سورة النبأ
ويقال لها سورة التساؤل
وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا إن يوم الفصل كان ميقاتا يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا وفتحت السماء فكانت أبوابا وسيرت الجبال فكانت سرابا إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مأبا لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزآء وفاقا إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا وكل شيء أحصيناه كتابا فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزآء من ربك عطاء حسابا رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون (9/3)
منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ الى ربه مأبا إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا
قوله تعالى عم يتساءلون أصله عن ما فأدغمت النون في الميم وحذفت ألف ما كقولهم فيم وبم قال المفسرون لما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل المشركون يتساءلون بينهم فيقولون ما الذي أتى به ويتجادلون ويختصمون فيما بعث به فنزلت هذه الآية واللفظ لفظ استفهام والمعنى تفخيم القصة كما يقولون أي شيء زيد إذا أردت تعظيم شأنه ثم بين ما الذي يتساءلون عنه فقال تعالى عن النبأ العظيم يعني عن الخبر العظيم الشأن وفيه ثلاثة أقوال
أحدها القرآن قاله مجاهد ومقاتل والفراء قال الفراء فلما أجاب صارت عم كأنها في معنى لأي شيء يتساءلون عن القرآن
والثاني البعث قاله قتادة
والثالث أنه أمر النبي صلى الله عليه و سلم حكاه الزجاج
قوله تعالى الذي هم فيه مختلفون من قال إنه القرآن فإن المشركين اختلفوا فيه فقال بعضهم هو سحر وقال بعضهم هو شعر وقال بعضهم (9/4)
أساطير الأولين الى غير ذلك وكذلك من قال هو أمر النبي صلى الله عليه و سلم فأما من قال إنه البعث والقيامة ففي اختلافهم فيه قولان
أحدهما أنهم اختلفوا فيه لما سمعوا به فمنهم من صدق وآمن ومنهم من كذب وهذا معنى قول قتادة
والثاني أن المسلمين والمشركين اختلفوا فيه فصدق به المسلمون وكذب به المشركون قاله يحيى بن سلام
قوله تعالى كلا قال بعضهم هي ردع وزجر وقال بعضهم هي نفي لاختلافهم والمعنى ليس الأمر على ما قالوا سيعلمون عاقبة تكذيبهم حين ينكشف الأمر ثم كلا سيعلمون وعيد على إثر وعيد وقرأ ابن عامر ستعلمون في الحرفين بالتاء ثم ذكر صنعه ليعرفوا توحيده فقال تعالى ألم نجعل الأرض مهادا أي فراشا وبساطا والجبال أوتادا للأرض لئلا تميد وخلقناكم أزواجا أي أصنافا واضدادا ذكورأ وإناثا سودا وبيضا وحمرا وجعلنا نومكم سباتا قال ابن قتيبة أي راحة لأبدانكم وقد شرحنا هذا في الفرقان 47 وشرحنا هناك قوله تعالى وجعلنا الليل لباسا
قوله تعالى وجعلنا النهار معاشا أي سببا لمعاشكم والمعاش العيش وكل شيء يعاش به فهو معاش والمعنى جعلنا النهار مطلبا للمعاش وقال ابن قتيبة معاشا أي عيشا وهو مصدر وبنينا فوقكم سبعا شدادا قال مقاتل هي السموات غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام وبين كل سماءين مثل ذلك وهي فوقكم يا بني آدم فاحذروا أن تعصوا فتخر عليكم (9/5)
قوله تعالى وجعلنا سراجا يعني الشمس وهاجا قال ابن عباس هو المضيء وقال اللغويون الوهاج الوقاد وقيل الوهاج يجمع النور والحرارة
قوله تعالى وأنزلنا من المعصرات فيها ثلاث أقوال
أحدها أنها السموات قاله أبي بن كعب والحسن وابن جبير
والثاني أنها الرياح رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة ومقاتل وقال زيد بن أسلم هي الجنوب فعلى هذا القول تكون من بمعنى الباء فتقديره بالمعصرات وإنما قيل للرياح معصرات لأنها تستدر المطر
والثالث أنها السحاب رواه الوالبي عن ابن عباس وبه قال أبو العالية والضحاك والربيع قال الفراء السحابة المعصر التي تتحلب بالمطر ولما يجتمع مثل الجارية المعصر قد كادت تحيض ولما تحض وكذلك قال ابن قتيبة شبهت السحاب بمعاصير الجواري والمعصر الجارية التي قد دنت من الحيض وقال الزجاج إنما قيل للسحاب معصرات كما قيل أجز الزرع فهو مجز أي صار الى أن يجز فكذلك السحاب إذا صار الى أن يمطر فقد أعصر
قوله تعالى ماء ثجاجا قال مقاتل أي مطرا كثيرا منصبا يتبع بعضه بعضا وقال غيره يقال ثج الماء يثج إذا انصب لنخرج به أي بذلك الماء حبا ونباتا وفيه قولان
أحدهما أن الحب ما يأكله الناس والنبات ما تنبته الأرض مما يأكل (9/6)
الناس والأنعام هذا قول الجمهور وقال الزجاج كل ما حصد حب وكل ما أكلته الماشية من الكلإ فهو نبات
والثاني أن الحب اللؤلؤ والنبات العشب قال عكرمة ما أنزل الله من السماء قطرا إلا أنبت به في البحر لؤلؤا وفي الأرض عشبا
قوله تعالى وجنات يعني بساتين ألفافا قال أبو عبيدة أي ملتفة من الشجر ليس بينها خلال الواحدة لفاء وجنات لف وجمع الجمع ألفاف قال المفسرون فدل بذكر المخلوقات على البعث ثم أخبر عن يوم القيامة فقال تعالى إن يوم الفصل أي يوم القضاء بين الخلائق كان ميقاتا لما وعد الله من الثواب والعقاب يوم ينفخ في الصور فتأتون من قبوركم أفواجا أي زمرا زمرا من كل مكان وفتحت السماء قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وفتحت بالتشديد وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف وإنما تفتح لنزول الملائكة فكانت أبوابا أي ذات أبواب وسيرت الجبال عن أماكنها فكانت سرابا أي كالسراب لأنها تصير هباء منبثا فيراها الناظر كالسراب بعد شدتها وصلابتها إن جهنم كانت مرصادا قال المبرد مرصادا يرصدون به أي هو معد لهم يرصد بها خزنتها الكفار وقال الأزهري المرصاد المكان الذي يرصد فيه الراصد العدو ثم بين لمن هي مرصاد فقال تعالى للطاغين قال ابن عباس للمشركين مآبا أي مرجعا
قوله تعالى لا بثين وقرأ حمزة لبثين والمعنى فيهما واحد يقال هو لابث بالمكان ولبث ومثله طامع وطمع وفاره وفره وأما الأحقاب فجمع حقب وقد ذكرنا الاختلاف فيه في الكهف 60 (9/7)
فإن قيل ما معنى ذكر الأحقاب وخلودهم في النار لا نفاد له فعنه جوابان
أحدهما أن هذا لا يدل على غاية لأنه كلما مضى حقب تبعه حقب
ولو
أنه قال لا بثين فيها عشرة أحقاب أو خمسة دل على غاية هذا قول ابن قتيبة والجمهور وبيانه أن زمان أهل الجنة والنار يتصور دخوله تحت العدد وان لم يكن لها نهاية
والثاني أن المعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذوقون في الأحقاب بردا ولا شرابا فأما خلودهم في النار فدائم هذا قول الزجاج وبيانه أن الأحقاب حد لعذابهم بالحميم والغساق فإذا انقضت الأحقاب عذبوا بغير ذلك من العذاب وفي المراد بالبرد ثلاثة أقوال
أحدها أنه برد الشراب روى أبو صالح عن ابن عباس قال لا يذوقون فيها برد الشراب ولا الشراب
والثاني أنه الروح والراحة قاله الحسن وعطاء
والثالث أنه النوم قاله مجاهد والسدي وأبو عبيدة وابن قتيبة وأنشدوا
... فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا ...
قال ابن قتيبة النقاخ الماء والبرد النوم سمي بذلك لأنه تبرد فيه الحرارة (9/8)
وقال مقاتل لا يذوقون فيها بردا ينفعهم من حرها ولا شرابا ينفعهم من عطش إلا حميما وغساقا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر غساقا بالتخفيف وقرأ حمزة والكسائي والمفضل وحفص عن عاصم بالتشديد
وقد تقدم ذكر الحميم والغساق ص 57 جزاء وفاقا قال الفراء وفقا لأعمالهم وقال غيره جوزوا جزاء وفاقا لأعمالهم على مقدارها فلا ذنب أعظم من الشرك ولا عذاب أعظم من النار
إنهم كانوا لا يرجون حسابا فيه قولان
أحدهما لا يخافون أن يحاسبوا لأنهم لا يؤمنون بالبعث قاله الجمهور
والثاني لا يرجون ثواب حساب لأنهم لا يؤمنون بالبعث قاله الزجاج
قوله تعالى وكذبوا بآياتنا كذابا قال الفراء الكذاب بالتشديد لغة يمانية فصيحة يقولون كذبت به كذابا وخرقت القميص خراقا وكل فعلت فمصدره في لغتهم مشدد قال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني الحلق أحب اليك أم القصار وأنشدني بعض بني كلاب
... لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي ... وعن حوج قضاؤها من شفائيا ...
وأما أهل نجد فيقولون كذبت به تكذيبا وقال أبو عبيدة الكذاب أشد من الكذاب وهما مصدر المكاذبة قال الأعشى (9/9)
فصدقتها وكذبتها ... والمرء ينفعه كذابه ...
قوله تعالى وكل شيء أحصيناه قال الزجاج كل منصوب بفعل مضمر تفسيره أحصيناه والمعنى أحصينا كل شيء وكتابا توكيد ل أحصيناه لأن معنى أحصيناه و كتبناه فيما يحصل ويثبت واحد فالمعنى كتبناه كتابا قال المفسرون وكل شيء من الأعمال أثبتناه في اللوح المحفوظ فذوقوا أي فيقال لهم ذوقوا جزاء فعالكم فلن نزيدكم إلا عذابا إن للمتقين الذين لم يشركوا مفازا وفيه قولان
أحدهما متنزها قاله ابن عباس والضحاك
والثاني فازوا بأن نجوا من النار بالجنة ومن العذاب بالرحمة قاله قتادة قال ابن قتيبة مفازا في موضع فوز حدائق قال ابن قتيبة الحدائق بساتين نخل واحدها حديقة
قوله تعالى وكواعب قال ابن عباس الكواعب النواهد قال ابن فارس يقال كعبت المرأة كعابة فهي كاعب إذا نتأ ثديها وقد ذكرنا معنى الأتراب في ص 52
قوله تعالى وكأسا دهاقا فيه ثلاثة أقوال
أحدها انها الملأى رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الحسن وقتادة وابن زيد (9/10)
والثاني أنها المتتابعة رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال ابن جبير وعن مجاهد كالقولين
والثالث انها الصافية قاله عكرمة
قوله تعالى لا يسمعون فيها أي في الجنة إذا شربوها لغوا وقد ذكرناه في الطور 23 وغيرها ولا كذابا أي لا يكذب بعضهم بعضا لأن أهل الدنيا إذا شربوا الخمر تكلموا بالباطل وأهل الجنة منزهون عن ذلك
قال الفراء وقراءة علي رضي الله عنه كذابا بالتخفيف كأنه والله أعلم لا يتكاذبون فيها وكان الكسائي يخفف هذه ويشدد وكذبوا بآياتنا كذابا لأن كذبوا يقيد الكذاب بالمصدر وهذه ليست مقيدة بفعل يصيرها مصدرا
وقد ذكرنا عن أبي عبيدة أن الكذاب بالتشديد والتخفيف مصدر المكاذبة وقال أبو علي الفارسي الكذاب بالتخفيف مصدر كذب مثل الكتاب مصدر كتب
قوله تعالى جزاء قال الزجاج المعنى جازاهم بذلك جزاء وكذلك عطاء لأن معنى أعطاهم وجازاهم واحد وحسابا معناه ما يكفيهم أي فيه كل ما يشتهون يقال أحسبني كذا بمعنى كفاني رب السموات قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والمفضل رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن برفع الباء من رب والنون من الرحمن على معنى هو رب السموات وقرأ عاصم وابن عامر بخفض الباء والنون على الصفة من ربك وقرأ حمزة والكسائي بكسر الباء ورفع النون واختار هذه القراءة الفراء ووافقه على هذا جماعة وعللوا بأن الرب قريب من المخفوض والرحمن بعيد منه (9/11)
قوله تعالى لا يملكون منه خطابا فيه قولان
أحدهما لا يملكون الشفاعة إلا بإذنه قاله ابن السائب والثاني لا يقدر الخلق أن يكلموا الرب إلا بإذنه قاله مقاتل
قوله تعالى يوم يقوم الروح فيه سبعة أقوال
أحدها أنه جند من جند الله تعالى وليسوا بملائكة رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال مجاهد هم خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون
والثاني أنه ملك أعظم من السموات والجبال والملائكة قاله ابن مسعود ومقاتل بن سليمان وروى عطاء عن ابن عباس قال الروح ملك ما خلق الله أعظم منه فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا واحدا فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم
والثالث أنها أرواح الناس تقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد الى الأجسام رواه عطية عن ابن عباس
والرابع أنه جبريل عليه السلام قاله الشعبي وسعيد بن جبير والضحاك (9/12)
والخامس أنهم بنو آدم قاله الحسن وقتادة
والسادس أنه القرآن قاله زيد بن أسلم
والسابع أنهم أشرف الملائكة قاله مقاتل بن حيان
قوله تعالى والملائكة صفا قال الشعبي هما سماطان سماط من الروح وسماط من الملائكة فعلى هذا يكون المعنى يوم يقوم الروح صفا والملائكة صفا وقال ابن قتيبة معنى قوله تعالى صفا صفوفا
قوله تعالى لا يتكلمون يعني الخلق كلهم إلا من أذن له الرحمن في الكلام وقال صوابا أي قال في الدنيا صوابا وهو الشهادة بالتوحيد عند أكثر المفسرين وقال مجاهد قال حقا في الدنيا وعمل به ذلك اليوم الحق الكائن الواقع بلا شك فمن شاء اتخذ الى ربه مآبا أي مرجعا اليه بطاعته ثم خوف كفار مكة فقال تعالى انا أنذرناكم عذابا قريبا وهو عذاب الآخرة وكل آت قريب يوم ينظر المرء ما قدمت يداه أي يرى عمله مثبتا في صحيفته خيرا كان أو شرا ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا يا ليتني لم أبعث وحكى الثعلبي عن بعض أشياخه أنه رأى في بعض التفاسير أن الكافر هاهنا إبليس وذلك أنه عاب آدم لأنه خلق من التراب فتمنى يوم القيامة أنه كان بمكان آدم فقال يا ليتني كنت ترابا (9/13)
سورة النازعات
مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة
قوله تعالى والنازعات فيه سبعة أقوال
أحدها أنها الملائكة تنزع أرواح الكفار قاله علي وابن مسعود وروى عطية عن ابن عباس قال هي الملائكة تنزع نفوس بني آدم وبه قال مسروق
والثاني أنه الموت ينزع النفوس قاله مجاهد
والثالث أنها النفس حين تنزع قاله السدي
والرابع أنها النجوم تنزع من أفق الى أفق تطلع ثم تغيب قاله الحسن وقتادة وأبو عبيدة والأخفش وابن كيسان (9/14)
والخامس أنها القسي تنزع بالسهم قاله عطاء وعكرمة
والسادس أنها الوحوش تنزع وتنفر حكاه الماوردي
والسابع أنها الرماة حكاه الثعلبي
قوله تعالى غرقا اسم أقيم الإغراق قال ابن قتيبة والمعنى والنازعات إغراقا كما يغرق النازع في الفوس يعني أنه يبلغ به غاية المد
قوله تعالى والناشطات نشطا فيه خمسة أقوال
أحدها أنها الملائكة ثم في معنى الكلام قولان أحدهما أنها حين تنشط أرواح الكفار حتى تخرجها بالكرب والغم قاله علي رضي الله عنه قال مقاتل ينزع ملك الموت روح الكافر فإذا بلغت ترقوته غرقها في حلقه فيعذ به في حياته ثم ينشطها من حلقه أي يجذبها كما ينشط السفود من الصوف المبتل والثاني أنها تنشط أرواح المؤمنين بسرعة كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنها قاله ابن عباس وقال الفراء الذي سمعته من العرب كما أنشط من عقال بألف تقول إذا ربطت الحبل في يد البعير نشطته فإذا حللته قلت أنشطته
والقول الثاني أنها أنفس المؤمنين تنشط عند الموت للخروج وهذا مروي عن ابن عباس أيضا وبيانه أن المؤمن يرى منزله من الجنة قبل الموت فتنشط نفسه لذلك (9/15)
والثالث أن الناشطات الموت ينشط نفس الإنسان قاله مجاهد
والرابع النجوم تنشط من أفق الى أفق أي تذهب قاله قتادة وأبو عبيدة والأخفش ويقال لبقر الوحش نواشط لأنها تذهب من موضع الى موضع قال أبو عبيدة والهموم تنشط بصاحبها قال هميان بن قحافة ... أمست همومي تنشط المناشطا ... الشام بي طورا وطورا واسطا ...
والخامس أنها النفس حين تنشط بالموت قاله السدي
قوله تعالى والسابحات سبحا فيه ستة أقوال
أحدها أنها الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين قاله علي رضي الله عنه قال ابن السائب يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء فأحيانا ينغمس وأحيانا يرتفع يسلونها سلا رفيقا ثم يدعونها حتى تستريح
والثاني أنهم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين كما يقال للفرس الجواد سابح إذا أسرع في جريه قاله مجاهد وأبو صالح والفراء
والثالث أنه الموت يسبح في نفوس بني آدم روي عن مجاهد أيضا
والرابع أنها السفن تسبح في الماء قاله عطاء
والخامس أنها النجوم والشمس والقمر كل في فلك يسبحون قاله قتادة وأبو عبيدة
والسادس أنها الخيل حكاه الماوردي (9/16)
قوله تعالى فالسابقات سبقا فيه خمسة أقوال
أحدها أنها الملائكة ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال أحدها أنها تسبق الشياطين بالوحي الى الأنبياء قاله علي ومسروق والثاني أنها تسبق بأرواح المؤمنين الى الجنة قاله مجاهد وأبو روق والثالث أنها سبقت بني آدم الى الإيمان قاله الحسن
والقول الثاني أنها أنفس المؤمنين تسبق الملائكة شوقا الى لقاء الله فيقبضونها وقد عاينت السرور قاله ابن مسعود
والثالث أنه الموت يسبق الى النفوس روي عن مجاهد أيضا
والرابع أنها الخيل قاله عطاء
والخامس أنها النجوم يسبق بعضها بعضا في السير قاله قتادة
قوله تعالى فالمدبرات أمرا قال ابن عباس هي الملائكة قال عطاء وكلت بأمور عرفهم الله العمل بها وقال عبد الرحمن بن سابط يدبر أمر الدنيا أربعة أملاك جبريل وهو موكل بالرياح والجنود وميكائيل وهو موكل بالقطر والبنات وملك الموت وهو موكل بقبض الأنفس وإسرافيل وهو ينزل بالأمر عليهم وقيل بل جبريل للوحي وإسرافيل للصور وقال ابن قتيبة فالمدبرات أمرا تنزل بالحلال والحرام
فإن قيل اين جواب هذه الأقسام فعنه جوابان
أحدهما أن الجواب قوله تعالى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى قاله مقاتل (9/17)
والثاني أن الجواب مضمر تقديره لتبعثن ولتحاسبن ويدل على هذا قوله تعالى أئذا كنا عظاما نخرة قاله الفراء
قوله تعالى يوم ترجف الراجفة وهي النفخة الأولى التي يموت منها جميع الخلائق و الراجفة صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرعد إذا تمحض و وترجف بمعنى تتحرك حركة شديدة تتبعها الرادفة وهي النفخة الثانية ردفت الأولى أي جاءت بعدها وكل شيء جاء بعد شيء فهو يردفه قلوب يومئذ واجفة أي شديدة الإضطراب لما عاينت من أهوال القيامة أبصارها خاشعة أي ذليلة لمعاينة النار قال عطاء وهذه أبصار من لم يمت على الإسلام ويدل على هذا أنه ذكر منكري البعث فقال تعالى يقولون أئنا لمردودون في الحافرة قرأ ابن عامر وأهل الكوفة أئنا بهمزتين مخففتين على الإستفهام وقرأ الباقون بتخفيف الأولى وتليين الثانية وفصل بينهما بألف نافع وأبو عمرو
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها أن الحافرة الحياة بعد الموت فالمعنى أنرجع أحياء بعد موتنا وهذا قول ابن عباس وعطية والسدي قال الفراء يعنون أنرد الى أمرنا الأول الى الحياة والعرب تقول أتيت فلانا ثم رجعت على حافرتي أي رجعت من حيث جئت قال أبو عبيدة يقال رجع فلان في حافرته وعلى حافرته إذا رجع من حيث جاء وهذا قول الزجاج
والثاني أنها الأرض التي تحفر فيها قبورهم فسميت حافرة والمعنى محفورة كما يقال ماء دافق الطارق 6 وعيشة راضية الحاقة 21 وهذا قول مجاهد والخليل فيكون المعنى أئنا لمردودون الى الأرض خلقا جديدا (9/18)
قال ابن قتيبة في الحافرة أي الى أول أمرنا ومن فسرها بالأرض فإلى هذا يذهب لأنا منها بدئنا قال الشاعر
... أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار ...
كأنه قال أأرجع الى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصبا بعد ما شبت وصلعت
والثالث أن الحافرة النار قاله ابن زيد
قوله تعالى أئذا كنا عظاما نخرة وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم ناخرة قال الفراء وهما بمعنى واحد في اللغة مثل طمع وطامع وحذر وحاذر وقال الأخفش هما لغتان وقال الزجاج يقال نخر العظم ينخر فهو نخر مثل عفن الشيء يعفن فهو عفن وناخرة على معنى عظاما فارغة يجيىء فيها من هبوب الريح كالنخير قال المفسرون والمراد أنهم أنكروا البعث وقالوا نرد أحياء إذا متنا وبليت عظامنا تلك إذن كرة خاسرة أي إن رددنا بعد الموت لنحسرن بما يصيبنا مما يعدنا به محمد فأعلمهم الله بسهولة البعث عليه فقال تعالى فإنما هي يعني النفخة الأخيرة زجرة واحدة أي صيحة في الصور يسمعونها من إسرافيل وهم في الأرض فيخرجون فإذا هم بالساهرة وفيها أربعة أقوال (9/19)
احدها ان الساهرة وجه الأرض قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك واللغويون قال الفراء كأنها سميت بهذا الأسم لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم
والثاني أنه جبل عند بيت المقدس قاله وهب بن منبه
والثالث أنها جهنم قاله قتادة
والرابع أنها أرض الشام قاله سفيان
هل أتك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى إذهب الى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك الى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى أأنتم اشد خلقا أم السماء بنها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها مآءها ومرعاها والجبال ارسها متاعا لكم ولأنعامكم
قوله تعالى هل أتاك حديث موسى أي قد جاءك وقد بينا هذا في طه 9 وما بعده الى قوله تعالى طوى اذهب قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو طوى اذهب غير مجراة وقرأ الباقون طوى منونة فقل هل لك الى أن تزكى وقرأ ابن كثير ونافع تزكى بتشديد الزاي أي تطهر من الشرك وأهديك الى ربك أي أدعوك الى توحيده وعبادته فتخشى عذابه فأراه الآية الكبرى وفيها قولان (9/20)
أحدهما أنها اليد والعصا قاله جمهور المفسرين والثاني أنها اليد قاله الزجاج
قوله تعالى فكذب أي بأنها من الله وعصى نبيه ثم أدبر أي أعرض عن الإيمان يسعى أي يعمل بالفساد في الأرض فحشر أي فجمع قومه وجنوده فنادى لما اجتمعوا فقال أنا ربكم الأعلى أي لا رب فوقي وقيل أراد أن الأصنام أرباب وأنا ربها وربكم وقيل أراد أنا رب السادة والقادة
قوله تعالى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فيه أربعة أقوال
أحدها أن الاولى قوله ما علمت لكم من إله غيري القصص 38 والآخرة قوله أنا ربكم الأعلى قاله ابن عباس وعكرمة والشعبي ومقاتل والفراء ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال ابن عباس وكان بينهما أربعون سنة قال السدي فبقي بعد الآخرة ثلاثين سنة قال الفراء فالمعنى أخذه الله أخذا نكالا للآخرة والاولى
والثاني المعنى جعله الله نكال الدنيا والآخرة أغرقه في الدنيا وعذبه في الآخرة قاله الحسن وقتادة وقال الربيع بن أنس عذبه الله في أول النهار بالغرق وفي آخرة بالنار
والثالث أن الأولى تكذيبه وعصيانه والآخرة قوله أنا ربكم الأعلى قاله أبو رزين
والرابع أنها اول أعماله وآخرها رواه منصور عن مجاهد قال الزجاج النكال منصوب مصدر مؤكد لأن معنى أخذه الله نكل الله به نكال الآخرة (9/21)
والأولى فأغرقة في الدنيا ويعذبه في الآخرة قوله تعالى ان في ذلك الذي فعل بفرعون لعبرة أي لعظة لمن يخشى الله
ثم خاطب منكري البعث فقال تعالى أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها قال الزجاج ذهب بعض النحويين الى أن قوله تعالى بناها من صفة السماء فيكون المعنى أم السماء التي بناها وقال قوم السماء ليس مما توصل ولكن المعنى أأنتم أشد خلقا أم السماء أشد خلقا ثم بين كيف خلقها فقال تعالى بناها قال المفسرون أخلقكم بعد الموت أشد عندكم أم السماء في تقديركم وهما في قدرة الله واحد ومعنى بناها رفعها وكل شيء ارتفع فوق شيء فهو بناء ومعنى رفع سمكها رفع ارتفاعها وعلوها في الهواء فسواها بلا شقوق ولا فطور ولا تفاوت يرتفع فيه بعضها علىبعض وأغطش ليلها أي أظلمه فجعله مظلما قال الزجاج يقال غطش الليل وأغطش وغبش وأغبش وغسق وأغسق وغشي وأغشى كله بمعنى أظلم
قوله تعالى وأخرج ضحاها أي أبرز نهارها والمعنى أظهر نورها بالشمس وإنما أضاف النور والظلمة الى السماء لأنهما عنها يصدران والأرض بعد ذلك أي بعد خلق السماء دحاها أي بسطها وبعض من يقول إن الأرض خلقت قبل السماء يزعم أن بعد هاهنا بمعنى قبل كقوله (9/22)
تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر الأنبياء 105 وبعضهم يقول هي بمعنى مع كقوله تعالى عتل بعد ذلك زنيم القلم 13 ولا يمتنع أن تكون الأرض خلقت قبل السماء ثم دحيت بعد كمال السماء وهذا مذهب عبد الله بن عمرو بن العاص وقد أشرنا الى هذا الخلاف في البقرة 29 ونصبت الأرض بمضمر تفسيره قوله تعالى دحاها
أخرج منها ماءها أي فجر العيون منها ومرعاها وهو ما يأكله الناس والأنعام والجبال أرساها قال الزجاج أي أثبتها متاعا لكم أي للإمتاع لأن معنى أخرج منها ماءها ومرعاها أمتع بذلك وقال ابن قتيبة متاعا لكم أي منفعة لكم
فإذا جآءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وأثر الحيوة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى يسئلونك عن الساعة أيان مرسها فيم أنت من ذكرها الى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحها
قوله تعالى فإذا جاءت الطامة الكبرى والطامة الحادثة التي تطم على ما سواها أي تعلو فوقه وفي المراد بها هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها النفخة الثانية التي فيها البعث (9/23)
والثاني أنها حين يقال لأهل النار قوموا الى النار
والثالث أنها حين يساق أهل الجنة الى الجنة وأهل النار الى النار
قوله تعالى يتذكر الإنسان ما سعى أي ما عمل من خير وشر وبرزت الجحيم لمن يرى أي لأبصار الناظرين قال مقاتل يكشف عنها الغطاء فينظر اليها الخلق وقرأ أبو مجلز وابن السميفع لمن ترى بالتاء وقرأ ابن عباس ومعاذ القارىء لمن رأى بهمزة بين الراء والألف
قوله تعالى فأما من طغى في كفره وآثر الحياة الدنيا على الآخرة فإن الجحيم هي المأوى قال الزجاج أي هي المأوى له وهذا جواب فإذا جاءت الطامة فإن الأمر كذلك
قوله تعالى وأما من خاف مقام ربه قد ذكرناه في سورة الرحمن 46
قوله تعالى ونهى النفس عن الهوى أي عما تهوى من المحارم قال مقاتل هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها
قوله تعالى يسألونك عن الساعة أيان مرساها قد سبق في الأعراف 187 فيم أنت من ذكراها أي لست في شيء من علمها وذكرها والمعنى إنك لا تعلمها الى ربك منتهاها أي منتهى علمها إنما أنت منذر من يخشاها وقرأ أبو جعفر منذر بالتنوين ومعنى الكلام إنما أنت مخوف من يخافها والمعنى إنما ينفع إنذارك م يخافها وهو المؤمن بها وأما من لا يخافها فكأنه لم ينذر كأنهم يعني كفار قريش يوم يرونها أي يعاينون القيامه لم يلبثوا في الدنيا وقيل في قبورهم إلا عشية أو ضحاها أي قدر آخر النهار من بعد العصر أو أوله الى أن ترتفع (9/24)
الشمس قال الزجاج والهاء والألف في ضحاها عائدان الى العشية
والمعنى إلا عشية أو ضحى العشية قال الفراء
فإن قيل للعشية ضحى إنما الضحى لصدر النهار
فالجواب أن هذا ظاهر في كلام العرب أن يقولوا آتيك العشية أو غداتها أو آتيك الغداة أو عشيتها فتكون العشية في معنى آخر والغداة في معنى أول أنشدني بعض بني عقيل
... نحن صبحنا عامرا في دارها ... عشية الهلال أو سرارها ...
