأن الأقاليم كما ذكرنا عندما امتد إليها الفتح الإسلامي كانت لها شخصياتها، والإمام له السلطان عليها، والتنظيم الكامل غير بعيد عنه، ولكنه في عماله وحكومته له استقلال ذاتي) (1).
…وإننا إذا اتجهنا إلى تكوين الوحدة الإسلامية، فإننا نتجه إلى أن تكون مناسبة للعصر. ولا ننسى المبادئ الإسلامية، فإننا إذا تأثرنا بروح العصر إنما هو في شكل الوحدة لا في جوهرها(2).
__________
(1) محمد أبو زهرة، الوحدة الإسلامية، ص 242.
(2) محمد أبو زهرة، الوحدة الإسلامية، ص 243.(2/134)
…وقال: "فمن روح العصر نستمد الطريق الموصل، وما يمكن أن يكون عليه شكل الوحدة"(1)، وقال: "ما دام (كل قطر إسلامي) يقيم العدل وينفذ الحق في رعيته ولا يرهقهم من أمرهم عسراً، فلكل إقليم أسلوب حكمه"(2) وقال: "إن معنى الوحدة الإسلامية هو الذي نريده وهو غايتنا، وهو أن نعتبر أنفسنا مهما تناءت الديار مرتبطين بروابط وثيقة تمتد جذورها في أعماق أنفسنا وهي: مبادئ الإسلام وشعائره، وعباداته وعقيدته، إذ هو دين الوحدة الجامعة الشاملة كما هو دين التوحيد الكامل، الخالص من كل شرك"(3).
…ثم قال: "إننا كما قلنا لا نقصد بالوحدة دولة واحدة ولكن نريد أخوة شاملة، وإذا كانت الخلافة الكبرى يمكن أن تكون من غير أن يكون للمسلمين دولة واحدة، بل تكون أقاليم مختلفة في ظل اتحاد كامل، فإنه يمكن وجودها في النظام الذي يتصور جامعاً. وذلك على أساس ألا يكون الاختيار مدى الحياة، بل يكون على نوبات زمنية متبادلة"(4).
…وقال: "إن الوحدة الإسلامية يمكن تحقيقها من غير خلافة، ولكن يمكن أن يكون للخلافة موضع فيها على أنها ليست الركن، بل على أنها مظهر الوحدة، وإن تحققت الوحدة في السياسة والحروب، والاقتصاد فقد قامت الوحدة قوية منتجة مثمرة، وتتحقق هذه العناصر في أن يكون أمر جامع وهو الجامعة الإسلامية"(5) ثم عقد فصلاً يوضح أن الجامعة الإسلامية التي يدعو لها هي ما نادى به جمال الدين الأفغاني(6).
__________
(1) المصدر السابق.
(2) المصدر السابق.
(3) محمد أبو زهرة، الوحدة الإسلامية، ص 243.
(4) محمد أبو زهرة، الوحدة الإسلامية، ص 244.
(5) محمد أبو زهرة، الوحدة الإسلامية، ص 244.
(6) محمد أبو زهرة، الوحدة الإسلامية، انظر ص 245-248.(2/135)
…مما سبق ندرك أن الشيخ محمد أبا زهرة قد أعد مشروعاً سياسياً ليلقى في مؤتمر سماه (كعادة الإعلام الموجه) إسلامياً. يبحث الأمور ليس من زاوية الإسلام، أي ليس من زاوية أن يذكر الدليل التفصيلي ثم يستنبط منه الحكم، بل أن الأمر يخص المسلمين ويراد منهم أن يكون أمرهم على رغبات الحاكمين والمتحكمين في رقاب العباد. والوحدة التي يدعو لها هي الوحدة الإنسانية التي يقبل المُسْتَعْمَر أن يتعايش فيها تحت حكم المُسْتَعْمِر، وخلاصتها العبادات والعقائد التي لا علاقة لها بالحياة العامة، فيتوحد المسلمون بالمشاعر فقط، وقد جعل الشيخ أبو زهرة مصدر مشروعه الواقعية وروح العصر. وليس الكتاب ولا السنة. وهذه المصادر لا تمت للإسلام بسبب ولا نسب كما يعلم مما جاء به الوحي. ورأى أن الخلافة الإسلامية الراشدة مثالية أي إما خيالية لا يمكن تطبيقها الآن، وإما أن تكون حلماً وآمالاً، والحلم ما دام حلماً لا قيمة له ما لم يطبق على أرض الواقع، والشيخ يرى صراحة أن الوحدة الإسلامية بالمفهوم الإسلامي أمر غير ممكن مع الوضع الهندسي للبلاد، أي مع وجود الصياغة الاستعمارية لبلاد المسلمين، والذي يريده هي وحدة مشاعر في نفوس المسلمين وأن يكون بين الأقطار الإسلامية اتحاد، ويختار كل قطر شكل الحكم الذي يريده ملكياً، جمهورياً، إماراتياً ... الخ كما يريد أن تكون الخلافة اسماً فقط كمحمد رشاد بعد انقلاب مصطفى كمال.
…واقترح أن تكون مدة حكم الخليفة متناوبة أي كنظام الجمهوريات الغربية وليس على ما هو تشريع رب العالمين، وعليه يكون الخليفة حاملاً للأختام كملكة بريطانيا. وعليه يكون الشيخ أبو زهرة يريد معنى كلمة الوحدة وليس الوحدة كما يدل عليه اللفظ. وهذه كلها شوائب تعارض أدلة الإسلام في الموضوع وسنأتي عليها بعد قليل.(2/136)
3- الشيخ طنطاوي جوهري: ينشد الشيخ وحدة إسلامية على غرار الوحدة التي دعا إليها جمال الدين الأفغاني في الهند وهي وحدة الهندوس مع المسلمين في ذلك القطر فقط. ودعا إلى عصبة الأمم وأن يكون المسلمون من ضمنها. ودعا إلى نبذ الحرب التي دعت إليه الحكومة الأمريكية، وكان هذا بياناً وتفسيراً لقوله تعالى { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } (1)، ومن مظاهر دعوته للوحدة الإنسانية، والأخوة الإنسانية كرابطة بين الناس تحل محل رابطة العقيدة، أن جعل المؤتمر الديني الدولي سنة 1928 دعوة إلى الصلاة تميّز بها الإسلام. وهي مما دعا إليها المصور الفرنسي الشهير (المسيو إيتان دينيه) وجعل هذا المؤتمر لخدمة السلام في العالم. وأن مبعث الدعوة هي أمريكا برئاسة (ماثيو) وسكرتيرها (أتكنسون) وكان 12 من أعضائها يمثلون المسيحية وعضو واحد يمثل الإسلام، وعضو يمثل الهندوس، واثنان يمثلان دين (كونفوشيوس) واثنان لليهودية، وعضو يمثل البهائية، وعضو يمثل الشنتو في اليابان، وعضو يمثل البوذيين في سيلان، وعضو للثيوصوفية بهولندا، وعضو للمجوس في الهند(2).
…هذا هو معنى الوحدة التي يدعو لها الشيخ طنطاوي جوهري ويريدها للمسلمين، بل يرى أن الإسلام يدعو لها وأن المؤتمر الديني الدولي الذي أشار إليه هو دعوة إلى الصلاة تميّز بها الإسلام. وهذه كلها خواطر عند الشيخ لا تمت للإسلام بسبب ولا نسب وهي شوائب لا تسعفها اللغة ولا الشرع.
__________
(1) سورة المؤمنون، آية 52.
(2) جوهري، طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن، م6، ج11، ص157-165. وانظر م8، ج16، ص104. وانظر جريدة الأهرام يوم السبت، أول فبراير سنة 1930 حيث ذكر أهداف المؤتمر وقراراته وعن اجتماعاته معهم سنة 1928 – 1930.(2/137)
4- د. عبد الرزاق أحمد السنهوري: لقد حصل عبد الرزاق السنهوري على درجة الدكتوراة من جامعة السوربون سنة 1926 باللغة الفرنسية على كتاب فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية بإشراف المستشرق الفرنسي لامبير. ترجمته ابنته إلى العربية سنة 1988م، حرص السنهوري في رسالته على إيجاد نظام بديل للخلافة الراشدة التي تتم بالبيعة لا بالوراثة، وقد اقترح لذلك إنشاء منظمة إسلامية دولية، وهي صورة عصرية للخلافة تقوم على مبدأ السيادة للشعب لا للشرع. والفصل بين السلطات، والحريات للأفراد والشعوب، وخلص في خاتمة الكتاب إلى إنشاء عصبة أمم شرقية تتمشى مع الاتجاه العالمي نحو التكتل والتجمع الذي نتج عنه وجود (عصبة أمم عالمية) في جنيف، واتحادات للدول الأمريكية والسوفياتية بل والأوروبية، والأفريقية بعد ذلك، وسمى مشروعه خلافة ناقصة لأنها لا تستوفي شروط الخلافة الراشدة الكاملة.
…وكخطوات عملية لهذه الوحدة المقترحة دعا إلى بدء حركة علمية لتجديد الفقه الإسلامي وتدوينه وتقنينه في صورة عصرية وتطبيقه تدريجياً بصفة عملية. ودعا إلى وجوب سعي الشعوب العربية والإسلامية للتحرر والاستقلال على أساس وطني بسبب اختلاف ظروف كل منها. ودعا في الميدان السياسي إلى وجوب وجود حركات سياسية وأحزاب عصرية في كل قطر تدعو إلى إقامة منظمة دولية إسلامية أو جامعة للدول الشرقية (الإسلامية) (1) ونلخص مشروعه باقتباس مقتطفات من كلامه في الخاتمة كنتائج نهائية لدراسته: حيث توجد ثلاثة أفكار أساسية من المهم التركيز عليها:
أ- بما أنه يستحيل اليوم تصور إقامة نظام الخلافة الراشدة أو الكاملة فلا مناص من إقامة حكومة إسلامية ناقصة وذلك على أساس حالة الضرورة للظروف التي يمر بها العالم الإسلامي حالياً.
__________
(1) د. السنهوري، عبد الرزاق أحمد، فقه الخلافة لتصبح عصبة أمم شرقية، ص 14، ص 15، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1989م.(2/138)
ب- هذا النظام الإسلامي الناقص يجب اعتباره نظاماً مؤقتاً.
ج- نظام الخلافة الراشدة التي يجب إقامته في المستقبل مرة أخرى يجب أن يتصف بالمرونة، ولقد رأينا أن الشريعة الإسلامية لا تفرض إطلاقاً شكلاً معيناً لنظام الحكم)(1). ثم رسم شكلاً لهيئة سمّاها الشؤون الدينية(2). وهو يرى أن تطبيق التشريع الإسلامي غير ممكن إلا بعد إدخال ما يستلزمه التطور في النواحي الاقتصادية والمعاملات ليصبح متجاوباً مع ضرورات الحضارة الحديثة(3).
…وتحت عنوان وحدة العالم الإسلامي أبدى رأيه واستشهد برأي المستشرق لامبير وقال إن رأيه مقارب لرأيه وهو: "إنني أعد من أحسن شركائي في الدراسات المقارنة إلى جانب أغلبية من المسلمين بعض المسيحيين والإسرائيليين من الشرق – إن استعمال كلمة الأمة الإسلامية لا يعني أنه مجتمع من المسلمين وحدهم، بل إنني أعني بذلك حضارة لها طابع خاص يقدمها لنا التاريخ كثمرة لجهود جماعية مشتركة لكل الشعوب وكل الجماعات الدينية التي تحيا منذ قرون طويلة وعملت جنباً إلى جنب تحت راية الإسلام.وتبدو لنا إذن كحضارة مشتركة لكل سكان الشرق الإسلامي لنفس الأسباب التي تجعل الحضارة المسيحية الغربية ملكية مشتركة لكل الغربيين حتى بما فيهم اللادينيون والكاثوليك والبروتستانت"(4).
__________
(1) د. السنهوري، عبد الرزاق أحمد، فقه الخلافة لتصبح عصبة أمم شرقية، ص 339. وانظر ص 341.
(2) د. السنهوري، عبد الرزاق أحمد، فقه الخلافة لتصبح عصبة أمم شرقية، ص 344-347.
(3) د. السنهوري، عبد الرزاق أحمد، فقه الخلافة لتصبح عصبة أمم شرقية، ص 348.
(4) د. السنهوري، عبد الرزاق أحمد، فقه الخلافة لتصبح عصبة أمم شرقية، ص 356، 357.(2/139)
…ثم رسم الخطوط العريضة لنظام الجامعة الشرقية والطرق العملية لتحقيقها(1) ومما قاله: "إن مهمتنا هي جمع شمل الدول الشرقية في جامعة هدفها أن توفر لها الاستقرار الداخلي والأمن الخارجي، وإن المقارنة مع عصبة الأمم بجنيف تبرز مفهومنا بدقة، كما هو الحال في عصبة الأمم بجنيف فإن هدف هذه الجامعة الشرقية هو تدعيم السلام والتعاون بين الدول الأعضاء وستعمل بنفس الوسائل – التحكيم- المساعدة المشتركة – الضمانات المتبادلة ... الخ لكن على عكس عصبة الأمم في جنيف لن تكون جامعة عالمية، بل أضيق نطاقاً ولن تشمل سوى الدول الشرقية المستقلة(2).
…وقال: "وهنا سؤال ذو أهمية كبرى كيف ستكون العلاقة بين المنظمتين، أي المنظمة العالمية والمنظمة الشرقية؟ إننا لم نتردد في القول بأن علاقة بنوة يجب أن تربط المنظمة الشرقية بالمنظمة العالمية ونفسر ذلك أولاً بأن كل دولة تنضم إلى الجامعة الشرقية يجب أيضاً أن تكون عضواً بالمنظمة العالمية، وعلاوة على ذلك، وإضافة لذلك فإن جامعة الشعوب الشرقية نفسها سوف تمثل بشكل جماعي في المنظمة العالمية"(3).
…هذا هو مشروع د. السنهوري في وحدة المسلمين في أقطار العالم، وهو مؤسس الثورة الفقهية للإسلام العصري في المناهج الدراسية للقضاة والمحامين ولقانون الأحوال الشخصية، وهو في مجمله لا يخرج عن دائرة ثقافة المدرسة العقلية الحديثة. وينقصه أن يستند إلى الشرع حتى يقدم كمشروع إسلامي وإلا فيبقى في دائرة الشوائب يصول ويجول.
__________
(1) د. السنهوري، عبد الرزاق أحمد، فقه الخلافة لتصبح عصبة أمم شرقية، ص 366.
(2) د. السنهوري، عبد الرزاق أحمد، فقه الخلافة لتصبح عصبة أمم شرقية، ص 367.
(3) د. السنهوري، عبد الرزاق أحمد، فقه الخلافة لتصبح عصبة أمم شرقية، ص 368.(2/140)
5- الشيخ حسن البنا كتب في رسائله المشهورة تحت عنوان (الإخوان المسلمون والخلافة): "إن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها"(1). وقال: "والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لا بد منها وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بدّ أن تسبقها خطوات: لا بد من تعاون تام ثقافي واجتماعي بين الشعوب الإسلامية كلها يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد وأن المؤتمر البرلماني الإسلامي لقضية فلسطين ودعوة وفود الممالك الإسلامية للمناداة بحقوق العرب في الأرض المباركة لظاهرتان طيبتان وخطوتان واسعتان في هذا السبيل. ثم يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية حتى إذا تم ذلك للمسلمين نتج عنه الاجتماع على (الإمام) الذي هو واسطة العقد ومجتمع الشمل ومهوى الأفئدة وظل الله في الأرض"(2).
__________
(1) البنا، حسن أحمد، مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، ص 144، ط3، المؤسسة الإسلامية للطباعة والنشر 1404هـ، 1984م.
(2) البنا، حسن أحمد، مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، ص 115، ومن الجدير بالذكر أن فكرة الحاكم ظل الله في الأرض فكرة نصرانية ظهرت في الغرب لإخضاع الشعوب للحاكم.(2/141)
…ومن يجل النظر في موقف الشيخ حسن البنا من وحدة المسلمين في نظام الخلافة يجدها تطبيقاً عملياً لفكر السنهوري، وطنطاوي جوهري، فالخلافة رمز وهدف مثالي يتم شكله في عصبة الأمم الإسلامية، وهو المشروع نفسه الذي دعا إليه كل من الشيخ محمد عبده والشيخ محمد أبو زهرة، ويرى أن الاجتماعات التي تتم في لندن عاصمة الاستعمار من قبل ممثلي الحكومات التي أوجدتها اتفاقية سايكس بيكو في ذلك الوقت ظاهرة طيبة وخطوة واسعة في سبيل الوحدة التي يطمح إليها الشيخ، ومن الجدير بالذكر أن الخطوات التي جعلها تسبق الخطوة المباشرة للخلافة مستحيلة التطبيق فكيف يتم التعاون بين الشعوب، وحكامهم في صراع مستمر!! بل المفروض عليهم منذ اتفاقية سايكس بيكو أن يعمل المسلمون لتلغى هذه الاتفاقية. والخطوة التي تليها وهي تكون عصبة الأمم الإسلامية كذلك مستحيلة فضلاً عن أنها معارضة للشرع للأدلة التي ستكون في نهاية البحث رداً على الفكرة عند الجميع.(2/142)
6- الشيخ عبد القادر عودة: قال تحت عنوان (كيف يمكن تطبيق النظريات الإسلامية مع تعدد دول الإسلام؟): "يلاحظ على النظريات الإسلامية أنها تقسم العالم قسمين: دار إسلام، ودار حرب، وقد يظن البعض أن هذا يقتضي أن تكون البلاد الإسلامية كلها تحت حكم دولة واحدة، والبلاد الأجنبية كلها تحت حكم دولة واحدة، وهو ظن لا أساس له من الواقع، فالنظريات الإسلامية لم توضع على أساس أن تكون البلاد الإسلامية محكومة بحكومة واحدة، وإنما وضعت على أساس ما يقتضيه الإسلام، وقال: وأبسط الصور وأكفلها بتحقيق هذه الغاية أن تكون كل بلاد الإسلام تحت حكم دولة واحدة ولكن ليست هذه هي الصورة الوحيدة التي تحقق أهداف الإسلام(1)، لأن هذه الأهداف يمكن أن تتحقق مع قيام دول متعددة في دار الإسلام ما دامت هذه الدول تتجه اتجاهاً واحداً وتسير على سياسة واحدة، والنظام لا يتنافى مع نظام كنظام الولايات المتحدة الأمريكية، ولا مع نظام كنظام الولايات المتحدة السوفييتية القائم في روسيا، ولا مع نظام كنظام الدومنيوم الإنجليزي، ولا يتنافى مع النظام القائم الآن في البلاد العربية، بعد قيام الجامعة العربية التي تعمل على توحيد الاتجاهات والسياسات في الدول العربية المختلفة، ولا يتنافى مع قيام جامعة إسلامية تتكون من كل الدول الإسلامية، وتشرف عليها وتعمل على توحيد أغراضها واتجاهاتها، وعلى حل ما يثور فيها من نزاع داخلي، ولا يتنافى الإسلام مع أي نظام آخر ما دام هذا النظام يحقق الأهداف الإسلامية، وأن هذه الأهداف هي أن يكون المسلمون يداً واحدة على من عاداهم، وأن يكون اتجاههم واحداً وسياستهم واحدة، وليس أدل على صحة ما نقول من أن النظريات الإسلامية وضعت في عهد العباسيين بعد أن انقسمت الدولة الإسلامية إلى ثلاث دول:
__________
(1) يعني بأهداف الإسلام حسبما ورد في المقال نفسه أن يكون المسلمون في بقاع الأرض يداً واحدة، يتجهون اتجاهاً واحداً وتسوسهم سياسة واحدة.(2/143)
دولة العباسيين في المشرق، ودولة العلويين في المغرب، ودولة الأمويين في الأندلس، وقد ظلت هذه النظريات تطبق بعد أن أصبح في كل قطر إسلامي دولة إسلامية"(1).
…ومن يجل النظر في مقولة عبد القادر عودة يجد أنها أقوال معزولة عن الأدلة الشرعية. بل عدّ الأحكام الشرعية نظريات أي تحتمل الخطأ والصواب، وأقواله تستند إلى التاريخ وإلى الواقع الذي صنعه الكافر المستعمر في بلاد المسلمين. والفكر لا يسمى إسلامياً إلا إذا كان مستنبطاً من الوحي الذي سماه لله تبارك وتعالى إسلاماً. والإسلام ليس اسم ذات بل اسم صفة تنسب لما جاء به - صلى الله عليه وسلم - من وحي يتلى، ومن له دراية بواقع كيف هدمت الخلافة يوقن أن هذه الثقافة في وحدة المسلمين هي ثقافة انجليزية أصلتها رؤوس واضعي الشوائب بين المسلمين. فالجامعة العربيةكانت ثمرة جمعية أسسها الإنجليز سنة 1909م برئاسة الشيخ محمد رشيد رضا لفصل البلاد العربية عن دولة الخلافة(2)، ثم لصياغة البلاد العربية صياغة هندسية معينة. وبحثنا بحث شرعي لا بد أن يستند إلى الأدلة من الكتاب والسنة وليس إلى أدلة العقل والواقع. فلا تثبت الأحكام الشرعية بمجرد أن ينطق بها مسلم، وعليه فلا مكان لما جاء به الشيخ عبد القادر عودة في الإسلام. فيعد من الشوائب، وسيأتي الرد عليه جملة واحدة بعد قليل.