أراد عشية الهلال أو عشية سرار العشية فهذا أشد من قولهم آتيك الغداة أو عشيتها (9/25)
سورة عبس
مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
عبس وتولى أن جآءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جآءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة
قوله تعالى عبس وتولى قال المفسرون كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام وأمية وأبيا ابني خلف ويدعوهم الى الله تعالى ويرجو إسلامهم فجاء ابن أم مكتوم الأعمى فقال علمني يا رسول الله مما علمك الله وجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنه مشتغل بكلام غيره حتى ظهرت الكراهية في وجهه صلى الله عليه و سلم لقطعه كلامه فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأقبل على القوم يكلمهم فنزلت هذه الآيات فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكرمه بعد ذلك ويقول مرحبا بمن عاتبني فيه (9/26)
ربي وذهب قوم منهم مقاتل الى أنه إنما جاء ليؤمن فأعرض عنه النبي صلى الله عليه و سلم اشتغالا بالرؤساء فنزلت فيه هذه الآيات
ومعنى عبس قطب وكلح وتولى أعرض بوجهه أن جاءه أي لأن جاءه وقرأ أبي بن كعب والحسن وأبو المتوكل وأبو عمران آن جاءه بهمزة واحدة مفتوحة ممدودة وقرأ ابن مسعود وابن السميفع أأن بهمزتين مقصورتين مفتوحتين والأعمى هو ابن أم مكتوم واسمه عمرو بن قيس وقيل اسمه عبد الله بن عمرو وما يدريك لعله يزكى أي يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح وما يتعلمه منك وقال مقاتل لعله يؤمن أو يذكر أي يتعظ بما يتعلمه من مواعظ القرآن فتنفعه الذكرى قرأ حفص عن عاصم فتنفعه بفتح العين والباقون برفعها قال الزجاج من نصب فعلى جواب لعل ومن رفع فعلى العطف على يزكى
قوله تعالى أما من استغنى قال ابن عباس استغنى عن الله وعن الإيمان بماله قال مجاهد أما من استغنى عتبة وشيبة فأنت له تصدى قرأ ابن كثير ونافع تصدى بتشديد الصاد وقرأ عاصم وأبو عمرو (9/27)
وابن عامر وحمزة والكسائي تصدى بفتح التاء والصاد وتخفيفها وقرأ أبي بن كعب وأبو الجوزاء وعمرو بن دينار تتصدى بتاءين مع تخفيف الصاد قال الزجاج الأصل تتصدى ولكن حذفت التاء الثانية لإجتماع تاءين ومن قرأ تصدى بإدغام التاء فالمعنى أيضا تتصدى إلا أن التاء أدغمت في الصاد لقرب مخرج التاء من الصاد قال ابن عباس تصدى تقبل عليه بوجهك وقال ابن قتيبة تتعرض وقرأ ابن مسعود وابن السميفع والجحدري تصدى بتاء واحدة مضمومة وتخفيف الصاد
قوله تعالى وما عليك أي أي شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه الى الإسلام يعني أنه ليس عليه إلا البلاغ
وأما من جاءك يسعى فيه قولان
أحدهما يمشي
والثاني يعمل في الخير وهو ابن أم مكتوم وهو يخشى الله فأنت عنه تلهى وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف وأبو الجوزاء تتلهى بتاءين
وقرأ أبي بن كعب وابن السميفع والجحدري تلهى بتاء واحدة خفيفة مرفوعة قال الزجاج أي تتشاغل عنه يقال لهيت عن الشيء ألهى عنه إذا تشاغلت عنه
قوله تعالى كلا أي لا تفعل ذلك انها في المكني عنها قولان أحدهما آيات القرآن قاله مقاتل
والثاني هذه السورة قاله الفراء والتذكرة بمعنى التذكير فمن شاء ذكره مفسر في آخر المدثر 55 ثم أخبر بجلالة القرآن عنده فقال تعالى (9/28)
في صحف مكرمة أي هو في صحف أي في كتب مكرمة وفيها قولان
أحدهما انها اللوح المحفوظ قاله مقاتل
والثاني كتب الأنبياء ذكره الثعلبي فعلى هذا يكون معنى مرفوعة عالية القدر وعلى الأول يكون رفعها كونها في السماء
وفي معنى المطهرة أربعة أقوال
أحدها مطهرة من أن تنزل على المشركين قاله الحسن والثاني مطهرة من الشرك والكفر قاله مقاتل والثالث لأنه لا يمسها إلا المطهرون قاله الفراء والرابع مطهرة من الدنس قاله يحيى بن سلام
قوله تعالى بأيدي سفرة فيهم قولان
أحدهما أنهم الملائكة قاله الجمهور
والثاني أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم قاله وهب بن منبه وفي معنى سفرة ثلاثة أقوال
أحدها أنهم الكتبة قاله ابن عباس ومجاهد وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج قال الزجاج واحدهم سافر وسفرة مثل كاتب وكتبة وكافر وكفرة وإنما قيل للكتاب سفر وللكاتب سافر لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه يقال أسفر الصبح إذا أضاء وسفرت المرأة إذا كشفت النقاب عن وجهها ومنه سفرت بين القوم أي كشفت ما في قلب هذ1 وقلب هذا لأصلح بينهم
والثاني أنهم القراء قاله قتادة (9/29)
والثالث أنهم السفراء وهم المصلحون قال الفراء تقول العرب سفرت بين القوم أي أصلحت بينهم فجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله كالسفير الذي يصلح بين القوم قال الشاعر
... وما أدع السفارة بين قومي ... وما أمشي بغش إن مشيت ...
قوله تعالى كرام أي على ربهم برزة أي مطيعين قال الفراء واحد البررة في قياس العربية بار لأن العرب لا تقول فعلة ينوون به الجمع إلا والواحد منه فاعل مثل كافر وكفرة وفاجر وفجرة
قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان الى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم
قوله تعالى قتل الإنسان أي لعن والمراد بالإنسان هاهنا الكافر وفيمن عنى بهذا القول ثلاثة أقوال
أحدها أنه أشار الى كل كافر قاله مجاهد والثاني أنه أمية بن خلف قاله الضحاك والثالث عتبة بن أبي لهب قاله مقاتل
وفي قوله تعالى ما أكفره ثلاثة أقوال
أحدها ما أشد كفره قاله ابن جريج (9/30)
والثاني أي شيء أكفره قاله السدي فعلى هذا يكون استفهام توبيخ
الثالث أنه على وجه التعجب وهذا التعجب يؤمر به الآدميون والمعنى اعجبوا أنتم من كفره قاله الزجاج
قوله تعالى من أي شيء خلقه ثم فسره فقال تعالى من نطفة خلقه وفي معنى فقدره ثلاثة أقوال
أحدها قدر أعضاءه رأسه وعينيه ويديه ورجليه قاله ابن السائب
والثاني قدره أطوارا نطفة ثم علقه الى آخر خلقه قاله مقاتل
والثالث فقدره على الإستواء قاله الزجاج
ثم السبيل يسره فيه قولان
أحدهما سهل له العلم بطريق الحق والباطل قاله الحسن ومجاهد قال الفراء والمعنى ثم يسره للسبيل
والثاني يسر له السبيل في خروجه من بطن أمه قاله السدي ومقاتل
قوله تعالى فأقبره قال الفراء أي جعله مقبورا ولم يجعله ممن يلقى للسباع والطير فكأن القبر مما أكرم به المسلم ولم يقل قبره لأن القابر هو الدافن بيده
والمقبر الله لأنه صيره مقبورا فليس فعله كفعل الآدمي والعرب تقول بترت ذنب البعير والله أبتره وعضبت قرن الثور والله أعضبه وطردت فلانا عني والله أطرده أي صيره طريدا وقال أبو عبيدة أقبره أي أمر أن يقبر وجعل له قبرا قالت بنو تميم لعمر بن هبيرة لما قتل (9/31)
صالح بن عبد الرحمن أقبرنا صالحا فقال دونكموه والذي يدفن بيده هو القابر قال الأعشى
... لو أسندت ميتأ الى نحرها ... عاش ولم يسلم الى قابر ...
قوله تعالى ثم إذا شاء أنشره أي بعثه يقال أنشر الله الموتى فنشروا ونشر الميت حيي هو بنفسه وواحدهم ناشر قال الأعشى
... حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر ...
قوله تعالى كلا قال الحسن حقا لما يقض ما أمره به ربه ولم يؤد ما فرض عليه ي وهل هذا عام أم خاص فيه قولان
أحدهما أنه عام قال مجاهد لا يقضي أحد أبدا كل ما افترض الله عليه (9/32)
والثاني أنه خاص للكافر لم يقض ما أمر به من الإيمان والطاعة قاله يحيى بن سلام ولما ذكر خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر وليستدل بالنبات على البعث فقال تعالى فلينظر الإنسان الى طعامه قال مقاتل يعني به عتبة بن أبي لهب ومعنى الكلام فلينظر الإنسان كيف خلق الله طعامه الذي جعله سببا لحياته ثم بين فقال تعالى أنا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر إنا بالكسر وقرأ عاصم وحمزة والكسائي أنا صببنا بفتح الهمزة في الوصل وفي الإبتداء ووافقهم رويس على فتحها في الوصل فإذا ابتدأ كسر قال الزجاج من كسر إنا فعلى الإبتداء والإستئناف ومن فتح فعلى البدل من الطعام المعنى فلينظر الإنسان أنا صببنا قال المفسرون أراد بصب الماء المطر ثم شققنا الأرض بالنبات شقا فأنبتنا فيها حبا يعني به جميع الحبوب التي يتغذى بها وعنبا وقضبا قال الفراء هو الرطبة وأهل مكة يسمون القت القضب قال ابن قتيبة ويقال انه سمي بذلك لأنه يقضب مرة بعد مرة أي يقطع وكذلك القصيل لأنه يقصل أي يقطع
قوله تعالى وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا قال الفراء كل بستان كان عليه حائط فهو حديقة وما لم يكن عليه حائط لم يقل حديقة والغلب ما غلظ من النخل قال أبو عبيدة يقال شجرة غلباء إذا كانت غليظة وقال ابن قتيبة الغلب الغلاظ الأعناق وقال الزجاج هي المتكاثفة العظام (9/33)
قوله تعالى وفاكهة يعني ألوان الفاكهة وأبأ فيه قولان
أحدهما أنه ما ترعاه البهائم قاله ابن عباس وعكرمة واللغويون وقال الزجاج هو جميع الكلأ التي تعتلفه الماشية
والثاني أنه الثمار الرطبة رواه الوالبي عن ابن عباس
متاعا لكم ولأنعامكم قد بيناه في السورة التي قبلها النازعات 33
فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يؤمنذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة
قوله تعالى فإذا جاءت الصاخة وهي الصيحة الثانية قال ابن قتيبة الصاخة تصخ صخا أي تصم يقال رجل أصخ وأصلخ إذا كان (9/34)
لا يسمع والداهية صاخة ايضا وقال الزجاج هي الصيحة التي تكون عليها القيامة تصخ الأسماع أي تصمها فلا تسمع إلا ما تدعي به لإحيائها ثم فسر في أي وقت تجيء فقال تعالى يوم يفر المرء من أخيه قال المفسرون المعنى لا يلتفت الإنسان إلى أحد من أقاربه لعظم ما هو فيه قال الحسن أول من يفر من أخيه هابيل ومن أمه وأبيه إبراهيم ومن صاحبته نوح ولوط ومن ابنه نوح وقال قتادة يفر هابيل من قابيل والنبي صلى الله عليه و سلم من أمه وإبراهيم من أبيه ولوط من صاحبته ونوح من ابنه
قوله تعالى لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه قال الفراء أي يشغله عن قرابته وقال ابن قتيبة أي يصرفه ويصده عن قرابته يقال اغن عني وجهك أي اصرفه واغن عني السفيه وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والزهري وأبو العالية وابن السميفع وابن محيصن وابن أبي عبلة يعنيه بفتح الياء و العين غير معجمة قال الزجاج معنى الآية له شأن لايقدر مع الاهتمام به على الاهتمام بغيره وكذلك قراءة من قرأ يغنيه بالغين معناه له شأن لا يهمه معه غيره (9/35)
وقد روى أنس بن مالك قال قالت عائشة للنبي صلى الله عليه و سلم أنحشر عراة قال نعم قالت واسوءتاه فأنزل الله تعالى لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه
قوله تعالى وجوه يومئذ مسفرة أي مضيئة قد علمت ما لها من الخير ضاحكة لسرورها مستبشرة أي فرحة بما نالها من كرامة الله عز و جل ووجوه يومئذ عليها غبرة أي غبار وقال مقاتل أي سواد وكآبة ترهقها أي تغشاها قترة أي ظلمة وقال الزجاج يعلوها سواد كالدخان ثم بين من أهل هذه الحال فقال تعالى أولئك هم الكفرة الفجرة وهوجمع كافر وفاجر (9/36)
سورة التكوير
وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت وإذا الصحف نشرت وإذا السماء كشطت وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت
روى ابو عبدالله الحاكم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أحب أن ينظر الى يوم القيامة فليقرأ قوله تعالى إذا الشمس كورت
وفي قوله تعالى كورت أربعة أقوال (9/37)
أحدها أظلمت رواه الوالبي عن ابن عباس وكذلك قال الفراء ذهب ضوؤها وهذا قول قتادة ومقاتل
والثاني ذهبت رواه عطية عن ابن عباس وكذلك قال مجاهد اضمحلت
والثالث غورت روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وابن الأنباري وهذا من قول الناس بالفارسية كوربكرد وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال هو بالفارسية كوربور
والرابع أنها تكور مثل تكوير العمامة فتلف وتمحى قاله أبو عبيدة
قال الزجاج ومعنى كورت جمع ضوؤها ولفت كما تلف العمامة ويقال كورت العمامة على رأسي أكورها إذا لففتها قال المفسرون تجمع الشمس بعضها الى بعض ثم تلف ويرمى بها في البحر وقيل في النار وقيل تعاد الى ما خلقت منه
قوله تعالى وإذا النجوم انكدرت أي تناثرت وتهافتت يقال انكدر الطائر في الهواء إذا انقض وإذا الجبال سيرت عن وجه الأرض فاستوت مع الأرض وإذا العشار عطلت قال المفسرون وأهل اللغة العشار النوق الحوامل وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر فقيل لها العشار لذلك وذلك الوقت أحسن زمان حملها وهي تضع إذاوضعت لتمام في سنة فهي أنفس ما للعرب عندهم فلا يعطلونها إلا لإتيان ما يشغلهم عنها وإنما (9/38)
خوطبت العرب بأمر العشار لأن أكثر عيشهم ومالهم من الإبل ومعنى عطلت سيبت وأهملت لإشتغالهم عنها بأهوال القيامة
قوله تعالى وإذا الوحوش يعني دواب البحر حشرت وفيه قولان
أحدهما ماتت قاله ابن عباس
والثاني جمعت الى القيامة قاله السدي وقد زدنا هذا شرحا في الأنعام 111
قوله تعالى وإذا البحار سجرت قرأ ابن كثير وأبو عمرو سجرت بتخفيف الجيم وقرأ الباقون بتشديدها
وفي المعنى ثلاثة أقوال
أحدها أوقدت فاشتعلت نارا قاله علي وابن عباس
والثاني يبست قاله الحسن
والثالث ملئت بأن صارت بحرا واحدا وكثر ماؤها قاله ابن السائب والفراء وابن قتيبة
قوله تعالى وإذا النفوس زوجت فيه ثلاثة أقوال
أحدها قرنت بأشكالها قاله عمر رضي الله عنه الصالح مع الصالح في الجنة والفاجر مع الفاجر في النار وهذا قول الحسن وقتادة
والثاني ردت الأرواح الى الأجساد فزوجت بها قاله الشعبي وعن عكرمة كالقولين
والثالث زوجت أنفس المؤمنين بالحور العين وأنفس الكافرين بالشياطين قاله عطاء ومقاتل (9/39)
قوله تعالى وإذا الموؤودة سئلت قال اللغويون الموؤودة البنت تدفن وهي حية وكان هذا من فعل الجاهلية ويقال وأد ولده أي دفنه حيا قال الفرزدق
... ومنا الذي منع الوائدا ... ت فأحيا الوئيد ولم يوأد ...
يعني صعصعة بن صوحان وهو جد الفرزدق قال الزجاج ومعنى سؤالها تبكيت قاتليها في القيامة لأن جوابها قتلت بغير ذنب ومثل هذا التبكيت قوله تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين المائدة 116
وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وأبو عبد الرحمن وابن يعمر وابن أبي عبلة وهارون عن أبي عمرو سألت بفتح السين وألف بعدها بأي ذنب قتلت بإسكان اللام وضم التاء الأخيرة وسؤالها هذا أيضا تبكيت لقاتليها قال ابن عباس كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت فكان أوان ولادها حفرت حفيرة فتمخضت على رأس الحفيرة فإن ولدت جارية رمت بها في الحفيرة وان ولدت غلاما حبسته
قوله تعالى وإذا الصحف نشرت قرأ نافع وعاصم وأبو جعفر وابن عامر ويعقوب نشرت بالتخفيف والباقون بالتشديد والمراد بالصحف صحائف أعمال بني آدم تنشر للحساب وإذا السماء كشطت قال الفراء نزعت فطويت وفي قراءة عبد الله قشطت بالقاف وهكذا تقوله قيس وتميم وأسد بالقاف وأما قريش فتقوله بالكاف والمعنى واحد (9/40)
والعرب تقول القافور والكافور والقسط والكسط وإذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في اللغات كما يقال حدث وحدت قال ابن قتيبة كشطت كما يكشط الغطاء عن الشيء فطويت وقال الزجاج قلعت كما يقلع السقف و سعرت أوقدت وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم سعرت مشددة قال الزجاج المعنى واحد إلا أن معنى المشدد أوقدت مرة بعد مرة و أزلفت قربت من المتقين وجواب هذه الأشياء علمت نفس ما أحضرت أي إذا كانت هذا الأشياء علمت في ذلك الوقت كل نفس ما أحضرت من عمل فأثيبت على قدر عملها وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في قوله تعالى علمت نفس ما أحضرت لهذا جرى الحديث وقال ابن عباس من أول السورة الى هاهنا اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا وستة في الآخرة
فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء رب العالمين
قوله تعالى فلا أقسم لا زائدة والمعنى أقسم بالخنس وفيها خمسة أقوال (9/41)
أحدها أنها خمسة أنجم تخنس بالنهار فلا ترى وهي زحل وعطارد والمشتري والمريخ والزهرة قاله علي وبه قال مقاتل وابن قتيبة وقيل اسم المشتري البرجس واسم المريخ بهرام
والثاني أنها النجوم قاله الحسن وقتادة على الإطلاق وبه قال أبو عبيدة
والثالث أنها بقر الوحش قاله ابن مسعود
والرابع الظباء رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير
والخامس الملائكة حكاه الماوردي والأكثرون على أنها النجوم
قال ابن قتيبة وإنما سماها خنسا لأنها تسير في البروج والمنازل كسير الشمس والقمر ثم تخنس أي ترجع بينا يرى أحدها في آخر البروج كر راجعا الى أوله وسماها كنسا لأنها تكنس أي تسير كما تكنس الظباء وقال الزجاج تخنس أي تغيب وكذلك تكنس أي تغيب في المواضع التي تغيب فيها وإذا كان المراد الظباء فهو يدخل الكناس وهو الغصن من أغصان الشجر ووقف يعقوب على الجواري بالياء
قوله تعالى والليل إذا عسعس فيه قولان
أحدهما ولى قاله ابن عباس وابن زيد والفراء
والثاني أقبل قاله ابن جبير وقتادة قال الزجاج يقال عسعس الليل إذا أقبل وعسعس إذا أدبر واستدل من قال إن المراد إدباره (9/42)
بقوله تعالى والصبح إذا تنفس وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن قرط
... حتى إذا الصبح لها تنفسا ... وإنجاب عنها ليلها وعسعسا ...
وفي قوله تعالى تنفس قولان
أحدهما أنه طلوع الفجر قاله علي وقتادة
والثاني طلوع الشمس قاله الضحاك قال الزجاج معناه إذا امتد حتى يصير نهارا بينا وجواب القسم في قوله فلا أقسم بالخنس وما بعده قوله إنه لقول رسول كريم يعني ان القرآن نزل به جبريل وقد بينا هذا في الحاقة 40 ثم وصف جبريل بقوله تعالى ذي قوة وهو كقوله تعالى ذو مرة وقد شرحناه في النجم آية 6 ذي قوة عند ذي العرش مكين يعني في المنزلة مطاع ثم أمين أي في السموات تطيعه الملائكة فمن طاعة الملائكة له أنه أمر خازن الجنة ليلة المعراج حتى فتحها لمحمد صلى الله عليه و سلم فدخلها ورأى ما فيها وأمر خازن جهنم ففتح له عنها حتى نظر اليها وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود وأبو حيوة ثم بضم الثاء ومعنى أمين على وحي الله ورسالاته قال أبو صالح أمين على أن يدخل سبعين سرادقا من نور بغير إذن
قوله تعالى وما صاحبكم بمجنون يعني محمدا ثلى الله عليه وسلم والخطاب لأهل مكة قال الزجاج وهذا أيضا من جواب القسم وذلك أنه أقسم أن القرآن نزل به جبريل وأن محمدا ليس بمجنون كما يقول أهل مكة (9/43)
قوله تعالى ولقد رآه بالأفق المبين قال المفسرون رأى محمد صلى الله عليه و سلم جبريل على صورته بالأفق وقد ذكرنا هذا في سورة النجم 7
قوله تعالى وما هو يعني محمدا صلى الله عليه و سلم على الغيب أي على خبر السماء الغائب عن أهل الأرض بضنين قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس بظنين بالظاء وقرأ الباقون بالضاد وقال ابن قتيبة من قرأ بالظاء فالمعنى ما هو بمتهم على ما يخبر به عن الله ومن قرأ بالضاد فالمعنى ليس ببخيل عليكم بعلم ما غاب عنكم مما ينفعكم وقال غيره ما يكتمه كما يكتم الكاهن ليأخذ الأجر عليه
قوله تعالى وما هو يعني القرآن بقول شيطان رجيم قال مقاتل وذلك أن كفار مكة قالوا إنما يجيء به الشيطان فيلقيه على لسان محمد
قوله تعالى فأين تذهبون قال الزجاج معناه فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم إن هو أي ما هو يعني القرآن إلا ذكر للعالمين أي موعظة للخلق أجمعين لمن شاء منكم أن يستقيم على الحق والإيمان والمعنى أن القرآن إنما يتعظ به من استقام على الحق وقد بينا سبيل الإستقامة فمن شاء أخذ في تلك السبيل ثم أعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه بما بعد هذا وقد بينا هذا في سورة الإنسان 30 قال أبو هريرة لما نزلت لمن شاء منكم أن يستقيم قالوا الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فنزل قوله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين وقيل القائل لذلك أبو جهل وقرأ أبو بكر الصديق وأبو المتوكل وأبو عمران وما يشاؤون بالياء (9/44)
فصل
وقد زعم بعض ناقلي التفسير أن قوله تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وقوله تعالى في عبس 12 فمن شاء ذكره وقوله تعالى في سورة الإنسان 29 وفي سورة المزمل 18 فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا كله منسوخ بقوله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ولا أرى هذا القول صحيحا لأنه لو جاز وقوع مشيئتهم مع عدم مشيئته توجه النسخ فأما إذ أخبر أن مشيئتهم لا تقع إلا بعد مشيئته فليس للنسخ وجه (9/45)
سورة الإنفطار وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين وما أدرك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا يومئذ لله
قوله تعالى إذا السماء انفطرت انفطارها انشقاقها و انتثرت بمعنى تساقطت وفجرت بمعنى فتح بعضها في بعض فصارت بحرا واحدا
وقال الحسن ذهب ماؤها وبعثرت بمعنى أثيرت قال ابن قتيبة قلبت فأخرج ما فيها يقال بعثرت المتاع وبحثرته إذا جعلت أسفله أعلاه (9/46)
قوله تعالى علمت نفس ما قدمت وأخرت هذا جواب الكلام وقد شرحناه في قوله تعالى ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر القيامة 13
قوله تعالى يا أيها الإنسان فيه أربعة أقوال
أحدها أنه عني به أبو الأشدين وكان كافرا قاله ابن عباس ومقاتل وقد ذكرنا اسمه في المدثر 30
والثاني أنه الوليد بن المغيرة قاله عطاء
والثالث أبي بن خلف قاله عكرمة
والرابع أنه أشار الى كل كافر ذكره الماوردي
قوله تعالى ما غرك قال الزجاج أي ما خدعك وسول لك حتى أضعت ما وجب عليك وقال غيره المعنى ما الذي أمنك من عقابه وهو كريم متجاوز إذ لم يعاقبك عاجلا وقيل للفضيل بن عياض لو أقامك الله سبحانه يوم القيامة وقال ما غرك بربك الكريم ماذا كنت تقول قال أقول غرني ستورك المرخاة وقال يحيى بن معاذ لو قال لي ما غرك بي قلت برك سالفا وآنفا قيل لما ذكر الصفة التي هي الكرم هاهنا دون سائر صفاته كان كأنه لقن عبده الجواب ليقول غرني كرم الكريم
قوله تعالى الذي خلقك ولم تك شيئا فسواك إنسانا تسمع وتبصر (9/47)
فعدلك قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر فعدلك بالتشديد وقرأ عاصم وحمزة والكسائي فعدلك بالتخفيف قال الفراء من قرأ بالتخفيف فوجهه والله أعلم فصورك الى أي صورة شاء إما حسن وإما قبيح وإما طويل وإما قصير وقيل في صورة أب في صورة عم في صورة بعض القرابات تشبيها ومن قرأ بالتشديد فإنه أراد والله أعلم جعلك معتدلا معدل الخلقة وقال غيره عدل أعضاءك فلم تفضل يد على يد ولا رجل على رجل وعدل بك أن يجعلك حيوانا بهيما
قوله تعالى في أي صورة ما شاء ركبك قال الزجاج يجوز أن تكون ما زائدة ويجوز أن تكون بمعنى الشرط والجزاء فيكون المعنى في أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك وفي معنى الآية أربعة أقوال
أحدها في أي صورة من صور القرابات ركبك وهو معنى قول مجاهد
والثاني في أي صورة من حسن أو قبح أو طول أو قصر أو ذكر أو أنثى وهو معنى قول الفراء
والثالث إن شاء أن يركبك في غير صورة الإنسان ركبك قاله مقاتل وقال عكرمة إن شاء في صورة قرد وإن شاء في صورة خنزير
والرابع إن شاء في صورة إنسان بأفعال الخير وإن شاء في صورة حمار بالبلادة والبلة وإن شاء في صورة كلب بالبخل أو خنزير بالشره ذكره الثعلبي
قوله تعالى بل تكذبون بالدين وقرأ أبو جعفر بالياء أي بالجزاء والحساب تزعمون أنه غير كائن ثم أعلمهم أن أعمالهم محفوظة فقال (9/48)
تعالى وإن عليكم لحافظين أي من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم كراما على ربهم كاتبين يكتبون أعمالكم يعلمون ما تفعلون من خير وشر فيكتبونه عليكم
قوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم وذلك في الآخرة إذا دخلوا الجنة وإن الفجار وفيهم قولان
أحدهما أنهم المشركون
والثاني الظلمة ونقل عن سليمان بن عبد الملك أنه قال لأبي حازم يا ليت شعري ما لنا عند الله فقال له اعرض عملك على كتاب الله فإنك تعلم ما لك عنده فقال وأين أجده قال عند قوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم قال سليمان فأين رحمة الله قال قريب من المحسنين
قوله تعالى يصلونها يعني يدخلون الجحيم مقاسين حرها يوم الدين أي يوم الجزاء على الأعمال وما هم عنها أي عن الجحيم بغائبين وهذا يدل على تخليد الكفار وأجاز بعض العلماء أن تكون عنها كناية عن القيامة فتكون فائدة الكلام تحقيق البعث ويشتمل هذا على الأبرار والفجار ثم عظم ذلك اليوم بقوله تعالى وما أدراك ما يوم الدين ثم كرر ذلك تفخيما لشأنه وكان ابن السائب يقول الخطاب بهذا للإنسان الكافر لا لرسول الله صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى يوم لا تملك نفس لنفس قرأ ابن كثير وأبو عمرو يوم (9/49)
بالرفع والباقون بالفتح قال الزجاج من رفع اليوم فعلى أنه صفة لقوله تعالى يوم الدين ويجوز أن يكون رفعه بإضمار هو ونصبه على معنى هذه الأشياء المذكورة تكون يوم لا تملك نفس لنفس شيئا قال المفسرون ومعنى الآية أنه لا يملك الأمر أحد إلا الله ولم يملك أحدا من الخلق شيئا كما ملكهم في الدنيا وكان مقاتل يقول لا تملك نفس لنفس كافرة شيئا من المنفعة والقول على الإطلاق أصح لأن مقاتلا فيما أحسب خاف نفي شفاعة المؤمنين والشفاعة إنما تكون عن أمر الله وتمليكه (9/50)
سورة المطففين
وفيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها مكية قاله ابن مسعود والضحاك ويحيى بن سلام
والثاني مدنية قاله ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة ومقاتل إلا أن ابن عباس وقتادة قالا فيها ثمان آيات مكية من قوله تعالى إن الذين أجرموا المطففين 29 الى آخرها وقال مقاتل فيها آية مكية وهي قوله تعالى إذا تتلى عليه قال أساطير الأولين المطففين 13
والثالث أنها نزلت بين مكة والمدينة قاله جابر بن زيد وابن السائب وذكر هبة الله ابن سلامة المفسر انها نزلت في الهجرة بين مكة والمدينة نصفها يقارب مكة ونصفها يقارب المدينة
بسم الله الرحمن الرحيم
ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين قوله تعالى ويل للمطففين قال ابن عباس لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم (9/51)
المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى ويل للمطففين فأحسنوا الكيل بعد ذلك وقال السدي قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وبها رجل يقال له أبو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فأنزل الله هذه الآية وقد شرحنا معنى الويل في البقرة 79 وقال ابن قتيبة المطفف الذي لا يوفي الكيل يقال إناء طفان إذا لم يكن مملوءا وقال الزجاج إنما قيل مطفف لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلا الشيء الطفيف وإنما أخذ من طف الشيء وهو جانبه
قوله تعالى الذين إذا اكتالوا على الناس أي من الناس ف على بمعنى من في قول المفسرين واللغويين قال الفراء على و من يعتقبان في هذا الموضع لأنك إذا قلت اكتلت عليك فكأنك قلت أخذت ما عليك كيلا وإذا قلت اكتلت منك فهو كقولك استوفيت منك كيلا قال الزجاج المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل وكذلك إذا اتزنوا ولم يذكر إذا اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن فأحدهما يدل على الآخر وإذا كالوهم أي كالوا لهم أو وزنوهم أي وزنوا لهم يخسرون أي ينقصون في الكيل والوزن فعلى هذا لا يجوز أن يقف على كالوا ومن الناس من يجعل هم توكيدا لما كالوا ويجوز أن يقف على كالوا والاختيار الأول قال الفراء سمعت أعرابية تقول (9/52)
إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكليلنا المد والمدين الى الموسم المقبل
قوله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون قال الزجاج المعنى لو ظنوا أنهم يبعثون ما نقصوا في الكيل والوزن ليوم عظيم يعني به يوم القيامة يوم يقوم الناس منصوب بقوله تعالى مبعوثون قال المفسرون والظن هاهنا بمعنى العلم واليقين ومعنى يقوم الناس أي من قبورهم لرب العالمين أي لأمره أو لجزائه وحسابه وقيل يقومون بين يديه لفصل القضاء وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال في هذه الآية يقوم أحدهم في رشحه الى أنصاف أذنيه وقال كعب يقفون ثلاثمائة عام قال مقاتل وذلك إذا خرجوا من قبورهم
كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدرك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدرئك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون (9/53)
قوله تعالى كلا ردع وزجر أي ليس الأمر على ما هم عليه فليرتدعوا وهاهنا تم الكلام عند كثير من العلماء وكان أبو حاتم يقول كلا ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقا إن كتاب الفجار قال مقاتل إن كتاب أعمالهم لفي سجين وفيها أربعة أقوال
أحدها أنها الأرض السابعة وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد ومقاتل وروي عن مجاهد قال سجين صخرة تحت الأرض السابعة يجعل كتاب الفجار تحتها وهذه علامة لخسارتهم ودلالة على خساسة منزلتهم
والثاني أن المعنى إن كتابهم لفي سفال قاله الحسن
والثالث لفي خسار قاله عكرمة
والرابع لفي حبس فعيل من السجن قاله أبو عبيدة
قوله تعالى وما أدراك ما سجين هذا تعظيم لأمرها وقال الزجاج أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك
قوله تعالى كتاب مرقوم أي ذلك الكتاب الذي في سجين كتاب (9/54)
مرقوم أي مكتوب قال ابن قتيبة والرقم الكتاب قال أبو ذؤيب
... عرفت الديار كرقم الدوا ... ة يزبره الكاتب الحميري ...
وأنشده الزجاج يذبرها بالذال المعجمة وكسر الباء قال الأصمعي يقال زبر كتب وذبر قرأ وروى أبو عمرو عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال الصواب زبرت بالزاي كتبت وذبرت بالذال أتقنت ما حفظت قال والبيت يزبرها بالزاي والضم وقال ابن قتيبة يروى يزبرها ويذبرها وهو مثله يقال زبر الكتاب يزبره ويزبره وذبره يذبره ويذبره وقال قتادة رقم له بشر كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه الكافر وقيل المعنى إنه مثبت لهم كالرقم في الثوب لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به
قوله تعالى ويل يومئذ للمكذبين هذا منتظم بقوله تعالى يوم يقوم الناس وما بينهما كلام معترض وما بعده قد سبق بيانه الى قوله تعالى بل ران على قلوبهم قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بل ران بفتح الراء مدغمة وقرأ أبو بكر عن عاصم بل ران مدغمة بكسر الراء وقرأ حفص عن عاصم بل بإظهار اللام ران بفتح الراء قال اللغويون أي غلب على قلوبهم يقال الخمرة ترين على عقل السكران قال الزجاج قرئت بإدغام اللام في الراء لقرب ما بين الحرفين وإظهار اللام جائز لأنه من كلمة والرأس من كلمة أخرى ويقال ران على قلبه الذنب يرين رينا إذا (9/55)
غشي على قلبه ويقال غان يغين غنيا والغين كالغيم الرقيق والرين كالصدأ يغشى على القلب وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول الغين يقال بالراء وبالغين ففي القرآن كلا بل ران وفي الحديث إنه ليغان على قلبي وكذلك الراية تقال بالراء وبالغين والرميصاء تكتب بالغين وبالراء لأن الرمص يكتب بهما قال المفسرون لما كثرت معاصيهم وذنوبهم أحاطت بقلوبهم قال الحسن هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب
قوله تعالى كلا أي لا يصدقون ثم استأنف إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون قال ابن عباس إنهم عن النظر الى ربهم يومئذ لمحجوبون والمؤمن لا يحجب عن رؤيته وقال مالك بن أنس لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه وقال الشافعي لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضى وقال الزجاج في هذه الآية دليل على أن الله عز و جل يرى (9/56)
في القيامة ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن ربهم ثم من بعد حجبهم عن الله يدخلون النار فذلك قوله تعالى ثم إنهم لصالواالجحيم
قوله تعالى ثم يقال أي يقول لهم خزنة النار هذا العذاب الذي كنتم به تكذبون كلا أي لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه ثم أعلم أين محل كتاب الأبرار فقال تعالى لفي عليين وفيها سبعة أقوال
أحدها أنها الجنة رواه عطاء عن ابن عباس
والثاني أنه لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش فيه أعمالهم مكتوبة روي عن ابن عباس أيضا
والثالث أنها السماء السابعة وفيها أرواح المؤمنين قاله كعب وهو مذهب مجاهد وابن زيد
والرابع أنها قائمة العرش اليمنى قاله قتادة وقال مقاتل ساق العرش
والخامس أنه سدرة المنتهى قاله الضحاك
والسادس أنه في علو وصعود الى الله عز و جل قاله الحسن وقال الفراء في ارتفاع بعد ارتفاع
والسابع أنه أعلى الأمكنة قاله الزجاج
قوله تعالى وما أدراك ما عليون هذا تعظيم لشأنها
قوله تعالى كتاب مرقوم الكلام فيه كالكلام في الآية التي قبلها (9/57)
قوله تعالى يشهده المقربون أي يحضر المقربون من الملائكة ذلك المكتوب أو ذلك الكتاب إذا صعد به الى عليين وما بعد هذا قد سبق بيانه الإنفطار 13 الى قوله تعالى ينظرون وفيه قولان
أحدهما الى ما أعطاهم الله من الكرامة
والثاني الى أعدائهم حين يعذبون
قوله تعالى تعرف في وجوههم نضرة النعيم وقرأ أبو جعفر ويعقوب تعرف بضم التاء وفتح الراء نضرة بالرفع قال الفراء بريق النعيم ونداه قال المفسرون إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعيم لما ترى من الحسن والنور وفي الرحيق ثلاثة أقوال
أحدها أنه الخمر قاله الجمهور ثم اختلفوا أي الخمر هي على أربعة أقوال أحدها أجود الخمر قاله الخليل بن أحمد والثانية الخالصة من الغش قاله الأخفش والثالث الخمر البيضاء قاله مقاتل والرابع الخمر العتيقة حكاه ابن قتيبة
والقول الثاني أنه عين في الجنة مشوبة بالمسك قاله الحسن
والثالث أنه الشراب الذي لا غش فيه قاله ابن قتيبة والزجاج وفي قوله تعالى مختوم ثلاثة أقوال
أحدها ممزوج قاله ابن مسعود
والثاني مختوم على إنائه والى نحو هذا ذهب مجاهد (9/58)
والثالث له ختام أي عاقبة ريح وتلك العاقبة هي قوله تعالى ختامه مسك أي عاقبته هذا قول أبي عبيدة
ختامه مسك قرأ ابن كثير وعاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة ختامه بكسر الخاء وبفتح التاء وبألف بعدهما مرفوعه الميم وقرأ الكسائي خاتمه بخاء مفتوحة بعدها ألف وبعدها تاء مفتوحة وروى الشيزري خاتمه مثل ذلك إلا أنه يكسر التاء وقرأ أبي بن كعب وعروة وأبو العالية ختمه بفتح الخاء والتاء و بضم الميم من غير ألف
وللمفسرين في قوله تعالى ختامه مسك أربعة أقوال
أحدها خلطه مسك قاله ابن مسعود ومجاهد
والثاني أن ختمه الذي يختم به الإناء مسك قاله ابن عباس
والثالث أن طعمه وريحه مسك قاله علقمة
والرابع أن آخر طعمه مسك قاله سعيد بن جبير والفراء وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج في آخرين
قوله تعالى وفي ذلك فليتنافس المتنافسون أي فليجدوا في طلبه وليحرصوا عليه بطاعة الله والتنافس كالتشاح على الشيء والتنازع فيه
قوله تعالى ومزاجه من تسنيم فيه قولان (9/59)
أحدهما أنه اسم عين في الجنة يشربها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين
والثاني أن التسنيم الماء قاله الضحاك قال مقاتل وإنما سمي تسنيما لأنه يتسنم عليه من جنة عدن فينصب عليهم انصبابا فيشربون الخمر من ذلك الماء قال ابن قتيبة يقال ان التسنيم أرفع شراب في الجنة ويقال إنه يمتزج بماء ينزل من تسنيم أي من علو وأصل هذا من سنام البعير ومن تسنيم القبور وهذا أعجب الي لقول المسيب بن علس في وصف امرأة
... كأن بريقتها للمزا ... ج من ثلج تسنيم شيبت عقارا ...
أراد كأن بريقتها عقارا شيبت للمزاج من ثلج تسنيم يريد جبلا قال الزجاج المعنى ومزاجه من تسنيم عينا تأتيهم من تسنيم أي من علو يتسنم عليهم من الغرف ف عينا في هذا القول منصوبة كما قال تعالى أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما البلد 15 ويجوز أن تكون عينا منصوبة بقوله يسقون عينا أي من عين وقد بينا معنى يشرب بها في هل أتى 6
إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا الى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون
قوله تعالى إن الذين أجرموا أي أشركوا كانوا من الذين آمنوا يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل عمار وبلال وخباب وغيرهم يضحكون (9/60)
على وجه الإستهزاء بهم وإذا مروا يعني المؤمنين بهم أي بالكفار يتغامزون أي يشيرون بالجفن والحاجب استهزاء بهم وإذا انقلبوا يعني الكفار الى أهلهم انقلبوا فكهين أي متعجبين بما هم فيه يتفكهون بذكرهم وقرأ أبو جعفر وحفص عن عاصم وعبد الرزاق عن ابن عامر فكهين بغير ألف وقد شرحنا معنى القراءتين في يس 55 وإذا رأوهم أي رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا إن هؤلاء لضالون يقول الله تعالى وما أرسلوا يعني الكفار عليهم أي على المؤمنين حافظين يحفظون أعمالهم عليهم أي لم يوكلوا بحفظ أعمالهم فاليوم يعني في الآخرة الذين آمنوا من الكفار يضحكون إذا رأوهم يعذبون في النار قال أبو صالح يقال لأهل النار وهم فيها اخرجوا وتفتح لهم أبوابها فإذا أقبلوا يريدون الخروج غلقت أبوابها دونهم والمؤمنون على الأرآئك ينظرون الى عذاب عدوهم قال مقاتل لكل رجل من أهل الجنة ثلمة ينظرون الى أعداء الله كيف يعذبون فيحمدون الله على ما أكرمهم به فهم يكلمون أهل النار ويكلمونهم الى أن تطبق النار على أهلها فتسد حينئذ الكوى
قوله تعالى هل ثوب الكفار وقرأ حمزة والكسائي وهارون عن أبي عمرو هل ثوب بإدغام اللام أي هل جوزوا وأثيبوا على استهزائهم بالمؤمنين في الدنيا وهذا الإستفهام بمعنى التقرير (9/61)
سورة الإنشقاق
وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت يا أيها الإنسان إنك كادح الى ربك كدحا فملاقيه فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب الى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعوا ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور
قوله تعالى إذا السماء انشقت قال المفسرون انشقاقها من علامات الساعة وقد ذكر ذلك في مواضع من القرآن الفرقان 225 الرحمن 37 الحاقة 16 وأذنت لربها أي استمعت وأطاعت في الإنشقاق من الأذن وهو الإستماع للشيء والإصغاء اليه وأنشدوا
... صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... فإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا (9/62)
وحقت أي حق لها أن تطيع ربها الذي خلقها وإذا الأرض مدت قال ابن عباس تمد مد الأديم ويزاد في سعتها وقال مقاتل لا يبقى جبل ولا بناء إلا دخل فيها
قوله تعالى وألقت ما فيها من الموتى والكنوز وتخلت أي خلت من ذلك فلم يبق في باطنها شيء واختلفوا في جواب هذه الأشياء المذكورات على أربعة أقوال
أحدها أنه متروك لأن المعنى معروف قد تردد في القرآن
والثاني أنه يا أيها الإنسان كقول القائل إذا كان كذا وكذا فيا أيها الناس ترون ما عملتم فيجعل يا أيها الإنسان هو الجواب وتضمر فيه الفاء كأن المعنى يرى الثواب والعقاب إذا السماء انشقت وذكر القولين الفراء
والثالث أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره يا أيها الإنسان إنك كادح الى ربك كدحا فملاقيه إذا السماء انشقت قاله المبرد
والرابع أن الجواب مدلول عليه بقوله تعالى فملاقيه فالمعنى إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله قاله الزجاج
قوله تعالى إنك كادح الى ربك كدحا فيه قولان
أحدهما إنك عامل لربك عملا قاله ابن عباس
والثاني ساع الى ربك سعيا قاله مقاتل قال الزجاج و الكدح في اللغة السعي والدأب في العمل في باب الدنيا والآخرة قال تميم بن مقبل
... وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت أخرى أبتغي العيش أكدح (9/63)
وفي قوله تعالى الى ربك قولان
أحدهما عامل لربك وقد ذكرناه عن ابن عباس
والثاني الى لقاء ربك قاله ابن قتيبة وفي قوله تعالى فملاقيه قولان أحدهما فملاق عملك والثاني فملاق ربك كما ذكرهما الزجاج
قوله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا وهو أن تعرض عليه سيئاته ثم يغفرها الله له وفي الصحيحين من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من نوقش الحساب هلك فقلت يا رسول الله فإن الله يقول فسوف يحاسب حسابا يسيرا قال ذلك العرض قوله تعالى وينقلب الى أهله يعني في الجنة من الحور العين والآدميات مسرورا بما أوتي من الكرامة وأما من أوتي كتابه وراء ظهره قال المفسرون تغل يده اليمنى الى عنقه وتجعل يده اليسرى وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا قال الزجاج يقول يا ويلاه يا ثبوراه وهذا يقوله كل من وقع في هلكة
قوله تعالى ويصلى سعيرا قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي ويصلى بضم الياء وتشديد اللام وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة ويصلى بفتح الياء خفيفة إلا أن حمزة والكسائي يميلانها وقد شرحناه في سورة النساء 11 (9/64)
قوله تعالى إنه كان في أهله يعني في الدنيا مسرورا بإتباع هواه وركوب شهواته إنه ظن أن لن يحور أي لن يرجع الى الآخرة ولن يبعث وهذه صفة الكافر قال اللغويون الحور في اللغة الرجوع وأنشدوا للبيد
... وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع ...
بلى إن ربه كان به بصيرا فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا أتسق لتركبن طبقا عن طبق فما لهم لا يؤمنون وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا يكذبون والله أعلم بما يوعون فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون
قوله تعالى بلى قال الفراء المعنى بلى ليحورون ثم استأنف فقال تعالى إن ربه كان به بصيرا قال المفسرون بصيرا على جميع أحواله
قوله تعالى فلا أقسم قد سبق بيانه
فأما الشفق فقال ابن قتيبة هما شفقان الأحمر والأبيض فالأحمر من لدن غروب الشمس الى وقت صلاة العشاء ثم يغيب ويبقى الشفق الأبيض الى نصف الليل
وللمفسرين في المراد بالشفق هاهنا ستة أقوال
أحدها الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس وقد روى ابن (9/65)
عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال الشفق الحمرة وهذا قول عمر وابنه وابن مسعود وعبادة وأبي قتادة وجابر بن عبد الله وابن عباس وأبي هريرة وأنس وابن المسيب وابن جبير وطاووس ومكحول ومالك والأوزاعي وأبي يوسف والشافعي وأبي عبيد وأحمد وإسحاق وابن قتيبة والزجاج قال الفراء سمعت بعض العرب يقول وعليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمر
والثاني أنه النهار
والثالث الشمس روي القولان عن مجاهد
والرابع ما بقي من النهار قاله عكرمة
والخامس السواد الذي يكون بعد ذهاب البياض قاله أبو جعفر محمد ابن علي
والسادس أنه البياض قاله عمر بن عبد العزيز
قوله تعالى والليل وما وسق أي وما جمع وضم وأنشدوا
... إن لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات لو يجدن سائقا (9/66)
قال أبو عبيدة وما وسق ما علا فلم يمنع منه شيء فإذا جلل الليل الجبال والأشجار والبحار والأرض فاجتمعت له فقد وسقها وقال بعضهم معنى ما وسق ما جمع مما كان منتشرا بالنهار في تصرفه الى مأواه
قوله تعالى والقمر إذا اتسق قال الفراء اتساقه اجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة وأربع عشرة الى ست عشرة
قوله تعالى لتركبن طبقا عن طبق قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي لتركبن بفتح التاء والباء وفي معناه قولان
أحدهما أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم ثم في معناه قولان أحدهما لتركبن سماء بعد سماء قاله ابن مسعود والشعبي ومجاهد والثاني لتركبن حالا بعد حال قاله ابن عباس وقال هو نبيكم
والقول الثاني أن الإشارة الى السماء والمعنى أنها تتغير ضروبا من التغيير فتارة كالمهل وتارة كالدهان روي عن ابن مسعود أيضا
وقرأ عاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر لتركبن بفتح التاء وضم الباء وهو خطاب لسائر الناس ومعناه لتركبن حالا بعد حال وقرأ ابن مسعود وأبو الجوزاء وأبو الأشهب ليركبن بالياء ونصب الباء وقرأ أبو المتوكل وأبو عمران وابن يعمر ليركبن والباء وضم الباء و عن بمعنى بعد وهذا قول عامة المفسرين واللغوين وأنشدوا للأقرع بن حابس
... إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره ... وساقني طبق منه الى طبق (9/67)
ثم في معنى الكلام خمسة أقوال
أحدها أنه الشدائد والأهوال ثم الموت ثم البعث ثم العرض قاله ابن عباس
والثاني أنه الرخاء بعد الشدة والشدة بعد الرخاء والغنى بعد الفقر والفقر بعد الغنى والصحة بعد السقم والسقم بعد الصحة قاله الحسن
والثالث أنه كون الإنسان رضيعا ثم فطيما ثم غلاما شابا ثم شيخا قال عكرمة
والرابع أنه تغير حال الإنسان في الآخرة بعد الدنيا فيرتفع من كان وضيعا ويتضع من كان مرتفعا وهذا مذهب سعيد بن جبير
والخامس أنه ركوب سنن من كان قبلهم من الأولين قاله أبو عبيدة
وكان بعض الحكماء يقول من كان اليوم على حالة وغدا على حالة أخرى فليعلم أن تدبيره الى سواه
قوله تعالى فما لهم يعني كفار مكة لا يؤمنون أي لا يؤمنون بمحمد والقرآن وهو استفهام إنكار وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون فيه قولان
أحدهما لا يصلون قاله عطاء وابن السائب (9/68)
والثاني لا يخضعون له ويستكينون قاله ابن جرير واختاره القاضي أبو يعلى قال وقد احتج بها قوم على وجوب سجود التلاوة وليس فيها دلالة على ذلك وإنما المعنى لا يخشعون ألا ترى أنه أضاف السجود الى جميع القرآن والسجود يختص بمواضع منه
قوله تعالى بل الذين كفروا يكذبون بالقرآن والبعث والجزاء والله أعلم بما يوعون في صدورهم ويضمرون في قلوبهم من التكذيب قال ابن قتيبة يوعون يجتمعون في قلوبهم وقال الزجاج يقال أوعيت المتاع في الوعاء ووعيت العلم
قوله تعالى فبشرهم بعذاب أليم أي أخبرهم بذلك وقال الزجاج اجعل للكفار بدل البشارة للمؤمنين بالجنة والرحمة العذاب الأليم و الممنون عند أهل اللغة المقطوع (9/69)
سورة البروج
وهي مكية كلها بإجماعهم بسم الله الرحمن الرحيم
والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدىء ويعيد وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد هل أتك حديث الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ
قوله تعالى والسماء ذات البروج قد ذكرنا البروج في الحجر 16 واليوم الموعود هو يوم القيامة بإجماعهم وشاهد ومشهود فيه أربعة وعشرون قولا (9/70)
أحدها أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وبه قال علي وابن عباس في رواية وابن زيد فعلى هذا سمي يوم الجمعة شاهدا لأنه يشهد على كل عامل بما فيه وسمي يوم عرفة مشهودا لأن الناس يشهدون فيه موسم الحج وتشهده الملائكة
والثاني أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر قاله ابن عمر
والثالث أن الشاهد الله عز و جل والمشهود يوم القيامة رواه الوالبي عن ابن عباس
والرابع أن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم القيامة رواه مجاهد عن ابن عباس
والخامس أن الشاهد محمد صلى الله عليه و سلم والمشهود يوم القيامة رواه يوسف ابن مهران عن ابن عباس وبه قال الحسن بن علي
والسادس أن الشاهد يوم القيامة والمشهود الناس قاله جابر بن عبد الله (9/71)
والسابع أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم القيامة قاله الضحاك
والثامن أن الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة قاله سعيد ابن المسيب
والتاسع أن الشاهد هو الله والمشهود بنو آدم قاله سعيد بن جبير
والعاشر أن الشاهد محمد والمشهود يوم عرفة قاله الضحاك
والحادي عشر أن الشاهد آدم عليه السلام والمشهود يوم القيامة رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد
والثاني عشر أن الشاهد ابن آدم والمشهود يوم القيامة رواه ليث عن مجاهد وبه قال عكرمة
الثالث عشر أن الشاهد آدم عليه السلام وذريته والمشهود يوم القيامة قاله عطاء بن يسار
والرابع عشر أن الشاهد الإنسان والمشهود الله عز و جل قاله محمد بن كعب
والخامس عشر أن الشاهد يوم النحر والمشهود يوم عرفة قاله إبراهيم
والسادس عشر أن الشاهد عيسى عليه السلام والمشهود أمته قاله أبو مالك ودليله قوله تعالى وكنت عليهم شهيدا المائدة 117
والسابع عشر أن الشاهد محمد صلى الله عليه و سلم والمشهود أمته قاله عبد العزيز بن يحيى وبيانه وجئنا بك على هؤلاء شهيدا النساء 41 (9/72)
الثامن عشر أن الشاهد هذه الأمة والمشهود سائر الناس قاله الحسين بن الفضل ودليله لتكونوا شهداء على الناس البقرة 143
والتاسع عشر أن الشاهد الحفظة والمشهود بنو آدم قاله محمد بن علي الترمذي وحكي عن عكرمة نحوه
والعشرون أن الشاهد الحق والمشهود الكون قاله الجنيد
والحادي والعشرون أن الشاهد الحجر الأسود والمشهود الحاج
والثاني والعشرون أن الشاهد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمشهود محمد صلى الله عليه و سلم وبيانه وإذ أخذ الله ميثاق النبيين الآية آل عمران 81
والثالث والعشرون أن الشاهد الله عز و جل والملائكة وأولو العلم والمشهود لا إله إلا الله وبيانه شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم آل عمران 18 حكى هذه الأقوال الثلاثة الثعلبي
والرابع والعشرون أن الشاهد الأنبياء عليهم السلام والمشهود الأمم حكاه شيخنا علي بن عبيد الله
وفي جواب القسم ثلاثة أقوال
أحدها أنه قوله تعالى إن بطش ربك لشديد قاله قتادة والزجاج (9/73)
والثاني أنه قوله تعالى قتل أصحاب الأخدود كما أن القسم في قوله تعالى والشمس وضحاها قد أفلح حكاه الفراء
والثالث أنه متروك وهذا اختيار ابن جرير
قوله تعالى قتل أصحاب الأخدود أي لعنوا والأخدود شق يشق في الأرض والجمع أخاديد وهؤلاء قوم حفروا حفائر في الأرض وأوقدوا فيها النار وألقوا فيها من لم يكفر
واختلف العلماء فيهم على ستة أقوال
أحدها أنه ملك كان له ساحر فبعث إليه غلاما يعلمه السحر وكان الغلام يمر على راهب فأعجبه أمره فتبعه فعلم به الملك فأمره أن يرجع عن دينه فقال لا أفعل فاجتهد الملك في إهلاكه فلم يقدر فقال الغلام لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به اجمع الناس في صعيد واحد واصلبني على جذع وارمني بسهم من كنانتي وقل بسم الله رب الغلام ففعل فمات الغلام فقال الناس آمنا برب الغلام فخد الأخاديد وأضرم فيها النار وقال من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها ففعلوا وهذا مختصر الحديث وفيه طول وقد ذكرته في المغنى و الحدائق بطوله من حديث صهيب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
والثاني أن ملكا من الملوك سكر فوقع على أخته فلما أفاق قال لها (9/74)
ويحك كيف المخرج فقالت له اجمع أهل مملكتك فأخبرهم أن الله عز و جل قد أحل نكاح الأخوات فإذا ذهب هذا في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته ففعل ذلك فأبوا أن يقبلوا ذلك منه فبسط فيهم السوط ثم جرد السيف فأبوا فخد لهم أخدودا وأوقد فيه النار وقذف من أبى قبول ذلك قاله علي بن طالب
والثالث أنهم ناس اقتتل مؤمنوهم وكفارهم فظهر المؤمنون ثم تعاهدوا أن لا يغدر بعضهم ببعض فغدر كفارهم فأخذوهم فقال له رجل من المؤمنين أوقدوا نارا وأعرضوا عليها فمن تابعكم على دينكم فذاك الذي تحبون ومن لم يتبعكم أقحم النار فاسترحتم منه ففعلوا فجعل المسلمون يقتحمونها ذكره قتادة
والرابع أن قوما من المؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة فأرسل اليهم جبار من عبدة الأوثان فعرض عليهم الدخول في دينه فأبوا فخدلهم أخدودا وألقاهم فيه قاله الربيع بن أنس
والخامس أن جماعة آمنوا من قوم يوسف بن ذي نواس بعدما رفع عيسى فخد لهم أخدودا وأوقد فيه النار فأحرقهم كلهم فأنزل الله تعالى قتل أصحاب الأخدود وهم يوسف بن ذي نواس وأصحابه قاله مقاتل
والسادس أنهم قوم كانوا يعبدون صنما ومعهم قوم يكتمون إيمانهم (9/75)
فعلموا بهم فخدوا لهم أخدودا وقذفوهم فيه حكاه الزجاج
واختلفوا في الذين أحرقوا على خمسة أقوال
أحدها أنهم كانوا من الحبشة قاله علي كرم الله وجهه
والثاني من بني إسرائيل قاله ابن عباس
والثالث من أهل اليمن قاله الحسن وقال الضحاك كانوا من نصارى اليمن وذلك قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بأربعين سنة
والرابع من أهل نجران قاله مجاهد
والخامس من النبط قاله عكرمة
وفي عددهم ثلاثة أقوال
أحدها اثنا عشر ألفا قاله وهب
والثاني سبعون ألفا قاله ابن السائب (9/76)
والثالث ثمانون رجلا وتسعة نسوة قاله مقاتل
قوله تعالى النار ذات الوقود هذا بدل من الأخدود كأنه قال قتل أصحاب النار و الوقود مفسر في البقرة 24 وقرأ أبو رزين العقيلي وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن ومجاهد وأبو العالية وابن يعمر وابن أبي عبلة الوقود بضم الواو إذ هم عليها قعود أي عند النار وكان الملك وأصحابه جلوسا على الكراسي عند الأخدود يعرضون المؤمنين على الكفر فمن أبى ألقوه وهم على يفعلون بالمؤمنين شهود أي حضور فأخبر الله عز و جل في هذه الآيات بقصة قوم بلغ من إيمانهم ويقينهم أن صبروا على التحريق بالنار ولم يرجعوا عن دينهم
قوله تعالى وما نقموا منهم قرأ ابن أبي عبلة نقموا بكسر القاف
قال الزجاج أي ما أنكروا عليهم إيمانهم وقد شرحنا معنى نقموا في المائدة 59 و براءة 74 وشرحنا معنى العزيز الحميد في البقرة 129 267
قوله تعالى والله على كل شيء شهيد أي لم يخف عليه ما صنعوا فهو شهيد عليهم بما فعلوا
قوله تعالى إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أي أحرقوهم وعذبوهم
كقوله تعالى يوم هم على النار يفتنون الذاريات 13 ثم لم يتوبوا من شركهم وفعلهم ذلك بالمؤمنين فلهم عذاب جهنم بكفرهم ولهم عذاب الحريق بما أحرقوا المؤمنين وكلا العذابين في جهنم عند الأكثرين وذهب الربيع بن (9/77)
أنس في جماعة الى ان النار ارتفعت الى الملك وأصحابه فأحرقتهم فذلك عذاب الحريق في الدنيا قال الربيع وقبض الله أرواح المؤمنين قبل أن تمسهم النار وحكى الفراء أن المؤمنين نجوا من النار وأنها ارتفعت فأحرقت الكفرة
قوله تعالى ذلك الفوز الكبير لأنهم فازوا بالجنة وقال بعض المفسرين فازوا من عذاب الكفار وعذاب الآخرة
قوله تعالى إن بطش ربك قال ابن عباس إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة والجبابرة لشديد
قوله تعالى إنه هو يبديء ويعيد فيه قولان
أحدهما يبدىء الخلق ويعيدهم قاله الجمهور
والثاني يبدىء العذاب في الدنيا على الكفار ثم يعيده عليهم في الآخرة رواه العوفي عن ابن عباس وقد شرحنا في هود 90 معنى الودود
قوله تعالى ذو العرش المجيد وقرأ حمزة والكسائي والمفضل عن عاصم المجيد بالخفض وقرأ غيرهم بالرفع فمن رفع المجيد جعله من صفات الله عز و جل ومن كسر جعله من صفة العرش
قوله تعالى هل أتاك حديث أي قد أتاك حديث الجنود وهم الذين تجندوا على أولياء الله ثم بين من هم فقال تعالى فرعون وثمود بل الذين كفروا يعني مشركي مكة في تكذيب لك والقرآن أي لم يعتبروا بمن كان قبلهم والله من ورائهم محيط لا يخفى عليه شيء من أعمالهم بل هو (9/78)
قرآن مجيد أي كريم لأنه كلام الله وليس كما يقولون بشعر ولا كهانة ولا سحر وقرأ أبو العالية وأبو الجوزاء وأبو عمران وابن السميفع بل هو قرآن مجيد بغير تنوين وبخفض مجيد في لوح محفوظ وهو اللوح المحفوظ منه نسخ القرآن وسائر الكتب فهو محفوظ عند الله محروس به من الشياطين ومن الزيادة فيه والنقصان منه وقرأ نافع محفوظ رفعا على نعت القرآن فالمعنى إنه محفوظ من التحريف والتبديل (9/79)
سورة الطارق
وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
والسماء والطارق وما أدرنك ما الطارق النجم الثاقب إن كل نفس لما عليها حافظ فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر
قوله تعالى والسماء والطارق قال ابن قتيبة الطارق النجم سمي بذلك لأنه يطرق أي يطلع ليلا وكل من أتاك ليلا فقد طرقك ومنه قول هند ابنة عتبة
... نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق ...