__________
(1) عودة، عبد القادر، التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي، ص 290-291، دار التراث للطباعة – القاهرة.
(2) كما وجدت ذلك في أوراق الشيخ رشيد الخاصة، وعندي صورة عن أول بيانين من الجمعية بعنوان الصرخة الأولى والصرخة الثانية.(2/144)
7- الشيخ عبد الحميد السائح: قال: "ونحن لا نقصد أن نجمع العالم الإسلامي في حكومة واحدة، فهذه فكرة أصبحت بعيدة المنال بعيدة التحقيق، والتفكير بها يؤدي إلى عدم تحقيق أي هدف صحيح، وإنما نقصد إيجاد وحدة فكرية إسلامية، وتضامن إسلامي على حماية العقيدة الإسلامية ونشر الثقافة الإسلامية، وإذاعة المبادئ الإسلامية، فهذا أحسن علاج لمحاربة المبادئ الهدّامة المستوردة"(1)، ثم تحدث عن نشر اللغة العربية في العالم الإسلامي وعدّها مكسباً وأنه سيؤدي إلى تضامن إسلامي قد يكون له أثره البارز في تعزيز السلام والخير العام للبشر(2).
…ومن يدقق في مقولة الشيخ السائح يجد بوضوح أن الوحدة بالمفهوم الإسلامي الذي يتبادر إلى الأذهان من اللفظ غير وارد عنده بل يراه عائقاً عن تحقيق أي هدف صحيح، وصرّح أنه ليس هدفه ولا مقصده. فيبقى ما رجحه وهو أن الوحدة الفكرية والتضامن والعقيدة التي يعنيها هي الثقافة التي تدعو لها أجهزة الإعلام المختلفة من ثقافة مختلطة من جميع الأديان ويقصرون الناس على القول إنها إسلامية، ويكرهون المسلمين على الاعتقاد بها كرهاً مصحوباً بتهديدات أجهزة الحكام الأمنية لكل من يخرج عن مفاهيم الوحدة الإسلامية حسب مفهومهم.
مفهوم الوحدة الإسلامية في الإسلام:
…لقد حددت النصوص الشرعية معالم الوحدة الإسلامية، وطبقها الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون من بعده وانعقد عليها إجماع الصحابة رضوان الله عليهم.
__________
(1) السائح، عبد الحميد، الإسلام بين القديم والحديث، ص13، منشورات وزارة الأوقاف الأردنية، عمان مطابع الشركة الثلاثية سنة 1968م.
(2) المصدر السابق، ص 14.(2/145)
…أما النصوص فقال تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } (1) وقال عز وجل: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } (2) فالخطاب موجه للمسلمين كافة، ووصف الأمة الإسلامية (وهي المخاطبة) بالواحدة. أي لا تعدد فيها، والواحد لا يتسع للتعدد حسبما تدل عليه اللغة، وذيلت آية سورة الأنبياء بالطلب لعبادة الرب، كما ذيلت آية المؤمنون بالطلب بتقوى الرب والإخبار هنا يفيد الطلب. وجاءت السنة تبيّن أن الطلب جاء على سبيل الإلزام بما احتف به من قرائن لا محيص عنها في إفادة الجزم:
1- أخرج مسلم عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر قالوا فما تأمرنا؟ قال: فو ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم(3).
…ففي الحديث إخبار بأن الخلفاء سيكثرون بعده - صلى الله عليه وسلم - وحدد الحديث الموقف الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون من هذه الكثرة، والتعدد، فأمرهم بالوفاء للخليفة الذي بايعونه أولاً لأنه هو الخليفة الشرعي، وهو وحده الذي له الطاعة، وأما الآخرون فلا طاعة لهم لأن بيعتهم باطلة غير شرعية، لأنه لا يجوز أن يبايع لخليفة مع وجود الأول. والفاء تفيد الترتيب والتعقيب (الأول فالأول). أي أن الوحدة تكون بتوحيد المسلمين في كيان واحد تحت إمرة أمير واحد.
__________
(1) سورة الأنبياء، آية 92.
(2) سورة المؤمنون، آية 52.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي، ج12، ص 231، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول.(2/146)
2- أخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه اجتمع مع نفر من الصحابة حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - تلبية لنداء مناد (في ظل الكعبة) فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم بشر ما يعلمه لهم وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضاً. وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه فمن أحبّ أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحبّ أن يُؤتى إليه ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر) (1).
…فالحديث يبيّن أنه في حالة بيعة الإمام الواحد تجب طاعته، فإن جاء آخر ينازعه الإمارة وجب قتاله وقتله إن لم يتراجع عن هذه المنازعة، وهما قرينة قطعية في الدلالة على الجزم في الطلب بالأمر المتحدث عنه وهو عدم بيعة أكثر من إمام واحد، وعدم وجود أكثر من إمام للمسلمين يعني منع تجزئة الدولة، وعدم السماح بتعدد الدول في الإسلام، ويفيد الحث على عدم السماح بتقسيم بلاد المسلمين، ومنع الانفصال عنها ولو بقوة السلاح.
3- وأخرج مسلم عن عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان) (2).
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، ج12، ص 233، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي، ج12، ص241، كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع.(2/147)
…وهذا الحديث يبيّن أنه عندما يكون المسلمون جماعة واحدة تحت إمرة خليفة واحد، وجاء من يشق وحدة المسلمين، ويفرق جماعتهم وجب قتله، والحديث كسابقه يفيد منع تجزئة الدولة والحث على عدم السماح بتقسيمها، ومنع الانفصال عنها ولو بقوة السلاح، وأخرج مسلم عن عرفجة بسند آخر مثله غير أن في حديثهم جميعاً فاقتلوه(1) وأخرج كذلك عن عرفجة قال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه) (2). فالقتل قرينة قوية على إفادة أن الطلب للجزم أي للفرض وليس للندب ولا للإباحة.
4- وأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) (3) ويفهم من هذا الحديث أنه في حالة خلوّ الدولة من الخليفة لسبب من الأسباب الشرعية ومنها الموت أو عزله أو اعتزاله، ومبايعة شخصين للخلافة يجب قتل الآخر منهما، ويدخل في ذلك من باب أولى إذا أعطيت الإمامة لأكثر من اثنين، وهذه يعني عدم إباحة تعدد الدول، وفرضية الحفاظ على دولة واحدة للمسلمين.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، ج12، ص242، كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي، ج12، ص242، كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي، ج12، ص242، كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع.(2/148)
…وهكذا فإن الآيات والأحاديث قد حددت وجوب وحدة الخلافة للمسلمين وأن لا يكون لهم أكثر من دولة واحدة مهما اتسعت رقعة البلاد، ومهما بلغ عدد المسلمين لأن الخطاب يفيد العموم، هذه هي أدلة الوحي، وهذا هو شرع الله في المسألة، وهو أن وحدة المسلمين تكمن في أن يكون لهم دولة واحدة ليس أكثر، وأن نظام الخلافة نظام وحده وليس نظاماً اتحادياً كما هو الحال في بعض الدول الأمريكية أو السوفياتية، هذا نظام ربكم، وذاك (النظام الاتحادي) نظام البشر، ولم يخول الله البشر بتعديل نظامه، كما لم يرخص لنا بالعدول عنه، فهو الحق وما دونه الباطل وشوائب شابت التفسير فلا بد من رفضها والتنفير منها لننال مرضاة رب العالمين.
…وقد ترد شبهة للأغيار أنه في التاريخ وقع للمسلمين أكثر من دولة في زمن واحد. ورد هذه الشبهة لا يحتاج إلى كبير نقاش وجدل، فالتاريخ ليس مصدراً من مصادر التشريع، ولا يجوز للتاريخ أن ينسخ نصوص الوحي، كما لا يجوز أن تكون إساءة تطبيق الإسلام قدوة ومثلاً يحتذى ويعدل بها عن الوحي فضلاً عن أن تتخذ دليلاً شرعياً، وبعد فالوحدة الإسلامية تعني الوحدة في العقيدة والنظام الذي ينبثق عنها في دولة واحدة، اسمها الخلافة وهي نظام حكم.
ب- شوائب التفسير في نظام الحكم في الإسلام:(2/149)
1- ألف الشيخ محمد رشيد رضا كتاب الخلافة 1341هـ - 1922م وأهداه إلى ملاحدة الترك لتجديد حكومة الخلافة الإسلامية بقصد الجمع بين هداية الدين والحضارة لخدمة الإنسانية لا لتأسيس عصبة إسلامية تهدد الدول الغربية حتى نجد من علماء الإفرنج وفضلائهم وأحرارهم من يشد أزر الترك ويرفع ذكرهم(1)، ويرى أن نظام الحكم متروك للولاة لا للدين، فهو ليس من الدين على حد تعبيره، ورأى أن يشكل مجلس من أهل الحل والعقد من علماء التنوير ومنهم: غاندي، وأبو كلام، ومحمد علي شوكت، وسعد زغلول، وحزب الوفد ونحوهم، ثم اقترح نموذجاً من النظم الواجب وضعها للخلافة(2) وأسند المهمة لحزب الإصلاح، وهو حزب الشيخ محمد عبده ومؤيديه واختزل مشروعه بالآتي:
1- تنشأ مدرسة عالية لتخريج المرشحين للإمامة العظمى وللاجتهاد في الشرع.
2- ينتخب من خريجي المدرسة رجال ديوان الخلافة الخاص، وأهل القضاء والإفتاء وواضعو القوانين ونظم الدعوة إلى الإسلام.
3- يدرس في هذه المدرسة أصول القوانين الدولية وعلم الملل والنحل، وخلاصة تاريخ الأمم وسنن الاجتماع ونظم الهيئات الدينية كالفاتيكان والبطارقة والأساقفة وجمعياتهم الدينية وأعمالها.
__________
(1) رضا، محمد رشيد، الخلافة، ص11، الزهراء للإعلام العربي، 1408هـ-1988م.
(2) المصدر السابق، ص86.(2/150)
4- إذا انتخب أحد المتخرجين في هذه المدرسة انتخاباً حراً من قبل أهل الاختيار الذين يتحرى فيهم أن يكونوا من جميع الأقطار الإسلامية ولا سيما المستقلة منها بموجب النظام الخاص له ثم بايعه من سائر أهل الحل والعقد من يحصل بهم الثقة التامة للأمة كافة قامت الحجة على كل فرد أو جماعة أو شعب بأنه هو الإمام الحق النائب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الدين وسياسة الدنيا(1)، وأن طاعته فرض شرعي في كل ما هو غير معصية قطعية ثابتة بنص الكتاب أو السنة الصحيحة من المصالح العامة، ولا تجوز مخالفته في شيء من ذلك باجتهاد يعارض اجتهاده، ولا تقليد مجتهد آخر، وإنما يتبع كل امرئ اجتهاد نفسه أو فتوى قلبه وراحة وجدانية فيما يختلف فيه اجتهاد العلماء من الأمور الشخصية الخاصة ككون هذا المال حلالاً أو حراماً(2).
…ثم ذكر الحزب (حزب الإصلاح) بأهم البرامج والنظم التي يتوقف عليها العمل وهي:
1- برنامج المدرسة العليا التي يتخرج فيها الخلفاء والمجتهدون.
2- برنامج انتخاب الخليفة.
3- برنامج ديوان الخلافة الإداري والمالي ومجالسه:
أ- مجلس الشورى العامة.
ب- مجلس الإفتاء والتصنيفات الدينية والشرعية والنظر في المؤلفات.
ج- مجلس التقيد والتفويض لرؤساء الحكومات والقضاة والمفتين.
د- مجلس المراقبة العامة على الحكومة.
هـ- مجلس الدعوة إلى الإسلام والدعاة.
و- مجلس خطابة المساجد والوعظ والإرشاد والحسبة.
ز- مجلس الزكاة الشرعية ومصاريفها.
ح- مجلس إمارة الحج وخدمة الحرمين الشريفين.
ط- مجلس قلم الرسائل(3).
…هذا هو مشروع الشيخ رشيد في الإمامة العظمى للمسلمين لا يمت للإسلام بسبب ولا نسب.
__________
(1) المصدر السابق، ص87.
(2) رضا، محمد رشيد، الخلاقة، ص 87. وقد سمى عبد الرزاق السنهوري مشروع الشيخ رشيد الخلاقة الإسلامية (الحكومة الإسلامية) حكومة العلماء، ص 68.
(3) المصدر السابق، ص 88.(2/151)
2- الشيخ علي عبد الرازق: ألف كتابه الإسلام وأصول الحكم، ومما جاء فيه "والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا، ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولا ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم وقواعد السياسة"(1).
…وقال: "لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى، في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا بذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"(2).
…ومن يدقق في كلام الشيخ علي عبد الرازق يجد أنه يحمد الله أن هداه لهدم الدين ويتقرب إلى الله بذلك، فهو ينكر تاج الفروض، نعم يجحد الفرض الذي تطبق به كل الأحكام الشرعية، والذي بلغنا بالتواتر، كما أنه يزعم بدون دليل أن الخلافة والحكم بعامة والقضاء والسياسة لا شأن للدين بها، وهي موكولة للعقل يأخذ بها من تجارب الأمم وقواعد السياسة، فهو بذلك يعتنق عقيدة فصل الدين عن الحياة بأجلى صورها. وهذه كلها شوائب لا تمت للإسلام بسبب ولا نسب.
__________
(1) الإسلام وأصول الحكم، ص 201، علي عبد الرازق، نقد وتعليق د. ممدوح حنفي، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1966م.
(2) عبد الرازق، علي، الإسلام وأصول الحكم، ص 201.(2/152)
3- طنطاوي جوهري والخلافة: قال عن مدة حكم الخليفة: "ولا يجوز أن تتعدى خلافته مدة حياته ثم بعد موته ينتخبون سواه، بل أقول أكثر من ذلك لتكن خلافته إلى مدة معينة، وبعد تمامها يعاد الانتخاب ولا مانع من إعادة انتخابه مرة أو أكثر"(1).
…وقال: "هكذا هنا العناية الإلهية شاءت أن يكون لأمم الإسلام 13 قرناً يتخبطون فيها في أمر الخلافة وتبقى تبع السيف، وليس للعقل ولا للرأي ولا للشورى نصيب"(2)، وقال: "والله يقول لنا أنا لما وجدت أن الأمم السابقة لم تبال بخوارق العادات جعلت النبوة اليوم راجعة للتفكير لا لخوارق العادات، أفليس هذا معناه أننا ننظر في الأمور ونزنها، فإذا وجدنا أسلافنا اتخذ أغلبهم الخلافة بالسيف فكان ذلك باعثاً على الشقاق والافتراق، أفليس يجدر بنا أن نقول الآن إنك يا رب أريتنا وفعلت معنا ما يفعله الموت مع الناس، فنحن طغينا في أمر الخلافة فأتت عاقبتنا، وسلبت منا الملك، وحكمت بتفريقنا جزاء تركنا الشورى، وأريتنا أن أصغر أمم الأرض لها رئيس ديني، ونحن (وإن كنا خير أمة أخرجت للناس) لم نقم بالحق في الخلافة، ولم نعطها إلا للقاهرين، فها نحن يا الله رجعنا عن جهلنا السابق، وامتثلنا أمرك، فليكن الخليفة هو من يصطفيه الرؤساء والأمراء في الإسلام، هذا هو الذي يجب الآن"(3).
…أقوال الشيخ طنطاوي جوهري لا تستند إلى دليل فهي شوائب محضة، ويقوّل الرب ما لم يقل، ويجعل العقل يحل محل النبوة، وجعل الخلافة جهلاً، والحكم بغير ما أنزل الله امتثالاً لأمر الله فلا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) جوهري، طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن، م10، ج2، ص 259.
(2) جوهري، طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن، م10، ج2، ص 261.
(3) جوهري، طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن، م10، ج2، ص 261.(2/153)
4- الشيخ محمد مصطفى المراغي: "إن في إمكان أي حكومة إسلامية أن تخرج عن دينها فتصبح حكومة لا دينية، وليس في هذا مانع من أن يبقى الشعب على إسلامه كما هو الحال في تركيا الجديدة"(1).
5- الشيخ محمد عزت دروزة: ألف كتاب الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحياة. قال:
أولاً: "إن القرآن لا يتضمن نصاً في شكل الدولة. كما أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص في هذا الباب على أصح الأقوال. فليس من التجوز أن يقال إن هذا قد ترك لأولي الحل والعقد والشأن من المسلمين على ما يسيرون فيه وفق ما يرون فيه المصلحة العامة. مما جرى عليه القرآن في كثير من الشؤون على ما أسلفنا. وعلى هذا يمكن أن يقال: إنه مما يصح أن يكون ذلك الشكل ملكياً تنتقل رئاسته بين ذوي رحم واحد، أو جمهورياً تنتقل رئاسته بين أشخاص من غير رحم واحد"(2).
ثانياً: عدم تضمن القرآن تحديداً أعمال وتشكيلات الدولة: إن القرآن لم يحدّد كذلك أعمال الدولة وتشكيلاتها مما هو متصل بالحكمة السامية التي نبهنا عليها آنفاً، حيث ترك لأولي الأمر والحل والعقد لينشئوا دوائر الدولة حسب ما يرونه للمصلحة العامة في ظروفهم المختلفة، ابتداعاً أو اقتباساً(3).
__________
(1) صبري، مصطفى، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، ج4، ص285.
(2) دروزة، محمد عزت، الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحياة، ج1، ص104، مطبعة دار إحياء الكتب العربية فيصل الحلبي، 1386هـ – 1961، طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي – القاهرة.
(3) دروزة، محمد عزت، الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحياة، ج1، ص105.(2/154)
ثالثاً: وحدة الدولة في الإسلام وتعددها: إن القرآن لا يحتوي صراحة كون الدولة في الإسلام واحدة شاملة. وكذلك ما هنالك تقرير لواقع الأمر من أن رئاسة النبي - صلى الله عليه وسلم - للدولة كانت شاملة لجميع المسلمين ومصالحهم(1) وهذا ما استمر في عهد الخلفاء الراشدين وبعدهم إلى أمد غير قصير.
…وقال: غير أن في القرآن آيات في صدد ما يقوم من نزاع وقتال بين طوائف المسلمين وجماعاتهم قد تحتوي تلقيناً ما باحتمال قيام دول إسلامية عديدة أيضاً(2) { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } (3).
…وقال: "فإذا صح توجيهنا فإنه يبدو من خلاله حكمة سامية لعدم النص الصريح على كون الدولة في الإسلام واحدة شاملة، حيث علم الله بمقتضيات الظروف وطبيعة النواميس الاجتماعية، واحتمال قيام دول وحكومات إسلامية متعددة فضمن الآيات هذا التلقين الجليل"(4).
…وقال في قوله تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } (5). والآية الثانية تتضمن تلقيناً جليلاً آخر متصلاً بالاحتمال الذي استلهمناه، وهو وجوب قيام الصلات بين الحكومات الإسلامية المتعددة على أساس الحق والعدل، والتضامن ومصلحة الأخوة الإسلامية المشتركة(6).
__________
(1) دروزة، محمد عزت، الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحياة، ج1، ص105.
(2) دروزة، محمد عزت، الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحياة، ج1، ص106.
(3) سورة الحجرات، آية 9.
(4) دروزة، محمد عزت، الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحياة، ج1، ص107.
(5) سورة الحجرات، آية 10.
(6) دروزة، محمد عزت، الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحياة، ج1، ص107.(2/155)
…مما سبق ندرك أن الشيخ لا يأخذ إلا بما ورد في القرآن الكريم ويعرض عن السنة، وما أخذه من القرآن أخذ منه ما يتناسب أو ما يمكن أن يلويه ليوافق هواه، فقوله إن القرآن لم يتضمن نصاً في شكل الدولة كلام صحيح لكن الحكم بما أنزل الله جاء بشكل لا لبس فيه ولا غموض، وما أنزل الله شمل جميع شؤون الحياة، وكأنه يريد أن يقول: ألا له الخلق دون الأمر.