تريد إن أبانا نجم في شرفه وعلوه
قوله تعالى وما أدراك ما الطارق قال المفسرون ذلك أن هذا الإسم (9/80)
يقع على كل ما طرق ليلا فلم يكن النبي صلى الله عليه و سلم يدري ما المراد به حتى تبينه بقوله تعالى النجم الثاقب يعني المضيء كما بينا في الصافات 10
وفي المراد بهذا النجم ثلاثة أقوال
أحدها أنه زحل قاله علي رضي الله عنه وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال هو زحل ومسكنه في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ثم رجع الى مكانه من السماء السابعة فهو طارق حين ينزل وطارق حين يصعد
والثاني أنه الثريا قاله ابن زيد
والثالث أنه اسم جنس ذكره علي بن أحمد النيسابوري
قوله تعالى إن كل نفس قرأ أبي بن كعب وأبو المتوكل إن بالتشديد كل بالنصب لما عليها حافظ وقرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم الجحدري وحمزة وأبو حاتم عن يعقوب لمأ بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف
قال الزجاج هذه الآية جواب القسم ومن خفف فالمعنى لعليها حافظ و ما لغو ومن شدد فالمعنى إلا قال فاستعملت لما في موضع (9/81)
إلا في موضعين أحدهما هذا والآخر في باب القسم تقول سألتك لما فعلت بمعنى إلا فعلت قال المفسرون المعنى ما من نفس إلا عليها حافظ وفيه قولان
أحدهما أنهم الحفظة من الملائكة قاله ابن عباس قال قتادة يحفظون على الإنسان عمله من خير أو شر
والثاني حافظ يحفظ الإنسان حتى حين يسلمه الى المقادير قاله الفراء ثم نبه على البعث بقوله تعالى فلينظر الإنسان مم خلق أي من أي شيء خلقه الله والمعنى فلينظر نظر التفكر والإستدلال ليعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته
قوله تعالى من ماء دافق قال الفراء معناه مدفوق كقول العرب سر كاتم وهم ناصب وليل نائم وعيشة راضية وأهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلا قال الزجاج ومذهب سيبويه وأصحابه أن معناه النسب الى الإندفاق والمعنى من ماء ذي اندفاق
قوله تعالى يخرج من بين الصلب قرأ ابن مسعود وابن سيرين وابن السميفع وابن أبي عبلة الصلب بضم الصاد واللام جميعا يعني يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة قال الفراء يريد يخرج من الصلب والترائب يقال يخرج من بين هذين الشيئين خير كثير بمعنى يخرج منهما (9/82)
وفي الترائب ثلاثة أقوال
أحدها أنه موضع القلادة قاله ابن عباس قال الزجاج قال أهل اللغة أجمعون الترائب موضع القلادة من الصدر وأنشدوا لامرىء القيس
... مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل ...
قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال السجنجل المرآة بالرومية وقيل هي سبيكة الفضة وقيل السجنجل الزعفران وقيل ماء الذهب ويروى البيت بالسجنجل
والثاني أن الترائب اليدان والرجلان والعينان رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الضحاك
والثالث أنها أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربعة أضلاع من يسرة الصدر حكاه الزجاج
قوله تعالى إنه الهاء كناية عن الله عز و جل على رجعه الرجع رد الشيء الى أول حاله وفي هذه الهاء قولان
أحدهما أنها تعود على الإنسان ثم فيه قولان أحدهما أنه على إعادة الإنسان حيا بعد موته قادر قاله الحسن وقتادة قال الزجاج ويدل على هذا القول قوله تعالى يوم تبلى السرائر والثاني أنه على رجعه من حال الكبر (9/83)
الى الشباب ومن الشباب الى الصبأ ومن الصبأ الى النطفة قادر قاله الضحاك والقول الثاني أنها تعود الى الماء ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها رد الماء في الإحليل قاله مجاهد والثاني على رده في الصلب قاله عكرمة والضحاك والثالث على حبس الماء فلا يخرج قاله ابن زيد
قوله تعالى يوم تبلى السرائر التي بين العبد وبين ربه حتى يظهر خيرها من شرها ومؤديها من مضيعها فإن الإنسان مستور في الدنيا لا يدري أصلى أم لا أتوضأ أم لا فإذا كان يوم القيامة أبدى الله كل سر فكان زينا في الوجه أو شينا وقال ابن قتيبة تختبر سرائر القلوب
قوله تعالى فما له من قوة أي فما لهذا الإنسان المنكر للبعث من قوة يمتنع بها من عذاب الله ولا ناصر ينصره
والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع إنه لقول فصل وما هو بالهزل إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا
قوله تعالى والسماء ذات الرجع أي ذات المطر وسمي المطر رجعا لأنه يجيء ويرجع ويتكرر والأرض ذات الصدع أي ذات الشق وقيل لها هذا لأنها تتصدع وتتشقق بالنبات هذا قول المفسرين وأهل اللغة في الحرفين
قوله تعالى إنه لقول فصل يعني به القرآن وهذا جواب القسم (9/84)
والفصل الذي يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما وما هو بالهزل أي باللعب والمعنى إنه جد ولم ينزل باللعب وبعضهم يقول الهاء في إنه كناية عن الوعيد المتقدم ذكره
قوله تعالى إنهم يعني مشركي مكة يكيدون كيدا أي يحتالون وهذا الإحتيال المكر برسول الله صلى الله عليه و سلم حين اجتمعوا في دار الندوة وأكيد كيدا أي أجازيهم على كيدهم بأن أستدرجهم من حيث لا يعلمون فأنتقم منهم في الدنيا بالسيف وفي الآخرة بالنار فمهل الكافرين هذا وعيد من الله لهم ومهل وأمهل لغتان جمعتا هاهنا ومعنى الآية مهلهم قليلا حتى أهلكهم ففعل الله ذلك ببدر ونسخ الإمهال بآية السيف قال ابن قتيبة ومعنى رويدا مهلا ورويدك بمعنى أمهل قال تعالى فمهل الكافرين أمهلهم رويدا أي أمهلهم قليلا فإذا لم يتقدمها أمهلهم كانت بمعنى مهلا ولا يتكلم بها إلا مصغرة ومأمورا بها وجاءت في الشعر بغير تصغير في غير معنى الأمر
قال الشاعر
... كأنها مثل من يمشي على رود ...
أي على مهل (9/85)
سورة الأعلى
وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى (9/86)
وفي معنى سبح خمسة أقوال
أحدها قل سبحان ربي الأعلى قاله الجمهور
والثاني عظم
والثالث صل بأمر ربك روي القولان عن ابن عباس
والرابع نزه ربك عن السوء قاله الزجاج
والخامس نزه اسم ربك وذكرك إياه أن تذكره وأنت معظم له خاشع له ذكره الثعلبي
وفي قوله تعالى اسم ربك قولان
أحدهما أن ذكر الأسم صلة كقول لبيد بن ربيعة
... الى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر (9/87)
والثاني أنه أصلي وقال الفراء سبح ربك و سبح اسم ربك سواء في كلام العرب
قوله تعالى الذي خلق فسوى أي فعدل الخلق وقد أشرنا الى هذا المعنى في الإنفطار 7 والذي قدر قرأ الكسائي وحده قدر بالتخفيف فهدى فيه سبعة أقوال
أحدها قدر الشقاوة والسعادة وهدى للرشد والضلالة قاله مجاهد
والثاني جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها اليه قاله عطاء
والثالث قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج قاله السدي
والرابع قدرهم ذكورا وإناثا وهدى الذكر لإتيان الأنثى قاله مقاتل (9/88)
والخامس أن المعنى قدر فهدى وأضل فحذف وأضل لأن في الكلام دليلا على ذلك حكاه الزجاج
والسادس قدر الأرزاق وهدى الى طلبها
والسابع قدر الذنوب وهدى الى التوبة حكاهما الثعلبي
قوله تعالى والذي أخرج المرعى أي أنبت العشب وما ترعاه البهائم فجعله بعد الخضرة غثاء قال الزجاج أي جففه حتى جعله هشيما جافا كالغثاء الذي تراه فوق ماء السيل وقد بينا هذا في سورة المؤمنين 41 فأما قوله تعالى أحوى فقال الفراء الأحوى الذي قد اسود عن القدم والعتق ويكون أيضا أخرج المرعى أحوى أسود من الخضرة فجعله غثاء كما قال تعالى مدهامتان الرحمن 64
قوله تعالى سنقرئك فلا تنسى قال مقاتل سنعلمك القرآن ونجمعه في قلبك فلا تنساه أبدا
قوله تعالى إلا ما شاء الله فيه ثلاثة أقوال (9/89)
أحدها إلا ما شاء الله أن ينسخه فتنساه قاله الحسن وقتادة
والثاني إلا ما شاء الله أن تنسى شيئا فإنما هو كقوله تعالى خالدين فيها ما دامت السموات والأ ض إلا ما شاء ربك هود 107 فلا يشاء
قوله تعالى إنه يعلم الجهر من القول والفعل وما يخفى منهما ونيسرك لليسرى أي نسهل عليك عمل الخير فذكر أي عظ أهل مكة إن نفعت الذكرى وفي إن ثلاثة أقوال
أحدها أنها الشرطية وفي معنى الكلام قولان أحدهما إن قبلت الذكرى قاله يحيى بن سلام والثاني إن نفعت وإن لم تنفع قاله علي بن أحمد النيسابوري
والثاني أنها بمعنى قد فتقديره قد نفعت الذكرى قاله مقاتل
والثالث أنها بمعنى ما فتقديره فذكر ما نفعت الذكرى حكاه الماوردي
قوله تعالى سيذكر سيتعظ بالقرآن من يخشى ويتجنبها (9/90)
ويتجنب الذكرى الأشقى الذي يصلى النار الكبرى أي العظيمة الفظيعة لأنها أشد من نار الدنيا ثم لا يموت فيها فيستريح ولا يحيى حياة تنفعه وقال ابن جرير تصير نفس أحدهم في حلقه فلا تخرج متفارقه فيموت ولا ترجع الى موضعها من الجسم فيحيا
قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحيوة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى
قوله تعالى قد أفلح قال الزجاج أي صادف البقاء الدائم والفوز من تزكى فيه خمسة أقوال
أحدها من تطهر من الشرك بالإيمان قاله ابن عباس
والثاني من أعطى صدقة الفطر قاله أبو سعيد الخدري وعطاء وقتادة
والثالث من كان عمله زاكيا قاله الحسن والربيع
والرابع أنها زكوات الأموال كلها قاله أبو الأحوص
والخامس تكثر بتقوى الله ومعنى الزاكي النامي الكثير قاله الزجاج
قوله تعالى وذكر اسم ربه قد سبق بيانه الأحزاب : 31
وفي قوله تعالى فصلى ثلاثة أقوال
أحدها أنها الصلوات الخمس قاله ابن عباس ومقاتل (9/91)
والثاني صلاة العيدين قاله أبو سعيد الخدري
والثالث صلاة التطوع قاله أبو الأحوص والقول قول ابن عباس في الآيتين فإن هذه السورة مكية بلا خلاف ولم يكن بمكة زكاة ولا عيد
قوله تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا قرأ أبو عمرو وابن قتيبة وزيد عن يعقوب بل يؤثرون بالياء والباقون بالتاء واختار الفراء والزجاج التاء لأنها رويت عن أبي بن كعب بل أنتم تؤثرون فإن أريد بذلك الكفار فالمعنى أنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة لأنهم لا يؤمنون بها وإن أريد به المسلمون فالمعنى يؤثرون الاستكثار من الدنيا على الإستحسان من الثواب قال ابن مسعود إن الدنيا عجلت لنا وإن الآخرة نعتت لنا وزويت عنا فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل
قوله تعالى والآخرة خير لك يعني الجنة أفضل وأبقى أي أدوم من الدنيا
إن هذا لفي الصحف الأولى في المشار إليه أربعة أقوال (9/92)
أحدها انه قوله تعالى والآخرة خير وأبقى قاله قتادة
والثاني هذه السورة قاله عكرمة والسدي
والثالث أنه لم يرد أن معنى السورة في الصحف الأولى ولا الألفاظ بعينها وإنما أراد أن الفلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى في الصحف الأولى كما هو في القرآن قاله ابن قتيبة
والرابع أنه من قوله تعالى قد أفلح من تزكى الى قوله وأبقى قاله ابن جرير
ثم بين الصحف الأولى ما هي فقال صحف إبراهيم وموسى وقد فسرناها في النجم 36 (9/93)
سورةالغاشية وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
هل أتك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع
قوله تعالى هل أتاك أي قد أتاك قاله قطرب وقال الزجاج والمعنى هذا لم يكن من علمك ولا من علم قومك
وفي الغاشية قولان
أحدهما أنها القيامة تغشى الناس بالأهوال قاله ابن عباس والضحاك وابن قتيبة
والثاني أنها النار تغشى وجوه الكفار قاله سعيد بن جبير والقرظي ومقاتل (9/94)
قوله تعالى وجوه يومئذ خاشعة أي ذليلة وفيها قولان
أحدهما أنها وجوه اليهود والنصارى قاله ابن عباس
والثاني أنه جميع الكفار قاله يحيى بن سلام
قوله تعالى عاملة ناصبة فيه أربعة أقوال
أحدها أنهم الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام كعبدة الأوثان وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان وغيرهم رواه عطاء عن ابن عباس
والثاني أنهم الرهبان وأصحاب الصوامع رواه أبو الضحى عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم
والثالث عاملة ناصبة في النار بمعالجة السلاسل والأغلال لأنها لم تعمل لله في الدنيا فأعملها وأنصبها في النار وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن وقال قتادة تكبرت في الدنيا عن طاعة الله فأعملها وأنصبها في النار بالإنتقال من عذاب الى عذاب قال الضحاك يكلفون ارتقاء جبل في النار وقال ابن السائب يخرون على وجوههم في النار وقال مقاتل عاملة في النار تأكل من النار ناصبة للعذاب
والرابع عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة قاله عكرمة والسدي والكلام هاهنا على الوجوه والمراد أصحابها وقد بينا معنى النصب في قوله تعالى لا يمسهم فيها نصب الحجر 48 (9/95)
قوله تعالى تصلى نارا حامية قرأ أهل البصرة وعاصم إلا حفصا تصلى بضم التاء والباقون بفتحها قال ابن عباس قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله تسقى من عين آنية أي متناهية في الحرارة قال الحسن وقد أوقدت عليها جهنم منذ خلقت فدفعوا اليها وردا عطاشا
قوله تعالى ليس لهم طعام إلا من ضريع فيه ستة أقوال
أحدها أنه نبت ذو شوك لا طىء بالأرض وتسميه قريش الشبرق فإذا هاج سموه ضريعا رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة
والثاني أنه شجر من نار رواه الوالبي عن ابن عباس
والثالث أنها الحجارة قاله ابن جبير
والرابع أنه السلم قاله أبو الجوزاء
والخامس أنه في الدنيا الشوك اليابس الذي ليس له ورق وهو في الآخرة شوك من نار قاله ابن زيد (9/96)
والسادس أنه طعام يضرعون الى الله تعالى منه قاله ابن كيسان
قال المفسرون لما نزلت هذه الآية قال المشركون إن إبلنا لتسمن على الضريع فأنزل الله تعالى لا يسمن ولا يغني من جوع وكذبوا فإن الإبل إنما ترعاه ما دام رطبا وحينئذ يسمى شبرقا لا ضريعا فإذا يبس يسمى ضريعا لم يأكله شيء
فإن قيل إنه قد أخبر في هذه الآية ليس لهم طعام إلا من ضريع وفي مكان آخر ولا طعام إلا من غسلين الحاقة 36 فكيف الجمع بينهما
فالجواب أن النار دركات وعلى قدر الذنوب تقع العقوبات فمنهم من طعامه الزقوم ومنهم من طعامه غسلين ومنهم من شرابه الحميم ومنهم من شرابه الصديد قاله ابن قتيبة
وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة أفلا ينظرون الى الإبل كيف خلقت والى السماء كيف رفعت والى الجبال كيف نصبت والى الأرض كيف سطحت فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم (9/97)
قوله تعالى وجوه يومئذ ناعمة أي في نعمة وكرامة لسعيها في الدنيا راضية والمعنى رضيت بثواب عملها في جنة عالية قد فسرناه في الحاقة آية 22 لا تسمع فيها لا غية قرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس لا يسمع بياء مضمومة لاغية بالرفع وقرأ نافع كذلك إلا أنه مضمومة والباقون بتاء مفتوحة ونصب لا غية والمعنى لا تسمع فيها كلمة لغو فيها سرر مرفوعة قال ابن عباس ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة ما لم يجيء أهلها فإذا أراد أن يجلس عليها صاحبها تواضعت له حتى يجلس عليها ثم ترتفع الى موضعها وأكواب موضوعة عندهم وقد ذكرنا الأكواب في الزخرف 71 ونمارق وهي الوسائد واحدها نمرقة بضم النون قال الفراء وسمعت بعض كلب تقول نمرقة بكسر النون والراء مصفوفة بعضها الى جنب بعض والزرابي الطنافس التي لها خمل رقيق مبثوثة كثيرة قال ابن قتيبة كثيرة مفرقة قال المفسرون لما نعت الله سبحانه ما في الجنة عجب من ذلك أهل الكفرة فذكرهم صنعه فقال تعالى أفلا ينظرون (9/98)
الى الإبل وقال قتادة ذكر الله ارتفاع سرر الجنة وفرشها فقالوا كيف نصعدها فنزلت هذه الآية قال العلماء وإنما خص الإبل من غيرها لأن العرب لم يروا بهيمة قط أعظم منها ولم يشاهدوا الفيل إلا الشاذ منهم ولأنها كانت أنفس أموالهم وأكثرها لا تفارقهم ولا يفارقونها فيلاحظون فيها العبر الدالة على قدرة الخالق من إخراج لبنها من بين فرث ودم و من عجيب خلقها وهي على عظمها مذللة للحمل الثقيل وتنقاد للصبي الصغير وليس في ذوات الأربع ما يحمل عليه وقره وهو بارك فيطيق النهوض به سواها وقرأ ابن عباس وأبو عمران الجوني والأصمعي عن أبي عمرو الإبل بإسكان الباء وتخفيف اللام وقرأ أبي بن كعب وعائشة وأبو المتوكل والجحدري وابن السميفع ويونس بن حبيب وهارون كلاهما عن أبي عمرو الإبل بكسر الباء وتشديد اللام قال هارون قال أبو عمرو الإبل بتشديد اللام السحاب الذي يحمل الماء
قوله تعالى كيف خلقت وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وأبو العالية وأبو عمران وابن أبي عبلة خلقت بفتح الخاء وضم التاء
وكذلك قرؤوا رفعت ونصبت و سطحت (9/99)
قوله تعالى والى السماء كيف رفعت من الأرض حتى لا ينالها شيء بغير عمد والى الجبال كيف نصبت على الأرض لا تزول ولا تتغير والى الأرض كيف سطحت أي بسطت والسطح بسط الشيء وكل ذلك يدل على قدرة خالقه فذكر أي عظ إنما أنت مذكر أي واعظ ولم يكن حينئذ أمر بغير التذكير ويدل عليه قوله تعالى لست عليهم بمسيطر أي بمسلط فتقتلهم وتكرههم على الإيمان ثم نسختها آية السيف وقرأ ابو رزين وأبو عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد وقتادة والحلواني عن ابن عامر بمسيطر بالسين وقد سبق بيان المسيطر في قوله تعالى أم هم المسيطرون الطور 37
قول تعالى إلا من تولى وهذا استثناء منقطع معناه لكن من تولى وكفر بعد التذكر وقرأ ابن عباس وعمرو بن العاص وأنس بن مالك وأبو مجلز وقتادة وسعيد بن جبير ألا من تولى بفتح الهمزة وتخفيف اللام فيعذبه الله العذاب الأكبر وهو أن يدخله جهنم وذلك أنهم قد عذبوا في الدنيا (9/100)
بالجوع والقتل والأسر فكان عذاب جهنم هو الأكبر إن إلينا إيابهم قرأ أبي بن كعب وعائشة وعبد الرحمن وأبو جعفر إيابهم بتشديد الياء أي رجوعهم ومصيرهم بعد الموت ثم إن علينا حسابهم قال مقاتل أي جزاءهم (9/101)
سورة الفجر
وهي مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد
قوله تعالى والفجر قال ابن عباس الفجر انفجار الظلمة عن الصبح وانفجر الماء ايجس قال شيخنا علي بن عبيد الله الفجر ضوء النهار إذا انشق عنه الليل وهو مأخوذ من الإنفجار يقال انفجر النهر ينفجر انفجارا إذا انشق فيه موضع لخروج الماء ومن هذا سمي الفاجر فاجرا لأنه خرج عن طاعة الله
وللمفسرين في المراد بهذا الفجر ستة أقوال (9/102)
أحدها أنه الفجر المعروف الذي هو بدء النهار قاله علي رضي الله عنه وروى أبو صالح عن ابن عباس قال هو انفجار الصبح كل يوم وبهذا قال عكرمة وزيد بن أسلم والقرظي
والثاني صلاة الفجر رواه عطية عن ابن عباس
والثالث النهار كله فعبر عنه بالفجر لأنه أوله وروى هذا المعنى أبو نصر عن ابن عباس
والرابع أنه فجر يوم النحر خاصة قاله مجاهد
والخامس أنه فجر أول يوم من ذي الحجة قاله الضحاك
والسادس أنه أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة قاله قتادة
قوله تعالى وليال عشر فيها أربعة أقوال
أحدها أنه عشر ذي الحجة رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي ومقاتل (9/103)
والثاني أنها العشر الأواخر من رمضان رواه أبو ظبيان عن ابن عباس
والثالث العشر الأول من رمضان قاله الضحاك
والرابع العشر الأول من المحرم قاله يمان بن رئاب
قوله تعالى والشفع والوتر قرأ حمزة والكسائي وخلف والوتر بكسر الواو وفتحها الباقون وهما لغتان قال الفراء الكسر لقريش وتميم وأسد والفتح لأهل الحجاز
وللمفسرين في الشفع والوتر عشرون قولا
أحدهما أن الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى والوتر ليلة النحر رواه أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
والثاني يوم النحر والوتر يوم عرفة رواه جابر بن عبدالله عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وبه قال ابن عباس وعكرمة والضحاك (9/104)
والثالث أن الشفع والوتر الصلاة منها الشفع ومنها الوتر رواه عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وبه قال قتادة (9/105)
والرابع أن الشفع الخلق كله والوتر الله تعالى رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد في رواية مسروق وأبو صالح
والخامس أن الوتر آدم شفع بزوجته رواه مجاهد عن ابن عباس
والسادس أن الشفع يومان بعد يوم النحر وهو النفر الأول والوتر اليوم الثالث وهو النفر الأخير قاله عبد الله بن الزبير واستدل بقوله تعالى فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه البقرة 203
والسابع أن الشفع صلاة الغداة والوتر صلاة المغرب حكاه عطية
والثامن أن الشفع الركعتان من صلاة المغرب والوتر الركعة الثالثة قاله أبو العالية والربيع بن أنس
والتاسع أن الشفع والوتر الخلق كله منه شفع ومنه وتر قاله ابن زيد ومجاهد في رواية
والعاشر أنه العدد منه شفع ومنه وتر وهذا والذي قبله مرويان عن الحسن
والحادي عشر أن الشفع عشر ذي الحجة والوتر أيام منى الثلاثة قاله الضحاك (9/106)
والثاني عشر أن الشفع هو الله لقوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم المجادلة 7 والوتر هو الله لقوله تعالى قل هو الله أحد قاله سفيان بن عيينة
والثالث عشر أن الشفع هو آدم وحواء والوتر الله تعالى قاله مقاتل ابن سليمان
والرابع عشر أن الشفع الأيام والليالي والوتر اليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة قاله مقاتل بن حيان
والخامس عشر الشفع درجات الجنان لأنها ثمان والوتر دركات النار لأنها سبع فكأن الله أقسم بالجنة والنار قاله الحسين بن الفضل
والسادس عشر الشفع تضاد أوصاف المخلوقين بين عز وذل وقدرة وعجز وقوة وضعف وعلم وجهل وموت وحياة والوتر انفراد صفات الله عز و جل عز بلا ذل وقدرة بلا عجز وقوة بلا ضعف وعلم بلا جهل وحياة بلا موت قاله أبو بكر الوراق
والسابع عشر أن الشفع الصفا والمروة والوتر البيت
والثامن عشر أن الشفع مسجد مكة والمدينة والوتر بيت المقدس
والتاسع عشر أن الشفع القرآن بين الحج والتمتع والوتر الإفراد
والعشرون الشفع العبادات المتكررة كالصلاة والصوم والزكاة (9/107)
والوتر العبادة التي لا تتكرر وهو الحج حكى هذه الأقوال الأربعة الثعلبي
قوله تعالى والليل إذا يسر وقرأ ابن كثير ويعقوب يسري بياء في الوصل والوقف وافقهما في الوصل نافع وأبو عمرو وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي يسر بغير ياء في الوصل والوقف قال الفراء والزجاج الأختيار حذفها لمشاكلتها لرؤوس الآيات ولإتباع المصحف وفي قوله تعالى والليل إذا يسر قولان
أحدهما أن الفعل له ثم فيه قولان أحدهما إذا يسري ذاهبا قاله الجمهور وهو اختيار الزجاج والثاني إذا يسري مقبلا قاله قتادة
والقول الثاني أن الفعل لغيره والمعنى إذا يسري فيه كما يقال ليل نائم أي ينام فيه قاله الأخفش وابن قتيبة
وفي المراد بهذا الليل ثلاثة أقوال
أحدها أنه عام في كل ليلة وهذا الظاهر
والثاني أنه ليلة المزدلفة وهي ليلة جمع قاله مجاهد وعكرمة
والثالث ليلة القدر حكاه الماوردي (9/108)
قوله تعالى هل في ذلك أي هل في ذلك المذكور من الأمور التي أقسمنا بها قسم لذي حجر أي لذي عقل وسمي العقل حجرا لأنه يحجر صاحبه عن القبيح وسمي عقلا لأنه يعقل عمالا يحسن وسمي العقل النهى لأنه ينهى عما لا يحل ومعنى الكلام أن من كان ذا لب علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه دلائل على توحيد الله وقدرته فهو حقيق أن يقسم به لدلالته وجواب القسم قوله تعالى إن ربك لبالمرصاد فأعترض بين القسم وجوابه بقوله تعالى ألم تر كيف فعل ربك بعاد فخوف أهل مكة بإهلاك من كان أشد منهم وقرأ ابن مسعود وابن يعمر بعاد إرم بكسر الدال من غير تنوين على الإضافة
وفي إرم أربعة أقوال
أحدها أنه اسم بلدة قال الفراء ولم يجر إرم لأنها اسم بلدة ثم فيها ثلاثة أقوال أحدها أنها دمشق قاله سعيد بن المسيب وعكرمة (9/109)
وخالد الربعي والثاني الإسكندرية قاله محمد بن كعب والثالث أنها مدينة صنعها شداد بن عاد وهذا قول كعب وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى
والقول الثاني أنه اسم أمة من الأمم ومعناه القديمة قاله مجاهد
والثالث أنه قبيلة من قوم عاد قاله قتادة ومقاتل قال الزجاج (9/110)
وإنما لم تنصرف إرم لأنها جعلت اسما للقبيلة ففتحت وهي في موضع خفض
والرابع أنه اسم لجد عاد لأنه عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح قاله ابن إسحاق قال الفراء فإن كان اسما لرجل على هذا القول فإنما ترك إجراؤه لأنه كالعجمي قال أبو عبيدة هما عادان فالأولى هي إرم وهي التي قال الله تعالى وأنه أهلك عادا الأولى النجم 50
وهل قوم هود عاد الأولى أم لا فيه قولان قد ذكرناهما في النجم
وفي قوله تعالى إرم ذات العماد أربعة أقوال
أحدها لأنهم كانوا أهل عمد وخيام يطلبون الكلأ حيث كان ثم يرجعون الى منازلهم فلا يقيمون في موضع روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة والفراء
والثاني أن معنى ذات العماد ذات الطول روي عن ابن عباس أيضا وبه قال مقاتل وأبو عبيدة قال الزجاج يقال رجل معمد إذا كان طويلا (9/111)
والثالث ذات القوة والشدة مأخوذ من قوة الأعمدة قاله الضحاك
والرابع ذات البناء المحكم بالعماد قاله ابن زيد وقيل إنما سميت ذات العماد لبناء بناه بعضهم
قوله تعالى التي لم يخلق مثلها في البلاد وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو عمران لم تخلق بتاء مفتوحة ورفع اللام مثلها بنصب اللام
وقرأ معاذ القارىء وعمرو بن دينار لم تخلق بنون مفتوحة ورفع اللام مثلها بنصب اللام
وفي المشار إليها قولان
أحدهما لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوة وهذا معنى قول الحسن
والثاني المدينة لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد قاله عكرمة
وقد جاء في التفسير صفات تلك المدينة وهذه الإشارة الى ذلك
روى وهب بن منبه عن عبدالله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فبينما هو في صحارى عدن وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن وحول الحصن قصور كثيرة فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا يسأله عن إبله فلم ير خارجا ولا داخلا فنزل عن دابته وعقلها وسل سيفه ودخل من باب (9/112)
الحصن فلما دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم منهما والبابان مرصعان بالياقوت الأبيض و الأحمر فلما رأى ذلك دهش ففتح أحد البابين فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها وإذا قصور كل قصر فوقه غرف وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت ومصاريع تلك الغرف مثل مصاريع المدينة يقابل بعضها بعضا مفروشة كلها باللؤلؤ وبنادق من مسك وزعفران فلما عاين ذلك ولم ير احدا هاله ذلك ثم نظر الى الأزقة فاذا هو في كل زقاق منها شجر قد أثمر وتحت الشجر أنهار مطردة يجري ماؤها من قنوات من فضة فقال الرجل إن هذه هي الجنة فحمل معه من لؤلؤها ومن بنادق المسك والزعفران ورجع الى اليمن فأظهر ما كان معه وبلغ الأمر الى معاوية فأرسل إليه فقص عليه ما رأى فأرسل معاوية الى كعب الأحبار فلما أتاه قال له يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة قال نعم أخبرك بها وبمن بناها إنما بناها شداد بن عاد والمدينة (9/113)
إرم ذات العماد قال فحدثني حديثها فقال إن عادا المنسوب إليهم عاد الأولى كان له ولدان شديد وشداد فلما مات عاد ثم مات شديد وبقي شداد ملك الأرض ودانت له الملوك وكان مولعا بقراءة الكتب فكان إذا مر بذكر الجنة دعته نفسه الى بناء مثلها عتوا على الله تعالى فأمر بصنع إرم ذات العماد فأمر على عملها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان وكتب الى ملوك الأرض أن يمدوه بما في بلادهم من الجواهر فخرج القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضا موافقة فوقفوا على صحراء عظيمة نقية من التلال وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا هذه صفة الأرض التي أمر الملك أن يبنى بها فوضعوا أساسها من الجزع اليماني وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة وكان عمر شداد تسعمائة سنة فلما أتوه وقد فرغوا منها قال انطلقوا واجعلوا عليها حصنا واجعلوا حول الحصن ألف قصر عند (9/114)
كل قصر ألف علم ليكون في كل قصر من تلك القصور وزير من وزرائي ففعلوا ذلك فأمر الملك الوزراء وهم ألف وزير أن يتهيئوا للنقلة الى إرم ذات العماد وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين ثم ساروا اليها فلما كانوا منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا ولم يبق منهم أحد (9/115)
وروى الشعبي عن دغفل الشياني عن علماء حمير قالوا لما هلك شداد ابن عاد ومن معه من الصيحة ملك بعده ابنه مرثد بن شداد وقد كان أبوه خلفه بحضرموت على ملكه وسلطانه فأمر بحمل أبيه من تلك المفازة الى حضرموت وأمر بدفنه فحفرت له حفيرة في مفازة فاستودعه فيها على سرير من ذهب وألقى عليه سبعين حلة منسوجة بقضبان الذهب ووضع عند رأسه لوحا عظيما من ذهب وكتب عليه
... إعتبر يا أيها المغ ... رور بالعمر المدير ...