…ثم إنه يفتري على السنة أنها خالية من النصوص في شكل الحكم، ثم إنه يجوز أن يكون الحكم ملكياً أو جمهورياً، فهو سائر على سنن من قبله من المدرسة العقلية الحديثة، وما زعمه من جواز تعدد الدول كل ذلك يتناقض مع النصوص القطعية والتي وصلتنا بالتواتر، فما جاء به شوائب محضة لا تمت للإسلام بسبب ولا نسب. ولا يجوز أن تدخل في دائرة التفسير، ولا في دائرة الإسلام كله.
6- محمد أسد ألف كتاب منهاج الإسلام في الحكم: يرى أن هناك خطراً أعظم وهو أن كثيراً من المسلمين يريدون أن تتخذ الدول الإسلامية التي نشأت في الماضي مثالاً يجب علينا أن نحتذيه خلال مراحل تطورنا السياسي في الحاضر والمستقبل(1).
…وفسر مقصده من لفظ (الدول الإسلامية) قائلا: (ولكني أشير على وجه التحديد إلى الفكرة التي هيمنت على عقول كثير من المسلمين سواء في الماضي أو الحاضر من أنه لا يوجد سوى طراز واحد فحسب يمكن أن ينطبق عليه نعت (الدولة الإسلامية) ويعنون بذلك الطراز الذي قام في عهد الخلفاء الراشدين، وأن أي انحراف على الاقتداء بهذا الطراز يخلع عن الدولة الصفة (الإسلامية). إنني أقول أنه ليس هناك شيء أكثر إمعاناً في الخطأ من مثل هذا الاعتقاد(2).
…ولا أدري أهو جهل بالإسلام، وجهل بحقيقة مصادر التشريع، أم هو حقد المستشرقين الذين يعلنون إسلامهم، والله يتولى سرائرهم؟!
__________
(1) أسد، محمد، منهاج الإسلام في الحكم، ص53، نقله إلى العربية منصور محمد ماضي، دار العلم للملايين، ط4، بيروت 1975م.
(2) المصدر السابق، ص 54.(2/156)
…وقال: "إننا إذا لخصنا الأحكام الخاصة بالشؤون السياسية في القرآن والسنة فلن نجد من بينها ما ينص على (شكل معين) للدولة. وبمعنى آخر إن الشريعة لا تضع لنا نموذجاً محدداً يجب على الدولة الإسلامية أن تتشكل على مثاله، ولا هي تضع لنا خطة مفصلة لنظرية دستورية"(1). وقال: "إن حاجات الإنسان السياسية حاجات مرتبطة بالزمن، متغيرة مع تغيره، وليس هناك أنظمة أو أحكام شرعية مهما تكن صارمة يمكن لها أن تحد من فعالية هذا القانون الطبيعي الغلاب قانون التغير والتطور، ولهذا فإن الشريعة الإسلامية لم تحاول المستحيل"(2).
…ثم قرر أن الإسلام حدد المبادئ الأساسية وترك التفاصيل لاجتهاد المسلمين في كل عصر، ثم فصل ذلك فقال: "أما بالنسبة للموضوع الذي نعالجه فيمكننا أن نقرر باطمئنان أنه لا يوجد (شكل واحد) للدولة الإسلامية بل إن هناك أشكالاً كثيرة، وإن على المسلمين في كل زمن أن يكتشفوا الشكل الذي يلائم ويحقق حاجاتهم شريطة أن يكون الشكل والنظام اللذان يقع عليهما الاختيار متفقين تماماً مع الأحكام الشرعية الظاهرة المتعلقة بتنظيم حياة المجتمع"(3).
…وقال عن جهاز الحكم في عهد الراشدين: "إن الجهاز السياسي الذي أوجدوه (الصحابة) كان من ثمرة الاجتهاد، كما ساهمت في تكوينه على هذه الصورة ضرورات زمانهم ومقتضيات عصرهم، ولم يكن يقوم على أحكام الشريعة وحدها"(4).
…وسأجمل الرد على الجميع بعد قليل إن شاء الله تعالى، وسأبين أنها شوائب لا تمت للتفسير ولا للإسلام بسبب أو نسب.
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) منهاج الحكم في الإسلام، محمد أسد، ص 55.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) منهاج الحكم في الإسلام، محمد أسد، ص 57.(2/157)
7- د. عبد الكريم الخطيب في كتابه الخلافة والإمامة ديانة وسياسة: قال: "وطبيعي أنه لو كان هناك دليل صريح من الكتاب أو السنة في شأن الخلافة أو الحكومة التي يقيمها المسلمون بعد النبي لما كان هناك وجه لهذا الخلاف في الصفة التي تقوم عليها الحكومة أو الخلافة، أو في اللون الذي تبدو فيه!" (1).
…وقال تحت عنوان ما طبيعة العنصر الديني في الخلافة: "أهو أمر سماوي مستقل جاء يحدّث عن الخلافة ويقيم بناءها؟ أم هو شيء نبع من مشاعر الناس بحكم التعاليم الدينية التي دعوا إليها وآمنوا بها؟ وواضح مما قدمناه في الفصول السابقة أن العنصر الديني في الخلافة هو عنصر عارض، دخل في جهاز الحكم بعد أن دخل الدين إلى عقول الناس وفي قلوبهم .. وأن الخلافة ليست إلا نظاماً من أنظمة الحكم التي لا غنى للناس عنها، وأن هذا العنصر الديني الذي لوِّنَ به هذا النظام هو أثر من آثار الدين في قلوب الناس وعقولهم، وأن هذا الأثر يقوي ويضعف حسب ما في قلوب الناس وعقولهم من إحساس بالدين واستقامة عليه، وإذن فلا ننظر إلى الخلافة في الشريعة الإسلامية، ولا نبحث عنها بين أحكام هذه الشريعة. ولا ننتظر من تلك الشريعة أن تحدثنا عن الخلافة، وعن النظام الذي ينبغي أن تقوم عليه، كما لا ينبغي أن نحسب لها حساباً في تعاليم الإسلام وأحكامه(2).
…وقال: "ليست الخلافة كلمة من كلمات الشريعة، وليس الخليفة حامل هذا اللقب صاحب شرع"(3).
__________
(1) د. الخطيب، عبد الكريم محمود، الخلافة والإمامة ديانة وسياسة – دراسة مقارنة للحكم والحكومة في الإسلام ص233، دار المعرفة، بيروت، ط2 ، 1395هـ – 1975م، وانظر ص 251.
(2) الخلافة والإمامة ديانة وسياسة، د. عبد الكريم الخطيب، ص 309، وانظر ص 327 حيث قرر المعنى نفسه بألفاظ مغايرة، وانظر ص 328.
(3) الخلافة والإمامة ديانة وسياسة، د. عبد الكريم الخطيب، ص 342.(2/158)
…وقال: "فكل حكم –أياً كان- حضارياً، أو بدائياً، ديمقراطياً أو دكتاتورياً، اشتراكياً أو رأسمالياً إنما يأخذ صورته من الآراء والمذاهب والمعتقدات التي يعيش فيها المجتمع الذي يدين بهذا الحكم، ويخضع له، وهيهات أن يخضع لغير الآراء التي يدين بها إلا في ظروف استثنائية طارئة، كأن يفرض عليه حكم أجنبي أو نحو هذا"(1).
…ويرى الدكتور الخطيب أن الخوارج نزعوا إلى فصل الدين عن الدولة(2)، وادّعى أنها موجودة عند الشيعة كذلك حيث جعلوا ولاءهم لآل البيت، ورأوا أن الخلافة ميراث النبوة وأنها دينية خالصة(3) ثم قال: "هذه الخواطر التي جرت في تفكير بعض المسلمين في عزل الخلافة عن الدنيا، والتي لم تتشكل في واقع الحياة قولاً أو عملاً، قد أصبحت في الأيام الأخيرة للخلافة العثمانية حركة سياسية تقوم عليها أحزاب وتتحدث بلسانها صحف، وقد عرفنا –من قبل- رأي رجال الحزب الوطني التركي كما يحدثنا عنه إقبال"(4) ويتفق د. الخطيب مع محمد إقبال على أن حركة مصطفى كمال حركة إسلامية إصلاحية، ويخالفه في أن فصل الدين عن الحياة مأخوذة من الغرب والسياسة الغربية بل يرى د. الخطيب أنها نزعة عند المسلمين منذ حركة الخوارج فالشيعة وغيرهم(5) ثم توصل إلى النتيجة التالية: "لنا أن نقول: أولاً: إنه لا عزلة بين الدين والدنيا في المجتمع الإسلامي مهما بعد هذا المجتمع عن الدين.
ثانياً: الدنيويون مسلمون أيضاً، وقد يكونون مؤمنين!.
ثالثاً: الدنيويون مسلمون طبعاً، وقد لا يكونون مؤمنين!.
__________
(1) الخلافة والإمامة ديانة وسياسة، د. عبد الكريم الخطيب، ص 345.
(2) وبين ذلك حسب قوله أنهم في قصة التحكيم بين علي ومعاوية قالا (لا حكم إلا بالله) ولكنهم لم يحتكموا إلا للسيف. انظر المصر السابق نفسه ص 355-356.
(3) الخلافة والإمامة ديانة وسياسة، د. عبد الكريم الخطيب، ص 355-356.
(4) المصدر السابق، ص 356.
(5) المصدر السابق نفسه.(2/159)
رابعاً: الحكومة التي تحكم المجتمع الإسلامي، وتقوم عليه من بين المسلمين هي حكومة إسلامية، وقد تكون مؤمنة وقد لا تكون(1).
…وعلى هذا فإن الحكم في أي مجتمع (مسلم) هو حكم إسلامي، أو هو خلافة إسلامية(2).
…وقال: "وقد استجابت الحكومات في كثير من الشعوب الإسلامية لهذا الشعور فنصت دساتيرها على أن دولتها (دولة إسلامية) وكانت مصر أشد هذه الشعوب تمسكاً بهذا الاسم، وأكثرها وفاء له فكان كل دستور من دساتيرها يحمل هذه المادة (الدين الرسمي للدولة هو الإسلام). وقد حرص ميثاق إعلان الوحدة بين الجمهورية العربية المتحدة، وسورية والعراق على تأكيد هذه الحقيقة، وإبرازها فنص على أن دين الدولة الإسلام، وهذا يعني أن الحكومة حكومة إسلامية، أو خلافة إسلامية على الوجه الذي قررناه"(3).
…ثم يفترض د. الخطيب اعتراضاً على قوله الأخير هذا ويجيب عنه بالآتي:
أولاً: إن الصورة التي قام عليها الحكم الإسلامي في الصدر الأول للإسلام ليس شريعة من شرائع الدين، وإنما هو نظام رآه المسلمون قادراً على القيام بحاجات الحياة التي يحيونها، وللمسلمين في أي مجتمع، وفي أي عصر أن يقيموا حكومتهم الإسلامية على الوجه الذي يرونه مناسباً لأحوالهم وأزمانهم(4).
__________
(1) المصدر السابق ص 386.
(2) الخلافة والإمامة ديانة وسياسة. د. عبد الكريم الخطيب، ص 369.
(3) الخلافة والإمامة ديانة وسياسة. د. عبد الكريم الخطيب، ص 370-371.
(4) الخلافة والإمامة ديانة وسياسة. د. عبد الكريم الخطيب، ص 371.(2/160)
ثانياً: الحكم الفردي ليس من طبيعة الروح الإسلامية إذ الإسلام يدعو المسلمين إلى التشاور فيما يعرض لهم في الحياة، ونظام الحكم الجمهوري لا يتفق مع روح الإسلام فحسب، بل قد أصبح كذلك ضرورة من الضرورات، نظراً للقوى الجديدة التي انطلقت من عقالها في العالم الإسلامي(1).
ثالثاً: إن تعدد أوطان المسلمين لا يحول دون قيام وحدة إسلامية بينهم فالمشاعر الدينية التي بين أبناء الدين أقوى من أية رابطة تربط الإنسان بالإنسان(2).
…ثم عدّ جمال الدين الأفغاني أكبر دعاة المسلمين في العصر الحديث للوحدة الإسلامية(3) ثم جاء بعده تلميذه عبد الرحمن الكواكبي يدعو إلى تلك الوحدة(4).
…وفي هذا القدر كفاية لبيان صورة نظام الحكم في الإسلام في منظور د. عبد الكريم الخطيب، وأراه كله شوائب لأنه عارٍ عن الأدلة الشرعية وسأعرض الرد عليه وتفنيد أقواله بعد قليل إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الخلافة والإمامة ديانة وسياسة. د. عبد الكريم الخطيب، ص 372، عن تجديد التفكير الديني في الإسلام لمحمد إقبال ص 181.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) الخلافة والإمامة ديانة وسياسة. د. عبد الكريم الخطيب، ص 390.
(4) الخلافة والإمامة ديانة وسياسة. د. عبد الكريم الخطيب، ص 394.(2/161)
8- ظافر القاسمي، يرى أن تعدد الدول شرعي في الإسلام، وشواهده من التاريخ ما جرى بين علي ومعاوية كما ورد في تاريخ الطبري أن معاوية كتب إلى علي: (أما إذا شئت فلك العراق، ولي الشام، وتكف السيف عن هذه الأمة، ولا تريق دماء المسلمين) ففعل ذلك وتراضيا على ذلك، فأقام معاوية بالشام بجنوده يجبيها وما حولها، وعلي بالعراق يجبيها ويقسمها بين جنوده) (1)هـ، وعقب القاسمي على ذلك بقوله: "هذا الخبر تغلب عليه الصحة في نظري، لأنه وقع في وقت تفاقم فيه أمر الخوارج، وفتوا فيه من عضد جيش علي بن أبي طالب، وشغلوه معظم وقته، فضلاً عن تقاعس الناس عن نصرته. كما هو واضح من شكواه، وحقيقة المشكلة تكمن هنا في أن إماماً عظيماً في الشريعة والعلم والاجتهاد كعلي بن أبي طالب، قبل مثل هذا التدبير، لأن ظروفه العسكرية والسياسية ألجأته إليه أو لأي سبب آخر. ولولا أن مثل هذا التدبير صحيح وجائز شرعاً لما قبله إمام كعلي بن أبي طالب. وإذا كان فريق من الناس لا يأبهون لأسباب مذهبية بما صنع معاوية، ولا يتخذونه حجة، فإنه في هذا الموضوع فريق ثان متعاقد مع الإمام فصحة التصرف إن لم تكن منسوبة إليه فهي منسوبة إلى الإمام. وناهيك به حجة(2).
__________
(1) القاسمي، ظافر، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي ج1، ص320 عن تاريخ الطبري، ج5، ص71، أحداث سنة 40هـ.
(2) القاسمي، ظافر، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، 1/320.(2/162)
…وأكتفي بالرد على ظافر القاسمي بأن التاريخ ليس مصدراً من مصادر التشريع. ولذا فما جاء به هو من الشوائب التي لا يلتفت إليها. فضلاً عن أن النصوص الواردة لا يجوز معها الاجتهاد كما سيأتي بعد قليل. هذا إذا صحت الرواية. علماً بأن الطبري أسند الخبر إلى مجهول فقال: "وفي هذه السنة – فيما ذكر-. وبعدها قال: "قال زياد بن عبد الله عن أبي إسحاق"(1). وهذه طريق بحاجة إلى توثيق حتى تصح. رغم أنني أرى أن مثل هذا الخبر لا يصح لمن هو عليم بشخصية علي - رضي الله عنه - وبصحة الأحاديث الواردة في الموضوع.
9- المستشار محمد سعيد العشماوي وكتابه الخلافة الإسلامية:
__________
(1) الطبري، أبي جعفر بن جرير، تاريخ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 5/140، أحداث سنة 40هـ، طبعة دار المعارف، ط2، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم.(2/163)
…عقب العشماوي على كتاب فقه الخلافة عند السنهوري فقال: "وأول ما يؤخذ على منهج الباحث ذاك، أو خطة الكتاب تلك، أنها تبنى وتدور وتبحث في نظام لم يطبق مدى التاريخ، ولا يطبق في العصر الحالي، ولا يلوح تطبيقه في الأجل القريب (لوقت البحث، ولوقتنا المعاصر) بل إنه طبق خلال مدة محدودة، هي عهد الخلفاء الراشدين (632م-660م)، فترة ثمانية وعشرين عاماً من تاريخ طوله أربعة عشر قرناً. ويعني ذلك أن البحث، والكتاب والرسالة مجرد دراسة نظرية. أو محض بيان مُتحفي لا صلة له بالواقع الحالي ولا بالظروف المعاصرة إلا أن يكون تأييداً لدعوى الخلافة التي طمع فيها القصر الملكي آنذاك وطمع الأزهر إلى تعضيده في ذلك"(1). وقال: "والخلافة الإسلامية في الأصل نظام مدني، ذلك أنه لا القرآن الكريم ولا السنة النبوية قد أمر بها أو نظمها"(2). أي أنه يرى أنه لا يوجد للخلافة فقه. وقال: "والخلافة الإسلامية ليست ركناً من الإيمان، ولا حكماً من الشريعة لكنها جزء من تاريخ الإسلام كان من الممكن أن يقع بصورته التي حدثت، أو يقع بصورة أخرى مغايرة، أو لا يقع أبداً إنما يحدث بدلاً منه نظام آخر مختلف تماما"(3).
__________
(1) العشماوي، المستشار محمد سعيد، الخلافة الإسلامية، ص 238، ط2، سينا للنشر، 1992م.
(2) المصدر السابق، ص 233.
(3) المصدر السابق، ص235.(2/164)
…وقال: "فالخلافة ليست الإسلام، ولم تخدم الإسلام حقيقة، بل إنها أضرت به حين ربطت العقيدة بالسياسة ومزجت الشريعة بنظام الحكم، ثم جعلت الحكم وراثياً وصيرته مطلقاً مستبداً"(1). وقال: "والخلافة لم تحقق وحدة العالم الإسلامي... ولم تحقق عزاً للإسلام ومجداً للمسلمين بصورة دائمة مستمرة"(2). وقال: "والخلافة لم تنشر الإسلام الحق، ولم تخدم المسلمين.. ولا تعد رمزاً للإسلام. فالرمز يجب أن يكون من طبيعة المرموز إليه"(3).
…وخلاصة أقوال العشماوي دعاوى مقلوبة، وهو كمن يريد أن يغطي الشمس بغربال بإنكاره الخلافة كنظام حكم في الإسلام.. ولا تتعدى أقواله ثرثرة الكلام، وطيش الأقلام فلم يستند إلى دليل بل غالط وعكس الأمور فلا يستحق الرد عليه، وإن كان الرد عليه آتياً في جملة الردود الآتية على الجميع من نصوص الشرع، فأقواله شوائب لا تمت للإسلام بسبب ولا نسب بل تعارضه وتناقضه.
تفنيد شوائب التفسير في نظام الحكم في الإسلام
…مما سبق لمحنا أن هناك من ينكر وجود نظام حكم معين في الإسلام، وأن للمسلمين في كل عصر أن يختاروا الحكم الذي يريدون. ويرونه مناسباً لعصرهم. وهناك من يرى أن الحكم الجمهوري من ضرورات الإسلام. وهناك من يرى خطورة أن تتخذ الخلافة الراشدة نموذجاً يحتذى. وهناك من أنكر وجود جهاز حكم في الإسلام. وهناك من زعم أن أمر الحكم موكول لاجتهاد الولاة ولا علاقة للدين به. وهناك من يرى أن الواقع الحالي يعد دولاً إسلامية متحدة ضمن الجامعة العربية وهي تسجل في دساتيرها: دين الدولة الإسلام، وهذه كلها شوائب لا تمت للإسلام بسبب ولا نسب، وسأعالج الموضوع في عنوانين رئيسين فقط:
الأول: الخلافة (الإمامة) في نصوص الشرع.
__________
(1) العشماوي، المستشار محمد سعيد، الخلافة الإسلامية، ص 25.
(2) العشماوي، المستشار محمد سعيد، الخلافة الإسلامية، ص 26.
(3) العشماوي، المستشار محمد سعيد، الخلافة الإسلامية، ص 27.(2/165)
والثاني: بيان أجهزة نظام الحكم حسب النظام الهرمي من الأدلة الشرعية كذلك وبالتالي تظهر الشوائب التي أوردوها في مسألة الحكم. أما تعدد الدول فقد أجبنا عليه سابقاً في موضوع الوحدة، وإن كانت النصوص الآتية ستؤكد وتوضح حقيقة مفهوم الإسلام أنه لا يجوز للمسلمين أن تكون لهم أكثر من دولة وأكثر من خليفة في آن واحد.