... أنا شداد بن عاد ... صاحب الحصن المشيد ...
... وأخو القوة والبأ ... ساء والملك الحشيد (9/116)
دان أهل الأرض طرا ... لي من خوف وعيدي ...
... وملكت الشرق والغر ... ب بسلطان شديد ...
... وبفضل الملك والعد ... دة فيه والعديد ...
... فأتى هود وكنا ... في ضلال قبل هود ...
... فدعانا لو قبلنا ... ه الى الأمر الرشيد ...
... فعصيناه ونادى ... ما لكم هل من محيد ...
... فأتتنا صيحة ته ... وي من الأفق البعيد ...
... فتوافينا كزرع ... وسط بيداء حصيد ...
قوله تعالى وثمود الذين جابوا الصخر قطعوه ونقبوه قال إسحاق والوادي وادي القرى وقرأ الحسن بالوادي بإثبات الياء في الحالين وفرعون ذي الأوتاد مفسر في سورة ص 12 الذين طغوا في البلاد يعني عادا وثمود وفوعون عملوا بالمعاصي وتجبروا على أنبياء الله فأكثروا فيها الفساد القتل والمعاصي فصب عليهم ربك سوط عذاب (9/117)
قال ابن قتيبة وإنما قال سوط عذاب لأن التعذيب قد يكون بالسوط
وقال الزجاج أي جعل سوطهم الذي ضربهم به العذاب إن ربك لبالمرصاد أي يرصد من كفر به بالعذاب والمرصد الطريق وقد شرحناه في قوله تعالى كانت مرصادا النبأ 21
فأما الإنسان إذا ما ابتله ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتله فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول ياليتني قدمت لحياتي فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي
قوله تعالى فأما الإنسان فيمن عنى به أربعة أقوال
أحدها عتبة بن ربيعة وأبو حذيفة بن المغيرة رواه عن ابن عباس
والثاني أبي بن خلف قاله ابن السائب
والثالث أمية بن خلف قاله مقاتل (9/118)
والرابع أنه الكافر الذي لا يؤمن بالبعث قال الزجاج وابتلاه بمعنى اختبره بالغنى واليسر فأكرمه بالمال ونعمه بما وسع عليه من الإفضال فيقول ربي أكرمني فتح ياء ربي أكرمني ربي أهانني أهل الحجاز وأبو عمرو أي فضلني بما أعطاني ويظن أن ما أعطاه من الدنيا لكرامته عليه وأما إذا ما ابتلاه بالفقر فقدر عليه رزقه وقرأ أبو جعفر وابن عامر فقدر بتشديد الدال والمعنى ضيق عليه بأن جعله على مقدار البلغة فيقول ربي أهانني أي هذا الهوان منه لي حين أذلني بالفقر
واعلم أن من لا يؤمن بالبعث فالكرامة عنده زيادة الدنيا والهوان قلتها (9/119)
قوله تعالى كلا أي ليس الأمر كما يظن قال مقاتل ما أعطيت من أغنيت هذا الغنى لكرامته علي ولا أفقرت من أفقرت لهوانه علي وقال الفراء المعنى لم يكن ينبغي له أن يكون هكذا إنما ينبغي أن يحمد الله على الأمرين الفقر والغنى ثم أخبر عن الكفار فقال تعالى بل لا تكرمون اليتيم قرأ أهل البصرة يكرمون و يحضون و يأكلون و يحبون بالياء فيهن والباقون بالتاء ومعنى الآية إني أهنت من أهنت من أجل أنه لا يكرم اليتيم والآية تحتمل معنيين
أحدهما أنهم كانوا لا يبرونه
والثاني لا يعطونه حقه من الميراث وكذلك كانت عادة الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان ويدل على المعنى الأول قوله تعالى ولا تحاضون على طعام المسكين قرأ أبو جعفر وأهل الكوفة تحاضون بألف مع فتح التاء وروى الشيرزي عن الكسائي كذلك إلا أنه ضم التاء والمعنى لا يأمرون بإطعامه لأنهم لا يرجون ثواب الآخرة ويدل على المعنى الثاني قوله تعالى وتأكلون التراث أكلا لما قال ابن قتيبة التراث الميراث والتاء فيه منقلبة عن واو (9/120)
كما قالوا تجاه والأصل وجاه وقالوا تخمة والأصل وخمة و لما أي شديدا وهو من قولك لممت بالشيء إذا جمعته وقال الزجاج هو ميراث اليتامى
قوله تعالى وتحبون المال أي تحبون جمعه حبا جما أي كثير فلا تنفقونه في خير كلا أي ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر ثم أخبر عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم فقال تعالى إذا دكت الأرض دكا دكا أي مرة بعد مرة فتكسر كل شيء عليها وجاء ربك قد ذكرنا هذا المعنى في قوله تعالى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله البقرة 210
قوله تعالى والملك صفا صفا أي تأتي ملائكة كل سماء صفا صفا على حدة قال الضحاك يكونون سبعة صفوف وجيء يومئذ بجهنم روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال قال رسول الله (9/121)
صلى الله عليه و سلم يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها قال مقاتل يجاء بها فتقام عن يسار العرش
قوله تعالى يومئذ أي يوم يجاء بجهنم يتذكر الإنسان أي يتعظ الكافر ويتوب قال مقاتل هو أمية بن خلف وأنى له الذكرى أي كيف له بالتوبة وهي في القيامة لا تنفع يقول يا ليتني قدمت العمل الصالح في الدنيا لحياتي في الآخرة التي لا موت فيها فيومئذ لا يعذب عذابه أحد قرأ الكسائي ويعقوب والمفضل لا يعذب بفتح الذال والباقون بكسرها فمن فتح أراد لا يعذب عذاب الكافر أحد ومن كسر أراد لا يعذب عذاب الله أحد أي كعذابه وهذه القراءة تختص بالدنيا والأولى تختص بالآخرة (9/122)
قوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال
أحدها في حمزة بن عبد المطلب لما استشهد يوم أحد قاله أبو هريرة وبريدة الأسلمي
والثاني في عثمان بن عفان حين أوقف بئر رومة قاله الضحاك
والثالث في خبيب بن عدي لما صلبه أهل مكة قاله مقاتل
والرابع في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حكاه الماوردي
والخامس في جميع المؤمنين قاله عكرمة
وفي معنى المطمئنة ثلاثة أقوال
أحدها المؤمنة قاله ابن عباس وقال الزجاج المطمئنة بالإيمان
والثاني الراضية بقضاء الله قاله مجاهد
والثالث الموقنة بما وعد الله قاله قتادة
واختلفوا في أي حين يقال لها ذلك على قولين
أحدهما عند خروجها من الدنيا قاله الأكثرون
والثاني عند البعث يقال لها ارجعي الى صاحبك والى جسدك فيأمر الله الأرواح أن تعود الى الأجساد رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال عطاء وعكرمة والضحاك (9/123)
وفي قوله تعالى ارجعي الى ربك راضية أربعة أقوال
أحدها ارجعي الى صاحبك الذي كنت في جسده وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس وبه قال عكرمة والضحاك
والثاني ارجعي الى ربك بعد الموت في الدنيا قاله أبو صالح
والثالث ارجعي الى ثواب ربك قاله الحسن
والرابع يا أيتها النفس المطمئنة الى الدنيا ارجعي الى الله تعالى بتركها حكاه الماوردي
قوله تعالى فادخلي في عبادي أي في جملة عبادي المصطفين قال أبو صالح يقال لها عند الموت ارجعي الى ربك فإذا كان يوم القيامة قيل لها فادخلي في عبادي وقال الفراء ادخلي مع عبادي وقرأ سعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب وابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو العالية وأبو عمران في عبدي على التوحيد قال الزجاج فعلى هذه القراءة والله أعلم (9/124)
يكون المعنى ارجعي الي ربك أي الى صاحبك الذي خرجت منه فادخلي فيه (9/125)
سورة البلد
وهي مكية كلها بإجماعهم بسم الله الرحمن الرحيم
لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين
قوله تعالى لا أقسم قال الزجاج المعنى أقسم و لا دخلت توكيدا كقوله تعالى لئلا يعلم أهل الكتاب الحديد 29 وقرأ عكرمة ومجاهد وأبو عمران وأبو العالية لأقسم قال الزجاج وهذه القراءة بعيدة في العربية وقد شرحنا هذا في أول القيامة
قوله تعالى وأنت حل بهذا البلد فيه ثلاثة أقوال (9/126)
و البلد هاهنا مكة
أحدها حل لك ما صنعت في هذا البلد من قتل أو غيره قاله ابن عباس ومجاهد قال الزجاج يقال رجل حل وحلال ومحل قال المفسرون والمعنى إن الله تعالى وعد نبيه أن يفتح مكة على يديه بأن يحلها له فيكون فيها حلا
والثاني فأنت محل بهذا البلد غير محرم في دخوله يعني عام الفتح قاله الحسن وعطاء
والثالث أن المشركين بهذا البلد يستحلون إخراجك وقتلك ويحرمون قتل الصيد حكاه الثعلبي
قوله تعالى ووالد وما ولد فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه آدم وما ولد قاله الحسن ومجاهد والضحاك وقتادة (9/127)
والثاني أولاد إبراهيم وما ولد ذريته قاله أبو عمران الجوني
والثالث أنه عام في كل والد وما ولد حكاه الزجاج
قوله تعالى لقد خلقنا الإنسان هذا جواب القسم
وفيمن عنى بالإنسان خمسة أقوال
أحدهما أنه اسم جنس وهو معنى قول ابن عباس
والثاني أنه أبو الأشدين الجمحي وقد سبق ذكره المدثر 29 والانفطار 5 قاله الحسن (9/128)
والثالث أنه الحارث بن عامر بن نوفل وذلك أنه أذنب ذنبا فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بالكفارة فقال لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد قاله مقاتل
والرابع آدم عليه السلام قاله ابن زيد
والخامس الوليد بن المغيرة حكاه الثعلبي
قوله تعالى في كبد فيه ثلاثة أقوال
أحدها في نصب رواه الوالبي عن ابن عباس وبه قال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو عبيدة فإنهم قالوا في شدة قال الحسن يكابد الشكر على السراء والصبر على الضراء لأنه لا يخلو من أحدهما ويكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة قال ابن قتيبة في شدة غلبة ومكابدة لأمور الدنيا والآخرة فعلى هذا يكون من مكابدة الأمر وهي معاناته
والثاني أن المعنى خلق منتصبا يمشي على رجلين وسائر الحيوان (9/129)
غير منتصب رواه مقسم عن ابن عباس وبه قال عكرمة والضحاك وعطية والفراء فعلى هذا يكون معنى الكبد الإستواء والإستقامة
والثالث في وسط السماء قال ابن زيد لقد خلقنا الإنسان يعني آدم في كبد أي في وسط السماء
قوله تعالى أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يعني الله عز و جل أي أيحسب أن لن نقدر على بعثه ومعاقبته يقول أهلكت مالا لبدا أي كثيرا قال أبو عبيدة هو فعل من التلبد وهو المال الكثير بعضه على بعض قال ابن قتيبة وهو المال المتلبد (9/130)
كأن بعضه على بعض قال الزجاج وهو فعل للكثرة كما يقال رجل حطم إذا كان كثير الحطم وقرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعائشة وأبو عبد الرحمن وقتادة وأبو العالية وأبو جعفر لبدا بضم اللام وتشديد الباء مفتوحة وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو المتوكل وأبو عمران لبدا بفتح اللام وتسكين الباء خفيفة وقرأ عثمان بن عفان والحسن ومجاهد لبدا برفع اللام والباء وتخفيفهما وقرأ علي وابن أبي الجوزاء لبدا بكسر اللام وفتح الباء مخففة
وفيما قال لأجله ذلك قولان
أحدهما أنه أراد أهلكت مالا كثيرا في عداوة محمد قاله ابن السائب فكأنه استطال بما أنفق
والثاني أنفقت في سبيل الله وفي الكفارات مالا كثيرا قاله مقاتل فكأنه ندم على ما أنفق
قوله تعالى أيحسب أن لم يره أحد يعني الله عز و جل والمعنى أيظن أن الله لم ير نفقته ولم يحصها وكان قد ادعى ما لم ينفق (9/131)
قوله تعالى ألم نجعل له عينين والمعنى ألم نفعل به ما يدل على أن الله قادر على بعثه
قوله تعالى وهديناه النجدين فيه ثلاثة أقوال
أحدها سبيل الخير والشر قاله علي والحسن والفراء وقال ابن قتيبة يريد طريق الخير والشر وقال الزجاج النجدان الطريقان الواضحان والنجد المرتفع من الأرض فالمعنى ألم نعرفه طريق الخير والشر كتبين الطريقين العاليين
والثاني سبيل الهدى والضلال قاله ابن عباس وقال مجاهد هو سبيل الشقاوة والسعادة
والثالث الثديان ليتغذى بلبنهما روي عن ابن عباس أيضا وبه قال ابن المسيب والضحاك وقتادة
فلا أقتحم العقبة وما أدرسك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة عليهم نار مؤصدة (9/132)
قوله تعالى فلا اقتحم العقبة قال أبو عبيدة فلم يقتحم العقبة في الدنيا وقال ابن قتيبة فلا هو اقتحم العقبة قال الفراء لم يضم الى قوله تعالى فلا اقتحم العقبة كلاما آخر فيه لا والعرب لا تكاد تفرد لا في الكلام حتى يعيدوها عليه في كلام آخر كقوله تعالى فلا صدق ولا صلى القيامة 31 ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون البقرة 62 ومعنى لا مأخوذ من آخر هذا الكلام فاكتفى بواحدة من الأخرى ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة فقال فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسبغة ثم كان من الذين آمنوا ففسرها بثلاثة أشياء فكأنه كان في أول الكلام فلا فعل ذا ولا ذا وذهب ابن زيد في آخرين الى أن المعنى أفلا اقتحم العقبة على وجه الإستفهام والمعنى فهلا أنفق ماله في فك الرقاب والإطعام ليجاوز بذلك العقبة
فأما الإقتحام فقد بيناه في ص 59
وفي العقبة سبعة أقوال
أحدها أنه جبل في جهنم قاله ابن عمر (9/133)
والثاني عقبة دون الجسر قاله الحسن
والثالث سبعون دركة في جهنم قاله كعب
والرابع الصراط قاله مجاهد والضحاك
والخامس نار دون الجسر قاله قتادة
والسادس طريق النجاة قاله ابن زيد
والسابع أن ذكر العقبة هاهنا مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة يقول لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام ذكره علي بن أحمد النيسابوري في آخرين
قوله تعالى وما أدراك ما القعبة قال سفيان بن عينية كل ما فيه وما أدراك فقد أخبره وكل ما فيه وما يدريك فإنه لم يخبره به قال المفسرون المعنى وما أدراك ما اقتحام العقبة ثم بينه فقال تعالى (9/134)
فك رقبة قرأ ابن كثير وأبوه عمرو إلا عبد الوارث والكسائي والداجوني عن ابن ذكوان فك بفتح الكاف رقبة بالنصب أوأطعم بفتح الهمزة والميم وسكون الطاء من غير ألف وقرأ عاصم وابن عامر ونافع وحمزة فك بالرفع رقبة بالخفض أو إطعام بالألف ومعنى فك الرقبة تخليصها من أسر الرق وكل شيء أطلقته فقد فككته ومن قرأ فك رقبة على الفعل فهو تفسير اقتحام العقبة بالفعل واختاره الفراء لقوله تعالى ثم كان من الذين آمنوا قال ابن قتيبة والمسغبة المجاعة يقال سغب يسغب سغوبا إذا جاع يتيما ذا مقربة أي ذا قرابة أو مسكينا ذا متربة أي ذا فقر كأنه لصق بالتراب وقال ابن عباس هو المطروح في التراب لايقيه شيء ثم بين أن هذه القرب إنما تنفع مع الإيمان بقوله تعالى ثم كان من الذين آمنوا و ثم هاهنا بمعنى الواو كقوله تعالى ثم الله شهيد يونس 46 (9/135)
قوله تعالى وتواصوا بالصبر على فرائض الله وأمره وتواصوا بالمرحمة أي بالتراحم بينهم وقد ذكرنا أصحاب الميمنة والمشأمة في الواقعة 7 8 قال الفراء و المؤصدة المطبقة قال مقاتل يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب ولايخرج منها غم ولا يدخل فيها روح آخر الأبد وقال ابن قتيبة يقال أوصدت الباب وآصدته إذا أطبقته وقال الزجاج المعنى أن العذاب مطبق عليهم وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم موصدة بغير همز هاهنا وفي الهمزة 8 وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم بالهمز في الموضعين (9/136)
سورة الشمس
وهي مكيه كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها
قوله تعالى والشمس وضحاها في المراد بضحاها ثلاثة أقوال
أحدها ضوؤها قاله مجاهد والزجاج والضحى حين يصفو ضوء الشمس بعد طلوعها
والثاني النهار كله قاله قتادة وابن قتيبة
والثالث حرها قاله السدي ومقاتل والقمر إذا تلاها فيه قولان (9/137)
أحدهما إذا تبعها قاله ابن عباس في آخرين ثم في وقت اتباعه لها ثلاثة أقوال أحدهما أنه في أول ليلة من الشهر يرى القمر إذا سقطت الشمس قال قتادة والثاني أنه في الخامس عشر يطلع القمر مع غروب الشمس حكاه الماوردي والثالث أنه في النصف الأول من الشهر إذا غربت تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور حكاه علي بن أحمد النيسابوري
والقول الثاني إذا ساواها قاله مجاهد وقال غيره إذا استدار فتلا الشمس في الضياء والنور وذلك في الليالي البيض
قوله تعالى والنهار إذا جلاها في المكني عنها قولان
أحدهما أنها الشمس قاله مجاهد فيكون المعنى والنهار إذا بين الشمس لأنها تتبين إذا انبسط النهار
والثاني أنها الظلمة فيكون كناية عن غير مذكور لأن المعنى معروف كما تقول أصبحت باردة وهبت شمالا وهذا قول الفراء واللغويين
والليل إذا يغشاها أي يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق
قوله تعالى والسماء وما بناها في ما قولان (9/138)
أحدهما بمعنى من تقديره ومن بناها قاله الحسن ومجاهد وأبو عبيدة وبعضهم يجعلها بمعنى الذي
والثاني أنها بمعنى المصدر تقديره وبنائها وهذا مذهب قتادة والزجاج وكذلك القول في وما طحاها وما سواها وقد قرأ أبو عمران الجوني في آخرين ومن بناها ومن طحاها ومن سواها كله بالنون قال أبو عبيدة ومعنى طحاها بسطها يمينا وشمالا ومن كل جانب قال ابن قتيبة يقال خير طاح أي كثير متسع
وفي المراد بالنفس ها هنا قولان
أحدهما آدم قاله الحسن
والثاني جميع النفوس قاله عطاء وقد ذكرنا معنى سواها في (9/139)
قوله تعالى فسواك فعدلك الإنفطار 7 فألهمها فجورها وتقواها الإلهام إيقاع الشيء في النفس قال سعيد بن جبير ألزمها فجورها وتقواها
وقال ابن زيد جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها للفجور (9/140)
قوله تعالى قد أفلح من زكاها قال الزجاج هذا جواب القسم والمعنى لقد أفلح ولكن اللام حذفت لأن الكلام طال فصار طوله عوضا منها قال ابن الأنباري جوابه محذوف وفي معنى الكلام قولان
أحدهما قد أفلحت نفس زكاها الله عز و جل قاله ابن عباس ومقاتل والفراء والزجاج
والثاني قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال قاله قتادة وابن قتيبة ومعنى زكاها أصلحها وطهرها من الذنوب وقد خاب من دساها فيه قولان كالذي قبله
فإن قلنا إن الفعل لله فمعنى دساها خذلها وأخملها وأخفى محلها بالكفر والمعصية ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح
وإن قلنا الفعل للإنسان فمعنى دساها أخفاها بالفجور قال الفراء ويروى أن دساها دسسها لأن البخيل يخفي منزله وماله وقال ابن قتيبة المعنى دسى نفسه أي أخفاها بالفجور والمعصية والأصل من دسست (9/141)
فقلبت السين ياء كما قالوا قصيت أظفاري أي قصصتها فكأن النطف بارتكاب الفواحش دس نفسه وقمعها ومصطنع المعروف شهر نفسه ورفعها وكانت أجواد العرب تنزل الربا للشهرة واللئام تنزل الأطراف لتخفي أماكنها وقال الزجاج معنى دساها جعلها قليلة خسيسة
كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقيها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواه ولا يخاف عقبها
قوله تعالى كذبت ثمود بطغواها أي كذبت رسولها بطغيانها
والمعنى أن الطغيان حملهم على التكذيب قال الفراء أراد بطغواها طغيانها وهما مصدران إلا أن الطغوى أشكل برؤوس الآيات فاختير لذلك وقيل كذبوا العذاب إذ انبعث أي انتدب أشقاها وهو عاقر الناقة لعقرها فقال لهم رسول الله وهو صالح ناقة الله قال الفراء نصب (9/142)
الناقة على التحذير وكل تحذير فهو نصب قال ابن قتيبة المعنى احذروا ناقة الله وشربها وقال الزجاج المعنى ذروا ناقة الله و ذروا سقياها قال المفسرون سقياها شربها من الماء والمعنى لا تتعرضوا ليوم شربها فكذبوه في تحذيره إياهم العذاب بعقرها فعقروها وقد بينا معنى العقر في الأعراف 77 فدمدم عليهم ربهم قال الزجاج أي أطبق عليهم العذاب يقال دمدمت على الشيء إذا أطبقت فكررت الإطباق وقال المؤرج الدمدمة إهلاك بإستئصال
وفي قوله تعالى فسواها قولان
أحدهما سوى بينهم في الإهلاك قاله السدي ويحيى بن سلام وقيل سوى الدمدمة عليهم والمعنى أنه أهلك صغيرهم وكبيرهم
والثاني سوى الأرض عليهم قال مقاتل سوى بيوتهم على قبورهم
وكانوا قد حفروا قبورا فاضطجعوا فيها فلما صيح بهم فهلكوا زلزلت بيوتهم فوقعت على قبورهم
قوله تعالى ولا يخاف عقباها قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر فلا يخاف بالفاء وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام وقرأ الباقون (9/143)
بالواو وكذلك هي في مصاحف مكة والكوفة والبصرة
وفي المشار اليه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الله عز و جل فالمعنى لا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم ولا يخشى عقبى ما صنع قاله ابن عباس والحسن
والثاني أنه الذي عقرها فالمعنى أنه لم يخف عقبى ما صنع وهذا مذهب الضحاك والسدي وابن السائب فعلى هذا الكلام تقديم وتأخير تقديره إذ انبعث أشقاها وهو لا يخاف عقباها
والثالث أنه نبي الله صالح لم يخف عقباها حكاه الزجاج (9/144)
سورة الليل
وهي مكية كلها بإجماعهم بسم الله الرحمن الرحيم
والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى
قوله تعالى والليل إذا يغشى قال ابن عباس يغشى بظلمته النهار وقال الزجاج يغشى الأفق ويغشى جميع ما بين السماء والأرض والنهار إذا تجلى أي بان وظهر من بين الظلمة وما خلق الذكر والأنثى في ما قولان وقد ذكرناهما عند قوله تعالى وما بناها الشمس 5 وفي الذكر والأنثى قولان
أحدهما آدم وحواء قاله ابن السائب ومقاتل (9/145)
والثاني أنه عام ذكره الماوردي قوله تعالى إن سعيكم لشتى هذا جواب القسم قال ابن عباس إن أعمالكم لمختلفة عمل للجنة وعمل للنار وقال الزجاج سعي المؤمن والكافر مختلف بينهما بعد
وفي سبب نزول هذه السورة قولان
أحدهما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه اشترى بلالا من أمية وأبي ابني خلف ببردة وعشرة أواق فأعتقه فأنزل الله عز و جل والليل الى قوله تعالى إن سعيكم لشتى يعني سعي أبي بكر وأمية وأبي قاله عبد الله بن مسعود
والثاني أن رجلا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال وكان الرجل إذا صعد النخلة ليأخذ منها الثمر فربما سقطت الثمرة فيأخذها صبيان الفقير فينزل الرجل من نخلته حتى يأخذ الثمرة من أيديهم فإن وجدها في فم (9/146)
أحدهم أدخل أصبعه حتى يخرجها فشكا ذلك الرجل الى النبي صلى الله عليه و سلم فلقي النبي صلى الله عليه و سلم صاحب النخلة فقال تعطني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة فقال الرجل إن لي نخلا وما فيه نخلة أعجب إلي منها ثم ذهب الرجل فقال رجل ممن سمع ذلك الكلام يا رسول الله أتعطيني نخلة في الجنة إن أنا أخذتها قال نعم فذهب الرجل فلقي صاحب النخلة فساومها منه فقال له أما شعرت أن محمدا أعطاني بها نخلة في الجنة فقلت ما لي نخلة أعجب إلي منها فقال له أتريد بيعها قال لا إلا أن أعطى بها مالا أظنني أعطى قال ما مناك قال أربعون نخلة فقال أنا أعطيك أربعين نخلة فأشهد له ناسا ثم ذهب الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إن النخلة قد صارت في ملكي وهي لك فذهب رسول الله صلى الله عليه و سلم الى صاحب الدار فقال النخلة لك ولعيالك فأنزل الله عز و جل والليل إذا يغشى الى قوله تعالى إن سعيكم لشتى رواه عكرمة عن ابن عباس وقال عطاء الذي اشتراها من الرجل أبو الدحداح (9/147)
أخذها بحائط له فأنزل الله تعالى هذه الآيات الى قوله تعالى إن سعيكم لشتى أبو الدحداح وصاحب النخلة
قوله تعالى فأما من أعطى وأتقى قال ابن مسعود يعني أبا بكر الصديق هذا قول الجمهور وقال عطاء هو أبو الدحداح
وفي المراد بهذا العطاء ثلاثة أقوال
أحدها أعطى من فضل ماله قاله ابن عباس (9/148)
والثاني أعطى الله الصدق من قبله قاله الحسن
والثالث أعطى حق الله عليه قاله قتادة
وفي قوله تعالى واتقى ثلاثة أقوال
أحدها اتقى الله قاله ابن عباس
والثاني اتقى البخل قاله مجاهد
والثالث اتقى محارم الله التي نهى عنها قاله قتادة
وفي الحسنى ستة أقوال
أحدها أنه لا إله إلا الله رواه عطية عن ابن عباس وبه قال الضحاك
والثاني الخلف رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن
والثالث الجنة قاله مجاهد
والرابع نعم الله عليه قاله عطاء
والخامس بوعد الله أن يثيبه قاله قتادة ومقاتل
والسادس الصلاة والزكاة والصوم قاله زيد بن أسلم
قوله تعالى فسنيسره لليسرى ضم أبو جعفر سين اليسرى وسين العسرى وفيه قولان
أحدهما للخير قاله ابن عباس والمعنى نيسر ذلك عليه (9/149)
والثاني للجنة قاله زيد بن أسلم
وأما من بخل قال ابن مسعود يعني ذلك أمية وأبي ابني خلف وقال عطاء هو صاحب النخلة
قال المفسرون وأما من بخل بالنفقة في الخير والصدقة وقال قتادة بحق الله عز و جل واستغنى عن ثواب الله فلم يرغب فيه وكذب بالحسنى وقد سبقت الأقوال فيها
وفي العسرى قولان
أحدهما النار قاله ابن مسعود
والثاني الشر قاله ابن عباس والمعنى سنهيؤه للشر فيؤديه الى الأمر العسير وهو عذاب النار
ثم ذكر أن ما أمسكه من ماله لا ينفعه فقال تعالى وما يغنى عنه ماله الذي بخل به عن الخير إذا تردى وفيه قولان
أحدهما إذا تردى في جهنم قاله ابن عباس وقتادة والمعنى إذا سقط فيها (9/150)
والثاني إذا مات فتردى في قبره قاله مجاهد
إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى
قوله تعالى إن علينا للهدى قال الزجاج المعنى إن علينا ان نبين طريق الهدى من طريق الضلالة وإن لنا للآخرة والأولى أي فليطلبا منا فأنذرتكم نارا تلظى أي توقد وتتوهج لا يصلاها إلا الأشقى يعني المشرك الذي كذب الرسول وتولى عن الإيمان قال أبو عبيدة الأشقى بمعنى الشقي والعرب تضع أفعل في موضع فاعل قال طرفة
... تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد ...
قال الزجاج وهذه الآية التي من أجلها زعم أهل الإرجاء أنه لا يدخل (9/151)
النار إلا كافر وليس الأمر كما ظنوا هذه نار موصوفة بعينها ولأهل النار منازل فلو كان كل من لا يشرك لا يعذب لم يكن في قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء 48 فائدة وكان ويغفر ما دون ذلك كلاما لا معنى له
قوله تعالى وسيجنبها أي يبعد عنها فيجعل منها على جانب الأتقى يعني أبا بكر الصديق في قول جميع المفسرين الذي يؤتي ماله يتزكى أي يطلب أن يكون عنه الله زاكيا ولا يطلب الرياء ولا السمعة وما لأحد عنده من نعمة تجزى أي لم يفعل ذلك مجازاة ليد أسديت إليه
وروى عطاء عن ابن عباس أن أبا بكر لما اشترى بلالا بعد أن كان يعذب قال المشركون ما فعل أبو بكر ذلك إلا ليد كانت لبلال عنده فأنزل الله تعالى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى
أي إلا طلبا لثواب ربه قال الفراء و إلا بمعنى لكن ونصب ابتغاء على إضمار إنفاقه فالمعنى وما ينفق إلا ابتغاء وجه ربه (9/152)
قوله تعالى ولسوف يرضى أي بما يعطى في الجنة من الثواب (9/153)
سورة الضحى
وهي مكية كلها بإجماعهم
اتفق المفسرون على أن هذه السورة نزلت بعد انقطاع الوحي مدة
ثم اختلفوا في سبب انقطاعه على ثلاثة أقوال
أحدها أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذي القرنين وعن أصحاب الكهف وعن الروح فقال سأخبركم غدا ولم يقل إن شاء الله فأحتبس عنه الوحي
والثاني لقلة النظافة في بعض أصحابه وقد ذكرنا هذين القولين في سورة مريم 65
والثالث لأجل جرو كان في بيته قاله زيد بن أسلم (9/154)
وفي مدة احتباسه عنه أقوال قد ذكرناها في مريم 66
وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث جندب قال قالت امرأة من قريش للنبي صلى الله عليه و سلم ما أرى شيطانك إلا قد ودعك فنزلت والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى جندب هو ابن سفيان والمرأة يقال لها أم جميل امرأة أبي لهب (9/155)
بسم الله الرحمن الرحيم
والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث
وفي المراد بالضحى أربعة أقوال
أحدها ضوء النهار قاله مجاهد
والثاني صدر النهار قاله قتادة
والثالث أول ساعة من النهار إذا ترحلت الشمس قاله السدي ومقاتل
والرابع النهار كله قاله الفراء
وفي معنى سجى خمسة أقوال
أحدها أظلم
والثاني ذهب رويا عن ابن عباس
والثالث أقبل قاله سعيد بن جبير
والرابع سكن قاله عطاء وعكرمة وابن زيد فعلى هذا في معنى سكن قولان
أحدهما استقر ظلامه قال الفراء سجى بمعنى أظلم وركد في (9/156)
طوله كما يقال بحر ساج وليل ساج إذا ركد وأظلم ومعنى ركد سكن قال أبو عبيدة يقال ليلة ساجية وساكنة وشاكرة قال الحادي
... يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النساج ...
قال ابن قتيبة سجى بمعنى سكن وذلك عند تناهي ظلامه وركوده
والثاني سكن الخلق فيه ذكره الماوردي
والخامس امتد ظلامه قاله ابن الأعرابي
قوله تعالى ما ودعك ربك وقرأ عمر بن الخطاب وأنس وعروة وأبو العالية وابن يعمر وابن أبي عبلة وأبو حاتم عن يعقوب ما ودعك بتخفيف الدال وهذا جواب القسم قال أبو عبيدة ما ودعك من التوديع كما يودع المفارق و ما ودعك مخففة من ودعه يدعه وما قلى أي أبغض
قوله تعالى وللآخرة خير لك من الأولى قال عطاء خير لك من الدنيا وقال غيره الذي لك في الآخرة أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا
قوله تعالى ولسوف يعطيك ربك في الآخرة من الخير فترضى بما تعطى قال علي والحسن هو الشفاعة في أمته حتى يرضى قال ابن عباس (9/157)
عرض على رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يفتح على أمته من بعده كفرا كفرا فسر بذلك فأنزل الله عز و جل وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى
قوله تعالى ألم يجدك يتيما فآوى فيه قولان
أحدهما جعل لك مأوى إذا ضمك الى عمك أبي طالب فكفاك المؤونة قاله مقاتل
والثاني جعل لك مأوى لنفسك أغناك عن كفالة أبي طالب قاله ابن السائب
قوله تعالى ووجدك ضالا فهدى فيه ستة أقوال
أحدها ضالا عن معالم النبوة وأحكام الشريعة فهداك إليها قاله الجمهور منهم الحسن والضحاك
والثاني أنه ضل وهو صبي صغير في شعاب مكة فرده الله الى جده عبد المطلب رواه أبو الضحى عن ابن عباس (9/158)
والثالث أنه لما خرج مع ميسرة غلام خديجة أخذ إبليس بزمام ناقته فعدل به عن الطريق فجاء جبريل فنفخ إبليس نفخة وقع منها الى الحبشة ورده إلى القافلة فمن الله عليه بذلك قاله سعيد بن المسيب
والرابع أن المعنى ووجدك في قوم ضلال فهداك للتوحيد والنبوة قاله ابن السائب
والخامس ووجدك نسيا فهداك إلى الذكر ومثله أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى البقرة 282 قاله ثعلب
والسادس ووجدك خاملا لاتذكر ولا تعرف فهدى الناس إليك حتى عرفوك قاله عبد العزيز بن يحيى ومحمد بن علي الترمذي
قوله تعالى ووجدك عائلا قال أبو عبيدة أي ذا فقر وأنشد ... وما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل ...
أي يفتقر قال ابن قتيبة العائل الفقير كان له عيال أو لم يكن يقال عال الرجل إذا افتقر وأعال إذا كثر عياله
قوله تعالى فأغنى قولان
أحدهما رضاك بما أعطاك من الرزق قاله ابن السائب واختاره الفراء
وقال لم يكن غناه عن كثرة المال ولكن الله رضاه بما آتاه (9/159)
والثاني فأغناك بمال خديجة عن أبي طالب قاله جماعة من المفسرين
قوله تعالى فأما اليتيم فلا تقهر فيه قولان
أحدهما لاتحقر قاله مجاهد
والثاني لاتقهره على ماله قاله الزجاج وأما السائل ففيه قولان
أحدهما سائل البر قاله الجمهور والمعنى إذا جاءك السائل فإما أن تعطيه وإما أن ترده ردا لينا ومعنى فلا تنهر لا تنهره يقال نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره
والثاني أنه طالب العلم قاله يحيى بن آدم في آخرين
قوله تعالى وأما بنعمة ربك فحدث في النعمة ثلاثة أقوال
أحدهما النبوة
والثاني القرآن رويا عن مجاهد
والثالث أنها عامة في جميع الخيرات وهذا قول مقاتل وقد روي عن مجاهد قال قرأت على ابن عباس فلما بلغت والضحى قال كبر إذا (9/160)
ختمت كل سورة حتى تختم وقد قرأت على أبي بن كعب فأمرني بذلك قال علي بن أحمد النيسابوري ويقال إن الأصل في ذلك أن الوحي لما فتر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال المشركون قد هجره شيطانه وودعه اغتم لذلك فلما نزل والضحى كبر عند ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فرحا بنزول الوحي فاتخذه الناس سنة (9/161)
سورة الأنشراح
مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب
قوله تعالى ألم نشرح لك صدرك الشرح الفتح بإذهاب ما يصد عن الإدراك والله تعالى فتح صدر نبيه للهدى والمعرفة بإذهاب الشواغل التي تصدر عن إدراك الحق ومعنى هذا الإستفهام التقرير أي قد فعلنا ذلك ووضعنا عنك وزرك أي حططنا عنك إثمك الذي سلف في الجاهلية قاله ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والفراء وابن قتيبة في آخرين وقال الزجاج المعنى أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال ابن قتيبة وأصل (9/162)
الوزر ما حمله الإنسان على ظهره فشبه بالحمل فجعل مكانه ومعنى أنقض ظهرك أثقله حتى سمع نقيضة أي صوته وهذا مثل يعني أنه لو كان حملا يحمل لسمع نقيض الظهر منه وذهب قوم الى أن المراد بهذا تخفيف أعباء النبوة التي يثقل القيام بها الظهر فسهل الله له ذلك حتى تيسر عليه الأمر وممن ذهب الى هذا عبد العزيز بن يحيى
قوله تعالى ورفعنا لك ذكرك فيه خمسة أقوال ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول ص - أنه سأل جبريل عن هذه الآية فقال قال الله عز و جل إذا ذكرت ذكرت معي قال قتادة فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وهذا قول الجمهور
والثاني رفعنا لك ذكرك بالنبوة قاله يحيى بن سلام
والثالث رفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا حكاه الماوردي (9/163)
والرابع رفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء
والخامس بأخذ الميثاق لك على الأنبياء وإلزامهم الإيمان بك والإقرار بفضلك حكاهما الثعلبي
قوله تعالى فإن مع العسر يسرا ضم سين العسر وسين اليسر أبو جعفر و العسر مذكور في الآيتين بلفظ التعريف و اليسر مذكور بلفظ التنكير فدل على أن العسر واحد واليسر اثنان قال ابن مسعود وابن عباس في هذه الآية لن يغلب عسر يسرين قال الفراء العرب إذا ذكرت نكرة ثم أعادتها بنكرة صارت اثنتين كقولك إذا كسبت درهما فأنفق درهما فالثاني غير الأول وإذا أعادتها معرفة فهي كقولك إذا كسبت درهما فأنفق الدرهم فالثاني هو الأول ونحو هذا قال الزجاج ذكر العسر بالألف واللام ثم ثنى ذكره فصار المعنى إن مع العسر يسرين وقال الحسين بن يحيى الجرجاني ويقال له صاحب النظم معنى الكلام لا يحزنك ما يعيرك به المشركون من الفقر فإن مع العسر يسرا عاجلا في الدنيا فأنجزه بما وعده بما فتح عليه ثم ابتدأ فصلا آخر فقال إن مع العسر يسرا والدليل على ابتدائه تعريه من الفاء والواو وهو وعد لجميع المؤمنين أن مع عسر المؤمنين يسرا في الآخرة فمعنى قولهم لن يغلب عسر يسرين لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعده الله المؤمنين في الدنيا فاليسر الذي وعدهم في الآخرة (9/164)
إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا فأما يسر الآخرة فدائم لا ينقطع كقوله صلى الله عليه و سلم شهرا عيد لا ينقصان أي لا يجتمعان في النقص وحكي عن العتبي قال (9/165)
كنت ذات ليلة في البادية بحالة من الغم فألقي في روعي بيت من الشعر فقلت
... أرى الموت لمن أحب ... ح مغموما له أروح ...
فلما جن الليل سمعت هاتفا يهتف
... ألا يا أيها المرء ال ... لذي الهم به برح ...
... وقد أنشد بيتا لم ... يزل في فكره يسنح ...
... إذا اشتد بك العسر ... ففكر في ألم نشرح ...
... فعسر بين يسرين ... إذا أبصرته فافرح ...
فحفظت الأبيات وفرج الله غمي
قوله تعالى فإذا فرغت فانصب أي فادأب في العمل وهو من النصب والنصب التعب الدؤوب في العمل
وفي معنى الكلام خمس أقوال
أحدها فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل قاله ابن مسعود
والثاني فإذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء قاله ابن عباس والضحاك ومقاتل (9/166)
والثالث فإذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك قاله مجاهد
والرابع فإذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك قاله الشعبي والزهري
والخامس إذا صح بدنك فاجعل صحتك نصبا في العبادة ذكره علي ابن أبي طلحة والى ربك فارغب قال الزجاج اجعل رغبتك الى الله عز و جل وحده (9/167)
سورة التين
وفيها قولان
أحدهما مكية قاله الجمهور منهم الحسن وعطاء
والثاني أنها مدنية حكاه الماوردي عن ابن عباس وقتادة
بسم الله الرحمن الرحيم
والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين
قوله تعالى والتين والزيتون فيهما سبعة أقوال
أحدها أنه التين المعروف والزيتون المعروف قاله ابن عباس والحسن وعطاء ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد وإبراهيم وذكر بعض المفسرين (9/168)
أنه إنما أقسم بالتين لأنها فاكهة مخلصة من شائب التنغيص وهو يدل على قدرة من هيأه على تلك الصفة وجعل الواحدة منه على مقدار اللقمة وإنما أقسم بالزيتون لكثرة الأنتفاع به
والثاني أن التين مسجد نوح عليه السلام الذي بنى على الجودي والزيتون بيت المقدس رواه عطية عن ابن عباس
والثالث التين المسجد الحرام والزيتون المسجد الأقصى قاله الضحاك
والرابع التين مسجد دمشق والزيتون بيت المقدس قاله كعب وقتادة وابن زيد
والخامس أنهما جبلان قاله عكرمة في رواية وروي عن قتادة قال التين الجبل الذي عليه دمشق والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس
والسادس أن التين مسجد أصحاب الكهف والزيتون مسجد إيلياء قاله القرظي
والسابع أن التين جبال ما بين حلوان الى همذان والزيتون جبال بالشام حكاه الفراء
فأما طور سينين فالطور جبل وفيه قولان (9/169)
أحدهما أنه الجبل الذي كلم الله موسى عليه قاله كعب الأحبار في الأكثرين
والثاني أنه جبل بالشام قاله قتادة
فأما سينين فهو لغة في سيناء وقد قرأ علي وسعد بن أبي وقاص وأبو العالية وأبو مجلز وطور سيناء ممدودة مهموزة مفتوحة السين وقرأ ابن مسعود وأبو الدرداء وأبو حيوة وطور سيناء مثلهم إلا أنهم كسروا السين وقرأ أبو رجاء والجحدري سينين كما في المصحف لكنهما فتحا السين وقال ابن الأنباري سينين هو سيناء
واختلفوا في معناه فقيل معناه الحسن وقيل المبارك وقيل إنه اسم للشجر الذي حوله وقد شرحنا هذا في سورة المؤمنين 20 قال الزجاج وقد قرىء هاهنا وطور سيناء وهو أشبة لقوله تعالى وشجرة تخرج من طور سيناء المؤمنون 20 وقال مقاتل كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسيناء بلغة النبط
قوله تعالى وهذا البلد الأمين يعني مكة يأمن فيه الخائف في الجاهلية (9/170)
والإسلام قال الفراء ومعنى الأمين الآمن والعرب تقول للأمين آمن
قال الشاعر
... ألم تعلمي يا أسم ويحك أنني ... حلفت يمينا لا أخون أميني ...
يريد آمني
قوله تعالى لقد خلقنا الإنسان هذا جواب القسم وفي المراد بالإنسان هاهنا خمسة أقوال
أحدها أنه كلدة بن أسيد قاله ابن عباس
والثاني الوليد بن المغيرة قاله عطاء
والثالث أبو جهل بن هشام
والرابع عتبة وشيبة حكاهما الماوردي (9/171)
والخامس أنه اسم جنس وهذا مذهب كثير من المفسرين وهو معنى قول مقاتل
قوله تعالى في أحسن تقويم فيه أربعة أقوال
أحدها في أعدل خلق
والثاني منتصب القامة رويا عن ابن عباس
والثالث في أحسن صورة قاله أبو العالية
والرابع في شباب وقوة قاله عكرمة ثم رددناه أسفل سافلين فيه قولان
أحدهما الى أرذل العمر رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال عكرمة وإبراهيم وقتادة وقال الضحاك الى الهرم بعد الشباب والضعف بعد القوة والسافلون هم الضعفاء والزمنى والأطفال والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعا قال الفراء وإنما قال سافلين على الجمع لأن الإنسان في (9/172)
معنى جمع تقول هذا أفضل قائم ولا تقول قائمين لأنك تريد واحدا فإذا لم ترد واحدا ذكرته بالتوحيد وبالجمع
والثاني الى النار قاله الحسن وأبو العالية ومجاهد والمعنى إنا نفعل هذا بكثير من الناس تقول العرب أنفق فلان ماله على فلان وإنما أنفق بعضه ومثله قوله تعالى الذي يؤتي ماله يتزكى الليل 18 لم يرد كل ماله ثم استثنى من الإنسان فقال تعالى إلا الذين آمنوا لأن معنى الإنسان الكثير
وللمفسرين في معنى الإستثناء قولان
أحدهما إلا الذين آمنوا فإنهم لا يردون الى الخرف وأرذل العمر وإن عمروا طويلا وهذا على القول الأول قال ابن عباس من قرأ القرآن لم يرد الى ارذل العمر وقال النخعي إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب له ما كان يعمل وهو قوله تعالى فلهم أجر غير ممنون وقال ابن قتيبة المعنى إلا الذين آمنوا في وقت القوة والقدرة فإنهم حال الكبر غير منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات لأن الله تعالى علم أنهم لو لم يسلبهم القوة لم ينقطعوا عن أفعال الخير فهو يجري لهم أجر ذلك
والثاني إلا الذين آمنوا فإنهم لا يردون الى النار وهذا على القول الثاني
وقد شرحنا معنى الممنون في ن آية 3
قوله تعالى فما يكذبك بعد بالدين فيه قولان (9/173)
أحدهما فما يكذبك أيها الإنسان بعد هذه الحجة بالدين أي ما الذي يجعلك مكذبا بالجزاء وهذا توبيخ للكافر وهو معنى قول مقاتل وزعم أنها نزلت في عدي بن ربيعة
والثاني فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعدما تبين له خلقنا الإنسان على ما وصفنا قاله الفراء فأما الدين فهو الجزاء والمشار بذكره الى البعث كأنه استدل بتقليب الأحوال على البعث
قوله تعالى أليس الله بأحكم الحاكمين أي بأقضى القاضين قال مقاتل يحكم بينك وبين مكذبيك وذكر بعض المفسرين أن معنى هذه الآية تسليته في تركهم والإعراض عنهم ثم نسخ هذا المعنى بآية السيف (9/174)
سورة العلق
وتسمى سورة القلم وسورة العلق وهي مكية بإجماعهم
وهي أول ما نزل من القرآن وقيل إنها نزلت عليه في أول الوحي خمس آيات منها ثم نزل باقيها في أبي جهل
بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم
قوله تعالى اقرأ قرأ أبو جعفر بتخفيف الهمزة في الحرفين قال أبو عبيدة المعنى إقرأ باسم ربك والباء زائدة
وقال المفسرون المعنى اذكر اسمه مستفتحا به قراءتك وإنما قال تعالى الذي خلق لأن الكفار كانوا يعلمون أنه الخالق دون أصنامهم والإنسان هاهنا ابن آدم والعلق جمع علقة وقد بيناها في سورة الحج قال الفراء لما كان الإنسان في معنى الجمع جمع العلق مع مشاكلة رؤوس الآيات (9/175)
قوله تعالى اقرأ تقرير للتأكيد ثم استأنف فقال تعالى وربك الأكرم قال الخطابي الأكرم الذي لايوازيه كرم ولا يعادله في الكرم نظير وقد يكون الأكرم بمعنى الكريم كما جاء الأعز والأطول بمعنى العزيز والطويل وقد سبق تفسير الكريم
قوله تعالى الذي علم بالقلم أي علم الإنسان الكتابة بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم من الخط والصنائع وغير ذلك وقيل المراد بالإنسان هاهنا محمد صلى الله عليه و سلم
كلا إن الإنسان ليطغى ان رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية كلا لا تطعه واسجد واقترب
قوله تعالى كلا أي حقا و قال مقاتل كلا لا يعلم أن الله علمه ثم استأنف فقال تعالى إن الإنسان ليطغى يعني أبا جهل وكان إذا أصاب مالا أشر وبطر في ثيابه ومراكبه وطعامه أن رآه استغنى قال ابن قتيبة أي أن رأى نفسه استغنى و الرجعى المرجع
قوله تعالى أرأيت الذي ينهى معنى أرأيت تعجيبه المخاطب وإنما كررها للتأكيد والتعجيب والمراد بالناهي هاهنا أبو جهل قال أبو هريرة (9/176)
قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم قالوا نعم قال فبالذي يحلف به لئن رأيته لأطأن على رقبته فقيل له هاهو ذاك يصلي فانطلق ليطأ على رقبته فما فجأهم إلآ وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه فأتوه فقالوا مالك يا أبا الحكم فقال إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة وقال نبي الله صلى الله عليه و سلم والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا فأنزل الله تعالى أرأيت الذي ينهى إلى آخر السورة وقال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي فجاء أبو جهل فقال ألم أنهك عن هذا فانصرف إليه (9/177)
النبي صلى الله عليه و سلم فزبره فقال أبو جهل والله إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني فأنزل الله تعالى فليدع ناديه سندع الزبانية قال ابن عباس والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله
قال المفسرون والمراد بالعبد هاهنا محمد صلى الله عليه و سلم وقيل كانت الصلاة صلاة الظهر
قوله تعالى أرأيت إن كان على الهدى يعني المنهي وهو النبي صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى أرأيت إن كذب وتولى يعني الناهي وهو أبو جهل قال الفراء والمعنى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى وهو كاذب متول عن الذكر فأي شيء أعجب من هذا وقال ابن الأنباري تقديره أرأيته مصيبا
قوله تعالى ألم يعلم يعني أبا جهل بأن الله يرى ذلك فيجازيه كلا أي لا يعلم ذلك لئن لم ينته عن تكذيب محمد وشتمه وإيذائه لنسفعا بالناصية السفع الأخذ والناصية مقدم الرأس قال أبو عبيدة يقال سفعت بيده (9/178)
أي أخذت بها وقال الزجاج يقال شفعت الشيء إذا قبضت عليه وجذبته جذبا شديدا والمعنى لنجرن ناصيته الى النار
قوله تعالى ناصية قال أبو عبيدة هي بدل فلذلك جرها قال الزجاج والمعنى بناصية صاحبها كاذب خاطىء كما يقال نهاره صائم وليله قائم أي هو صائم في نهاره قائم في ليله فليدع ناديه أي أهل ناديه وهم أهل مجلسه فليستنصرهم سندع الزبانية قال عطاء هم الملائكة الغلاظ الشداد وقال مقاتل هم خزنة جهنم وقال قتادة الزبانية في كلام العرب الشرط قال الفراء كان الكسائي يقول لم أسمع للزبانية بواحد ثم قال بأخرة واحد الزبانية زبني فلا أدري أقياسا منه أو سماعا وقال أبو عبيدة واحد الزبانية زبنية وهو كل متمرد من إنس أو جان يقال فلان زبنية عفرية قال ابن قتيبة وهو مأخوذ من الزين وهو الدفع كأنهم يدفعون أهل النار إليها قال ابن دريد الزبن الدفع يقال ناقة زبون إذا زبنت حالبها ودفعته برجلها وتزابن القوم تدارؤوا وإشتقاق الزبانية من الزبن والله أعلم
قوله تعالى كلا أي ليس الأمر على ما عليه أبو جهل لا تطعه في ترك الصلاة واسجد أي صل لله واقترب إليه بالطاعة وهذا قول الجمهور أن قوله تعالى واقترب خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وقد قيل إنه خطاب لأبي جهل ثم فيه قولان (9/179)
أحدهما أن المعنى اسجد انت يا محمد واقترب أنت يا أبا جهل من النار قاله زيد بن أسلم
والثاني واقترب يا أبا جهل تهددا له رواه أبو سليمان الدمشقي عن بعض القدماء وهذا يشرحه حديث أبي هريرة الذي قدمناه وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء (9/180)
سورة القدر
وفيها قولان
أحدهما أنها مكية رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني مدنية قاله الضحاك ومقاتل قال الماوردي والأول قول الأكثرين وقال الثعلبي الثاني قول الأكثرين
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا أنزلناه في ليلة القدر وما آدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر
قوله تعالى إنا أنزلناه يعني القرآن في ليلة القدر وذلك أنه أنزل جملة في تلك الليلة الى بيت العزة وهو بيت في السماء الدنيا وقد ذكرنا هذا الحديث في أول كتابنا والهاء في أنزلناه كناية عن غير مذكور وقال (9/181)
الزجاج قد جرى ذكره في قوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة مباركة الدخان 3
فأما ليلة القدر ففي تسميتها بذلك خمسة أقوال
أحدها أن القدر العظمة من قولك لفلان قدر قاله الزهري
ويشهد له قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره الأنعام 91 و الزمر 67
والثاني أنه من الضيق أي هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون قاله الخليل بن أحمد ويشهد له قوله تعالى ومن قدر عليه رزقه الطلاق 7
والثالث أن القدر الحكم كأن الأشياء تقدر فيها قاله ابن قتيبة
والرابع لأن من لم يكن له قدر صار بمراعاتها ذا قدر قاله أبو بكر الوراق
والخامس لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر وتنزل فيها رحمة ذات قدر وملائكة ذوو قدر حكاه شيخنا علي بن عبيد الله
فصل
واختلف العلماء هل ليلة القدر باقية أم كانت في زمن النبي صلى الله عليه و سلم خاصة والصحيح بقاؤها
وهل هي في جميع السنة أم في رمضان
فيه قولان (9/182)
أحدهما في رمضان قاله الجمهور
والثاني في جميع السنة قاله ابن مسعود
واختلف القائلون بأنها في شهر رمضان هل تختص ببعضه دون بعض على قولين
أحدهما أنها في العشر الأواخر قاله الجمهور وأكثر الأحاديث الصحيحة تدل عليه
وقد روى البخاري في أفراده من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى أو سابعة تبقى أو في خامسة تبقى وفي حديث أبي بكرة قال ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا في العشر الأواخر فإني سمعته يقول التمسوها في تسع يبقين أو سبع أو خمس يبقين أو ثلاث يبقين أو آخر ليلة (9/183)
والقول الثاني أنها في جميع رمضان قاله الحسن البصري
وأختلف القائلون بأنها في العشر الأواخر هل تختص ليالي الوتر دون الشفع على قولين
أحدهما أنها تختص الأفراد قاله الجمهور والأحاديث الصحاح كلها تدل عليه وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ابتغوها في العشر الأواخر في الوتر منها
والثاني أنها تكون في الشفع كما تكون في الوتر قاله الحسن وروي عن الحسن ومالك بن أنس قالا هي ليلة ثماني عشرة
واختلف القائلون بأنها في الأفراد في أخص الليالي بها على خمسة أقوال
أحدها أن الأخص بها ليلة إحدى وعشرين فروى البخاري ومسلم في (9/184)
الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال اعتكف رسول الله صلى الله عليه و سلم العشر الوسط واعتكفنا معه فلما أصبحنا صبيحة عشرين رجع ورجعنا معه وأرى ليلة القدر ثم أنسيها فقال إني رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني أسجد في ماء وطين فمن اعتكف فليرجع الى معتكفه وهاجت علينا السماء آخر تلك العشية وكان سقف المسجد عريشا من جريد فوكف المسجد فوالذي هو أكرمه وأنزل عليه الكتاب لرأيته يصلي بدأ المغرب ليلة إحدى وعشرين وإن جبهته وأرنبة أنفه لفي الماء والطين وهذا مذهب الشافعي
والثاني أن الأخص بها ليلة ثلاث وعشرين روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ليلة ثلاث وعشرين اطلبوها الليلة
وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين (9/185)
وروى مسلم في أفراده من حديث عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني صبحها أسجد في ماء وطين قال فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه قال وكان عبد الله بن أنيس يقول ليلة ثلاث وعشرين
والثالث ليلة خمس وعشرين روى هذا المعنى أبو بكرة عن النبي صلى الله عليه و سلم (9/186)
والرابع ليلة سبع وعشرين روى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال من كان متحريا فليتحرها ليلة سبع وعشرين يعني ليلة القدر وهذا مذهب علي وأبي بن كعب وكان أبي يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين وبه قال ابن عباس وعائشة ومعاوية واختاره أحمد رضي الله عنه
وروي عن ابن عباس أنه استدل على ذلك بشيئين (9/187)
أحدهما أنه قال إن الله تعالى خلق الإنسان على سبعة أصناف يشير الى قوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان من سلالة المؤمنين 12 الآيات ثم جعل رزقه في سبعة أصناف يشير الى قوله تعالى أنا صببنا الماء صبا عبس 25 ثم تصلى الجمعة على رأس سبعة أيام وجعل السموات سبعا والأرضين سبعا والمثاني سبعا فلا أرى ليلة القدر إلا ليلة السابعة وعشرين
والثاني أنه قال قوله تعالى سلام هي الكلمة السابعة والعشرون فدل على أنها كذلك