الأول: الخلافة (الإمامة) في نصوص الشرع:
…لقد تواتر هذا الاسم على نظام الحكم في الإسلام منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يومنا هذا. وصار علماً مميزاً لنظام الحكم عن أي نظام في الدنيا. ويقر بهذا المؤمن والكافر على سواء مع فارق الإيمان وعدمه. وإجماع الصحابة على ذلك كان على كثرة النصوص الواردة. ولا ننسى أن هذا النظام برز في عصر كانت أنظمة الحكم القبلية والملكية والامبراطورية هي السائدة في العالم فجاء الإسلام بنظام مختلف مميز له عن باقي الأنظمة وسيبقى ثابتاً بثبات النصوص إلى يوم الدين وإليك بعض النصوص من السنة النبوية الصحيحة.
روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: (انطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعي أبي فسمعته يقول: لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثني عشر خليفة) (1).
روى مسلم عن جابر بسند آخر قال: (انطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعي أبي فسمعته يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة)(2).
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإمارة، باب الخلافة في قريش، 12/202.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإمارة، باب الخلافة في قريش، 12/203.(2/166)
روى مسلم عن جابر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فكتب إليّ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم جمعة عشية رُجم الأسلمي يقول: (لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) (1).
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: (فالإمام الأعظم الذي هو على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته) (2).
روى ابن حجر في الفتح عن سيارة بن سلامة أبي المنهال حديثاً وفي آخره: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الأمراء من قريش)، وهو عنوان الباب عند البخاري، وفي لفظ للطبراني (الأئمة) بدل الأمراء. وعن أنس بلفظ (الأئمة من قريش ما إذا حكموا فعدلوا). وأخرجه النسائي والبخاري أيضاً في التاريخ، وأبو يعلى من طريق بكير الجزري عن أنس. وله طرق متعددة عن أنس. وأخرج أحمد هذا اللفظ مقتصراً عليه من حديث أبي هريرة، ومن حديث أبي بكر الصديق بلفظ (الأئمة من قريش)، ورجاله رجال الصحيح(3).
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)، والأمر محلى بالألف واللام فيدل على شيء معهود وهو الإمارة العظمى، أو الإمارة الكبرى، أو الخلافة كما ورد في النصوص.
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) الحديث 7138، فتح الباري، كتاب الأحكام، 93، باب 1 أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. ورواه مسلم في كتاب الإمارة، واللفظ للبخاري.
(3) فتح الباري، كتاب الأحكام، 93، باب 1، 13/114.(2/167)
روى مسلم عن ابن عمر قال: حضرت أبي حين أصيب فأثنوا عليه وقالوا جزاك الله خيراً. فقال راغب وراهب. قالوا: استخلف. فقال: أتحمل أمركم حياً وميتاً لوددت أن حظي منها الكفاف لا عليّ ولا لي فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني (يعني أبا بكر) وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال عبد الله فعرفت أنه حين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مستخلف) (1).
روى مسلم عن ابن عمر حديثاً نحوه وذكر فيه كلمة استخلاف سبع مرات.
روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما الإمام جنة) (2).
روى مسلم عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي. وستكون خلفاء فتكثر. قالوا: ما تأمرنا؟ قال: فو ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم) (3).
روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعمه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر) (4).
روى مسلم عن الأعمش نحوه بهذا الإسناد.
روى مسلم عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة الصائدي قال: رأيت جماعة عند الكعبة، فذكر نحو حديث الأعمش.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب الاستخلاف وتركه، 12/205، صحيح مسلم بشرح النووي، وانظر الحديث 7218، صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف، فتح الباري، 12/205.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإمارة، باب الإمارة جنة، 12/230.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول، 12/231.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول، 12/233.(2/168)
روى مسلم عن حذيفة بن اليمان في سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشكر وذكر الحديث (قلت يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فقلت فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام قال فاعتزل) (1).
روى مسلم عن حذيفة وفيه: قال - صلى الله عليه وسلم -: (يكون بعدي أئمة) (2).
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) (3).
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان) (4). وقد ذكر البخاري رواية الحديث عن أبي شهاب عن أبي سعيد. رواه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي سلمة، عن أبي سعيد، وعن أبي سلمة عن أبي أيوب(5).
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، 12/237.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، 12/238.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، 12/242.
(4) فتح الباري، شرح صحيح البخاري، الحديث 7398، كتاب الأحكام، بطانة الإمام، 13/189.
(5) فتح الباري، شرح صحيح البخاري، الحديث 7398، كتاب الأحكام، بطانة الإمام، 13/190.(2/169)
روى البخاري عن المسور بن مخرمة حديث الرهط الذي جعل عمر الخلافة في أحدهم. فقال عبد الرحمن بن عوف: (فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن، ثم قال: أما بعد: يا علي إني قد نظرتُ في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلاً. فقال: أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده. فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس. المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون)(1).
روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.. ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنياه) (2).
أخرج أصحاب السنن عن سفينة وصححه ابن حبان وغيره: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً.. ) (3).
روى مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم)(4).
__________
(1) الحديث 7207، فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس، 13/193-194.
(2) الحديث 7212، فتح الباري، شرح صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب من بايع رجلاً لا يبايعه إلا لدنياه، 13/201.
(3) رواه ابن حجر في فتح الباري، كتاب الأحكام، شرح الحديثين: 7222، 7223، 13/212.
(4) رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، 12/245.(2/170)
…فهؤلاء عشرون حديثاً ونيّف، رواها أكثر من ستة عشر صحابياً، نطقت صراحة بلفظ الخلافة أو الإمامة أو الإمام، أو الخليفة في معرض اجتماع الصحابة ومعرض تفرقهم، وقد تخيّرت أن تكون الأحاديث من الصحيحين للرد على فرية أن النصوص لم تذكر الخلافة أو الإمامة، وأن الخلافة ليست من الدين، أو ليست من الشرع، أو أن الإسلام لا يوجد فيه نظام حكم معين، أو نحو ذلك مما ورد في شوائب التفسير في نظام الحكم في الإسلام، سواء ورد في كتب التفسير أو في الكتب التي خصصت لنظام الحكم في الإسلام. والغريب العجيب أن يعرض عن مثل هذه الأحاديث وهي تفوق المائة لو جمعت من كتب السنن كذلك، ويستقي أصحاب الشوائب معلوماتهم عن السير تومس أرنلد في كتابه الخلافة. وقد أشار علي عبد الرزاق إلى هذا الكتاب وأثنى عليه.
…وأما كيف يتم تنصيب الخليفة، فالنصوص وضحت ذلك بالبيعة، أي بالانتخاب، والأحاديث الشريفة كثيرة وقد مارسها الصحابة الكرام، وأجمعوا عليها. وكفى بإجماع أهل الدنيا أن الخلافة نظام حكم للمسلمين.
…قال د. مصطفى حلمي: "فاقتضت وحدة الأمة أن يجمعها نظام واحد وهو الخلافة دام نحو أربعة عشر قرناً من الزمان، أي منذ أن تولى أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - الخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا النظام –أي نظام الخلافة- فضلاً عن كونه يجسد وحدة الأمة فإنه ينفرد عن باقي أنظمة السياسة والحكم في العالم كله بأنه (خلافة نبوية) ولكي تظل هذه الأمة في مجموعها حاملة رسالتها"(1).
__________
(1) د. حلمي، مصطفى، نظام الخلافة في الفكر الإسلامي، مقدمة ص ز، طبعة دارا لأنصار، القاهرة، 1977م.(2/171)
…وقال ابن قتيبة: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم"(1).
الثاني: أجهزة نظام الحكم في الإسلام:
1- جهاز الخليفة ودليله قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)(2). ويدل على وجوب وجود رئيس واحد للدولة الإسلامية يسمى خليفة. ويدل على عدم جواز تعدد الدول. بدليل أن قتل مسلم بريء يهتز له عرش الرحمن، ودم المسلم أعظم من حرمة بيت الله في الشهر الحرام. ومع ذلك أمر الإسلام بقتل من ينتهك حرمة الدولة الواحدة، ويعمل على تجزئتها أو تعددها. ولا يجوز أن يكون الخليفة امرأة ولا أن تكون في الحكم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة). ولم يرد نص يحدد زمن خلافة الخليفة، فيبقى على عمومه. فضلاً عن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان رئيساً للدولة الإسلامية حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى، والخلفاء الراشدون كذلك، وأحاديث البيعة كانت على الحكم لا على النبوة، أخرجه مسلم عن جنادة ابن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض فقلنا حدثنا أصلحك الله بحديث ينفع الله به سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: دعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله. قال إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) (3). وعليه فأول أجهزة
__________
(1) الدينوري، أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت276هـ)، الإمامة والسياسة، ص3. والكتاب معروف باسم (تاريخ الخلفاء)، ط3، 1387هـ، 1963م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، محمود نصار الحلبي وشركاه.
(2) رواه مسلم وسبق تخريجه.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، 12/228.(2/172)
الحكم هو جهاز رئيس الدولة –وهو الخليفة أو الإمام أو أمير المؤمنين-.
2- جهاز المعانون للخليفة. وقد اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر معاونين له. قال - صلى الله عليه وسلم -: (وزيراي في الأرض أبو بكر وعمر) (1). والوزير هو المعاون. وهو يغاير معنى الوزير فيما اصطلح عليه الناس في النظام الغربي لأن الوزير عندهم له عمل معين وصلاحية معينة، لكن في الإسلام لم يحدد له عمل بل يفوض إليه الخليفة جميع أعماله تفويضاً عاماً. قال أبو يعلى الفراء: "من تكون ولايته عامة في الأعمال العامة، وهم الوزراء. لأنهم مستنابون في جميع النظرات من غير تخصيص"(2). وقال الوزراء على ضربين: وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ(3). ولا يجوز أن يكون الوزير امرأة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما أفلح قوم ولو أمرهم امرأة) (4).
3- الولاة: وقد عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولاة. فقد ولّى عتاب بن أسيد والياً على مكة بعد فتحها، وعين باذان بن ساسان والياً على اليمن بعد أن أسلم. وولى عبد الله بن أم مكتوم على المدينة، وغيرهم كثير. والولاة تكون ولايتهم عامة في أعمال خاصة أي لهم عموم النظر في الإقليم والبلدان التي ولّوا عليها(5).
__________
(1) رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رقم 3761، مناقب أبي بكر الصديق، باب 64، وقال حديث حسن غريب، 5/278.
(2) الفراء الحنبلي، القاضي أبو يعلى محمد بن الحسن، الأحكام السلطانية، ص 28، ط2، مصطفى البابي الحلبي، 1386هـ-1966م. وانظر ص29، دليل الوزارة واشتقاقها وأنواعها، وشروط الوزارة.
(3) الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ص29، وانظر أحكامها وتفاصيل عنها لغاية ص30.
(4) رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي بلفظ (لن يفح قوم ولو أمرهم امرأة) عن أبي بكرة.
(5) الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الفراء، ص34، وانظر تفصيل أعماله وصلاحياته.(2/173)
4- القضاة: وقد عيّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضاة على المناطق. فعيّن علياً قاضياً على اليمن، وعيّن معاذ بن جبل على مخلاف باليمن، ووجه راشد بن عبد الله أميراً على القضاء والمظالم(1). وهؤلاء ولايتهم خاصة في أعمال خاصة. باستثناء قاضي القضاة فإن ولايته خاصة في الأعمال العامة(2).
5- الجهاز الإداري لمصالح الدولة: فقد عيّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاباً لإدارة المصالح كانوا بمثابة مدراء الدوائر في العصر الحالي. فقد عيّن معيقيب بن أبي فاطمة كاتباً على الغنائم. وعيّن حذيفة بن اليمان لخرص ثمار الحجاز، ومنهم للخراج والعشور والزكاة والرسائل ونحوها(3).
__________
(1) الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الفراء، ط60، وانظر الوزراء والكتاب للجهشياري (ت331هـ). أسماء الكتاب والوزراء والولاة زمن الخلفاء الأربعة والأمويين والعباسيين.
(2) الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الفراء، ص 28.
(3) الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الفراء، ص 78. وانظر ص 115، ولاية الصدقات.(2/174)
6- الجيش وأمير الجهاد(1). فقد كان - صلى الله عليه وسلم - هو الأمير الفعلي للجيش، وهو الذي يباشر إدارته في الغزوات. وهو الذي يعين القادة في السرايا. وفي فتح مكة نظمه تنظيماً أذهل قريشاً فقد جعل الجيش كتائب، وجعل لكل كتيبة علماً وقائداً. وعين عبد الله بن جحش ليكون بمثابة قائد الاستخبارات العسكرية في العصر الراهن. وذلك ليستطلع أخبار قريش، ومن القادة الذين عينهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو عبيدة عامر ابن الجراح، وسعد بن أبي وقاص وأسيد بن حضير، وعبد الله بن أبي رواحة، وجعفر بن أبي طالب وغيرهم. وكتب السيرة تحوي تفصيلات ذلك. هذا ولم يكن للرسول - صلى الله عليه وسلم - جيش دائم، لأن الأمور لم تكن تقتضي ذلك. وكان كل المسلمين الذين يصلحون للقتال بمثابة جيش احتياطي. وفي هذا الزمان يقتضي أن يكون الجيش دائمياً ولا مانع من ذلك.
7- مجلس الأمة: وعمله الشورى ومحاسبة الحاكم على غرار ما كان عليه زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وليس على ما هو كائن في هذه الأيام لاختلاف النظامين عقيدة وأعمالاً أي نظاماً. ووجه الشبه هو الاسم فقط. والمجلس سواء أكان دائماً أم مؤقتاً فلا مانع، وكذلك التعيين أو الانتخاب كلاهما جائز. وكان - صلى الله عليه وسلم - يستشير صحابته كلما حزبه أمر منها ما كان يوم بدر ويوم أحد، وفي حادث الإفك. وكان من يستشيرهم من نقباء القوم وأشهرهم: أبو بكر وعمر وحمزة وعلي وابن مسعود وسلمان وعمّار وحذيفة، وأبو ذر والمقداد، وبلال فكان - صلى الله عليه وسلم - يكثر من استشارتهم. والدليل من القرآن قوله تعالى { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } (2). وقوله تعالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } (3). على سبيل المدح.
__________
(1) انظر الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الفراء، ص39، تقليد الإمارة على الجهاد.
(2) سورة آل عمران، الآية: 159.
(3) سورة الشورى، الآية: 38.(2/175)
…هذه هي أجهزة الدولة زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي تؤلف شكلاً معيناً للحكم، ومن أراد المزيد من التفصيل فعليه بكتب الحديث والفقه والسيرة والكتب المتخصصة ومنها الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء، وآخر للماوردي، والإمامة والسياسة لابن قتيبة، والكتاب والوزراء للجهشياري، وكتب الخراج ومنها لابن آدم القرشي ولأبي يوسف، والأموال لابن سلام.
…ومن الجدير بالذكر أن الذين يطعنون في نظم الحكم وأجهزته في الإسلام يطعنون بالكتاب والسنة، ولذلك علينا أن نتوجه إلى الكتاب والسنة لنستلهم نظام الحكم منهما، ونرد الشوائب التي أتى بها الإغيار، ونظام الخلافة نظام فريد مميز للأمة الإسلامية عن سائر الأمم، وطريقته البيعة من أهل الحل والعقد بيعة الانعقاد ثم بيعة الطاعة من سائر الأمة كما وقع زمن الخلفاء الراشدين، وقد أجمع الصحابة على ذلك فكان دليلاً شرعياً. والبيعة تعني الانتخاب وليس تقليداً للنظام الديمقراطي بل لأن الحكم الشرعي أوجبه.(2/176)
…ولذلك فَشَكْلُ الحكم في الإسلام هو الخلافة وهو ليس ثيوقراطياً وهو ما عرف في التاريخ بالحق الإلهي. وهو مذهب نشأ في أوروبا فحواه أن السلطة مصدرها الله، وأن الدولة إنما هي نظام إلهي أي نظام من وضع الله(1). وهي في واقعها ضد المسيحي وإن تظاهر أصحابه بأنهم يستندون إلى الدين المسيحي(2). فتلك شرعة، وشرعة الحكم في الإسلام مغايرة لا صلة بينهما، تلك من ابتداع أصحاب الحيل لفرض سيادتهم على الناس، وشرعة الخلافة من الله الواحد القهار، فالسيادة في نظام الحكم في الإسلام – في نظام الخلافة – لله وحده وليس لمخلوق حتى ولو كان الخليفة، قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (3).
__________
(1) د. حلمي، مصطفى، نظام الخلافة في الفكر الإسلامي، ص9، دار الأنصار، القاهرة، 1977م.
(2) المصدر السابق، ص 10، عن القانون الدستوري والأنظمة السياسية، د. عبد الحميد متولي، 1/34، وانظر النظم السياسية، د. محمد طه بدوي، 1/47، 48.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 36.(2/177)
…ولم يكن حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثيوقراطياً بل كان حكماً بشرياً يستند إلى الشرع. وله السلطان والإمارة العامة. ولكن السيادة لله وحده بما ينزل عليه - صلى الله عليه وسلم - من وحي. وكان - صلى الله عليه وسلم - يشاور أصحابه في أمور السياسة العامة مما هي لرئيس الدولة. ومذهب الحق الإلهي لا مشورة فيه لأنه يعتقد أنه من الله. فلا يستشير أحداً. والرسول - صلى الله عليه وسلم - أخذ البيعة من الناس في العقبة مرتين، وفي الحديبية. وكما ورد في الأحاديث الصحيحة من عبادة بن الصامت قال: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا) (1). ومذهب الحق الإلهي لا بيعة فيه لأنه يعتقد أن الحاكم ظل الله في الأرض(2). فإذا كان هذا الأمر لم يكن في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو في حق من سواه أبعد، وعليه فالحكومة في الإسلام ليست إلهية. ولا قداسة لها، ولا عصمة للخليفة، وسيحاسبه الله حساباً عسيراً إن شق على الأمة، أو ظلمها، وعلى الأمة أن تحاسبه بالقول والنصح له دون مهابة. وقد شجع الإسلام على هذه المحاسبة وجعل ثوابها من أعظم الجهاد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر) (3). وإذا استمر الأمير في مخالفته للشرع وأصر عليه وأظهر الكفر البواح فيجب تقويمه بقوة السلاح كما ورد في الحديث الشريف (إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم فيه من الله برهان) (4)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة، وقد مرّ.
(2) ننوه إلى ما قاله الشيخ حسن البنا بأن الخليفة ظل الله في الأرض، مجموعة رسائل حسن البنا، ص115. وقد ذكرناه قبل قليل، فلا أصل لهذا الرأي في الإسلام، ولا مستند عليه من الشريعة.
(3) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب من هذا الوجه. وفي الباب عن أبي أمامة. رقم 2265، 3/218، باب 12، أبواب الفتن، أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر.
(4) رواه مسلم في كتاب الإمارة.(2/178)
. وعليه فلا شبهة في أن يكون شكل الحكم في الإسلام ثيوقراطياً.
…وشكل الحكم في الإسلام ليس ملكياً، ولا ينبغي أن يكون كذلك لأن طريق الحكم في الإسلام هي البيعة، والحكم الملكي بالوراثة كما تورث التركة، والاختيار والرضا الذي يتم بالبيعة لا يشبه الحكم الجبري، وفي نظام الخلافة لا يوجد امتيازات للخليفة وهو يخضع للشرع مثل أي فرد من أفراد الأمة. وفي النظام الملكي يكون الملك فوق القانون وله امتيازات خاصة. بل ورد في الشرع ذم الحكم الملكي فعن النعمان بن بشير قال: كنا قعوداً في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان بشير رجلاً يكف حديثه فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأمراء. فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته فجلس أبو ثعلبة فقال حذيفة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكن خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها. ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) (1). فالخليفة ينصب بالرضا والقبول والملك ينصب بقوة الوراثة.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده، 4/273.(2/179)
…والنظام الملكي في العالم على طرازين: الأول: يملك ولا يحكم كملكة بريطانيا. فهو رمز. والثاني: يملك ويحكم، بل يكون مصدر الحكم يتصرف في البلاد والعباد كيف يشاء وكما يهوى فهو مالكهم كما الحال في البلاد العربية. والخليفة لا ينبغي أن يكون رمزاً للأمة يملك ولا يحكم. وليس رمزاً لها يملك ويحكم كيف يشاء، بل هو نائب عن الأمة في تطبيق شرع الله. أي هو سلطان مقيد بكل أقواله وأفعاله وتصرفاته بما تتقيد به الأمة أي بالشرع. ولا يوجد ولاية عهد في نظام الخلافة بل يستنكرها. وما حدث في التاريخ ليس دليلاً شرعياً وهو يخالف الأحاديث الصحيحة. ويعد سوءاً في التطبيق. وأما مدة الخليفة في الحكم فهي مستمرة ما دامت شروط انعقاد الخلافة متوفرة فإذا انخرم أحد الشروط انتهت الخلافة. ويجب مبايعة خليفة آخر غيره في مدة لا تتجاوز ثلاثة أيام حسبما دل عليه الشرع. وعليه فلا شبهة في أن يكون النظام الملكي له مستند من الشرع. فهو ليس شكلاً من أشكال الحكم التي يقدمها الشرع.(2/180)
…وكذلك لا يقر الإسلام النظام الجمهوري، وهناك بون شاسع بين النظام الجمهوري ونظام الحكم في الإسلام فالأول من وضع البشر. والثاني من وضع الباري عز وجل. والنظام الجمهوري يقوم على الديمقراطية أي حكم الشعب للشعب، ونظام الخلافة يقوم على عقيدة لا إله إلا الله، والسيادة فيه للشرع لا للشعب ولا للخليفة. والنظام الجمهوري يقوم على عقيدة فصل الدين عن الحياة. ونظام الخلافة يقوم على أن الدولة جزء من الدين. فلا فصل بين الدين والدولة. وفي النظام لجمهوري الشعب بممثليه يملك التشريع وعزل الحاكم ونسخ القوانين. وهذا كله غير موجود في الإسلام فلا يملك ممثلو الشعب حق التشريع ولا عزل الحاكم ولا نسخ القوانين. ولا يعزل الحاكم إلا إذا نقض عرى البيعة بمخالفته الكتاب والسنة. فلا مدة محدودة للخليفة ويبقى في الحكم و لا ينتهي حكمه إلا بالموت أو بالعجز أو بمخالفته للشرع، في حين رئيس الجمهورية في النظام الديمقراطي محدد في الحكم مدة ينص عليها الدستور. وعليه فهناك فروق شاسعة بين نظام الخلافة والنظام الجمهوري، فلا يجوز أن يسمى إسلامياً وهي تسمية من الشوائب التي ينبغي أن يتخلص منها المسلمون في حياتهم.(2/181)
…وكذلك شكل الحكم في الإسلام ليس اتحادياً كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ لكل إقليم حكمه الخاص، وميزانيته الخاصة، وقوانينه الخاصة، بل نظام الخلافة نظام وحدة لا تستقل فيه الولايات لا في الحكم ولا في الميزانية ولا في القوانين. والخليفة هو الذي يعيّن الولاة سواء من داخل الولاية أو من خارجها، وهو الذي يعزلهم، والقوانين واحدة في جميع الولايات حسبما يتبنى الخليفة من أحكام. والميزانية تنفقها كل ولاية حسب احتياجها لا حسب ما يأتيها من إيرادات. وعليه فنظام الخلافة ليس اتحادياً ولا ينبغي أن يحسب على الإسلام. ولا يجوز أن يكون أي قانون خارجاً عن الشرع، فليس للولاية أن تضع أي قانون خارجاً عن الشرع. ولذلك فإن النظام الاتحادي يغاير نظام الحكم في الإسلام.
…وكذلك شكل الحكم في الإسلام ليس امبراطورياً، لأن النظام الامبراطوري لا يساوي بين الأجناس في الأقاليم في الحكم بل يميّز المركز في الحكم والمال والاقتصاد. وقد يجعل بعض الأقاليم مستعمرات، أو يعاملها كذلك فتكون الأقاليم لخدمة المركز العام. في حين أن الإسلام يجعل جميع أفراد الرعية متساوين في الحقوق والواجبات لا فرق بين مسلم وذمي إلا فيما شرعه الله من الزكاة على المسلم والجزية على الذمي، ويشركهم في الماء والكلأ والنار، أي في المعادن العامة، فلهم ما للمسلمين من الإنصاف وعليهم ما على المسلمين من الانتصاف. ولا فرق بين الرعاية في العاصمة وبين الرعاية في أي قرية على تخوم العدو ما دامت ضمن حدود دار الإسلام. فالمساواة بين المحكومين شرعة ثابتة يحاسب الله الإمام عليها إذا خالفها، وعلى الناس أن يحاسبوا الخليفة إذا حاد عنها، وعليه فلا يجوز أن نقول الإمبراطورية الإسلامية ونعني بها نظام الخلافة.(2/182)
…مما سبق ندرك أن نظام الخلافة هو نظام الحكم في الإسلام وهو نظام متميّز عن جميع أنظمة الحكم في العالم وليس للمسلمين أن يختاروا سواه، وهو فرض عليهم من الله تعالى ولا يجوز أن يكون ثيوقراطياً ولا ديمقراطياً ولا ملكياً ولا جمهورياً ولا اتحادياً ولا امبراطورياً. ونظام الخلافة أرسى قواعده الشرع الشريف، وحدد معالمه، وفصلّه تفصيلاً، وطبقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام وأجمعوا عليه، فليس لمتقول بعد هذا أن يزعم أنه لا يوجد في الشرع نظام حكم، أو أن الخلافة ليست من الشرع، أو أن الخلافة الراشدة لا ينبغي أن تكون وحدها النموذج لنظام الحكم في الإسلام، فجميع ما يقال خارج الأدلة الشرعية يعد شوائب لا تمت للإسلام بسبب ولا نسب. ويكفي نظام الحكم في الإسلام تميزاً أن التسمية جاءت من الوحي وبهذا يمكن الرد على من لا يعبأ بالأسماء، ويفصل الألفاظ عن معانيها حتى يمكنه أن يسمي الإنسان حصاناً أو بالعكس.
…وبهذا القدر نكتفي في هذا المبحث لتزييل الشوائب في معنى الوحدة عند المسلمين. وفي نظام الحكم، وفي أجهزة الحكم، وفي شكل الحكم. والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل.
نتائج البحث الأساسية وتوصيات الدراسة
…هذه أهم الشوائب في التفسير في القرن الرابع عشر الهجري، الموافق للقرن العشرين للميلاد. وقد شملت قضايا في العقيدة وقضايا في الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وفي نظام العقوبات والفنون وعلوم القرآن كما امتدت الشوائب إلى منهج التفسير فاستخدموا طرقاً لم تكن معهودة، وظهرت قضية رفع الشعارات التي لا يلتزم بتطبيقها، وإنما هي مجرد شعارات اتخذت كوسيلة لإدخال الشوائب تحت جنحها.(2/183)
…وقد رأينا أن جذور الشوائب في هذا القرن ضاربة في أعماق الماضي بل يمكن القول أن جميع شوائب التفسير المتناثرة في الماضي عبر القرون قد جمعت في تفاسير هذا القرن. وقد حمل لواءها ما اشتهر بالمدرسة العقلية الحديثة، أو المدرسة السلفية الحديثة التي يقودها جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده المصري والشيخ محمد رشيد رضا القلموني. وإن كان يختلف الناس فيهم إلا أن هذا الاختلاف يصل إلى حد التناقض. فهناك من يعدهم أئمة الإصلاح ولا يرضى عنهم بديلاً. وهناك من يعدهم عكس ذلك.
…ولعل هذه الرسالة المتخصصة بالشوائب في التفسير ترجح أن المدرسة العقلية الحديثة لا يصح أن توصف بالإصلاح والعمل لإنهاض المسلمين وإصلاح شأنهم. لأن الشوائب التي أدخلوها وثبتت عنهم تعد مناقضة لعقيدة الإسلام وللأحكام المنبثقة عنها. ومحاولة التوفيق بين الأمرين تدخل في دائرة جمع المتناقضات لأن التعارض يكاد يكون تاماً. وإلا فكيف نفسر نصيحة الشيخ محمد عبده للمسلمين أن ينخلعوا من دينهم ويسيروا مع الغرب؟ وكيف نفهم رسالة الشيخ محمد عبده لأستاذه جمال الدين الأفغاني، نحن على سنتك القويمة لا نقطع رأس الدين إلا بسيف الدين؟!.(2/184)
…إن المتخصص بدراسة الشوائب في التفسير في القرن الرابع عشر الهجري يجد تلاقياً كبيراً، وتشابهاً عظيماً في مراكز ثلاثة: في الهند بقيادة سيد أمير علي الذي يرى أن نصوص الحديث النبوي الشريف تستوي مع قصص ألف ليلة وليلة وقصص حاتم الطائي، من حيث الدراسة التاريخية. وفي مصر بقيادة زعماء المدرسة العقلية الحديثة الثلاثة حيث وصف القرآن والديانات بكليلة ودمنة. وفي تركيا بقيادة الشيخ سعيد النورسي الذي سطر فكره في رسائل النور. ولفهم حقيقة الشوائب اقتضى أن ندرك أن المصطلحات لا بد من فهمها على وجهها الذي يقصده صاحبه وليس على ما هو مشهور عند المسلمين، وتدل عليه اللغة. قال الشيخ محمد رشيد رضا: "فرأينا أن نشرح في صحيفتنا هذه الألفاظ حيناً بعد حين لأن كثيراً من القراء غير عارفين بها على الوجه الذي نستعمله".
…كما تقتضي الإحاطة بالشوائب الوقوف على تاريخ أصحابها. قال الشيخ محمد رشيد رضا: "من أخذ عن إنسان شيئاً وهو لا يعرف عن سيرته شيئاً بالمرة فلا بصيرة له بالمرة. ونستطيع أن نفهم من هذا القول أن الشيخ رشيد يذم من يمدح مدرسته وينافح عنها وهو لا يعرف حقيقة دعوته.
…والمطلع على المراكز الفكرية الثلاثة للتفسير يجد أنها كانت تحت النفوذ الإنجليزي. فالهند تسمى درة التاج البريطاني، ومصر كانت تحت الاستعمار البريطاني عندما نشأ فيها التفسير في هذا القرن. وكذلك تركيا فقد كانت تحت علمانية مصطفى كمال الذي أعانه الإنجليز على إنشاء دولته. وهذا مدعاة لمن هو منخدع في زعماء الشوائب أن يعيد النظر في موقفه منهم لعله يشاطرنا وجهة النظر أن المدرسة العقلية الحديثة هي المتزعمة لإدخال الشوائب في التفسير في القرن الرابع عشر الهجري.(2/185)
…وفي هذه الرسالة عون لمن ينشد الحق في ظل الإسلام، لأنني ما ذكرت مثلبة، ولا كشفت عورة إلا مشفوعة بالدليل. وقد تتبعت مفاسد القوم من اعترافاتهم على أنفسهم وإن كانوا يتظاهرون بأنها حسنات، ويزعمون أنها القيم التي يجب أن يسعى لتحقيقها.
…ولعل من أهم النتائج التي توصلت إليها هو التستر في إدخال الشوائب في التفسير في القرن الرابع عشر الهجري بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا. وقد اتخذ الرموز من الباطنية ستاراً حديدياً يختفون وراءه فأظهروا الإسلام وأبطنوا غيره. وصارت التقية من المسلمين دثاراً يتزملون به. وحلت محل النفاق الذي سار عليه عبد الله بن أبي وعبد الله بن سبأ.
…وكذلك استبدال مصادر التشريع الإسلامي (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) بالعقل والهوى وأفعال الرموز وأقوالهم. وحل مقياس المنفعة والمصلحة العقلية والواقع محل نصوص الوحي والحلال والحرام. فزعموا أن بقاء الفكرة واستمرارها دليل على صحتها.
…ومنها أيضاً الاختفاء وراء مصطلحات يتعذر بدونها فهم دعوة القوم على حقيقتها. وهم يدعون الناس لفهم مصطلحاتهم. وأنا أدعو كل مسلم لذلك. وقد أمطت اللثام عن بعضها في بحث الأساليب وبخاصة بحث تحريف المصطلحات. ومنها الدين والكفر والوطنية ... الخ.
…بالإضافة إلى استخدام شعارات براقة خادعة لإدخال الشوائب منها الإصلاح، ومحاربة الإسرائيليات، والاجتهاد والتجديد، ومحاربة التقليد. والواقع كان منكوساً تماماً. فالإصلاح يعني: إصلاح شأن الكافرين وإفساد المسلمين. ومحاربة لإسرائيليات تعني: هدم السنة النبوية وهدم علم الجرح والتعديل وعلم الحديث برمته. والاجتهاد يعني: حرية الرأي والعقيدة على النمط الغربي. والتجديد يعني: تغيير معالم الدين. ومحاربة التقليد تعني: محاربة مقلدي الإسلام والمذاهب الفقهية. وأما مقلدو الكفر والكافرين فهم ناجون حتى غدا الكافر المجتهد في كفره خيراً من المسلم المقلد للمذاهب الفقهية.(2/186)
كما سعوا إلى محاربة علماء المسلمين، علماء التفسير والفقه والحديث. وهذا يعني محاربة الإسلام نفسه، لأن علماء المسلمين هم حرّاس العقيدة والشريعة فهدمهم وهدم تراثهم يعني القضاء على الإسلام نفسه.
…ومثله الحرب على المصطلحات الإسلامية لعلوم الإسلام. فهي حرب على العلوم الإسلامية نفسها لأنه لا يعقل علم بدون مصطلحات. وحتى ما أدخلوه من الشوائب ليحل محل هذه المصطلحات فلا بد لها من معان تفهم على أساسها. والعلوم دون المصطلحات فكرة خيالية خادعة لا وجود لها.
…ومن النتائج أيضاَ دعوة الأجيال الحاضرة والمستقبلة لاستقبال القرآن بالفهم والتفسير دون علم بالمعارف اللغوية التي تعد آلة فهم القرآن، وبدون المعارف الشرعية. وأوهموهم أن فيهم القدرة على ذلك. بل إن الإسلام يدعو لذلك كما دعا جيل الصحابة رضوان الله عليهم، وهم أميون أهل جاهلية. وهذه فكرة خطيرة جداً.
…هذا بالإضافة إلى العمل على فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية عن طريق التأليف بغير لغة القرآن للمسلمين غير العرب، وترجمة القرآن والعلوم الإسلامية حتى ينسى القرآن العربي. وصدرت الفتاوى بالاجتهاد لمن لا يحسن العربية من النصوص المترجمة. فحلت التراجم محل القرآن، وكذلك شجعوا العامية. وأسندوا السلطة للمستشرقين على لغة القرآن في مجامع اللغة العربية. وجعلوا المناهج المدرسية والجامعية والحياتية عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة بالعامية. وفي هذا خطر على الإسلام والمسلمين. وبذلك تمت زعزعة أفكار العقيدة بتشديد الضربات على الإيمان بالغيب ومنها معجزات الأنبياء والجنة والنار وعلامات الساعة وغيرها.
…ومن النتائج الخطيرة النيل من القصة القرآنية بالتحريف والنظر إلى القرآن ككتاب أدب له القداسة في التلاوة فحسب وتجريده من معاني الحياة.(2/187)
وكذلك فصل أحكام المعاملات السياسية والاقتصادية والتعليمية والعقوبات عن الإسلام وجعلها من حق البشر وولاة الأمور. وأنه لا تعبد فيها. وهذا من أشد الأفكار خطورة على أذهان المتعلمين من المسلمين. فكأن أحكام المعاملات نزلت عبثاْ أو لمجرد التلاوة.
…ومثل ذلك التوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية. وفكرة التوفيق تعني تعديل الإسلام، وتحويره ليتوائم مع غيره. ومن مظاهر هذا التوفيق الزعم أن الاشتراكية والديموقراطية، والوطنية والقومية، وفصل الدين عن الحياة دعوات إسلامية، وكذلك حرية الرأي المطلق، والاعتقاد والحريات الشخصية.
…ولا يقل عما سبق خطورة الفكرة على تركيز الدعوة إلى الإسلام دون العمل لإيجاد كيان يطبقه. وألقوا في روع المسلمين وبخاصة المتعلمين، أنه يمكن الدعوة إلى الإسلام تحت حكم الكافر المستعمر، أو تحت حكم يحكم بغير ما أنزل الله. وأوحوا لهم أن الدعوة إلى دولة تطبق الإسلام فكرة خيالية، أو مستحيلة التطبيق وزعموا أن الدعوة إليها فتنة. بل أنكر بعضهم وجود نظام حكم للإسلام. ونادى بعضهم بتعدد الدول، وبالحكم على الحكومات الملكية والجمهورية على الطراز الغربي أنها إسلامية. قانعين بتسجيل جملة دين الدولة الإسلام في الدستور ولو كانت جميع بنود الدستور تناقض الإسلام.(2/188)
…ومن النتائج المشبوهة كذلك؛ الدعوة إلى الوحدة الإنسانية، أو وحدة الأديان، أو تآخي الملل. ومن مظاهرها تفسير القرآن بالتوراة والإنجيل. وعدم تكفير أهل الكتاب. وترخيص زواج المسلمة من الكتابي، واتحاد الكافر مع المسلم في القطر الواحد. والتخلي عن وحدة المسلمين في الأقطار المتعددة. وصاحب ذلك صياغة الواقع والتفسير والفقه صياغة تقرب الأسرة المسلمة من الأسرة الغربية، وقد كان نظام الأسرة المسلمة إلى عهد قريب من العلامات الفارقة بين الإسلام والغرب الكافر في نظام حياته: في الزواج والطلاق وأحكامها، والحرية والسفور والاختلاط، وإلغاء دور المحرم في النكاح والخلوة بالأجانب وغيرها.
…بالإضافة إلى استحداث طرق في التفسير تبعد الناس عن الأحكام التفصيلية. وتفصل المطلق عن المقيد، والعام عن الخاص، والمجمل عن المبين. والناسخ عن المنسوخ بل أخذ بالمنسوخ وأهمل الناسخ وفي هذا خطر عظيم على التفسير، وعلى المفاهيم التي تنتج عنه.
…وأختم النتائج بما شاع من ذر قرن الخلاف بين المسلمين وبين الملل والنحل الأخرى داخل القطر الواحد بأساليب شتى، ويتظاهرون بالحرص على الإسلام. والنتيجة هي تعميق الخلاف، وحفر خنادق بين المسلمين تحول دون وحدتهم. وأبرزها الدعوة إلى الحدود المصطنعة التي رسمها الكافر المستعمر للمسلمين باسم القومية والوطنية، وتركيز الانفصال باسم الاستقلال. ثم يليها في البروز خلق العداء بين السنة والشيعة حتى صارت هذه الألفاظ أعلاماً على خصمين لا يلتقيان. مع أن هذه الفواصل لم تكن بارزة في المجتمع الإسلامي عبر العصور بالشكل الذي نراه اليوم. وفي الوقت نفسه ينظرون إلى الكافر المستعمر كأنه ولي حميم.(2/189)
هذه أهم النتائج الفكرية التي أدخلتها الشوائب للتفسير في هذا القرن. ننبه إليها ونحذر من الوقوع في شَرَكها ونلفت الأنظار إليها لأخذها بعين الاعتبار في الإحجام عنها، والتنفير منها والتشهير بها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
…وبعد.. فإنني أرجو أن يكون عملي هذا لبنة صالحة أسهم بها في الدراسات التفسيرية، وهي جهد المقل، وبقدر ما سمحت به الظروف وأرجو أن تكون هذه الرسالة فاتحة عهد جديد لمن يأتي بعدي من الباحثين والدارسين ليكملوا النقص في هذه الرسالة، ويسدوا الخلل في الثغرات التي عجزت عن ملئها. ويثروا البحث في المسائل التي أوجزت فيها مسلطين بذلك الأضواء في الشوائب التي ملأت التفسير في القرن الرابع عشر الهجري وما تلاه.
وإتماماً للفائدة وإكمالاً للدراسة فإنني أقدم مقترحات وتوصيات أراها مهمة:
منها أن تتبنى الجامعة الإسلامية ببيروت التي أنبتت هذه الدراسة متابعة استخراج الشوائب من تفاسير القرن العشرين وترعى الأبحاث بما تستحق حتى تصبح الدراسة كزرع أخرج شطأه يعجب الزراع ليغيظ بها الكفار.
…لهذا فإنني أوجه الدعوة إلى المؤرخين من الباحثين الذين يهمهم أمر المسلمين أن يسلطوا الأضواء في تاريخ مؤسسي شوائب التفسير حتى يعرَف المسلمون عمن يأخذون إسلامهم، ويحيطون علماً برجال النهضة الحديثة. كما أني أوجه الدعوة للباحثين في الفكر السياسي للتبصّر في النهضة التي يزعم أننا ننعم بها، أو سائرون في دربها. ولمعرفة معنى الإصلاح المنشود عند رجال النهضة الحديثة، ولمعرفة العقيدة التي ينبثق عنها إصلاح القوم وعلاقة النهضة والإصلاح بفكر الرجال وأعداء الأمة. ليتجلى الحق والصواب في النهضة والإصلاح.(2/190)
…كما أوجه الدعوة لعامة المسلمين وبخاصة المتعلمين منهم لوزن فكرة الرموز التي شاعت عند الحركات والجماعات الإسلامية في القرن العشرين والبعد بها عن أن تصبح محل الأصنام الوثنية. فالقرآن والسنة هما اللذان يستحقان فناء الآجال فيهما وهما الميزان القسط لقياس أفكار البشر.