واحتج بعضهم فقال ليلة القدر كررت في هذه السورة ثلاث مرات وهي تسعة أحرف والتسعة إذا كررت ثلاثا فهي سبع وعشرون وهذا تنبيه على ذلك
والقول الخامس أن الأولى طلبها في أول ليلة من رمضان قاله أبو رزين العقيلي (9/188)
وروى أيوب عن أبي قلابة أنه قال ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر
فأما الحكمة في إخفائها فليتحقق اجتهاد العباد في ليالي رمضان طمعا منهم في إدراكها كما أخفى ساعة الجمعة وساعة (9/189)
الليل واسمه الأعظم والصلاة الوسطى والولي في الناس (9/190)
قوله تعالى وما أدراك ما ليلة القدر هذا على سبيل التعظيم والتشوق الى خيرها
قوله تعالى ليلة القدر خير من ألف شهر قال مجاهد قيامها والعمل فيها خير من قيام ألف شهر وصيامها ليس فيها ليلة القدر وهذا قول قتادة واختيار الفراء وابن قتيبة والزجاج وروى عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر له رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر فعجب رسول الله صلى الله عليه و سلم لذلك وتمنى أن يكون ذلك في أمته فأعطاه الله ليلة القدر (9/191)
وقال هي خير من ألف شهر التي حمل فيها الاسرائيلي السلاح في سبيل الله
وذكر بعض المفسرين أنه كان الرجل فيما مضى لا يستحق أن يقال له عابد حتى يعبد الله ألف شهر كانوا يعبدون فيها
قوله تعالى تنزل الملائكة قال أبو هريرة الملائكة ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصى (9/192)
وفي الروح ثلاثة أقوال
أحدها أنه جبريل قاله الأكثرون وفي حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عز و جل
والثاني أن الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس الى طلوع الفجر قاله كعب ومقاتل بن حيان والثالث انه ملك عظيم يفي بخلق من الملائكة قال الواقدي
قوله تعالى فيها أي في ليلة القدر بإذن ربهم أي بما أمر به وقضاه من كل أمر قال ابن قتيبة أي بكل أمر قال المفسرون يتنزلون بكل أمر قضاه الله في تلك السنة الى قابل وقرأ ابن عمر وابن عباس وأبو العالية وأبو عمران الجوني من كل امرىء بكسر الراء وبعدها همزة مكسورة منونة وبوصل اللام من غير همز ولهذه القراءة وجهان
أحدهما من كل ملك سلام
والثاني أن تكون من بمعنى على تقديره على كل أمر من المسلمين سلام من الملائكة كقوله تعالى ونصرناه من القوم الذين كذبوا الأنبياء 77 والقراءة الموافقة لخط المصحف هي الصواب ويكون تمام الكلام عند قوله تعالى (9/193)
من كل أمر ثم ابتدأ فقال تعالى سلام هي أي ليلة القدر سلام وفي معنى السلام قولان
أحدهما أنه لا يحدث فيها داء ولا يرسل فيها شيطان قاله مجاهد
والثاني أن معنى السلام الخير والبركة قاله قتادة وكان بعض العلماء يقول الوقف على سلام على معنى تنزل الملائكة بالسلام
قوله تعالى حتى مطلع الفجر قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة مطلع بفتح اللام وقرأ الكسائي بكسرها قال الفراء والفتح أقوى في قياس العربية لأن المطلع بالفتح الطلوع وبالكسر الموضع الذي يطلع منه إلا أن العرب تقول طلعت الشمس مطلعا بالكسر وهم يريدون المصدر كما تقول أكرمتك كرامة فتجتزيء بالأسم عن المصدر وقد شرحنا هذا المعنى في الكهف عند قوله تعالى مطلع الشمس آية 9 شرحا كافيا ولله الحمد (9/194)
سورة البينة
وفيها قولان
احدهما مدنية قاله الجمهور
والثاني مكية قاله أبو صالح عن ابن عباس واختاره يحيى بن سلام
بسم الله الرحمن الرحيم
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه (9/195)
قوله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى والمشركين أي ومن المشركين وهم عبدة الأوثان منفكين أي منفصلين وزائلين يقال فككت الشيء فانفك أي انفصل والمعنى لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم حتى تأتيهم أي حتى أتتهم فلفظه لفظ المستقبل ومعناه الماضي و البينة الرسول وهو محمد صلى الله عليه و سلم وذلك أنه بين لهم ضلالهم وجهلهم وهذا بيان عن نعمة الله على من آمن من الفريقين إذ أنقذهم وذهب بعض المفسرين الى أن معنى الآية لم يختلفوا أن الله يبعث إليهم نبياحتى بعث فافترقوا وقال بعضهم لم يكونوا ليتركوا منفكين عن حجج الله حتى أقيمت عليهم البينة والوجه هو الأول والرسول هاهنا محمد صلى الله عليه و سلم ومعنى يتلو صحفا أي ما تضمنته الصحف من المكتوب فيها وهو القرآن ويدل على ذلك أنه كان يتلو القرآن عن ظهر قلبه لا من كتاب ومعنى مطهرة أي من الشرك والباطل فيها أي في الصحف كتب قيمة أي عادلة مستقيمة تبين الحق من الباطل وهي الآيات قال مقاتل وإنما قيل لها كتب لما جمعت من أمور شتى (9/196)
قوله تعالى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب يعني من لم يؤمن منهم إلا من بعد ما جاءتهم البينة وفيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها محمد صلى الله عليه و سلم والمعنى لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بعث قاله الأكثرون
والثاني القرآن قاله أبو العالية
والثالث ما في كتبهم من بيان نبوته ذكره الماوردي وقال الزجاج وما تفرقوا في كفرهم بالنبي إلا من بعد أن تبينوا أنه الذي وعدوا به في كتبهم (9/197)
قوله تعالى وما أمروا أي في كتبهم إلا ليعبدوا الله أي إلا أن يعبدوا الله قال الفراء والعرب تجعل اللام في موضع أن في الأمر والإرادة كثيرا كقوله تعالى يريد الله ليبين لكم النساء 26 و يريدون ليطفئوا نور الله الصف 8 وقال في الأمر وأمرنا لنسلم الأنعام 71 (9/198)
9 - قوله تعالى مخلصين له الدين أي موحدين لا يعبدون سواه حنفاء على دين إبراهيم ويقيموا الصلاة المكتوبة في أوقاتها ويؤتوا الزكاة عند وجوبها وذلك الذي أمروا به هو دين القيمة قال الزجاج أي دين الأمة القيمة بالحق ويكون المعنى ذلك الدين دين الملة المستقيمة
قوله تعالى أولئك هم خير البرية قرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عارم بالهمز بالكلمتين وقرأ الباقون بغير همز فيهما قال ابن قتيبة البرية الخلق وأكثر العر ب والقراء على ترك همزها لكثرة ما جرت على الألسنة وهي فعلية بمعنى مفعولة ومن الناس من يزعم أنها مأخوذة من بريت العود ومنهم من يزعم أنها من البرى وهو التراب أي خلق من التراب وقالوا لذلك لا يهمز وقال الزجاج لو كان من البري وهو التراب لما قرنت بالهمز وإنما اشتقاقها من برأ الله الخلق وقال الخطابي أصل البرية الهمز إلا أنهم اصطلحوا على ترك الهمز فيها وما بعده ظاهر الى قوله تعالى رضي الله عنهم قال مقاتل رضي الله عنهم بطاعتهم ورضوا عنه بثوابه وكان بعض السلف يقول إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسأله الرضى عنك (9/199)
قوله تعالى ذلك لمن خشي ربه أي خافه في الدنيا وتناهى عن معاصيه (9/200)
سورة الزلزلة
وفيها قولان
أحدهما أنها مدنية قاله ابن عباس وقتادة ومقاتل والجمهور
والثاني مكية قاله ابن مسعود وجابر وعطاء
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
قوله تعالى إذا زلزلت الأرض زلزالها أي حركت حركة شديدة وذلك عند قيام الساعة وقال مقاتل تتزلزل من شدة صوت إسرافيل حتى ينكسر كل ما عليها من شدة الزلزلة ولا تسكن حتى تلقي ما على ظهرها من جبل أو بناء أو شجر ثم تتحرك وتضطرب فتخرج ما في جوفها (9/201)
وفي وقت هذه الزلزلة قولان
أحدهما تكون في الدنيا وهي من أشراط الساعة قاله الأكثرون
والثاني أنها زلزلة يوم القيامة قاله خارجة بن زيد في آخرين قال الفراء حدثني محمد بن مروان قال قلت للكلبي أرأيت قول الله تعالى إذا زلزلة الأرض زلزالها فقال هذه بمنزلة قوله تعالى ويخرجكم إخراجا نوح 18 فأضيف المصدر إلى صاحبه وأنت قائل في الكلام لأعطينك عطيتك تريد عطية والزلزال بالكسر المصدر وبالفتح الاسم وقد قرأ أبو العالية وأبو عمران وأبو حيوة الجحدري زلزالها بفتح الزاي
قوله تعالى وأخرجت الأرض أثقالها فيه قولان
أحدهما ما فيها من الموتى قاله ابن عباس
والثاني كنوزها قاله عطية وجمع الفراء بين القولين فقال لفظت ما فيها من ذهب أو فضة أو ميت (9/202)
قوله تعالى وقال الإنسان ما لها فيه قولان
أحدهما أنه اسم جنس يعم الكافر والمؤمن وهذا قول من جعلها من أشراط الساعة لأنها حين ابتدأت لم يعلم الكل أنها من أشراط الساعة فسأل بعضهم بعضا حتى أيقنوا
والثاني أنه الكافر خاصة وهذا قول من جعلها زلزلة القيامة لأن المؤمن عارف فلا يسأل عنها والكافر جاحد لها لأنه لا يؤمن بالبعث فلذلك يسأل
قوله تعالى يومئذ تحدث أخبارها قال الزجاج يومئذ منصوب بقوله تعالى إذا زلزلت وأخرجت ففي ذلك اليوم تحدث بأخبارها أي تخبر بما عمل عليها وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال أتدرون ما أخبارها قالوا الله و رسوله أعلم قال أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا
قوله تعالى بأن ربك أوحى لها قال الفراء تحدث أخبارها بوحي الله وإذنه لها قال ابن عباس أوحى لها أي أوحى إليها وأذن لها أن (9/203)
تخبر بما عمل عليها وقال أبو عبيدة لها بمعنى إليها قال العجاج وحى لها القرار فاستقرت
قوله تعالى يومئذ يصدر الناس أي يرجعون عن موقف الحساب أشتاتا أي فرقا فأهل الإيمان على حدة وأهل الكفر على حدة ليروا أعمالهم وقرأ أبو بكر الصديق وعائشة والجحدري ليروا بفتح الياء قال ابن عباس أي ليروا جزاء أعمالهم فالمعنى أنهم يرجعون عن الموقف فرقا لينزلوا منازلهم من الجنة والنار وقيل في الكلام تقديم وتأخير تقديره تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها ليروا أعمالهم يومئذ يصدر الناس اشتاتا فعلى هذا يرون ما عملوا من خير أو شر في موقف العرض فمن يعمل مثقال ذرة قال المفسرون من يعمل في الدنيا مثقال ذرة من الخير أو الشر يره وقرأ أبان (9/204)
عن عاصم يره بضم الياء في الحرفين وقد بينا معنى الذرة في سورة النساء 40 وفي معنى هذه الرؤية قولان
أحدهما أنه يراه في كتابة
والثاني يرى جزاءه وذكر مقاتل أنها نزلت في رجلين كانا بالمدينة كان أحدهما يستقل أن يعطي السائل الكسرة أو التمرة وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير فأنزل الله عز و جل هذا يرغبهم في القليل من الخير ويحذرهم اليسير من الشر (9/205)
سورة العاديات
وفيها قولان
أحدهما أنها مكية قاله ابن مسعود وعطاء وعكرمة وجابر
والثاني مدنية قاله ابن عباس وقتادة ومقاتل
بسم الله الرحمن الرحيم
والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير
قوله تعالى والعاديات فيه قولان
أحدهما أنها الإبل في الحج قاله علي وابن مسعود وعبيد بن عمير والقرظي والسدي وروى عن علي أنه قال والعاديات ضبحا من عرفة الى الزدلفة ومن المزدلفة الى منى وروي عن علي أنه قال هذا في صفة وقعة بدر قال وما كان معنا يومئذ إلا فرس وفي بعض الحديث أنه كان معهم فرسان (9/206)
والثاني أنها الخيل في سبيل الله قاله ابن عباس والحسن وعطاء ومجاهد وأبو العالية وعكرمة وقتادة وعطية والربيع واللغويون وكان ابن عباس يذهب الى أن هذا كان في سرية فروى عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث خيلا فلم يأته خبرها شهرا فنزلت والعادايات ضبحا ضبحت بمناخرها فالموريات قدحا قدحت بحوافرها الحجارة فأورت 2نارا فالمغيرات صبحا صبحت القوم بغارة فأثرن به نقعا أثارت بحوافرها التراب فوسطن به جمعا قال صبحت الحي جميعا وقال مقاتل بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية الى حيين من كنانة واستعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري فأبطأ عنه خبرها فجعل اليهود والمنافقون إذا رأوا رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم تناجوا فيظن الرجل أنه قد قتل أخوه أو أبوه أو عمه فيجد من ذلك حزنا فنزلت والعاديات ضبحا فأخبر الله كيف (9/207)
فعل بهم قال الفراء الضبح أصوات أنفاس الخيل إذا عدون وقال ابن قتيبة الضبح صوت حلوقها إذا عدت وقال الزجاج ضبحها صوت أجوافها إذا عدت
قوله تعالى فالموريات قدحا فيه خمسة أقوال
أحدها أنها الخيل تورى النار بحوافرها إذا جرت وهذا قول الجمهور
قال الزجاج إذا عدت الخيل بالليل فأصابت بحوافرها الحجارة انقدحت منها النيران
والثاني أنها نيران المجاهدين إذا أوقدت روي عن ابن عباس
والثالث مكر الرجال في الحرب قاله مجاهد وزيد بن أسلم
والرابع نيران الحجيج بالمزدلفة قاله القرظي
والخامس أنها الألسنة إذا ظهرت بها الحجج وأقيمت بها الدلائل على الحق وفضح بها الباطل قاله عكرمة (9/208)
والثالث صلاة العصر قاله مقاتل
قوله تعالى إن الإنسان لفي خسر قال الزجاج هو جواب القسم
والإنسان هاهنا بمعنى الناس كما تقول كثر الدرهم في أيدي الناس تريد الدراهم والخسر والخسران في معنى واحد قال أهل المعاني الخسر هلاك رأس المال أو نقصه فالإنسان إذا لم يستعمل نفسه فيما يوجب له الربح الدائم فهو في خسران لأنه عمل في إهلاك نفسه وهما أكبر رأس ماله إلا الذين آمنوا أي صدقوا الله ورسوله وعملوا بالطاعة وتواصوا بالحق أي بالتوحيد والقرآن واتباع الرسول وتواصوا بالصبر على طاعة الله والقيام بشريعته
وقال إبراهيم في تفسير هذه السورة إن الإنسان إذا عمر في الدنيا لفي نقص وضعف إلا المؤمنين فإنهم يكتب لهم أجور أعمالهم التي كانوا يعملون في شبابهم وصحتهم (9/225)
سورة الهمزة
وهي مكية بإجماعهم
قال هبة الله المفسر وقد قيل إنها مدنية واختلف المفسرون هل نزلت في حق شخص بعينه أم نزلت عامة على قولين
أحدهما نزلت في حق شخص بعينه
ثم فيه ستة أقوال
أحدها الأخنس بن شريق رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال السدي وابن السائب
والثاني العاص بن وائل السهمي قاله عروة
والثالث جميل بن عامر قاله ابن أبي نجيح
والرابع الوليد بن المغيرة قاله ابن جريج ومقاتل
والخامس أمية بن خلف قاله ابن إسحاق
والسادس أبي بن خلف حكاه الماوردي (9/226)
والقول الثاني أنها نزلت عامة لا في شخص بعينه قاله مجاهد
بسم الله الرحمن الرحيم
ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا و عدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة
قوله تعالى ويل لكل همزة لمزة اختلفوا في الهمزة واللمزة هل هما بمعنى واحد أم مختلفان على قولين
أحدهما أنهما مختلفان ثم فيهما سبعة أقوال
أحدها أن الهمزة المغتاب واللمزة العياب قاله ابن عباس
والثاني أن الهمزة الذي يهمز الإنسان في وجهه واللمزة يلمزه إذا أدبر عنه قاله الحسن وعطاء وأبو العالية
والثالث أن الهمزة الطعان في الناس واللمزة الطعان في أنساب الناس قاله مجاهد (9/227)
والرابع أن الهمزة بالعين واللمزة باللسان قاله قتادة
والخامس أن الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم واللمزة الذي يلمزهم بلسانه قاله ابن زيد
والسادس أن الهمزة الذي يهمز بلسانه واللمزة الذي يلمز بعينه قاله سفيان الثوري
والسابع أن الهمزة المغتاب واللمزة الطاعن على الإنسان في وجهه قاله مقاتل
والقول الثاني أن الهمزة العياب الطعان واللمزة مثله وأصل الهمز واللمز الدفع قاله ابن قتيبة وكذلك قال الزجاج الهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس ويغضهم قال الشاعر
... إذا لقيتك عن كره تكاشرني ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه ...
قوله تعالى الذي جمع مالا قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وروح جمع بالتشديد والباقون بالتخفيف
قوله تعالى وعدده قرأ الجمهور بتشديد الدال وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن وابن يعمر بتخفيفها (9/228)
وللمفسرين في معنى الكلام قولان
أحدهما أحصى عدده قاله السدي
والثاني أعده لما يكفيه في السنين قاله عكرمة قال الزجاج من قرأ عدده بالتشديد فمعناه عدده للدهور ومن قرأ عدده بالتخفيف فمعناه جمع مالا وعددا أي وقوما اتخذهم أنصارا
قوله تعالى يحسب أن ماله أخلده أخلده بمعنى يخلده والمعنى يظن ماله مانعا له من الموت فهو يعمل عمل من لا يظن أنه يموت كلا أي لا يخلده ماله ولا يبقى له لينبذن أي ليطرحن في الحطمة وهو اسم من أسماء جهنم سميت بذلك لأنها تحطم ما يلقى فيها أي تكسره فهي تكسر العظم بعد أكلها اللحم ويقال للرجل الأكول إنه لحطمة وقرأ أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبد الرحمن والحسن وابن أبي عبلة وابن محيصن لينبذان بألف ممدودة وبكسر النون وتشديدها أي هو وماله
قوله تعالى التي تطلع على الأفئدة أي تأكل اللحم والجلود حتى تقع على الأفئدة فتحرقها قال الفراء يبلغ ألمها الأفئدة والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى واحد والعرب تقول متى طلعت أرضنا أي بلغت وقال ابن قتيبة تطلع على الأفئدة أي توفي عليها وتشرف وخص الأفئدة (9/229)
لأن الألم إذا صار الى الفؤاد مات صاحبه فأخبر أنهم في حال من يموت وهم لا يموتون وقد ذكرنا تفسير المؤصدة في سورة البلد 20
قوله تعالى في عمد قرأ حمزة وخلف والكسائي وعاصم إلا حفصا بضم العين وإسكان الميم قال المفسرون وهي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار و في بمعنى الباء والمعنى مطبقة بعمد قال قتادة وكذلك هو في قراءة عبد الله وقال مقاتل أطبقت الأبواب عليهم ثم شدت بأوتاد من حديد حتى يرجع عليهم غمها وحرها و ممددة صفة العمد أي أنها ممدودة مطولة وهي أرسخ من القصيرة وقال قتادة هي عمد يعذبون بها في النار وقال أبو صالح في عمد ممددة قال القيود الطوال (9/230)
سورة الفيل
مكية بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول
قوله تعالى ألم تر فيه قولان
أحدهما ألم تخبر قاله الفراء
والثاني ألم تعلم قاله الزجاج ومعنى الكلام معنى التعجب وأصحاب الفيل هم الذين قصدوا تخريب الكعبة
وفي سبب قصدهم لذلك قولان
أحدهما أن أبرهة بني بيعة وقال لست منتهيا حتى أضيف إليها حج العرب فسمع بذلك رجل من بني كنانة فخرج فدخلها ليلا فأحدث فيها فبلغ ذلك أبرهة فحلف ليسيرن الى الكعبة فيهدمها قاله ابن عباس (9/231)
والثاني أن قوما من قريش خرجوا في تجارة الى أرض النجاشي فنزلوا في جنب بيعة فأوقدوا نارا وشووا لحما فلما رحلوا هبت الريح فإضطرم المكان نارا فغضب النجاشي لأجل البيعة فقال له كبراء أصحابه منهم حجر بن شراحيل وأبو يكسوم لا تحزن فنحن نهدم الكعبة قاله مقاتل وقال ابن إسحاق ابو يكسوم اسمه أبرهة بن الأشرم وقيل وزيره وحجر من قواده
ذكر الإشارة الى القصة
ذكر أهل التفسير أن أبرهة لما سار بجنوده الى الكعبة ليهدمها خرج معه بالفيل فلما دنا من مكة أمر أصحابه بالغارة على نعم الناس فأصابوا إبلا لعبد المطلب وبعث بعض جنوده فقال سل عن شريف مكة وأخبره أني لم آت لقتال وإنما جئت لأهدم هذا البيت فانطلق حتى دخل مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال إن الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال إلا أن تقاتلوه إنما جاء لهدم هذا البيت ثم ينصرف عنكم فقال عبد المطلب ما له عندنا قتال وما لنا به يد إنا سنخلي بينه وبين ما جاء له فإن هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام فإن يمنعه فهو بيته وحرمه وإن يخل بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به قوة قال فانطلق معي الى الملك فلما دخل عبد المطلب على أبرهة أعظمه وكرمه ثم قال لترجمانه قل له ما حاجتك الى الملك فقال له الترجمان فقال حاجتي أن يرد علي مائتي بعير أصابها فقال أبرهة لترجمانه (9/232)
قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ولقد زهدت الآن فيك جئت الى بيت هو دينك لأهدمه فلم تكلمني فيه وكلمتني لإبل أصبتها فقال عبد المطلب أنا رب هذه الإبل ولهذا البيت رب سيمنعه فأمر بإبله فردت عليه فخرج فأخبر قريشا وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ورؤوس الجبال خوفا من معرة الجيش إذا دخل ففعلوا فأتى عبد المطلب الكعبة فأخذ بحلقه الباب وجعل يقول
... يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا ...
... إن عدو البيت من عاداكا ... إمنعهم أن يخربوا قراكا ...
وقال أيضا
... لا هم إن المرء يم ... نع رحله فامنع حلالك ...
... لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك (9/233)
جروا جميع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك ...
... عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك ...
... إن كنت تاركهم وكع ... تنا فأمر ما بدالك ...
ثم إن أبرهة أبح متهيئا للدخول فبرك الفيل فبعثوه فأبى فضربوه فأبى فوجهوه الى اليمن راجعا فقام يهرول ووجهوه الى الشام ففعل مثل ذلك والى المشرق ففعل مثل ذلك فوجهوه الى الحرم فأبى فأرسل الله طيرا من البحر
واختلفوا في صفتها فقال ابن عباس كانت لهم خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب وقال عكرمة كانت لها رؤوس كرؤوس السباع
وقال ابن إسحاق كانت أمثال الخطاطيف
واختلفوا في ألوانها على ثلاثة أقوال
أحدها أنها كانت خضراء قاله عكرمة وسعيد بن جبير
الثاني سوداء قاله عبيد بن عمير
والثالث بيضاء قاله قتادة قال وكان مع كل طير ثلاثة أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره
واختلفوا في صفة الحجارة فقال بعضهم كانت كأمثال الحمص والعدس
وقال عبيد بن عمير بل كان الحجر كرأس الرجل والجمل فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك وكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره وقيل كان على كل حجر اسم الذي وقع عليه (9/234)
فهلكوا ولم يدخلوا الحرم وبعث الله على أبرهة داء في جسده فتساقطت أنامله وانصدع صدره قطعتين عن قلبه فهلك ورأى أهل مكة الطير وقد أقبلت من ناحية البحر فقال عبد المطلب إن هذه الطير غريبة ثم إن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله على فرس ينظر الى القوم فرجع يركض ويقول هلك القوم جميعا فخرج عبد المطلب وأصحابه فغنموا أموالهم وقيل لم ينج من القوم إلا أبو يكسوم فسار وطائر يطير من فوقه ولا يشعر به حتى دخل على النجاشي فأخبره بما أصاب القوم فلما أتم كلامه رماه الطائر فمات فأرى الله تعالى النجاشي كيف كان هلاك أصحابه
واختلفوا كم كان بين مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين هذه القصة على ثلاثة أقوال أحدها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولد عام الفيل وهو الأصح (9/235)
والثاني كان بينهما ثلاث وعشرون سنة قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثالث أربعون سنة حكاه مقاتل
قوله تعالى ألم يجعل كيدهم وهو ما أرادوا من تخريب الكعبة في تضليل أي في ذهاب والمعنى أن كيدهم ضل عما قصدوا له فلم يصلوا إلى مرادهم وأرسل عليهم طيرا أبابيل
وفي الأبابيل خمسة أقوال
أحدهما أنها المتفرقة من هاهنا وهاهنا قاله ابن مسعود والأخفش
والثاني أنها المتتابعة التي يتبع بعضها بعضا قاله ابن عباس ومجاهد ومقاتل
والثالث الكثيرة قاله الحسن وطاووس
والرابع أنها الجمع بعد الجمع قاله عطاء وأبو صالح وكذلك قال أبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج الأبابيل جماعات في تفرقة
والخامس المختلفة الألوان قاله زيد بن أسلم قال الفراء وأبو عبيدة الأبابيل لا واحد لها
قوله تعالى ترميهم قرأ أبو عبد الرحمن السلمي يرميهم بالياء وقد بينا معنى سجيل في هود 82 ومعنى العصف في سورة الرحمن 12 عز و جل
وفي معنى مأكول ثلاثة أقوال
أحدهما أن يكون أراد أنه أخذ ما فيه من الحب فأكل وبقي هو لا حب فيه (9/236)
والثاني أن يكون أراد أن العصف مأكول البهائم كما يقال للحنطة هذا المأكول ولما يؤكل وللماء هذا المشروب ولما يشرب يريد أنهما مما يؤكل ويشرب ذكرهما ابن قتيبة
والثالث أن المأكول هاهنا الذي وقع فيه الأكال فالمعنى جعلهم كورق الزرع الذي جف وأكل أي وقع فيه الأكال قاله الزجاج (9/237)
سورة قريش
ويقال لها سورة لإيلاف
وفيها قولان
أحدهما مكية قاله الجمهور
والثاني مدنية قاله الضحاك وابن السائب
واختلف القراء في لإيلاف فقرأ ابن عامر لإلاف بغير ياء بعد الهمزة مثل لعلاف وقرأ أبو جعفر بياء ساكنة من غير همز وروى حماد بن أحمد عن الشموني بهمزتين مخففتين الأولى مكسورة والثانية ساكنة على وزن لععلاف وقرأ الباقون بهمزة بعدها ياء ساكنة مثل لعيلاف
وفي لام لإيلاف ثلاثة أقوال
أحدها موصولة بما قبلها المعنى فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف هذا قول الفراء والجمهور (9/238)
والثاني أنها لام التعجب كأن المعنى اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف وتركهم عبادة رب هذا البيت قاله الأعمش والكسائي
والثالث أن معناها متصل بما بعدها المعنى فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف لأنهم كانوا في الرحلتين آمنين فإذا عرض لهم عارض قالوا نحن أهل حرم الله فلا يتعرض لهم قال الزجاج وهذا الوجه قول النحويين الذين ترتضى أقوالهم وقال ابن قتيبة بعض الناس يذهب الى أن هذه السورة وسورة الفيل واحدة وأكثر الناس على أنهما سورتان وان كانتا متصلتي الألفاظ والمعنى ان قريش كانت بالحرم آمنة من الأعداء والحرم واد جديب لا زرع فيه ولا شجر وإنما كانت قريش تعيش فيه بالتجارة وكانت لهم رحلتان في كل سنة رحلة في الشتاء ورحلة في الصيف الى الشام ولولا هاتان الرحلتان لم يكن به مقام ولولا أنهم بمجاورة البيت لم يقدروا على التصرف فلما قصد أصحاب الفيل هدم الكعبة أهلكهم الله لتقيم قريش بالحرم فذكرهم الله نعمته بالسورتين والمعنى أنه أهلك أولئك ليؤلف قريشا هاتين (9/239)
الرحلتين اللتين بهما معاشهم ومقامهم بمكة تقول ألفت موضع كذا إذا لزمته وألفنيه الله كما تقول لزمت موضع كذا وكذا وألزمنيه الله وكرر لايلاف للتوكيد كما تقول أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانة عن كل الناس قال الزجاج يقال ألفت المكان الفا وآلفته إيلافا بمعنى واحد
وأما قريش فهم ولد النضر بن كنانة وكل من لم يلده النضر فليس بقرشي
وقيل هم من ولد فهر بن مالك بن النضر فمن لم يلده فهر فليس بقرشي وإنما سموا قريشا لتجارتهم وجمعهم المال والقرش الكسب يقال هو يقرش لعياله ويقترش أي يكتسب وقد سأل معاوية ابن عباس رضي الله عنهم لم سميت قريش قريشا فقال ابن عباس بدابة تكون في البحر يقال لها القريش لا تمر بشيء من الغث والمسين إلا أكلته وأنشد
... وقريش هي التي تسكن البح ... ر بها سميت قريش قريشا ...