وأوجه الدعوة للباحثين في علوم القرآن لاستقصاء مصطلح الإسرائيليات في تفاسير القرن العشرين. والوقوف على حقيقة معناه عندهم وبيان شرّه سواء في آحاد التفاسير أو في مجموعات منها. ولتتسع دائرة البحث وتشمل جميع علوم القرآن.
…ولا يفوتني أن أوجه الدعوة إلى الباحثين من أهل اللغة لكي يُثروا البحث في استخراج الشوائب في اللغة من التفاسير المعاصرة، ومعالجة النحت والاشتقاق والتعريب حسب قواعد اللغة السماعية ثم القياسية المعتبرة، وبيان خطورة مجامع اللغة العربية التي يرأسها ويديرها أعداء لغة القرآن. فلا يليق بالمسلمين أن يسلموا قيادتهم اللغوية إلى أعدائهم. وكذلك بيان خطر تداول العامية وإصلاح الخطوط، وعمل قواميس بالعامية حسبما يدعو أهل الشوائب.
وأما الباحثون في علم الحديث فهم حقيقون بالتنبه إلى السنة النبوية، وقواعد الجرح والتعديل، وأسس مصطلح الحديث، وتخريج سنده، وتحقيق متنه على القواعد المعهودة عند واضعي هذا العلم وموازنة ذلك بما ورد في تفاسير القرن الرابع عشر الهجري لتمييز الطيب من الخبيث مع إظهار خطورة تغير قواعد التحديث لتتكشف الشوائب على حقيقتها ويتقى شرها.(2/191)
…كما أوجه الدعوة لجميع الباحثين في التاريخ الإسلامي، والفكر، والسياسة، واللغة والتفسير، والحديث، والفقه للحذر من مغبة الاعتماد على المستشرقين، فهم طلائع الاستعمار ومهندسو سياسته، وهم اليد التي بها يبطش بالمسلمين، والعقل الذي يفكر به الكافر المستعمر، والرجل الذي بها يسعى للانتقام من المسلمين، ويردهم إلى مهاوي الردى. وأحذر من فكرة تقسيم المستشرقين إلى معتدلين وحاقدين، وتقسيمهم إلى حمائم وصقور فكلهم أفاعي سامة. والمسلم الواعي لا يأخذ دينه إلا من مصادره المخلصة الموثوقة.
…وأقول للحقيقة إنك لا تكاد تجد انحرافاً لمفسر، أو لأديب، أو لمؤرخ عصري، أو لمفكر في العصر الراهن إلا وله مستند من أقوال مؤسسي الشوائب. وهم لا يَعدون أن يكونوا أفراداً من المستشرقين الذين تستروا باسم سواح ليستبعدوا المعنى القبيح الذي يلازم اسمهم. ومسعاهم سياسي محض لإفساد المسلمين وخلق انقلاب فكري يبعدهم عن دينهم. فمسألة ترجمة القرآن، وإعادة ترتيبه حسب النزول، أو كتابته بالأحرف المعاصرة وغيرها من الشوائب تكمن وراءها أهدافٌ سياسية قاتلة للمسلمين.
…وقبل أن أختم التوصيات أتوجه للمهتمين بأمر المسلمين من الباحثين كلٌّ في مجاله لبحث الأخطار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعقوبات وشؤون الحكم لتسليط الأضواء على الشوائب فيها واستخراجها لإظهار أنظمة اقتصادية واجتماعية وسياسية وعقوبات وأنظمة حكم إسلامية صافية خالية من الشوائب فهذه أبواب للبحث أقترحها للباحثين في شؤون المسلمين لإكمال ما لم أستطع إكماله، ولإتمام ما عجزت عن تتميمه. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
والحمد لله رب العالمين(2/192)
الفهارس
فهرس الآيات
فهرس الأحاديث
فهرس الأعلام
المصادر والمراجع
فهرس الموضوعات
فهرس الآيات
الآية ... رقم الآية ... السورة ... الصفحة
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ... 9 ... الحجر ... 1، 313
{ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } ... 111 ... طه ... 19
{ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } ... 33 ... الفرقان ... 20، 21
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } ... 53 ... الأعراف ... 21
{ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ... 39 ... يونس ... 22
{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ } ... 3 ... النصر ... 22
{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ... 19 ... القيامة ... 24
{ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ... 221 ... البقرة ... 24، 283، 285
{ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ... 17 ... الحديد ... 25
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ... 44 ... النحل ... 25، 73، 94
{ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ } ... 64 ... النحل ... 25
{ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } ... 15 ... المائدة ... 25
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } ... 4 ... إبراهيم ... 26
{ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } ... 103 ... النحل ... 26
{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } ... 195 ... الشعراء ... 26، 308
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } ... 3 ... يوسف ... 28، 226، 239، 307
{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ... 76 ... النمل ... 29(2/193)
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } ... 3 ... المائدة ... 29، 84، 101، 152، 260
{ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ } ... 67 ... الصافات ... 32
{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } ... 255 ... البقرة ... 46، 137
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } ... 275 ... البقرة ... 47، 218، 241، 242، 244، 245، 253، 256
{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } ... 88 ... البقرة ... 48
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ... 24 ... يوسف ... 48، 114
{ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ } ... 32 ... يوسف ... 49
{ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء } ... 114 ... المائدة ... 49
{ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } ... 43 ... التوبة ... 50
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } ... 1 ... التحريم ... 50
{ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ } { مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ... 111 ... يوسف ... 51، 219، 226
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } ... 59 ... مريم ... 54
{ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } ... 38 ... الشورى ... 54
{ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } ... 269 ... البقرة ... 55(2/194)
{ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ } ... 6 ... الطلاق ... 55
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( ... 1 ... الطلاق ... 55، 292
{ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ( ... 4 ... آل عمران ... 55
{ اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ( ... 17 ... الشورى ... 55
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ( ... 94 ... يونس ... 56، 72
{ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ( ... 46 ... سبأ ... 56، 60
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } ... 33 ... التوبة ... 57، 60، 83
{ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } ... 141 ... النساء ... 58، 287
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا } ... 36 ... الأحزاب ... 59، 252، 253، 256، 336، 340، 397
{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ } ... 68 ... القصص ... 59
{ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ } ... 5 ... الزمر ... 61
{ وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ } ... 37 ... يس ... 63
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } ... 259 ... البقرة ... 64، 138، 139، 225
{ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } ... 134 ... الأنعام ... 64
{ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ } ... 38، 39 ... الحاقة ... 66(2/195)
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } ... 48 ... المائدة ... 70
{ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ... 43 ... النحل ... 72، 172
{ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ... 93 ... آل عمران ... 72، 74
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } ... 50 ... البقرة ... 76
{ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ... 57 ... البقرة ... 76
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ } ... 61 ... البقرة ... 77
{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ } ... 60 ... البقرة ... 77
{ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } ... 113 ... آل عمران ... 77
{ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } ... 163 ... النساء ... 78
{ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } ... 157 ... النساء ... 78
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } ... 61 ... البقرة ... 79
{ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ } ... 183 ... آل عمران ... 79
{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } ... 85 ... آل عمران ... 84، 90، 146، 148، 286
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } ... 64 ... آل عمران ... 85، 116
{ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ } ... 131 ... النساء ... 86
{ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } ... 81 ... آل عمران ... 90(2/196)
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } ... 10 ... الحجرات ... 90، 384
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } ... 3، 4 ... النجم ... 93، 108
{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } ... 145 ... الأنعام ... 98، 104
{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } ... 146 ... الأنعام ... 100، 101
{ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } ... 157 ... الأعراف ... 104
{ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ } ... 48 ... القمر ... 106
{ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ } ... 33 ... المائدة ... 106
{ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } ... 24 ... النساء ... 108
{ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ } ... 64 ... يونس ... 112
{ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } ... 159 ... النساء ... 112، 142
{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } ... 44 ... الإسراء ... 116
{ وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } ... 58 ... البقرة ... 121
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ } ... 158 ... الأنعام ... 121
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } ... 38 ... ق ... 131
{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ... 82 ... يس ... 132، 206، 217
{ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } ... 32 ... الشعراء ... 139، 166
{ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ } ... 44 ... الشعراء ... 139(2/197)
{ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ... 47 ... آل عمران ... 140، 214، 217
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ } ... 59 ... آل عمران ... 140، 200، 205، 206، 207، 217
{ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً } ... 110 ... المائدة ... 142
{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } ... 17، 72 ... المائدة ... 146، 286
{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } ... 73 ... المائدة ... 146، 286
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ } ... 30 ... التوبة ... 146
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا } ... 104 ... البقرة ... 146
{ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } ... 19 ... آل عمران ... 147، 148
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } ... 213 ... البقرة ... 148
{ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } ... 92 ... الأنبياء ... 148
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ... 65 ... النساء ... 148، 151
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } ... 219 ... البقرة ... 150، 262، 266، 268
{ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء } ... 6 ... المائدة ... 150
{ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ( ... 228 ... البقرة ... 150
{ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ( ... 54 ... الأعراف ... 152، 200
{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( ... 177 ... البقرة ... 154(2/198)
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ ( ... 285 ... البقرة ... 154
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ( ... 51 ... الشورى ... 156، 306، 307
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } ... 52 ... الشورى ... 156
{ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } ... 187 ... الأعراف ... 160
{ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا } ... 99 ... الإسراء ... 160
{ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } ... 19 ... الأنعام ... 160
{ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ... 106 ... الأعراف ... 166
{ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } ... 49 ... آل عمران ... 168
{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى } ... 73 ... البقرة ... 169، 171
{ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } ... 117 ... الأعراف ... 174
{ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } ... 63 ... الشعراء ... 175
{ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا } ... 77 ... طه ... 175
{ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } ... 69 ... الأنبياء ... 177
{ يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء } ... 2 ... النحل ... 180
{ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ } ... 124 ... آل عمران ... 180، 181
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ } ... 50 ... الأنفال ... 180
{ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ... 18 ... ق ... 180(2/199)
{ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } ... 7 ... آل عمران ... 180
{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ } ... 12 ... الأنفال ... 182
{ وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا } ... 71 ... مريم ... 184، 185
{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } ... 72 ... مريم ... 184
{ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } ... 7 ... القمر ... 185
{ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ } ... 7 ... القيامة ... 185
{ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ } ... 22 ... ق ... 185
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ } ... 48 ... ابراهيم ... 185
{ وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا } ... 66 ... مريم ... 185
{ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى } ... 101 ... الأنبياء ... 186
{ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ } ... 6، 7 ... الهمزة ... 187
{ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } ... 23 ... النبأ ... 187
{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ... 29 ... الرحمن ... 187
{ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ } ... 15 ... محمد ... 188، 190
{ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } ... 35 ... البقرة ... 188
{ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } ... 21 ... الإنسان ... 189
{ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } ... 2 ... الواقعة ... 190
{ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } ... 3 ... الواقعة ... 190
{ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا } ... 4 ... الواقعة ... 190
{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا } ... 8 ... الجن ... 192(2/200)
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } ... 30 ... البقرة ... 195، 200
{ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ... 6 ... التحريم ... 196
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم } ... 14 ... يونس ... 196
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ } ... 2 ... الأنعام ... 197
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ... 1 ... النساء ... 197، 208
{ يَا بَنِي آدَمَ } ... 26، 27، 31، 35 ... الأعراف ... 198
{ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } ... 75 ... ص ... 200، 205
{ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا } ... 33 ... آل عمران ... 201
{ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ } ... 121، 122 ... طه ... 201
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ } ... 12 ... المؤمنون ... 205، 213
{ مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } ... 13، 14 ... نوح ... 205، 217
{ مِّن طِينٍ لَّازِبٍ } ... 11 ... الصافات ... 205
{ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } ... 65 ... البقرة ... 205
{ وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } ... 17 ... نوح ... 207، 217
{ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } ... 8 ... النبأ ... 208
{ مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ... 51 ... الكهف ... 210، 235
{ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } ... 2 ... العلق ... 211
{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ... 40 ... النحل ... 217
{ بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ } ... 90 ... الكهف ... 218(2/201)
{ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } ... 102 ... البقرة ... 218
{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } ... 39 ... يونس ... 225
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } ... 5 ... الكهف ... 226
{ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ... 3 ... القصص ... 226
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ } ... 13 ... الكهف ... 226، 228، 239
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } ... 62 ... آل عمران ... 226، 239
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ } ... 31 ... البقرة ... 229
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ... 25 ... السجدة ... 230
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ } ... 11 ... الأعراف ... 232
{ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } ... 19 ... النجم ... 234
{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } ... 44، 45 ... الحاقة ... 234
{ تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ } ... 49 ... هود ... 238
{ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } ... 44 ... آل عمران ... 238
{ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } ... 102 ... يوسف ... 238
{ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ } ... 76 ... البقرة ... 238
{ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } ... 7 ... الأعراف ... 238(2/202)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً } ... 130 ... آل عمران ... 241، 243، 245، 250، 258
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } ... 278 ... البقرة ... 242
{ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } ... 279 ... البقرة ... 243، 250، 251، 258
{ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ } ... 83 ... النساء ... 252، 254
{ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ... 90 ... المائدة ... 254
{ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ } ... 39 ... الروم ... 258
{ كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُون } ... 43 ... المعارج ... 260
{ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ } ... 37 ... الأعراف ... 260
{ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } ... 91 ... المائدة ... 264
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } ... 92 ... المائدة ... 265
{ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } ... 45 ... العنكبوت ... 265
{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } ... 114 ... هود ... 266
{ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } ... 28 ... الحج ... 266
{ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى } ... 43 ... النساء ... 268
{ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } ... 3 ... النساء ... 271، 272، 274، 275، 276، 277، 278، 279، 280، 281
{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } ... 129 ... النساء ... 271، 274، 277، 279
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا } ... 21 ... الروم ... 273(2/203)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } ... 10 ... الممتحنة ... 286، 289
{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم } ... 105 ... البقرة ... 286
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } ... 6 ... البينة ... 286
{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ } ... 28 ... آل عمران ... 287
{ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } ... 73 ... الأنفال ... 287
{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } ... 71 ... التوبة ... 287
{ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } ... 34 ... النساء ... 290
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } ... 228 ... البقرة ... 292
{ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } ... 229 ... البقرة ... 292
{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء } ... 236 ... البقرة ... 292
{ وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ } ... 20 ... النساء ... 292
{ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ } ... 4 ... الطلاق ... 297، 298
{ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } ... 173 ... البقرة ... 299
{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } ... 18 ... القيامة ... 306
{ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } ... 6 ... النمل ... 307
{ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } ... 27 ... الكهف ... 307(2/204)
{ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } ... 5 ... القصص ... 308
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } ... 106 ... البقرة ... 314
{ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } ... 101 ... النحل ... 314
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } ... 65 ... الأنفال ... 315
{ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } ... 66 ... الأنفال ... 315
{ هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } ... 7 ... آل عمران ... 316
{ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ } ... 20 ... محمد ... 317
{ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ... 194 ... آل عمران ... 328
{ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ } ... 188 ... آل عمران ... 328
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ } ... 56 ... النساء ... 328
{ لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } ... 57 ... النساء ... 329
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ } ... 179 ... البقرة ... 331
{ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ } ... 33 ... المائدة ... 332
{ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } ... 80 ... النساء ... 333، 341
{ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } ... 39 ... المائدة ... 334، 335
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } ... 38 ... المائدة ... 335، 337، 341(2/205)
{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } ... 2 ... النور ... 337، 340، 341، 344، 352
{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } ... 31 ... الأعراف ... 337
{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } ... 63 ... النور ... 341
{ وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } ... 16 ... النساء ... 344، 345، 346
{ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ } ... 55 ... النمل ... 345
{ وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ } ... 15 ... النساء ... 346
{ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } ... 25 ... النساء ... 348
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ... 13 ... الرحمن ... 351
{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } ... 1 ... المسد ... 351
{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } ... 1 ... النور ... 352
{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } ... 13 ... سبأ ... 359
{ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء } ... 214 ... البقرة ... 364
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } ... 28 ... الفتح ... 364
{ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى } ... 142 ... النساء ... 365
{ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } ... 92 ... الأنبياء ... 378
{ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } ... 92 ... المؤمنون ... 373، 378
{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } ... 9 ... الحجرات ... 384
{ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } ... 159 ... آل عمران ... 396
{ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } ... 38 ... الشورى ... 396(2/206)
فهرس الأحاديث
الصفحة ... الحديث ... تخريج الحديث
3 ... إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ... البخاري ومسلم وأصحاب السنن ومسند أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص
3، 296 ... من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ... البخاري ومسلم وأصحاب السنن ومسند أحمد عن عائشة
6 ... الدين النصيحة ... البخاري ومسلم وأصحاب السنن ومسند أحمد عن تميم الداري
15 ... كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر ... رواه البخاري في كتاب الفتن عن حذيفة بن اليمان
19 ... باسم الله أرقيك من كل داء يعنيك ... رواه مسلم وأحمد عن عائشة
22، 24 ... اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ... رواه البخاري ومسلم وأحمد عن ابن عباس
22 ... كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك ... لسان العرب لابن منظور عن عائشة
22 ... فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه أولئك الذين سمى الله فاحذرهم ... رواه البخاري في كتاب التفسير عن عائشة
25، 341 ... ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ... رواه أحمد في مسنده عن المقداد بن معد يكرب
25، 105 ... أوتيت الكتاب ومثله معله ... رواه أحمد وأبو داود عن المقداد بن معد يكرب
47 ... ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخاً ... متفق عليه، رواه البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة
55 ... سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لها السكن والنفقة ... رواه أحمد عن فاطمة بنت قيس 6/411
70، 71 ... لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ... رواه البخاري عن أبي هريرة كتاب الاعتصام باب 35 لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء(2/207)
70، 71، 74 ... ألم آتكم بها بيضاء نقية والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي ... رواه أحمد وابن أبي شيبة والبزار عن جابر ورواه ابن حجر في فتح الباري
70، 74 ... يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب ... رواه البخاري عن عباس كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء
71 ... لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ... أخرجه البزار عن عبد الله بن ثابت الأنصاري
71 ... لا تسألوا أهل الكتاب فإنهم لن يهدوكم ... أخرجه عبد الرزاق عن حريث بن ظهير
72، 73 ... وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.
ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ ... رواه البخاري والدرامي والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبو داود عن أبي هريرة وأحمد عن أبي سعيد
72، 74 ... إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ... ابن حجر، فتح الباري
94 ... كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس ... رواه مسلم في صحيحه عن عائشة
96 ... لا وصية لوارث ... رواه الخمسة إلا أبا داود عن عمرو بن خارجه وأبي أمامه وابن عباس
98 ... نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحمر الأهلية ... رواه الشيخان وأصحاب السنن وابن أبي شيبة وأحمد عن عبد الله بن عمر وأنس وجابر وأبي هريرة وأبي ثعلبة الخشني
99 ... أطعم أهلك من سمين حمرك ... رواه أبو داود عن غالب بن أبجر، السند ضعيف والمتن شاذ عن غالب بن أبجر
99 ... أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر ... أخرجه الطبري عن أم نصر المحاربية، وأخرجه ابن شيبة وفي السند مقال.
105 ... ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ... رواه أحمد وأبو داود عن المقدام بن معد يكرب
106 ... من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ... رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين ج2 ص 100
106 ... حديث القدر ... رواه البخاري والترمذي وابن ماجه وأحمد بن حنبل عن أبي هريرة(2/208)
106 ... أحاديث الحجاب ... رواها البخاري كتاب تفسير سورة الأحزاب باب قوله لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم عن أنس
107 ... أحاديث الحرابة نزلت في عكل وعرينة ... رواها البخاري، كتاب الحدود، كتاب المحاربين من أهل الكفر واللاة، وكتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب عن أبي قلابة عن أنس ورواه مسلم عن أنس
107 ... أحاديث رجم الزاني المحصن ... رواها البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، عن جابر وأبي هريرة وابن عمرو ابن مسعود وأنس وغيرهم.
108 ... إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها فإذا أعلنت ولم تنكر ضربت العامة ... لم أعثر عليه في كتب الحديث
108 ... يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ... لم أعثر عليه في كتب الحديث
108 ... القلب أشد تفلتا من القدر إذا استجمعت غليانه ... لم أثر عليه في كتب الحديث
108 ... لا تنكح المرأة على عمتها ... رواه البخاري في كتاب النكاح باب 27 لا تنكح المرأة على عمتها عن جابر وأبي هريرة
121 ... أمروا بأن يقولوا حطة فدخلوا زحفاً على أستاهم ... متفق عليه، رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد عن أبي هريرة
121 ... لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ... رواه البخاري عن أبي هريرة ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
122 ... ثلاث إذا جرين لا ينفع نفساً إيمانها طلوع الشمس ومغربها والدجال ودابة الأرض ... أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة
125، 126 ... أول الآيات طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى / نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ... رواه مسلم عن طريق أبي زرعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه.