وقال ابن الأنباري قال قوم سموا قريشا بالأقتراش وهو وقوع الرماح بعضها على بعض قال الشاعر
... ولما دنا الرايات واقترش القنا ... وطار مع القوم القلوب الرواجف (9/240)
بسم الله الرحمن الرحيم
لايلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف
قوله تعالى إيلافهم قرأ أبو جفعر وابن فليح عن ابن كثير والوليد ابن عتبة عن ابن عامر والتغلبي عن ابن ذكوان عنه إلافهم بهمزة مكسورة من غم ياء بعدها مثل علافهم وروى الخزاعي عن ابن فليح وأبان ابن تغلب عن عاصم إلفهم بسكون اللام أيضا ورواه الشموني إلا حمادا بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ورواه حماد كذلك إلا أنه حذف الياء
وقرأ الباقون بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة مثل عيلافهم وجمهور العلماء على أن الرحلتين كانتا للتجارة وكانوا يخرجون الى الشام في الصيف والى اليمن في الشتاء لشدة برد الشام وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف قال الفراء والرحلة منصوبة بايقاع الفعل عليها
قوله تعالى فليعبدوا رب هذا البيت أي ليوحدوه 4 الذي أطعمهم من جوع أي بعد الجوع كما تقول كسوتك من عري وذلك أن الله تعالى آمنهم بالحرم فلم يتعرض لهم في رحلتهم فكان ذلك سببا لإطعامهم (9/241)
بعدما كانوا فيه من الجوع وروى عطاء عن ابن عباس قال كانوا في ضر ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين فكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير حتى استغنوا
قوله تعالى وآمنهم من خوف وذلك أنهم كانوا آمنين بالحرم إن حضروا حماهم وإن سافروا قيل هؤلاء أهل الحرم فلا يعرض لهم أحد (9/242)
سورة الماعون
ويقال لها سورة أرأيت
وفيها قولان
أحدهما مكية قاله الجمهور
والثاني مدنية روى عن ابن عباس وقتادة وقال هبة الله المفسر نزل نصفها بمكة في العاص بن وائل ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبي المنافق
بسم الله الرحمن الحرحيم
أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤن ويمنعون الماعون
قوله تعالى أرأيت الذي يكذب بالدين اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ستة أقوال
أحدها نزلت في رجل من المنافقين قاله ابن عباس
والثاني نزلت في عمرو بن عائذ قاله الضحاك (9/243)
والثالث في الوليد بن المغيرة قاله السدي
والرابع في العاص بن وائل قاله ابن السائب
والخامس في أبي سفيان بن حرب قاله ابن جريج
والسادس في أبي جهل حكاه الماوردي
وفي الدين أربعة أقوال
أحدها أنه حكم الله عز و جل قاله ابن عباس
والثاني الحساب قاله مجاهد وعكرمة
والثالث الجزاء حكاه الماوردي
والرابع القرآن حكاه بعض المفسرين و يدع بمعنى يدفع وقد ذكرناه في قوله تعالى يوم يدعون الى نار جهنم الطور 13 والمعنى أنه يدفع اليتيم عن حقه دفعا عنيفا ليأخذ ماله وقد بينا فيما سبق أنهم كانوا لا يورثون الصغير وقيل يدفع اليتيم إبعادا له لأنه لا يرجو ثواب إطعامه ولا يحض على طعام المسكين أي لا يطعمه ولا يأمر بإطعامه لأنه مكذب بالجزاء
قوله تعالى فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون نزل هذا في المنافقين الذين يرجون لصلاتهم ثوابا ولا يخافون على تركها عقابا فإن كانوا مع النبي صلى الله عليه و سلم صلوا رياء وإن لم يكونوا معه لم يصلوا فذلك قوله تعالى الذين هم يراؤون وقال ابن مسعود والله ما تركوها البتة ولو تركوها البتة كانوا كفارا ولكن تركوا المحافظة على أوقاتها وقال ابن عباس يؤخرونها عن وقتها ونقل عن (9/244)
أبي العالية أنه قال هو الذي لا يدري عن كم انصرف عن شفع أو عن وتر
ورد هذا بعض العلماء فقال هذا ليس بشيء لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد سها في صلاته ولأنه قال تعالى عن صلاتهم ولم يقل في صلاتهم ولأن ذاك لا يكاد يدخل تحت طوق ابن آدم
قال الشيخ رحمه الله قلت ولا أظن أبا العالية أراد السهو النادر وإنما أراد السهو الدائم وذلك ينبئنا عن التفات القلب عن احترام الصلاة فيتوجه الذم الى ذلك لا الى السهو
وفي الماعون ستة أقوال
أحدها أنه الإبرة والماء والنار والفأس وما يكون في البيت من هذا النحو رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم والى نحوه ذهب ابن مسعود وابن عباس في رواية وروى عنه أبو صالح أنه قال الماعون المعروف كله (9/245)
حتى ذكر القدر والقصعة والفأس وقال عكرمة ليس الويل لمن منع هذا إنما الويل لمن جمعهن فراءى في صلاته وسها عنها ومنع هذا قال الزجاج والماعون في الجاهلية كل ما كان فيه منفعة كالفأس والقدر والدلو والقداحة ونحو ذلك وفي الإسلام أيضا
والثاني أنه الزكاة قاله علي وابن يعمر والحسن وعكرمة وقتادة
والثالث أنه الطاعة قاله ابن عباس في رواية
والرابع المال قاله سعيد بن المسيب والزهري
والخامس المعروف قاله محمد بن كعب
والسادس الماء ذكره الفراء عن بعض العرب قال وأنشدني
... يمج صبيرة الماعون صبا ...
والصبير السحاب (9/246)
سورة الكوثر
وفيها قولان
أحدهما مكية قاله ابن عباس والجمهور
والثاني مدنية قاله الحسن وعكرمة وقتادة
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر
وفي الكوثر ستة أقوال
أحدها أنه نهر في الجنة روى البخاري في أفراده من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال بينا أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب (9/247)
الدر المجوف قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الذي أعطاك ربك عز و جل فإذا طينه أو طيبه مسك أذفر
وروى مسلم أيضا في أفراده من حديث أنس أيضا قال أغفى رسول الله صلى الله عليه و سلم إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما إما قال لهم وإما قالوا له لم ضحكت فقال إنه أنزل علي الآن آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر حتى ختمها وقال هل تدرون ما الكوثر فقالوا الله ورسوله أعلم قال هو نهر أعطانيه ربي عز و جل في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد كواكب السماء يختلج العبد منهم فأقول يا رب إنه من أمتي فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك
والثاني أن الكوثر الخير الكثير الذي أعطي نبينا صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس (9/248)
والثالث العلم والقرآن قاله الحسن
والرابع النبوة قاله عكرمة
والخامس أنه حوض رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي يكثر الناس عليه قاله عطاء
والسادس أنه كثرة أتباعه وأمته قاله أبو بكر بن عياش
قوله تعالى فصل لربك في هذه الصلاة ثلاثة أقوال
أحدها صلاة العيد وقال قتادة صلاة الأضحى
والثاني صلاة الصبح بالمزدلفة قاله مجاهد
والثالث الصلوات الخمس قاله مقاتل
وفي قوله تعالى وانحر خمسة أقوال
أحدها اذبح يوم النحر رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال عطاء ومجاهد والجمهور
والثاني وضع اليمين على اليسرى عند النحر في الصلاة
والثالث أنه رفع اليدين بالتكبير الى النحر قاله أبو جعفر محمد بن علي
والرابع أن المعنى صل لله وانحر لله فإن ناسا يصلون لغيره وينحرون لغيره قاله القرظي (9/249)
والخامس أنه استقبال القبلة بالنحر حكاه الفراء
قوله تعالى إن شانئك اختلفوا فيمن عنى بذلك على خمسة أقوال
أحدها أنه العاص بن وائل السهمي قاله ابن عباس نزلت في العاص ابن وائل لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم على باب المسجد فوقف يحدثه حتى دخل العاص المسجد وفيه أناس من صناديد قريش فقالوا له من الذي كنت تحدث قال ذاك الأبتر يعني النبي صلى الله عليه و سلم وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا يسمون من ليس له ابن أبتر فأنزل الله عز و جل هذه السورة
وممن ذهب الى أنها نزلت في العاص سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة
والثاني أنه أبو جهل روي عن ابن عباس أيضا
والثالث أبو لهب قاله عطاء
والرابع عقبة بن أبي معيط قاله شمر بن عطية (9/250)
والخامس أنه عنى به جماعة من قريش قاله عكرمة والشانىء المبغض والأبتر المنقطع عن الخير (9/251)
سورة الكافرون
بسم الله الرحمن الرحيم
قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين
وفيها قولان
أحدهما مكية قاله ابن مسعود والحسن والجمهور
والثاني مدنية روي عن قتادة
ذكر سبب نزولها اختلفوا على ثلاثة أقوال
أحدها أن رهطا من قريش منهم الوليد بن المغيرة والعاص وائل والأسود بن عبد يغوث لقوا العباس بن عبد المطلب فقالوا يا أبا الفضل لو أن ابن أخيك أسلم بعض آلهتنا لصدقناه بما يقول ولآمنا بالآهه فأتاه العباس فأخبره فنزلت هذه السورة رواه أبو صالح عن ابن عباس (9/252)
والثاني أن عتبة بن ربيعة وأمية بن خلف لقيا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالا يا محمد لا ندعك حتى تتبع ديننا ونتبع دينك فإن كان أمرنا رشدا كنت قد أخذت بحظك منه وإن كان أمرك رشدا كنا قد أخذنا بحظنا منه فنزلت هذه السورة قاله عبيد بن عمير
والثالث أن قريشا قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم إن سرك أن نتبع دينك عاما وترجع الى ديننا عاما فنزلت هذه السورة قاله وهب قال مقاتل في آخرين نزلت هذه السورة في أبي جهل وفي المستهزئين ولم يبق من الذين نزلت فيهم أحد وأما قوله تعالى لا أعبد فهو في موضع من ولكنه جعل مقابلا لقوله تعالى ما تعبدون وهي الأصنام وفي تكرار الكلام قولان
أحدهما لتأكيد الأمر وحسم أطماعهم فيه قاله الفراء وقد أنعمنا شرح هذا في سورة الرحمن 13 (9/253)
والثاني أن المعنى لا أعبد ما تعبدون في حالي هذه ولا أنتم في حالكم هذه عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم فيما أستقبل وكذلك أنتم فنفي عنه وعنهم ذلك في الحال والاستقبال وهذا في قوم بأعيانهم أعلمه الله عز و جل أنهم لا يؤمنون كما ذكرنا عن مقاتل فلا يكون حيئذ تكرارا هذا قول ثعلب والزجاج وقوله تعالى لكم دينكم ولي دين فتح ياء ولي نافع وحفص وأبان عن عاصم وأثبت ياء ديني في الحالين يعقوب وهذا منسوخ عندالمفسرين بآية السيف (9/254)
سورة النصر
وهي مدنية بإجماعهم
وفي أفراد مسلم من حديث ابن عباس أنها آخر سورة نزلت جميعا (9/255)
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه توابا
قوله تعالى إذا جاء نصر الله أي معونته على الأعداء والفتح فتح مكة قال الحسن لما فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة قالت العرب أما إذ ظفر محمد بأهل الحرم وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان فدخلوا في دين الله أفواجا قال أبو عبيدة والأفواج جماعات في تفرقة
قوله تعالى فسبح بحمد ربك فيه قولان
أحدهما أنه الصلاة قاله ابن عباس (9/256)
والثاني التسبيح المعروف قاله جماعة من المفسرين قال المفسرون نعيت إليه نفسه بنزول هذه السورة وأعلم أنه قد اقترب أجله فأمر بالتسبيح والإستغفار ليخم له عمره بالزيادة في العمل الصالح قال ابن عباس إذا جاء نصر الله والفتح داع من الله ووداع من الدنيا قال قتادة وعاش بعد نزول هذه السورة سنتين (9/257)
سورة تبت
وهي مكية بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد
وسبب نزولها ما روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال لما نزل وأنذر عشيرتك الأقربين الشعراء 214 صعد رسول الله صلى الله عليه و سلم على الصفا فقال يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا ما لك فقال أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقوني قالوا بلى قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد
قال أبو لهب تبا لك ألهذا دعوتنا فأنزل الله تعالى تبت يدا أبي لهب (9/258)
ومعنى تبت خسرت يدا أبي لهب وتب أي وخسر هو قال الفراء الأول دعاء والثاني خبر كما يقول الرجل أهلكك الله وقد أهلكك وجعلك الله صالحا وقد جعلك وقيل ذكر يديه والمراد نفسه ولكن هذا عادة العرب يعبرون ببعض الشيء عن جميعه كقوله تعالى ذلك بما قدمت يداك الحج 10 وقال مجاهد تبت يدا أبي لهب وتب ولد أبي لهب فأما أبو لهب فهو عم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقيل إن اسمه عبد العزى وقرأ ابن كثير وحده أبي لهب بإسكان الهاء قال أبو علي يشبه أن يكون لغة كالشمع والشمع والنهر والنهر
فإن قيل كيف كناه الله عز و جل وفي الكنية نوع تعظيم
فعنه جوابان
أحدهما أنه إن صح أن اسمه عبد العزى فكيف يذكره الله بهذا الأسم وفيه معنى الشرك
والثاني أن كثيرا من الناس اشتهروا بكناهم ولم يعرف لهم أسماء
قال ابن قتيبة خبرني غير واحد عن الأصمعي أن أبا عمرو بن العلاء وأبا سفيان (9/259)
ابن العلاء أساؤهما كناهما فإن كان اسم أبي لهب كنيته فإنما ذكره بما لايعرف إلا به
قوله تعالى ما أغنى عنه ماله قال ابن مسعود لما دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم أقربيه إلى الله عز و جل قال أبو لهب إن كان ما يقول ابن أخي حقا فإني أفتدي بمالي وولدي فقال الله عز و جل ما أغنى عنه ماله و كسب قال الزجاج و ما في موضع رفع المعنى ما أغنى عنه ماله و كسبه أي ولده وكذلك قال المفسرون المراد بكسبه هاهنا ولده و أغنى بمعنى يغني سيصلى نارا ذات لهب أي تلتهب عليه من غير دخان وامرأته أي ستصلى امرأته وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان وفي هذا دلالة على صحة نبوة نبينا عليه الصلاة و السلام لأنه أخبر بهذا المعنى أنه وزوجته يموتان على الكفر فكان كذلك إذ لو قالابألسنتهما قد أسلمنا لوجد الكفار متعلقا في الرد على رسول الله صلى الله عليه و سلم غير أن الله علم أنهما لا يسلمان باطنا ولا ظاهرا فأخبره بذلك
قوله تعالى حمالة الحطب فيه أربعة أقوال
أحدهما أنها كانت تمشي بالنميمة قاله ابن عباس ومجاهد والسدي (9/260)
والفراء وقال ابن قتيبة فشبهوا النميمة بالحطب والعداوة والشحناء بالنار لأنهما يقعان بالنميمة كما تلتهب النار بالحطب
والثاني أنها كانت تحتطب الشوك فتلقيه في طريق رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلا رواه عطية عن ابن عباس وبه قال الضحاك وابن زيد
والثالث أن المراد بالحطب الخطايا قاله سعيد بن جبير
والرابع أنها كانت تعير رسول الله صلى الله عليه و سلم بالفقر وكانت تحتطب فعيرت بذلك قاله قتادة وليس بالقوي لأن الله تعالى وصفه بالمال
وقرأ عاصم وحده حمالة الحطب بالنصب
قال الزجاج من نصب حمالة فعلى الذم والمعنى أعني حمالة (9/261)
الحطب والجيد العنق والمسد في لغة العرب الحبل إذا كان من ليف المقل وقد يقال لما كان من أوبار الإبل من الحبال المسد قال الشاعر
... ومسد أمر من أيانق ... صهب عتاق ذات مخ زاهق ...
وقال ابن قتيبة المسد عند كثير من الناس الليف دون غيره وليس كذلك إنما المسد كل ما ضفر وقتل من الليف وغيره
واختلف المفسرون في المراد بهذا الحبل على ثلاثة أقوال
أحدها أنها حبال كانت تكون بمكة رواه العوفي عن ابن عباس
وقال الضحاك حبل من شجر كانت تحتطب به
والثاني أنه قلادة من ودع قاله قتادة
والثالث أنه سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا قاله عروة بن (9/262)
الزبير وقال غيره المراد بهذا الحبل السلسلةالتي ذكرها الله تعالى في النار طولها سبعون ذراعا والمعنى أن تلك السلسلة قد فتلت فتلا محكما فهي في عنقها تعذب بها في النار (9/263)
سورة الإخلاص
بسم الله الرحمن الرحيم
قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
وفيها قولان
أحدهما أنها مكية قاله ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر
والثاني مدنية روي عن ابن عباس وقتادة والضحاك وقد روى البخاري في أفراده من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن وروى مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة (9/264)
أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إنها تعدل ثلث القرآن
وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن المشركين قالوا يا محمد انسب لنا ربك فنزلت هذه السورة قاله أبي بن كعب (9/265)
والثاني أن عامر بن الطفيل قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم إلام تدعونا يا محمد قال الى الله عز و جل قال صفه لي أمن ذهب هو أو من فضة أو من حديد فنزلت هذه السورة قاله ابن عباس
والثالث أن الذين قالوا هذا قوم من أحبار اليهود قالوا من أي جنس هو وممن ورث الدنيا ولمن يورثها فنزلت هذه السورة قاله قتادة والضحاك قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي أحد الله وقرأ أبو عمرو أحد الله بضم الدال ووصلها باسم الله قال الزجاج هو كناية عن ذكر الله عز و جل والمعنى الذي سألتم تبيين نسبته هو الله و أحد مرفوع على معنى هو أحد فالمعنى هو الله وهو أحد وقرئت أحد الله الصمد بتنوين أحد وقرئت أحد الله بترك التنوين وقرئت (9/266)
بإسكان الدال أحد الله وأجودها الرفع بإثبات التنوين وكسر التنوين لسكونه وسكون اللام في الله ومن حذف التنوين فلالتقاء الساكنين أيضا ومن أسكن أراد الوقف ثم ابتدأ الله الصمد وهو أردؤها
فأما الأحد فقال ابن عباس وأبو عبيدة هو الواحد وفرق قوم بينهما وقال أبو سليمان الخطابي الواحد هو المنفرد بالذات فلا يضاهية أحد
والأحد هو المنفرد بالمعنى فلا يشاركه فيه أحد وأصل الأحد عند النحويين الوحد ثم أبدلوا من الواو الهمزة
وفي الصمد أربعة أقوال
أحدها أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال الصمد السيد الذي قد كمل في سؤدده قال أبو عبيدة هو السيد الذي ليس فوقه (9/267)
أحد والعرب تسمي أشرافها الصمد قال الأسدي
... لقد بكر الناعي بخيري بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد ...
وقال الزجاج هو الذي ينتهي إليه السؤدد فقد صمد له كل شيء قصد قصده وتأويل صمود كل شيء له أن في كل شيء أثر صنعه وقال ابن الأنباري لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد السيد الذي ليس فوقه أحد يصمد إليه الناس في أمورهم وحوائجهم
والثاني أنه لا جوف له قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وابن جبير وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي وقال ابن قتيبة فكأن الدال من هذا التفسير مبدلة من تاء والمصمت من هذا
والثالث أنه الدائم
والرابع الباقي بعد فناء الخلق حكاهما الخطابي وقال أصح الوجوه الأول لأن الإشتقاق يشهد له فإن أصل الصمد القصد يقال اصمد صمد فلان أي اقصد قصده فالصمد السيد الذي يصمد إليه في الأمور ويقصد في الحوائج
قوله تعالى لم يلد قال مقاتل لم يلد فيورث ولم يولد فيشارك (9/268)
وذلك أن مشركي العرب قالوا الملائكة بنات الرحمن وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله فبرأ نفسه من ذلك
قوله تعالى ولم يكن له كفوا أحد قرأ الأكثرون بالتثقيل والهمز
ورواه حفص بالتثقيل وقلب الهمز واوا وقرأ حمزة بسكون الفاء والكفء المثل المكافىء وفيه تقديم وتأخير تقديره ولم يكن له أحد كفوا فقدم وأخر لتتفق رؤوس الآيات (9/269)
سورة الفلق
بسم الله الرحمن الرحيم
قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد و من شر حاسد إذا حسد
وفيها قولان
أحدهما مدنية رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال قتادة في آخرين
والثاني مكية رواه كريب عن ابن عباس وبه قال الحسن وعطاء وعكرمة وجابر والأول أصح ويدل عليه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سحر وهو مع عائشة فنزلت عليه المعوذتان
فذكر أهل التفسير في نزولهما أن غلاما من اليهود كان يخدم رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يزل به اليهود حتى أخذ مشاطة رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم وعدة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود فسحروه فيها وكان الذي تولى ذلك لبيد بن أعصم اليهودي
ثم دسها في بئر لبني زريق يقال لها بئر ذوران ويقال ذي أروان (9/270)
فمرض رسول الله صلى الله عليه و سلم وانتشر شعر رأسه وكان يرى أنه يأتي النساء وما يأتيهن ويخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله فبينا هو ذات يوم نائم أتاه ملكان فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال أحدهما للآخر ما بال الرجل قال طب قال وما طب قال سحر قال ومن سحره قال لبيد بن أعصم قال وبم طبه قال بمشط ومشاطه قال وأين هو قال في جف طلعة تحت راعوفة في بئر ذروان والجوف قشر الطلع والراعوفة صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنقي عليها فانتبه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا عائشة أما شعرت أن الله أخبرني بدائي ثم بعث عليا والزبير وعمار بن ياسر فنزحوا ماء تلك البئر ثم رفعوا الصخرة وأخرجوا الجوف وإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان مشطه وإذا وتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبرة فأنزل الله تعالى المعوذتين فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ووجد رسول الله صلى الله عليه و سلم خفة حين إنحلت العقدة الأخيرة وجعل جبريل عليه السلام يقول بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن حاسد وعين والله يشفيك فقالوا يا رسول الله (9/271)
أفلا نأخذ الخبيث فنقتله فقال أما أنا فقد شفاني الله وأكره أن أثير على الناس شرا
وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عائشة حديث سحر رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد بينا معنى أعوذ في أول كتابنا
وفي الفلق ستة أقوال
أحدها أنه الصبح رواه العفي عن إبن عباس وبه قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والقرظي وابن زيد واللغويون قالوا ويقال هذا أبين من فلق الصبح وفرق الصبح (9/272)
والثاني أنه الخلق رواه الوالبي عن أبن عباس وكذلك قال الضحاك الفلق الخلق كله
والثالث سجن في جهنم روي عن ابن عباس ايضأ وقال وهب والسدي جب في جهنم وقال ابن السائب واد في جهنم
والرابع شجرة في النار قاله عبدالله بن عمرو
والخامس أنه كل من انفلق عن شيء كالصبح والحب والنوى وغير ذلك قاله الحسن قال الزجاج وإذا تأملت الخلق بأن لك أن اكثره عن انفلاق كالأرض بالنبات والسحاب بالمطر
والسادس أنه اسم من أسماء جهنم قاله أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد الحبلي
قوله تعالى من شر ما خلق وقرأ ابن السميفع وابن يعمر خلق بضم الخاء وكسر اللام وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه عام وهو الأظهر
والثاني أن شر ما خلق إبليس وذريته قاله الحسن
والثالث جهنم حكاه الماوردي (9/273)
وفي الغاسق أربعة أقوال
أحدها أنه القمر روت عائشة قالت نظر رسول الله صلى الله عليه و سلم الى القمر فقال استعيذي بالله من شره فإنه الغاسق إذا وقب رواه الترمذي والنسائي في كتابهما قال ابن قتيبة ويقال الغاسق القمر إذا كسف فاسود ومعنى وقب دخل في الكسوف
والثاني أنه النجم رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
والثالث أنه الليل قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والقرظي والفراء وأبو عبيد وابن قتيبة والزجاج قال اللغويون ومعنى وقب دخل في كل شيء فأظلم و الغسق الظلمة وقال الزجاج الغاسق البارد فقيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار
والرابع أنه الثريا إذا سقطت وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند (9/274)
وقوعها وترتفع عند طلوعها قاله ابن زيد
فأما النفاثات فقال ابن قتيبة هن السواحر ينفثن أي يتفلن إذا سحرن ورقين قال الزجاج يتفلن بلا ريق كأنه نفح وقال ابن الأنباري قال اللغويون تفسير نفث نفخ نفخا ليس معه ريق ومعنى تفل نفخ نفخا معه ريق قال ذو الرمة
... ومن جوف ماء عرمض الحول فوقه ... متى يحس منه مائح القوم يتفل ...
وقد روى ابن أبي سريج النافثات بألف قبل الفاء مع كسر الفاء وتخفيفها
وقال بعض المفسرين المراد بالنفاثات هاهنا بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن رسول الله صلى الله عليه و سلم (9/275)
ومن شر حاسد يعني اليهود حسدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد ذكرنا حد الحسد في البقرة 109 والحسد أخس الطبائع وأول معصية عصي الله بها في السماء حسد إبليس لآدم وفي الأرض حسد قابيل هابيل (9/276)
سورة الناس
وفيها قولان
أحدهما أنها مدنية رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنها مكية رواه أبو كريب عن ابن عباس
بسم الله الرحمن الرحيم
قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس
فإن قيل لم خص الناس هاهنا بأنه ربهم وهو رب كل شيء
فعنه جوابان
أحدهما لأنهم معظمون متميزون على غيرهم
والثاني لأنه لما أمر بالأستعادة من شرهم أعلم أنه ربهم ليعلم أنه هو الذي يعيذ من شرهم ولما كان في الناس ملوك قال تعالى ملك الناس ولما كان فيهم (9/277)
من يعبد غيره قال تعالى إله الناس
و الوسواس الشيطان وهو الخناس يوسوس في الصدور فإذا ذكر الله خنس أي كف وأقصر قال الزجاج الوسواس هنا ذو الوسواس (9/278)
وقال ابن قتيبة الصدور هاهنا القلوب قال ابن عباس الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس فإذا ذكر الله خنس
قوله تعالى من الجنة والناس الجنة وفي معنى الآية قولان
أحدهما يوسوس في صدور الناس جنتهم وناسهم فسمى الجن هاهنا ناسا كما سماهم رجالا في قوله تعالى يعوذون برجال من الجن الجن 6 وسماهم نفرا بقوله تعالى استمع نفر من الجن الجن 1 هذا قول الفراء وعلى هذا القول يكون الوسواس موسوسا للجن كما يوسوس للإنس
والثاني أن الوسواس الذي يوسوس في صدور الناس هو من الجنة وهم من الجن والمعنى من شر الوسواس الذي هو من الجن ثم عطف قوله تعالى والناس على الوسواس والمعنى من شر الوسواس ومن شر الناس كأنه أمر أن يستعيذ من الجن والإنس هذا قول الزجاج (9/279)