122، 127، 128 ... إن الشمس والقمر يكسبان النور بعد كسوف وظلمة ويعودان إلى الطلوع من المشرق ... رواه القرطبي في التذكرة وابن حجر في شرح حديث البخاري في الرقاق(2/209)
122، 127، 128 ... الآيات خرزات منظومات في سلك إذا انقطع السلك تبعاً بعضها بعضاً ... قاله الحافظ ابن حجر
125، 126 ... إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها ... رواه مسلم في كتاب الفتن عن عبد الله بن عمرو بن العاص
128 ... إن أول الآيات وآخرها ستة أشهر يتتابعن كتتابع الخرزات في النظام ... أخرجه ابن حجر عن أبي العالية
128 ... لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر ... قاله ابن حجر، صحيح مسلم عن أبي هريرة، رفعه
128، 129 ... أتدري أين تذهب الشمس إذا غربت ... رواه الشيخان عن أبي ذر وأصحاب السنن وأحمد بن حنبل
130 ... خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد ... أخرجه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده عن أبي هريرة
132 ... الزمان قد استدار يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ... رواه البخاري في كتاب بدء الخلق عن أبي بكرة
135 ... في بني إسرائيل والكهف ومريم إنهم من العتاق الأول وهن من تلادي ... أخرجه البخاري عن عبد الله بن مسعود
136، 209 ... إن الله خلق آدم على صورته ... أخرجه البخاري عن أبي هريرة كتاب بدء الخلق باب قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ورواه مسلم وأحمد في مسنده
136، 209 ... وأن الله خلق حواء من ضلع آدم ... أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق ومسلم عن أبي هريرة
154 ... أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث ... رواه البخاري عن أبي هريرة في كتاب الإيمان ومسلم في تعريف الإسلام
154 ... أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ... رواه مسلم عن عمر بن الخطاب
155، 369 ... أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... رواه مسلم عن أبي هريرة وعن جابر باب أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله(2/210)
186 ... من مات فقد قامت قيامته ... حديث ضعيف ذكره العجلوني برقم 2618 ورواه الترمذي عن أبي هريرة وقال حسن صحيح
246، 247 ... إنما الربا في النسيئة ... رواه البخاري ومسلم عن أسامه ابن زيد وابن عباس
246، 247 ... الذهب بالذهب والفضة بالفضة ... رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت وعن أبي سعيد الخدري وعن ابن عمر
248 ... لا ربا إلا في النسيئة ... رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس واسامه ابن زيد
250 ... كل دين جر نفعاً ... ضعيف
258 ... لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ... رواه مسلم عن جابر بن عبد الله وللبخاري نحوه حديث أبي جحيفة
258 ... اجتنبوا السبع الموبقات ... رواه مسلم عن أبي هريرة
258 ... درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية ... أخرجه الطبراني في الأوسط والكبير عن أحمد بن حنظلة غسيل الملائكة
259 ... من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ... أخرجه مسلم عن أبي المنهال عن ابن عباس في باب الربا
267 ... إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ... رواه البخاري في صحيحه عن جابر
267 ... لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها ... رواه البخاري عن أبي هريرة
234 ... إنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي ... رواه البخاري في كتاب العلم عن أبي هريرة ورواه مسلم والترمذي وابن ماجة والدارمي في كتاب الرؤيا ورواه أحمد
235 ... لما أراد الله خلق آدم أوحى إلى الأرض ... لم أعثر عليه
236 ... رأى داود عليه السلام زوجة عاملة أوريا فأعجبته
أخذ عيسى عليه السلام الأحكام من سيدنا محمد شفاهاً في آخر الزمان. ... يقدح في مقام النبوة ولا سند صحيح له.
يقدح في مقام النبوة ولا سند صحيح له.
267 ... ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال ... رواه البخاري عن أبي هريرة(2/211)
269 ... إن الله يبغض البليغ من الرجال ... رواه أبو داود عن أبي هريرة ورواه أحمد والترمذي
269 ... من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال ... رواه أبو داود عن أبي هريرة
293 ... طلق رسول الله حفصة، فقال النبي: أتاني جبريل فقال راجع حفصة ... رواه أحمد والطبراني والطبري عن قيس بن زيد
293 ... طلق ابن عمر امرأته وهي حائض / مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ... متفق عليه رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي عن ابن عمر
293 ... يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك ... رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي عن عبد الله بن عمر
293، 298 ... أبغض الحلال إلى الله الطلاق ... رواه أبو داود وابن ماجه عن ابن عمر وأخرجه الحاكم وصححه
295 ... النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته ... المبسوط للسرخسي
295 ... وإن أبغض المباحات عند الله الطلاق ... المبسوط للسرخسي
295 ... ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة ... رواه الخمسة إلا النسائي وحسنه الترمذي وصححه الذهبي
298 ... ولا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات ... التفسير الواضح د. محمد محمود حجازي عن أبي موسى عن النبي
298 ... ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق ... التفسير الواضح / د. محمد محمود حجازي عن أنس
312، 313 ... كنا عند رسول الله نؤلف القرآن عن الرقاع ... رواه البيهقي في دلائل النبوة
331 ... من أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارته ... رواه البخاري عن عبادة بن الصامت
331 ... لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ... رواه مسلم عن عمران بن حصين
320 ... يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ... أخرجه مسلم في صحيحه باب تحريم الظلم عن أبي ذر وأخرجه الترمذي بلفظ مغاير برواية مسلم وقال حديث حسن وأخرجه ابن ماجه(2/212)
320 ... أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ... رواه البخاري باب صفة أهل الجنة عن أبي هريرة وفي كتاب التفسير وأخرجه مسلم كتاب الجنة وصفاتها.
320 ... يد الله ملآى ... أخرجه البخاري في كتاب النفقات وفي كتاب التفسير سورة هود عن أبي هريرة وفي كتاب التوحيد وأخرجه مسلم باب الحث على النفقة.
331 ... لقد تابت توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم ... رواه مسلم عن سليمان بن بريدة
332 ... لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ... رواه مسلم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه
332 ... ثم جاءت بالصبي وفي يده كسرة خبز ... رواه مسلم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه
333 ... والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ... رواه البخاري ومسلم كلاهما عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني
334 ... من سرق دون المجن فعليه غرامة مثله والعقوبة ... رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن عبد الله بن عمرو
336 ... تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً ... رواه البخاري ومسلم عن عائشة
341 ... ألا وإن ما حرم رسول الله مثل الذي حرم الله ... رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب
347 ... من وجدتموه يعمل عمل لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ... رواه أصحاب السنن وأحمد
361 ... لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ... رواه البخاري ومسلم عن عائشة وابن عباس وعن ميمونة وعن أبي طلحة
361 ... فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما ... رواه مسلم وأحمد عن عائشة
361 ... ما بال هذه النمرقة إن أصحاب هذه الصور يعذبون ... رواه مسلم عن عائشة
361 ... أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله ... رواه البخاري ومسلم عن عائشة
362 ... وعلقت درنوكاً فيه تماثيل فأمرني أن أنزعه فنزعته ... رواه البخاري ومسلم عن عائشة
362 ... من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها ... رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس(2/213)
362 ... يقال لهم أحيوا ما خلقتم ... رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر
362 ... كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم ... رواه مسلم عن ابن عباس
362 ... إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون ... رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود
362 ... أتاني جبريل فمر برأس التمثال يقطع فيصير كهيئة الشجرة ... رواه أحمد عن أبي هريرة
367 ... أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم ... رواه البخاري في كتاب المناقب باب ما ينهى عن دعوى الجاهلية / عن جابر
368 ... ليس منا من دعا إلى عصبية ... رواه أبو داود
368 ... ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ... رواه الترمذي وأبو داود وأحمد / الترمذي في تفسير سورة الحجرات
268 ... من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثى جهنم ... رواه أحمد وابن حبان ، رواه الحارث الأشعري
268 ... أو ليكون أهون على الله من الجعلان تدفع بأنفها النتن ... رواه أحمد وأبو داود في كتاب الأدب والترمذي في كتاب المناقب
268 ... من قتل تحت راية عمية .. فقتلة جاهلية ... رواه مسلم عن أبي هريرة في كتاب الإمارة
268 ... حب الوطن من الإيمان ... لا أصل له
268 ... أحبوا العرب لثلاث ... ضعيف جداً وهو في الموضوعات لابن القيم
368 ... إذا عز العرب عز الإسلام ... سنده ضعيف والواقع يشهد بخلافه
278 ... فو ببيعة الأول فالأول فإن الله سائلهم عما استرعاهم ... أخرجه مسلم عن أبي هريرة في كتاب الإمارة
379 ... ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ... أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص في كتاب الإمارة
379 ... فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان ... أخرجه مسلم عن عرفجة في كتاب الإمارة
380، 394 ... إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ... أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري / كتاب الإمارة(2/214)
391 ... لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ... أخرجه مسلم عن جابر بن سمرة كتاب الإمارة باب الخلافة في فريش
391 ... لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة ... أخرجه مسلم عن جابر في كتاب الإمارة باب الخلافة في قريش
391 ... لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة ... أخرجه مسلم عن جابر في كتاب الإمارة باب الخلافة في قريش
391 ... فالإمام الأعظم الذي هو على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته ... أخرجه البخاري كتاب الأحكام باب (1) ومسلم عن عبد الله بن عمر في كتاب الإمارة
391، 392 ... الأئمة من قريش ما إذا حكموا فعدلوا ... أخرجه البخاري والنسائي وابن حجر عن سيار بن سلامة أبو المنهال في فتح الباري
392 ... لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان ... أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر
392 ... فإن استخلف فقد استخلف من هو خير مني وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني ... أخرجه مسلم عن ابن عمر في كتاب الإمارة
392 ... ذكر كلمة الاستخلاف سبع مرات ... أخرجه مسلم عن ابن عمر في كتاب الإمارة
392 ... إنما الإمام جنة ... أخرجه مسلم عن أبي هريرة كتاب الإمارة
392 ... وستكون خلفاء فتكثر، فو ببيعة الأول فالأول ... رواه مسلم عن أبي حازم في كتاب الإمارة باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول
392 ... ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فغن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ... أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص في كتاب الإمارة باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول
392 ... تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ... أخرجه مسلم عن حذيفة بن اليمان كتاب الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن
393 ... يكون بعدي أئمة ... أخرجه مسلم عن حذيفة كتاب الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن(2/215)
393 ... إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ... رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري ، كتاب الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين
393 ... ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان ... رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري في كتاب الأحكام، بطانة الإمام
393 ... حديث الرهط الذي جعل عمر الخلافة في أحدهم: (أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده) ... رواه البخاري عن المسور بن مخرمة كتاب الأحكام باب كيف يبايع الإمام الناس
393 ... ثلاث لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .. ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنياه ... رواه البخاري عن أبي هريرة ، كتاب الأحكام باب من بايع رجلاً لا يبايعه إلا لدنياه.
393 ... الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً ... أخرجه أصحاب السنن عن سفينة وصححه ابن حبان ورواه ابو حجر في الفتح كتاب الأحكام.
393 ... خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم .. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ... أخرجه مسلم عن عوف بن مالك في كتاب الإمارة باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع
395 ... لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة ... رواه البخاري والنسائي وأحمد عن أبي بكرة
395 ... كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رئيساً للدولة حتى وفاته ... السيرة النبوية لابن هشام
395 ... أحاديث البيعة كانت على الحكم لا على النبوة ... أخرجه مسلم عن جنادة بن أبي أمية
395، 397 ... دعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن ترو كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان ... أخرجه مسلم عن عبادة بن الصامت كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية
395 ... وزيراي في الأرض أبو بكر وعمر ... رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري مناقب أبي بكر الصديق(2/216)
395 ... ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عتاب بن أسيد والياً على مكة بعد أن فتحها وعّين رسول باذان بن ساسان والياً على اليمن ... الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء
396 ... عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً قاضياً على اليمن وعين معاذ بن جبل على مخلاف باليمن ... الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء
396 ... عين رسول الله كتاباً لإدارة المصالح كانوا بمثابة مدراء الدوائر في العصر الحالي ... الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء
396 ... فقد عين معيقيب بن أبي فاطمة كاتباً على الغنائم، وعيّن حذيفة بن اليمان لخرص ثمار الحجاز، ومنهم للخراج والعشور والزكاة والرسائل وغيرها ... الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء
396 ... كان - صلى الله عليه وسلم - الأمير الفعلي للجيش فهو الذي يباشر إدراك الغزوات، وهو الذي عيّن قادة السرايا. وهو الذي قاد المعارك في بدر وأحد وفتح مكة وغيرها وعيّن عبد الله بن جحش ليكون بمثابة قائد الاستخبارات العسكرية في العصر الراهن ... السيرة النبوية لابن هشام
396 ... كان - صلى الله عليه وسلم - يستشير صحابته كلما حزبه أمر منها ما كان يوم بدر ويوم أحد، ويوم الخندق وفي حديث الإفك، وكان من يستشيرهم من نقباء القوم وأشهرهم: أبو بكر، وعمر، وحمزة، وعلي، وابن مسعود، وسلمان، وعمار، وحذيفة، وأبو ذر، والمقداد، وبلال، فكان - صلى الله عليه وسلم - يكثر من استشارتهم ... السيرة النبوية لابن هشام
398 ... إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ... رواه الترمذي وقال حسن غريب وفي الباب عن أبي أمامة
398 ... إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم فيه من الله برهان ... رواه مسلم في كتاب الإمارة
398 ... تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها ثم تكون ملكاً عاضاً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ... رواه أحمد في مسنده 4/273(2/217)
فهرس الأعلام
حرف الألف
30-62-67-72-84-132-136-140-178-195-196-197-198-199-200-201-202-204-205-206-207-208-209-213-214-215-216-217-228-229-230-231-232-233-235-331-367-368 ... آدم عليه السلام ... 1
80-81-86-148-177-201-224-356 ... ابراهيم عليه السلام ... 2
128-129 ... ابراهيم بن يزيد بن شربك التميمي ... 3
257 ... أبو الأشعث ... 4
14-56-59-79-366-367 ... أبو الأعلى المودودي ... 5
389 ... أبو إسحاق ... 6
96-97 ... أبو أمامة ... 7
393 ... أبو أيوب ... 8
182-183 ... أبو بكر الأصم ... 9
148 ... أبو بكر الجصاص ... 10
132-233-313-321-354-364-391-392-394-395-396 ... أبو بكر الصديق ... 11
257 ... أبو بكرة ... 12
98-102-398 ... أبو ثعلبة الخشفي ... 13
378 ... أبو حازم ... 14
34-291 ... أبو حنيفة ... 15
95-97-98-99-103-105-107-122-341-342-367-368 ... أبو داود (صاحب السنن) ... 16
75-123-128-129-135-199-396 ... أبو ذر الغفاري ... 17
126 ... أبو زرعة ... 18
247-248-257-380-393 ... أبو سعيد الخدري ... 19
393 ... أبو شهاب ... 20
75 ... أبو صالح ... 21
102 ... أبو طلحة ... 22
128 ... أبو العالية ... 23
236 ... أبو العباس المرسي ... 24
193 ... أبو العلاء المعري ... 25
34 ... أبو عمرو بن الصلاح ... 26
381 ... أبو كلام ... 27
135 ... أبو لهب ... 28
127 ... أبو الليث السمرقندي ... 29
257-259-291-391 ... أبو المنهال (سيار بن سلامة) ... 30
298 ... أبو موسى ... 31
257 ... أبو نضرة ... 32(2/218)
254-354-355 ... أبو نظارة ... 33
71-75-98-102-121-122-123-125-128-130-131-133-135-154-257-258-267-269-333-362-368-378-391-392 ... أبو هريرة ... 34
391-395 ... أبو يعلى ... 35
397 ... أبو يوسف ... 36
373 ... أتكتسنون ... 37
78 ... أشير ... 38
أحمد التيجاني (أبو العباس) ... 39
14-71-97-97-102-106-121-122-128-129-130-131-258-342-343-361--391362 ... أحمد بن حنبل ... 40
19 ... أحمد بن خالد (أبو سعيد البغدادي) ... 41
143 ... أحمد خان القادياني ... 42
193 ... أحمد بن سهل (أبو يزيد البلخي) ... 43
289 ... أحمد صقر ... 44
64 ... أحمد فائق رشد ... 45
18-19-32 ... أحمد بن فارس بن زكريا ... 46
325-326 ... أحمد مختار باشا ... 47
11-55-56-59-63-64-192-279-280 ... أحمد مصطفى المراغي ... 48
66-67 ... أحمد مظهر العظمة ... 49
19-21 ... الخليل بن أحمد الفراهيدي ... 50
233 ... إدريس عليه السلام ... 51
111 ... ادوارد مونتيه ... 52
37 ... ارسطاطاليس ... 53
79 ... آسا (الملك) ... 54
246-247-248-249 ... أسامة بن زيد ... 55
81 ... إسحاق عليه السلام ... 56
309 ... أسلم بن زيد ... 57
78-80-81 ... اسماعيل عليه السلام ... 58
96 ... اسماعيل بن عياش ... 59
396 ... أسيد بن حضير ... 60
78 ... أشير ... 61
37 ... أفلاطون ... 62
294 ... أم عاصم ... 63
95 ... أم الفضل ... 64
354-355 ... أم كلثوم (المغنية) ... 65
99-103 ... أم نصر المحاربية ... 66
111 ... إميل درمنغهام ... 67
59-80-227 ... أمين الخولي ... 68
98-102-106-298-391 ... أنس بن مالك ... 69
15-17 ... أنس جميل طبارة ... 70
88 ... أورفيه ... 71
236 ... أوريا ... 72
373 ... إتيان دينيه ... 73
81 ... أيوب عليه السلام ... 74
حرف الباء
395 ... باذان بن ساسان ... 1
102-103-257 ... البراء بن عازب ... 2
120 ... براون ... 3
67 ... برتراندرسل ... 4(2/219)
398 ... بشير بن سعد ... 5
برهان الدين البقاعي (أبو الحسن) ... 6
71 ... البزار ... 7
85 ... بطرس البستاني ... 8
79 ... بعشا (الملك) ... 9
234 ... بكر بن العلاء المالكي القاضي ... 10
391 ... بكير الجزري ... 11
312 ... بلاشير (المستشرق) ... 12
102-257-356-396 ... بلال بن رباح ... 13
309-353 ... بلانشيو ... 14
78 ... بنيامين ... 15
88 ... بوذا ... 16
76 ... بولص ... 17
117 ... بيديا الفيلسوف ... 18
67 ... بيرسون ... 19
97-103-127-312 ... البيهقي ... 20
79 ... بهندر ... 21
277 ... البهي الخولي ... 22
حرف التاء
237 ... تبع ... 1
95-96-97-98-107-121-122-296-367-368 ... الترمذي (محمد عيسى بن سورة) ... 2
294 ... تماطر ... 3
75-123 ... تميم الداري ... 4
277 ... توفيق الحكيم ... 5
244 ... تولستوي ... 6
394 ... توماس آرنولد ... 7
85 ... تيلر (القس) ... 8
حرف الثاء
20-32-138 ... ثعلب (أحمد بن يحيى) أبو العباس ... 1
حرف الجيم
71 ... جابر الجعفي ... 1
248 ... جابر بن زيد ... 2
391-392 ... جابر بن سعد بن أبي وقاص ... 3
391 ... جابر بن سمره ... 4
71-98-102-103-258-267 ... جابر بن عبد الله ... 5
78 ... جاد ... 6
7 ... الجبائي ... 7
396 ... جعفر بن أبي طالب ... 8
107-108-176-278-279-388 ... جمال الدين القاسمي ... 9
9-10-12-82-84-85-161-162-178-179-214-227-241-243-277-364-365-372-373-388-401-402 ... جمال الدين الأفغاني ... 10
395 ... جناده بن أبي أميه ... 11
396-397 ... الجهشياري ... 12
331 ... الجهنية ... 13
111 ... جورج يوسف ... 14
حرف الحاء
401 ... حاتم الطائي ... 1
275 ... الحارث بن قيس ... 2
296 ... الحاكم النيسابوري ... 3
61 ... الحافظ العراقي ... 4
131 ... الحجاج بن محمد الأعور المصيص ... 5
125 ... حذيفة بن أسيد الغفاري ... 6
15-392-393-396-398 ... حذيفة بن اليمان ... 7(2/220)
71 ... حريث بن ظهير ... 8
33 ... الحسن بن سهل (الأمير) ... 9
34-193 ... الحسن البصري ... 10
376 ... حسن البنا ... 11
46-294-295-303-362 ... الحسن بن علي بن أبي طالب ... 12
362 ... الحسين بن علي ... 13
39 ... الحسين بن منصور (الحلاج) ... 14
128-293 ... حفصة أم المؤمنين ... 15
396 ... حمزة بن عبد المطلب ... 16
136-208-209-231 ... حواء ... 17
87 ... حورس ... 18
حرف الخاء
106 ... خالد بن مخلد ... 1
98-331 ... خالد بن الوليد ... 2
87 ... ختوم ... 3
97 ... الخراساني ... 4
287 ... الخرفي ... 5
74 ... الخضر ... 6
236 ... خليفة بن موسى النهر مالكي ... 7
19-21 ... الخليل بن أحمد ... 8
178-187 ... خليل الرحمن عبد الرحمن ... 9
147 ... خريستوفر جبارة ... 10
حرف الدال
97-128 ... الدار قطني (علي بن عمر) ... 1
16-62-147-176-193-194-195-202-203-208-211-212-213-216-217 ... دارون ... 2
78 ... دان ... 3
77-218-219-236 ... داود عليه السلام ... 4
320 ... الدباغ ... 5
126-140-143-178 ... دجال ... 6
حرف الذال
237 ... ذو القرنين ... 1
296 ... الذهبي (الحافظ) ... 2
حرف الراء
61-69-83-87-183-200-224-225-328-329 ... الرازي (فخر الدين) (محمد بن عمر بن الحسين البكري) ... 1
395 ... راشد بن عبد الله ... 2
21-23 ... الراغب (أبو القاسم) الحسين بن محمد بن الفضل ... 3
310-356-357 ... الرجاء النقاش ... 4
236 ... الرفاعي (أحمد) ... 5
7 ... الرماني (علي بن عيسى) ... 6
78 ... رؤبين ... 7
76 ... رؤيا يوحنا ... 8
حرف الزين
102-103 ... زاهر الأسلمي ... 1
78 ... زبولون ... 2
20-138 ... الزجاج (أبو اسحق ابراهيم بن محمد بن السري بن سهل النحوي) ... 3
88 ... زرادشت ... 4
20-21-23-28-29-70 ... الزركشي (محمد بن بهادر بن عبد الله) ... 5
238-308 ... زكريا عليه السلام ... 6
309-353 ... زكي مبارك ... 7(2/221)
8-48-49-50-51-11-137-177-200-223-224-286 ... الزمخشري (محمود بن عمر) ... 8
389 ... زياد بن عبد الله ... 9
246-258 ... زيد بن أرقم ... 10
107-333 ... زيد بن خالد الجهني ... 11
226 ... الزير سالم ... 12
198 ... زين العرب ... 13
حرف السين
33-34-217 ... السدي (محمد بن سروات) ... 1
248-249-295-303 ... السرخسي ... 2
381 ... سعد زغلول ... 3
396 ... سعد بن أبي وقاص ... 4
33-34-102 ... سعيد بن جبير ... 5
246 ... سعيد بن المسيب ... 6
71-401 ... سفيان الثوري ... 7
393 ... سفينة ... 8
37 ... سقراط ... 9
160-161 ... سلطان باشا ... 10
396 ... سلمان الفارسي ... 11
32 ... سلمة ... 12
41-79-165-177-218-219-236-237-359-360 ... سليمان عليه السلام ... 13
233 ... سنوك ... 14
401 ... سيد أمير علي ... 15
98-99-101-107-111-121 ... السيوطي (عبد الرحمن بن أبي بكر) ... 16
39 ... السهروردي (يحيى بن حييش المقتول) ... 17
حرف الشين
27-29-57-58 ... الشاطبي (ابراهيم بن موسى بن محمد) ... 1
233 ... شبرنجر ... 2
147-214-216 ... شبلي شميل ... 3
96 ... شرحبيل بن مسلم ... 4
102 ... الشعبي ... 5
237 ... شعيب عليه السلام ... 6
243-354-355 ... شكيب أرسلان ... 7
49-78 ... شمعون ... 8
حرف الصاد
198 ... الصادق ... 1
216 ... صالح القعيطي ... 2
368 ... الصغاني ... 3
حرف الضاد
79 ... ضاني ... 1
217 ... الضحاك ... 2
حرف الطاء
41 ... طالوت ... 1
99-103-122-391 ... الطبراني ... 2
99-103-104 ... الطحاوي ... 3
257 ... طلحة بن عبيد الله ... 4
5-54-59-62-63-67-86-87-112-116-117-118-119-120-142-143-172-177-255-256-308-330-332-349-350-364-366-373-374-376-383 ... طنطاوي جوهري ... 5
حرف الظاء
388-389 ... ظافر القاسمي ... 1
حرف العين
19-22-74-94-95-102-109-128-336-361-362 ... عائشة رضي الله عنها ... 1(2/222)
396 ... عامر بن الجراح (أبو عبيده) ... 2
107-246-257-341-395-397 ... عبادة بن الصامت ... 3
216 ... عباس محمود العقاد ... 4
122-127-128 ... عبد بن حميد ... 5
8-11 ... عبد الخليل عيسى ... 6
325-365 ... عبد الحميد (السلطان) ... 7
355 ... عبد الحميد جودة السحار ... 8
378 ... عبد الحميد السائح ... 9
64 ... عبد الحميد سماحة ... 10
64 ... عبد الحميد عرابي ... 11
33-34 ... عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ... 12
392 ... عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ... 13
102-294-295-393 ... عبد الرحمن بن عوف ... 14
136 ... عبد الرحمن بن فراج ... 15
388 ... عبد الرحمن الكواكبي ... 16
374-375-376-389 ... عبد الرزاق أحمد السنهوري ... 17
71 ... عبد الرزاق بن أبي شيبة (صاحب المعشق) ... 18
34-237 ... العبد الصالح ... 19
294-300-302 ... عبد الفتاح عايش عمرو ... 20
366-368-369 ... عبد العزيز بن باز ... 21
63 ... عبد العزيز باشا اسماعيل ... 22
294 ... عبد العزيز عامر ... 23
277 ... عبد العزيز فهمي ... 24
236 ... عبد القادر الجبلي ... 25
376-377 ... عبد القادر عودة ... 26
234-235-236-237-313 ... عبد القادر ملاحويش العاني ... 27
5-56-57-59-60-90-91-134-135-136-144-147-176-177-181-182-184-185-186-188-204-205-206-207-208-209-210-216-256-257-282-299-306-307-308-309-312-313-314-320-321-322-346-351-352-353-354-359-360-361-362-386-387-388 ... عبد الكريم محمود الخطيب ... 28
102-103 ... عبد الله بن أبي أوفى ... 29
106 ... عبد الله بن أبي بن سلول ... 30
395 ... عبد الله بن أم مكتوم ... 31
71 ... عبد الله بن ثابت الأنصاري ... 32
396 ... عبد الله بن جحش ... 33
258 ... عبد الله بن حنظلة ... 34
396 ... عبد الله بن رواحة ... 35
94-95-96-109-123-246 ... عبد الله بن الزبير ... 36
34 ... عبد الله بن سبأ ... 37(2/223)
73-75-123 ... عبد الله بن سلام ... 38
21—24-28-33-34-70-74-75-96-97-98-102-103-107-123-128-133-135-137-176-199-217-246-247-248-257-284-347-362 ... عبد الله بن عباس ... 39
71-98-102-103-107-122-127-128-246-247-257-293-299-300-362-391-392 ... عبد الله عمر ... 40
2-73-125-126-127-128-379-392 ... عبد الله بن عمرو بن العاص ... 41
7 ... عبد الله بن محمد بن أحمد الغماري ... 42
74-94-95-109-135-199-362-392-396 ... عبد الله بن مسعود ... 43
147-277-336-337-338-339-340 ... عبد المتعال الصعيدي ... 44
75-131 ... عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ... 45
21-32 ... عبد الملك بن قريب أبو سعيد الأصمعي ... 46
8-170-171-222-232-333 ... عبد الوهاب النجار ... 47
395 ... عتاب بن أسيد ... 48
248-249 ... عثمان البتي ... 49
42-46-257-313-393 ... عثمان بن عفان ... 50
293 ... عثمان بن مظعون ... 51
379 ... عرفجة ... 52
246 ... عروة بن الزبير ... 53
48 ... عصمه بن نوح ... 54
96-97 ... عطاء بن أبي رباح ... 55
97 ... عطاء الخراساني ... 56
34-217 ... عكرمة ... 57
368 ... العقيلي ... 58
علي بن أبي بكر (الحافظ الهيثمي) ... 59
42-74-95-128-129-294-295-388-393-396 ... علي بن أبي طالب ... 60
20 ... علي بن أحمد بن محمد الواحدي ... 61
369-393 ... علي بن بلبان (الأمير علاء الدين بن حبان) ... 62
338-382-394 ... علي عبد الرازق ... 63
97 ... علي بن عمر الدارقطني ... 64
7 ... علي بن عيسى الرماني ... 65
علي بن محمد (سيف الدين) الآمدي ... 66
5-136-190-191-211-229-230-231-282-308 ... علي نصوح الطاهر ... 67
396 ... عمار بن ياسر ... 68
127 ... عمران بن حصين ... 69
33 ... عمر بن أبي بكير ... 70
27-28-29-55-59-70-71-74-107-154-233-257-293-294-313-322-334-336-354-361-364-393-395-396 ... عمر بن الخطا ... 71(2/224)
96-97 ... عمرو بن خارجة ... 72
95-96 ... عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زارة الأنصارية ... 73
393 ... عوف بن مالك الأشجعي ... 74
434 ... عياض القاضي ... 75
11-47-49-81-83-86-88-111-112-126-139-140-141-142-143-148-165-166-167-168-177-178-181-205-207-217-236-237-308-356 ... عيسى عليه السلام ... 76
حرف الغين
331 ... الغامدية ... 1
99-103 ... غالب بن أبجر ... 2
381 ... غاندي ... 3
61-87-150 ... الغزالي (محمد بن محمد) أبو حامد ... 4
275 ... غيلان الثقفي ... 5
حرف الفاء
87-186-215 ... الفارابي ... 1
55-59 ... فاطمة بنت قيس ... 2
228 ... فادست ... 3
19-20-32-33 ... الفراء ... 4
76-166-173 ... فرعون ... 5
257 ... فضالة بن عبيد الأنصاري ... 6
8-9-10-11-109-133-134 ... فضل حسن عباس ... 7
12-13 ... فهد بن عبد الرحمن الرومي ... 8
14 ... فؤاد سعيد ... 9
37-83-159 ... فيثاغورس ... 10
88 ... فيكتور هوجو ... 11
حرف الكاف
77 ... كالبا ... 1
162-369 ... كروفر ... 2
74-75-122-123-125-133-170 ... كعب الأحبار ... 3
117-309 ... كليلة ودمنة ... 4
88 ... كنفوشيوش ... 5
حرف القاف
233 ... قابيل ... 1
368 ... القاري ... 2
237 ... قارون ... 3
9-292-297 ... قاسم أمين ... 4
32 ... قاسم بن سلام (أبو عبيد) ... 5
176-215 ... القاشاني ... 6
33-34-199-217-284 ... قتادة ... 7
293 ... قدامة بن مظعون ... 8
102-127-166-200-275 ... القرطبي (محمد أحمد الأنصاري) ... 9
137 ... القفال ... 10
293 ... قيس بن زيد ... 11
حرف اللام
194 ... لامارك ... 1
374-375 ... لامبير ... 2
147 ... لاون الثاني (البابا) ... 3
78 ... لاوي ... 4
220 ... لانسون ... 5
237 ... لقمان ... 6
20-22-26 ... الليث ... 7
69 ... لوقا ... 8
حرف الميم
373 ... ماثيتو ... 1
80-218-219-225 ... ماروت ... 2
331 ... ماعز بن مالك ... 3(2/225)
67 ... ماك ... 4
98-103 ... مالك بن أنس ... 5
257 ... مالك بن أوس بن الحدثان ... 6
88 ... ماني ... 7
71 ... مجالد ... 8
33-175-176-217 ... مجاهد ... 9
14-90-91 ... محب الدين الخطيب ... 10
1-3-6-15-17-19-22-23-24-25-28-34-35-37-50-53-55-56-59-60-66-70-71-72-73-74-75-86-88-89-90-91-92-93-94-95-97-98-99-101-103-104-105-106-108-109-121-122-124-125-128-129-130-131-132-133-141-142-148-149-152-153-154-155-160-165-168-178-179-199-208-225-230-233-234-235-236-237-238-245-246-247-248-249-252-254-259-263-267-268-269-275-276-279-286-293-294-295-296-297-298-299-300-302-304-306-307-311-312-313-319-320-321-322-331-332-333-335-336-341-342-343-347-354-356-360-361-362-366-367-368-369-377-378-379-380-381-383-384-391-392-393-394-395-396-397-398-400 ... محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... 11
18-20-22-32-137 ... محمد أحمد أزهر الأزهري ... 12
220-221-223-224-226-227 ... محمد أحمد خلف الله ... 13
25-71-74-150-287 ... محمد إدريس الشافعي ... 14
75 ... محمد بن السائب الكلبي ... 15
33-341 ... محمد إسحاق الوراق (ابن النديم) ... 16
385 ... محمد أسد ... 17
70-71-74-76-96-97-98-102-106-107-109-121-122-123-127-128-129-130-131-132-133-134-135-154-224-225-246-247-254-268-284 ... محمد إسماعيل النجاري ... 18
14-178-179-186-187-188-190-228-229-366-387 ... محمد إقبال ... 19
289 ... محمد الأمين الشنقيطي ... 20
7-21-23 ... محمد بن بحر الأصفهاني (أبو مسلم) ... 21
24-33-42-73-74-175-176-293-345-346-389 ... محمد بن جرير الطبري ... 22
337-338 ... محمد حسين الذهبي ... 23
337-339-340 ... محمد حسين هيكل ... 24
326 ... محمد الخضر حسين ... 25
373 ... محمد رشاد ... 26(2/226)
5-9-12-13-14-53-54-61-63-76-85-86-92-93-94-95-96-99-105-106-109-111-112-114-115-116-121-122-123-124-125-126-127-128-129-130-131-132-133-134-136-137-139-140-145-146-147-148-149-150-151-152-153-154-155-156-157-161-162-167-168-169-171-173-174-175-176-180-181-182-188-190-195-196-197-199-200-201-214-216-218-219-221-224-226-227-243-244-246-248-249-250-251-252-253-254-255-257-260-261-262-263-264-265-266-267-268-269-271-272-274-277-280-282-284-285-287-288-289-290-292-309-314-318-319-323-324-325-326-328-329-330-334-336-345-346-354-355-357-358-364-369-370-371-377-381-382-401-402 ... محمد رشيد رضا ... 27
371-372-373-376 ... محمد أبو زهرة ... 28
18-19-20-32 ... محمد زياد بن الأعرابي ... 29
7-10-138-139-170-175-176-177-188-336-339-340-346 ... محمد أبو زيد الدمنهوري ... 30
389-391 ... محمد سعيد العشماوي ... 31
8 ... محمد سيد طنطاوي ... 32
14 ... محمد شفيع محمد رشيد ... 33
62-113-169-170-171-176 ... محمد الطاهر بن عاشور ... 34
7 ... محمد عبد اللطيف الخطيب ... 35
5-8-9-10-11-12-53-54-58-61-64-67-85-92-93-94-105-114-115-116-121-133-137-139-140-149-150-153-155-156-157-160-161-162-169-178-179-180-182-183-186-190-196-197-198-199-200-201-214-216-218-219-223-224-226-227-242-243-244-271-272-274-277-280-283-290-291-292-294-295-296-297-298-300-328-329-330-334-345-355-358-364-369-370-371-376-381-401-402 ... محمد عبده حسن خير الله المقري ... 36
61 ... محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل المرسي ... 37
5-106-107-136-138-237-238-239-280-300-311-312-313-315-317-318-319-320-332-333-334-335-336-339-341-342-343-347-383 ... محمد عزة دروزة ... 38
198 ... محمد علي الباقر ... 39(2/227)
97-101-102-103-104-293 ... محمد علي الشوكاني ... 40
381 ... محمد علي شوكت ... 41
354-355 ... محمد علي طاهر ... 42
7-67-85-87-88-201-203-216 ... محمد فريد مصطفى وحدي ... 43
20 ... محمد بن القاسم بن محمد الأنباري (أبو بكر) ... 44
9 ... محمد محمد حسين ... 45
104 ... محمد محمد أبو شهب ... 46
23 ... محمد بن محمد بن محمود الماتريدي (أبو المنصور) ... 47
298 ... محمد محمود حجازي ... 48
11-366-383 ... محمد مصطفى المراغي ... 49
18-22-32 ... محمد بن مكرم بن منظور ... 50
95-98-122 ... محمد بن يزيد بن ماجه القزويني ... 51
250 ... محمد بن يعقوب الفيروزآبادي ... 52
23-30-113-183-274-275 ... محمد بن يوسف بن علي الأندلسي (أبو حيان) ... 53
8 ... محمود شلتوت ... 54
172 ... محمود شهاب الدين الألوسي ... 55
213 ... محمود طه ... 56
41 ... محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي ... 57
69 ... مرقص ... 58
11-140-238 ... مريم ابنة عمران ... 59
76-95-96-97-98-102-107-109-121-122-123-126-128-129-130-131-134-154-246-247-254-257-258-333-361-362-378-379-380-391-392-393-395 ... مسلم بن الحجاج القشيري (الإمام) ... 60
257 ... مسلم بن يسار ... 61
393 ... المسور بن مخرمة ... 62
394 ... مصطفى حلمي ... 63
182-183 ... مصطفى زيد ... 64
366 ... مصطفى السباعي ... 65
9 ... مصطفى صبري ... 66
147-190-373-387-402 ... مصطفى كمال أتاتورك ... 67
55-59 ... مصطفى محمد الحديدي الطير ... 68
188-212-213-214-239-244-245-338-344 ... مصطفى محمود ... 69
338 ... مصطفى المهدوي ... 70
97-395 ... معاذ بن جبل ... 71
388-389 ... معاوية بن أبي سفيان ... 72
257 ... معمر بن عبد الله ... 73
396 ... معيقيب بن أبي فاطمة ... 74
294-295-303 ... المغيرة بن شعبة ... 75
33-34-75 ... مقاتل بن سليمان ... 76
396 ... المقداد بن الأسود ... 77(2/228)
105 ... المقدام بن معد يكرب ... 78
103 ... المنذري ... 79
220 ... مندور ... 80
79-80 ... منوخ ... 81
5-34-69-70-71-74-76-77-80-83-88-139-141-142-143-165-166-167-168-169-170-173-174-198-237 ... موسى عليه السلام ... 82
132-134 ... المهدي المنتظر ... 83
72-74-175-178-356 ... المهلب ... 84
358 ... ميكانيلي ... 85
127 ... الميانشي ... 86
حرف النون
354 ... نابليون ... 1
257-391 ... نافع ... 2
216 ... نديم السر ... 3
95-97-98-102-107-121-122-295-391 ... النسائي (أحمد بن شعيب بن دينار) ... 4
84 ... نظير زيتون ... 5
34-81-144-197-201-238 ... نوح عليه السلام ... 6
34 ... نوح بن مريم (أبو عصمة) ... 7
74 ... نوف البكالي ... 8
95-103 ... النووي ... 9
187 ... نيتشة ... 10
398 ... نعمان بن بشير ... 11
128 ... نعيم بن حماد ... 12
243 ... نكامولي ... 13
حرف الهاء
233 ... هابيل ... 1
80-218-219-225 ... هاروت ... 2
369-370 ... هانوتو ... 3
233 ... هجرونييه ... 4
67 ... هلمهولتر ... 5
75-123 ... همام بن منبه ... 6
195 ... هيجل (آرنست) ... 7
حرف الواو
238 ... ورقة بن نوفل ... 1
75-123-170 ... وهب بن منبه ... 2
281-282 ... وهبي الزخيلي ... 3
حرف الياء
126 ... يأجوج ومأجوج ... 1
178-308 ... يحيى عليه السلام ... 2
217 ... يحيى بن رافع ... 3
368 ... يحيى بن يزيد ... 4
78 ... يّساكر ... 5
21-76-78-81 ... يعقوب ... 6
78 ... يهوذا ... 7
69-76 ... يوحنا ... 8
48-49-78-115-168-238 ... يوسف عليه السلام ... 9
77 ... يوشع بن نون ... 10
73 ... يونس عليه السلام ... 11(2/229)